الفصل الثالث

في معبد التطور

لسلامة موسى عدة رؤى — أو يُوتُوبْيات — تومئ لنا بالصورة التي يرغب أن يكون عليها الكون في المستقبل. وفي رؤياه الأولى التي كتبها عام ١٩٢٦م يتخيَّل ديانة الإنسان القادم بأنها ستمارَس في معبد كبير يضمُّ رسومًا تمثل تدرج الحياة من الكائن الحي الأول إلى الإنسان. وإلى جانب هذه الرسوم كُتِبَت عدة عباراتٍ لبعض الفلاسفة الذين تنبَّئوا عما سيكون عليه مستقبل الجنس البشري. وعلى أحد الجدران تمثل الرسوم ارتقاء الصناعة من العصر الحجري إلى ذلك العصر البعيد (عام ٢٣٠٥). وعلى جدارٍ آخر لوحة كبيرة لكوكب الأرض، يقف عليها واحد من البشر يتأمَّل الفضاء الهائل. ويقول سلامة: إن الإنسان يتوجه إلى هذا المعبد «ليتبين قصده في الحياة» ويتَّصل بالكون عن قرب، بغية العثور على معنى الوجود ودلالة التاريخ.١
والحق أن هذا التصور لم يكن رؤيا حالمة، كما يبدو لأول وهلة، بل كان تعبيرًا عن نظرة خاصَّة لمعنى التطور الكامن في مختلِف أشكال الحياة، في الطبيعة والمجتمع. هذه النظرة الخاصة التي صبغت رؤيا التطور عند سلامة موسى منذ قال إن الإيمان بنظرية التطور كان نوعًا من التفريج والانتقام٢ «التفريج عن الكظوم التي ترهق الذهن بالقيود والسدود.» أي تلك الأغلال التي سجنت العقلية العربية زمنًا، بالقيم الإقطاعية في الأخلاق والعلم، والمناهج الاستعمارية لفهم الفلسفة والتاريخ.

فقد كانت أوروبا في بداية القرن العشرين تغلي بثوراتها المتوالية في مجالات التكنولوجيا، وانعكست هذه الثورات على البلدان المتخلِّفة بتحويلها في المجال الاقتصادي والسياسي إلى مناطق للنفوذ الإمبريالي، وإذابتها على المستوى الاجتماعي والفكري في طوفان الفلسفات والآداب والنظريات الاجتماعية، التي تسدُّ الطريق أمام المتخلِّفين إذا أرادوا التقدم. وتفتح الطريق أمام الصفوة الممتازة من أبناء أوروبا لفتوحات نهاية القرن التاسع عشر.

وليس شك أن تاريخ المجتمع الإنساني منذ العصر العبودي إلى المجتمع الرأسمالي الحديث، قد عرف هذه الفلسفات العنصرية، فيقول أحد فلاسفة الإغريق إن هناك جماعات من الناس وُلِدَت كي تصبح آلاتٍ خاضعةً لمشيئة العباقرة. وفي تاريخ اليهود المتَّسم بالتعصُّب القومي إشارة إلى المكانة الممتازة لشعب الله المختار.

وفي العصور الوسطى، لاءم العنصر الأوروبي المسيحي بينه وبين العنصر الإسرائيلي محقِّقًا إرادة يهوه في السعي من أجل أرض الميعاد (توينبي).

وأكثر من ذلك نرى القرن الثامن عشر الذي ندعوه بعصر التنوير، يقول أحد فلاسفته بفكرة الاستمرار التاريخي للصفات الوراثية حين يصرخ: «سيظل الصينيون هم الصينيون» (هردر). وأمام الهزة العنيفة التي أحدثتها الثورة الفرنسية، وجد الرومانسيون الألمان والفرنسيون والإنجليز أن أعظم عمل مضادٍّ لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة هو مزيدٌ من التمسك بالتمايز التاريخي والتفرد القومي (فيوتر).

وفي تصنيف لينوس يتربع الإنسان على رأس المملكة الحيوانية «وهو مثل الأنواع الأخرى ينقسم إلى فصائل، وهذه الفصائل دائمة وثابتة.»

وفي منتصف القرن الماضي أكد الكونت دي جوبينو أن الجنس الأشقر الطويل هو الجنس الوحيد الخلاق بين الأمم. وتبلورت هذه النظرات الاجتماعية في علم التاريخ على يدَي كارليل في كتابه عن «البطولة والأبطال».٣

ومعنى ذلك أن الفلسفات والنظريات الاجتماعية الأوروبية التي عاصرت القرن التاسع عشر في تبرير الفتوحات الاستعمارية، وتدعيم الرأسمالية العالمية، كان لها من التراث الفكري — على مدى تاريخ المجتمع الطبقي — ما يجعل من الفلسفات البرجوازية التي أفادت شيئًا من نظرية التطور، تعبيرًا طبيعيًّا عن إحدى مراحل المجتمع الطبقي، ولا يجعل من هذه النظرية نفسها تعبيرًا طبقيًّا.

أي إن الكتابات التي حاولت أن تربط بين الداروينية وأزمة المجتمع البريطاني، كانت تنطلق من مسلَّمةٍ خاطئةٍ هي أن العلم تعبير طبقي عن المجتمع، شأنه في ذلك شأن الآداب والفنون والمبادئ السياسية والقيم الاجتماعية … إلخ. ولا شك أن النظريات العلمية واكتشافات العلماء واختراعاتهم، تعبر عن حاجة اجتماعية ملحة، ولكنها لا تنضوي بحالٍ تحت لواء البناء العلوي للمجتمعات، والذي يشتمل على المبادئ والقيم والأفكار. وفي عبارةٍ أدقَّ نقول: إن العلم مستقلٌّ عن الطبقات، وغير مستقلٍّ عن المجتمع. ومن هنا لا تكون نظرية التطور في المرحلة الداروينية تجسيدًا لأزمة البرجوازية الإنجليزية، كما تصور الكثيرون من الكتَّاب الأوروبيين والعرب.٤

أما الانعكاسات التي ظهرت على الفلسفات الأوروبية نتيجة احتكاكها — بشكلٍ أو بآخر — بنظرية التطور، فقد اختلفت من مفكرٍ إلى آخر، ولكنها جميعًا كانت تلتقي في نقطةٍ واحدة، هي تدعيم الأسس الفكرية للنظام القائم. وعلى غير هذا النحو كان الفكر العربي يستقبل هذه النظرية في بداية القرن العشرين.

وبالرغم من أن الفكر العربي القديم عرف «التفكير» في التطور، كما نلحظ في قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، و«عجائب المخلوقات» للقزويني، و«الفوز الأصغر» لابن مسكويه … إلا أنه لا يمكن أن يقال إن الحركة الفكرية التي اشتعلت نيرانها بنظرية التطور في أوائل هذا القرن بالمنطقة العربية، ترجع إلى ذلك التراث البعيد، فإن أغلبه يكتفي بالإيماءة الحيِيَّة دون التمحيص العلمي. ولذلك فإنني أعود بتيار «المقتطف» وشِبلي شُميِّل وسلامة موسى في الانغماس الذهني في هذه النظرية إلى اطلاعهم المبكر على ثمار الفكر الأوروبي، الذي كان يعتبر «الاشتغال» بنظرية التطور بمثابة الذروة المتألقة على جبينه آنذاك. غير أن معنى التطور عند الفكر الأوروبي ذلك الوقت، كان يختلف كيفيًّا عن معناه لدى الفكر العربي.

ففي أوروبا، استقبله هربرت سبنسر بقوله إن المجتمع الإنساني ليس شبيهًا بكائنٍ عضويٍّ بل هو كائنٌ عضوي فعلًا، وإن المجتمع لذلك يخضع في تطوره لذات القانون أو القوانين التي تخضع لها الكائنات العضوية في تطورها. ولما كان «تنازع البقاء» واحدًا من القوانين التي فسر بها داروين تطور الأحياء، فقد كانت المباراة الاقتصادية والاجتماعية هي المبادئ الأساسية للفلسفة البرجوازية في بداية العصر الإمبريالي.

