برولوغ

رحلة في القلب

سلامة موسى واحد من أبناء الرعيل الأول الذين وضعوا حجر الأساس في صرح نهضتنا الثقافية الحاضرة. وقد وُلِدَ سلامة عام ١٨٨٧م حيث اقترنت طفولته بالحال العصيبة التي كانت عليها بلادنا حين أرسى الإنجليز قواعد احتلالهم.

وكانت المدرسة الفكرية الأولى لشباب ذلك الجيل هي مَجلة المقتطف التي أولت العلوم عنايتها الأولى، ومَجلة الجامعة التي أولت الآداب الأوروبية كل اهتمامها. وكان يحرر الأولى الأستاذ يعقوب صروف، والأخرى الأستاذ فرح أنطون، وكلاهما كان على صلة وثيقة بتيارات الفكر الأوروبي المعاصر لهما. فكانت المقتطف توالي بحوثها المترجمة عن المصادر الأوروبية في نظريات النشوء والارتقاء التي تخير لها سلامة موسى اسم التطور. أما الجامعة فقد نقلت إلينا روائع المدرسة الرومانسية التي جادت بها قرائح الأدباء الفرنسيين في ذلك الوقت البعيد.

ومن هذه البؤرة تشعَّبت اهتمامات سلامة، وتجمَّعت في نقطة واحدة هي: العلاقة بين الثقافة والحضارة. واكتشف أن الفكر الإنساني — في مختلف نشاطاته — هو تعبير صادق عن الحضارة الإنسانية. ومن ثم أيقن أن ميله إلى الثقافة الأوروبية يجب أن يُوَجَّه إلى التعرُّف على الجذور الحضارية لهذه الثقافة.

ولم يكن غريبًا إذَن، أن يولِّي سلامة موسى وجهه شطر أوروبا. وكانت وجهته الأولى باريس، ولكنه لم يكد يقضي بها شهورًا حتى عاد إلى وطنه بعد أن جلدته سياط المثقفين الفرنسيين وهم يسألونه عن بلاده وتاريخها، خاصةً وأن كثيرًا من المستشرقين أكبُّوا في ذلك الوقت على دراسة التاريخ المصري القديم.

عاد سلامة إذَن ليدرس وطنه دراسة حرة، ليعوض ما حُرِمَ منه على أيدي المدرسين الإنجليز الذين شاءوا أن يُلصقوا بأذهان التلاميذ المصريين أن تاريخ العالم هو تاريخ بريطانيا العظمى. أما مصر، فإنها لم ترتق في نظرهم إلى مستوى التاريخ.

واستكمل سلامة موسى أدواته الثقافية من علمٍ ومعرفة، وشد رحاله مرةً أخرى إلى باريس في نفس الوقت الذي كان فيه كرومر يغادر مصر، وتنشر الصحف الفرنسية نص خطابه الذي ألقاه في حفلة الوداع.

الفصل الأول

«نشرت الصحف الفرنسية الصادرة في ٥ مايو عام ١٩٠٧م نص الخطاب الذي ألقاه كرومر في حفلة الوداع التي أقيمت له، بمناسبة مغادرته مصر، عقب مأساة دنشواي. وفي أحد مقاهي باريس كان يجلس الشاب المصري سلامة موسى مع بعض الشباب الفرنسيين يستمع إلى أحدهم وهو يقرأ كلمات كرومر.»

«ما هي حقائق الحال المصرية الآن؟ أولها: أن الاحتلال سيدوم إلى الأبد بإذن الله، وقد صرحت لنا حكومة صاحب الجلالة الملك بذلك رسميًّا. والحقيقة الثانية: أنه ما دام الاحتلال البريطاني باقيًا، فالحكومة البريطانية تُعَد بالضرورة مسئولة أمام ضميرها عن خط سير الحكومة المصرية. ولا يكونن عند أحد أقل ريب في هذه الحقيقة الثابتة.»

والنتيجة التي استخلصها من هذه المقدمة أن نظام الحكم الحاضر قائم إلى ما لا نهاية.

سلامة (منفعلًا) : كلمات رجل مخرف.
شاب فرنسي (محتدًّا) : لا تقاطعه أيها … الهندي.
سلامة (ساخرًا) : لست هنديًّا … ومع ذلك …
شاب آخر : اخرس … أيها الملون (ضجة) … يبدو أنه مصري.
سلامة : تمامًا … أنا كذلك.
شاب ثالث : إذَن فلا تناقش … ليس لك هذا الحق … الإنجليز أسيادكم … أتسمعني … أسيادكم.

(تزداد الضجة، بينما ينصرف سلامة هاربًا.)

(شخص يُلقي خطابًا.)

– إنها رسالة من لندن … من سلامة … أما زلت تكتب يومياتك … سأقرَؤُها يا أخي … فما زال صوتك في ذاكرتي (يبدأ في القراءة).
«… وأذكر أني في إحدى الأمسيات، وجدتُني أجلس على المقعد، وكأني سُمِّرْت به، وكأني نويت ألَّا أبرح هذا الكرسي حتى أصل إلى قرار حاسم. ماذا أنا عامل في هذه الدنيا؟ من هم خصومي الذين يجب أن أكافحهم؟ من هم أصدقائي الذين يجب أن أؤيدهم؟ ووجدتني أفكر وأجيب، وأحيانًا يحتد تفكيري فأسمعه كلامًا أنطق به … أجل … ليس لي مأرب في هذه الدنيا، فلست أبالي أن أكون ثريًّا. لا بل لست أبالي أن تكون لي زوجة وأطفال … وإنما قصدي أن أفهم … أن أعرف كل شيء، وآكل المعرفة أكلًا، ثم عدت فقلت: ولكن لماذا؟ وأجبت: لأكافح … لأكافح الإنجليز حتى يجلوا عن وطننا … وأيضًا أكافح تاريخنا … أكافح هذا الشرق الذي تأكله ديدان التقاليد، وأكافح هذا الهوان الذي يعيش فيه أبناء وطني … هوان الجهل وهوان الفقر … أجل … إني عدو للإنجليز، وعدو للآلاف من أبناء وطني … لهؤلاء الإقطاعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة. وصارت هذه الأفكار همًّا يؤرقني منذ غادرت باريس إلى لندن.»

(في حديقة هايد بارك مع صديقته الأيرلندية إليزابيث.)

ليزي : ألا تظن أن هذه أجمل حدائق لندن؟
سلامة : أنت جريئة يا ليزي.
ليزي : ليس كثيرًا … ولكن هل قرأت «بيت الدمية» لإبسن؟
سلامة : طالعت موجزًا نقديًّا لها في إحدى المَجلات … كان قاسيًا على المرأة الأوروبية.
ليزي : إن ما تتوهمه عن حرية المرأة في أوروبا، إنما هو طلاءٌ سطحي يخفي الحقيقة المُرَّة.
سلامة (مندهشًا) : الحقيقة المُرَّة؟ … ماذا تعنين؟ … ها أنت تجلسين معي في مكانٍ عام … إنك تشاهدين السينما والمسرح وتزورين أصدقاءك … أين المرارة يا عزيزتي؟
ليزي (ضاحكة) : لا تتسرع هكذا يا صديقي، فأنا لا أمثل أغلبية نسائنا … المرأة الأوروبية يا عزيزي «لعبة» في يد الرجل كما يقول إبسن، إنها ترتدي الثياب الفاخرة، وتغشى الملاهي، وتذهب إلى الكنيسة، وليس هذا بكل شيء.
سلامة : إذا خرجت المرأة إلى الدنيا … أليس ذلك كل شيء؟!
ليزي : كلا … وإنما المساواة الحقيقية هي أن ترتفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية، فترفض التدليل، وتخرج إلى العمل؛ لأنها إنسان قبل أن تصبح زوجة أو أمًّا.
سلامة : ولكن الفتاة عندكم حصلت على نصيبٍ كبيرٍ من الحرية … فهي مثلًا …
ليزي (تقاطعه) : إن الفرق بين المرأة الأوروبية والمرأة عندكم هو الفرق في درجة الاستعباد فقط. فالمرأة العاملة في إنجلترا لا تحصل على أجر الرجل ولا ميراثه، والجامعات رفضت قبولها أمدًا طويلًا … والدولة أصرَّت زمنًا على رفضها كناخبة أو مرشحة في المجالس النيابية.
سلامة : مهلك يا عزيزتي … كيف إذَن تقدمت المرأة الإنجليزية؟
ليزي : إنه التطور … التطور الطبيعي الذي سيتحدث عنه برنارد شو غدًا في الجمعية الفابية.
سلامة : أنت نبيهة جدًّا … إنني لا أنسى موعد محاضرات شو.
ليزي : هل تعجبك المناقشات التي تُدار في نهاية الندوة؟
سلامة : كثيرًا يا ليزي … إنها دليل على الديمقراطية.
ليزي : إذَن فسأراك غدًا.
سلامة : إلى اللقاء يا ليزي.
ليزي : إلى اللقاء.

(في قاعة الجمعية، وقد انتهى برنارد شو من محاضرته.)

مدير القاعة : وإلى هنا ينتهي حديث مستر شو، والفرصة الآن لجميع الأصدقاء الذين يريدون توجيه أي سؤال.
برنارد شو : فقط أريد أن تنحصر الأسئلة في موضوع المحاضرة.

