الفصل الثاني

هؤلاء قالوا له …

يرى سلامة موسى أن المؤلِّفين هم الذين يغيِّرون العالم. وتعريفه للمؤلف هو أنه الإنسان الذي لا يتحفنا بضجَّة مفتعلة من الزخارف اللغوية المبهرجة، وإنما هو الذي يصنع شيئًا من أجل تطوير حياتنا وتغييرها، هو الذي يوقظنا على معنًى جديد أو ينبِّه وعينا على فكرة جديدة. ولا ريب أن جولة سلامة في أوروبا أكسبته هذا التعريف، فقد سافر إليها في وقتٍ كان الشرق فيه ينعم برقدة عميقة، أما أوروبا فكانت تغلي بثورات متوالية في العلم والصناعة والتاريخ. وربما كانت نظرية التطور وأصل الإنسان هي البَذرة الأولى التي التقطتها روح الشاب المصري، وأنبتت فيما بعدُ فلسفة حياته القائلة بأن التطوُّر ليس قاصرًا على الجانب البيولوجي من الإنسان، وإنما التطور يشمل التاريخ والأخلاق والاقتصاد أيضًا.

والكتاب الذي يفخر سلامة بتأليفه هو «حياته»، ولذلك نرى أن جميع الذين علموه، لم يعزلوا حياتهم عن مؤلفاتهم، بل كانت هذه الحياة في الأغلب هي مؤلفهم الأول.

وحين يقول سلامة موسى إن المؤلفين يغيرون الدنيا، فهو لا يقصد أن الأفراد يبدلون وجه التاريخ، بل يستهدف العكس تمامًا، فالساسة والعسكريون في نظره لا يصنعون تاريخ البشر بسياساتهم وحروبهم، والناس فقط، بتفاعلهم الحي مع الظروف المحيطة بهم، هم الذين يصنعون تاريخ أنفسهم. ففي الحربين العالميتين، لم يرجع السبب في إشعالهما إلا إلى اختراع الآلة البخارية التي لم يكن توصَّل جيمس واط إلى التفكير في اختراعها إلا تعبيرًا عن حاجة اجتماعية نشأت خلال ظروف تاريخية معينة، وهذه الآلة عممت بدورها الإنتاج الكبير في الصناعة. وفي ظل النظام الاقتصادي الاستغلالي الذي كان سائدًا في ذلك الحين على أوروبا، كان الإنتاج الكبير يدفع الدول الاحتكارية إلى الحرب فالاستعمار. «والدلالة هنا أن السياسي والعسكري قد سار كلاهما في أثر المفكر أو المخترع الذي انبعث إلى التفكير والاختراع بقوات اجتماعية أخرى.»١

وحين يتأمل سلامة الشخصيات العظيمة التي أثرت في حياته تغييرًا أو توجيهًا، ويبحث عن القوة الجذبية التي ربطته بهم، يجد أنها ثلاثة طرز:

  • وأما الطراز الأول، فهو أولئك الذين تتَّسم حياتهم أو مؤلفاتهم بغلواء حين يحيون أو يفكرون على القمة أو الذروة. فهُمْ نيتشه في جنونه المقدس يحيل عمره إلى مغامرة فلسفية، ويدعونا إلى أن ننسلخ من رواسب الخرافات الماضية، ونتولَّى بأنفسنا مصير مستقبلنا. وهُمْ دستويفسكي في حبه الغامر للبشر، والإحساس الديني الذي تتذبذب به أوتار نفسه. وهم غاندي الذي يكافح إمبراطورية سوداء بكلماتٍ عذبةٍ عن الطهر والشرف، فيخجل منه العالم ويسلم باستقلال الهند.

  • أما الطراز الثاني، فهو أولئك الذين أعطوه منهجًا للحياة. فهُمْ جوته الذي عاش طالبًا مدى حياته، يمتصُّ وجدانه كافة التجارب والخبرات في ميادين العلم والثقافة والأدب والسياسة. وهُمْ برنارد شو يجعل من أدبه كفاحًا للظلم والاستبداد والدناءة والقبح. وهُمْ ويلز يرفع الصحافة إلى مقام الفلسفة، فيدرس شئون العالم في تدين بشري جديد.

  • وأما الطراز الثالث، فهو أولئك الذين أمدوه بالمعارف الخصبة والأفكار الحوامل. مثل فكرة التطور التي أحدثت له مركبات ثقافية كأنها العقد النفسية في المريض تدأب في تفرع، ولكن مع التسلل والتستر. ولقد استطاعت هذه الفكرة الداروينية أن تجعل من حياته استطلاعًا دائمًا. وهُمْ فرويد الذي ساعده في تشريح النفس البشرية. وهم إليوت سميث الذي فتح له أبواب الحضارة الإنسانية.

يقول سلامة موسى: «هؤلاء علموني، أكسبوني الحياة الغالية التي عاشوها على القمم إيحاءات كأنها صلوات بالقلب، أو أعطوني منهجًا أعيش به عيشة الخدمة والكرامة والشرف مع الرضا بالتضحية، أو غرسوا في ذهني غراسًا صالحةً تنمو وتتفرع كأنها نبت ينير خلايا المخ ويسطع أنوارًا تقشع ظلام الجهل.»

والمعلم الأول في حياة سلامة موسى هو داروين. واللقاء الأول بين التلميذ وأستاذه حدث منذ نصف قرن. كان عمر سلامة حينذاك عشرين عامًا. شاب شرقي أتخمت ذهنه فلسفات الشرق وغيبياته، فهرب إلى أوروبا، عساه أن يستنشق هواءً جديدًا. وهناك التقى بداروين. كان عمر كتابه «أصل الأنواع» نصف قرن. وعثر الشاب المصري على الهواء الجديد الذي ملأ رئتي أوروبا في ذلك الحين باسم «التطور».

شيئان هامَّان عُنِيَ داروين بتوضيحهما في كتابه؛ أولهما: «معارف» تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعًا تعود إلى أصلٍ واحدٍ، أو أصول قليلة. وثانيهما: «منهج للدراسة» هو أن الاستقرار لا تعرفه الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.

وقد فرضت هذه النظرية نفسها على كافة ميادين الحياة. إذ لم يقف داروين عند حد اكتشاف النظرية، فقد سبقه إلى ذلك بصورةٍ غير دقيقةٍ جَده والعالِم وَلاس. ولكن داروين انتهى إلى تعليل التطور بتنازع البقاء الموجود في الطبيعة، فالقوي يبقى، أما الضعيف فعوامل ضعفه مكلفة بإفنائه. ومن هنا تتطوَّر الحياة نحو الأفضل، أي للأقوى. وتسلطت هذه النظرية — كما قلت — على كافة ميادين النشاط الإنساني فالتقطها رواد الفلسفة الاستعمارية في ميدان السياسة، وبرَّروا بواسطتها استغلالهم للشعوب الضعيفة. وفي الأخلاق لم يصبح مهذبًا من يعطي الفقير قرشًا أو من يَهَب المريض علاجًا. وفي الفلسفة أصبح الحكم للصفوة الممتازة.

وقد تأثَّر داروين في صياغة نظرته للتطور بتنازع البقاء، على ما قال به قسيس إنجليزي يدعى مالتس، من أن الناس يتوالدون حسب نظام تضاعفي ٢، ٤، ٨، ١٦ … إلخ. بينما المحصولات لا تنتج إلا على نظام حسابي ١، ٢، ٣، ٤ … إلخ. فإذا عاش الناس بلا مرضٍ أو جوعٍ أو حربٍ ما استطاعت المحصولات أن تكفي هذه الملايين المهولة. وقد فات المفكر المتشائم أن التقدم العلمي لن يتيح لرقعة الأرض فرصة السيادة. كما أننا حين ننقل نظرية بيولوجية — كنظرية التطور — إلى بقية العلوم الأخرى يجب أن نراعي بدقة ووعيٍ طبيعة تلك العلوم في اختلافها الحاسم عن علم البيولوجيا.

وعظمة داروين هنا هي النظرية نفسها، التي عثر الذهن البشري بواسطتها على مفتاح العالم. وقد حمل داروين — عن جدارة — عبء النقلة التاريخية من التسليم الغيبي للموجودات، إلى الحقيقة العلمية لهذه الموجودات، وهي أنها في تطور مستمر غير مستقر، وتفجَّرت بالتالي في أعماقنا شهوة البحث والاستفسار والقلق والكشف وعدم الرضا والاطمئنان المؤمن إلى عقائد الأولين.

ويقول سلامة موسى (ص٣٩): «لا أعرف كاتبًا تأثرت منه أكثر مما تأثرت من داروين. فإنه أعطاني القلب الذي أزن به أحيانًا، وأحيانًا أهدم به التقاليد. وجعل التطوُّر مزاجًا تفكيريًّا ونفسيًّا عندي، بل جعله عقيدتي البشرية النائية عن الغيبيات. وقد أصبحت أقيس الأمم بمقدار تطورها، وأقيس آمالي الاجتماعية بمقدار ما أجد من قدرة على التطور. ذلك أن التطور في أساسه منطق علمي. ولكنه استحال عندي إلى عقيدة قلبية. وإذَن يجب أن أَعُدَّ داروين المعلم الأول الذي علمني». وهذا حقٌّ، فالقلب الإنساني في حاجةٍ دائمًا إلى الدين. وحين ألقى سلامة موسى وراء ظهره بالمفهوم الغيبي للدين، أحسَّ بالقلق … ثم أعاد له داروين ثقته في الإنسان واحترامه للحياة، بالمفهوم البشري للدين.