غير أننا في مصر نتحسس معالم مرحلة تاريخية تختلف في خطوطها العامة وتفاصيلها الدقيقة عن معالم الحضارة الأوروبية حينذاك. فقد كانت المنطقة العربية تغطُّ في نومٍ عميقٍ، تثقل كاهلها أغلال القيم الإقطاعية، وقيود الاحتلال الأجنبي. فالتناقض بين سلامة موسى والمجتمع العربي في مصر هو التناقض بين ابن الطبقة المتوسطة النامية في ضعفٍ ووهنٍ وبين السلطة الإقطاعية المتحالفة مع الاستعمار البريطاني. فإذا انتقلنا بالتناقض من المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلى المستوى الفكري، لاكتشفنا أن انعكاس نظرية التطور على الحركة الفكرية المصرية، هو «التفريج عن الكظوم»، هو «الانتقام»، هو الثورة العارمة على الغيبيات والثقافة الدينية، هو تحويل معنى التطور إلى دينٍ جديد. وهذا هو السبب في أنه لم تزدهر مدرسة فكرية للتطور في ذلك الحين، بينما كانت أوروبا — كما قلت — تغلي بهذه النظرية. وهذا السبب بعينه كان نقطة الانطلاق عند سلامة موسى في تمثُّله لدلالة التطور تمثُّلًا دينيًّا، أي بإحساسه للتطوُّر إحساسًا دينيًّا «فالإحساس بحقيقة التطور هو نوع من الديانة الطبيعية، بها نشعر أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة نشترك وإياها في وحدة وجودية.»٥ وليس هذا دينًا جديدًا فحسب، بل هو فهم جديد للتاريخ «الذي كنا نعده بضع مئات من السنين، قد صرنا الآن نَعُدُّه بمئات الآلاف من السنين. وكنا قبلًا نعرف من التاريخ وقائع الحروب وأخبار الملوك، فصرنا الآن نطلب من التاريخ أن يدلَّنا على تطور الأسرة والقبيلة، بل تطور الزراعة والصناعة والحضارة.»٦ هذا الذي يطلبه سلامة موسى من التاريخ هو ما سبق أن صوَّره في ذلك المعبد الكبير، في يوتوبياه الأولى. وهذا هو الانعكاس الأول والأساسي لنظرية التطور في حياة سلامة الفكرية. إذ هي لاقت في نفسه استجابة حارَّة للتناقض بين الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها — وهي لا تهبط إلى حضيض الفئات الكادحة ولا ترتفع إلى مستوى الفئات المستريحة — وتمثلت هذه الاستجابة في نداءاته الأخرى بشأن حرية المرأة والتصنيع والعلم، وجميعها شعارات برجوازية في بلدٍ مستعمرٍ وشبه إقطاعي. وكان الوجه الفلسفي لهذه الدعوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هو الثورة العنيفة على التقاليد والغيبيات، بل الدعوة لأن يصبح التطور دينًا جديدًا يتخذ في قلوبنا وعقولنا قداسة الأديان «السماوية». وإنني حين أصف الانعكاس الأساسي لنظرية التطوُّر على وجدان سلامة وفكره، فإنما أعني بالتحديد ذلك المحور الرئيسي الذي تدور من حوله حياته كلها، والذي انبثق عن طبيعة التناقض بينه وبين المجتمع، فأصبح ينظر إلى التطور باعتبار أنه «المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق الماضي المبهم ويرسم لنا مصير الإنسان.»٦ أي إن نظرية التطوُّر بما تتضمَّنه من فهمٍ جديدٍ للحياة والكون والإنسان، كانت بديلًا وجدانيًّا عند سلامة موسى، وصفه وصفًا دقيقًا، فقال: «أذكر أني، وأنا دون العشرين، أحسست أن نظرية التطور تأخذ مكانًا دينيًّا في نفسي، وأنها قد حمَّلتني واجبًا روحيًّا. وقد نما هذا الواجب في نفسي إلى واجباتٍ. ذلك أن آفاق الحياة لم تتسع فقط بنظرية التطور، بل زادت في العدد واللون، كما شسع بها تاريخ البشرية شسوعًا عظيمًا. ذلك أننا قد فهمنا من هذه النظرية أن كل حيٍّ على هذه الأرض لا يقل عمره عن ٧٠٠ مليون سنة. لأن كل إنسان قد كان في وقتٍ ما طينة نبضت بالحياة، فإذا به فيروس ثم أميبة مفردة ثم أميبات متصلة متعاونة، ثم حيوان رخو بلا رأس، ثم سمكة، ثم زاحفة، ثم حيوان لبون، ثم قرد، ثم إنسان، ثم هذا الإنسان سوف يكون سوبرمانًا.»٧ وبالتالي فهو يكتسب مجموعةً جديدةً من القيم والأخلاق، تحل مكان القيم والأخلاق القديمة، أي إنه يكتسب ضميرًا روحيًّا جديدًا يركن إليه القلب وتهفو نحوه النفس، ولكنه يغاير ضميره القديم الذي قام المجتمع بصياغته له من قبل أن يُولَد في أحضان القيم الإقطاعية والأخلاق المسيحية والثقافة الاستعمارية. وإذا كان الضمير القديم في الماضي قد دفع به لأن يترسم طريقًا محدَّدًا في الحياة، فقد دفعت به نقطة التحوُّل التاريخية في ضميره الجديد لأن يترسَّم طريقًا جديدًا للغاية. وفي ذلك يقول: «كانت نظرية التطور التي فهمت مغزاها من المقتطف، البَذرة الخِصبة في ثقافتي، فقد أكسبتني معرفة وأسلوبًا، وعيَّنَتْ لي أصدقائي وخصومي من المؤلِّفين والمفكرين، وغرست في نفسي مزاج الكفاح لأنها تصدت للعقائد والتقاليد، وقد تشعع من هذه البؤرة إلى موضوعات أخرى، ولذلك لم أسعد قطُّ بالبرج العاجي. كما أن مغزاها الخطير في التفكير العلمي والاجتماعي جعلني دائم الشكِّ كبير الاستطلاع والمساءلة، وتغيرت الأوزان والقيم عندي، وأخذت بقيم وأوزان جديدة.»٨ وهكذا يستتبع الانقلاب الضميري عناء البحث الجادِّ عن «منهج» جديد للفكر والحياة. وهذا ما صنعه سلامة موسى — أو ما صُنع به — من اللحظة الأولى، فلم تكتف نظرية التطور بأن تكون ضميرًا دينيًّا له، بل كانت له في نفس الوقت منهجًا للتفكير هو أنه «ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع استقرار؛ لأن التطور هو أساس هذه المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود، وإن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة.»٨
وهذه هي صلاة سلامة موسى في معبد التطوُّر: «إني أُومِن بنظرية التطور، وربما كان أكبر ما يدفعني إلى الإيمان بها أنها ليست من الحقائق العلمية فقط، بل إنها نظرية الرجاء والتواضع؛ ومعنى ذلك أني أُومِن بها للغريزة الدينية التي في نفسي، ففي نفسي عطش إلى الأبدية ولست أرتاح إلى أن يكون هذا الإنسان الراهن، على ما في جسمه وعقله من خلل ونقص، خالدًا، ولا إلى أرضنا مركزًا للكون. وإنما أرتاح إلى الرجاء بأن الإنسان في المستقبل سيكون ضخم الرأس جميل الجسم فيلسوفًا بطبعه لا ينظر إلينا نحن آباءه إلا كما ننظر نحن إلى الحيوان، فهذا النظر يملؤني رجاء ويحثُّني على الصَّلاح والتقوى، ثم إن معرفتي بتطور المادة والعوالم تملؤني تواضعًا وخشوعًا في هذا الكون بدل ذلك الصلف المؤذي الذي يملأ رءوس أولئك الذين يحسبون الأرض مركزًا للكون.»٩ وعلى ضوء هذه الصلاة، نرافق تطور معنى التطور عند سلامة، نرافق ضميره الروحي ومنهجه الفكري على السواء.
ولعل الاختلاف بين منهج الفكر الأوروبي في الاستجابة لنظرية التطور، ومنهج الفكر العربي في بداية القرن العشرين، هو الإطار العام الذي يمكننا أن نصوغ داخله فلسفة التطور عند سلامة موسى، أو خطواته في معبد التطور. فقد انحصرت المناقشات حول الداروينية بين شِبلي شُميِّل وجمال الدين الأفغاني وإسماعيل مظهر في دائرة ضيقة للغاية، تلك هي دائرة «الدين» وموقف الداروينيين من قصة الخلق كما جاءت في الكتب المقدَّسة. فقال الدكتور شُميِّل بحزم إن نظرية التطور تجعل من هذه القصة أسطورة لا أكثر، وعلق الأفغاني بأن هذا القول لغو لا أكثر، وأكد إسماعيل مظهر أن نظرية التطوُّر تؤيِّد الأديان وتدعم دعواها لا أقل ولا أكثر.١٠ ولا ريب أن الكنيسة الأوروبية اقشعرَّت وصرخت بأن الداروينية كفرٌ وإلحادٌ، كما قام السير أوليفر لودج ليقول — ما ردده إسماعيل مظهر — بأنه لا تعارض بين النظرية والدين. فالنظرية تصور التطور المادي للكون، والتوراة تصور تطوره الروحي، وما آدم وحواء إلا أسماء رمزية لهذا التطور. حدث ذلك في أوروبا، ولكنه لم يكن الشيء الوحيد الذي حدث كما رأينا في مصر. وأعتقد أن هذه الظاهرة في استقبال الفكر العربي لنظرية التطور، والتي أدعوها بالدائرة الضيقة، كانت تحمل نفس السمات البارزة في منهج سلامة موسى. فقد كانت الطبيعة الاجتماعية في مصر (العلاقات الإقطاعية وهيمنة الاستعمار على كافة مسارب حياتنا، بما فيها الوصاية على تقاليدنا وأدياننا)، بالإضافة إلى الطبيعة الاجتماعية لسلامة نفسه (كأحد أبناء الفئات الصغرى من الطبقة المتوسطة المسيحية)، كانت هذه جميعها تستقبل نظرية التطور الواردة من أوروبا كمحاولةٍ لحلِّ هذه التناقضات. ولئن كانت الداروينية تعبيرًا صادقًا عن حاجة اجتماعية ملحَّة في أوروبا، ومن ثم تلاءمت الفلسفات البرجوازية الأوروبية مع كثيرٍ من القوانين الأساسية التي جاءت بها، فإن ما حدث بالنسبة لتفكير سلامة موسى كان شيئًا غريبًا وطبيعيًّا في آنٍ واحدٍ. الغريب أنه من حيث أراد أن يحلَّ التناقضات الكامنة في نفسه، والقائمة بينه وبين المجتمع، فقد أحلَّ مكانها عديدًا من التناقضات الجديدة. والطبيعي أن التناقضات الجديدة كانت مرآة حيةً لتكوينه الذاتي والموضوعي جميعًا.

والباحث يتوقَّف كثيرًا عند «مقدمة السوبرمان» وجهًا لوجه أمام هذه التناقضات، غير أننا على ضوء تفسيرنا السابق لأولى مراحل سلامة مع الفكر، كمحاولة لحل التناقض بينه وبين المجتمع، نستطيع القول بأنه كان طبيعيًّا جدًّا أن يتأثَّر أشد التأثير بأكبر معول أوروبي حطَّم الغيبيات، أقصد الفيلسوف الألماني نيتشه. ولم تكن تفاصيل الفلسفة النيتشوية تلفت نظر سلامة، لأن ما كان يعنيه هو «منهج» نيتشه في دحض الأوهام والأساطير والخرافات … مهما قال بعدئذٍ بشأن طبقية المجتمع والأخلاق المسيحية والإنسان الأعلى.

وهذا يعني، أنه إذا كانت فلسفة نيتشه تُعَدُّ جذرًا نظريًّا للفاشية والنازية وبقية ما ظهر من مذاهب عنصرية، فإنها لم تكن تعني عند سلامة موسى إلا معولًا في هدم الغيبيات الدينية. ولذلك جمع سلامة موسى بين النيتشوية والاشتراكية معًا معبرًا بذلك عن ذات نفسه، وطبقته ومجتمعه في أوائل العصر الذي عاش فيه. فالتطرُّف النيتشوي هو ردُّ الفعل الطبيعي لما كان يخيِّم على بلادنا من ظلام القيم الإقطاعية، بينما كان نيتشه تعبيرًا فلسفيًّا عن بزوغ النظام الاحتكاري في الصناعة الألمانية بصفة خاصة والأوروبية بصفةٍ عامة، والاشتراكية الفابية هي ردُّ الفعل الطبيعي عند الفئات الصغرى من الطبقة المتوسطة في وجه الاقتصاد شبه الإقطاعي المتحالف مع رأس المال الأجنبي في بلادنا، بينما كان استمرارها في أوروبا يترجم هزيمة الطبقة العاملة والفلاحين في المعركة ضدَّ الفكر البرجوازي. ومن طبيعة هذا الاختلاف بين انعكاسات نيتشه والاشتراكية الفابية على وجدان سلامة وفكره، وانعكاساتها على التفكير الأوروبي، نرى أن المنهج الذي بدأ به سلامة موسى حياته الفكرية عام ١٩٠٩م كان منهجًا تقدميًّا بالرغم مما فيه من تناقضات «منطقية» — بين النيتشوية والاشتراكية مثلًا — بينما كان منهج الفكر الأوروبي — السائد طبعًا — منهجًا رجعيًّا بالرغم من التكامل والانسجام المنطقي بين مقدماته العرقية والعنصرية ونتائجه الاستعمارية.

ولو أننا راجعنا كتابات سلامة عن نيتشه منذ أول مقالٍ له بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» — كتبه في المقتطف عام ١٩٠٩م — إلى أن تخلَّص نهائيًّا من آثار هذا الفيلسوف، لا نلمس مطلقًا أنه قد وضع يديه على الفارق الكبير بين نيتشه من جانب، وداروين وسبنسر من جانبٍ آخر، بشأن التطور. ولكنه لم يكن يُعْنَى — كما سبق أن ذكرت — بتفاصيل النيتشوية كفلسفة عنصرية، وإنما كانت تستهويه دلالتها الخطيرة بالنسبة للقيم والأخلاق والدين.

لهذا لم يلتفت كثيرًا إلى ما نقد به نيتشه الداروينية حين قال بأن مذهبها في تنازع البقاء مذهب باطل، إذا كانت غايته تفسير جوهر الحياة والوجود، فليست الحياة تنازعًا في البقاء، بل هي تنازع في القوة والسيطرة.

وإرادة القوة هذه «تُخضع لنفسها من الداخل ما هو خارجي، وتستولي عليه وتدخله في باطنها وتمتصه»١١ لم ينتبه كثيرًا إلى البناء الطبقي للمجتمع كما يراه نيتشه «فالمساواة ليست إلا أكبر أكذوبة في وجه طبيعة الوجود» عند الفيلسوف الألماني. أما ما استحوذ على كيان سلامة ووعيه، فهو ما ذهب إليه نيتشه في رؤية الإنسان حيث أصبح الفرد (يجد نفسه) بوصفها تقدُّمًا للإنسانية أو تأخُّرًا، رقيًّا أو انحطاطًا، وعلى حسب درجة هذا التطور في الإنسانية عند الفرد تقاس قيمته. والقيم تبعًا لذلك هي العمل على السموِّ بمستوى الإنسانية، والارتقاء بها في سلم العلاء على الحياة «حتى نصل إلى خلقِ نوعٍ جديد، لا أقول من الإنسانية، وإنما ممن هم فوق الإنسانية» فالغاية من الإنسانية إذَن هي هذا الإنسان الأعلى. ومن أجل هذا كان لا بدَّ للقيم الجديدة التي نضعها أن تكون عاملةً على إيجاد هذا النوع، مهيئةً لظهوره. والمهمة الرئيسية للإنسان تتحدَّد بالتالي على أساس أنه (هو) نفسه، خالق القيم «إن الإنسان الممتاز هو الذي يحدد معتقدات العصر بأكمله، ويعطي للحضارة صورتها، ويخلق القيم في حريةٍ تامَّة، غير آبهٍ للخير والشر، والحقِّ والباطل. فهو يخلق أخلاقه هو، والحق عنده هو.»١٢ اكتفى سلامة موسى أن يستمع إلى زرادشت حين يخاطب البشرية:
  • «كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئًا أعلى منها: فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزرًا لهذا المدِّ العظيم، وتفضلون الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟»

  • «ما القرد بالنسبة إلى الإنسان؟ أضحوكة وعار مؤلم. وهكذا يجب أيضًا أن يكون الإنسان بالنسبة إلى الإنسان الأعلى: أضحوكة وعارًا مؤلمًا.»