(خطوات شاب في طريقه إلى المنصة.)

مدير القاعة : اسم حضرتك؟
سلامة : سلامة موسى.
مدير القاعة : تفضل.
سلامة : أيأذن لي مستر شو أن أتساءل: كيف استطعت أن تجمع بين التطور والاشتراكية، رغم أن عماد نظرية داروين هو قانون تنازع البقاء، بينما الاشتراكية تدعو إلى التعاون؟
برنارد شو : حين نطبق نظريةً ما على المجتمع، يجب أن نفرق بين البيئة والإنسانية والغاية، في مجال البيولوجيا مثلًا، يجب ألَّا نقتل المرضى والضعفاء حتى نتطور إلى أرقى … وإنما نضع حجابًا بين المرضى والأصحاء، ونرفع اقتصادنا القومي بأن نحد من جشع الطبقة الكبيرة لمصلحة الطبقات الشعبية.
سلامة : ما رأيك يا مستر شو فيما يقوله مستر ويلز في كتابه «تاريخ الإنسانية» إنه يعطي الدول المتقدمة حق استغلال موارد الشعوب المتأخرة، ويبرر ذلك بأن العالم ليس ملكًا لأحد، والظروف التي ساعدت الأمم الراقية على التقدم تمنحها الحق في أن تستغل الخامات البكر في البلاد المتخلفة. حيث إن ظروف تلك البلاد لن تهبها الفرصة لتحويل هذه الخامات إلى خدمة الإنسان.
شو : إنني أشكر هذا الشاب المصري «سلامة موسى»، فقد أتاح لي فرصة جميلة لتحليل كتاب الصديق ويلز، والآن اسمح لي يا عزيزي أن أسألك: هل قرأت للمؤلف الألماني وايزمان؟
سلامة : أجل … إنه يؤمن بالوراثة فقط على أنها العامل الوحيد في تطور الكائنات الحية، أما البيئة والظروف الخارجية، فإنه لا يؤمن بإسهامها في تغيير صفات الكائن الحي.
شو : هذا صحيح … فلو طبقنا نظرية وايزمان في ميدان السياسة، لأدركنا إلى أي مدى يمكن أن تؤيد قوى الاستعمار في العالم، هذا الاستعمار الذي تسبب في مأساة قريتكم … دنشواي.
سلامة (مقاطعًا) : أشكرك يا سيدي … إننا لن ننسى كلماتك الشجاعة العظيمة التي أيقظت ضمير العالم على مأساتنا.
شو : وايزمان يؤمن بالوراثة فقط … أي إن الأمم المتقدمة ولدت هكذا بكل إمكانيات التقدم، وستظل في سيرها الأمامي إلى الأبد. والشعوب المتخلفة وُلِدَت أيضًا هكذا، بكل إمكانيات التأخر. إذَن فلا ضرورة للكفاح … ومرحبًا — كما يقول ويلز — باستعمار المتقدمين للمتخلفين … فهذا حقهم، وتلك ضريبة التخلف.
سلامة : أجل يا مستر شو … إني أفهمك تمامًا.
شو : ولكن يا عزيزي، نحن نؤمن بتأثير الوسط والبيئة على صفات الكائن الحي … فلو تغيَّرت النظم والظروف المحيطة بالدول المتأخرة، لتغيَّرت بالتالي أحوال هذه الدول، ولا ريب أننا نلمس تأثير الظروف الدولية على الأمم المتقدمة، وكيف أن بعضها بدأ يرجع إلى الوراء، بينما تقفز الشعوب الضعيفة إلى الأمام في موازاة التقدم العلمي.
سلامة : شكرًا يا مستر شو.
شو : ألديك سؤال آخر؟
سلامة : أجل يا سيدي … ألست ترى معي أن هناك فرقًا بين دعوة نيتشه لإيجاد الإنسان الأعلى، ودعوتكم؟
شو : إنني أختلف مع نيتشه اختلافًا جذريًّا … فهو يدعو إلى أن يكون الإنسان قنطرة بيولوجية بين القرد والسوبرمان على أساس تنازع البقاء، فنعمل على إبادة الضعفاء ونشجع صفات الممتازين بالتناسل.
سلامة : هذا هو رأيه بالفعل … ولكنني أميل إلى جانبك حين تنشد السوبرمان بطريقة إنسانية … وهي أن نحمي الأجيال القادمة من الصفات السيئة، بأن نمنع ذوي هذه الصفات من التناسل، بينما نشجع الممتازين.
شو : تمامًا … ولا تنس أن الذين نمنعهم من التناسل لا نمنعهم مطلقًا من الزواج.
سلامة : لقد عرَفت ذلك من قراءتي لعلم اليوجينيا الذي يهدف علماؤه إلى إصلاح النسل بالوسائل الطبية؛ كمنع الحمل عند من تعنيهم مصلحة بلادهم، ولا يرغبون في إلحاق عاهاتهم بالأجيال المقبلة.
شو : هل من سؤالٍ جديد؟
سلامة : شكرًا.
مدير القاعة : أعتقد أننا نكتفي بهذه المناقشة في ندوة الليلة، وإلى اللقاء في الندوات التالية.

(ضجة الختام … وعند الباب تلتقي إليزابيث مع سلامة.)

ليزي : كنت رائعًا يا سلامة.
سلامة : ليس كثيرًا … فقد نسيت أن أسأله عن أسباب النزاع الذي نشب بينه وبين ويلز … فإني ألممت بشيءٍ منه في الملحق الأدبي للتايمز.
ليزي (ضاحكة) : يا عزيزي … إنك تشغل نفسك بالتفاصيل، الأمر في بساطة أن مستر ويلز يرى أن نجمع بين الدعوة الاشتراكية والدعوة إلى تحرير المرأة في وقتٍ واحد، ومستر شو يرى أن نقتصر على نشاطنا الاشتراكي.
سلامة : في الواقع إني أحب برنارد شو، ولكني أميل إلى رأي ويلز … إن حرية المرأة هي الأساس الديمقراطي لبناء الاشتراكية … (بقلق) ولكنك يا ليزي لم تخبريني بعد … هل فكرت فيما أخبرتك به؟
ليزي (بِرَنَّة أسى) : ظننت أنك ستمهلني فترة أطول … وإن كنت أعتقد أنه من الأفضل أن أفسر لك الأمر في وضوح … لقد اكتشفت — بعد تفكير — أنني لن أستطيع مغادرة أيرلندا يا صديقي. فأرضها أولى بكفاح أبنائها … وأنا — كما تعرف — ليست لي أمانٍ صغيرة … إنني أبغي الحرية لوطني والرفاهية لبنيه، وهذا لا يتحقق إلا إذا كنت بينهم.
سلامة (في أسفٍ) : أهذا قرارك الأخير؟ … إنني أحبك يا ليزي … ولكني — مثلك — أحب وطني أيضًا. وطني في حاجةٍ إلى النضال. وأنا لم أحضر إلى هنا لأتبرأ منه. وإنما جئت لأشتري أسلحة الثقافة والعلم التي سأسهم بها في تقدم بلادي، إنني في لندن والقاهرة معًا. إن كتابي الصغير «مقدمة السوبرمان» يقرؤه أبناء وطني الآن … يقرءون كل الأفكار التي اكتسبتها من هنا … الأفكار التي عشناها معًا يا ليزي.
ليزي : قلبي معك يا عزيزي.
سلامة : وروحي معك يا صديقتي إليزابيث.
ليزي : اكتب إليَّ دائمًا.
سلامة : أعدك يا ليزي … وداعًا.
ليزي : وداعًا.

الفصل الثاني

(القاهرة عام ١٩١٤م. صالون الأديبة العربية مي. سلامة موسى صاحب مَجلة المستقبل يحصل منها على حديثٍ صحفي.)

