الفصل السابع

الفنان ضمير العالم

حين صدر كتاب «الأدب الإنجليزي الحديث» لسلامة موسى عام ١٩٣٢م كان تاريخنا الأدبي قد أذن بصفحةٍ جديدةٍ في تراثنا النقدي المعاصر.

ولو وعينا الخطوط الرئيسية التي انتظمت الحركة النقدية في الأدب العربي عند بداية الربع الثاني لهذا القرن، لاكتشفنا أنهما خطَّان يتيمان غَلَبَا على وجدان أدبائنا في محاولاتهم المتعثرة، لإيجاد ميزان تقويمي سليم.

أما الخط الأول، فهو المدرسة السلفية، التي ارتاحت إلى أحكام التقاليد والدين، فيما يأتيه البشر — ومنهم الأدباء — من أعمال. واستمد أقطاب هذا الاتجاه موازينهم من بلاغة القرآن والأحاديث والكتب القديمة، واستلهموا بناءها الفني في تطبيقِ أُسُسه على ما ينشره الأدباء المحدثون على الناس، ولم يعتبر بناة هذه المدرسة في إرسائهم قواعد الفنون، إلا بجودة السبك والأسلوب المطهَّم من حيث القالب والإطار … وبتعاليم الدين وأمثال السلف، من حيث المضمون والمحتوى.

ولم يكن رواد هذا المذهب إلا تعبيرًا صادقًا عن طبيعة المجتمع الإقطاعي الذي عايشوه. وما نظرتهم الخلفية إلى أشكال الأدب القديم إلا إحساسٌ مخلص بما اجتمع بين مناخ الثقافة السالفة ومناخهم الحديث من أوجه التشابه وقرابة النظام الاجتماعي.

والمدرسة الثانية لا تختلف عن الأولى؛ بمعنى أنها ارتاحت إلى استيراد القديم. وما بينهما من خلافٍ أن الأولى ارتمت بين أذرع العرب بينما الثانية ارتمت بين أحضان ثقافة الغرب.

فالخطُّ الرئيسي الثاني في خريطة نقدنا الحديث هو ما استورده أدباؤنا من قواعد الأدب الأوروبي وأصوله النقدية … لا في آخر مراحل تطوره، بل في بداية هذا التطور. وكانت المناهج العقلية — أو المنطقية — هي السائدة على ذلك الطور المتخلِّف من النقد الأوروبي بصفةٍ عامة والأدب الإنجليزي بصفةٍ خاصة. وربما رأينا هذه المناهج «مسخًا» بعد أن نُقلت إلينا، على أيدي أدباء رأوا فيها مرآة جاهزة لما يعتلج في صدورهم وما يمور في مجتمعهم، ونسوا أنها عبَّرت — أخلص تعبير — عن مجتمعات اختلفت ظروفها عن ظروفنا، وسبقت أطوار نموها الحضاري، خطوات تاريخنا.

لكنهم في فورة حماسهم، وكردِّ فعلٍ لاتجاهات المدرسة الأولى، راحوا ينشدون الأحكام الحاسمة على الإنتاج الأدبي … دون اعتبار لعاطفة ذاتية، وإنما «العقل» هو الناقد الحقيقي، أو «الحَكَم» الموضوعي، ولا دخل للناقد في رأيهم بأية ظروف أو عوامل أحاطت الأديب أثناء إنتاجه هذا العمل الفني، و«النص» وحده، هو الفنان والظروف والحَكَم جميعًا، ولا دخل للناقد — في رأيهم أيضًا — بعواطفه الذاتية، ولكي يصبح موضوعيًّا أمينًا يجب أن يتجرَّد من ذاته وأهوائه.

•••

وسارت المدرستان زمنًا، في خطَّين متوازيين، غير أنهما تقاربا حينًا، واختلفا أحيانًا. وتولد عن هذا التقارب والاختلاف مدرسة وسطية جديدة، اتخذت لنفسها خطًّا ثالثًا يجمع بين النقيضين.١

وما إن بدأت العلوم الحديثة تزحف إلينا، حتى تعدَّدت المدارس والاتجاهات. وتنازل البعض من رواد المذاهب القديمة عن موازينهم، وآثروا مسايرة التقدم، فكان منهم من تعلق بأهداب علم النفس، وراح يفسر العمل الأدبي بروح فرويد وغيره من علماء السيكولوجيا. ومنهم من اكتفى بتسجيل انطباعاته الشخصية وحدها؛ لأنها — في رأيه — المقياس الوحيد الصادق، ومنهم من اتبع منهجًا تاريخيًّا في النظر إلى إنتاج الأديب.

وهكذا اضطرب المحيط الأدبي في مصر، بموجاتٍ نقدية، مضت في خطوط أمامية مستقيمة، لا تقبل الْتقاءً مع خطوطٍ أخرى.

ولم يكن عيب هذه المدارس جميعًا إلا أنها لم تكتشف همزات الوصل الموضوعية بين مناهجها، وإحساسها بهذه الانفصالية هو صورة لما كان عليه مجتمعنا وتفكيرنا؛ لأن حقيقة الأمر أن هناك ترابطًا وثيقًا بين الاتجاهات الأدبية المختلفة، ما دامت تعبِّر عن مجتمعٍ واحدٍ.

غير أن هذا الترابط، ما كان يُفهَم حسب نظرة ميكانيكية للأمور، أي إننا لا نقصد بما نسميه الصلة الوثيقة بين المدارس المتباينة، أنه يمكن الجمع بينها في طبقٍ واحد. وإنما أستهدف القول: بأن رؤية هذه الصلة الموضوعية كانت في حاجةٍ إلى منهج علمي متكامل.

وعندما صدر كتاب سلامة موسى عن الأدب الإنجليزي الحديث، لمحنا السمات الأولى لهذا المنهج. لم يكن تخطيطًا نظريًّا، وإنما كان تطبيقًا على لون من الآداب الأوروبية، يمكن القول بأنها عانت «التطور» الذي رسمه سلامة وفق منهجه الجديد.

ولم يكن غريبًا، أن يقابَل هذا الكتاب — بما ينطوي عليه من منهج يغاير المناهج السائدة — بالتجاهل المطلق من جانب النقاد، وبالتغافل من قبل الأدباء.

ذلك أن المناخ الاقتصادي والاجتماعي في ذلك الحين لم يكن يسمح بشعارٍ غريبٍ يؤكد بأن التجديد في الأدب لا يعني شيئًا آخر سوى التجديد في الحياة.

فقد كانت الحياة العربية ترزح آنذاك تحت عبء الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي، والقوى الروحية لمثل هذا المجتمع لا بد أن تنبع من صميم الأزمة المادية التي يعانيها. ومن ثَم كانت القيم الفكرية السائدة هي ظلال الأوضاع الاجتماعية المسيطرة.

وإذا جاء ناقد يقول: «الحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة، فقد كانت الفلسفة القديمة تترفَّع عن درس الحياة الدنيا وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء، وماهية هذا الشيء، وكانت تبحث الغيبيات، أي ما قبل الوجود وبعده. وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم. ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكفِّ عن البحث في كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان.»

إذا جاء ناقد يقول هذا الكلام، فإننا ندرك أية ثورة قد أعلنها على «أقدس» القمم الفكرية؛ لأن مجرد الاهتمام «المادي» بوجودنا الإنساني يثير علامات استفهام كثيرة حول النظام الاجتماعي الذي يمزِّق كيان البشر، ولا يؤمِّن مستقبلهم، ويدعهم نهبًا للحيرة والشك والقلق. بعد أن كان هؤلاء «البشر» في هدوء المخدرات التي يتعاطونها مع الفن الذي «يسمو» بهم إلى فضاء الخرافة، ويعلو ﺑ «أرواحهم» إلى سماء الأوهام.