هذه الكلمات هي الصرخة الأساسية في «مقدمة السوبرمان» أولى صرخات سلامة التي جهر بها عام ١٩١٠م. وإذا كانت نظرية التطور قد احتلَّت مكانًا دينيًّا في نفسه، فإن فريدريك نيتشه احتلَّ في وجدانه مكان الأنبياء. وهو لا يُحسُّ تعارضًا بين نبوة نيتشه ونبوات الفابيين الإنجليز القائلين بالاشتراكية التدريجية، فيتساءل: «إلى متى نرزح تحت النظام الرأسمالي؟» وينادي في نفس الوقت باستخدام علم اليوجينيا في الحدِّ من تناسل ذوي العاهات السيئة، حتى نخلق أجيالًا من السوبرمان في ظل الاشتراكية! ولست أذكر أن مفكِّرًا في العالم جرؤ على الجمع بين الدعوة إلى السوبرمان، والدعوة إلى الاشتراكية (الأولى عن طريق نيتشه بالذات، والثانية عن طريق الجمعية الفابية بالتحديد)، لم يجرؤ على ذلك إلا سلامة موسى … وبرنارد شو! وهذا هو السر المباشر وراء اللقاء الحميم بين الاثنين. وهو السر أيضًا في نوعية اللقاء الآخر بينهما من جانب، ونظرية التطور من جانب آخر. ونحن نطالع في «مقدمة السوبرمان» هذه الموضوعات: أصلنا الحيواني (ص٦)، خرافة التقدم (ص١٠)، من داروين إلى نيتشه (ص١٢)، السوبرمان بين نيتشه وشو (ص١٤)، اليوجينيا (ص٢٤). إننا نطالع هذه الفصول القصيرة، فنضع أيدينا على خطوط هذا التشابك بين نيتشه وداروين وبرنارد شو من جانب الفكر الأوروبي، وسلامة موسى من جانب الفكر العربي، وسوف نكتشف حينئذٍ طبيعة اللقاء بين سلامة وشو، وبينهما معًا ونظرية التطور، كمرآة نظرية للتناقضات القائمة بين سلامة والمجتمع المصري، والتناقضات الكامنة داخل هذا المجتمع، والتناقضات الذاتية في بنيان سلامة نفسه. إن هذه التناقضات تلتقي تمامًا مع الحلول التي صادفت سلامة بوحي من ظروفه الموضوعية، وهي التي أسهمت معه في صنع هذه اللقاءات بينه وبين نوع خاصٍّ من المفكِّرين الأوروبيين.

وقد أسهبنا القول في تحليل العلاقة بين سلامة ونيتشه من جهة، وسلامة والاشتراكية الفابية من جهةٍ أخرى، وحان لنا أن نضيف إلى بقية العناصر الاجتماعية والتاريخية، الخالقة لذلك المزيج الغريب، عنصرًا آخر كان بمثابةِ همزةِ الوصل النظرية بين السوبرمان والسوشيال مان، بين الإنسان الأعلى والإنسان الاشتراكي. هذا العنصر هو «نظرية التطور».

يقول سلامة: «أما أخلاق الأقوياء التي دعا إليها نيتشه وجعل منها ديانة جديدة يجب أن يبشر بها الفيلسوف الجديد، فقد استهوتني سنواتٍ، بل انحزت إليها وآمنت بها، فيما يشبه الحزبية الفلسفية، بتأييدٍ من نظرية التطور.»١٣ «وترك برنارد شو عندي طائفةً من العقد ربما كان أهمها هو النظر البيولوجي للإنسان، وأن التطوُّر المستقبلي يجب أن يكون له المقام الأول عند أية حكومة متمدنة»١٤ أي إنه إذا كانت انعكاسات الداروينية على فلاسفة العالم الرأسمالي ومفكريه قد اختلفت من فيلسوف إلى آخر، تبعًا لارتباط كلِّ مفكرٍ بتيار أيديولوجي محدَّد بالتقدُّم أو الرجعية، فإن انعكاسها على سلامة موسى وبرنارد شو، كان يعني التطور التدريجي بالمجتمع نحو الاشتراكية في المستوى الاجتماعي، وكان يعني الثورة على المألوف من القيم والعادات والتقاليد في المستوى الفكري. ولما كان سلامة وشو كلاهما ينتميان إلى فئات البرجوازية الصغيرة، فقد التقيا في حدود هذا الإطار العام. غير أن الاختلاف الكيفي بين وضع البرجوازية الصغيرة في إنجلترا وأيرلندا، وبين وضع مثيلتها في مصر، كان ينعكس على تفاصيل العلاقة بين سلامة وشو، كما سبق انعكاسه على علاقته بنيتشه، وإن التقى الجميع عند عتبات داروين.
ولعله من أوضح أمثلة الاختلاف بين سلامة وشو في استقبالهما لفكرة السوبرمان، أن الكاتب الأيرلندي «كاد يبرر الفتوحات الإمبراطورية» و«أيد موسوليني في فاشيته.»١٥
وبرنارد شو في هذه المرحلة من مراحل تطوره، يحذو حذو نيتشه في مطابقةٍ حرفية. أما سلامة موسى، فإننا نستشفُّ ما أفاده من الفيلسوف الألماني، حين يقول: «يجب أن نقرأ نيتشه لأن أقل ما فيه أنه يحثُّك على التساؤل والاستطلاع، ويحول بينك وبين التسليم المطلق للعرف والعادة.»١٦ كذلك كانت الأفكار الطوبوية عن الاشتراكية تمثل منهجًا رجعيًّا في الفكر الأوروبي منذ بداية القرن العشرين، بينما كانت تمثل منهجًا تقدميًّا في الفكر العربي. وهذا هو الفارق الكيفي بين سلامة وشو في نقطة انطلاقهما الفكرية. ولا شك أن برنارد شو قد تطوَّر بعدئذٍ، فتحوَّلت فكرة السوبرمان عنده من المفهوم الفاشستي إلى الدلالة الإنسانية في الاشتراكية (الإنسان والسوبرمان) وأضحى هدفه من التطور اليوجيني هو الحصول على أعمارٍ طويلةٍ للبشر (العودة إلى متوشالح).١٧

ولكن سلامة موسى — أيضًا — كان يتطوَّر في خطٍّ أكثر تقدُّمًا، فقد ظلَّت المسافة المنهجية قائمة بينهما منذ نقطة البداية إلى آخر الشوط، تعبيرًا حاسمًا عن المسافة الحضارية القائمة بين المرحلة الأوروبية والمرحلة العربية في مصر.

في أولى مراحل تطور سلامة موسى، نتحسَّس معالم الفلسفة المادية الميكانيكية، التي رافقت أولى خطواته في معبد التطوُّر، فقد صادفت هذه الفلسفة تربةً خصبةً في عقلية المفكِّر العربي الذي تجسدت التناقضات بينه وبين المجتمع في الثورة على القيم الإقطاعية والدعوة إلى الصناعة والثقافة العلمية في حدود الغايات الخاصة بالطبقة المتوسطة التجارية الناشئة في مصر وقتئذٍ، وفي قالب الأيديولوجية الخاصة بفئات البرجوازية الصغيرة، التي تتَّسم أساسًا بانعدام التماسك المنهجي في المستوى النظري. والذبذبة والتردُّد والعشوائية في مجال التطبيق.