مي (ضاحكة) : إنني لا أحب الأحاديث الصحفية، ولكني سمعت أنك جئت من لندن قريبًا … فربما كنت معقولًا في أسئلتك.
سلامة : ما رأيك في الأدب العربي المعاصر؟
مي : في حاجةٍ إلى المثل العليا، فهو ما زال ماديًّا في أغراضه، لم يرتق إلى الروحانيات بعد.
سلامة : إنك تستخدمين المادية والمثالية بالمعنى الأخلاقي، بينما يجب أن نستخدمها بالاصطلاح الفلسفي، فنقول: إن الأدب يكون ماديًّا حين يتصل بمشكلات الواقع الاجتماعي ويعالج هموم الإنسانية واهتمامات الشعب، ويصبح الفن مثاليًّا حين يسبح في فضاء الأحلام.
مي : إذَن فالأدب سلعة وليس جمالًا؟
سلامة : من قال ذلك؟ إن الفن الجميل هو الفن العظيم … ولكن الجمال ليس احتكارًا لقصص الحب ومآسي الغرام … هناك جمال في حياة الناس. والأديب الصادق يصوِّر هذه الحياة بكل ما فيها من ألمٍ وحرمان … وليس الحرمان قاصرًا على الجنس.
مي (ضاحكة) : أخشى أن نخطئ فأصبح أنا الصحفية، وأنت مي.
سلامة : لا يجب على الصحفي — في رأيي — أن يكون آلة تسجيل … المحقق الصحفي يجب أن يناقِش. هل ثمة فرق بين الأدب المصري والأدب السوري؟
مي : كلاهما يعبر عن الروح العربية، وإنْ تميَّز الأديب السوري بفخامة الألفاظ وخفة التعبير … أما الأديب المصري فيهوى الانسياب والاستطراد.
سلامة : والمرأة السورية … هل تتشابه مع زميلتها المصرية؟
مي : إنهما شقيقتان، ولكني أرى أن المرأة السورية أرقى نساء العالم العربي، ومع ذلك فلا يستطيع رجل أن يجلس معها.
سلامة : أعتقد أن الحجاب هو المرض الحقيقي لتأخر نسائنا … إن بناتنا لا يجدن مدرسة ثانوية واحدة، وهذا هو داؤنا. فالثقافة والعمل يمكن أن ينهضا بالمرأة العربية … أما العمل فغير متيسر في الوقت الحاضر، وسيتحقق مع الزمن … أما الثقافة … الثقافة! … لماذا تُحرَم منها بناتنا من دون فتيات العالم؟! لماذا نفخر بجهل نسائنا؟! … إن الحجاب يغطي وجوههن، وعقولهن أيضًا، وهذه مأساتنا، فحين يصبح نصف أمَّة مشلولًا، لا تتوقعي منا تقدمًا أو رقيًّا.
مي (ضاحكة) : إنك محق يا سلامة … وأرجو ألا تنسى في ثورتك الظروف الشاقة المحيطة بالمرأة العربية.
سلامة : هذا صحيح … فظروف مجتمعنا كله شاقة ومريرة … الإنجليز يعرفون أن الثقافة والتعليم هما قوام كل شعب متمدن … فإذا تعلمنا وارتقينا، ثرنا على أغلالهم، ورمينا بهم في البحر. وهناك أيضًا الاستبداد الداخلي … الإقطاع المتربع على عرش أرضنا، فإن عرشه لا يثبت إلا بمسامير الاستعمار.
مي : أجل، إنهما عدوان خطيران.
سلامة : ولكنا سننتصر … تأكدي أن شعبنا يكظم ويكبت … وحين ينفجر لا يُبقي ولا يذر.
مي : إنك تحلم … ماذا ستفعلون؟ الاحتلال أمامكم والإقطاع وراءكم.
سلامة : سنتعلم … سنثقف بناتنا داخل بيوتنا حتى يخرجن إلى الشارع، ويبنين مدارسهن بأيديهن، سنحوِّل حقولنا إلى مصانع، ونثبت كذب كتب المطالعة، فبلادنا ليست زراعية … إنها أسطورة إنجليزية تسعى بيننا على قدمين … ستمتلئ بلادنا بالمصانع … ويتحطم الإقطاع … ويجلو الإنجليز … وسنعيش … سنعيش يا سيدتي.
مي (ضاحكة) : أنت تحلم.
سلامة (منفعلًا) : لا بأس … ولكني من الذين يحلمون وأعينهم مفتوحة .

(المشهد: سلامة على مكتبه … جرس التليفون يدق.)

– إلى أين وصلت في المذكرات؟

سلامة (بحماس) : إنني أكتب منذ الصباح … لقد وصلْتُ إلى ثورة ١٩ (يضع السماعة … يعود إلى الكتابة).
«تُرى … هل تذكر مي حديثها معي بعد هذه السنوات؟ أكانت تصدق أن هذا الشعب العظيم يمكن أن يقوم بثورة؟ أكاد أوقن أنها ما كانت على وعي بالروح العملاقة التي يحتويها شعبنا. ما كانت تدري — مثلًا — أن الأقباط رفضوا أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات، وأن القسيس سرجيوس كان لا يبالي أن يكرر القول بأنه إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية. وعندما كانت لجنة الدستور تبحث قانون الانتخاب طلب أحد الباشوات الأقباط أن تُكفَل حقوق المسيحيين في الانتخاب بالتعيين، أي إذا لم يُنتخَب منهم العدد الكافي الذي يمثلهم فإن الحكومة حينئذٍ تعيِّن عددًا من الأقباط حتى لا يكون هناك نقص في التمثيل … يا للعار … لقد نسوا أننا شعب واحد … نسوا أن محمدًا يمثل جرجس ومرقس يمثل حَسنًا … المهم، لقد هبَبْنا نحن الشبان ذلك الوقت، نزيِّف هذا الرأي الداعي إلى التفرقة، وصرخنا بأن نكتفي بالانتخاب.

وما يبرز في ذاكرتي من ثورة ١٩ هو وثبة المرأة المصرية من الأنثوية والبيت إلى الإنسانية والمجتمع. فقد مزقت الحجاب، وشرعنا جميعًا نعد المرأة إنسانًا له حقوق الإنسان، بعد أن كنا نتكلم عنها باعتبارها ربة البيت أو الزوجة أو غير ذلك من الصفات التي كنا نصف بها «المخدرات» … وقد زالت هذه الكلمة من لغتنا.

وشيء آخر هو النهضة الاقتصادية التي أثمرت بجهود طلعت حرب وغيره، بنك مصر وسائر توابعه من الشركات الأخرى. وبهذا البنك مُسِحَت عن جباهنا الوصمة التي كان يعيِّرنا بها المستشار المالي برونيات بقوله: «إنه ليس من بين المصريين من يعرف أعمال البورصة.»

(يدق الجرس … يدخل خادم.)

– نعم يا سيدي.
سلامة : أعطني رسائل اليوم (الخطوات تبتعد) … سأرد على إحداها في مقالٍ كامل … (الخطوات تقترب) … شكرًا (الخطوات تبتعد، ويبدأ سلامة في فض إحدى الرسائل)، (فترة صمت يضحك في نهايتها) … يا له من قارئ ذكي، إنه يسألني: «لماذا تدعو إلى الزواج المبكر، بينما عرفت أنك تزوجت في القريب جدًّا حين بلغت السادسة والثلاثين؟ … وهل تعتقد أن الزواج والأدب يتفقان؟» (يتنهد … ثم يبدأ في الكتابة): ليس من شك أنه كان للصدمة التي لقيتها أيام حبي لتلك الفتاة الأيرلندية، وأنا في إنجلترا، أثَرٌ في كراهيتي أو تجنبي للزواج، فلم يكن يقترح عليَّ أحد الزواج بعد هذه الصدمة إلا وأتنهد في حسرةٍ وأسف.
وعقب الزواج وجدت صعوبتين: أولاهما أني أحترف الأدب والصحافة وأتعلق بالقراءة وهوايتي هي الثقافة، والزوجة تَعُدُّ الإنفاق على الكتب إسرافًا، ثم هي لا تطيق رؤية زوجها وهو غارق في كتابه طول الوقت أو معظمه في البيت. والصعوبة الثانية هي التفاوت العظيم بين مستويينا الثقافيين. ففي مصر كلها لم تكن هناك مدرسة ثانوية واحدة للبنات إلى عام ١٩٢٥م، وكانت زوجتي قد تعلمت في مدرسة فرنسية من تلك المدارس التي تديرها الراهبات، ويتجه فيها معظم العناية إلى التعليم الديني. ولذلك وجدْتُ، للتغلب على هاتين الصعوبتين، أن أشرع في تعليمها من جديد. فصرت أشركها فيما أكتب، وأناقشها في جميع الموضوعات الثقافية التي أهتم بها. وبديهي أن كل زوجة تهتم بحرفة زوجها، ولما كانت حرفتي هي الصحافة والأدب والعلم، فإنها اضطرت إلى تتبع نشاطي حتى ارتفعَتْ عن مستواها السابق كثيرًا. وبهذا صح الوفاق بيننا، بل أكثر من ذلك أنها أصبحت صديقتي كما هي زوجتي. وظنِّي أن خير طريقٍ إلى الصداقة الضرورية بين الزوجين في مصر أن يرفع الزوج زوجته إلى مستواه الثقافي. إذ هو حين يقصِّر في ذلك يجد أن التفاهم بينهما معدوم، فلا يكون الحديث بينهما إلا في الشئون التافهة، ويعودان وكل منهما يعيش في عالمٍ منفصلٍ عن العالم الذي يعيش فيه الآخر. والصداقة التامة تحتاج إلى التكافؤ الثقافي بينهما.

والأديب الحق يجد أنه بحاجةٍ في بعض الأوقات إلى أن يغير القيم والأوزان الاجتماعية والأخلاقية، وأن يجهر بما يجبن غيره عن الجهر به. ولكنه حين تحدثه نفسه بذلك، يجد نداء العائلة — أي الزوجة والأولاد — صارخًا في وجدانه: قف … ألا تتذكر ابنتك هذه التي ستتزوج بعد عامٍ أو عامين؟

ولهذا السبب آثر كثيرون من المفكرين والأدباء العزوبة على الزواج. بل أحيانًا وقفوا فيما يشبه منتصف الطريق، كما فعل هافلوك إلِيس، فإنه تزوَّج، ولكن، بالاتفاق مع زوجته، عاش كل منهما مستقلًّا في منزله الخاص.