جاء سلامة موسى إذَن ليقول: «إن الأديب التقليدي يُعنَى مثلًا بأسلوب الجاحظ فيحتذيه، ولا يُعنَى بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينتقده ويطلب إصلاحه. وهو يكتب عن العرب وتاريخهم ومجدهم، ولا يكتب عن نكباتنا الحاضرة، وما نقاسيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، ولذلك فإن أدبه سلفي، وهو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلةٍ عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برجٍ عاجي. وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا.»

وأحس دعاة الأدب في مصر بأن الكتاب ليس بحثًا في الأدب الإنجليزي، وإنما هو بالتحديد «منهج» يمكن تطبيقه على أدبنا المحلي. وتتحدَّد خطورته بأنه:

أولًا يتطلَّب من الأديب وعيًا خاصًّا بظروف مجتمعه وتاريخه، أي إنه سيُضطرُّ إلى مضاعفة الجهد في الدراسة والاستيعاب. وهو ما كان في حاجةٍ إلى مثل هذا «التعقيد» حين كان يحتذي في بساطةٍ أسلوب الجاحظ والخنساء والزمخشري.
أما الوجه الثاني لخطورة هذا المنهج، فهو «التغيير» الذي يمكن أن يحدث في جماهير القراء، ومن ثم في «المجتمع» … وحينئذٍ ينتهي «قلق» الأدباء ليبدأ قلق «السلطات».

وعندما أحس أدباؤنا أيضًا — وهذا هو المهم — بما يتضمَّنه المنهج من «خطر شخصي» على كيانهم الاجتماعي، رأوا «من الحَسَن» أن يتجاهلوه على التوِّ، ويهونوا من شأنه، ويعملوا على إخفاء أثره.

وبالفعل، نجحت خطتهم إلى حدٍّ بعيد، بصفةٍ مؤقتة. فإن ناقدًا واحدًا أو باحثًا أو أديبًا، لم يشر إلى الكتاب بحرفٍ واحد.

ومضى من التاريخ عشرون عامًا، تبدَّلت خلالها كثير من الأوضاع الجذرية للمجتمعات العربية، ولم يكن سلامة موسى أثناءها باكيًا أو راقدًا، وإنما كان «مؤثرًا» أساسيًّا في كل تطور اجتماعي أو ثقافي.

ومنهجه الذي اعتقد أدباؤنا أنهم شيعوا جنازته، كان الثقاب الذي أشعل الفتيل في كل مكان؛ لأن هذا المنهج لم يفارق صاحبه لحظه، بل رافقه في جولاته العديدة … بين أروقة الآداب الأوروبية حينًا، وفي زحمة آدابنا العربية أحيانًا.

كان في هذه الجولات جميعها يطابق بين فلسفته والواقع المحلي … أي بين منهجه وإنتاجنا العربي. ومن ثم تبلورت معالم المنهج الرائع، الذي حمل مشعله جيلنا، في كتابه العظيم «الأدب للشعب».٢ الذي صدر مع ميلاد مجتمعنا الجديد ١٩٥٤م، وكأنه «أنشودة النصر» التي جادت بها أعظم قصة كفاح.

وفي «الأدب للشعب» لا تجد جديدًا عما قرأته في «الأدب الإنجليزي الحديث» من حيث الخطوط الأساسية. ولكنا نكتشف الإضافات الحية الخلاقة التي أضافها التطبيق المحلي على منهج سلامة، فزاده غنًى وثراء.

وقبل أن يحدد لنا سلامة موسى ومفيد الشوباشي ومحمد مندور ولويس عوض ومحمود العالم وعلي الراعي منهجًا علميًّا متكاملًا، لم نكن نستطيع أن نفسِّر تاريخنا الأدبي تفسيرًا موضوعيًّا سليمًا.

فالدكتور طه حسين، يبرر لنا الصور المتكررة في الشعر الجاهلي، بتكرار صور البيئة المحلية فقط،٣ ويعلل بُعد الأدب العباسي عن الالتصاق بالحياة الطبيعية، بالميل المفرط إلى «ليالي الطرب والأنس» التي لا تتوفر إلا للخاصة.٤
والعقاد يحلل بلاغة الأدب العربي في صدر الإسلام، لكونه تأثر بلغة القرآن، وينعي بساطة أسلوب الأدب الحديث، لأنه «انساق في تيار عصر السرعة».٥

أما سلامة موسى فقد لاحظ أن ثمة علاقة حية بين المرحلة التاريخية التي يعيشها الفنان، وبين ما ينتجه من فن. وحينئذٍ تساءل: ما هو الأدب العربي القديم؟ وأجاب (ص٦): «هو أدب كان يؤلفه الكُتَّاب والشعراء لأجل الخلفاء والأمراء والفقهاء؛ لأن جميع هؤلاء كانوا «الدولة»، ولم يكن للشعب وجود في أذهان الكُتَّاب. وكان أدب الخلفاء والأمراء نوادر وقصصًا وأشعارًا تسلي وتذهب بالسأم، أي سأم البطالة … بطالة المترفين. وكان أدب الخلفاء أحيانًا تواريخ تؤيِّد دولتهم، وتثبت حقوقهم في تبوُّء الحكم، وكان أدب الفقهاء شروحًا وتعقيبات على الدين والمذاهب. ولما ظهرت الدولة الفاطمية التجارية في مصر، وظهرت الدول المستقلة في المغرب والأندلس، وكثرت السياحات، ظهر أدب يكاد يكون شعبيًّا في قصص الرحلات، بل صار شعبيًّا خالصًا في كتاب ألف ليلة وليلة مثلًا. لكن الشعوب كانت لا تزال في التراب، فلم يرتفع هذا الأدب عن التراب.»

أوضحت لنا هذه الكلمات حقيقة هامة، فالأدب والفنون تتصل — بشكلٍ معين — بالنظام الاجتماعي القائم. ولكن إذا تساءلنا: ما هي طبيعة هذا الاتصال؟ ما هي العلاقة بين الفن والمجتمع؟ لن نجد إجابة تفصيلية في «الأدب للشعب» لأن مؤلفه لم يناقش الأمور يومًا، إلا على مستوى فكري، أي إنه يرسم التخطيطات العامة، ويدع التفاصيل الدقيقة للمتخصصين، ممن يتوفرون على هذا النوع من الدراسات.٦

غير أن سلامة أجاب على أسئلتنا في حدود ذلك الإطار؛ أي إنه أوضح لنا العلاقة بين الفنان ومجتمعه حين استطرد في حديثه عن الأديب العربي القديم الذي «كان ينشد الحكمة خلفه وليس أمامه، وكان يكتب للخاصة، بل أخص الخاصة.» فقد قال (ص٢٧): «وأخصُّ الخاصة هذه كانت تلتفت إلى الماضي؛ لأن حقوقها التاريخية كانت تستند إلى هذا الماضي، وإلى احترام عاداته ولغته. فجذبت إليها الأدباء الذين يؤيدون سلطانها.»

الحقوق التاريخية هي الخيط الذي يشد الفنان إلى الالتصاق الحميم بالمجتمع.

ونحن حين نصمم خريطة مجتمعٍ ما، نتخيله هرمًا كاملًا، قاعدته هي النظام الاقتصادي والاجتماعي وظروفه البيئية والتاريخية. وقمته هي المثل الفكرية، والقيم الروحية، المنبثقة من صميم الكيان المادي لهذا المجتمع … أي هذا الهرم.

وليس هذا البناء تكوينًا جامدًا؛ لأن التفاعل الدائم بين القاعدة المادية والقمة الروحية يؤثر — بطريقةٍ حيةٍ متطورة — في مضمون ذلك المجتمع، وبالتالي في شكله البنائي، أي إن كافة المثاليات النابعة من قاعدة البنيان الاجتماعي تتحول إلى «قوة مادية» تؤثر في القاعدة من جديد، ويتولد عن تفاعلهما الدائب المستمر خلخلة عميقة في الجذور المادية للمجتمع، ومن ثم يتبدل التخطيط الاقتصادي والمحتوى التاريخي، وينسج المضمون الجديد لنفسه شكلًا جديدًا، ويفرز المجتمع الوليد قيمًا فكرية تغاير المثل القديمة. وتعود هذه الفكريات وقاعدتها يتفاعلان من جديد … وهكذا، يصبح التطور هو السمة الوحيدة لحركة التاريخ.

