مدخل

١

منذ عشر سنواتٍ تمامًا١ كانت تجربتي في التعبير تجتاز أول امتحان لها أمام القرَّاء حين جرؤت على إرسال إحدى مقالاتي إلى إحدى المَجلات الإقليمية. وعندما ظهر مقالي الأول منشورًا على الصفحات تحت عنوان «أين رجال الفكر؟» أحسست بضيقٍ شديدٍ؛ لأنني ظننت يومئذٍ أنني أصارح الناس، القرَّاء منهم على الأقل، بما ينبغي أن يظل بين الضلوع. فقد كنت غارقًا في تلك الفترة بين عديدٍ من الاهتمامات، منها ما يتصل بالعلم والأدب والثقافة مباشرة، ومنها ما اتصل بلقمة العيش وإن اصطنع بينه وبين المعرفة همزة وصل. وكنت بذلك أعيش في فوضى فكرية تغذوها ظروف جيلنا بكثيرٍ من الوقود، هذا الجيل الذي استنشق بخار الحرب الثانية قبل أن تَنشَب بخمس سنوات تقريبًا، فجاء نبتًا غريبًا لإرهاصات الحرب، بل وسنوات الحرب نفسها، بل أكثر من ذلك قد امتص وجدانه كل تعاسات ما بين الحربين.

وإذا كانت الأجيال الأوروبية التي وُلِدَت معنا واجهت مصيرها وقضايا وجودها في شجاعة وجرأة اتسمت بلون المأساة، فإنه كُتِبَ علينا، نحن أبناء الشرق العربي، أن نعيش مأساتنا في صمتٍ خلف جدران التخلف الحضاري المدمر والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم. ومن هنا اتسمت ثقافتنا قبل العشر السنوات الأخيرة بالتخبط والعشوائية.

ولست أذكر أية صدفة تلك التي رافقت عيني في مكتبة أحد الأصدقاء حين عثرت في زاوية من زواياها على كتاب «تربية سلامة موسى» بعد مضي ثلاثة أشهر على حركة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م، أي في نفس الوقت الذي فيه تساءلت صراحة: أين رجال الفكر؟ أحسسنا نحن أبناء هذا الجيل أن انفجارًا حقيقيًّا في مختلف أرجاء حياتنا قد حدث، ولكننا كنا نفتش عبثًا عن تفسيرٍ لما يحدث، فلا نجد حلًّا سوى الصمت أو الكلام القليل الذي يومئ بشيءٍ ويخفي أشياء، أو الكلام الكثير الذي لا يقول أي شيء.

وأنا لست ممن يميلون إلى القول بأن كتابًا ما يمكن أن يكون نقطة التحوُّل في تاريخ فردٍ من الأفراد … وإنما كان «تربية سلامة موسى» بمثابة الإجابة الشافية الأولى التي تلقيتها في بداية حياتي الفكرية؛ وأقول الشافية بمعنى أنها صادفت في نفسي قبولًا، لا أنها كانت مطَمْئِنة على نحوٍ من الأنحاء، فقد أحسست بالمؤلف يجمع مبعثرات ذهني ووجداني، ويصوغها في قوالب محددة، لست أشك الآن في قيمتها التاريخية، ولكنها كقضايا فكرية تمتلك نواصي قيم أخرى.

ومن أولى هذه القيم أن المأساة الاجتماعية للإنسان تختلف كثيرًا من أوروبا إلى أفريقيا، ولهذا تختلف نوعية الثورة في أي بلدٍ أوروبي عن مثيلتها في أي بلدٍ أفريقي، والاختلاف ينشأ عادةً في التفاصيل، بين القارة القاهرة والقارة المقهورة. على أن المأساة الاجتماعية ليست بالمأساة الوحيدة للبشر، وإنما هناك مأساة وجودهم نفسه. وإذا كانت المأساة الأولى تُحَل بالنضال الثوري، فإن المأساة الأخرى تُحَل بالتساؤل المستمر.

وكانت القيمة الكبرى لكتاب سلامة موسى في تكويني، من هذه النقطة: التساؤل المستمر. كانت هذه «الرؤية» أول ما رأيت من أدب سلامة موسى وفكره الذي أنقذني من وهاد الحيرة، ليقذف بي إلى حيرة أشد وأعنف، فلم تصبح العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية أمنيات خافقة بين الضلوع أقرب إلى هواجس الأحلام، وإنما أصبحت كفاحًا نعانيه، ونتجاوز به الحدود الضيقة المتوارثة. أصبح النضال الثوري في معناه الحقيقي الرحب قوة ضخمة هائلة لا تقتصر على العمل السياسي، بل تنتقل إلى مدرجات المعهد وأندية الرياضة وصفحات الأدب ومعامل العلم، بل إن ذلك كله ليس إلا محاولة من الإنسان، من خلال مصيره الجزئي الموقوت، لاكتشاف مجاهل مصيره الأبدي الأكبر، مصير وجوده في هذا الكون.

وهذه هي القيمة الحقيقية لحياة سلامة موسى وفكره في وجودنا، فقد كان المعلم الأول الذي أهدانا منهج الانطلاق اللانهائي، الذي علمنا أن «التقولب» يعني الموت، مهما كان القالب «علميًّا». بل إن العلم في مدلوله الشامل العميق لا يؤدي إلى القولبة مطلقًا؛ لأنه ضد الجمود، ضد اغتيال الرؤية الإنسانية اللامتناهية المعرفة والتنبؤ.

ولم يؤد هذا بنا إلى اللاانتماء، وإن أدى بنا إلى الرفض! الرفض الإيجابي البنَّاء. فالقائلون «لا» على مر التاريخ هم بناة التاريخ، ورجال الفكر هم البناة الأُوَل لهذا التاريخ. على أن تكون «لا» هذه إيجابية وبنَّاءة، وليست داعية إلى اليأس والهزيمة. وهذا هو الفرق الحاسم بين المتمرد الأوروبي والثوري في الشرق. إن ثورة شرقنا لا تتم على أنقاض حضارة مادية شامخة؛ حضارة بورجوازية مغلقة يصل طريقها المسدود بالجنس البشري إلى هاوية الانتحار. إن ثورتنا تتم في ظروف مغايرة، تجاوزتها أوروبا وأمريكا وبقية البلاد المتحضرة منذ بعيد، تلك هي ظروف التخلف الحضاري. وقيمة سَلَامةَ العظمى في تاريخنا أنه كان رائد الكفاح ضد التخلف، بل جعل من هذا الكفاح منهجًا لحياة الإنسان في بلادنا.