وشخصية الأديب، سيكلوجيًّا، هي شخصية سيكوباتية، أي إنه والمجرم سواء، والفرق بينهما أن المجرم ينحرف إلى أسفل بينما الأديب ينحرف إلى أعلى. كلاهما متقلقل متأفف نازع إلى الشذوذ عن أوزان المجتمع وقيمه السائدة. وكما أن العائلة من العوامل الكبرى التي تحول دون الإجرام، كذلك هي أيضًا من العوامل الكبرى التي تحول دون الأديب العظيم أو تعوق رسالته. أو بكلمةٍ أخرى، تعمل العائلة للاعتدال، وتحول دون الشطط، الإجرامي والعبقري معًا.

وكل ارتباط، في معنًى ما، تقيُّد. فإن الارتباط بهدف اجتماعي أو اتجاه فلسفي، يقيد الأديب ويحد من حريته. ومن هنا دعوة ألدوس هكسلي وأندريه جيد إلى الانفصال عن الأحزاب والمذاهب، ليستقل في فنه وتفكيره، والحق أن لهذا القول وجهًا بل وجوهًا من الصواب، وخاصةً في عصرنا الحديث حيث نرى الأحزاب تستخدم الأديب في تأدية أغراضها. ولكن عصرنا هذا يتسم أيضًا بصراعٍ روحي بين الحق والباطل، والأديب الذي تنفذ بصيرته إلى صميم هذا الصراع لن يستطيع إلا أن يقف إلى جانب الحق. وإذَن ليس هناك مجال في عصرنا لهذا الاستقلال المزعوم. فللأديب المخلص مبدأ، كما أن له عائلة، وهو يرضى بشيءٍ من القيود يرتبط بها فنه كي يبقى متصلًا بالمجتمع يدرس — عن اختبار — مشكلاته، ويجعلها أساس الفن ومحور الأدب.

(طرقات على الباب … يدخل الساعي.)

سلامة : نعم.
– شاب صغير يطلب مقابلة سيادتك.
سلامة : دعه يتفضل.

(يُفتَح الباب … خطوات تبتعد وأخرى تقترب.)

سلامة : أهلًا وسهلًا.
الشاب : متشكر يا أفندم … جئت لأسدد الاشتراك.
سلامة : تفضل على هذا المقعد.
الشاب (بعد أن اطمأن) : ومعي عدة أسئلة من مَجلة الكلية موجهة إلى سيادتك.
سلامة : اسم حضرتك.
الشاب : نجيب محفوظ، بكلية الآداب قسم الفلسفة.
سلامة : واسم مجلتكم؟
الشاب (بحماس) : التطور (بارتباك) … إنها مَجلة حائط وليست مَجلة مطبوعة.
سلامة (مبتهجًا) : شيء عظيم … أشكرك … وما أسئلتك؟
نجيب (بلهجة المعلم) : تعلم أننا نستطيع أن نحيا على البروتينات فقط مثل زلال البيض واللحم والجبن؛ لأن أجسامنا تستخلص منها السكر والنشا، وهناك آلاف من الحيوان تعيش على البروتينات فقط، ومن هنا نفهم أن البروتين هو المادة الحية الأولى. والمادة البروتينية تحمل على الدوام شحنة كهربائية تجعلها على تفاعل مع الأجسام المكهربة المحيطة بها، فهي تتذبذب بها كما يتذبذب الحديد بالقوة المغناطيسية، وهذا التذبذب هو في النهاية أقرب الأشياء إلى الإحساس والتحرك، والإحساس والتحرك هما خاصة الأحياء، ولذلك يمكن الظن بأن أول الأحياء على الأرض هو مجموعة من الجزيئات البروتينية الكهربائية التي اغتُمِزت بالحياة. ولم يكن هذا الاغتماز سوى حركة أو ذبذبة كهربائية.
نجيب : قرأت لسيادتكم أننا اهتدينا إلى نظرية التطور بواسطة المتحجرات التي تعرفنا بواسطتها على تطور الكائنات الحية منذ آلاف السنين، ولكنا نريد أن نعرف كيف يتحجر الكائن الحي؟
سلامة : الأمر بوضوح أن حيوانًا ما قد تزل قدمه فيقع في حفرة ثم ينهار عليه التراب ويدفنه، أو قد تنخسف الأرض التي تحمله في باطنها فيموت تحت ما يتجمع حوله من التراب، أو قد يتورط في مستنقع يعجز عن الخروج منه ويموت مدفونًا في طينه. وهذه الأحوال نادرة الوقوع، ولذلك فالمتحجرات من النوادر، ونحن لذلك لا نجد كل أنواع النبات والحيوان القديمة، وإنما نجد نوعًا ما يبصِّرنا بما جاء قبله وما جاء بعده.
والحيوان أو النبات المتحجر لا يُوجَد بلحمه وشحمه كما كان في حياته، وإنما يُوجَد حجرًا قد اتخذ هيئته في حياته قبل موته. وسبب تحوُّله من المادة الحية إلى المادة الحجرية أنه عندما يُدفَن تحت التراب وتنزل فوقه الأمطار تتسرب المياه إليه فتفسد مادته وتتعفن شأن كل حي، فإذا تعفنت تحوَّلت إلى غازات وتطايرت فيبقى مكانها خاليًا بالهيئة التي مات عليها الحيوان أو النبات. والمطر إذا تسرب إلى هذا المكان الخالي حمل معه الأملاح التي تذوب فيه وهو يمر بالأتربة التي فوق الحيوان أو النبات المدفون، فهذه الأملاح تتراكم سنة بعد سنة، ومادة الحيوان تفسد وتحلل وتذهب سنة بعد سنة، حتى يجيء وقت يصير فيه الحيوان أو النبات قطعة من الأملاح أو الحجر.
نجيب : أشكرك … ألا يمكن أن تتطور الكائنات دون أن تموت؟
سلامة : ربما يكون موت الأبوين ضرورة يقتضيها بقاء النوع؛ لأنه ليس من مصلحة النسل الجديد أن يزاحمه على الغذاء الجيل السابق؛ لأنه يقتله عندئذٍ ويحرمه غذاءه، في حين أن ظهور النسل الجديد وبقاءه أنفع للنوع من بقاء الجيل السابق، وأقبل للتطور منه، فمن مصلحته ألَّا يجد ما يزاحمه على البقاء، وهو بعدُ في الطفولة. وهذا هو معنى الموت وفائدته الكبرى لجميع الأحياء العليا. فالموت عامل من عوامل الحياة. والأحياء الدنيا لا تعرف الموت للآن. فالأميبا والنقاعيات كلها خالدة، ولكنَّا نحن نموت لأننا أرقى منها.
نجيب : ما هي دلالة داروين لعصرنا؟
سلامة : شيئان هامان يهدف إلى توضيحهما داروين؛ أولًا: معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصلٍ واحد أو أصولٍ قليلة، وثانيًا: منهج للدراسة هو: الاستقرار لا يُعرَف في الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات، بل والجماد، في تغيُّر مستمر. وقد فرضت هذه النظرية نفسها على كافة ميادين الحياة، إذ لم يقف داروين عند حد اكتشاف النظرية، فقد سبقه إلى ذلك — بصفةٍ غير دقيقة — اثنان هما: جَدُّه ومستر وولاس، ولكن داروين انتهى إلى تعليل التطور بتنازع البقاء الموجود في الطبيعة، فالقوي هو الذي يبقى، أما الضعيف فعوامل ضعفه مكلفة بإفنائه. ومن هنا تتطوَّر الحياة إلى الأفضل؛ أي إلى الأقوى. والقوى هنا ليست بدنية فقط؛ لأنها قد تكون ذكاء الكائن الحي أو شكله أو لونه أو طبيعته المعيشية … وهكذا.
وعظمة داروين هنا هي: النظرية نفسها التي اكتشف بها العقل الإنساني مفتاح العالم. فالنقلة التاريخية التي حمل عبئها داروين من التسليم الغيبي للموجودات، إلى الحقيقة العلمية لهذه الموجودات، وهي أنها في تطور مستمر غير مستقر … قد حفرت في أذهاننا شهوة البحث والاستفسار والقلق والكشف، وعدم الرضا والاطمئنان إلى عقائد الأولين.
نجيب : أرجو ألا تكون أسئلتي كثيرة … لاحظنا يا أستاذي أن اهتمامك بالعلوم يعادل اهتمامك بالآداب … أليس كذلك؟
سلامة : الأدب وسيلة حيوية من وسائل التحرير الكبرى، ولكن العلم هو أساس الحياة الحديثة. ينبغي أن ندرس العلوم، وأن نتشبَّع بالعقلية العلمية، فالجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين، ولو كان عبقريًّا … وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه، فلم يعد العلم وقفًا على العلماء. أجل، لهؤلاء التضلع والتعمق … ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره، وأن يعتنق نتائجه ويتحلَّى بأسلوبه.
نجيب (مؤمِّنًا على قول أستاذه) : نعم … ولذلك كانت رسالة المَجلة هي تطوير المجتمع على أساس علمي.
سلامة : أجل، ادرس الآداب كما تشاء، ولكن لا يجب أن تخلو مكتبتك، إلى جانب شوبنهور وشكسبير، من داروين وفرويد وبيكون.
نجيب : ولكن … هل يمكن لمجتمعٍ مثقف أن يخلق حضارة مادية راقية؟
سلامة : لو تخيلنا المجتمع هرمًا، قاعدته الشئون المادية في الاقتصاد والاجتماع، فإن سمته الروحية هي الثقافة؛ لأن الفكر انعكاس طبيعي للوضع الاجتماعي، ولكنه ليس انعكاسًا منعزلًا عن قاعدته المادية، وإنما هناك تفاعل تأثيري متبادل.
نجيب : من هو الرجل المثقف؟
سلامة : غاية الثقافة أن نزيد الحياة وجدانًا، بأن نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا الشخصية؛ لأن الحياة تنادينا إلى اليقظة والفهم والجد كلما استولى علينا النعاس والركود. والأدب هو إحدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان، وعندي أن الرجل المثقف هو الذي يرتفع وجدانه الشخصي إلى الوجدان العالمي. ولا يكون هذا إلا بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية.
نجيب : سؤال آخر … ما هو المشروع الذي تمنيت أن تقوم به وأخفقت فيه؟
سلامة : منذ شهور وجدت — مع بعض الزملاء — أن الفرصة سانحة لإيجاد حركة علمية شعبية في مصر، فعقدنا العزم على تأليف «المجمع المصري للثقافة العلمية»، وكانت الغاية منه أن يضم جميع المهتمين بالثقافة العلمية ونشرها بين الجمهور، ونجحنا في المشروع نجاحًا لم نكن ننتظره، مما دل على أن المجمع أدى حاجة أساسية في مجتمعنا. ولكني في ذلك الوقت كنت أكافح دكتاتورية الطاغية إسماعيل صدقي حين اتفق مع الاستعمار والإقطاع على إعادة الحكم التركي الشركسي الذي حاول عرابي أن يحطمه. وأدى نشاطي هذا في السياسة إلى طردي من المجمع.
نجيب : سؤال أخير، وأرجو ألا أكون قد ضايقتك.
سلامة : الإنسان الجاد هو الذي يناقش … إنني سعيد بشباب هذا الجيل.
نجيب : قرأت أنك قضيت فترة من حياتك في الريف … فأيهما أفضل — حسب تجرِبتك — هل ينتج الأديب في المدينة أم في القرية؟
سلامة : غيري يَعُدُّ الريف منفى، ولكني أعتقد أن أخصب سني حياتي هي تلك التي قضيتها في الريف، فقد أتاح لي الدراسة الجدية، كما أتاح لي الاستمتاع بالطبيعة، ولم يمر عليَّ يوم دون أن أستيقظ في الرابعة أو الخامسة صباحًا، وأسير في الحقول وهي مبللة بالندى في هدوء الطبيعة الرخيم أنتظر بزوغ الشمس فأحييها وأتأملها كأني في صلاة.
وهناك آلاف الناس لم يعرفوا قط هذه الصلاة، ولم يحسوا هذا الإحساس الديني في الاتصال بالطبيعة في خلوة الحقول التي تنمو كل نهار بحياةٍ جديدة. ومن يمشِ بين الحقول في هذه الساعات الأولى من النهار تغمرْه نشوة حقيقية، حتى ليحس بأنه ثَمِل دون تخدير للوجدان. المدينة ترسم الخطوط العامة، والريف يوضح التفاصيل؛ أنواعا عديدة من النبات، وأصنافا متباينة من الحيوان، ولكن المتأمل يجد ترابطًا كليًّا بينها جميعًا. وقد كان داروين يقول — على سبيل الفكاهة — إنه يستطيع أن يقدِّر عدد العوانس في أية قرية بإنجلترا، بملاحظة حقول البِرسيم المحيطة، فإذا كان البِرسيم مزدهرًا ناجحًا فإنه يدل على أن العوانس كثيرات في القرية؛ ذلك لأنهن يتسلين بتربية القطط، والقطط تأكل الفيران، والفيران تقضي على النحل، والنحل هو الذي ينقل إلى البِرسيم لقاحه من زهرةٍ إلى أخرى … فإذا قلَّت العوانس، قلَّت القطط، وزادت الفيران، وقلَّ النحل، ثم قلَّ ازدهار البِرسيم.
نجيب : شكرًا.