والناقد العلمي يرصد الدورات التاريخية مستكشفًا بوعيٍ الدور الحي الخلاق الذي أسهم به الفن في حركة التاريخ هذه، وما أضافه إلى التراث الإنساني السابق من لبنات غالية.

وكتاب «الأدب للشعب» لا يرسم — كما قلت — الخريطة الدقيقة لهذا المنهج، ولكنه يكتفي بالخطوط الرئيسية دون الإيغال في الدقائق الصغيرة.

وسلامة موسى — في المستوى الفكري الذي يناقش به الأدب — يشك في أن كلمة «الشعب» ذُكِرَت في أي كتابٍ من كتب الأدب العربي القديم بمعناها العصري «ذلك لأن كتب الأدب العربي هي كتب الملوك والأمراء … وهذه الأجزاء العشرون أو أكثر من الأغاني هي قصص السادة ملوكًا وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم من رجال الدين والحرب والسياسة. ولست هنا أنسى قيسًا ولبنى وأمثالهما. ولكن هذه القصص لا تبلغ جزءًا من مائةٍ من صفحات الأدب القديم. ونستطيع أن نقول، لهذا السبب، إن الأدب القديم كان ملوكيًّا يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها. ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني عن القصور والخمور والمغنيات والموائد المطهَّمة، والفروسية الحربية، أما الشعب فلا وجود له عنده. بل ماذا أقول؟ إن في الأغاني شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يُدْعَى علي بن أحمد، حاول أن يحرر العبيد ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن مؤلف الأغاني الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية والروح الديمقراطية، كان يصفه بكلمات: الخبيث والفاسق واللعين! اعتبر هذا أيها القارئ … رجل عربي يُدعى علي بن أحمد هتف به الشرف، فحمِيَ قلبُه وارتفع روحُه وصلى وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويُفحص عن أسنانه، وتُدس الأيدي بين أفخاذه، ويُجر من لسانه، ثم يضربه البائع بالعصا، فينطلق وهو عريان يعدو للامتحان. ثم يقدر ثمنه فيباع ويُسلَّم سلعة للمشتري. رأى علي بن أحمد هذا الهوان فقال: هذا لن يكون! ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي يريد تغيير هذا المجتمع. ولكن الخليفة هزمه بجيوشه التركية الأجنبية. ومثل هذا العظيم، هذا الإنسان الكمالي، هذا الرائد للحرية، لم يجد من أديب «الأغاني» سوى أنه خبيث وكافر ولعين» (ص٤٢).

وليس تعبير «الأدب الملوكي» تعبيرًا بلاغيًّا، وإنما هو يحمل في طياته — كما يقول المؤلف — معنًى هامًّا جديرًا بالتأمل.

  • فأدب الملوك يحتاج إلى أن نكتب عن التاريخ القديم؛ لأنك بهذا الموضوع تفر من الواقع الحاضر، وتُسلي وتُسامر.

  • وأدب الملوك، هو أن تُلغي دعاة الأفكار الجديدة لأنهم يُقلقون الشعب في استقراره، وهو استقرار الفقر والجهل والجوع.

  • وأدب الملوك، هو أن تلغي الثورة، وتدعو إلى التقاليد؛ لأن التقاليد لا تتَّفق مع الثورات.

  • التاريخ القديم والتقاليد والعقائد تؤيد النظام الملوكي، فأيما كاتب يخرج عليها إنما يخرج على العرش، وهو لذلك يجب أن يطارد … فمن دعا إلى التيسير في اللغة للوصول إلى العامة يُعَد عدوًّا … ومن دعا إلى تطور يُعَد عدوًّا. وكل هذا معقول عند الملوك، ومن التف حولهم (ص٤٥).

وسلامة موسى يرى في الأدب ولاءً للإنسان وليس للتقاليد (ص٢٨). ومن هنا كانت ثورته على أدبائنا المحْدَثين الذين يأخذون بأساليب القدماء.

والحق أن الأديب لا يحيا على هامش المجتمع، وإنما هو ينمو ويتنفس ويعيش في قلب المجتمع، ومن ثَم أصبح تأثيره مباشرًا في تقدم هذا المجتمع أو انتكاسه.

والفنان الصادق هو الذي تتيح له ظروفه الموضوعية بصيرة علمية، يضع بواسطتها يده على نواميس تطور الحياة والكون والإنسان. وبعد أن يعي حقيقة الصراعات المتباينة داخل أسوار مجتمعه، يتخذ لنفسه موقفًا محددًا حاسمًا وسط هذا الصراع. فهو إما أن يقف إلى جانب الأطوار المستقبلة في تاريخ البشر، ويلتزم حينئذٍ بمسئولية القلم الذي يمسكه، ويسهم في أشرف معركة إنسانية، مهما أصابه من ضرر، وإما أن يتخذ موقفًا رجعيًّا، للمحافظة على «حقوقه التاريخية».

وهو في الحالة الأولى، لا يتمسك بأساليب القدامى وطرق تفكيرهم؛ لأن تلك الأساليب كانت تخدم مجتمعًا لا يتشابه مع مجتمعنا. وفي الحالة الثانية، يحيط فنه بضبابية معتمة لا تنير طريقًا، بل تدعنا نتعثر بلا أمل. وفي الحالة الأخيرة، يتمسك بمحاكاة القديم في القالب والمحتوى؛ لأن التشبه بالمجتمعات المتخلفة — في أساليب حياتها وتفكيرها — هو «تجميد» للأنظمة الرجعية القائمة في المجتمعات. ثم إننا «يجب أن نذكر أنه ما من ابتكارٍ في الأدب، إلا ويعود إلى خلاف للقدماء، وأولئك الذين يُكْبرون من شأن القدماء ينسون أنه كان لهؤلاء القدماء قدماء آخرون أنكروهم وخالفوهم وشقوا أساليب جديدة في التعبير والتفكير» (ص٨).

أي إن أسلافنا من بناة الفكر القديم حققوا خطوات تقدمية في مراحلهم التاريخية. والوقوف عند أعتابهم وحسب، هو الجمود والخلفية؛ لأن الماضي، مهما كان مجيدًا، لا يحمل بشائر التفاؤل والحياة، وإنما هو يخدر حواسنا عن الاعتراف بالواقع الحي الذي نعانيه.

والاعتراف بهذا الواقع يجرنا غالبًا إلى التفكير في تغييره، بل هذه هي مهمة الأدب الإنساني.

وإذا كان سلامة موسى يؤكد أننا نُهرَع إلى المثاليات القديمة: «عندما تخمد الحياة في الشعب، فهي تثير ذكرياته في اشتياق، كما لو كان يشتاق إلى الموت. لأن في الماضي كثيرًا من سمات الموت، بل هو موت. وهذا الماضي يشيع في نفوس أبنائه عقائد، في حين أن المستقبل يطالب بالمنطق والعقل والتزام الحقائق» (ص٨).

واللوم، إذَن، لا نوجهه إلى أدبائنا القدامى الذين أخلصوا في التعبير عن مجتمعاتهم، وإن كانت قلتهم النادرة هي التي أخلصت بشكل إيجابي فعال، وإنما اللوم الحقيقي يوجه إلى أدبائنا المعاصرين، الذين يعودون بنا إلى الخلف، بالرغم من أن الأدباء القدماء أنفسهم لم ينظروا إلى الوراء.

ومن يتأمل ابن سينا، وأبا العلاء، وابن رشد، وابن حزم، وغيرهم من مفكري وأدباء العرب، يجد أن أبصارهم قد جابت آفاقًا بعيدة المدى، أبعد كثيرًا من آفاق مفكرينا وأدبائنا المعاصرين، حتى إن سلامة موسى يقول (ص٢٢): «إنني أحس أني أقرب إلى المتنبي مني إلى شوقي؛ لأني أجد في الأول صورة الكفاح بين العرب والرومان في عشراتٍ من قصائده الرائعة، أي إن له قيمة تاريخية عندي أبصر بها حركة التاريخ. أما بعد هذا، فهو وشوقي سواء في نظم الأكاذيب التي كان أولهما يمدح بها سيف الدولة، والثاني الخديو عباس.»