وكان لامارك — قبل داروين — قد علَّل التطور بالعادات البيئية، أي إن الوسط المحيط بالكائن الحي من طعامٍ وأعداءٍ ومُناخٍ يؤثر في تركيبه العضوي، فيغيره إلى شكل يتلاءم مع الوسط، فإذا جاء نسله ورث هذا التغير. وتتراكم التغيرات على مدى الأجيال بالمئات والألوف، فتظهر سلالات جديدة تختلف عن أسلافها. ثم تتراكم التغيرات في هذه السلالات حتى تفصل ما بينها وبين الأسلاف، وتصبح السلالات القريبة أنواعًا مستقلَّة. وقد سلم داروين بهذا التعليل مع تمسكه بتنازع البقاء، حتى جاء وايزمان — المفكر الألماني — فعارض لامارك قائلًا: إن الصفات جميعها وراثية، وإن الوسط لا يؤثر إطلاقًا في الكائن الحي. والتقى بذلك مع نظرة الراهب مندل. وقد أخذ سلامة موسى برأي وايزمان فترة طويلة، يصف نفسه خلالها بأنه «فسد» ذهنيًّا، فما دامت الوراثة ثابتة وتتحكَّم في الموجودات، فلا ضرورة لبقاء الضعفاء والمرضى والمتأخِّرين.

والتجربة العلمية فقط هي التي أرغمت سلامة موسى أن يسلم لوايزمان، والتجربة العلمية أيضًا هي التي أزاحت عنه هذا الكابوس حين وقع في يده كتاب «وود جونس» في العادة والوراثة، وقد أثبت فيه أن الوسط يؤثر في الكائن الحي تأثيرًا مباشرًا في تكوين العادة التي تورث بتعاقب الأجيال.

وقد شحنت نظرية وايزمان — قبل انهيارها — نفس سلامة موسى بالريبة والقلق. إذ وجد — على ضوء هذه النظرية — أن إصلاح الوسط والبيئة ضرب من العبث، كما أن جمود الوراثة في نقل الصفات، أصبح قريب الشبه جدًّا من الغيبيات والقدرية. وهما شيئان نَزَعَت جذورَهما من أعماق سلامة نظريةُ التطور. ومن هنا يكرر دائمًا أن وايزمان هو الرجل الذي أفسد ذهنه.

وليس غريبًا أن تترجم أفكار وايزمان إلى الفلسفة الألمانية على يدي نيتشه، وليس غريبًا إذَن أن يكون المقال الأول لسلامة موسى عن «نيتشه وابن الإنسان».٢ وكانت أوروبا في ذلك الوقت تغلي بنظرية التطور، فالمسيحيون يحاربون المعول الذي يهدم «القاعدة الأصلية» للدين، والملحدون يهدمون التسليم الغيبي للمسيحية، ولكنهم يجمعون على أن الأخلاق المسيحية هي الأخلاق المثلى.

وجاء نيتشه ليهدم المسيحية من زاوية مجدها الأخلاقي. فقال إن الرحمة والتعاون والحب وكافة الفضائل المسيحية هي مجموعة من الدجل والخرافات تستهدف رعاية «الغوغاء» و«الدهماء» و«القطعان»، وهؤلاء جميعًا من فقراء وضعفاء ومرضى يعوقون التطور الإنساني، في حين أننا يجب أن نُخلص لنوعنا البشري، بأن نُبقي على الأقوياء في الذهن والجسم والروح ونعمل على إفناء الآخرين، حتى نحصل في النهاية على السوبرمان. فهو يصف الإنسان الحاضر بأنه جسر أو قنطرة من القرد إلى الإنسان الأعلى. وواجبنا إذَن أن نضحي بالضعاف حتى نضمن للجنس البشري ارتقاءه الأعلى.

وقد تلقف النازيون والفاشستيون أقوال نيتشه بلهفة، واستقبلها أعداء الديمقراطية بحفاوة بالغة وكأنه المسيح المنتظر.

وبالرغم من ذلك فأنت تنتشي بسحره حين يقول مثلًا: «الزواج هو اجتماع إرادتين لإيجاد شخص أعلى من الزوجين» و«الانتقام الصغير أكثر إنسانية من العفو عند المقدرة» و«لأنك جعلت الخطر حرفتك، لذلك أدفنك بيدي». وهذه الخمر أسكرت سلامة موسى، فالرغبة في إيجاد السوبرمان، وتمجيد الأقوياء الممتازين، واللغة الشعرية الساحرة التي عرض بها نيتشه أفكاره … جميعها تآمرت على تفكير الشاب المصري أثناء انغماسه في نظرية التطور ومناقشة وايزمان.

ولكن نهاية نيتشه في حياة سلامة موسى كنهاية وايزمان، فقد عثر — فيما بعد — على من أخذ بيده إلى الطريق الصواب، حتى إنه يحذِّر من يقرأ نيتشه بأنه كالسم لا يظهر في العسل، أما أثره فسرعان ما يبدو قاتلًا.

والخمر لا تترك آخر كلمات نيتشه فيقول لشقيقته: «عديني أنني عندما أموت لن يقف حول نعشي سوى أصدقائي، ولن يكون حولي أحد من الغوغاء الفضوليين. واعملي على ألا يلقي قسيس على قبري بضعة أكاذيب، وأنا عاجز عن حماية نفسي. ودعيني أنحدر إلى قبري وأنا وثني شريف». ويعلق سلامة موسى على هذه الكلمات قائلًا: ومات نيتشه، وفي نفسي له حبٌّ وعداء، إقبالٌ وصدود.

ولعل أحد أسرار «العداء» الذي انتهت به العلاقة بين نيتشه وسلامة هو الحرب الشاذة التي أعلنها الفيلسوف الألماني بلا هوادة على المسيح، فهو لم يجرده من الغيبيات فحسب، بل عاداه لتزعمه الضعفاء والمساكين وحبه لهم.

وهذا السبب نفسه غرس الحبَّ في قلب سلامة نحو الكاتب الفرنسي إرنست رينان، فقد جرد هذا الكاتب المسيح من الغيبيات، وإن لم يغفل دوره الكفاحي من أجل الناس، ومناداته بالحبِّ كعلاج سامٍ لمشكلات البشر. رسم رينان شخصية المسيح لدرجةٍ فتنت سلامة موسى ودعته يقول: «لقد أحببت تلك الشخصية السامية التي وصفها رينان في كلمات الحب والإعزاز، والتي أحاول مع العجز، ولكن مع الأمل، أن أرتفع إلى الأخلاق التي رسمها في شخصية المسيح.»

واحترام سلامة موسى لشخصية المسيح لا يجره إلى الخرافات المحيطة بهذا الإنسان العظيم، فقد التقى سلامة في بدء حياته الفكرية بالمطرقة التي حطمت هذه الخرافات؛ التقى بفولتير.

وليس لفولتير عبرة أو دلالة واحدة لعصرنا، وإنما له عبر ودلالات كثيرة. فإننا نفهم منه أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر. وقد حاربته الكنيسة الكاثوليكية بعنف، فحرَّمت تداول كتبه وأحرقتها وشردته بين فرنسا وسويسرا، فكان يكتب رسائله بتوقيعات مزورة. ونجح فولتير في النهاية، إذ فُصِلَ الدين عن الدولة وكفَّت الكنيسة عن محاربة أعدائها. وهو لم يكن ملحدًا بالمعنى العلمي، ولكنه كان إنسانًا، ولذلك فهو يقول: «كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يليق بالإنسان، والطبيعة هي الكتاب الوحيد الذي يجدر أن نقرأه، والديانة الوحيدة هي أن يكون لنا شرف وأمانة. وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببًا في الأذى.»

وإذا كان فولتير هو معول سلامة موسى الذي حطم به مثاليات الشرق فقد كان ألبيرت شفيتزر هو النموذج الإنساني الذي استولى على قلب الشاب المصري.

ملأت شفيتزر في صدر شبابه رغبةٌ حارَّة في خدمة الزنوج. وحين تساءل عما يستطيع أن يفعله من أجلهم، كان الجواب أنه دكتور في اللاهوت، ويستطيع أن ينشر المسيحية بينهم، فأحسَّ بمرارة وهو يسمع الاقتراح، لأنه كان على يقينٍ واثقٍ بأن من المبشرين من يحفل تاريخهم العريض بألوان الجاسوسية ومساندة الاستعمار. وتساءل مرة أخرى: كيف نقدِّم للزنوج تعاليم المسيحية، وهم قد عرفوا أن هؤلاء المسيحيين الذين تربوا بهذه التعاليم، هم أنفسهم الذين ينهبونهم ويذلونهم ويحرمونهم الثقافة والمدنية والعدل والشرف؟

ولذلك رحل شفيتزر إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين، حيث قضى أربع سنوات في دراسة الطب، وقضى بعد ذلك قرابة أربعين عامًا في أفريقيا الغربية يعالج أمراض الزنوج بالمجان، ويجمع لهم التبرعات من أوروبا وأمريكا، ويغري الأطباء الأوروبيين بالهجرة إلى هذه البلاد النائية، ليخدموا مسيحيتهم الخدمة الحقيقية. وعاد في سن الثمانين إلى بلاده وهو أعمى، إذ لم تتحمل عيناه شمس أفريقيا.