(فاصل موسيقي طويل نسبيًّا.)

الفصل الثالث

(جمعية نسائية … ضجة بين العضوات.)

عضوة : إنه مقال يجب أن نطبعه في منشورات تُوزَّع على الرجال في الطريق العام.
أخرى : ويُعلَّق في نوادي الجمعيات النسائية كلها.
أخرى : إن الكاتب ضدكن جميعًا … لأنه لا يؤمن بجمعيات للرجال.
أخرى : إن الكاتب ضدكما جميعًا … لأنه لا يؤمن بجمعيات للرجال وأخرى للنساء … إنه يؤمن باختلاط الجنسين … والجمعيات النسوية التي تعمل على تحرير المرأة — مثلنا — تنسى هذا التناقض الأساسي … وهو أننا نعمل — من حيث لا ندري — على تعميق الهوة بيننا وبين الرجال … أي إننا نطلب المساواة بشفاهنا، ونلغيها بأعمالنا.

(خطوات قادمة … عضوات جدد.)

عضوة : عَلامَ هذه الضجة … والمناقشات؟
أخرى : إنه مقال لسلامة موسى.
العضوة : ماذا يقول؟
الأخرى : اسمعي يا ستي (صوت سلامة يبدأ هادئًا بطيئًا).
كانت الشعائر الدينية في إنجلترا تقتضي أن يقول القسيس للزوجة: «يجب أن تطيعي زوجك.» ولكن هذه الجملة حذفت؛ لأن كثيرًا من العرائس كن يُجِبن على هذا الأمر بقولهن: «لا» فيثرن الضحك بين المدعوين. وتغيَّرت العلاقة بين الزوجين الإنجليزيين، فلم يعد الزوج رئيسًا لزوجته يطلب طاعتها، وإنما هو زميل يتساوى بها ويتعاون معها، إنسان مع إنسانة، رجل مع امرأة، كلاهما على مستوًى واحد، ليس أحدهما رئيسًا والآخر مرءوسًا. وإنما هما زميلان.

ومعنى الرياسة الذي لا يزال موجودًا في بلادنا، والذي يستمتع به الزوج، يجب أن يُلغَى. إذ يجب أن تكون العائلة ديمقراطية يتساوى فيها الزوج بزوجته، فلا رئيس ولا مرءوس، هو يأمر وهي تطيع.

نحن نحاول أن نجعل مجتمعنا اجتماعيًّا يتألف من الرجال والنساء، وليس من الرجال فقط، ولا يمكن ذلك إلا إذا كافحنا فكرة السيادة للرجل على المرأة ومحوناها، وأقمنا مقامها فكرة المساواة والزمالة. ونحن مضطرون إلى ذلك ولسنا مختارين؛ ذلك أن الإنتاج العام في البلاد العربية يحتاج إلى أيدي النساء وعقولهن، كما هو يحتاج إلى أيدي الرجال وعقولهم. وفي جميع الأقطار المتمدنة تُنتج المرأة وتَزيد الثراء والغذاء والكساء والبناء. ونحن في تنازع بقاء مع الأمم المتمدنة، فيجب أن نُنتج مثلها. وإذا عطلنا المرأة عن العمل فإن إنتاجنا يقل؛ إنتاج السلم والحرب، وعندئذٍ ننهزم في «تنازع البقاء».

إن انقراض الأمم المتخلفة ليس خرافة من خرافات التاريخ بل هو حقيقة، وسبيل البقاء وضمان المستقبل هو التطور والرضا بالتغير، كي تَزيد القوةُ بجميع مظاهرها؛ من ثراء إلى عتاد إلى صحة إلى علم إلى أخلاق.

وزمالة المرأة للرجل قوة كبيرة، إذ هي تتربى بهذه الزمالة، وتعرف هذه الدنيا الواسعة التي كانت إلى وقتٍ قريب محرمة عليها. أي تعرف الإنتاج والكسب، وتتخذ أخلاق الرجال في الجد والعمل والدرس والطموح. بل إن الرجل يتربى أيضًا بهذه الزمالة، فلا يؤمن بأنه رئيس وزوجته مرءوسة؛ لأنه حين يتعود الزمالة في المدرسة ثم في المصنع أو المكتب، ينقل هذا الإحساس إلى البيت، فيتعوَّد الزمالة مع الزوجة، فلا يعتقد أن له أن يأمر وعليها أن تطيع. الزمالة في المدرسة والجامعة من أوجب واجباتنا. فليست المدرسة أو الجامعة مكانًا للتعليم فقط، وإنما هما مكان للتربية أيضًا، والتلميذ والطالب يتعلمان من المدرس والأستاذ، ولكنهما لا يتربيان بالدرس أو المحاضرة، وإنما هما يحصلان على التربية من الزمالة بين الجنسين؛ ذلك أن الزمالة هي الاجتماع والحديث والعمل المشترك والمناقشة المنيرة. وكل هذا تربية للأخلاق وتنمية للشخصية.