هل معنى ذلك أنه يمكن الاستغناء عن تراثنا القديم؟

وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نحدد المعنى العلمي لكلمة الثقافة، إذ لا أعتقد أن أحدًا يقول بأنها «حصيلة معارفنا العصرية» لأن هذه المعارف ليست وليدة اليوم، وإنما هي نتاج القرون والأجيال، وثقافتنا المعاصرة هي طور جديد فحسب من أطوار نمو تاريخنا الثقافي.

ومن نقطة الانطلاق هذه، نحس «بالضرورة الحتمية» لدراسة التراث القديم.

  • فإن معالم هذا التراث في أذهاننا مشوشة بفضل المناهج غير العلمية، التي سيطرت على مؤرخيه. ومن ثَم، فدراسة تراثنا بمنهجٍ علمي هي عملية «غربلة» تتيح لنا نتيجتها صورة حقيقية لهذا التراث.

  • ثم إننا نفيد من دراسة تاريخنا الثقافي، أننا نضع أيدينا على قوانين تطور ذلك التاريخ، ونواميس العلاقة بين ثقافتنا القديمة، والمجتمعات التي عبرت عنها. وإذا أمسكنا بمفاتيح تطورنا، لا ريب أننا نستطيع التقدم إلى أمامٍ بوعي. بعد أن كنا نسير بطريقةٍ عفوية وعيوننا بعيدة عن منظارٍ علمي.

وهكذا يبدو لنا واضحًا، أهمية «الدراسة» الواعية المستنيرة لأدبنا القديم. وأقول كلمة «الدراسة» للمرة المائة؛ لأنها تعني شيئًا آخر تمامًا غير «المحاكاة» و«التقليد» وما يفعله سائر أدبائنا «المحافظين». ولذا وصف سلامة الثقافة القديمة (ص١٦) بأنها «تراث بشري عظيم لا يهمله إلا مغفل، ولكن يجب أن نميز بين قديمٍ وقديم، ذلك أن هناك قدماء قد يفصل بيننا وبينهم ألف سنة أو ثلاثة آلاف سنة، ولكنهم قدماء معاصرون؛ أي يشتغلون بهمومنا البشرية أو الاجتماعية العصرية.»

وهؤلاء يختلفون — قطعًا — عن الذين يُغفلون التطور البشري، وينهجون سبلًا قديمة، تُغمض بصائر الناس عن حياتهم وواقعهم. وحين يدعونا مؤلف «الأدب للشعب» ألَّا نحاكي الأدب العربي القديم، فلأن هناك ذهنًا اجتماعيًّا وذهنًا انفراديًّا، وأنه تغلب على المجتمع العربي في السياسة والأدب تلك النزعة الانفرادية، دون النزعة الاجتماعية (ص٨٢)، ونحن الآن نقيم صرح مجتمع جديد لا يقوم على «الفردية» لأن التكوين الجذري قد تغير من النظام الإقطاعي إلى مرحلة أكثر تقدمًا. ولا بدَّ للفن — إذا أراد أن يحتفظ بدوره القيادي في حياة الناس — من أن يصور هذه المرحلة التقدمية في خط سيرها الأمامي. أي نحو المثل والقيم الفكرية التي تبعد بنا عن النوازع الفردية التي تنبعث من صميم البنيان الاقتصادي والاجتماعي للنظام الإقطاعي القديم.

وفي نقاط التحول دائمًا، تصبح النزعتان واضحتين — كما يقول سلامة (ص٣٨) — في السياسة والأدب على حدٍّ سواء «فتشرشل زعيم اليمينيين في حزب المحافظين يمثل النزعة الانفرادية في السياسة الإنجليزية. في حين أن بيفان، زعيم اليساريين في حزب العمال، يمثل إلى حدٍّ ما، النزعة الاجتماعية، ولذا كان تشرشل — الأديب — قيثارًا يتغنى بأمجاد «الإمبراطورية» القديمة، كما كان الشاعر «رديارد كبلنج» مزمارًا في أعناق الضباط الإنجليز وهم يتوغَّلون في الهند وجنوب أفريقيا.»

وهكذا لا نستطيع «الفصل الحاسم» بين الفن والمجتمع. وهكذا أيضًا لا نستطيع أن نقف «محايدين» إزاء «الماضي حين يُنشِب أظافره في حاضرنا» (ص٩٠).

وربما برزت الآن جبهتان متحدتان في أهدافهما الرجعية:

  • محاولة بعث الأفكار القديمة الضارة بمجتمعنا الجديد في أثواب «التجديد» و«الإحياء».

  • الإصرار من جانب معاصرينا على النظرة القديمة للأدب.

ففي الجبهة الأولى نظلم بلا شكٍّ أبا نواس — مثلًا — حين نزن أدبه بالموازين العصرية. ولكن ما دامت أشعاره تُطبع وتُقرأ في عصرنا، وقد يقرؤها شبابنا وفتياتنا، فإن من حقنا أن نَزِنه بالموازين العصرية. ثم يقول سلامة موسى (ص٦٨): «إننا يجب أن ندرس الآداب العربية القديمة. ولكن، لا لنقتدي بها في أهدافها وأساليبها، وإنما لنعرف منها تاريخنا الثقافي.»

أما في الجبهة الثانية، فإن دورها يصبح أشد خطرًا من الأولى، لأن روادها أحياء بيننا يُرزقون، وهم لا يكتبون أدبهم لسكان الكواكب الأخرى، بل هم يطعموننا فِكرَياتهم، ويغذوننا مثالياتهم، بطريقٍ مباشر، دون لفٍّ أو الْتواء.

وآداب العالم كلها تشهد بأن الذين اتخذوا من النظرة القديمة للأدب منهجًا للحياة، ما كانوا يطبقونها على الفن فحسب، وإنما على شئون مجتمعهم أيضًا. أي إننا لا نستطيع أن نفصل بين الفنان والإنسان في الأديب الواحد. هناك «التحام» في حياة الأديب بين «الفكرة» والعمل، ومادة «الالتحام» بين الفكرة والعمل هي «المنهج». فمكسيم جوركي لم يكن في مقدوره أن يكتب — حسب نظرةٍ ما — ويمضي في معترك الحياة حسب نظرة أخرى.

هل يمكن الفصل بين نظرة الشاعر الإنجليزي المعاصر «ت. س. إليوت» للحياة ومنهجه في الفن؟ أيمكن أن نقوم بنفس الأمر مع زميليه «د. ه. لورانس» و«ألدوس هكسلي»؟ لقد أحسوا بالحضارة العلمية على نحو غير علمي. فقد «رأوا» فيها خطرًا على الإنسان، ومن ثَم لم «يفعلوا» سوى الهروب من هذه الحضارة! لم يتكلفوا عناء البحث الجاد في حقيقة الأزمة التي يعيشونها. ولم يفهموا بالتالي أن النظام الاقتصادي والاجتماعي هو المسئول الأول في هذه القضية، وليست الحضارة والصناعة والعلم إلا متهمِين أبرياء. فإذا جاءت أشعار إليوت وأعمال لورانس وهكسلي تصور هذا «الهروب» … أفلا نؤمن بأن منهجنا واحد، إذا «نظرنا» إلى الأدب، أو «عملنا» في المجتمع؟

وهل يمكن — كما يتساءل سلامة (ص١٨) — أن نكتشف تفسيرًا للدواوين «الفاروقية» التي توجت الطاغية بصفات الألوهية حينًا وبأنه «فيلسوف» حينًا آخر إلا بوحدة المنهج في نظرة الأديب للفن والحياة.٧

الحق أنه أصبح في مقدورنا «بما ثُقِّفْنا به من المعارف السيكولوجية، أن نعرف حين يُصدِر الأديب كتابًا للشعب فإنما يُصدِر نفسه» (ص١٠)، ولكن الثقافة السيكولوجية وحدها لا تحتم علينا الربط بين الفنان وحياته الفردية والاجتماعية.