وإلى هنا — كما يقول سلامة موسى — نستطيع أن نَقنع بأننا عرَفنا إنسانًا بارًّا بالإنسانية. ولكن شفيتزر كما كان رجلًا مكافحًا، كان أيضًا مفكرًا عميقًا. فلم يتأثر سلامة بحياته فحسب، وإنما تأثر إلى حدٍّ كبيرٍ بكتابه عن المسيح، فقد عالج حياته بمشرط فرويد بما لا يرضي المسيحيين. والنتيجة التي يستخلصها سلامة موسى من كفاح شفيتزر هو احترامه للحياة. واحترام الحياة مفتاح يهيئ لنا التفكير السليم في تطور المجتمع البشري.

يقول سلامة: «وتقبلت دعوته إلى احترام الحياة في ترحيب وسرور، لأن دراستي للتطور جعلتني على إحساسٍ عميقٍ بوحدة الحياة نباتًا وحيوانًا وإنسانًا. ثم هو بعد ذلك لا يعترض بكلمة واحدة على سمو الأخلاق التي دعا إليها المسيح.»

وحدة الوجود التي رفعت الحياة في نظر سلامة موسى إلى مقام الألوهية، هي المذهب الإنساني الذي لا يفصل بين النفس والجسم أو العقل والمادة أو الفكرة والعمل. فالجماد والنبات والحيوان والإنسان كلها شيءٌ واحدٌ. والإنسان — إذَن — ليس كائنًا منفصلًا، وإنما هو تعبير خاصٌّ للطبيعة «العامة» التي في الجماد والحيوان والنبات. والحقيقة الأولى في هذا العالم هي التغير والاستحالة. فالطبيعة دائبة التحول والتشكُّل، والفكر البشري نفسه قد نبع من الطينة التي نبضت بالحياة الأولى.

هذه الوحدة الوجودية هي أول ما دعا إليه الشاعر الألماني جوته، وأثره في سلامة موسى هو أثر بَذري رافق حياته كلها. فهذه النظرة العريضة الشاملة للحياة عند جوته، دفعته إلى أن يكتب الشعر ويجمع الحشرات ويشرِّح الضفدع ويضع جدولًا للألوان ويجرب الكهرباء الجلفانية، دون أن يحسَّ بأية حواجز حاسمة بين مختلف أنواع النشاط الإنساني. ولذا من الخطأ أن نقول إن جوته حصر اهتمامه في الآداب والعلوم والفنون، لأن اهتمامه الأول كان بالحياة. وهذه النظرة الموسوعية صاحبت تاريخ سلامة موسى الفكري، فقد استلهمها في أسلوبه العلمي البسيط، كما استوحاها في أن تكون الحياة كلها خامة غنية لموضوعاته. والوصايا العشر التي شرب عصيرها سلامة موسى من يد جوته هي:

  • على الإنسان أن يميز بين المعارف والحقائق، وأن يجمع معارفه واختباراته في فلسفة أو دين. وعلى المثقَّف أن يستخرج الكليات من الجزئيات، فيحس حركة التاريخ يومًا فيومًا.

  • وعلى الإنسان أن يتفاءل بمستقبل البشر في رحابة الحقائق التي وصلت إليه، فالرجل الناضج متدين. وديانته احترام الحياة. وكي نحترم الحياة يجب أن نعمل لرقيها وتطورها إلى أعلى.

والعبرة التي حولت هذه الكلمات إلى خلايا دموية التحمت بدماء سلامة، أن جوته نفسه كان هذا الرجل الناضج.

وعلامات النضج في الإنسان أن يرتفع من همومه الشخصية إلى الاهتمامات العالمية، وفي الأديب أن يرفع الأدب من آراء وإحساسات تُكتَب إلى ممارسة في الحياة، وأن يتعرف الأديب إلى قوات الخير البازغة فيؤيدها، وينضم إليها ويكون من جنودها وقُوَّادها.

وهكذا أفاد سلامة موسى منهجًا للحياة. وهو منهج التعلم والاختبار والاستمتاع على حدِّ تعبيره. إن غاية الحياة عند جوته هي الحياة، أي إن شخصيتنا ترتقي بتربيتنا وبسط الآفاق أمامنا للتعلُّم والاختبار، حتى نزداد فهمًا لأنفسنا وللطبيعة فنزداد بذلك استمتاعًا.

والصديق الجديد الذي ارتاح إليه سلامة موسى في جولته الذهنية بين معلميه، هو الفيلسوف جون ديوي. وديوي في فلسفته يؤكد حقيقتين، سبق أن أوضحهما جوته، وهما:

  • إننا وكل الأشياء حولنا في صيرورة، ولسنا ثابتين على حالٍ لا تتغيَّر.

  • كل ما في هذا الكون هو وحدة لا تنقسم، فليس هناك فرق بين الماديات والمعنويات.

ولكن ديوي أوضح حقيقة هامة جديدة، وإن كانت نتيجة للحقيقتين السابقتين، وهي أن معارفنا عن الأشياء والكون مؤقتة، أي لوقتنا أو عمرنا هذا فقط، وهي لذلك ليست نهائية، وبالتالي لا نستطيع أن نضفي عليها صفة الصدق الجبري، ذلك لأن هذه الأشياء جميعها في تطور، وقُصارَى ما يمكن أن نقوله عن المعارف البشرية أنها «آلة» أو «وسيلة» نفهم بها الأشياء، وغاية هذا الفهم غير النهائي هي التسلُّط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة البشر. (لم ينجح ديوي في صياغة مفهومه عن الحياة في قالب علمي متكامل، إذ إن حقيقة الكون الكبرى مطلقة، ولكن معرفتنا نحن لها هي النسبية. فالحقائق العلمية لا يلغي بعضها بعضًا، وإنما هي في تطور دائم نحو الحقيقة الكبرى المطلقة).

والذكاء عند ديوي اجتماعي، أي إنه ليس موهبة لبعض الممتازين، ولكنه ظاهرة طبيعية نتيجة تفاعلنا المباشر وغير المباشر مع المجتمع. والفلسفة عنده، ليست أن نعرف أسرار الطبيعة، بل هي أن نستخدم قوى الطبيعة.

والمدرسة في عرف جون ديوي هي جنين المجتمع، وحين تنطوي المدرسة على نفسها، وتعلم النظريات، وتلقي دروسًا لا علاقة لها بالمجتمع، تعود بالضرر على تلاميذها. ولهذا لا يجب مطلقًا أن تنقطع عن الاتصال بالمجتمع. وينتهي ديوي إلى أن الغرض من التربية هو إيجاد التلاؤم بين الفرد والمجتمع، وأنه ليست هناك أخلاقٌ ثابتة، وإنما هناك تغيرات اجتماعية تؤدِّي بدورها إلى تغييرات أخلاقية. والأخلاق المثلى — إذَن — هي درجة التلاؤم بين فرد ما والمجتمع.

ولا يوافق سلامة الفيلسوف الأمريكي على هذه النقطة، بل يتساءل ما إذا كان من «الأخلاق المثلى» أن يتلاءم الفرد مع المجتمع الفاسد؟ أم أنه يثور ويشذ على هذا المجتمع، فتكون ثورته هي فضيلته؟

وما يربط سلامة موسى بجون ديوي هو التزامه الأسلوب العلمي في حلِّ المشكلات الاجتماعية. فقد ألحَّ هذا الفيلسوف على استخدام الأسلوب التجريبي في كلِّ شيء: في الآداب والفنون والفلسفة والموسيقى والاجتماع … إلخ. وقد أخذت الولايات المتحدة برأيه في التربية، وعمَّمت نظام المدارس الارتقائية.

وهناك قيمة ثانية ربطت بين المفكرَين، فقد اعتبر ديوي المجتمع — أي مجتمع — هو «المربي الأول» للإنسان، وبقدر اتصال أو انفصال الفرد عن مجتمعه، تكون تربيته.

•••

في أحيانٍ كثيرة، كانت المدينة تخنق بعض من أَرهقَتْ حساسيتَهم انفعالاتٌ معينة، فيهربون إلى الطبيعة الساذجة، يجربون بدائية العيش ويبعدون عن أدخنة الحضارة الخانقة.