وعندما نتزوج على أساس الزمالة والمساواة يقوم الحب من الزوجة مقام الاحترام لزوجها. والحب أبَرُّ وآمَنُ وأدعَمُ للعائلة من الاحترام. الزوجة التي تحب زوجها خير من الزوجة التي تحترمه، بل إننا لا نعرف كيف نحترم أحدًا إذا لم نكن نحبه، ولن يسود الحب بيتًا إلا إذا كانت الزمالة تأخذ مكان الرئاسة، وليس في الدنيا إنسان يستحق أن يرأس زوجته، وإنما هناك قوانين وقواعد اجتماعية يجب أن تكون لها الرئاسة، وأن يخضع لها الجميع رجالًا كانوا أو نساء.

إن كل رجل نشأ في مجتمع انفصالي يعد ناقصًا في تربيته، جاهلًا للجنس الآخر. بل هو قد يقع فريسة للشذوذ الجنسي، وكذلك كل امرأة نشأت في مجتمع نسوي فقط. ولا عبرة بأن يقال إن مكان المرأة هو البيت، لقد كان الشأن هكذا قبل مائة سنة حين كانت أعمال البيت وواجباته تقتضي من المرأة أن ترصد حياتها كلها على خدمة البيت والزوج والأولاد، ولكن هذا البيت القديم كان بيتًا غير متمدن، أما البيت العصري فلا يحتاج أكثر من ساعة أو نصف ساعة من الخدمة في اليوم كله، ومن الإجحاف أن نقول للزوجة: الْزَمي البيت وابقَيْ معطلة طيلة النهار، وحسبك أن تعملي ساعة في اليوم كله.

إن المرأة الفقيرة في الأحياء الشعبية، والمرأة الريفية في القرى، كلتاهما قد سبقتا نساء الطبقات المتوسطة والكبيرة إلى الكفاح. فالأولى تقف مع الرجل جنبًا إلى جنب في المصنع والمشغل والمستشفى. والأخرى لا تغادره في الحقل والزراعة.

هلموا إذَن نحو التمدن، والتمدن هو حق المرأة العربية في الحرية، وواجبها في الإنتاج، وإحساس الإنتاج هو إحساس الصحة النفسية، وهو إحساس الخير الاجتماعي، وهو إحساس الصلاح في المعنى العصري. فيجب أن نجعل قلب المرأة وضميرها يحفِلان ويشبعان من هذه الإحساسات البارة النبيلة.
العضوات (تنهدات) : يا سلام … يا لها من كلماتٍ بارة نبيلة.
إحداهن : إنني أريد أن أجري تحقيقًا صحفيًّا مع هذا الرجل.
أخرى : يجب فعلًا، ويا ليتك ترينه غدًا في كلية الآداب، إنه مدعوٌّ للإجابة على أسئلة الطلبة فقط … هكذا قال ابني.
الأولى : كلا يا عزيزتي … إنهم سيسألونه في مشكلات الأدب والفلسفة … وأنا أريده في حديث خاص عن المرأة.
الأخرى : وكأن الأدب والفلسفة لا يعنيان المرأة … هذه هي الانفصالية.

(ضحكات العضوات وضجيج ينتهي بفاصل موسيقي.)

(ضجيج جديد لأصوات شبان. صمت. سلامة يتكلم.)

سلامة : إنني سعيد بلقياكم في هذا المكان، وأرحب بكل سؤال.

(خطوات طالب يتقدم إلى المنصة.)

الطالب : هل يسمح لي الأستاذ أن أتساءل عن العلاقة التي تربط بين الأديب والمشكلات الاجتماعية كحرية المرأة مثلًا.
سلامة : التجديد في الأدب لا يعني شيئًا آخر سوى التجديد في الحياة، والأديب يجب أن يطربنا، ولكنه يجب أن يغيرنا أيضًا، وحرية المرأة — وكافة مشكلاتنا الاجتماعية — هي من سمات تطوُّرنا وتغيُّرنا … ولا يستطيع الأديب الصادق أن يتجاهلها.
الطالب : قرأت لأحد النقاد أن دعوتكم إلى مقاطعة الأدب العربي القديم لا تستند على أساس علمي.
سلامة (يضحك مقاطعًا) : أرجو ألا يلتبس موقفي عند أحد، كما حدث للسيد الناقد؛ فإني لا أعادي القدماء، والثقافة القديمة هي تراث بشري عظيم لا يهمله إلا مغفل. ولكن يجب أن نميز بين قديم وقديم؛ ذلك أن هناك قدماء يفصل بيننا وبينهم آلاف السنين في عرف الزمن، ولكنهم — مع ذلك — قدماء معاصرون؛ أي يشتغلون بهمومنا البشرية أو الاجتماعية العصرية. وهل أنسى فضل هذا العظيم أخناتون، وبيني وبينه أكثر من ثلاثة آلاف سنة، حين دعا إلى السِّلْم الذي ما زلنا ننشده للآن؟ وأية دعوة أهم إلى القلب وأسمى في الشرف من دعوة في عالمنا الحاضر الذي يقف — كطفل — على شفا بركان؟
وهل أنسى هذا الإمام العظيم ابن حزم حين يدعو إلى الحب ويجعله أساسًا للسعادة، ويحض الناس على أن يحبوا، وأن ينشدوا العفة والشرف مع من يحبون. وبيني وبين ابن حزم نحو ألف سنة؟ وهل أنسى هذا العظيم الآخر ابن رشد، حين يعزو تخلف الشعوب إلى أن المرأة قد ضُرِبَ عليها في البيت، فلا تخرج ولا تختلط بالمجتمع ولا تشتغل بشئون الرجال ولا ترتزق بكدها ولا تملأ وظائف الدولة؟ وبيني وبين ابن رشد ألف سنة أيضًا.

هؤلاء وعشرات بل مئات غيرهم هم القدماء المعاصرون الذين يعيشون في عصرنا ويتحدثون إلينا حديث الضمير والعقل والشرف، ويحاولون تنبيهنا إلى القيم الإنسانية التي نسيناها أو كدنا. ليست العبرة في الأدب والفن إذَن بالقديم أو الجديد، وإنما العبرة بقيمة هذا الفنان أو الأديب، قيمته الإنسانية أو الاجتماعية التي يحنُّ بها إلينا ونحنُّ إليه بها فنتبادل وإياه الفكرة في حنان وانشغال إنسانيين. وكذلك ليست العبرة في الأدب أن يكون سهلًا أو صعبًا؛ لأن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق. والوضوح في الأدب هو المنطق، والكاتب الواضح هو الكاتب الفاهم. وعندما يفهم الكاتب يفهم القارئ.
الطالب : شكرًا (خطوات العودة إلى مكانه).
سلامة : أي سؤالٍ آخر؟

(خطوات تقترب إلى المنصة.)

طالبة : اشتهرت كتابات الأستاذ بالأسلوب العلمي، فما هو المفهوم العلمي للأدب والنقد؟
سلامة : إنني أفهم الأدب على أنه معالجة الإنسان في جملته أي في كليته، فالهندسة فن يعالج البناء، والكيمياء فن يعالج المواد، والطب فن يعالج الأمراض، ولكن الأدب فن يعالج الإنسان جملةً لا تفصيلًا؛ فهو يزن الموقف الفلسفي والموقف الجنسي والموقف الاجتماعي وسائر المواقف البشرية للفرد، بحيث أنتهي من هذه المعالجة إلى أن أعرف قيمة هذا الفرد في المجتمع وفي الدنيا وفي الكون، وأنتهي إلى أن أقارن موقفي أنا القارئ بموقف هذا الفرد سواء كان هو موضوع قصة أو قصيدة أو مقال أو سيرة إنسان.
والنقد السليم للأدب هو النقد العلمي، أي إن الناقد يسأل: ما هي الظروف الموضوعية لهذا الأدب، وما قيمة هذا العمل الأدبي في المجتمع؟ هل هو يدعو إلى الحياة والصحة والخير، أم يحض على الانتحار والمرض والشر؟

والأدب الرفيع إذَن هو التنقيب عن معنى الحياة ودلالاتها، وهو البحث عن طبيعة الكون، وهو إقناع الإنسان بأن يكون إنسانيًّا، وهو ابتكار القيم الجديدة لتأخذ مكان القيم القديمة وتزيد الدنيا والبشر جمالًا وسعادة.
الطالبة : هل تؤمن بالخلود في الأدب؟
سلامة : ليس الأدب شيئًا خالدًا، إذ هو يتغيَّر بتطور الظروف وحاجات الشعوب وسيكولوجية الأفراد، ولكن يخلد فيه مع كل ذلك شيء واحد هو نزعته الإنسانية، فقد تدعو الظروف أديبًا إلى أن يحارب ملكًا سافلًا وعقيدة فاسدة أو طبقة طاغية أو استعمارًا أو استبدادًا، فهو يركز الأضواء على موضوع معين كي يبرزه ويحرك العقول والقلوب بشأنه، وقد يزول السبب الذي كتب وألَّف من أجله، فتزول قيمة ما كتب وألَّف لأن الغاية قد تحققت. ولكن تبقى بعد كل هذا النزعة الإنسانية في الأديب، لأن حرفة الفنان وعنوانه وهدفه وموضوعه أنه إنساني. وسبق أن قال الأديب الأمريكي هويتمان كلمة يصح أن تُعَلَّقَ على صدر كل فنان؛ قال هذا الإنسان العظيم: من أهان إنسانًا فقد أهانني.
الطالبة : ما هو الأدب الإنساني إذَن؟
سلامة : هو الأدب الشعبي؛ بمعنى أننا لا نؤلِّف القصائد والقصص كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء والتصدُّق عليهم، وإنما هو أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية، ولكن من موقف الشعب نفسه؛ أي من الموقف الإنساني، وليس من موقف الأثرياء، فلا نطلب التصدُّق، وإنما نكافح للعدل والمساواة.
الأدب الإنساني إذَن هو أن نحس إحساس الشعب ونكافح كفاحه ونتكلم بلغته ونصرخ صراخه، ولا نلقي عليه كلمات الرحمة كما نلقي للجائع لُقَيمات الصدقة.
الطالبة : شكرًا (خطواتها تبتعد عن المنصة إلى مكانها).
سلامة : سؤال جديد؟

(خطوات جديدة تقترب من المنصة.)