والكلمة الأولى في أية فلسفة برجوازية (من أسفل شرائح هذه الطبقة إلى أعلاها) هي الفردية. فكان طبيعيًّا أن يتضمَّن منهج سلامة لفهم التطوُّر على أصول هذه النظرة، حين يقول إن أصحاب المدن الفاضلة لن يحقِّقوا أحلامهم إلا عن طريق الفرد. واليوجينيا هي الطريق الجديد الذي نستطيع بواسطته أن نحصل على الفرد الممتاز «حتى يرتقي الإنسان جيلًا بعد جيل.»١٨
والكلمة الثانية في هذا المنهج هي تلقائية التطور الفكري فور التطور الاجتماعي. وكان هربرت سبنسر أول من استخلص النتائج الاجتماعية التي تتضمَّنها نظرية التطور «وعنده أن التطور الاجتماعي معناه التقدُّم بطريقةٍ غير واعيةٍ لا يمكن تفاديها، فالمجتمع لا يتكون بالإصرار الناتج عن التروِّي، إنه نمو طبيعي، أي إن المجتمع يحدث من جراء التفاعل الميكانيكي للقُوى، من تفاعل الأفراد المتنافسين.»١٩ ولذلك يرى سلامة موسى أمرًا محتَّمًا على الأمة المتطورة أن يتغيَّر دينها مرةً كلَّ عام٢٠ كما دعا برنارد شو. والصفة الثالثة في هذا المنهج هي وحدانية محور التطور، أي القول بعاملٍ وحيدٍ يقوم بعملية التطور، ربما كان الاقتصاد يومًا، وربما كانت البيولوجيا يومًا آخر، ولكنه في جميع الأحوال عنصر يتيم يفسر لنا التطور الإنساني في كافة مجالات الفكر والواقع الاجتماعي والطبيعة، كما نرى عند سلامة في قبوله للنظرية المالتسية حينًا٢١ ولتفسيره التطور على أساس بيولوجي في «مقدمة طوبى مصرية» — يوتوبياه الأولى — حينًا آخر.٢٢ والسمة الرابعة لذاك المنهج هي الطريق المسدود الذي يؤدِّي إليه، فكأنَّ ماديته من الابتذال أن تستبدل القدر الإلهي، بأقدار (مادية) و(علمية) جديدة! وهذا بعينه ما حدث لسلامة موسى حين سقط في براثن الوايزمانية «أو الداروينية الجديدة كما كانوا يدْعُونها» … والتي تؤكد أن البيئة لا تؤثر في الكائن الحي على الإطلاق، مما سنفصِّل فيه القول بعد قليلٍ، حيث تؤدي هذه النظرة في الوراثة إلى أن مستقبل الأفراد والجماعات قد رُسِمَ من قبلُ في التكوين الكروموزومي للإنسان، لا في تكوينه البيئي والاجتماعي.
هذا المنهج في التفكير، الذي صاحب سلامة موسى في أولى خطواته بمعبد التطوُّر، ندعوه منهجًا ماديًّا ميكانيكيًّا، كان من شأنه أن يورِّط صاحبه في تصنيفٍ متعسِّف لتطور المجتمع، حيث قسمه إلى مرحلة زراعية وأخرى صناعية، وأن الأدب هو ثقافة المرحلة الأولى، والعلم هو ثقافة المرحلة الثانية. كما تورط في حركة «المصري للمصري» لمقاطعة الإنتاج الأجنبي بطريقةٍ غير مجدية. وكان أسلوبه في البحث ينبع دائمًا من القول باندغام العقل في الجسم اندغامًا عضويًّا، يجعل من سلوكنا وأخلاقياتنا مطيةً لحركة آلية من العقل والجسم. ولم يعد التطور لديه ممكنًا ما لم يكن هناك «تنازع بقاء أو ما يقوم مقام هذا التنازع من انتخاب صناعي مقصود»٢٣ بل هو يرسم لوحة الإنسانية القادمة — للمرة الثانية — فيومئ بتطور الدماغ وحوض المرأة وأصابع القدمين والفكين والأسنان والحواس الخمسة والأمعاء والشعر والقامة واللغة.٢٤ ولا يشير بحرف إلى ما يمكن حدوثه من تطور اجتماعي، ذلك أنه ينطلق في خياله من القول بأن التطوُّر العضوي للإنسان هو التطور الحقيقي، أما المجتمع فماذا صنع لنا؟ وهو لا يتطرف إلى ما ذهب إليه برناردشو من أن البيئة الحضارية ظلت معادية للتقدم الإنساني، بتجميدها تطور الإنسان نحو السوبرمان، بينما الطبيعة كانت أكثر اشتهاء للتطور من الحضارة الاجتماعية للإنسان، فحوَّلت الأميبا إلى إنسان.٢٥
على أن هذا المنهج — رغم كلِّ ذلك — كان كسبًا فكريًّا ضخمًا في تاريخ مجتمعنا والفكر العربي، فقد تضمن بناؤه كثيرًا من الزوايا الإيجابية التي أخصبت ثقافتنا بخميرة حية نشطت الأجيال في تطويرها. والزاوية الإيجابية الأساسية في ذلك المنهج هي مادية الكون. فقد تصدَّى سلامة موسى منذ البداية لنقد الفلسفات المثالية التي كان من شأنها إفقاد نظرية التطور جوهرها المادي الثوري، فيقول عام ١٩٢٨م ما نصُّه: «ظهرت غيبيات جديدة عند بعض الدارسين للتطور، وفي مقدمتهم برجسون (الفيلسوف) الفرنسي. فإنه يقول بأن الحياة مبدأ أو عنصر أو فكرة مستقلَّة عن المادة. وإنها إنما تستخدم المادة فقط كي تبدو أو تتمثل في أجسام الأحياء كأن هناك حياة مجرَّدة بدون أحياء. بل إنه ليتمادى بعد ذلك حتى ليقول إنه ليس بعيدًا أن تتخلَّص الحياة من المادة في المستقبل وتجيء الأحياء بلا أجسام. وهذا كله عبث في التفكير، وهو رِدَّة إلى أفلاطون حين كان يقول إن البياض سبق الشيء الأبيض وله وجود مستقلٌّ … أي إن الفكرة سبقت المادة. وما دخلت الغيبيات قطُّ في علم أو فلسفة إلا أفسدتهما. وأقل ما يقال في الرد على برجسون أو أفلاطون أننا إلى الآن لم نر سوى الأجسام الحية، ولم نر الحياة المجردة، ولم نر العقل المجرد، وإنما عرَفنا الأحياء التي تحمل هاتين الخاصتين فقط.»٢٦ هذه هي الزاوية الإيجابية الرئيسية في تلك المرحلة من تطوُّر سلامة موسى. وهي تغاير المرحلة التي كانت تجتازها الحضارة الأوروبية آنذاك، ممثلة في فلاسفة أزمتها، كما نرى عند برجسون الذي قال بالتطور الخلَّاق وقصور العقل والعلم، وهتف للصفوة الممتازة، والروح الكامنة، والعنصرية، وعرَّف الحرية بأنها مجرد إحساس باطني، وانتهى به الأمر في المجال السياسي إلى التعاون مع حكومة فيشي، حكومة المارشال الخائن «بيتان» ممثِّلة الاحتكارات الفرنسية التي لم تتردَّد في التعاون مع قوات الاحتلال الألمانية حتى تعيش.٢٧ وقف سلامة موسى ضد هذه الفلسفات بحزمٍ في المجالين: النظري، والاجتماعي؛ لأن تمثيله الطبقي في ذلك الوقت، كان مناهضًا للقيم الإقطاعية والاستعمارية على السواء. ومن هنا معاداته للأسس المثالية في فهم الطبيعة، ومعاداته لرأس المال الأجنبي في غزو المجتمع المصري، ولم تكن هذه بالزاوية الإيجابية الوحيدة، وإنما كانت الأساسية، فقد كانت الزاوية الهامة الثانية هي طابع التغير اللانهائي في الطبيعة والمجتمع، حيث انتهى سلامة من دراسته للداروينية إلى «أن الحياة في بوتقة لم تتجمَّد قطُّ، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصرها ومركباتها». ومن هنا، إيمانه العميق بالتقدم والارتقاء في كافة مجالات الحياة، منذ عرَف نظرية التطور. ويتضح هذا الإيمان بانعدام الاستقرار في الطبيعة، والوعي بأهمية انعدام الجمود في الحركة الاجتماعية، حين نطالع رؤياه الثالثة التي سجلها في الكتيب الملحق بعدد فبراير سنة ١٩٣٦م من «المَجلة الجديدة» تحت عنوان «الدنيا بعد ثلاثين سنة» حيث نتتبع معه «مستقبل الزراعة، وسيطرة العلم القادمة، ومستقبل الصحة، وملابسنا القادمة، والسجون والجرائم، واللغة العالمية، والمدارس الجديدة، ومستقبل الصحافة، وتطور الحكومة، وأدبنا ولغتنا، والزواج والأسرة، وعصبة الأمم والحرب». والغريب حقًّا أن كثيرًا من إيماءات هذا المفكِّر قد حملها التطور من خيال النبوة إلى واقع الحقيقة. ولئن كانت هذه المرحلة — عام ١٩٣٦م — بداية خطوة جديدة لسلامة موسى من خطواته داخل معبد التطور — حيث كانت إرهاصات الحرب العالمية الثانية، وسنوات الحرب نفسها، تُحدث تغيرات عميقة في المجتمع المصري، وتاريخنا الفكري معًا — لئن كانت هذه المرحلة كما أسلفت، إلا أننا لا نغفل فروقًا جوهرية بين مادية المنهج الميكانيكي عند سلامة موسى، ونظيره في الفكر الأوروبي.

كانت نظرية التطور مقياسًا أمينًا لفلسفات عصرها. كانت مقياسًا ذاتيًّا وموضوعيًّا في آنٍ واحد. أي إنها كانت «المحك» الذي كشف الطبيعة الميكانيكية لاتجاهات الفكر الأوروبي، كما كانت هي نفسها في كثيرٍ من إضافاتها إلى علم الحياة، تفسيرًا ميكانيكيًّا لبعض الظواهر البيولوجية.

يختتم داروين كتابه عن أصل الأنواع — وقد ظهر عام ١٨٥٩م — بقوله: «إن عوامل التطور هي: النمو والتناسل، ثم الوراثة — التناسلية طبعًا — ثم الاختلاف الناشئ بين الأفراد بسبب تأثير أحوال المعيشة والحياة المباشرة وغير المباشرة، وبتأثير استخدام الأعضاء وإهمالها، ثم تلك النسبة العالية في ازدياد عدد الأفراد مما يؤدِّي إلى التنازع على الحياة، ثم ما ينتج عن الانتخاب الطبيعي من اختلاف الصفات وانقراض الأحياء التي لم تَرْقَ. وهكذا نشأ من حرب الطبيعة ومن الموت والجوع أرفع ما نتصوره من الكائنات؛ ألا وهو الحيوانات العليا.»٢٨ يتضح من النصِّ، مدى ما تأثر به داروين من نظرية مالتس في السكان، وكيف أن تزايدهم التضاعفي ٢، ٤، ٦ لا يتناسب مع التزايد الحسابي لموارد الطبيعة ١، ٢، ٣. وبالتالي فلا مفرَّ أمام الجنس البشري من الحروب والأوبئة وكافة العوامل التي من شأنها «تحديد النسل» بصورةٍ جماعية.
وبالرغم من أن الداروينية ترفض الفكرة القديمة القائلة بحتمية التقدم حسب جبرية ميكانيكية، كما ترفض الجمود «اللاهوتي» في الطبيعة، إلا أن داروين كان ميكانيكيًّا مائة في المائة في نقله قانونًا خاصًّا بالمجتمع، نقلًا حرفيًّا، إلى علم الحياة. بالإضافة إلى أن ذلك القانون نفسه، صدر عن فلسفة ميكانيكيةٍ خالصة، حين أغفل صاحبها الإمكانيات المذهلة للتقدُّم العلمي التي لن تتيح لمعادلته الرياضية فرصة السيادة. كما ألغى أن طبيعة الحياة ذاتها في المستوى الإنساني هي ألا نترك الأشياء تحدث، بل أن نجعل تلك الأشياء التي نريدها تحدث بالفعل. وقد وقع في نفس الخطأ الدارويني، أولئك الذين نقلوا قوانين البيولوجيا إلى ميدان المجتمع نقلًا حرفيًّا، فأغفلوا أنه «في المستوى الإنساني، يحدث تغيير جذري. هناك يتوقف الناس، إلى درجةٍ متزايدة، عن الكفاح ضدَّ بعضهم البعض ويتَّحدون في مجتمع ليساعدوا بعضهم بعضًا في نضالهم ضد الطبيعة.»٢٩ أي إن الإنسان بما يتميز به من فارق كيفي بينه وبين الحيوان، هو الذهن البشري، ليس بحاجةٍ لأن يخلِّد الصراع بينه وبين أخيه الإنسان، وإنما يتفرع لأشكالٍ جديدة من الصراع بينه وبين البيئة الفيزيائية.
وهكذا كانت البيئة عند داروين عاملًا ثانويًّا في التطور، بل و«مجرد ضغط خارجي خالص أو عملية غربلة.»٣٠

… بل هو ينظر إلى العلاقة التطورية بين الإنسان والحيوان على أن الاثنين ينتميان إلى مرحلة كيفية واحدة، فيؤكد أن الحيوانات تتمتع بالشعور الديني كالبشر، كما أن أصواتها أشكال متعددة من اللغة، هذا التصور انعكس على دراسات الكثيرين من العلماء في نفس الإطار الميكانيكي، فقال بعضهم: إن الإنسان حيوان كامل، ينبغي أن ننظر إليه من خلال تكوينه العضوي والوراثي فحسب (فرويد). وقال آخرون: إن العلاقة مقطوعة تمامًا بينه وبين المملكة الحيوانية (الجنرال سمطس). وقال فريقٌ ثالث: إن عقلًا جمعيًّا منذ البداية الإنسانية يصوغ السلوك البشري ويوجهه (دوركايم).

أي إن الحياة أصبحت عند بعضهم تسلسلًا غير مترابط من الأجناس المختلفة، وعند البعض الآخر سلسلةً مترابطةً من الأجناس المتطابقة.

وهنا يأتي الاختلاف التفصيلي بين ميكانيكية سلامة في تلك المرحلة، وملامح العصر الميكانيكي في حضارة أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر. إن سلامة موسى يحتضن حقًّا، طيلة الربع الأول من القرن العشرين، الاتجاه الفرويدي في علم النفس (راجع «العقل الباطن») والفلسفة الوايزمانية في علم الوراثة (راجع «هؤلاء علموني») ويخطو مع قوانين مندل إلى «نظرية التطور وأصل الإنسان» فيعدد نتائج هذه النظرية في نقطتين:

أولًا: فهم طبيعة الإنسان: «فلا يمكن لفيلسوف أن يعرف كنه النفس الإنسانية ما لم يعرف تطور الجهاز العصبي في الإنسان وعلاقته بالأحياء الدنيا، والعوامل التي جعلته يرقى إلى مستواه الحاضر. بل إن فلسفة فرويد مبنية كلُّها على أن أهم ما في خواطر الإنسان وأحلامه وهواجسه يرجع إلى الغريزة الجنسية، التي هي أهم وأقوى غرائز الحيوان. فالحيوان الذي يقاتل ويموت من أجل الأنثى لا يزال حيًّا في الإنسان حتى في بعض طرق عبادته وفي فنونه الجميلة التي يمارسها الآن وينسبها إلى أرقى الأعمال الذهنية. بل لا يمكن فهم بعض أمراضنا، وكيفية علاجها ما لم نفهم نظرية التطوُّر. فبعض أنواع الجنون «رِدَّة» من الإنسان إلى الحيوان القديم».٣١
ثانيًا: الدفع التقدمي للمجتمع: إن نظرية التطور «غرست في الأذهان فكرة تدرج الأحياء ورقيها جيلًا بعد جيل. فصار للرقي أساس طبيعي، وصارت مخالفته من الفرد أو الأمة أو الحكومة أشبه شيء بخروج على السنن الطبيعية، وصرنا نغضب من الحكومة التي لا تفكِّر في ترقية التعليم أو ترقية الزراعة أو نحو ذلك، أو التي تنكر حقَّ الأمة التطوري في الرقي الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي.»٣١

هاتان السمتان البارزتان في تلك المرحلة من مراحل تطور منهج سلامة موسى، تفسران لنا القيمة التقدمية العظمى التي اشتمل عليها ذلك المنهج بالرغم مما فيه من قصور. بينما كانت الميكانيكية الأوروبية تمثِّل منهجًا رجعيًّا في تفسير التاريخ الإنساني، والوقوف منه موقفًا ورائيًا جامدًا.