ويُخيل إليَّ أن الخطأ في التطبيق عند سلامة موسى، بصدد هذه النقطة، جاء نتيجة طبيعية لتأثره — لفترةٍ ما — بفرويد؛ إذ نجده (ص١٧٠-١٧١) يبرر الاتجاه الأيديولوجي للكاتب بما حفرته الأحداث الطفولية الأولى في وجدانه، وحقًّا، هو لا ينكر الظروف الموضوعية التي أسهمت في خلق هذه الأحداث، ولكن هذا التفسير يعتوره القصور، إذا عدنا إلى قواعد منهجنا العلمي، وعرفنا طبيعة العلاقة بين الفنان والمجتمع، فإذا بها علاقة حية تتناسب طرديًّا مع تطور الفنان اجتماعيًّا وثقافيًّا في موازاة التطور التاريخي لمجتمعنا. فهو إذا كان ينتمي إلى الطبقة الإقطاعية مثلًا، وانتوى مرافقة طبقة أخرى في كفاحها، لا يجب أن نعود إلى الجذور السيكولوجية الأولى في حياته؛ لأن التمرد الطفولي والشذوذ عن الجو العام في الأسرة، أو تلقيه العنت والإذلال في سنٍّ مبكرة، لا يخلق بالضرورة مفكرًا يساريًّا؛ لأنه في إمكانه أن يخلق مجرمًا عبقريًّا. وإذَن فلا مجال للنظرة الفرويدية هنا.

ولو تخيلنا أديبًا من أبناء الطبقة الأرستقراطية اتصفت حياته في الصغر بشتى ألوان العذاب، ولم يلتق طيلة حياته بنظرة علمية تتحدث عن التناقض الكامن في أعماق المجتمع الطبقي، وأن التطور الحتمي للتاريخ يؤكد هذا التناقض كأمر طبيعي للوصول إلى شكلٍ جديد للمجتمع. لو أنه لم يلتق بمثل هذه النظرية، أما كان يتجه في حدود مصلحته الطبقية، وغاية الأمر أنه يكون ثائرًا، في سلبيةٍ مطلقة، على الحواجز النفسية التي اعتاقت طفولته يومًا؟

بل — ونذهب إلى أبعد مدًى ممكنٍ في القضية — لو أن هذا الأديب الأرستقراطي الْتَقَى فعلًا بهذه النظرية، ولم يقتنع بها، تبعًا لمستواه الثقافي واستعداده الذهني! أو أنه — وما زلنا نذهب إلى بعيدٍ — رأى فيها خطرًا يُحدِق بمستقبله الاجتماعي ألَا يقف إلى جانب طبقته ضد المصلحة التاريخية للطبقات الأخرى؛ أي ضد التطور، وبجانب الجمود؟ ألا يحدث أن تتحول «منغصات» طفولته إلى «طاقة هدم» يعوض بها آلام الصبا، بأن يحقق انتصاراتٍ أخرى، ويرى في كيانه الاقتصادي حصنًا يقيه الهزيمة!

ألا يمكن حدوث هذا كله؟

لا يمكن، إذَن، أن تكون «الكروب» النفسية الأولى في نفس الأديب، هي التي تحدد موقفه الاجتماعي، وإنما هو «الاقتناع الكامل» بتطور التاريخ والمجتمع الإنساني، هو الذي «يزحزح» فنانًا من طبقته العالية، إلى الكفاح من أجل تطور تاريخي جديد. ولما كان هذا «الاقتناع» نادرًا، فإنه يندر أن نجد أديبًا «يضحي» بالإقطاعيات والعزب، من أجل مستقبل البشر.

وتنطبق «النظرة النفسية» الخاطئة على أدباء الطبقات الشعبية، إذ ليس من الضروري أن يقف الأديب — الذي ينتمي إلى طبقة متواضعة — إلى جانب طبقته، لأن ظروفًا موضوعية جعلته ينساق في تيار «الرجعية»، وإذا به — دون وعي — يساند طبقة أخرى ضد طبقته. ومن البديهي أنه ليس مجرد التعبير عن الطبقة الشعبية يجعل من الأديب شعبيًّا، وإنما «طريقة التعبير» أو «المنهج» الذي نظر به الفنان إلى هذه الطبقة. وربما يتخصص أحد الأدباء في تصوير الطبقة الإقطاعية، ولكن منهجه في التصوير، ونظرته في التعبير، لا تدع منه أديبًا «إقطاعيًّا»، وإنما تحوله إلى فنان «إنساني» يتخذ موقفه إلى جانب مستقبل الإنسان.

وحين قال المؤلف (ص١٢٦): «إن الانفرادية السادية هي التي عمل بها هتلر في سجونه مع كل من خالفه بالتعذيب. والانفرادية السادية أيضًا هي التي تبعث هذا الروح العدواني وتبصق على وجه الزنجي كأنه ليس إنسانًا.» كان هذا التعبير امتدادًا للمنهج الفرويدي الخاطئ؛ لأن أفران هتلر التي استضاف داخلها البشر كانت تعبيرًا للقيم النازية، التي كانت بدورها تعبيرًا عن النظام الاجتماعي في الإمبراطورية الألمانية. أما احتقار الاستعمار الأمريكي والأوروبي للزنوج فليس قائمًا على «اللون الأسود»، وإنما هي طبيعة الاستعمار الذي يُعتبَر قمة النظام الرأسمالي في الاستثمار والاحتكار. والسياط على ظهر الأفريقي في جنوب القارة السوداء أو القارة الجديدة، هي نفس السياط التي تتلقاها ظهور «العمال» البيض في أمريكا وبريطانيا. والفرق بينهما دَرَجي فحسب.

•••

ولا شك أن المنهج — أي منهج — لا يتكامل إلا بممارسة التطبيق الدائب المستمر. وما «الذيول النفسية» التي لحقت بمنهج سلامة موسى، إلا تعبيرًا عن مرحلة الانتقال التي يعانيها منهجنا في الحياة والمجتمع. والقيمة الثورية في منهج «الأدب للشعب» تكمن في الخطوط الرئيسية كما سبق أن ذكرت. وهي كونها إشارات البدء للمضي في طريقٍ شاقٍّ طويلٍ مليءٍ بالأشواك.

والخط الرئيسي الثاني في هذا المنهج المضيء هو تفسيره للحركة الرومانسية، التي لم تكن مجرد «رد فعل» للحركة الكلاسية، لأن «ردود الأفعال» السيكولوجية لا تخلق مرحلة جديدة من مراحل التطور الاجتماعي أو الثقافي.

والحركة الرومانسية لم تقتصر على الآداب والفنون. وإنما كانت المجتمعات نفسها تغلي بحركة رومانسية، بمعنى أنها كانت تنتقل من مظاهر الحكم الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي الناشئ ﻓ «الحرية الفردية» و«الطموح» و«الأحلام» وغيرها من شعارات المجتمع الجديد، هي بعينها مكونات الفن الرومانسي.

والرومانسية لذلك — كالكلاسية — ليست مذهبًا معينًا يمكن اتباعه في القرن العشرين مثلًا، وإنما هي «نظرة» للمجتمع والأشياء من حولنا في مرحلةٍ معينةٍ من تاريخنا، وهي نظرة «ثورية» في حينها، بمعنى أنها كانت صادقة في تصويرها لذلك المجتمع الجديد. وليس علميًّا، إذَن، أن يتبجح فنان ما، إذا رأينا إنتاجه غارقًا في الأحلام والورود الزرق، بأنه يحتمي خلف أسوار الرومانسية؛ لأنه في هذه الحال ليس «رومانسيًّا» تمامًا — وإنما هو «كلاسيكي» إذا شئنا الدقة في التعبير، بمعنى أنه ينشد العودة إلى الوراء، فهو «رجعي» لم يتطور، وبالتالي، لم يطورنا نحن معه.