والكاتب الأمريكي هنري ثورو أحد هؤلاء الذين امتلأ وجدانهم بحبٍّ غامر للطبيعة، وإحساس عميق جدًّا بحنانها، وأكاد أقول أمومتها. وهو لا يدعونا إلى دراسة الطبيعة، وإنما إلى أن نعيشها، فهو يصف الإنسان الاجتماعي في المدينة بأنه كائن صغير تشغله الهموم الصغيرة، يقضي ستة أيام يعمل، ويومًا واحدًا يستريح. ويتساءل ثورو: لماذا لا يكون العكس هو الصحيح؟ ونسي الكاتب الأمريكي أن العكس هو الصحيح خارج نظام مجتمعه الاستغلالي، فالنظم الاحتكارية تُشقي الأيدي العاملة أطول فترةٍ ممكنة ليحصل الاحتكاري في النهاية على أقصى ربحٍ ممكن، ومن ثَم تصبح علاقات الإنتاج قائمة على النهب والامتصاص. ويهرب ثورو وزملاؤه إلى الطبيعة بحجَّة واهية، والحقيقة أن الحضارة الإنسانية لا يهرب منها أحد، لو ملك ناصيتها سادة الإنتاج الحقيقيون، الذين بواسطتهم تتغير علاقات البشر من طبيعة المجتمع الرأسمالي إلى طبيعة المجتمع الاشتراكي الذي يكفل للإنسان كل ما أراده ثورو من سعادة.

وثورو يقول: «إن الالتصاق بالطبيعة لن يرهقنا بمطالب العيش كما يحدث في المدينة — ويقصد بالطبع مدينته الرأسمالية — فالبساطة والرغبة الحقيقية في حياةٍ لا تصاحبها رغبة مزعجة في الاقتناء والتنافس، هو عنوان الحياة في الطبيعة.» وهكذا يعترف الكاتب الأمريكي بأن المباراة الاقتنائية هي السبب المباشر في لجوئه للطبيعة، ولكنه تجاهل أن هناك نظامًا آخر لا يقوم على التنافس والاقتناء، في استطاعته أن يحقِّق المدينة التي يحبُّها.

والفراغ الكبير الذي يلقاه أبناء الطبيعة في أحضانها فرصة جميلة عند ثورو للاختبار والكشف والمتعة. فالطبيعة مليئة بكلِّ جديدٍ، مما لا تُيسر لنا ظروف المدينة فرصة اكتشافه. وهو يقدِّم لنا نفسه نموذجًا عمليًّا، إذ قضى عامًا ونصفًا في إحدى الغابات حيث بنى كوخًا صغيرًا. ثم عاد مرةً أخرى إلى المدينة، مما يحملنا على أن نفهم أن عودة البشر إلى فطرة الغابة أصبحت مستحيلة.

وفي تجربة ثورو يكتشف سلامة دلالة هامة، وهي أن «للفقر الإرادي» أو «العصيان المدني» كما دعاه ثورو، قيمة يجب ألا نستهين بها، فحياة المدينة وما فيها من هرولةٍ وعصبيةٍ وهمومٍ، كل هذا نستطيع النجاة منه بأن نجعل شعارنا «كيف نستغني» بدلًا من «كيف نقتني». ولا ريب أن الدلالة التي اكتشفها سلامة موسى نتيجة طبيعية للمدينة التي عاشها … المدينة الرأسمالية.

وسلامة موسى يقول: إن الولايات المتحدة، بعد مائة سنة من تجربة ثورو، أحوج إلى عِبرته مما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر؛ لأن المباراة التي يعيشها الأمريكيون هذه الأيام، أقتل للنفس وأبعث للقلق والخوف عما كانت في أيامه، والأمريكي حين يقدم اليوم على تجربة ثورو هو رجل سعيد إذا قورن بالمهرولين العصبيين الذين يَملَئون مستشفيات الأمراض العقلية.

ويقول أيضًا: «إنه لمن الحسن أن ينبِّهنا كاتب، بإسرافه في الحبِّ للطبيعة، إلى أنه بجانب الشارع والنادي وسهرات الكحول وعدِّ النقود وشراء الأرض واقتناء الضياع والأسهم في الشركات، بجانب كلِّ هذا توجد أرض وسماء وأشجار وزهور وأنهار وجبال، وإن القمر يضيء في الليل، فيكسو الحقول بأشعَّته، وإن النجوم تنادينا في الظلام كي نتأمَّلها ونتحدث إليها. وإننا من وقتٍ لآخر يجب أن نختلي ونستوحد كي نعيد النظر في حياتنا ونسأل: هل نحن نعيش مسوقين بضغط العادات الاجتماعية التي لم نفكر من قبل في قيمتها؟ وألَا يجدر بنا أن نغيِّر هذه العادات أو ننقِّحها بإلهام الطبيعة التي تردنا إلى الأصول والجذور؟»

ولم يتأثر سلامة ذهنيًّا فقط بتجربة ثورو. فإننا نراه في ختام كتابه «تربية سلامة موسى» يقول إن برنامجه في العشر السنوات القادمة بعد سن الستين هو الخلود إلى القرية في سكينة وهدوء وتأمُّل. ولكنه لم يستطع أن ينفذ هذا البرنامج، وقال لي إنه وجد في ذلك الهدوء معنًى للموت، وإنه سيظلُّ ملتحمًا بضجيج المدينة حتى نهاية العمر.

أما غاندي فقد تأثر بتجربة ثورو لدرجة كبيرة، نقل عنه عبارة «العصيان المدني» في معركته مع الإنجليز، ونفذ «الفقر الاختياري» بأن صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوكيين والمسلمين إلى الإخاء. وبذلك رفع السياسة إلى مستوى القداسة.

والنسك أو الرهبنة التي أكسبها غاندي معنًى جديدًا، أيقظت في سلامة روحًا أوروبية للتقشُّف، وفي ذلك يقول: «وإني لأكتنز كنوزًا نفسية في حياتي لا أرضى بها بديلًا، هي أني عشت وعاصرت تولستوي وبرنارد شو وغاندي، وجميعهم قديسون، وليست قداستهم من ذلك النوع القديم حين كان ينزوي الراهب في صومعته بعيدًا عن المجتمع كي ينشد خلاص نفسه فقط، لأن هذا الراهب في صميمه أناني يطلب الخلاص لنفسه فحسب، ولكن هؤلاء القديسين العصريين كانوا يتألَّمون ويصومون ويكافحون من أجل خلاص البشر، وقد استطاعوا أن يغيروا الأوزان والقيم البشرية، وأن يغرسوا في قلوبنا حبًّا جديدًا، وأن يعلمونا أسلوبًا فلسفيًّا للعيش.»

والرهبنة الإرادية التي فرضها هؤلاء العظماء على أنفسهم لا تعتبر حرمانًا من لذَّاتٍ معينة، كما يُفهَم عن رهبان الديانات، لأن عظماءنا لم يُحسوا — وهم يحرمون أنفسهم بالفعل — أنهم حُرِموا شيئًا … وذلك في غمرة انشغالهم بالقيم الجديدة. فغاندي مثلًا حرَّم على نفسه الاتصال الجنسي منذ كان في الرابعة والثلاثين، ولم يفعل ذلك قهرًا، وإنما كان الأمر طبيعيًّا وسط اهتمامه بالأهداف الكبيرة.

وسلامة يرى في غاندي ماركسيًّا من حيث فهمه لطبيعة الاستعمار، ومكافحته الإنجليز على أساس الاكتفاء الذاتي بمقاطعة بضائعهم. ولست أرى أية «ماركسية» في هذه الأشياء، فالاستعمار — في أبسط تعريفٍ له — هو استغلال موارد الشعوب المغلوبة على أمرها لمصلحة الدول الاستعمارية، ونحن نعرف أن الاكتفاء الذاتي — في ميدان الاقتصاد — يسهم في معارك الاستقلال بنصيبٍ ملحوظٍ.

أما طبيعة الاستعمار — من زاوية الفهم الماركسي — فهي قمة النظام الرأسمالي من حيث كونه نظامًا يكفل للقوي غلبة على الضعيف، سواء كان هذا الضعيف طبقة في مجتمع، أو شعبًا من الشعوب. ولا ريب أن هذا المعنى لم يخطر على بال غاندي، وإلا كان في استطاعته أن يعيد النظر في طبيعة المجتمع الرأسمالي نفسه، وما كانت «المقاومة السلبية» إذَن منهجًا صحيحًا، تتمكن به الشعوب من سحق الاستعمار. وما انتصار الهند إلا نتيجة موضوعية لظروفٍ كثيرةٍ.

وإذا أردت أن أفسر رأي سلامة موسى في غاندي «الماركسي» أقول إن سلامة نفسه في فترة من تاريخ مصر الوطني، صنع امتدادًا لدعوة لطفي السيد السياسية «مصر للمصريين» فكوَّن جمعية «المصري للمصري» التي دعت إلى الاستقلال الاقتصادي. ولكن التكوين الأيديولوجي لسلامة والتكوين التاريخي لمصر كانا يختلفان تمامًا مع التكوين الأيديولوجي لغاندي والتكوين التاريخي للهند. وهذا ما فات سلامة حين وصف غاندي بالماركسية على أساس المشابهة والمقارنة، بين ما قام به في الهند، وما حدث في مصر.

وعبرة ثورو هي ما يستخلصه سلامة من غاندي أيضًا، فقد علمنا أن نعيش ليس بالاقتناء وإنما بالاستغناء، وأننا نستطيع أن نحقق السعادة على الأرض بالقليل من الحاجات دون البذخ الذي يضنينا بلوغه، ثم نُحِس بالتعاسة إذا لم نحصل عليه.