طالب : أخذ عليك بعض النقاد أنك تقرن حياة الفنان بأدبه، رغم أننا يجب أن نعتمد في نقدنا على النص الأدبي فقط، أما حياة الأديب، فما لنا ولها، إذا كانت لن تصيب قرَّاءه بضرر؟
سلامة : أشكرك على هذا السؤال الحيوي … وأجيبك — ومعك النقاد — فأقول: إن الأديب ليس مخلوقًا هلاميًّا لا يتأثر بما يحيط به خلال عملية الخلق الفني، ذلك أن الفنان هو قطعة من الإنسانية، بما يتجمع فيها من تراث تاريخي واجتماعي وبيولوجي؛ أي إن الأديب — كإنسان يعيش بيننا — هو جماع تاريخي واجتماعي وبشري لفترة زمنية معينة، وهو حين يكتب لا يتجرَّد من هذه الخصائص المكونة لإنسانيته ووجوده؛ لأن تجرُّده منها بمثابة تجرده عن تكوينه العضوي والسيكولوجي والذهني … هذا التكوين الذي يتعاون في تناسق أثناء عملية الخلق الفني، ومن هنا يبدو واضحًا أننا لا نستطيع أن نعزل الأديب عن حياته؛ لأن مؤلفات الأديب في واقع الأمر هي حياته، وما يأخذ به من قيم وأوزان في مجتمعه ودنياه وعيشه ينتقل إلى ما يؤلف في الأدب. وقد سبق لي أن قلت، لهذا السبب: إن أعظم مؤلفات طه حسين هو حياته، إذ ليس هناك كتاب ألَّفه هذا الأديب العظيم يبلغ في القيمة الإنسانية ما تبلغه حياته.
الطالب : شكرًا (خطواته تبتعد).
سلامة : سؤال آخر؟

(خطوات جديدة إلى المنصة.)

طالبة : يقول المستشرق الإنجليزي مستر جيب في دراسته النقدية للأدب العربي في مصر، إن البراعة الروحية في أسلوبك هي تجديدك في اللغة … فماذا يقصد بهذا التعبير؟
سلامة : الواقع أنه ليس للحياة سوى الحياة، وكل ما عدا الحياة هو وسائل للحياة، فاللغة والأدب والفن والبلاغة إنما هي جميعها في خدمة الحياة التي لها الاحترام الأول والمكانة المفضلة. فنحن نتعلم الفنون ونمارس البلاغة ونُعنَى بالثقافة كي نصل في النهاية إلى مستوًى عالٍ من الحياة، ولذلك لا نحتاج إلى أن نكرر القول بأن بلاغة الحياة أهم وأخطر من بلاغة اللغة، وأن أسلوب الحياة أجدى بالأولوية والتفضيل في التعليم من أسلوب الكتابة، وأن فن الحياة هو أشرف وأجدى الفنون على هذا الكوكب.
وإذا جعلنا الحياة الشريفة السعيدة هدفًا نوجِّه إليه فنوننا وعلومنا وعقائدنا، فإننا نستطيع أن ننزع عن هذه جميعها تلك القداسة التي تحول بيننا وبين تنقيحها أو تغييرها. ويعود عندئذٍ «فن البلاغة» فنًّا تجريبيًّا مثل جميع الفنون، ويتغير كما تغيرت، فليس من شك أن التغيير أو التنقيح قد عم فنونا كثيرة في عصرنا مثل الرسم أو النحت أو البناء. وقد رحب مستر جيب بمحاولتي تطبيق هذا التطور على اللغة العربية في حدود هذا المعنى.
الطالبة : ما هي اللغة المثلى في نظرك؟
سلامة : هي التي لا تلتبس كلماتها، ولا تنساح معانيها، ولا تتشابه عن بُعد أو قرب، بل هي التي تؤدي المعاني في فروقٍ واضحة. ثم هي اللغة الثرية الخِصبة التي يحتاج إليها المتمدنون. بل هي التي تتسع أيضًا لاختراع الكلمات الجديدة التي تتطلَّبها الحاجات النامية المتزايدة لهؤلاء المتمدنين. وكي نفكر التفكير الحسن نحتاج إلى اللغة الحسنة؛ أعني اللغة الدقيقة التي تؤدي معنًى معينًا ولا تتجاوزه إلى هوامش المعنى. وكذلك يجب أن تكون اللغة أنيقة فلا تصف الألوان الأصلية كالأبيض والأسود، بل تستطيع أن تنقل إلينا الظلال التي بينهما، فليس من البلاغة أن نطلق الأخضر على الأسود؛ كما تقول معاجمنا، بل يجب أن نميِّز لونًا من آخر تمييزًا صارمًا. ويجب أن تكون لنا بلاغة لا تقتصر على مخاطبة العواطف بل تخاطب العقول، وأن تكون غايتها الأولى هي الفهم. وهكذا يصبح المنطق هو الأساس الأول لأية بلاغة يراد بها التعبير السديد.
الطالبة : ماذا يعوق تطور اللغة في رأيك؟
سلامة : تتفاعل اللغة مع المجتمع، فتنحط بانحطاطه وترتقي بارتقائه، أي إنها تتطور. وهي حين تتطور ينشأ بينها وبين المجتمع اتصال فسيولوجي ووظائف عضوية كما بين اليد والذهن، كلاهما يخدم الآخر وينتفع به. والتطور هو أن نخلِّص اللغة من الكلمات الأثرية التي لم تعد ملائمة لمجتمعنا الجديد، فاللغة بمثابة المصنع الذي يعيش في عصرنا، ومع ذلك يجمع في مستودعاته فأسًا من الحجر كانت تُستعمَل قبل ثمانية آلاف سنة، وإبرة من الشوك كان أسلافنا يستعملونها قبل مائة ألف سنة، وسيفًا من البرونز كان يُستعمَل قبل أربعة آلاف سنة، ومع هذه في وقت واحد نجد مصنوعات أخرى مثل الراديو والمصباح الكهربائي والسلفانيلاميد. ومن هنا هذا الارتباك الذهني الذي يؤدي إلى قلة الفهم أو اختلاطه. ذلك لأننا نستعمل أدوات قديمة كي تؤدي لنا خدمات جديدة.
الطالبة : أشكرك (خطواتها تبتعد).

(خطوات نحو المنصة.)

طالب : هل يمكن للكلمة أن تؤثر في سلوك الإنسان؟
سلامة : لا شك في ذلك، فلو تخيَّلنا سيدة أنيقة في صحة جيدة، قد اقتربت من الثامنة والأربعين أو التاسعة والأربعين، ثم أحست توعكًا أو توترًا، فلما استشارت الطبيب قال لها إن حالتها تعد طبيعية في سنها … سن اليأس.
يأس؟ من منا يسمع هذه الكلمة ولا يضطرب؟ الواقع أن جميع نسائنا يضطربن لهذه الكلمة. ولو أننا استبدلنا بكلمتَي سن اليأس سِنَّ الحكمة أو سِنَّ النضج لكان لهذا المعنى الإنساني توجيهٌ آخر نحو الأمل والنشاط، ولكان منه سبب لسعادة نسائنا بدلًا من شقائهن.
الطالب : شكرًا.

(فاصل موسيقي يعلن انتهاء الندوة.)

(النهاية الموسيقية تدخل بنا إلى جو منزلي.)

صوت شاب : حقًّا إنه رجل عظيم.
صوت فتاة : من هو يا أخي؟
الشاب : سلامة موسى يا أختي … إنني أقرأ مذكراته منذ الصباح، وأكاد لا أريدها تنتهي … تصوري أنه وزَّع الشربات في بيته يوم طُرِدَ فاروق فجر ٢٣ يوليو يعلن قيام الثورة.
الفتاة : وماذا يقول عن الثورة؟
الشاب : إنه يفلسفها … اسمعي (يبدأ صوت سلامة).
«حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٧م أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها. فالنصف الأول إلى ١٩٥٢م كان انحدارًا يكاد يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت أن تحيل بلادنا إلى جهنم، كما فسد الجهاز الحكومي وطغى العرش، واستخفت الأحزاب بالقيم واستهترت، وأصبح الزعماء والساسة متسلقين يرغبون الوصول إلى القمم دون احتفال بالوسائل، ولذا كانت في الأغلب قمم الثراء والسلطات على هرم من أشلاء الشعب.