إن رجعية المنهج الأوروبي السائد حينذاك، تكمن في ابتعاده عن أهداف المرحلة التاريخية للحضارة الأوروبية وقتئذٍ — على المستوى الاجتماعي والسياسي — وابتعاده عن الحقائق العلمية البازغة في ذلك الحين. فقد كان الاكتشاف العبقري لقوانين الجدل على يدي ماركس وإنجلز، كافيًا، لإنقاذ الداروينية من صمتها إزاء ما يحدث في الطبيعة من تغيرات لم يجد لها داروين أي تعليل، فآثر الصمت، بل تكلم فقال: «إن جهلنا بقوانين التغير جد عميق.»٣٢ وفسرت الماركسية ظواهر الطفرة التي لم يكتشف لها مندل سببًا مقنعًا، ودفعت مورجان لأن يصف التطور بأنه عملية غائية تتضمن تفتح فكرة إلهية. قال الديالكتيك: إن هناك وحدة دينامية في الكون، تدع كل ظواهره مترابطة، وما يطرأ على الظاهرة الواحدة أو مجموعة الظواهر من تغيرات، إنما هو تعبير عن الصراع الداخلي بين متناقضاتها، الذي يؤدي بالتراكمات الكمية إلى تغيرات كيفية.٣٣ وبذلك توصلت الماركسية إلى أن العالم يمكن معرفته، فأطلقت العلم والفلسفة من قيود «الاستحالة» المندلية المورجانية التي زعمت أن التغيرات الوراثية «الطفرات» كما يسمُّونها (غير محددة)، وانتهت إلى أن هذه التغيرات لا يمكن، كقاعدة، التنبؤ بها. وبهذا نقابل مفهومًا غريبًا لاستحالة المعرفة، اسمه المثالية في علم البيولوجيا. والواقع أن المادية الجدلية، حين أطلقت العلم والفلسفة من هذه القيود، كانت تطلق في نفس اللحظة التاريخ الإنساني والمجتمع البشري من أغلال المادية المبتذلة التي حاكت للإنسان أقدارًا غيبية جديدة من الاقتصاد حينًا، والبيولوجيا حينًا آخر.

ومن هنا كانت تلك المادية الميكانيكية الرخيصة تعبيرًا رجعيًّا في ظل الثورات الحضارية من تاريخ القارة الأوروبية في أواخر القرن الماضي. بينما كان منهج سلامة موسى تعبيرًا تقدميًّا عن تلك المرحلة العصيبة من تاريخنا، حيث كانت قشور الثقافة العلمية المعادية للقيم الإقطاعية والاستعمار تُعَدُّ انتصارًا ضخمًا في تحطيم هذه القيم، والتمهيد النفسي والذهني للعلاقات الاجتماعية الوافدة مع البرجوازية المصرية الناشئة.

غير أن أوزار الحرب العالمية الأولى، وإرهاصات الحرب الثانية، وسنوات الحرب نفسها، كانت تنعكس على المنطقة العربية بصورةٍ مغايرةٍ لانعكاساتها على بقية أنحاء العالم. فبينما كانت نتائج الحرب الأولى ظهور أول دولةٍ اشتراكيةٍ في العالم، ومن نتائج الحرب الثانية ظهور المعسكر الاشتراكي كنظام عالمي … كانت بلادنا ما تزال أسيرة التهادن الذليل من جانب البرجوازية المصرية باشتراكها مع العرش والاستعمار وكبار الملَّاك في استنزاف مقدَّرات الشعب المصري، وتزييف الأرض الفكرية التي يخطو عليها. فقد مُنِيَ مجتمعنا في ظل السلطات غير المعبرة عن إرادته في التقدم، بتخلُّفٍ حضاري شديد، وتقاليد غير ديمقراطية في أسلوب الحكم، كان من شأنها السماح للمخدرات الفكرية بالذيوع في مناهج المعرفة عندنا، وهروبها من العلم والحقائق العلمية.

ومن هذه النقطة بالتحديد، يحدث التحوُّل التاريخي في منهج سلامة موسى، ذلك أن إخلاصه البالغ الوفاء للحقيقة العلمية هو الذي أضاف إلى منهجه الفكري خطوطًا جديدة دفعت به في أحضان مرحلة كيفية جديدة. هذا الإخلاص العنيف للعلم هو الذي أوقع به في براثن وايزمان «وكان هذا المؤلِّف علمي الذهن، لا يسأل ما هو المعقول؟ وإنما يبحث عن الواقع الذي تثبته المشاهدة والتجربة. وقد وجد بالمشاهدة الميكروسكوبية أن الجراثيم المنوية، أي التناسلية، في الحيوان مستقلَّة تمام الاستقلال عن الخلايا الجسمية، وهي تسكن في أجسامنا وتغتذي من دمائنا، ولكنها لا تتأثر بحياتنا أقلَّ التأثر، ونحن نتسلم هذه الجرثومة من آبائنا ونسلمها لأبنائنا، وهؤلاء يسلمونها للأحفاد دون أن تتأثَّر بالأجسام التي التصقت بها وعاشت عليها» … «ثم عرَفتُ بعد ذلك تجارب الراهب مندل، التي كان قد أجراها في القرن الماضي في اللوبيا أو الفاصوليا وبعض الحبوب الأخرى و«أثبت» أن الوراثة صارمة، وأنها تجري على أرقام معينة كأنها لا تتأثَّر بالوسط بتاتًا. وانتهيت أنا إلى الإيمان بهذه الوراثة الجامدة، وبأن الوسط لا قيمة له أصلًا في تغير السلالات وتطورها» … «ولكن بقي التطور عندي بلا تعليلٍ لأني أخرجت منه تأثير الوسط.»٣٤
ثم يصور لنا سلامة موسى ولاءه المطلق للعلم في اعترافٍ رائع، يقول: «ولكن يجب أن أعترف أني لم أسلم كل التسليم بأن الطبيعة كافرة إلى هذا الحد، ولكني كنت أقف مترددًا أكاد أحبس نفسي عن السخاء والحنان والرقة والعطف، وكنت أظن بذلك أني قد أصبحت «علميًّا»، وذلك أني كنت أهجس بالهاجس الفلسفي المنطقي، وهو أنه ليس هناك سبب لتغير الحيوان أو النبات سوى تغير الوسط، أي إن عادات الفرد في حياته وصفاته التي اكتسبها من هذه العادات، ترثها أعقابه ثم تتراكم وتتبلور حتى تصير صفاتٍ جسميةً أو غريزية جديدة».٣٥

وحين يضع سلامة كلماتٍ مثل «أثبت» و«علميًّا» بين أقواس، فإنما يصل بالسخرية إلى أقصى مداها من المناهج اللاعلمية في فهم التجربة والإثبات والعلم، في اغتيالها جوهر العلم وخنقها روح التجربة بين جدران المعمل والمشاهدات السطحية. إن وايزمان، ومندل، ومورجان، قاموا بصنع هذه المقصلة الميكانيكية للعلم والعقلية العلمية، فقالوا إن التجربة المعملية تؤكد:

  • إن هناك مادة وراثية خالدة مستقلَّة عن الخصائص الكيفية التي تؤثر في نمو الجسم الحي، توجِد الجسد الفاني، ولكنها لا تتكوَّن بواسطته.

  • إن الآباء من الناحية الوراثية ليسوا أصول ذريتهم. إن الآباء والأبناء إنما هم إخوة وأخوات.

  • بل إن الآباء والأبناء ليسوا ذواتهم حقًّا، وإنما هم نتاجات ثانويةٌ للبلازما الجرثومية مستقلَّة تمام الاستقلال عن نتاجها الثانوي، أي عن جسد الكائن.

  • إن الذرية ليست نتاج جسد الأب وإنما هي فقط نتاج المادة الجرثومية التي يؤويها هذا الجسد.

  • ماذا جاء أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ على هذا السؤال الواضح أعطى وايزمان إجابة مباشرة قاطعة: البيضة!٣٦
هذه هي أركان الفلسفة التي وصف سلامة موسى رائدها بأنه الرجل الذي أفسد ذهنه أكثر من ربع قرن «بل لعله أفسد أخلاقي أيضًا من حيث إنه غرس في نفسي فلسفة اجتماعية خاطئة، فجفت عندي ينابيع السخاء البشري».٣٧ وإذا كان سلامة موسى يؤكِّد أنه اكتشف أخطاء الوايزمانية فور قراءته لكتاب وُود جونس عن «العادة والوراثة» الذي أثبت فيه أن الصفات التي يكتسبها الكائن الحي من ظروفه الخارجية تورث من بعده في الأجيال التالية … أقول إنه إذا كان سلامة يريد أن يوهمنا أنه توصل إلى أن «الفلسفة الاجتماعية خاطئة» بواسطة هذا الكتاب، فإني أشكُّ كثيرًا في هذا التفسير، بل إنني أكاد أوقن بأن التطور المنهجي في فلسفة سلامة موسى، هو الذي انعكس على فهمه للتطور، وكان وُود جونس عاملًا مساعدًا فقط، ذلك أن وود جونس اكتفى بترديد الآراء اللاماركية حول الأهمية البالغة للظروف المحيطة بالكائن الحي حيث أثبتت بالدليل العلمي أنها تؤثر في تكوينه البيولوجي تأثيرًا لديه إمكانية الوراثة. واللاماركية هي النقيض المقابل للوايزمانية، بمعنى أنها لا تقيم وزنًا لحاملات الصفات الوراثية بالكائن، وإنما تعير التفاتها كله للبيئة الخارجية.

ولا شك أن اللاماركية هنا — مع تقدمها — تلتقي مع الوايزمانية في النظرة وحيدة الجانب، النظرة الميكانيكية. وقد وقف داروين بينهما موقفًا وسطًا، حين جعل من الظروف البيئية عاملًا ثانويًّا في توريث الصفات المكتسبة، ولكنه كان موقفًا قصير الرؤية المنهجية اعترف به داروين حين وقف مكتوف اليدين إزاء التغيرات التي تحدث للكائن الحي. وجاء سلامة موسى في مرحلته الجديدة ليقول إن التغير النوعي المفاجئ نتيجة حتمية لتراكمات كمية عديدة. وليس هذا ما انطوت عليه إجابات جونس على القضية المطروحة، فضلًا عن أنها لم تكن في وعي العالِم الفرنسي لامارك. وهي إذَن نقطة تحول منهجية في حياة سلامة الفكرية، وصفها بدقَّة عميقة في تسجيله العلاقة بينه وبين الفيلسوف الألماني الذي أخذ عنه فكرة السوبرمان، فقال:

«رويدًا رويدًا تقهقر نيتشه من وجداني، وتغير عندي مغزى التطور بل تطورت عندي نظرية التطور، فلم يعد نابليون هو السوبرمان ولم يعد للإمبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي الذي كان نيتشه يوهمني أنه كذلك.»٣٨ «لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور ونجح إلى حدٍّ ما في هذا التعليل. ولكنه لم ينجح كلَّ النجاح؛ وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لَنكشَير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع، تنازع البقاء، وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع».٣٩ «ثم عدت إلى قواعد مندل في الوراثة فوجدت أنها ليست محكمة، أي ليست علمية حتى أصبح المندليون أنفسهم يقولون إن هناك شذوذًا في بعض الصفات الموروثة. وهذا كلام لا يستطيع الذهن العلمي أن يسيغه لأن القاعدة العلمية لا تتسع لأقل الشذوذ.»٤٠

والحقيقة العلمية إذَن هي التي أسهمت، مع بقية الظروف الموضوعية المحيطة بسلامة موسى، لأن يخطو منهجه الفكري خطوة جديدة في معبد التطور، خطوة جديدة لا تتوقَّف عند اللوحة البيولوجية للإنسان فحسب، بل هي خطوة منهجية انعكست في نظرته إلى كافة مجالات الفكر والحياة.