وعندئذٍ نستطيع أن نفهم ثورته وتمرده ورفضه وقولته «لا» على نحوٍ مختلف لفهم معاصريه، أو معاصري جيله بمعنى أدق. فليس تمرده على القوالب القديمة في اللغة أو الأدب أو الفلسفة، وليست ثورته على الأنظمة الرجعية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، وليس رفضه للانحناء أمام السلطات الباطشة بالشعب، وقوله «لا» في وجه الطغيان … ليس كل ذلك إلا لأن منهجه الشامل لنظرته إلى الحياة هو منهج الانطلاق اللانهائي من التخلف، من رواسب القرون، من القوالب أيًّا كان نوعها، حتى إننا لا نستطيع أن نصوغ أفكار سلامة موسى في بناء منطقي متناسق؛ لأنه كان دائب التطور، يتجاوز نفسه بصفةٍ دائمة. ومخطئ إذَن من يناقش إحدى مراحل سلامة دون ربطها ببقية المراحل، ومخطئ من يرى أفكاره أو يتعرف عليها بنظرة وحيدة الجانب.

فهذا الخطأ في فهم سلامة موسى هو الذي يجنِّد كثيرًا من أدبائنا في خدمة المخطط الرجعي القديم، للنيل من تراثنا في إحدى شخصياته العظيمة كسلامة موسى. وأنا لا ألتفت لحظة إلى كتابات التافهين من المرتزِقة الذين هم ليسوا إلا جنودًا مجهولين خلف واجهات تستمد بريقها من القديم وهو يلفظ أنفاسه. ولكني أرثي كثيرًا لقلة قليلة من أساتذة جامعاتنا عندما يمسكون المعاول بغير قصدٍ ليحطموا ما لا قِبَل لهم بتحطيمه؛ لأنه أصبح والتاريخ شيئًا واحدًا يقاوم الزمن. فكم بأولئك المضلَّلين — على أحسن الفروض — عندما يقول أحدهم، وهو الدكتور محمد حسين في كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، إن سلامة موسى كان داعية للاستعمار! أو الدكتور بدوي طبانة في كتابه «البيان العربي» الذي يطالب تلاميذه بكلية دار العلوم أن يحفظوا عن ظهر قلب أن سلامة موسى كان أداة تحطيم للغة العربية، وإلا سقطوا في الامتحان!

لو أننا أضفنا هذه المحاولات المجرمة بحق تراثنا العربي كله، لا بحق سلامة كفرد، لو أضفناها إلى التجاهل المزري من جانب المجلس الأعلى للآداب والفنون وجمعية الأدباء لتراث سلامة موسى، لأيقنا على الفور أن هذه الجهات لا تمثل وجهًا شرعيًّا لثورتنا! ولأيقنا على الفور أن ثمة هوة عميقة بين القيادة الثورية لبلادنا وبين من يعتلون القيادة الفكرية فيها.

ولقد كان شيئًا طبيعيًّا في الماضي أن تُرتَكَب الجرائم ضد تراثنا وتاريخنا الأدبي، فيعيش سلامة موسى عمره شهيدًا للوضع السيئ … أما الآن وقد أصبحت الاشتراكية شعارًا للمجتمع، فإننا جميعًا مطالبون اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، بحراسة تراثنا من الفكر الاشتراكي، الذي يكون في مجموعه إضافة رائعة إلى الفكر التقدمي في العالم كله. وليس أولى بتقديرنا من رائد الفكر الاشتراكي الذي حُورِب بلا هوادة في ظل الإقطاع والملكية والاستعمار. وتنتظر ذكراه أن نقيم له التماثيل في قلوبنا وعقولنا، بأن نحرص أشد الحرص على إيقاف حركة التزييف المثيرة لضحك العالم. والتي تنبع — للأسف الشديد — من أقدس معابد العلم في بلادنا.

٢

ويبدو أن تأثير سلامة موسى في جيلنا أقوى من تأثيره في الجيل المعاصر له، فقد اكتفى جيله بالقول إنه «كان رائدًا متقدمًا» على حد تعبير العقاد، أو إنه «يخوض غمار الأفكار الصعبة ولا يقتنع باليسير الهين» على حد تعبير طه حسين. أما الجيل التالي لهؤلاء الرواد، فقد أناب عنه الفنان نجيب محفوظ في تصوير الأثر العميق الذي تغيَّرت به أوزان جيل كامل، ونجيب محفوظ هو الأديب الذي عرف سلامة عن قرب منذ كان طالبًا بكلية الآداب قسم الفلسفة. ويذكر سلامة في أحاديثه الخاصة أنه كان المشترِك الأول في المَجلة الجديدة، ثم أصبح أحد المشترِكين في تحريرها. وقد احتضن سلامةُ الأديبَ أو الفيلسوفَ الصغير وقتئذٍ؛ إذ إن نجيبًا كان متخصصًا ذلك الحين في الكتابات الفلسفية، ثم نقل كتابًا إلى العربية عن مصر القديمة، نشره سلامة موسى، بعد مراجعته، ثم أصدر له بعد ذلك أولى رواياته التي تتخذ من التاريخ الفرعوني خامة لها. وظلت العلاقة بين الكاتب الصغير والمفكر الكبير، حتى أصبح الصغير كبيرًا، وأصبح المفكر الكبير تراثًا.

وكان نجيب محفوظ وفيًّا لأستاذه أيَّما وفاء، حين صوَّر في السكَّرية — الجزء الأخير من الثلاثية — نقطة التحوُّل التاريخية التي أحدثها سلامة موسى في جيلٍ بأكمله، ولم يطرأ تغيير يذكر على شخصية سلامة الروائية — والتي دعاها الفنان في القصة «عدلي كريم» — حتى إن الاسم الفني لا يخفي شيئًا على الإطلاق من معالم الشخصية الحقيقية. وأنا لا أذهب إلى ما ذهب إليه الأستاذ توفيق حنا في مقاله «عدلي كريم = سلامة موسى» من أن شخصية أحمد إبراهيم شوكت تحمل التعبير عن شخصية نجيب محفوظ التقدمية الاشتراكية (راجع مَجلة «العالم العربي» القاهرية. عدد سبتمبر سنة ١٩٥٨م). وبالرغم من أن النقد الأدبي لا يجيز لنفسه المطابقة بين إحدى شخصيات المؤلف وذات المؤلف، فإنني أبيح لنفسي القول بأن شخصية كمال عبد الجواد هي التي تقترب في الكثير من ملامح نجيب محفوظ.