والمجتمع الحائر القلق الذي عاشه ثورو، هو نفس البيئة التي عاشها هافلوك إلِيس. ونحن لا نستطيع أن نقارن بين الطريق الذي سلكه ثورو وغاندي، والطريق الذي سلكه إلِيس، فالخصومة الجديدة لم تقع بين الإنسان والمدينة، ولكنها بين الفرد والمعنى الاجتماعي للمدينة، وهذه بؤرة التفكير الانفصالي عند إلِيس حين عاش مع زوجته كصديقين يتزاوران في بعض الأحيان، لا كزوجين يعيشان تحت سقفٍ واحدٍ، وفي ذلك يقول سلامة: «نحن نرى في الزواج حياةً شاملةً تحتوي جميع التفاصيل الأخرى في حين كان هذان الزوجان يريان فيه أنه بعض الحياة فقط، وأنه يجب أن يُترَك الزوج حرًّا لا يتدخل الزواج في تفاصيل حياته؛ لأن الزوج إنسان أولًا له طموحه وآماله وحرفته وهوايته وملذاته. وهو يجب أن يجد الحرية في خلوة وفي استقلال لا يفسدهما عليه الزوج الآخر.» ولا شك أن هذا المفهوم العلمي للزواج يتيح للفرد فرصةً «إنسانية» للمشاركة والحب والفهم، لا تتحقَّق إلا في جو سيكولوجي نقي «بعيدًا عن الاستغلال العبودي الموروث» من قِبل التقاليد الإقطاعية والرأسمالية القائمة على السيادة الاقتصادية.

ويفسر سلامة موسى الشهرة التي لاحقت إلِيس بأنه كان جريئًا في علاجه شئون الجنس حين عرضها من زاوية الصحة لا من زاوية المرض، وهذا هو الفرق الحاسم بينه وبين فرويد. ويبدو هذا التفسير قاصرًا إذا ألممنا بالمنهج الفرويدي في تشريح النفس البشرية، فالطفولة هي نقطة الانطلاق عند فرويد، قبل أن تكوِّن الظروف «مركَّب أوديب» للفرد، ومن ثم لا يكون فرويد قد عالج النفس من زاوية المرض أو الصحة، وإنما باشر بحوثه على أساس الطفل «كخامة» لم تتعقَّد بعد بملابساتها المحيطة بها، بينما استطاع إلِيس أن يكتشف الجوانب السالبة والإيجابية في المريض والصحيح على السواء. ويتساوى فرويد وإلِيس إذَن في جهلهما بالأرض الاجتماعية للبشر وتفاعلها المستمر مع الإنسان.

ويقول سلامة: إن إلِيس حين يدعو إلى الانفصالية في الزواج، فهو ليس انطوائيًّا، ولكنه يريد أن يلهب «إحساسنا الاجتماعي» بالحياة. وعبارة الإحساس الاجتماعي تعني الاهتمامات المتعددة بالفلسفة والفن والاختراع والاكتشاف؛ لأن هذه الاهتمامات في حاجةٍ إلى رصد القوى كلها في خلوةٍ واستقلال. «وقد كان هافلوك إلِيس من هذه الناحية إنسانًا جديدًا، ولكنا لا نستطيع أن نَبتَّ برأي في هذه الجدة، هل هي للسعادة والخير أم للتعاسة والشر؟» والحقُّ أن هذا القلق الذي استشعره سلامة موسى في حديثه عن إلِيس، ينجم عن أن هذا المفكر الباحث كان تعبيرًا صادقًا وتجسيدًا أمينًا لروح الفردية المتفشية في مجتمعه. وتعبير «الإحساس الاجتماعي» الذي جاء به هو إحساس بالنقص الاجتماعي. والصراحة الواقعية التي صبغت أحاديث سلامة في شئون الجنس هي كل ما أفاده من بحوث إلِيس.

والرجل الذي يجب أن تتعرف عليه نساؤنا هذه الأيام هو هنريك إبسن. فالمرأة الشرقية في القرن العشرين هي نسخة قريبة الشبه من المرأة الأوروبية في القرن الماضي.

لم تكن المرأة في أوروبا ذلك الحين تلبس الحجاب، ولم تكن سجينة البيت طول النهار، وإنما كانت تخرج إلى الحفلات والمنتديات، وتغشى مع زوجها أماكن الفكاهة واللهو، وكانت — وهذا هو المهمُّ — تؤمن في قرارة نفسها أنها وصلت إلى أقصى درجات الحرية.

وجاء هنريك إبسن ليوقظها من هذا الحلم، قال لها: أنت واهمة، إن ما تظنينه حرية أبعد ما يكون عن المعنى الأصيل لهذه الكلمة. وانزعجت المرأة الأوروبية وهي تقرأ «بيت الدمية»، وبدأت تراجع نفسها وتفكيرها. وفهمت أن الحرية ليست هي أحدث مُودة في عالم الأزياء، وليست هي ارتياد الحفلات … ولكنها الالتحام بالمجتمع، والالتصاق بمشكلاته، والتفكير في همومه، والعمل على ارتقائه. ودخلت المرأة الأوروبية المصنع والمستشفى والمعمل والورشة، ولم تصبح هذه الدمية الجميلة التي وصفها إبسن.

ولم يقتصر الكاتب النرويجي في عمله الكبير على هذا المعنى، لقد أسهم في نقل الدراما من الإطار الرومانسي إلى البناء الواقعي، من التحليق في ضباب الأحلام إلى أرض البشر.

وقد حاول سلامة الاهتداء إلى المعنى العلمي لحرية المرأة، وعثر في الناحية الاقتصادية على العامل الحاسم في هذه المشكلة.٣ لأن المساواة الاقتصادية بين الزوجين هي النبع الحقيقي للمساواة النفسية بينهما.
والفضيلة الثانية لإبسن هي أنه اكتشف «الحجاب» الحقيقي. ونجح سلامة موسى في تطبيق هذه النظرية على الرجل، وقال في ذلك إن الفرق بينه وبين المرأة هو اختلاف دَرَجي فقط؛ لأن الرجل — داخل جدران المجتمعات المختلفة — يعيش أيامه خلف حجاب ذهني ونفسي، فالإنسان الذي يحيا في أسر التقاليد، وكأنها من طبيعة الأشياء لا تتغير وفي غير حاجةٍ إلى التغيير، هو إنسانٌ «محجب». وإذا كانت المرأة قد تخلصت من كونها «لعبة البيت» فإن على الرجل والمرأة أن يتخلَّصا من كونهما لعبة الأقدار أو لعبة المجتمع.٤
والتلميذ المخلص لإبسن هو برنارد شو. وشو هو الرفيق المخلص لسلامة موسى، منذ التقيا في لندن، ولم يكن الأديب المصري قد تجاوز العشرين عامًا. وحين بدأ سلامة حديثه عن شو يقول: «يجب أن أبدأ بكتابه الأكبر وهو حياته»، وقد فصل هذه الحياة في كتابٍ مستقلٍّ عن برنارد شو (عام ١٩٥٧م)، وكان قد وعد قراءه بهذا الكتاب منذ ثلاثين عامًا.٥ والخط الرئيسي الذي يَنظِم صداقة سلامة لشو هو أنه — أي شو — اتخذ أسلوبًا في العيش يتَّفق وتعبيره: «إنما يكون الإنسان فاضلًا إذا أعطى مجتمعه أكثر مما أخذ منه.»

وشو نقطة تحول هامَّة في المسرح الإنجليزي، فقد حوله من مسرح «أبطال» إلى مسرح «أفكار» ناقش بواسطته كثيرًا من القيم العالقة بالأذهان على أنها حقائق لا تقبل الجدل. فهو ينبذ الغيبيات، ويناقش مستقبل الإنسان على المسرح في درامته «الإنسان والسوبرمان»، ويصفها سلامة بأنها تشبه الامتداد الطبيعي لكتاب «أصل الأنواع».

وقد شغف شو بمستقبل الإنسان لدرجةٍ أبعدته عن الاشتراكية حين دعا إلى أن يكون الحكم للصفوة الممتازة، وأن يُترَك الضعاف يموتون بعوامل ضعفهم، ولكنه عاد بعد ذلك يقف إلى صفِّ لِيسِنكو حين أكد أن الصفات المكتسبة تُورَّث، وفي هذا أمل لإصلاح الوسط، أي إنه يمكن الوصول إلى السوبرمان بالإصلاح العلمي للوسط، دون الحاجة إلى تنازع البقاء. والحق أن فكرة «الإنسان الأعلى» هذه منذ قالها نيتشه إلى الآن هي دعوة غير علمية؛ لأنها إفراز حتميٌّ لطبيعة مجتمع مريض يحدِّد عظمة الإنسان على أساس بيولوجي جامد، مغفِلًا عوامل التقدم الإنساني الأخرى، وهذا دليل جديد على مدى الحقارة التي يحسها ذلك المجتمع نحو الإنسان الراهن.