كانت الحقيقة العلمية البازغة في ذلك الوقت تضيف نظرية التطور إلى عنصرين آخرين هما: «الطاقة» و«الخلية»، للتعرف على تفاصيل قوانين الحركة، قوانين الديالكتيك. وحين عَرَفَتْ هذه الحقيقة طريقها إلى سلامة في كتاب إنجلز «الجدل في الطبيعة»، كان تكوينه الأيديولوجي على استعداد تام لأن يكتسب خطًّا جديدًا في تطوره الفكري. فقد صادفَت الحقيقة العلمية الجديدة في جميع أبعادها النظرية والتطبيقية، الطبيعية والاجتماعية، صادفتْ عقلًا سِمَتُه الأساسية هي البحث عن الحقيقة، كما صادفتْ نفسًا مليئةً بالمرارة، لما آلت إليه الحياة المصرية والفكر العربي في مصر من جمودٍ رهيب، نشأ بصورةٍ رئيسيةٍ من العقم الذي تبدى في «الحقائق» العلمية القديمة.

وكان الفكر الأوروبي — منذ نهاية الحرب الأولى — قد بدأ يتخذ لنفسه مسارًا آخر في أول بقعة من الأرض تحرر فيها البشر من ربقة العبودية، فقد استلهم المجتمع الاشتراكي البكر مرحلته الحضارية الجديدة من الحقائق العلمية الجديدة … بينما نكص العالم الرأسمالي يهرول إلى الوراء، إلى «حقائق» قديمة، تحاول عبثًا أن تخفي غروب الشمس الإمبريالية. وكانت الحقائق العلمية الجديدة — في ميدان علم الحياة — تتويجًا رائعًا للتراث الفكري الإنساني، من أرسطو إلى بيكون، إلى بوفون إلى لامارك إلى وود جونس، وكانت هذه الحقائق فتحًا كبيرًا في حياة سلامة موسى، بل في تاريخ الفكر العربي.

ولعل كتابه الخطير «الإنسان قمة التطور» — الذي صدر بعد وفاته بثلاث سنوات، أي عام ١٩٦١م — هو الوثيقة الحية لهذه المرحلة من مراحل تطوره.

فإذا كان العلماء السوفييت من تيمريازيف إلى ميتشورين إلى ليزنكو، قد طبقوا الحقائق العلمية الجديدة على ميادين علم البيولوجيا بنجاح، فإن غاية سلامة موسى كانت أبعد مدًى بكثير. كان يعنيه أن يتخلَّص من التفكُّك الأيديولوجي وانعدام التماسك المنهجي في حياته الفكرية، إذ هو لم يعد يرى تناقضًا في مرحلته الجديدة بين الامتدادات العلمية لنظرية التطور، والقول بالاشتراكية. بل إن هذه وتلك — الاشتراكية والتطور — قد بدأت تتخذ لها مكانًا جديدًا في عقله ووجدانه. وهو إذَن بصدد صياغة شاملة لمنهجٍ أو نظريةٍ أو فلسفة يرى بها الطبيعة والمجتمع.

ولا ريب أنه أفاد الكثير من العلماء السوفييت وهو ماضٍ في هذا الطريق الشاقِّ. إن تيمريازيف هو العالِم الذي نزع من الداروينية خطأها الفادح في تطبيق الانتخاب الطبيعي عن تنازع البقاء، على المستوى الإنساني، «إن نشاط الإنسان الذهني والحضاري موجَّهٌ بالذات ضدَّ الصراع من أجل البقاء.» وأوضح أن التفاعل العضوي بين النبات وظروفه الخارجية من تربة ورطوبة وشمس وهواء، هذا التفاعل هو أساس كل وظائفه الحيوية من غذاءٍ وتنفُّس ونمو وتكاثر وتطور. وكان ميتشورين هو العملاق الذي جعل من الداروينية علمًا خلَّاقًا يسهم في تطوير المجتمع. إذ إن تجاربه في تدريب النباتات والتكاثر الخُضري هي التي أدت به إلى القول بأن: «كل عضو من الأعضاء، وكل صفة من الصفات، وكل طرف من الأطراف، وكافة الأجزاء الداخلية والخارجية للكائن، تتحدَّد وفق البيئة المحيطة» … كيف ذلك؟ ويجيب ميتشورين:

  • إن الخلايا الجنسية تتكوَّن في الكائن وتتفاعل مع كل خلايا جسمه خلال حياته. وإن كل تغيير يتمُّ في الجسد وكل صفة يكتسبها الكائن خلال حياته تؤثِّر بدرجةٍ أو بأخرى على الخلايا الجرثومية، وإن الصفات المكتسبة يمكن توريثها من جيلٍ إلى جيل.

  • إن هناك وحدة بين الكائن والظروف التي يحياها. والوراثة لذلك هي خاصية الجسم الحي في تطلُّب ظروف معينة لحياته ونموه، وفي الاستجابة بطريقةٍ معينةٍ للظروف المتباينة.

  • لا يمكننا أن ننتظر الحسنات من الطبيعة، بل علينا أن ننتزعها انتزاعًا … ومن الممكن عن طريق تدخُّل الإنسان أن يجبر أي شكل من الحيوان أو النبات على أن يتغير بسرعةٍ أكبر في الاتجاه الذي يرغبه.٤١
وانتهى ميتشورين في المستوى النظري إلى أن الوراثة هي خاصية الجسم الحي في تطلُّب ظروف معينة لحياته ونموه، وفي الاستجابة بطريقةٍ معينةٍ للظروف المتباينة، وأن درجة الانتقال الوراثي للتغيرات تعتمد على الدرجة التي تشترك بها مواد الجزء المتغير من الجسم في العملية العامة التي تؤدي إلى تكوين الخلايا التناسلية أو الخُضرية. أي إن الوراثة هي تأثير تركيز فعل ظروف البيئة التي تمثَّلها الكائن خلال سلسلة من الأجيال المتعاقبة.٤٢
أما العالِم المعاصر ليزنكو، فإنه اكتشف أن الكائن الحي يمرُّ في مراحل مضنية من النشوء، قد يكون بعضها ظاهرًا، إلا أن معظمها يتمُّ دون أن تراه العين، وخرج من دراساته إلى أنه «لا يوجَد صراع بين أفراد النوع الواحد، بل يوجَد بينهما تعاون متبادل، وأنه يوجَد صراع وتنافس بين أفراد الأنواع المختلفة، كما يوجَد أيضًا تعاون وتبادل بينهما».٤٣
قلت إن سلامة موسى أفاد كثيرًا من جهود العلماء السوفييت هذه — مما سيأتي تفصيله بعد قليل — ولكني ذكرت أن غايته كانت أبعد مدًى بكثير، إن هذه الجهود تستهدف منهجًا جديدًا في علم الحياة، أما سلامة موسى فكان يستهدف منهجًا جديدًا في الحياة نفسها، في الطبيعة والمجتمع على السواء. وفي كتابه «الإنسان قمة التطور» يضع كلتا يدَينا، على السمات العامة لذلك المنهج، ثم يستطرد في الانعكاسات التفصيلية لمنهجه الجديد على نظرية التطور.٤٤

والكثير من سمات المرحلة الجديدة في منهج سلامة موسى، سوف نراه امتدادًا ناضجًا لجذور المرحلة القديمة. ولكن الجديد فعلًا هو «التكامل المنهجي» الذي كانت تفتقده تلك الجذور. أي إننا ربما عثرنا في المنهج الجديد على بعض العناصر التي عرفها منهجه القديم. ولكن التكامل المنهجي في المرحلة الجديدة، هو الذي يجعل بينها وبين المرحلة السابقة اختلافًا كيفيًّا.

ونحن نستطيع أن نقسم «الإنسان قمة التطور» إلى ثلاثة أقسام، هي ثلاثة أهداف رئيسية:

  • القسم، أو الهدف، الأول: هو الخطوط النظرية في المنهج الجديد.

  • القسم، أو الهدف، الثاني: هو التطبيق الاجتماعي والتاريخي لهذا المنهج.

  • القسم، أو الهدف، الثالث: هو تطبيقه على معنى التطور.

  • (١)

    وفي إيضاح الهدف الأول، نطالع الصفحات (٥٧، ٥٨، ١٥٧، ١٥١، ١٥٢، ١٥٤، ١٦٦، ١٦٧، ١٦٨). فنتحسس الخطوط النظرية في المنهج الجديد كما يلي:

    • الكون مادي «فالمادة والقوة شيء واحد. أو القوة إحدى ظواهر المادة … وكذلك الشأن في العقل، فإنه ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة نفسها إحدى ظواهر المادة.» «إن القوة المغنطيسية والقوة الكهربية والجاذبية والضوء والحرارة والكتلة كلها صور مختلفة للمادة.»

    • الكون وحدة مترابطة «فالكون وحدة، هو بمثابة النجم الواحد قد ارفضَّت أجزاؤه فصارت ملايين النجوم والكواكب.» «والمتأمل لمظاهر الكون، بعد أن يتخلَّص من الغيبيات التي انحدرت إلينا من القرون السحيقة، لا يتمالك الإحساس بوحدته.»

    • معنى التغير الكيفي «أن الذي يفصل بين الإنسان والحيوان هو المجتمع البشري الذي احتاج إلى اللغة، ثم احتاجت اللغة «الكلمات، الأفكار» إلى المخِّ الكبير الذي يتسع لاختزانها واعتمالها» و«بإيجاد «المجتمع البشري» خرج الإنسان من حدود التطور السابق، الذي كان يؤثر في الفرد ويغيره، إلى حدود التطور الاجتماعي الذي يغير المجتمعات.»

    • موضوعية العالم الخارجي، فالحواس وحدها «تجعلني ذاتيًّا في نظرتي للبيئة التي أعيش فيها. وعندئذٍ لا يطابق حكمي أو رأيي ماهية الأشياء» ولكن الاستعانة بالحواس — لا سيما النظر — ومنجزات التكنيك والتقدم العلمي «تجعل حكمي أو رأيي موضوعيًّا يكاد يطابق حقيقة الأشياء.» «فالعالم الخارجي حين تصل تفاصيله بالحواس إلى دماغي يحدث إدراكًا مركَّبًا وليس انطباعًا مبسَّطًا.»

    • الحركة التفاعلية بين المادة والفكر «الحياة كامنة في المادة وتنشأ منها. وكذلك العقل كامن في الحياة وينشأ منها. وهذا يتيح لنا القول بأن العقل كامن في المادة. ونحن لا نعرف حياة مطلقة بلا مادة كما لا نعرف عقلًا مطلقًا بلا حياة.» والهدف إذَن من الجهاز العصبي «هو الملاءمة بين الجسم الحي وبين الوسط الذي يعيش فيه.» «إن الصراع الكامن في المادة، وبينها وبين مختلف صورها، هو الذي يطورها من شكلٍ إلى آخر.»