وهنا تجيء القضية، أو يثور السؤال: كيف سلك نجيب محفوظ في التعبير الفني عن اللقاء بينه وبين سلامة موسى؟ إن الفنان لا ينقل إلينا هذا اللقاء بين كمال وعدلي كريم، وإنما يقدمه لنا عبر العلاقة الوطيدة بين أحمد شوكت — ابن شقيقة كمال — وعدلي كريم صاحب مَجلة «الإنسان الجديد».

وينبغي منذ البداية ألَّا نفرِّق بين صاحب «الفجر الجديد» التي كان يكتب فيها كمال من حينٍ لآخر، وبين صاحب «الإنسان الجديد» التي بدأ يعمل فيها أحمد شوكت؛ ذلك أن الفنان يومئ لنا بأن سلامة موسى الذي يكافح من أجل الفجر والإنسان، لم يقتصر تأثيره على جيل كمال، بل امتد هذا التأثير إلى الجيل التالي. أكثر من ذلك أنه يقدم لنا اللقاء بين أحمد شوكت وعدلي كريم، تأكيدًا فنيًّا على أن تأثير سلامة في جيل أحمد شوكت كان أعظم ثورية وأبعد تقدمًا.

وفي السكرية تحت رقم ١٣: «تقدم أحمد من مكتب كُدِّسَت فوقه الكتب والأوراق لاستقباله. ثم جلس بعد أن جلس الرجل وأذن له في الجلوس. شعر بالارتياح والزهو وهو يرنو إلى الأستاذ الكبير الذي تلقَّى عنه النور والعرفان في الأعوام الثلاثة الماضية سواء من مؤلفاته أو مجلته، فراح يملأ عينيه من الوجه الشاحب الذي وخط الشيب شعره وعلاه الكبر فلم يَبقَ له من أمارات الفُتُوَّة إلا عينان عميقتان تُشعَّان بريقًا نافذًا … هذا أستاذه، أو أبوه الروحي كما يدعوه، وإنه الآن في حجرة الوحي التي لا جدران لها، ولكن رفوفًا من الكتب تمتد عاليًا حتى السقف.

قال الأستاذ بلهجة المتسائل: أهلًا وسهلًا.

فقال أحمد بلباقة: جئت لأسدد الاشتراك.

ولما اطمأن إلى الأثر الطيب الذي أحدثه قوله، استدرك قائلًا: وأسأل عن مصير مقالة أرسلتها إلى المَجلة منذ أسبوعين.

فابتسم الأستاذ عدلي وهو يتساءل: اسم حضرتك؟

– أحمد إبراهيم شوكت.

فارتسمت على جبين الأستاذ تقطيبة التذكر ثم قال: إني أذْكُرك. أنت أول مشترك في مجلتي … وجئتني بثلاثة مشتركين هه! إني أذكر اسم شوكت، وأظنني أرسلت لك خطاب شكرٍ بِاسم المَجلة.

فقال أحمد في ارتياح ممتنًّا لهذا التذكر الجميل: جاءني كتابٌ من حضرتك، اعتبرْتَني فيه صديق المَجلة الأول.

– هذا حق … إن مَجلة «الإنسان الجديد» مَجلة مبدأ … ولا بد لها من أصدقاء مؤمنين كي تشق طريقها في زحمة مَجلات الصور والنكت والاحتكار … فأنت صديق المَجلة … أهلًا وسهلًا … ولكنك لم تشرفنا من قبل؟

– كلا … إني لم آخذ البكالوريا إلا في هذا الشهر!

فضحك الأستاذ عدلي كريم قائلًا: أنت فاهم أن المَجلة لا يزورها إلا الحاصل على البكالوريا؟!

فابتسم أحمد في ارتباك وقال: كلا طبعًا … أعني أني كنت صغيرًا.

فقال الأستاذ جادًّا: لا يليق بقارئ «الإنسان الجديد» أن يحسُب العمر بالسنين … في بلادنا شيوخ قد جاوزوا الستين ولكنهم ما زالوا شبابًا بعقولهم … وفيها شبان في ربيع العمر، ولكنهم معمرون — منذ ألف عام أو أكثر — بعقولهم … وهذا هو داء الشرق (ثم بلهجة أرَقَّ): وهل أرسلت إلينا مقالاتٍ من قبل؟

– ثلاث مقالات … كان مصيرها الإهمال، ثم مقالة أخيرة كنت أطمع في نشرها.

– عن ماذا؟ لا تؤاخذني … فإني أتلقى عشرات المقالات يوميًّا.

– عن رأي لُوبُون في التعليم … وتعليقي عليه.

– على أي حال ستبحث عنها في السكرتارية — الحجرة المجاورة لحجرتي — وتعلم بمصيرها.

وهمَّ أحمد بالقيام، ولكن الأستاذ عدلي كريم أشار إليه بالاستمرار في الجلوس وهو يقول: المَجلة اليوم في شبه إجازة. أرجو أن تمكث معي قليلًا لنتحدث.

فتمتم أحمد بارتياحٍ عميق: بكل سرور يا أفندم.

– قلت إنك أخذت البكالوريا هذا العام … كم سنك؟

– ستة عشر عامًا.

– سن مبكرة … حسنًا … هل المَجلة منتشرة في المدارس الثانوية؟

– كلا … للأسف!

– أعلم هذا … أكثرية قرائنا في الجامعة. القراءة في مصر ملهاة رخيصة، ولن تتطور حتى نؤمن بأن القراءة ضرورة حيوية.

ثم بعد قليلٍ من الصمت: نريد مرحلة جديدة من التطور … نريد مدرسة اجتماعية … لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة … ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية.

ثم قال أخيرًا: إن الرجعية داءٌ مستوطن في الشرق، كالكوليرا والتيفوئيد، فينبغي استئصاله!

فقال أحمد متحمسًا: إن جماعة «الإنسان الجديد» تؤمن بهذا كل الإيمان.

فهز الرجل رأسه الكبير في أسفٍ وهو يقول: ولذلك فالمَجلة هدف الرجعيين من كافة النِّحَل … إنهم يرمونني بإفساد الشباب.

– كما اتهموا سقراط من قبل.

وابتسم الأستاذ عدلي كريم في ارتياحٍ وأضاف: وما وجهتك؟ أعني أية كلية تقصد؟

– الآداب.

فاعتدل الأستاذ في جِلسته، وقال: الأدب وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، فاعرِف سبيلك! ومهما يكن من أمر — ولا تدهش أن يصارحك بهذا الرأي رجل معدود من الأدباء — فالعلم أساس الحياة الحديثة … ينبغي أن ندرس العلوم، وأن نتشبع بالعقلية العلمية … الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريًّا … وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه … لم يعد العلم وقفًا على العلماء … أجل، لهؤلاء التضلُّع والتعمق والبحث والكشف … ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره، بأسلوبه … ينبغي أن يحل العلم محل الكهانة والدين في العالم القديم.