ولذا قال سلامة موسى (ص١٤٥): «نحن نجد في هذه المائة من السنين التي تقع بين منتصف القرن الثامن والتاسع عشر أحداثًا يحدث كل منها في ميدان يوهمنا البعد عن الآخر، ولكن عند التأمل يتضح لنا أنه مرتبط به، ففي الميدان السياسي نجد طرد الملوك والطغاة وتحطيم العروش وإيجاد النظم الجمهورية والبرلمانات الشعبية، بل نجد الأحزاب العصرية والحركات الشعبية. كما نجد انهيار النظم الإقطاعية في أوروبا. ثم في الميدان الأدبي نجد أنه بزوال الإقطاعيين والملوك والأمراء، وبزوال العقل المريض الذي يلتزم التقاليد، وأيضًا بظهور طبقة جديدة هي الطبقة المتوسطة القارئة، بزوال هؤلاء نجد النزعة الرومانسية في الأدب.»

أي إن الفنان يخضع لشكلٍ «ماضٍ» من التعبير الفني، إذا تمنى — بقصد أو بغير قصد — بقاء الشكل الاجتماعي لهذا الماضي. ولذا أسميناها «أمنية رجعية»؛ لأنها تعتمد أساسًا على «التكوين الجذري» للفنان، وفي صميم هذا التكوين تدخل اعتبارات مصالحه الطبقية الخاصة.

ففي نقطة التحول التي اجتازها الأدب المصري الحديث، يسجل المؤلف ملاحظتين (ص٧٤) أولاهما: «أنه قد طُبِعَ ونُشِرَ لأبي نواس ما يزيد على سبعة كتب، أستطيع أن أسميها كلها مؤلفات إقطاعية. فقد كان أبو نواس يعيش في مجتمع إقطاعي، يأخذ بميزانه الأخلاقي وينشد قيمه، والذين أحيوا ذكرى هذه المؤلفات، نسوا — أو لم ينسوا — أنهم يحيون تلك القيم.» والملاحظة الثانية لسلامة هي: «تلك القصص الجديدة التي يكتبها الأدباء الشبان في حرارة الحب للشعب، إذ إنهم آثروا التفاهم معه بلغته، وحينئذٍ استهدفوا آماله وغايات مستقبله». والتناقض بين الظاهرتين في غير حاجةٍ إلى الدهشة إذا كنا (ص٧٥) «نعيش في عصر القلق والتردد بين حياتين وأسلوبين. ذلك أننا ننتقل من القيم الإقطاعية الريفية في نظام العائلة، والأخلاق العامة وفلسفة الحياة وأسلوب العيش، إلى القيم المدنية الصناعية في كل هذه الأشياء. ومع أننا نهفو إلى ماضينا الإقطاعي، ونحب أن نستبقي عاداتنا العاطفية والذهنية القديمة، فإننا نرنو إلى مستقبلنا الصناعي وننشد أهدافه، وننزل مضطرين على قوانين العلم وحقائقه، والعلم هو لغة الصناعة. ذلك أننا متفقون بأننا لن نحقق الرخاء لبلادنا، والاستقلال لوطننا، والفهم للحياة، إلا بالعلم.»

وإذا كان أدبنا المصري الحديث، لما يزل مهتمًّا — أشد الاهتمام — بالطبقة المتوسطة، فلأن هذا تطور طبيعي لسير تاريخنا، وإن كانت العناية بطبقةٍ ما ليست مجردة من نظرة الكاتب لها. أي إن المهم هو منهج الكاتب في تناول الطبقة الاجتماعية نفسها. ولو تأملنا ظروفنا لَوَعَينا الحوائل التي تقف بين الطبقة العاملة مثلًا وبين التعبير عن غدها. فاقتصار الثقافة على الطبقة الثرية كان عاملًا حاسمًا في تأخر التعبير الفني للطبقة العاملة.

•••

كيف يصبح أدبنا إنسانيًّا، وينشد هذه الأهداف؟ يعالج «الأدب للشعب» هذه النقطة، بتعريف الأدب الإنساني أولًا. ولقد عشنا زمنًا نخلط بين «العالمية» و«الإنسانية» في الأدب. والحق أن كلمتي «الأدب العالمي» لا تعنيان شيئًا محددًا يمكن مناقشته على مستوى علمي. أما أن يكون الأدب إنسانيًّا، فهي قضية جديرة بالتأمل والدراسة.

ولأول وهلة، يمكن القول بأن الفنون الإنسانية هي — قطعًا — التي توجه عنايتها وجهودها إلى «الإنسان» وحده. وحين قال سلامة موسى (ص١٩١): «الولاء للبشر هو مذهب الأديب» لم يكن قد أتى بحلٍّ حاسمٍ للمشكلة إذ لا مفر من مواجهة سؤال هام: من هو الإنسان؟ ولا بدَّ من الإجابة على هذا السؤال قبل أن نتصدى للحديث عن الأدب الإنساني.

ومن قبيل التكرار — الهام — أن نقول، بأن نظرة الإنسان «للإنسان» تتغير دومًا في محاذاة التقدم الذهني والتكنيكي للبشر. أي إن الأديب في المجتمع الإقطاعي كان يبصر «الإنسان» على نحوٍ يغاير نظرة الفنان «البرجوازي». والمفكر الاشتراكي يتناول القضية حسب «مفهوم» يتباين معهما تمام التباين.

ولكنا حينما نسأل — في النصف الثاني من القرن العشرين — عن ماهية الإنسان وعلاقته بالأديب، فنحن لا نحيط الفنان بأسوار علم الجغرافيا. أي إنه لا يعنينا الوجود المكاني للكاتب، بل يعنينا في المقام الأول «وجوده الإنساني»: أين هو من نظرة «العلم» للإنسان؟ هل هو قريب تمامًا من هذه النظرة، أم إن ظروفه الجغرافية والتاريخية حالت دون ذلك؟

إن الفرق الوحيد بين الفنان والفرد العادي، أن الفرد العادي قد يحس بأزمة دون أن يملك واسطة التعبير عن هذه الأزمة، أما الفنان فهو اللسان الرائع الذي أُلْقِيَت على عاتقه هذه المهمة.

يقول سلامة (ص١٧): «ليس الأدب الإنساني أن نؤلف القصص ونكتب القصائد كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء والتصدق عليهم، وإنما هو أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية، ولكن من موقف الشعب نفسه، أي من الموقف الإنساني، وليس من موقف الأثرياء، فلا نطلب التصدق، وإنما نكافح للعدل والمساواة.»

وفي البلاد العربية أدباء كثيرون يفهمون الإنسانية في الأدب على غير هذا النهج. الإنسانية عندهم أن «نمتع» الإنسان بأحلام الربيع، واخضرار الحب، ونشوة الجنس. حتى إن شاعرًا عربيًّا مشهورًا كتب يقول إنه في دهشةٍ من الذين يكتبون للشعب عن الكفاح والموت والدموع في حين أن عمالنا وفلاحينا عندما يغادرون مصانعهم ومزارعهم في حاجةٍ إلى الكلمات الحلوة التي ترطب عرق كفاحهم، لا إلى الكلمات الخشنة التي تزيد أعباءهم ثقلًا.

والواقع أن هذا الشاعر العربي قد صوَّر مأساة أدبنا «الإنسانية» أروع تصوير، فهو يرى أن العامل المجهد في حاجةٍ إلى «منديل رطب» يجفِّف به عرقه، ولست أدري لماذا نسي قليلًا من العطر أيضًا يعبق المنديل برائحةٍ جميلة، تخفف من وقدة التعب التي يستشعرها العامل المسكين؟!