  • (٢)

    ينبغي أن نستضيء بالرؤية الجديدة لسلامة موسى في نظرته إلى التاريخ الإنساني والمجتمع البشري، فنعتمد على الخطوط النظرية السابقة في اكتشاف دلالة التاريخ ومعنى المجتمع عند هذا المفكر في المرحلة الأخيرة من تطوره المنهجي. إنه يقرر سلفًا أن التطور «أكسبنا فهمًا جديدًا للطبيعة والكون والإنسان، وزوَّدنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل … هو أن الاستقرار لا يُعرَف في الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.» هذا المنهج «انفسح به التاريخ البشري آفاقًا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين قبل البشر وبعد البشر.» (ص٢٧) … ويحق لنا قبل الاستطراد أن نؤكد شيئًا هامًّا، هو أن التكامل المنهجي الذي اتسمت به المرحلة الأخيرة من تطور سلامة موسى لا يجوز اعتباره أحد القوالب الجاهزة المغلقة على ذاتها، والتي هي من الغرور والمثالية بحيث تعتقد أنها الألف والياء، البداية والنهاية. إن اكتشافه للديالكتيك، هو اكتشاف المنهج المفتوح، المنطلق إلى ما لا نهاية، لأن علم قوانين الحركة (الذي تكوَّن على أساسه المنهج المادي الجدلي) يتسم بما لم تتَّصف به إحدى الفلسفات من قبل، وهو قابليته الفذة لاستقبال القوانين العلمية — في كافة مجالات الحياة — أولًا بأول. وبالتالي قابليته لتطوير الصورة التي يقدمها عن العالم، بصفةٍ لا نهائية.

    ومن هنا لا يكون هذا المنهج «نظامًا» ميتافيزيقيًّا، لأنه يؤمن بنسبية المعرفة إلى الحقيقة المطلقة «وما دامت معارفنا ناقصة، فإن منطقنا يبقى ناقصًا» (ص١١٧). ولكن هذه النسبية لا تمنع أن تكون المعرفة الموضوعية في عصرها تقترب من الحقيقة المطلقة «أن غاية هذا التطور هو الوجدان، أي أن نتعقل هذه الدنيا، أو هذا الكون، تعقلًا موضوعيًّا يتجاوز انفعالاتنا الذاتية، أي أن نفهم الدنيا على حقيقتها الخارجية وليس وفق إحساسنا الداخلي بها» (ص١١٨). والنبوءة العلمية إذَن ممكنة في حدود الاحتمالات المرجحة لنتائج القوانين العلمية الحاضرة. ولذلك يعتقد سلامة موسى «أن تطورنا القادم سوف ينحو نحو الزيادة في الوجدان حتى نصل إلى المطابقة، فلا نخطئ المعرفة بحركات الذرة أو أجزائها بل نتجاوز ذلك أيضًا إلى أن نُحِس إحساسها ويصبح وجداننا كما لو كان «حاسة كونية» حتى إذا كنت على الأرض «وجدت» ما يجري في نجوم المجرة وجدان المعرفة والإحساس الموضوعي» (ص١١٨). ومعنى ذلك أن مسار التطور يؤدي بالإنسان إلى ذلك اللقاء الرائع بين الذاتية والموضوعية. وعلى طول هذا المسار التطوري، يصور سلامة انبثاق الحضارة الإنسانية من المرحلة الزراعية، بعد اجتياز البشرية مرحلة المجتمع المشاعي الأول (ص١٥) حيث كان العصر الأمومي، ثم ينشأ النظام الأبوي مع بداية المِلكية الفردية لوسائل الإنتاج، وانقسام المجتمع لأول مرة إلى سادة وعبيد (١٤٥، ١٤٦، ١٤٧) وتهتدي القبائل إلى الدين والتقاليد الاجتماعية التي ما تزال رواسبها تمتد إلى عصرنا في المجتمعات الطبقية (١٤٨، ١٤٩). وحينئذٍ يقرر سلامة «أن التقاليد تعوق التطور، والاستعمار يأكل ويشبع من الشعوب التي تجمدت بالتقاليد وسيطرت عليها الأديان التي تُعلِّمها أن السعادة في عالمٍ آخر وليست في هذا العالم» (ص٢٤)، ويأسف لأن الثقافة العربية ظلت أمدًا طويلًا في أسر هذه الأغلال، فلم تكن «الثقافة التي تحتاج إليها جماهير العرب التي تنشد القوة في المستقبل» (ص٢٤)، «حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابًا عربيًّا في تطور الأديان أو تطور المجتمع العربي أو تطور الأخلاق» (ص٢٣). وهو إذَن يدعو أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة، بل عقيدة دينية إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب «بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم» (ص٢٥). إنه يصل بهذا المنهج إلى نقدٍ بصير الرؤية للوايزمانية «أما الآن فإننا مضطرون إلى التسليم بأن ما نكسبه من بيئاتنا يؤثر في أعقابنا، فإذا كنا مثلًا نعيش في بيئة نتزاحم فيها ونتحاسد ويكافح بعضنا بعضًا من أجل العيش فإن ما نُحِس به من عواطف كريهة في هذا التزاحم والتحاسد سوف ينتقل غرائز ثابتة في سلائلنا القادمة» (ص٥٢). ويتضح عنده بجلاءٍ أن الوايزمانية — في المستوى الاجتماعي — فلسفة استعمارية، تبرر للاستعماريين الأوروبيين استغلالهم لثروات الشعوب المتخلفة «لأن هذه النظرية تفرض الكفاءة أو النقص البشري بعوامل وراثية تكاد تكون غيبية لا تُفهَم» أي إنها تجعل من تقدم الغرب وتخلف الشرق قضاءً وقدرًا لا سبيل إلى تغييره «فليس هناك ضرورة لترقية الأحوال الاجتماعية عند الهنود لأن انحطاطهم ليس بيئيًّا، وإنما هو وراثي أساسي لا يُعالَج.» والمكسب الأول لهذا المنهج الجديد في تفنيد الوايزمانية أنه «نقلنا من جبرية الوراثة إلى حرية التوجيه والتدريب للنوع البشري بتعيين عادات التعليم وأساليب العيش ونظم المجتمع حتى تنتفع بها السلائل القادمة من البشر» (الفقرات الأخيرة جميعها من ص٥٣). والوايزمانية — في المستوى الفلسفي — بل الدارونية أيضًا، لم تكن تجيب «لماذا يحدث التطور؟» فكانت تضع سدًّا منيعًا أمام المعرفة، بل أمام التطور، وربما كان داروين معذورًا في هذه الإجابة، إذ هو يتحفظ تحفظًا علميًّا دقيقًا حين يعترف بجهله إزاء قوانين التغير، أما وايزمان، مندل، مورجان، فتؤدي بنا فلسفتهم المثالية إلى «استحالة المعرفة» و«السر الإلهي». أما الآن — يقول سلامة — فقد أصبحنا نعي «لماذا تتطور الأحياء» (ص٥٤). كما أضحينا نعتقد أن هذه الفلسفات هي الجذر النظري لكل من الفاشية والنازية (ص١٥٠).

  • (٣)

    إن هذه المرحلة المنهجية في حياة سلامة موسى تنهل الكثير من المادية الجدلية والمادية التاريخية. ولكنها تنبع أساسًا من ذلك الينبوع الذي التقى به سلامة في فجر تطوره الفكري، من نظرية التطور، من داروين على وجه التحديد. وهو حين ينسلخ عن ذلك الطور البدائي لفهم التطور، ويكتسب تكوينًا منهجيًّا جديدًا لفهم هذه العملية، فإنه يعود مرةً أخرى إلى ذلك الينبوع الأساسي، كاشفًا أوجه العجز فيه، مفجرًا الطاقات الكامنة داخله، حتى تزداد دلالة التطور قدرة على الإخصاب والنمو والإثمار.

    إنه يعود إلى داروين، فيرى أنه تورط في خطأ منهجي حين قال بأن لدى الحيوانات قسطًا من الشعور الديني والنطق اللغوي اللذين يتمتع بهما الإنسان، فقد تجاهلت الداروينية ذلك الفارق الكيفي بين الحيوان والإنسان، الذي يعطي الإنسانية خصائص ذاتية تتسم بها وحدها (ص١٥، ١٦٦، ١٦٨). والنقطة الثانية أن داروين يعلل التطور بتنازع البقاء والميزات الوراثية، ولا يلتفت إلا في القليل إلى تأثير البيئة المحيطة بالكائن الحي، وسلامة يعتقد أن التطور يحدث — من زاوية رئيسية — بتأثير البيئة، «وأعني بالبيئة هذا المناخ والغذاء وأسلوب العيش والأمراض والأعداء؛ لأن الحي يستجيب لكل هذه الأشياء بأن يتخذ عادات معينة في المقاومة والملاءمة والرجوع والاستجابات، ثم تتكرر هذه العادات في أبنائه وأحفاده من الأجيال القادمة حتى تثبت وتصير وراثية لها أعضاء معينة تعين الوظائف» (ص٢١). وهو هنا لا يكتفي بتعليل لامارك للتطور؛ لأن البيئة عنده لم تصبح وعاءً زجاجيًّا يشكل ما بداخله تشكيلًا آليًّا جامدًا، وإنما أصبحت تعني ظرفًا موضوعيًّا دائب التفاعل مع التكوين الذاتي للكائن الحي، وينبثق التغير عن ذلك القانون، قانون التفاعل الصراعي بين الظروف الذاتية والموضوعية للكائن الحي. وهذا لا ينفي — عند سلامة — أن البيئة هي العامل الحاسم في عملية التطور، ولكنه لا يجعلها عاملًا وحيدًا، وإلا أصبحت قدرًا جديدًا. على أن هذا لا ينفي أيضًا أن داروين سيظل في وجدان سلامة ذلك المفكر الذي دعانا لأن نرى الفرق بين نظرة كلٍّ من التوراة ونظرية التطور إلى الإنسان «فالأولى تقول إنه كان عاليًا فسقط، والأخرى تؤكد أنه كان ساقطًا فارتفع» (ص٢٨).

    وسلامة موسى لا يفسر الداروينية تفسيرًا طبقيًّا بمعنى أنه ينفي تبعيتها لأحد خطوط الخريطة الطبقية للمجتمع البريطاني كما يذهب بعض الباحثين، ولكنه لا يعزلها عن طبيعة العصر الذي نشأ فيه داروين والحاجة الاجتماعية الملحة التي اعتصرت كيانه فقد «عاش في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لَنكشَير وغيره من الأقاليم الصناعية في إنجلترا» (ص٢٩). ولا يعزلها عن التراث الفكري والعلمي عن التطور الذي يبدأ من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الأوروبية في القرن التاسع عشر. بل إن اكتشاف وولاس لنفس القوانين الداروينية يؤكد أن النظرية كانت «في الهواء تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها» (ص٣١). وهو لا يعزلها أخيرًا عن التكوين الذاتي لداروين «لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها، حين تشمل المعيشة والاتجاه والعادات والعواطف هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا نغفل الشخصية» (ص٣٢).

    ولسنا بحاجةٍ في المرحلة الجديدة من تطور سلامة، أن نسجل تحيته إلى وود جونس، وتشييعه القسيس مالتس باللعنات. إن وود جونس هو العالِم الذي تساءل: إذا نحن سلمنا بأن الجسم يتأثر بالخلايا المنوية، فلم لا تتأثر الخلايا المنوية بالجسم؟

    وقد أجاب: أن العناصر الوراثية ليست محصورة في خلايا وراثية مستقلة بل إنها تنتشر في جسم الحي كله. يعلق سلامة (ص٤٨):

    «ولذلك نستنتج أن نظرية، أو بالأحرى عقيدة، وايزمان في انعزال الخلايا المنوية الوراثية أو استقلالها الفسيولوجي ليست صحيحة، وأن المبدأ عام في النبات والحيوان، وهو أن الخلايا المختصة بالوراثة تنشأ من خلايا الجسم نفسها ثم — وهذا هو ما تكبر قيمته الاجتماعية في الإنسان — إنه لقاء التأثير الذي تحدثه الخلايا المنوية في الإنسان. كذلك هناك تأثير آخر تحدثه خلايا الجسم في هذه الخلايا المنوية. وبكلمة أخرى، إن حياتنا وما نكابد فيها من رجوع واستجابات للوسط الذي نعيش فيه تعود فتؤثر في الخلايا الوراثية وتغير، للخير أو للشر، في أعقابنا، أي إن الصفات المكتسبة تورث.»