وخير ما أخذه سلامة عن شو هو هذا الروح العلمي الذي يسود مؤلفاته، فقد كان مثله علمي الذهن، أدبي الوسيلة، فلسفي الهدف، تميز بالتفكير العلمي والتعبير الأدبي. وهذا إلى جانب أنه حبَّب إليه الاشتراكية، ونقلها عنده من منطق العقل إلى عاطفة القلب، بل جعل منها ديانته العملية. فليس البر عنده هو الإحسان أو الصدقة، وإنما البرنامج الاشتراكي في توفيره للشعب طعام الجسم وغذاء الذهن وحرية الضمير والإقدام على المستقبل.

يقول سلامة: «وهو — أي شو — بعد داروين، جعلني أستمسك بالتطور وأجعل منه الديانة المذهبية لحياتي وفكري وموقفي البشري. وقد كان هو يقول بالحاجة إلى وزارة للتطور تعمل لترقية السلالات البشرية، وهذا تفكير يعلو علوًّا عظيمًا على الصغائر التي يشتبك فيها صغار الأدباء.»

وأعظم ما يبتهج له سلامة هو أن يسمع شو يتحدَّث عن الحب حين يرتفع إلى الثلث العلوي من الجسم البشري. ويقول: «حين أعود إلى الأفكار التي بثها في نفسي برنارد شو، أُحسُّ أن حياتي ترتفع إلى مقام التاريخ، وأن لوجودي دلالة فلسفية.»

قال ويلز: «لو كنت على سفينة ومعي برنارد شو وبافلوف العالم الروسي، ثم تعرضت السفينة للغرق واضطُرِرت للاختيار بين إنقاذ بافلوف أو شو، لأنقذت بافلوف بلا تردُّد.»

وهذه الكلمات هي السائل المرُّ الذي جرَّعه «ﻫ. ج. ويلز» لسلامة موسى، فقد كانت رابطة الحب قوية بين سلامة وشو من جانب، وبين سلامة والعلم من جانبٍ آخر.

والخلاف بين ويلز وشو بدأ داخل جدران الجمعية الفابية، فقد رأى ويلز أن تهتم الجمعية بتحرير المرأة، بينما رأى شو أن تتخصَّص في نشر المبادئ الاشتراكية فقط دون أي هدفٍ آخر. وخرج ويلز من الجمعية.

وويلز هو الكاتب الإنجليزي الذي رفع الصحافة إلى مقام الفلسفة فقد اتخذ منها وسيلة حية لنشر أفكاره. ويمكن تلخيصها في أن العالم هو قريتنا الكبرى، فما يصيب أحد الأقطار في آخر الدنيا يجب أن نهتمَّ به نحن، وما يفيض عن حاجة بلدٍ بعيد، يلزم أن يُفيد منه البلد المحروم. فهذا العالم ليس ملكًا لأحدٍ؛ لأنه ملك جميع البشر.

ولم يتنبه سلامة موسى إلى النظرية الاستعمارية التي ينطوي عليها تفكير ويلز، فلم يضع هذا المفكر الإنجليزي تخطيطًا علميًّا للإنتاج العالمي، حتى نضمن «عالمية الاستهلاك». وما قوله بأن العالم هو قرية البشر جميعًا إلا تأييدًا للفتوحات الاستعمارية، حيث إنها تستهدف الاستيلاء على موارد البلاد المتخلفة «فما دامت لا تستطيع استغلالها على نحوٍ مُرضٍ، كان الأوروبيون يستطيعون استغلالها على نحو أكثر رضًا». وأغفل بذلك أن «تأخر» هذه البلاد ليس شيئًا جامدًا، فالتقدم العلمي يسهم مع الشعوب في السيطرة على ظروفها، وبالتالي على مواردها.

ولم يكن ويلز — فيما كتب من قصص — يُعنَى كثيرًا بالشكل الجمالي لأعماله الفنية. وقد كتب قصته «الحرب بين الكواكب» معبِّرًا عن شهوة الاستغلال الكامنة في محتوى النظام الرأسمالي. وربما كانت هذه القصة هي التي ألهمت سلامة موسى التعرف الحقيقي على ويلز، حيث قال في ندوةٍ أدبية: إن الكاتب — أي ويلز — لم يولِّد فينا إحساسًا مضادًّا للحرب، بل أحسسنا أنه يلتذُّ لتلك المعركة الخرافية بين الكواكب — بعد أن يستولي عليها البشر — وهذا تعبير مباشر عن أن ويلز كان يمثل روح المجتمع الرأسمالي النهِمة المُولَعة بالافتراس والحرب.٦

يقول سلامة موسى (ص٧٧): «كان من حظي الحسن أن هبطْتُ على الأدباء الروس، وأنا في حوالي العشرين، فارتفعت بذلك إلى مستوى من التقدير للفنِّ القصصي، جعلني في مستقبل عمري أتأنَّق وأحجم عن قراءة تلك القصص الإنجليزية والفرنسية والأمريكية التي لا ترتفع إلى مقام المؤلفات العظيمة التي كتبها تولستوي، ودستويفسكي، وجوركي، وجوجول، وتشيكوف، وتورجنيف.»

أما دستويفسكي — بالذات — فقد تأثر به سلامة موسى لاعتبارين هامين؛ أولهما: أن جميع قصص دستويفسكي دعوات إلى الخير والحب والتضحية. وثانيهما: حبه المسرف لشخصية المسيح، حتى إنه قال ذات مرة في حماسٍ مفرطٍ: «لو أن أحدًا قال لي إن المسيح يجافي الحق، ولو أن هذا القول كان صحيحًا، لآثرت البقاء مع المسيح على التزام الحق.»

ولا شك أن الإطار الفني الرائع الذي صبَّ فيه دستويفسكي هذه المعاني، هو الذي أسكر سلامة موسى بخمر لم تبارح فمه؛ لأن تلك الغلواء في التعبير عن الحب احتلت منه مكان القلب. فأمثال دستويفسكي وتولستوي «يحبهم» سلامة بقلبه؛ لأنه يحس بالراحة نحوهم والاطمئنان في أحضانهم، وكأنهم قوة روحية تبعث إلى الرضا، حتى إنه يصف تولستوي بالأبوة.

ومنذ أن صدر كتاب «هؤلاء علموني» وأنا في نقطة خلاف هامة مع أستاذي سلامة موسى. إنه يؤكد أن من الممكن للإنسان أن يحب الكاتب بقلبه دون عقله كما فعل هو نحو تولستوي ودستويفسكي. ولكني أرى أن الكاتب أو المفكر أو الفنان ليس من الأشياء التي تُحَب أو تُكرَه بالقلب دون العقل … ذلك أننا لا نحب الكاتب لذاته، وإنما للتأثير أو التغيير الذي يحدثه في الجماهير القارئة، فنحن حين نحبُّ، إنما نحبُّ هذا التأثير أو التغيير.

والسؤال الآن: ما هو التأثير أو التغيير الذي أحدثه دستويفسكي أو تولستوي حتى يكونا جديرين بحبنا؟

لقد أجاب سلامة موسى على هذا السؤال في نهاية مقاله الأخير في جريدة الأخبار، كان يعلِّق على فيلم «الأخوة كرامازوف» قائلًا: إن دستويفسكي لم يعد بَذرة صالحة لتربتنا المكافحة، لقد أصبح «سُمًّا» وعندنا المصل الواقي في الإنسان الكبير جوركي. ولعله أراد بذلك التنويه أن يعتذر عن ترجمته لجزء من الجريمة والعقاب عام ١٩١٢م، رغم أن الرواية وظروفنا التاريخية في ذلك الوقت، ما كانا يصنعان ضررًا على أجيالنا.

وقد كانت الأحداث وحدها — في رأي سلامة — هي السبب في إبقاء دستويفسكي على إيمانه المطلق بالمسيحية، فقد حدث أن أُلقِيَ عليه القبض لاشتراكه في مؤامرة لترجمة أحد كتَّاب أوروبا، وفي لحظة الإعدام أقبل رسول القيصر يحمل «العفو»، وكانت هذه المفاجأة سببًا في تقوية إيمانه المسيحي.

والمتعة التي يجدها سلامة في مرافقة دستويفسكي هي أنه لم يقف عند أعتاب المسيحية جامدًا، بل أخذ منها الجانب المضيء البنَّاء، وهو الدعوة للتضحية والحب، وجعل منها رسالته لإسعاد البشر. ولا يختلف التقديس العلمي للإنسان عنه عند الكاتب الروسي إلا في الوسيلة فقط، فهو يرى الإنسان «أفضل المخلوقات»، والعلم يرى أنه «أفضل الموجودات»، وكلاهما يسيران في طريق واحد، وإن اتبع أحدهما جانبًا، واتبع الآخر الجانب المقابل.

والتحليل السيكولوجي العميق الذي انتهجه دستويفسكي في تشريح شخوص قصصه يتوقَّف عند حد التحليل دون التعليل، والتشريح دون التبرير، والفن دون العلم. وهذا هو الدور الطبيعي للفنان، وهو يختلف عن دور العالِم. ولذا فإننا نقول إن سلامة موسى أخذ عن دستويفسكي الأضواء والظلال في انعكاسها على النفس البشرية، بينما أخذ عن فرويد النفس البشرية ذاتها.