فقال أحمد مؤمِّنًا على قول أستاذه: ولذلك كانت رسالة «الإنسان الجديد» هي تطوير المجتمع على أساس علمي.

فقال عدلي كريم باهتمام: أجل … على كل منا أن يقوم بواجبه ولو وجد نفسه وحيدًا في الميدان.»

•••

وهكذا استطاع نجيب محفوظ في عملاقية فذة أن يخلِّد ذلك اللقاء التاريخي بين أخطر جيلين في حياتنا الفكرية المعاصرة، والفنان لم يعتمد في تصويره سلامة موسى على المظهر الخارجي، إلا بالقدر الذي يتيح للقارئ أن يتعرف على مفتاح هذه الشخصية. وبعدئذٍ يولي نجيب عنايته الكبرى لرسم البناء الفكري لشخصية سلامة موسى، وهو ذلك البناء السامق الذي ارتفع إلى سماء حياتنا الثقافية، يستلهم أحلام شعبنا في صياغة مستقبله على عمدٍ راسخة من العلم والحرية والأسس الاشتراكية للمجتمع.

ولعل محاولة نجيب محفوظ في الأدب العربي محاولة رائدة في تخليد إحدى نقاط التحول التاريخية في ثقافتنا، من خلال المفكر الذي كان أصدق تعبير وأخلصه عن تلك المرحلة.

والعلاقة بين جيل سلامة موسى، وجيل نجيب محفوظ، تؤرخ لأزمة الضمير العربي في مصر تأريخًا ممتازًا، حيث كان التخلف الحضاري الشديد والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، تصنع لحياتنا إطارًا مأساويًّا يُثقل وجداننا بحزنٍ عميق.

على أن التفاؤل الذي يسود اللوحة الكبرى التي صوَّرها نجيب محفوظ لهذه العلاقة بين جيله وسلامة موسى، ينبع من صميم المنهج الذي فرضه ذلك الرائد على فكرنا الحديث. المنهج القائم على دعاماتٍ قوية من الإيمان بالإنسان وغده المشرق.

ولقد طالع سلامة موسى تلك الصفحات التي سجَّل فيها نجيب محفوظ تأثير أستاذه في حياته الفكرية، وحياة جيله كله، وكان تعليقه أن الصدق الفني هو السمة البارزة في هذا النص الأدبي الممتاز. والصدق الفني يختلف عن الصدق الفوتوغرافي في كونه عميق التأثير في وجدان البشر، قابلًا للبقاء أطول فترة من الزمن.

٣

وقد أفاد جيلنا كثيرًا من الأشكال التعبيرية السابقة عليه في التعرف على تراث سلامة. وكان حظنا كريمًا للغاية أن وُلِدَت تجرِبتنا في التعبير مع تفجُّر ثورتنا الوطنية على النطاق المحلي، واحتدام الثورة العالمية، والأزمة العنيفة التي تجتاح الأنظمة الرجعية المختلفة والكيان الاستعماري للرأسمالية الدولية. ففي ظل هذه الظروف مجتمعة وُلِدَت أقلامنا وأفكارنا، ومن ثم كان طبيعيًّا أن نلتقي مع سلامة موسى في كثيرٍ من النقاط. ولئن كنت قد هبطت على إنتاجه في وقتٍ مبكر، فإن الصدفة في يقيني لا دخل لها في ذلك، إذ بغير أن أقرأ «تربية سلامة موسى» أعتقد أنني كنت سألتقي بهذا المفكر بصورةٍ أو بأخرى؛ لأنه كان المفكر المصري الوحيد الذي يمكن أن ندعوه بمفكر العصر. فقد كنا نتمزق — نحن أبناء الجيل الجديد — بين القيم المهترئة التي تشيع في حياتنا الثقافية، وبين أحدث ما ينجزه العقل الأوروبي من معجزات فكرية. وجاء سلامة موسى ليَزيد من مرارة هذا التمزُّق وحِدَّته، ولكن في مستوى آخر يُحيل تمزقاتنا إلى قيم نابضة بالوعي. فلم تمض أربع سنوات على لقائي الأول مع كتابات سلامة موسى عام ١٩٥٢م، حتى وجدتني عام ١٩٥٦م أعبِّر عن هذا اللقاء في دراسة نقدية شاملة لإنتاجه الفكري في مختلف مجالات المعرفة.

وليس من شك أن المسافة الزمنية بيننا وبين جيل سلامة أولًا، والجيل التالي له ثانيًا، انعكست في مسافة موضوعية بين اهتماماتنا واهتماماتهم، جعلت من لقائنا مع رائد الفكر العلمي لقاءً خاصًّا متميزًا، فقد كان يعنينا في المقام الأول المصادر الثقافية لسلامة موسى، تلك الينابيع الضخمة التي تفجَّرت في شرايين فكره وأنتجت لنا هذا التراث الرائع. لذلك اتجهت دراستي التي انتهيت منها في منتصف عام ١٩٥٨م نحو «النقد» لا الصورة الأدبية،٢ أي إنني آثرت «الدراسة الفكرية» على اللوحة الفنية. من هنا سيفتقد القارئ لهذا الكتاب الملامح الشخصية المفردة للجانب الإنساني في حياة سلامة موسى، لا لشيءٍ إلا لأن هذا القارئ يفتقد، منذ البداية، الدراسات الفكرية لأهم التيارات والقيم التي سادت حياتنا خلال نصف القرن الأخير. فقد ظلت «ترجمة الحياة» أو السيرة هي الوسيلة الأساسية في تقديم أعلام الفكر العربي الحديث والقديم، دون التقييم العلمي الدقيق. بالإضافة إلى أن الترجمة الذاتية لأي مفكرٍ كان، مبرَّرة دائمًا بأن قصة كل إنسان تستحق أن تُروَى. أما الدراسة الفكرية التي تستهدف التقييم أساسًا علميًّا للبحث، فإنها تكاد تكون مجهولة في بلادنا، بالرغم من ذيوعها في العالم الغربي ذيوعًا كبيرًا. هذا إلى أن التقييم الفكري لن يكون مبررًا بأية حال إلا إذا كان التيار أو المفكر موضوع البحث يمثل إحدى علامات الطريق الحضاري الطويل في تاريخنا.