أجل، إن عمالنا وفلاحينا مساكين؛ لأن تاريخ بلادهم الأدبي قد ابتُلِيَ بمثل هذا الشاعر. فنحن لا نريد يا سيدي لهذا العامل أن يأخذ «راحته» و«يرطب جبينه» وينام سعيدًا «مع شخيره العميق الهادئ» إننا لا نريد له أدب «الويسكي» و«ورقة التوت» لأن هذه المخدرات تقتل حواسه، فيطمئن ويرقد على مستقبله. أدب المناديل هذا يستهلك الطاقة الكفاحية عند هؤلاء المكدودين، ويمتص قواهم الثورية، فينامون على الشوك ولا يحسون بنزيف دمائهم؛ لأنهم شربوا عصير «المناديل» وتاهوا في غابات الأحلام. أدب الورود الزرقاء والنهود الرجراجة هو «حقنة بَنج» ترسل المريض إلى متاهاتٍ بعيدة عن حياته وواقعه وآلامه المُرة.

ولكن أيدري أدباؤنا الكرام، أن آثار المناديل والخمر والبَنج جميعها تزول، ويبقى شيء واحد هو الألم؟!

هذا «الألم» هو الخامة الأصيلة للفنان «الإنساني» لأنه إذا كان صاحب مقدرة «كوميدية» استطاع أن يرطب حلوقنا بالضحكات، وإن تركت في نهايتها مرارة العلقم، فهذه المرارة وحدها هي «المصل» الذي نستعيد به صلابتنا، ونسترد بواسطته مستقبلنا. وإذا كان الفنان ذا لونٍ «جاد» استطاع أيضًا أن يكشف لنا بوعيٍ، عناصر المأساة الإنسانية التي تشكل مصيرنا على غير ما نهوى.

ولهذا كله، قال سلامة موسى هذه الكلمات المضيئة (ص١٩٤): «إن الإنسانية في الأدب تعني مكافحة الظلم والجهل والفقر. والأديب الذي يتخذ هذا المذهب الإنساني تعود حياته أدبًا لأنه مكافح. وفي عصرنا الحاضر، تتمثل هذه النزعة الإنسانية في المذهب الاشتراكي الذي يحاول إنصاف المظلومين بإغناء الفقراء ومساواة الجنسين ومحو التعصبات العدوانية، سواء كانت دينية أم طبقية، واستخدام العلم لإشعاع النور في الأذهان، والرفاهية في المدن والقرى، وتحطيم القيود التي تحد من الحريات سواء كانت قيود الخرافات أم قيود الحكومات.»

هل معنى ذلك، ألَّا يصبح الجنس والحب والمرأة من موضوعات الأدب؟

غير صحيح! وما نطالب به هو أن تُتَناول هذه الأمور جميعها حسب «منهج علمي». والنظرة العلمية للجنس والحب لن تدعهما موضوعين شائهين في الأدب، وإنما يُمسِيان في مستوى الضرورة والأهمية.

هذه هي «الإنسانية» التي تخلِّد الأدب، وترفعه إلى المستوى العالمي بين إنتاج العالم. والخلود هنا بمعناه النسبي، وليس ذلك المعنى المترسب في أعماقنا، منذ بعيد، بأن فنون الأدب «موهبة من السماء» وبالتالي «خلوده» من وهج العبقرية التي هي منحة الإله!

•••

كيف يتطور الأدب إلى هذا المستوى من الإنسانية؟ والجواب أنه لا يمكن للأديب أن يصبح إنسانًا في حدود ذلك المعنى الرائع، إلا إذا حدد لنفسه مفهومًا علميًّا للطبيعة والمجتمع. لأنهما خامتا الفن والأدب، وكافة أوجه النشاط الإنساني.

ولا يستطيع أن يحدد الأديب هذا المفهوم العلمي، إلا إذا استبعد كل الاتجاهات المنافية للعلم، وإن تمسحت به للإيهام والتضليل. ولا يتحدد هذا المفهوم أيضًا في إطار مدرسي جامد، وإنما بالاستقراء الذاتي لجوانب الحياة ومظاهر المجتمع. إذ بعدما يتسلح الفنان بمنهج علمي يبدأ دوره الخلاق، في تطبيقاته المثابرة على الواقع المحيط به.

وسيبدو له — على الفور — أن الحياد المزعوم لا قَدْر له من الصواب وسط هذه الصراعات المتباينة. لقد عشنا في مجتمعٍ مصريٍّ لابسته ظروف استعمارية واستبدادية. والكاتب الذي وقف بعيدًا لا يكتب عن هذه الظروف لمصلحة الشعب، أو الذي كتب في مدح المستبدين والمستعمرين، لا يمكن أن يوصف بأنه «كان أمينًا للإنسانية والمجتمع» (ص١٥٤)؛ لأن الأدب هو التعبير عن الضمير الإنساني (ص٩٣) … والأديب هو ضمير العالم.

ودعوات الحياد دائمًا لا تنبت إلا في أرضٍ مضطربة. والموقف الحيادي نفسه موقف مضطرب، لأنه ليست هناك فلسفة إيجابية تقول بأن يصبح للناس فلسفة، بمعنى أنهم لا يتمتعون بوجهة نظر. والفلسفة الإيجابية لا تقف بلا حول ولا قوة إزاء الأحداث الدائرة حولها.

والأدب المصري الحديث عرف نفرًا من هؤلاء الذين تشدقوا ﺑ «الحيدة الموضوعية»، فلم يجسروا على عبور هذا الموقف إلى طريق الحياة العريضة والإنسانية. قال هؤلاء، في دعواهم، إن الفن يجب أن «يعلو» على مستوى الصراع الاجتماعي؛ لأن مجاله الحقيقي هو «الحياة الوجدانية» للبشر. وقالوا أيضًا بأن الأديب «الحر» هو الذي ينفض عنه قيود المجتمع ليطير في أجواء «علوية شفافة».

والحق أن هذه الحيدة المزعومة هي حيدة واهمة؛ لأن «اللاموقفية» هنا هي «موقف» واضح وصريح وحاسم. والشعوب دائمًا تردد: «من ليس معنا فهو علينا»؛ أي إن الذين يهربون من المعركة يؤيدون — بطريقٍ غير مباشر — أعداء المستقبل للبشر. «وأيما أديب لم يثر على الاستعمار والاستبداد، وأيما أديب لم يحس بالنار تأكل أحشاءه، بل أكاد أقول أيما أديب لم يفقد وجدانه وينسى الحذر ويُزج به في السجن وهو يكافح ظلام الإنجليز ونذالة الخديويين والملوك في مصر، لا يمكن أن يُوصف بالشرف.» «وإذا غاب الشرف عن الأدب فقد غاب كل شيء» (ص٥١). «ذلك أن أدبنا كان يجب منذ ١٨٨٢م أن يكون شعبيًّا ثوريًّا يكافح بالفكر والكلمة هؤلاء المستعمرين والمستبدين، وكان يجب أن يكون على الدوام مع الشعب يقف إلى صف الفلاح الذي يحمل الفأس والحُوذِيِّ الذي يسوق فرسه، والصانع الذي يصوغ الأثاث، والطالب الذي يعجز عن أداء المصروفات، والموظف الذي يعمل طوال النهار لقاء جنيهات لا تكفي طعام أولاده.»

وهكذا لم يكن في مقدور الفنان المصري حينذاك أن يقف مكتوف اليدين كالتلميذ المؤدب. وقليلون جدًّا هم الذين رفعوا هذه الأيدي في وجه الاستبداد والاستعمار، وإن نجح الأخطبوط الأسود في تحطيمها. وسلامة موسى — مثلًا — كان واحدًا من أولئك القليلين حين قال في جرأة: «إن في مصر من يعيشون بألف جنيه في اليوم، وفيهم من يعيشون بثلاثة قروش، وأحيانًا لا يجدونها.» ولم يكن نصيبه حينذاك إلا نومًا هادئًا على أسفلت سجن الأزبكية! ألم يصبح الأدب كفاحًا، والكفاح أدبًا، كما يقول برنارد شو؟ ليس حرامًا إذَن أن يكون بيننا «كتاب شهداء» كما نادى سلامة، وليس غريبًا أن يصرخ بزملائه في شرف الكلمة وقداسة القلم (ص١٦): «أفيقوا يا أدباء مصر وافهموا وتعلموا أن الأدب للحياة والإنسانية والمجتمع، وأنه ليس نكتة بديعة، أو بيتًا رائعًا، وإنما هو ارتقاء وتطور وكفاح لقيم الخير والشرف والإخاء والحب.»