وفرويد إحدى الخمائر الهامة في حياة سلامة، فقد أثبت هذا المفكر أن النفس البشرية ورثت وظائف وحشية قديمة، وأننا نألم ونبتئس لأننا في صراع لا ينقطع بين هذه الوظائف الطبيعية القديمة وبين قيود الحضارة التي تمنعنا من ممارستها. ونستطيع أن نلحظ «التطور» كمنهجٍ نفسي للبحث عند فرويد. وهناك حقيقتان تتفرعان عن نظرية فرويد هما: أن الشهوة الجنسية هي الحافز الأول للنشاط البشري … وأن مستقبلنا الأخلاقي والمزاجي والعاطفي يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على أيام الطفولة الأولى.

وبالرغم من أن سلامة موسى درس تلاميذ فرويد: أدلر ويونج وريفرز، إلا أننا نلاحظ في آثاره الفكرية٧ تأرجحًا ملحوظًا بين المدرسة السلوكية الأمريكية بقيادة واطسن، والمدرسة العلمية الحديثة بزعامة بافلوف. فالمدرسة الأمريكية لا تؤمن بالانفعالات النفسية في حدِّ ذاتها، وإنما تحلِّل النشاط الإنساني على أساس فسيولوجي، وربما كان هذا الاتجاه «رد فعل» للاتجاهات الميتافيزيقية في ميدان علم النفس، ولكنه اتجاه ميكانيكي جامد ينأى عن الواقع النفسي للبشر. ومدرسة بافلوف أكدت مشاعر الإنسان وانفعالاته النفسية، وإن علَّلتها بالظروف البيولوجية والاجتماعية المحيطة به.

وتعريف فرويد للضمير الإنساني ينبعث من صميم النظرية، إذ يصفه بأنه مجموعة من المحظورات تعلمناها منذ الطفولة. والحق أن فرويد كاد ينتحي جانب الصواب لو أنه رافق الإنسان في مراحل حياته المختلفة، ودرس مجموعة ظروفه الخاصة … حينذاك كان يدرك أن الضمير البشري يتطور مع الفرد بما يتلاءم مع تلك الظروف.

ومركَّب أوديب الذي اشتُهر به العالِم النمسوي، يتلخَّص في أن الطفل يحبُّ أمه حبًّا جنسيًّا منذ أيام الرضاعة الأولى حيث يتمسح بها في لمساتٍ جنسيةٍ.

وسلامة موسى لم يوافق أستاذه في كل ما قاله، بل هو يعترض عليه في عدة نقاطٍ رئيسية:

  • فإيمان فرويد بأن لنا غرائز موروثة ثابتة يُعتبَر شططًا؛ لأنه أغفل قيمة المجتمع والبيئة في تغيير العادات الذهنية والاجتماعية للإنسان.

  • مركَّب أوديب، لا يجب بالضرورة أن يؤكده كعقدة جنسية، فالطفل يغار من أبيه فعلًا، ولكنها ليست غيرة جنسية تمامًا، أي إن مركَّب أوديب ليس ميزان النفس البشرية.

  • الأفكار البشرية جميعها، إنما هي رجوع انعكاسية مكيفة أي معدولة عن الرجع الأصلي. وسلامة هنا يتَّفق مع بافلوف.

حقيقة الأمر أن فرويد وسلامة كليهما كان في حاجةٍ واضحةٍ إلى كلمات العالم الألماني مورجان حيث أوضح في بحثه المسهَب الجذور البعيدة لأصل العائلة، وكشف عن حقيقة العلاقة التاريخية بين الابن من جانب ووالديه من جانبٍ آخر، وهي علاقة في منتهى التعقيد تتناسب طرديًّا مع تقدُّم المجتمع الإنساني على مر العصور. وتتصل بتطوُّر المِلكية الفردية مع الأنظمة الاجتماعية المختلفة.

ولكن هذا الاختلاف الواضح البيِّن بين المعلم وتلميذه، لم يَدَع سلامة إلا أن يقول (ص١١١): «كان فرويد بمثابة الخميرة التي بعثت عندي سلسلة من الأفكار لمَّا تنته حلقاتها، وهذا هو أكبر فضله في تربيتي.»

وكما توصل فرويد إلى أن سلوكنا الحاضر يرتدُّ إلى أيام طفولتنا الأولى، فقد اهتدى سلامة موسى إلى الرجل الذي يعيد حضارتنا الإنسانية الحاليَّة إلى جذر واحد هو: مصر.

هذا الرجل هو إليوت سميث، وكان مدرسًا بطبِّ قصر العيني، ولكن هوايته شغلته عن مهنته، فاحترف هذه الهواية بشغفٍ وهي «تاريخ مصر».

ونقطة البداية عند سميث أن الإنسان البدائي في مصر كان يجمع الطعام من الغابات. ثم رأى، على توالي السنين، أن فيضان النيل يعمُّ الوادي في مواعيد منتظمة كل عام، حتى إذا انحسر انطلقت النباتات تكسو الأرض بخضرتها، فكان يجد فيها طعامًا. وفهم بالتَّكرار أن الماء أصل الحياة، وهو أصل النبات، فشرع يحتجز الماء هنا ويطلقه هناك، ويضبط الري. وهذه هي الهندسة الأولى.

وظهر عندئذٍ التخصص: مهندسون ينظمون الري، وفلكيون يعينون أوقات الزراعة. وهؤلاء لا يزرعون، وإنما يعيشون بالفائض من المحصول. وهنا تنشأ الحكومة يرأسها مهندس أو فلكي تنسب إليه صفات الألوهية، إنه يدري ما لا يدريه غيره من الهندسة والفلك، كأنه ملكٌ أو إلهٌ، فإذا مات صار قبره معبدًا، وهذا هو الدين البدائي.

والأرض الزراعية تحتاج إلى حدود تُحتَرم من الجيران، وإلى محكمة تعاقب المعتدي، وإلى صناع للآلات الزراعية. ونشأت بذلك الحكومة والتجارة والفنون … والحضارة الأولى.

والمرحلة الثانية من بحث سميث هي كيفية انتقال هذه الحضارة من مصر إلى بقية أنحاء العالم. ويقول سميث: إن الوسيلة في ذلك هي البعثات المصرية التي كانت تسافر بقصد التجارة إلى البلاد الأخرى. ويستشهد في هذا الصدد بما عُثِرَ عليه في بلادٍ كثيرةٍ من آثار وكلماتٍ ومعابدَ وعاداتٍ مصرية.

وعلاقة الحبِّ التي نشأت بين سلامة وإليوت سميث ليست بدافع وطني كما يظن الباحث لأول وهلة، وإنما بدافعٍ بشَري. والخط الرئيسي الذي ينتظم دراسة سميث هو أن الوسط البيئي — وليس الذكاء الخارق! — هو ما هدى المصريين إلى الزراعة، فالاستقرار، فالحضارة الأولى. ولولا وجود نهر النيل بمواعيده الثابتة، ما كان للمصريين هذا السبق.

يقول سلامة (ص١٢٠): «لم أكن أنبعث في دراساتي للفراعنة بباعثٍ وطني، ولم يكن لفتوحات تحتمس ورمسيس وأمثالهما ذلك الوقع الذي يُحسُّه أولئك الذين يستخدمون التاريخ لإشعال الوطنية. بل كذلك لم تكن دراسة التاريخ عندي محض السرد للقصص والتراجم والحروب. وظني أنه لو لم يكن وراء دراسة الفراعنة هذه النظرية القائلة بانتشار الثقافة من بؤرة الضريح المصري لما كان التفاتي يزيد على المطالعة العابرة. ولكن هذه النظرية كانت تحوي العديد من المركَّبات الثقافية التي جذبتني وحملتني على التفطُّن لأصول الحضارة، ومن هنا إغراؤها القوي لاستمرار الدراسة. وإحساسي نحو الفراعنة لذلك هو إحساس بشري وليس وطنيًّا.»

وفي مكانٍ آخر (ص١٢١) يؤكد أن «الحضارة عالمية، قد أسهم كلُّ شعبٍ بنصيبٍ فيها، وإذا كان للمصريين فضل الاختراع للكتابة، فإن للهنود فضل الاختراع للأرقام، ولولا الإغريق ما كان للمنطق أن يتغلَّب على العقيدة، ولولا الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية العربية لما تعارفت الشعوب هذا التعارف الذي انتهى بوجداننا البشري الحاضر.»

•••

راودني هذا السؤال كثيرًا، وأنا أقرأ كتاب «هؤلاء علموني»: هل هؤلاء فقط هم الذين علموا سلامة موسى؟ الكتاب نفسه يجيب: لا! إذ إن مئات الكتب التي أكبَّ عليها خلال حياته العريضة، تحمل أكثر من الثمانية عشر اسمًا الذين احتواهم هذا الكتاب.