معنى ذلك أنني لم أشأ أن أكتب سيرة شخصية لسلامة موسى، وربما كان السبب الجوهري هو أن هذا الرائد قد كفانا بكتابه العظيم «تربية سلامة موسى» عناء أية محاولة أخرى لترجمة حياته. ومن ناحيةٍ أخرى رأيت أن المرحلة التاريخية الهامة التي نجتازها الآن بحاجةٍ ماسةٍ إلى «علامات الطريق»، من خلال التقييم الموضوعي لأهم القيم الفكرية التي سادت حياتنا منذ بوادر عصر النهضة الحديثة في أوائل القرن العشرين إلى الآن. ولما كان سلامة موسى يمثل، فيما أرى، إحدى هذه القيم الجديرة بالدراسة والتأمل وإمعان الفكر، فقد لجأت إلى دراسته بدلًا من التأريخ لحياته؛ ذلك لأننا لسنا في مرحلة انتقال جزئية من مرحلة اجتماعية متخلفة إلى مرحلة اجتماعية متقدمة، وإنما نحن نجتاز مرحلة حضارية كاملة تستوجب منا التوقف عند كافة علامات الطريق التي قطعناها حتى نستشرف، برؤية واضحة، معالم الطريق الذي نتأهب للسير فيه.

ولما كنا في المستوى الاجتماعي المحض نتجاوز أعتاب المجتمع الإقطاعي المستعمِر إلى أعتاب المجتمع الوطني المستقل، فإن سلامة موسى يبرز هنا، مرة أخرى، كخطوة باهرة في تاريخ فكرنا الديمقراطي والتقدمي. فلقد ظل المفكر والداعية للاشتراكية فترة حاسمة في حياتنا قاربت على النصف قرن.

غير أنني أود أن أشير إلى أن غياب الأرض الفكرية من تحت أقدام الباحث المصري هي التي باعدت بيننا وبين الدراسات الفكرية أمدًا من الزمن. ولست أقول إنه من العسير أن تمد يدك إلى أرفف المكتبة العربية لتتناول مرجعًا في تاريخ الفكر المصري أو العربي، وإنما أقول بصراحةٍ كاملة إن المكتبة العربية تخلو من هذا اللون من الدراسات خلوًّا تامًّا. فإذا جئت لأدرس واحدًا من هؤلاء الرواد، كسلامة موسى أو العقاد أو طه حسين، لن أجد ما أرتكز إليه من دعاماتٍ أستطيع أن أقيم عليها بنائي الجديد، إذا كان ثمة جديد أستطيع إضافته. فليست لدينا إلى الآن خريطة فكرية واضحة ترسم خطًّا بيانيًّا للحركة الفكرية المصرية خلال الخمسين عامًا الماضية، بحيث إنني أتمكن من الاستنارة بها في تحديد موقع هذا أو ذاك من أعلام الفكر المصري أو تياراته أو روافده، وتنحصر مهمتي، من ثَمَّ، في الكشف عن أهمية هذا الموقع وأبعاده، وما إذا كان يتضمن كنوزًا تمدُّنا بالثروة الروحية، أم أنه قد نضب تمامًا ولم يعد في حوزته ما يعطيه.

والخريطة الفكرية ليست إلا عنصرًا واحدًا من العناصر الغائبة التي تشكِّل فيما بينها ما أسميته منذ قليل بالأرض الفكرية. فمن أهم العناصر أيضًا غياب المعايير المحددة لحركة التاريخ في بلادنا. فنحن نفتقد أية كشوف علمية للقوانين الضابطة لحركة المجتمع المصري منذ ثورة ١٩١٩م إلى ثورة ١٩٥٢م. ولقد أدى انعدام هذه الكشوف إلى مضاعفة ما نعانيه من البلبلة والتمزُّق في الكثير من قضايا مرحلة الانتقال. ذلك أن أكثر الاتجاهات تقدمًا في فكرنا الحديث اكتفت بمحصلات التجارِب الاجتماعية الأخرى، والقوانين العامة، دون أن تحاول جاهدةً أن تنفذ إلى خصائص تجربتنا المحلية وقوانينها التفصيلية. ولو أننا كنا قد توصَّلنا منذ بعيد إلى مفهوم علمي وشامل لحركة التطور الاجتماعي في تاريخنا الحديث، لكنَّا قد توصلنا في نفس الوقت إلى أقرب التصورات المنهجية صوابًا لما استجدَّ في بلادنا من تجارب وتحولات. وبالتالي كنا نتقي شر الهزات العنيفة التي توالت على الجيل الحالي حتى كادت تفقده الثقة في النظرية والنظام الاشتراكي نفسيهما.

وبالإضافة إلى غياب الخريطة الفكرية والمفهوم الشامل المحدد لحركة التاريخ في بلادنا، فقد كان هناك عامل ثالث لا يقل أهمية وخطورة عن العاملين السابقين، وهو غياب الخطوة الأولى في تقييم حياتنا الفكرية الحديثة، وأقصد بها خطوة الرصد التسجيلي للمادة الخام في صورتها الكلية الشاملة. فلا ريب أن جامعاتنا قامت بنصيبٍ موفور في رصد بعض الجوانب الجزئية في تاريخنا الفكري والأدبي الحديث. إلا أن جامعاتنا قصَّرت في نفس الوقت في التقاط الصورة التسجيلية الشاملة للمادة الخام في ذلك التاريخ.

إن هذه العوامل الثلاثة هي العناصر الرئيسية المكونة للأرض الفكرية الغائبة من خلفية المثقف والباحث المصري. وهناك بلا شك عشرات العناصر الأخرى، ولكنها عناصر فرعية وعوامل ثانوية لا تشكل جوهر القضية التي أناقشها هنا. وليست مناقشتي لها اعتذارًا ضمنيًّا لما قد يجده القارئ من تقصيرٍ في هذا الكتاب الذي بين يديه. فلا جدال أن الباحث الذي يتصدى لدراسة أحد التيارات المعاصرة في تاريخنا الفكري عليه أن يكون واعيًا أشد الوعي بمعوقات بحثه والصعوبات الجذرية والفرعية التي ستصادفه، وما من سبيلٍ إلى تقييم نجاحه أو فشله في البحث إلا بمقدار تغلُّبه على تلك المعوقات وهذه الصعوبات.