أما النصف الثاني، أي من بداية الثورة حتى الآن، فيمثل نهضة الشعب وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له نهاية. وأنا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل، فقد أُمِّمَت قناة السويس في ١٩٥٦م، وأحس الشعب أنه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط، بل استرد كرامته. وتاريخ هذه القناة لا يقرؤه مصري إلا مع الألم والغيظ، فإنه أكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر. وأذكر أني منذ أكثر من عشر سنوات دعوت إلى تأميم هذه القناة، وقلت في تدليلي وتبريري: إن هذه القناة تقع في أرض مصرية، وإن تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم الترام في القاهرة. وبعدها قرأت لأحد الصحفيين أنه سأل رئيس الوزراء آنذاك عن إشاعة التأميم، فأجاب رئيس الحكومة المصرية بأنه ليس عند حكومته أية نية للتأميم، وأنها تنتظر انتهاء الامتياز حين تستولي عليها عام ١٩٦٩م. ولذلك أكرر أني كبير التفاؤل بالمستقبل، وخاصة بعد هذه الاتفاقات التي نعقدها مع الدول لتصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي سيحل كثيرًا من أزماتنا، بل إن هذه الأزمات ستحل نفسها عندئذٍ بلا عمل إرادي من جانب الحكومة؛ فإن التعطل سيزول، ويأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاهات التقليدية، فالثقافة العلمية ستكون النتيجة للحضارة الصناعية، ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة، ويستمر التفاعل بينهما. وهكذا أسعد كثيرًا لأن دعوتي للصناعة قد نجحت، وهي دعوة أمضيت فيها أكثر من ثلاثين سنة، وها أنا ذا في ١٩٥٧م أجد الجمهورية النظام الإنساني الديمقراطي لكل شعب حر.

وقد رفعت الثورة شبابنا من اهتماماتهم الشخصية الصغيرة إلى مستوى التاريخ. فصاروا يهتمون بإصلاح الوطن واستقلاله، وزيادة أرضنا المزروعة، وإنشاء المصانع، وتقوية الجيش، ورفاهية الفلاحين والعمال، واستقلال المرأة واستكمال حقوقها البشرية. وأصبح شبابنا يعملون ويجِدُّون، لأن الثورة قد ألهمتهم شرفًا جديدًا، ولأنهم لم يعودوا يجدون الطرُز الخسيسة من الرجال أمثال فاروق أو قواديه أو جواسيسه.»

(ينتهي الصوت بموسيقى.)

صوت الفتاة (متنهدة) : يا سلام … إنه يعبِّر في صدقٍ عن أروع لحظات حياتنا.
صوت الشاب (متأثرًا) : وكفاحنا!
الفتاة : ماما تقول إن صديقتها الصحفية ستزوره … ليتها تأخذني معها.
الشاب : حقًّا … إنها فرصة العمر.

(فاصل موسيقي)

(صوت سيدة تتكلم.)

الصحفية (سألته، وهو يقلب كتاب «المرأة ليست لعبة الرجل») : هل وصلت المرأة العربية إلى ما كنت تصبو إليه؟
وأجاب سلامة موسى: لقد وصلت المرأة في بلادنا إلى أكثر مما كنت أصبو إليه منذ أربعين أو خمسين سنة. ولكن أطمع في أكثر مما وصلت إليه، أطمع في سنِّ قوانين جديدة تقرر لها استقلال الشخصية المدنية في جميع تصرفاتها، وأيضًا مساواتها بالرجل في جميع الحقوق الاقتصادية، وكذلك حقوق الزواج والطلاق. يجب ألا يتميز الرجل بشيءٍ منها.
الصحفية : ما رأيك في الضجة التي أثيرت أخيرًا حول الاختلاط في الجامعة؟
سلامة : هي ضجة أنتظرها في فترة الانتقال من أخلاقنا القديمة إلى أخلاقنا الجديدة، فإن الصدمة التي تحدثها حرية المرأة في قلب الرجل التقليدي ليست صغيرة، وهو معذور إذا تأوه أو صرخ، والذي أعرفه بمشاهداتي أن الفتاة المصرية بالمقارنة إلى زميلتها الأوروبية تعد من أكرم الفتيات وأنبلهن وأكثرهن تحفظًا في العالم، وهي تهدف إلى تحقيق السعادة في الزواج وتسعى له في شرفٍ وأمانة.
الصحفية : قلت للرجل الذي دعا إلى تعليم الجنس في المدارس: ما هي الأسس التي يمكن أن تُبْنَى عليها مادة «التربية الجنسية» إذا أمكن إدخالها ضمن مناهج الدراسة؟
فأجاب سلامة: التربية الجنسية بالمران والاختلاط في المراحل الأولى من التعليم، وتُعَلَّم في البيت من الأبوين، وتُعَلَّم بعد ذلك في المراحل العليا على أيدي أساتذة حكماء وعلماء، وتُعَلَّم بالكتب النظيفة التي يكتبها مسئولون عارفون غير مهرجين.
الصحفية : من هي أعظم امرأة في العالم؟
سلامة : ليس هناك امرأة واحدة عظيمة، هناك آلاف، بل ملايين. والمرأة العظيمة الأولى التي عرفتها هي أمي، وقد أكون مخدوعًا، وذلك لأني وجدت منها حبًّا عظيمًا، وهذا عذري. وكل امرأة تخدم أبناءها وتهيئهم لمجابهة الصعاب في هذه الدنيا وترسم لهم طرق الاستقامة والشرف هي امرأة عظيمة. ولذلك فالمرأة العظيمة الثانية التي عرفتها هي زوجتي؛ لأنها استطاعت أن تصل بأولادها إلى مرتبة عالية من التربية. وفي المجتمع الذي يجعل الوظيفة الأولى للمرأة طبخ الطعام والإسراف في تهيئته بحيث يرضي النهم الذي لا يشبع … في مثل هذا المجتمع يشق على المرأة أن تكون عظيمة. ولكن في مجتمع قادم حين نعرف كيف نشترك في المطاعم العامة، وحين نعرف أن المرأة يجب أن تعمل أعمال الرجال وتهدف أهداف العظماء، حينذاك سوف نجد العظمة في المرأة أكثر مما نجدها الآن.
الصحفية : والكتاب الذي كان على المقعد المجاور للكاتب الكبير هو «فن الحب والحياة»، ويذكر فيه سلامة موسى الانتصارات الرائعة التي حققتها المرأة في جميع أنحاء العالم. قلت للرجل الذي يكسو الشعر الأبيض رأسه في هدوء: ما هي الأهداف التي لم تحققها المرأة العربية في نظرك؟
سلامة : أعظم ما ينقص المرأة في البلاد العربية هو تحقيق شخصيتها، ولن تستطيع ذلك إلا إذا عملت وكسبت وأصبحت قادرة على أن تحدد موقفها من المجتمع والعالم بلا خوف من الجوع. وسوف يكون هذا ممكنًا عندما تعم بلادنا الحضارة الصناعية المنتظرة التي تهيئ الفرص لجميع الشباب والفتيات كي يعملوا وينتجوا.
الصحفية : من هو الرجل العظيم؟
سلامة : دعيني أسرق الإجابة من برنارد شو، إذ قال: إن الرجل العظيم الذي يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها؛ أي إن الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنها كسبت به ولم تخسر، وانفقت عليه أقل مما ترك لها. وهذا الذي تركه لها قد يكون حكمة أو قدرة أو علمًا أو اختراعًا أو زيادة في الثروة أو الخير أو السلام.
الصحفية : قال المستشرق المجري جرمانوس في نقده لك، إنك تؤثر العقل على القلب في اختيار السلوك الإنساني. فأين يقع إيمانك إذَن بين الاثنين؟
سلامة : إن جميع الأديان في نظري متساوية. فأنا أحب المسيح وأُعْجَب بمحمد وأستنير ببوذا. وأُحس أن كل هؤلاء أقربائي في الروح، أحيا معهم على تفاهم، وأستلهم منهم المروءة والحق والرحمة والشرف. وأُومن — زيادة على هؤلاء — بحب الطبيعة وجلالة الكون. ولا أنسى المعنى الديني في نظرية التطور، وموكب الأحياء التي يتوجها الإنسان. بل إني لأجد هذا المعنى الديني في جمال المرأة، وقداسة الأمومة، وشرف الإنسانية. وأومن بتولستوي وغاندي وفولتير وبيكون. إن الصورة الوحيدة التي تطل على سريري أراها عند اليقظة في الصباح، وقبل النوم في المساء، هي صورة تولستوي، الإنسان الإنساني، وبكلمة أخرى أقول: إن بؤرة إيماني هي الإنسانية بمن تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء، وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف.
الصحفية : وكدت أنسى سؤالي الأخير، لولا ابتسامة الرجل العظيم، فقلت له: ما آخر ما قرأت؟
سلامة : بروفات كتاب عن سلامة موسى.
الصحفية (ضاحكة) : كيف؟
سلامة : إنه دراسة لإنتاجي الفكري كتبها ناقد شاب.
الصحفية : وآخر ما كتبت؟
سلامة : تعليقي على هذه الدراسة.
الصحفية : ما هي أمنيتك؟
سلامة : أن أموت — مثل الجاحظ — وعلى صدري كتاب.

(موسيقى)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