وقد أوضح سلامة بما لا يدع مجالًا للشك — من خلال بعض النماذج الحيوانية — أن الكائنات الحية تعبير صارخ عن ظروفها، في تكوينها المورفولوجي والفسيولوجي على السواء (ص٩٣).

غير أن التحية الرائعة حقًّا يقدمها سلامة إلى ميتشورين الذي أجاب داروين — وأجابنا — وأفحم وايزمان، حين قال لنا: لماذا تتطور الأحياء (ص٥٤). أما اللعنة التي يصبها على رأس مالتس فهي تحليل عميق لرجعية هذا الراهب الكاثوليكي، الذي أخرج كتابه عن السكان «بحافز من عواطفه المحافظة» التي ذُعِرَت من شعار الثورة الفرنسية: الإخاء والمساواة والحرية، فراحت تصوغ أحلامنا في كابوس لا يرحم من الوهم القائل بأن الناس الذين يتوالدون على نظام تضاعفي لا تكفيهم المحصولات الناتجة عن نظام حسابي (ص٢٩، ٣٠).

إن سلامة موسى يودع أصدقاءه من علماء التطور العضوي قائلًا: إن الجسم الإنساني في تفاعل حي مستمر، يتولد عنه دائمًا المزيد من الوجدان، من التعقل والفهم. أي إن أنثروبولوجيا التكوين العضوي للإنسان، تدل على أن «هذا المجنون هو البرهان على أن وجداننا لا يزال جديدًا في هذا العالم، أي إنه لم يستقر في كياننا النفسي، ولكنه برهان أيضًا على أننا قد أسرعنا الخطى نحو الغاية» (ص١٢٢).

على أن هذا الصوت المؤمن بالتقدم. المخلص للحقيقة العلمية في تطويرها للمعرفة الإنسانية على الدوام. لم يكن هو الصوت الوحيد في الفكر العربي الحديث. فمنذ أن استضافت ثقافتنا فلسفة التطور في أوائل هذا القرن، تعددت الأصوات القائلة بالتطور، معبرة — بصورة أو بأخرى — عن تطورنا الاجتماعي بصفةٍ عامة، والتيارات العديدة التي يعبر عنها هذا التطور بصفة خاصة. وإذا كان سلامة موسى هو الامتداد الأكثر تقدمًا لفلسفة شِبلي شُميِّل في التطور، فإن تيار الأفغاني لم يستطع الصمود في وجه الإنجازات العلمية المذهلة، والتحولات الاجتماعية العميقة في مجتمعنا؛ من هيكل العلاقات الإقطاعية، إلى القيم النامية مع العلاقات البرجوازية الجديدة.

بقي تيار إسماعيل مظهر. ذلك التيار التوفيقي بين العلم والدين، والذي يُعتبَر تمثلًا لخطوات العالم الفيزيائي الإنجليزي «أوليفر لودج» الذي قال بالتطور الروحي للبشرية كشيء منعزل عن تطوره المادي، أي إنه لا تعارض هناك بين إنسان داروين وإنسان التوراة. بقيت لهذا التطور امتدادات في صور مختلفة. هناك مثلًا الدكتور عثمان أمين ينادي بما دعاه «الجَوَّانية» أي إن التطور الحقيقي كامن في «الذات» الإنسانية، في باطن الفرد، في جوهره الداخلي. وهي نظرة قريبة من البرجسونية إذا شئنا التجاوز عن التعبير الفلسفي، ولكنها قريبة من الأفلاطونية إذا توخينا الدقة الموضوعية في تسمية الأشياء بأسمائها.٤٥
هناك أيضًا الدكتور زكريا إبراهيم الذي يعالج «مشكلة الإنسان»٤٦ على أساس «أن البيئة عنصر كامن في الكائن نفسه»، راجع كتابه المعنون بنفس الاسم (ص٧٩).
وهناك أخيرًا، الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «الشرق الفنان»٤٧ حيث يتبنى أكثر النظريات رجعية في الفكر الأوروبي حين يقسم العالم إلى شرق وغرب، الشرق هو محراب الروح، والغرب محراب المادة، والشرق هو مهد الفنون، والغرب معمل العلوم. كل ذلك لا لشيء إلا لأن الطبيعة أرادت للشرق أن يظل شرقًا وللغرب أن يظل غربًا، أن يفوز الشرق — إلى الأبد — بمركزه الاستراتيجي الخالد في «مقابر الأنبياء»، وأن يفوز الغرب — إلى الأبد أيضًا — بناصية العقل والعلم والتقدم. أي إننا يجب أن نتشح بالسواد، فقد كُتِبَ علينا التخلف في لوح القدر الذي تخطه أنامل الدكتور زكي نجيب محمود، التي فقدت الحياة — فيما يبدو — ولم تعد تهتز من أنباء عصر الفضاء!

ولكن هذا التيار الأسود في ثقافتنا، كان تأكيدًا إيجابيًّا لخريطة التطور الاجتماعي في تاريخنا، إذ هي تعبر أصدق تعبير عن الأجنحة الرجعية في مجتمعنا. ولكننا نبتسم — مع هذا — في تفاؤل، لأن هذه الأجنحة لم تعد بقادرة على التحليق، فالمسار الحضاري لمرحلتنا التاريخية، يدعم الاتجاه التقدمي في ثقافتنا. الذي عبرت عنه كتابات شِبلي شُميِّل ويعقوب صروف وسلامة موسى وعصام حفني ناصف، وغيرهم من رواد الجبهة التقدمية في الفكر العربي الحديث.

ولعلنا في نهاية هذا الفصل، نستطيع أن نسمع «الكلمة الأخيرة» لسلامة موسى في رؤيتين — أو يُوتُوبْيتَين — سجلهما في أحدث كتبه: «افتحوا لها الباب»٤٨ حين تخيل العالم في «قصة السبعة الكبار» وقد «أصبحت الدنيا كلها قُطرًا واحدًا وشعبًا واحدًا، ولم تعُد هناك أية أمة تتعصب للونها الأبيض ضد الزنوج، كما لم تعد هناك فواصل بين قُطر وقُطر … إن الحروب قد انتهت، ولم يعد هناك استعمار أو استغلال» (ص١٦٥). وفي «هجرتنا إلى القمر» يقول: «وكنا بالطبع نحيا حياة اشتراكية» (ص١٧٦).

ولو أننا تتبعنا أحلام سلامة موسى لأيقنَّا على الفور أن هذا الحلم الأخير تجسيد رائع للمرحلة الأخيرة من مراحل تطور منهجه الفكري. إنه الحلم الذي يعتمد على الحقيقة العلمية التي تصوغ إنسانية الإنسان في أكثر القوالب إشراقًا وتفاؤلًا.

إن الخطوة الأخيرة لسلامة موسى في معبد التطور هي قمة التعبير التقدمي في تاريخنا الفكري الحديث.

١  أحلام الفلاسفة، ط أولى، دار الهلال ١٩٢٦م، ص١٣٠، ١٣١.
٢  تربية سلامة موسى، ص٤١.
٣  راجع في هذا الموضوع ما كتبه المفكر الإنجليزي جوردون تشايلد عن التاريخ، الترجمة العربية لعدلي برسوم عبد الملك، الدار المصرية للكتب، ص٨٩–٩٣.
٤  راجع كتاب «داروين» لمارسيل برينو، ومقدمة لويس عوض لكتاب «برميثوس طليقا»، ط. أولى، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٤٧م، ص٢٢.
٥  نظرية التطور وأصل الإنسان، المطبعة العصرية بالقاهرة، ص٢١.
٦  المصدر السابق، ص١٩ و٢٢.
٧  تربية سلامة موسى، ص٢١١.
٨  المصدر السابق، ص١٥٠–٢٧٤.
٩  اليوم والغد، ص١١٤، ١١٥.
١٠  راجع تفاصيل هذه المعركة في كتاب إسماعيل مظهر «مَلْقَى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء»، المطبعة العصرية، ١٩٢٤م.
١١  راجع كتاب د. عبد الرحمن بدوي «نيتشه» مكتبة النهضة المصرية، ط ثالثة، ١٩٥٦م، ص٢١٥.
١٢  المصدر السابق، ص٢٤٣–٢٥١.
١٣  تربية سلامة موسى، ص٩٥.
١٤  المصدر السابق، ص٩١.
١٥  راجع «برنارد شو»، ط أولى، الخانجي، ص٦٩، ٨٤.
١٦  هؤلاء علموني، ص٧٨.
١٧  برنارد شو، ص١٥٧ إلى ١٩٧، وكتاب برنارد شو لميشيل تكلا، ص٥٨.
١٨  أحلام الفلاسفة، ص١٠١.
١٩  مدخل إلى الفلسفة، جون لويس، ترجمة أنور عبد الملك، ص٢١٥.
٢٠  أحلام الفلاسفة، ص١١٠.
٢١  مختارات سلامة موسى، ص١٥٠.
٢٢  أحلام الفلاسفة، ص١١٨–١٢٨.
٢٣  راجع «نظرية التطور» ص٢٢٧، و«العقل الباطن» ص٨٥، و«اليوم والغد» و«مختارات سلامة موسى».
٢٤  نظرية التطور وأصل الإنسان، ص٢٣٦.
٢٥  راجع «برنارد شو»، ط أولى، ١٩٥٧م.
٢٦  نظرية التطور وأصل الإنسان، ص٤٢.
٢٧  راجع مقال أمير إسكندر عن «برجسون … فيلسوف الأزمة الفرنسية» بجريدة المساء المصرية ١١ / ١٠ / ١٩٥٨م.
٢٨  مختارات سلامة موسى، ص١٦٨.
٢٩  جون لويس، مدخل إلى الفلسفة، ص٢١٦-٢١٧.
٣٠  المصدر السابق، ص٢٠٨.
٣١  نظرية التطور وأصل الإنسان، ص٢٢.
٣٢  أحمد شكري سالم، صناع الحياة، كتب للجميع، ص٧٧.
٣٣  راجع «النظرية المادية في المعرفة» للكاتب الفرنسي روجيه غارودي، ترجمة محمد عيتاني، دار المعجم العربي، بيروت.
٣٤  هؤلاء علموني، ص٤٦، ٤٧، ٤٨.
٣٥  المصدر السابق، ص٤٩.
٣٦  راجع بحث ليسنكو «الموقف الراهن في علم البيولوجيا» الترجمة العربية، ط. أولى، ١٩٤٧م، أحمد شكري، الدار المصرية للكتب.
٣٧  هؤلاء علموني، ص٤٥.
٣٨  تربية سلامة موسى، ص٩٥.
٣٩  هؤلاء علموني، ص٤٢.
٤٠  المصدر السابق، ص٥١.
٤١  راجع الفصل الخامس ميتشورين في كتاب أحمد شكري سالم «صناع الحياة»، ص١٤٤، ١٤٦.
٤٢  المصدر السابق، ص٥٣.
٤٣  المصدر السابق، ص٥٣.
٤٤  كتبه سلامة موسى قبل وفاته عام ١٩٥٨م، ونُشِرَ عن الدار التي تحمل اسمه، لأول مرة عام ١٩٦١م.
٤٥  راجع مقال الدكتور عثمان أمين عن الجَوَّانية بمَجلة «المَجلة» ١٩٦٠م، ومَجلة «حوار» يناير ١٩٦٥م، وكتابه «الجَوَّانية» ط أولى، دار القلم بالقاهرة.
٤٦  ط أولى، مكتبة مصر بالقاهرة، ١٩٥٩م.
٤٧  المكتبة الثقافية، دار القلم، ١٩٦٠م.
٤٨  صدر عام ١٩٦٢م عن دار سلامة موسى للنشر، والكتاب عبارة عن مجموعة مختارة من القصص القصيرة التي كتبها سلامة موسى قبل وفاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