إلا أنني آثرت تصوير «الأرض الفكرية» الغائبة حتى أفسر بعدئذٍ «خطة البحث» التي اهتديت بها على طول الدراسة. فقد كانت هذه الخطة تستند إلى مجموعة من الأسس الفكرية، ومجموعة مماثلة من الأسس التعبيرية. ولعل الأساس الفكري الأول الذي اعتمدت عليه في رؤيتي لمراحل تطور سلامة موسى هو ضرورة التأريخ للفكر الاشتراكي في المرحلة الراهنة. فمنذ رُفِعَت في مصر الشعارات الاشتراكية، بدأت بعض الاتجاهات المعادية للاشتراكية على مدى تاريخها تتبنَّى الشعارات الجديدة، في محاولة جادة لسحب الأرض من تحت أقدام الاشتراكيين الحقيقيين. وقد كان من بين هذه الاتجاهات المقنَّعة برايات الاشتراكية من يتوسل بها لتدعيم اليمين السياسي والفكري والاجتماعي، ومن بينها من كان الدافع الانتهازي وحده هو الدافع الأصيل لتحوُّله المفاجئ إلى الاشتراكية حتى يضمن بشكله الحربائي أن يعيش اليوم كما كان يعيش بالأمس في ظل الملكية والاستعمار والإقطاع. وتسبب هذان الجناحان المتحالفان — اليمين والانتهازية — في بلبلة الرأي العام بشأن الاشتراكية فكرًا وأسلوبًا في الحياة.

على أن المنطق اليميني والانتهازي ما كان ليعيش مستورًا مدى الحياة، فإذا كانت «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» و«الاشتراكية العربية» و«الاشتراكية العلمية» تعبِّر عن مراحل متعددة في مسيرة حركة ٢٣ يوليو، فقد كان اليمين والانتهازية كلاهما يستخدم نفس الشعارات ويذود عنها بنفس الدرجة من الحرارة في دفاعه عن «هيئة التحرير» و«الاتحاد القومي» و«الاتحاد الاشتراكي العربي». لقد أصدروا الشروح المطولة والدراسات الأكاديمية من الجامعات والمعاهد العليا حول كل مؤسسة وشعار نبع من صدر الثورة، وانتقل إلى أعدائها بآلية وتلقائية لمجرد «كسب الوقت» للتجمع ضدها، أو لمجرد الحياة على حسابها. وسوف ندهش لأول وهلة حين نعلم أن كثيرًا من المطبوعات الرسمية وغير الرسمية ما يزال يحمل إلى الآن شعارات الاشتراكية التعاونية والاشتراكية العربية حريصًا على أن يتساءل في المؤسسات البرلمانية والشعبية: ماذا تعني القيادة بقولها في الميثاق إن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الوحيدة الملائمة للتقدم، وقولها بعدئذٍ إن ما يجري على أرضنا هو التطبيق العربي للاشتراكية؟

إن اليمين والانتهازية كليهما يكشف عن حقيقته حين لا يستطيع الاستمرار في طريقه الأفعواني إلى النهاية. إن هؤلاء وأولئك الذين بذلوا جهودًا مستميتة في محاولة سحب الأرض من تحت الثورة، فتقنَّعوا بالاشتراكية زمنًا، لم يتمكنوا من الاستمرار، فهاجت أشجانهم في مجلس الأمة تارة يتساءلون عن حقيقة ما يجري في بلادهم، فَزِعين من حرية الأقلام الاشتراكية الأصيلة في التعبير عن ضرورة انتقال السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى أيدٍ أمينة على الانتقال إلى الاشتراكية الحقيقية. ولم تثر أشجان اليمين والانتهازية في مجلس الأمة والاتحاد الاشتراكي فحسب، بل ترددت أصداء فزعهم في بقية الأركان والمَجلات المخصصة لهم. حينئذٍ توسلوا بمجموعة من القيم العزيزة على جماهير الشعب، كالقيم الدينية، فانهالوا رجمًا على الاشتراكية ودعاتها بحجة عدائها للدين.

ولست أود أن أستطرد في هذه النقطة، وإنما ذكرتها في صورتها المجملة هذه لأقول إن فريقًا من المناضلين الأُصَلاء من أجل الاشتراكية قد حمل لواء الاشتراكية العلمية منذ سنواتٍ طويلة، لم يتلوَّن خلالها بأية شعاراتٍ انتهازية، عليه أن يؤرخ للفكر الاشتراكي في بلادنا تأريخًا علميًّا دقيقًا حتى نتعرف على حلقات تطورنا الفكري من جهة، وحتى نقطع الطريق على مختلف الأجنحة الانتهازية واليمينية التي يهمها في الكثير أن تشوه أغلى مراحل تطورنا الفكري؛ مرحلة الفكر الاشتراكي العظيم. ولقد كانت هذه النقطة هي الأساس الأول الذي اعتمدْتُ عليه في بناء دراستي لسلامة موسى من الناحية الفكرية. فقد حاولت أن أجسد الأصول وأوضح الجذور التي نبتت منها الفكرة الاشتراكية بمصر، حتى أستطيع فيما بعد أن أتبين طبيعة الأغصان والفروع والثمار التي نبتت منها.٣

أما الأساس الفكري الثاني في هذه الدراسة فهو تبيان دور سلامة موسى واليسار بشكلٍ عام على المستويين الفكري والاجتماعي في تكوين المرحلة الحضارية المعاصرة. وأما الأساس الثالث، وهو في نفس الوقت النتيجة التي وصلت إليها، فإنه الدعوة إلى وحدة القوى الاشتراكية في مصر والعالم العربي، ورفع كافة القيود غير الديمقراطية عن الفكر اليساري، وتنقية أجهزة الدولة من أغلال الرواسب القديمة.

أي إن سلامة موسى في هذا البحث كان غاية ووسيلة في آنٍ واحدٍ. فقد درست مكانه من الحركة الفكرية الحديثة في مصر، التي تقع بين أقواس الفترة الزمنية الممتدة من أوائل القرن العشرين أو بداية عصر النهضة إلى ما بعد انتصار الثورة في معركة السويس، حيث مات الرائد الكبير عام ١٩٥٨م، فأوضحتُ الأفكار الرئيسية التي نبتت في أعماق سلامة موسى في صدامها مع تكوين المجتمع المصري، كما بيَّنت أبعاد عملية التفاعل بين هذه الأفكار والأفكار المحيطة من حولها في مصر والعالم من جهة، وبينها وبين الواقع الاجتماعي من جهةٍ ثانية. إلا أن سلامة موسى من ناحيةٍ أخرى كان ركيزتي المشخَّصة لتناول الصورة الفكرية لحضارتنا الحديثة بالتسجيل والتحليل.