وقد نعلِّل ذلك بأن أصحاب الأسماء التي وردت في هذا الكتاب، هم الجذور الأصلية لثقافة الرجل، وهم البذور والخمائر الأولى التي رسمت الخط الرئيسي الأول في خريطة حياته. وهذا صحيح، وإن كان هناك اسمان لا أشك مطلقًا في أن صاحبيهما كانا على صلةٍ عميقةٍ للغاية بسلامة موسى، وأُدهَش كثيرًا حين أجده لا يذكرهما في فصلين مستقلين، رغم أنه ردد ذكر أحدهما مرتين، وفي عدَّة صفحات، بينما وصف الثاني بأنه أحدث انقلابًا في تفكيره كله.

هذان الاثنان هما: تولستوي وماركس. والأول كان له الأثر الكبير في حياة سلامة وتفكيره، حتى إنه يلقبه ﺑ «بابا تولستوي». وقد أوغل في ذلك لدرجة أنه كان يتحدَّث عن غاندي مثلًا، وحين يذكر مزرعته التي أسماها «مزرعة تولستوي» ينسى غاندي تمامًا، ويبدأ في الحديث عن تولستوي، وهو حديث غرامي ملتهب بين رجلين يقدسان الشهوات الذهنية تقديسًا كاملًا. وكذلك الحال حين تحدث عن هنري ثورو، فقد استطرد — بطريقة مغرية — في التحدث عن تولستوي وحياته ومأساته. فلماذا لم يكتب فصلًا مستقلًا عن تولستوي؟ لقد صدر هذا الكتاب عام ١٩٥١م، ويبدو أن سلامة موسى تنبه إلى هذه النقطة؛ فقد ألقى محاضرة كاملة بعد ذلك التاريخ عن تولستوي والآثار الذهنية التي أوحى بها إليه.

والمعلم الثاني الذي نسيه المؤلف هو كارل ماركس. والتأثير الضخم الذي حفره هذا المفكِّر في قلب سلامة وعقله لا سبيل إلى إنكاره. حتى إنه في أحد كتبه٨ يصفه بأنه أعظم فيلسوف في الوجود. ثم هو يقول في غمرة حماسه لنظرية سميث: «ولا يعدل هذه الغبطة عندي سوى اهتدائي إلى نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ.» فنحن نرى أن هذه النظرية الأخيرة هي الميزان الحساس الذي يزن به سلامة كل ما التقى به فيما بعد — وفيما سبق — من نظريات. والنظرية في حياة كاتبنا لا تكتمل إلا بالتطبيق، وهنا نلمس مدى الخطورة الموضوعية لنظرية ماركس من حيث اقترانها عند سلامة بالتطبيق العملي. ومع ذلك فلم يفرد عنه للأسف عدة صفحات نستمدُّ من خلالها الأثر السيكولوجي لعثوره على هذا المعلم. ولكنه عاد في كتابه «تربية سلامة موسى»،٩ فاعتذر عن موقفه هذا بأن الفترة التاريخية التي نشر فيها كتابه ما كانت تسمح له بتلك الصفحات.

وقد كان المؤلف صادقًا كل الصدق، إذ اقتصر بعد ذلك على من ذكر من معلميه. فجميع مؤلفاته تثبت أنه شغل بهم وبحياتهم وبنظرياتهم طول العمر. فهو يكتب مثلًا كتابًا كاملًا عن «برنارد شو»، وكتابًا عن نظرية إليوت سميث، وكتابًا عن «العقل الباطن» كما قدمه فرويد وتلامذته، وكتابًا عن «غاندي والحركة الهندية» وترجم جزءًا من رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب».

ومن هنا نستدلُّ على أن صلة المفكر المصري بأساتذته هي علاقة حبٍّ وصداقة ووفاء يدوم العمر، وأن آثارهم السيكولوجية التحمت بدمه وأكسبته دلالاتٍ حية.

ومن تلك الدلالات الإيجابية نظرته التطورية للموجودات، التي رافقت سلامة موسى منذ تلقفها من داروين إلى أن تهذبت النظرية نفسها فيما بعد على أيدي من تلاه من الفلاسفة والعلماء. وقد أكسبت هذه النظرية سلامة موسى روحه العلمي في التعرف على الأشياء، وأسلوبه التجريبي في علاج مشكلاتنا.

وبواسطة جوته استطاع أن يكون موسوعيَّ الثقافة، كما يتضح من مؤلفاته العديدة في الأدب والفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم النفس والبيولوجيا.

ومن ويلز اتخذ من الصحافة منبرًا حيًّا لتبسيط أفكاره وعرضها في وضوح.

وكان سلامة في كل ذلك إيجابيًّا حين أفاد من أساتذته نظرياتهم وفلسفاتهم. حتى إنه نقل عن هافلوك إلِيس طريقته التجريبية، فدعا إلى أن يكون إلغاء البِغاء في مصر بالتجربة العملية، أي أن نُلغيه في مكانٍ ما ونُبقي عليه في مكانٍ آخر، ونسجِّل مدى ما سيحققه الإلغاء من نجاحٍ أو فشل.

ومع أن سلامة موسى قد رافق الجاحظ وابن رشد وابن سينا وغيرهم من المفكِّرين العرب العظماء إلا أنه لم يذكر واحدًا منهم ضمن الذين علموه. والحق أن الرجل — كما قلت — لم يذكر سوى الذين خططوا منهج حياته الفكرية، ولم يكن من هؤلاء مفكِّر عربي؛ لأن ظروف النشأة الاجتماعية لسلامة موسى لم تتح له فرصة اللقاء المباشر مع الفكر العربي. فقد سافر إلى أوروبا في سنٍّ مبكِّرة (١٦ عامًا)، وما إن عاد إلى مصر حتى كانت حياته قد أخصبتها تيارات الفكر الأوروبي الحديث التي لا تلتقي مع تيارات الفكر العربي القديم.

ملاحظة هامَّة نخرج بها من القراءة السطحية لكتاب «هؤلاء علموني»، هي ما نلمسه من «خروج عن الموضوع» في بعض فصوله. والحقيقة المتأنية هي أنه ليس خروجًا عن الموضوع، بقدر ما هو «خروج عن الشكل»، فقد تستوجب الفكرةُ التي يعالجها الاستشهادَ بمثَل معين أو ذِكر حادثة معينة، فليس هناك من خطأ حين يذكر هذا المثل أو تلك الحادثة، ولكن الخطأ هو أن يستطرد في تسجيل الملابسات والظروف التي صاحبت المثل أو الحادثة. ويتضح هذا بشكلٍ ظاهرٍ في حديثه عن ثورو وغاندي، وجنوحه إلى حديثٍ طويلٍ مسهَبٍ عن صديقه تولستوي. حقًّا إنه من الواجب أن يذكر تولستوي عند الكلام عن غاندي، فقد تأثَّر هذا الأخير به حتى إنه أنشأ مزرعة باسمه، ونفس الموقف — أو يشبهه — بالنسبة لثورو، ولكن هذا لا يوجب الاستطراد الذاتي الذي لا يزيد القضية تأكيدًا.

والملاحظة الهامة الثانية للقراءة العميقة — هذه المرة — للكتاب، تقرنا على أن ملامح معينة، أو سماتٍ محددة، تكاد تكون طابعًا عامًّا مشتركًا بين كلِّ الذين علموا سلامة موسى رغم الفروق المذهبية الشاسعة التي قد تفرق بينهم.

وأولى هذه السمات هي «الثورة» فقد كانوا جميعًا ثائرين، سواء في ميدان العلم أو الأدب أو الفلسفة أو التاريخ أو النفس أو الدين.

والسمة الثانية هي «الحرية» التي مارسها جميعهم في حياتهم وتفكيرهم، وما انتهوا إليه من فلسفات.

وأخيرًا «العلم» الذي طبع كلَّ أفكارهم، بالبساطة والوضوح والتجربة العلمية، وتصفية الحقائق من المعارف.

والملاحظة الثالثة، أن الكتاب الأول الذي كان يُولِيه سلامة عنايته الكبرى، حين يتعرف على أحد المؤلفين، هو «حياة» هذا المؤلِّف، والعبرة الفلسفية التي استخلصها من خبراته وتجاربه في الحياة. وهذا هو التفسير الواقعي لحياة سلامة موسى التي تكاد تكون سيمفونية رائعةً من الفلسفة والعلم والحبِّ. لقد تعلم الرجل أن يحيا حياته. وهذه هي الدعوة التي تنعكس في كلِّ مؤلفاته: أن نعيش حياتنا.

١  هذا النص، والنصوص التالية، مأخوذ من كتاب «هؤلاء علموني» نشر الخانجي بالقاهرة ١٩٥١م.
٢  المقتطف، مجلد عام ١٩٠٩م.
٣  راجع كتاب «المرأة ليست لعبة الرجل» لسلامة موسى.
٤  راجع كتاب «الشخصية الناجعة» لسلامة موسى.
٥  انظر «التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث» لسلامة موسى.
٦  بالمركز الثقافي السوفييتي بالقاهرة عام ١٩٥٧م.
٧  العقل الباطن، عقلي وعقلك، محاولات سيكولوجية، دراسات سيكولوجية، السيكولوجية في حياتنا اليومية.
٨  كتاب «برنارد شو»، الطبعة الأولى، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ١٩٥٧م.
٩  الطبعة الثانية، ١٩٥٨م، الخانجي بالقاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