ولست أعلم مدى ما نجحت فيما حاولته من رصد وتقييم لهذه الشخصية وتلك المرحلة. فإني سوف أعرض على القارئ هنا منهجي في التعبير من وسائل وأدوات حتى نحاول معًا أن نتعرف — أثناء القراءة — على مواطن القصور وأسبابه. فقد حاولت في الفصل الأول أن أرسم الخطوط الرئيسية لحياة سلامة الفكرية منذ كتب أول مقال له بالمقتطف حول نيتشه عام ١٩٠٩م، أو منذ كتب «مقدمة السوبرمان» في نفس التاريخ، إلى أن تكامل موقفه من الاشتراكية في كتابه «تربية سلامة موسى» في طبعته الثانية عام ١٩٥٨م عام الوداع. حاولت في هذا الفصل أن يكون بمثابة «البوصلة» التي توجِّه القارئ، أو الخريطة الفكرية المزدوجة الخطوط بحيث يسير القارئ مع سلامة موسى والمجتمع المصري في وقت واحد. كيف صاغ سلامة منهجه في الفكر والحياة، وكيف اشترك الواقع في صياغة هذا المنهج. ومن هنا فقد اعتمدت على معظم الكتب الرئيسية لسلامة موسى ومصادرها الأجنبية والعربية، بالإضافة إلى اعتمادي على أهم المراجع في تاريخنا السياسي والاجتماعي والجزئيات المتناثرة حول تاريخنا الفكري الحديث، سواء كانت هذه المراجع بأقلام عربية أو أجنبية.

أما الفصل الثاني فقد حاولت فيه أن أشير إلى أهم المفكرين الذين علَّموا سلامة موسى، فاعتمدت على كتابه «هؤلاء علموني» بصورة أساسية.

أما الفصل الثالث فقد جاء تفصيلًا لأحد الخطوط الأساسية في تكوين سلامة؛ أعني به إيمانه العميق بنظرية التطور كعنصر منهجي في تفكيره. وقد تتبعت بقدر الإمكان المؤثرات التي كونت لسلامة موسى هذا الإيمان، كما حاولت أن أتتبع استجاباته لتلك المؤثرات، وعملية التفاعل بينه وبينها من جانب في تكوينه المنهجي، ومن جانب آخر في تأثيره وتفاعله مع المجتمع المصري.

والفصل الرابع هو تتبع تفصيلي كذلك لأحد الخطوط التي لا تقل أهمية عن الخط السابق في خريطة سلامة الفكرية، بل ربما كان الخط الأكثر بروزًا من الناحية العلمية، وإن كانت فكرة التطور إحدى الدعامات النظرية. أما هذا الخط الهام فهو موقفه من الاشتراكية منذ كان شابًّا صغيرًا وعضوًا بالجمعية الفابية بلندن، إلى ما قبل صدور الميثاق الوطني للقوى الشعبية، حيث كان سلامة قد مات قبل ذلك التحوُّل الفكري الهام لحركة ٢٣ يوليو بسنواتٍ قلائل، شهيدًا للفكرة الاشتراكية.

وقد اعتمدت في الفصلين الثالث والرابع على المصادر الأساسية لنظريتي التطوُّر والاشتراكية، مع الارتكاز على محاولة استكشاف أرض الواقع المصري بطبقاته وأفكاره وتناقضاته. ذلك أن هذه الأرض كانت الشكل والمضمون في تتبعي لموقع سلامة موسى هنا وهناك. لهذا كانت كتبه حول التطور والاشتراكية، ومعاركه مع الاتجاهات الفكرية المختلفة في مصر حول هذين المحورين، من أهم علامات التنوير التي استضأت بها في خطواتي معه.

فإذا جاء الفصل الخامس حول معنى المرأة عند سلامة موسى، والفصل السادس حول دور علم النفس في حياتنا كما يراه سلامة موسى، والفصل السابع حول مفهومه في الأدب، والفصل الثامن والأخير حول مفهومه عن حرية الفكر، فإننا نكون قد بدأنا التوغل في القسم الثاني من الكتاب؛ القسم التطبيقي. فلم أكن بحاجةٍ إلى إثبات الجانب المنهجي عند سلامة كلما حاولت إنارة رؤيته لمعنى المرأة أو الأدب أو غيرهما. اكتفيت في هذا الجانب التطبيقي بالتركيز على كتاب أساسي لسلامة موسى يوضِّح فيه موقفه الجوهري من قضية المرأة أو مشكلة الأدب، وهكذا. أما المقدمات التاريخية لهذا الموقف والآثار المترتبة عليه، فقد اكتفيت، بشأنها، بالإشارة السريعة دون الاستطراد الذي لم أجد له مبررًا ما دمت قد حاولت تفصيل الجانب المنهجي في القسم النظري بالفصول الأربعة الأولى من الكتاب. ومن هنا كان اعتمادي على كتابه «المرأة ليست لعبة الرجل» كأساس تطبيقي للفصل الخامس، كما اعتمدت على كتابه «محاولات سيكولوجية» في الفصل السادس، وكتابه «الأدب للشعب» في الفصل السابع، وكتابه «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» في الفصل الثامن والأخير.

إلا أن اعتمادي على كتاب أساسي في كل فصل من هذه الفصول لم يحل — كما قلت — دون الإشارة العاجلة إلى ما سبق هذا الكتاب وما لحق به من مؤلفات الكاتب، والمصادر الرئيسية في الموضوعات التي طرقها، والظروف التي رافقته من النظرية إلى التطبيق.

فإذا انتهيت من الصفحة الأخيرة من الكتاب كان عليَّ أن أقرر أنني اهتديت فكريًّا أثناء البحث بالمنطق الجدلي والمادية التاريخية منهجًا علميًّا للدراسة. ولما كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قد تم تأليفها في ظروف غياب الثقافة الماركسية عن الأسواق، فقد اضطررت حينذاك إلى الاستطراد في بعض الفصول شارحًا الجذور النظرية لهذه الفكرة أو تلك. وقد رأيت أن أحذف في هذه الطبعة التي بين يدي القارئ وأضيف، بما يجعل الكتاب أكثر اتساقًا من الناحية المنهجية دون الإخلال بأية جزئية من جزئيات موقفي الفكري وتفاصيله المطروحة بين دَفتي الكتاب في الطبعة الأولى. وحرصًا على أمانة البحث ودقته العلمية أشير إلى أنني حذفت الاستطراد المطول بالفصل الخامس حول تاريخية وضع المرأة كما جاء به إنجلز في كتابه «أصل العائلة». فقد أصبح مثل هذا الكتاب شائعًا في الأسواق في الوقت الحاضر. كما أنني حذفت كافة العبارات التي تمت صياغتها فيما مضى «منذ عشر سنواتٍ تقريبًا» بحماسة الشباب واندفاعه. وأضفت في نفس الوقت عبارات جديدة تحمل المعنى الأول في صورة متأنية. إلا أنني في الحذف والإضافة حرصت أشد الحرص ألا يتشوه مضمون الفقرات المحذوفة أو المضافة التي كان عليها وما يزال موقفي الفكري في خطه العام، أي في صورته المنهجية. أما الحواشي والذيول التي لا تؤكد دلالة ما، فقد نزعتها تمامًا. كما أبدلت بعض التركيبات اللغوية المعقدة بعض الشيء بتركيبات أكثر بساطة.

أما الأرض الفكرية التي خطوت عليها أثناء تأليفي هذا الكتاب. فإنها تتمثل فيما يلي:

  • فقد استعنت في تمثل تاريخ المجتمع المصري، بمؤلفات سليم حسن وعبد الرحمن الرافعي، في التاريخ القديم والجديد على السواء. على أن أهمها جميعًا بالنسبة للمرحلة التي عاشها سلامة كان كتاب «تاريخ الحركة القومية» للرافعي. وفي تاريخنا الاقتصادي اعتمدت كثيرًا على كتب راشد البراوي وأهمها «التطور الاقتصادي في مصر في العصر الحديث» بالاشتراك مع محمد حمزة عليش. كما أنني مدين لكتاب فوزي جرجس «دراسات في تاريخ مصر السياسي» وكتاب شهدي عطية الشافعي «تطور الحركة الوطنية المصرية» وكتاب إبراهيم عامر «ثورة مصر القومية».٤
  • وفي التاريخ الأوروبي خلال القرن التاسع عشر، كان لا بد لي من قراءة مرجع كامبردج في التاريخ الحديث «المجلد الخامس والسادس والسابع»، وكتاب ماريوت «تاريخ أوروبا من ١٨١٥ إلى ١٩٢٣م»، وكتاب جاننجهام «نمو الصناعة والتجارة الإنجليزية في الأزمنة الحديثة»، وكتاب ماركس عن «رأس المال»، ورده على المفكر الفرنسي برودون في «بؤس الفلسفة»، وكتاب لينين عن «الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية».

  • وفي تاريخ الفكر الغربي، قرأت «تكوين الفكر الحديث» لراندال، و«أزمة الضمير الأوروبي» و«الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر» لهازار، و«أزمة الإنسان الحديث» لتشارلز فرانش. كما أكببت على دراسة معظم ما كتبه المفكر الإنجليزي برنال، وفي مقدمة أعماله «العلم في التاريخ». وفي الفلسفة طالعت تاريخها بين صفحات يوسف كرم وجون لويس وكوبيه وبرتراند راسل، وفي قضاياها قرأت بعضًا من أعمال هوارد سلزام ولوفافر وجارودي وبولتيزير. أما في الفلسفة العلمية فقد أفادني موريس كورنفورث إفادة ضخمة في كتابه الرائع «العالم يناهض المثالية». ودرست في مجال الأدب والنقد أعمال النقاد الروس من أمثال بيلنسكي وتشرنشفسكي ودوبرليوبوف وهرزن، والنقاد الإنجليز من أمثال كريستوفر كودويل وجورج طومسون ورالف فوكس.

  • وفي التاريخ العربي قرأت مؤلفات «فيليب حتي» و«جورج أنطونيوس». وفي الفكر العربي طالعت «الفلسفة العربية» لحنا فاخوري. بالإضافة إلى ما وقع تحت يدي من مؤلفات ابن رشد وابن سينا وابن مسكويه، وقد أسعدني الحظ بالالتفات إلى هذا الأخير، إذ اكتشفت فيه مفكرًا عملاقًا في مجالاتٍ كثيرة.

بعد ذلك، يهمني أن أشير إلى المجهود الذي بذله بعض الزملاء في تقييم أفكار سلامة موسى وعصره بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وهو المجهود الذي بذله فتحي خليل في الجزء الأول من كتابه القيم «سلامة موسى وعصر القلق»، ومحمود الشرقاوي في كتابه «سلامة موسى المفكر والإنسان». ولعل القارئ يجد في هذين الكتابين ما يفتقده في هذا الكتاب الذي بين يديه، بل إن صدور هذه الكتب عن سلامة موسى لدليل يؤكد خصوبة هذا المفكر العظيم وقدرته على العطاء لكل جيل، كما أن هذه الكتب تشير بأنه ما تزال في ضمير الغيب العديد من الدراسات حول سلامة موسى وغيره من التيارات والقيم الفكرية التي سادت حياتنا في نصف القرن الأخير، بحيث يتكون لنا في القريب أرض فكرية واضحة، ومفهوم علمي دقيق لحركة التاريخ في بلادنا، ورصد أكاديمي عميق لمختلف الاتجاهات والزوايا والأبعاد التي تشكِّل الصورة الكلية الشاملة لفكرنا الحديث.٥

٤

لا أحب أن أضيف «مقدمة» جديدة إلى المقدمات الثلاث السابقة، ولكني عثرت في أدراج مكتبتي التي تنقَّلت معي من القاهرة إلى بيروت إلى باريس، على نص درامي كتبْتُه عن سلامة موسى للإذاعة المصرية غداة وفاته عام ١٩٥٨م. ولذلك رأيت أن أثبته هنا، قبل الدخول في عالم سلامة موسى الفكري، لعل الجيل الجديد الذي لا يعرف شيئًا عن «حياة» الرجل، يستكشف بعض الدلالات الهامة، وفي مقدمتها أن فكر الرجل لم ينفصل قط عن سلوكه. لذلك سيظل دومًا قدوة إنسانية تُحتذى، كفكره الذي سيبقى نموذجًا حيًّا حاضرًا في كل وقت، للريادة والحرية والتقدم.

١  أي منذ عام ١٩٥٢م.
٢  إلى هنا تنتهي مذيلة الطبعة الأولى (عام ١٩٦٢م)، وتبدأ مقدمة الطبعة الثانية (١٩٦٥م).
٣  بعد صدور الطبعة الثانية من هذا الكتاب، صدرت للدكتور رفعت السعيد محاولات جادة تؤرخ للحركة الاشتراكية في مصر، ولكنها وحدها لا تكفي.
٤  صدرت بعد ذلك بعض المؤلفات الهامة ككتاب «تاريخ الفكر المصري الحديث» للويس عوض، وكتاب صلاح عيسى عن الثورة العرابية، وكتاب طارق البشري عن المرحلة بين ١٩٤٥ و١٩٥٢م.
٥  إلى هنا تنتهي مقدمة الطبعة الثانية ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