والأديب العربي الذي لم يقف إلى جانب شعبه، سواء أعلن ذلك صراحةً أو احتمى داخل أسوار النظريات الرجعية في الفن، لا يملك إلا أن يكون ذلك الرجل. فقد تطوعت ظروفه الموضوعية بأن ينطوي على نفسه، ويتقوقع داخل ذاته، ليلد — في نهاية الأمر — هذا الأدب المتعفن اللزج.

والمدارس الأدبية في أوروبا حين عُنيت ﺑ «الجمال» الفني وحده، كعنصر يتيم للفن، كانت تصور مأساة تاريخها الاجتماعي، قبل أن تلخص مأساة تاريخها الفني، بهذه الانعزالية المطلقة. فقد بلغت أوروبا حينذاك أعلى مراحل الأزمة الاقتصادية والسيكولوجية، في آنٍ واحد، بعد الحرب. إذ تمزقت أوصال تكوينها الاقتصادي، بفعل الخسائر الرهيبة التي استنزفت دماءها في الميدان. وتمزقت أيضًا أرواح بنيها، بعد أن صُهرت نفوسهم في بوتقة التناقض الجذري العميق، بين المثل العليا فوق صلبان الحرب، وبين أتون هذه الحرب. أحسوا بتناقضات أخرى بين أخلاقيات المجتمع البرجوازي وبين القيمة الحقيقية لهذه الأخلاقيات، وبين دعاتها ورافعي راياتها من جانبٍ ثالثٍ. ومن ثَم كانت الدعوة الانعزالية هنا احتجاجًا أدبيًّا على «فوضى المجتمع الجديد».٨ وفي مصر، لم تنبت الحركات «البورجوازية» إلا من صميم الاضطراب الجذري في أرض المجتمع.

يقول سلامة موسى (ص٩٥): «ليس العالم في فترة تاريخه الحاضرة في استقرار. فإننا نعيش في وسط يحوي من الحضارات والثقافات والأهداف الاجتماعية، بل يحوي من ألوان الاستعمار والاستغلال والرجعية في الشرق والغرب، ما يحمل كل إنسان إنساني على أن يعرف مكانه من هذا الاضطراب أو هذه الفوضى، ويعينه. وعليه أن «يجتهد» حتى يميز بين الحسن والسيئ. ثم عليه بعد ذلك أن يعرف جبهته وهدفه ومعسكره فيدافع عن موقفه ويجهد للوصول إلى هدفه. على كل إنسان أن يفعل ذلك إذا استطاع. والأديب أَوْلى الناس بأن يفعل ذلك، إذ هو يرى أكثر ويفهم أكثر.»

وهو — بهذه الكلمات — دق ناقوس الخطر، فمن كان بغير وعيٍ ينعزل عن الناس وحياتهم ومشكلاتهم، أصبح لا يملك سلاح «الجهل». ومن تشدق «بعلوية» الفن عن هذه «السفاسف» أحس أنها ليست كذلك، بل هي ضالته الوحيدة. ومن رأى في الاتجاه الجديد عدوًّا لمصلحته الخاصة وكيانه في المستقبل، لم يبتعد عن الشعب، بل جال في صفوفه مخربًا وداعيًا للهزيمة والفشل. والذين اطمأنوا على «حقوقهم التاريخية» فيما مضى، وكانوا مستقرين في هدوء البال، أمْسَوا قلقين، يأكلهم التوجس والخوف والحذر. وتغير أدبهم بالتالي، فبعد أن كان «ترفًا» و«متعة» أصبح كفاحًا نشيطًا ضد أهداف الشعب.

«وفي ظروف الاستقرار أو الركود أو الطمأنينة يفشو أدب الترف واللذة، بل ربما على الدوام يكون مؤلفو هذا الأدب أنفسهم من المترفين الذين استقروا وارتضوا حالهم الاجتماعية السائدة، فكرهوا التغيير، وقنعوا بلذة مستقرهم ونسوا الإنسانية» (ص٩٤).

لذة «الاستقرار» إذَن، هي الهدف الكبير الذي ينشده دعاة المتعة، في المجتمع «المستقر» على مصالحهم وكيانهم. أما حين يتزلزل هذا الكيان، فإنهم يتحولون بسرعة إلى أدب الكفاح … الكفاح المظلم!

ودعاة التحليق في فضاء الفن «الأصيل» أيضًا، على غير فهم واضح بطبيعة الفن؛ لأن الأديب ليس مخلوقًا هلاميًّا لا يتأثر بما يحيط به خلال عملية الخلق الفني. إن الفنان قطعة من الإنسانية، بما يتجمع فيها من تراث تاريخي واجتماعي وبيولوجي. أي إن الأديب — كإنسان يعيش بيننا — هو جماع تاريخي واجتماعي وبشري لفترة زمنية معينة، وهو حين يكتب لا يتجرد عن هذه الخصائص المكونة لإنسانيته ووجوده. لأن تجرده منها بمثابة تجرده عن جسده البشري وعقله الإنساني، وكلاهما تعبير عن تكوينه العضوي والسيكولوجي والذهني، هذا التكوين الذي يتعاون في تناسق أثناء عملية الخلق الفني. ومن هنا يبدو واضحًا أننا لا نستطيع أن نعزل الفنان عن حياته، بل «إن أعظم مؤلفات الأديب هي حياته» (ص٥٣).

وكثيرًا ما يتوه هذا المعنى عن أدمغة الكثيرين من أدبائنا وفنانينا؛ لأنهم يؤثرون تعريف «الموضوعية» بأنها التجرد من كل عاطفة ذاتية. ولو كانت العواطف التي يعنونها هي الكراهية الساذجة أو الحب الساذج، لأسرعنا بموافقتهم، ولكنهم يقصدون بالعواطف شيئًا آخر هو «الميل» إلى مبادئ معينة دون أخرى. والفنان، أيًّا كان، يناقش الحياة والكون والإنسان «بما تكون له من فلسفة بشأن الإنسان ومجتمعه. ولا يمكن أن يكون هناك أديب بلا فلسفة» (ص٩٣)، وسواء تم ذلك بوعي أو بغير وعي، فإنه لا يلغي القضية.

ولذلك تساءل سلامة موسى (ص١١١): ما هو أعظم ما يؤلفه المؤلف في الأدب؟ وأجاب «هو حياته، كيف عاش؟ كيف ارتزق؟ ما هي الثقافة التي أثث بها ذهنه؟ ما هي علاقته بمجتمعه؟ هل سعى لخيره أم لضرره. بل ما هو كفاحه في هذه الحياة؟»

ثم يقول: «أيها القارئ ادرس الكتاب الأول الذي ألفه المؤلف، وهو حياته، بل طالبه بذلك حتى يخرج كتابًا يبين فيه المبررات التي حملته على أن يسلك سلوكًا معينًا في السياسة أو الاجتماع أو الاستعمار أو غير ذلك.»

إن دعوة سلامة هنا تلخص — بشكلٍ رائع — منهجه في فهم الأدب. هذا المنهج الذي أهداه لنا مركَّزًا في كتابه العظيم «الأدب للشعب» لنستعين به في حياتنا الأدبية الجديدة.

وأول الأعباء التي يلقيها على عاتقنا، هي أن «نعي» موقفنا في الحياة والفن، بدلًا من أن نسير هكذا في «عشوائية» تتميز بروح المغامرة، لا بروح الكفاح الجدي المنظم.

ولقد وقَّع سلامة موسى شهادة غالية لأبناء الجيل الجديد حين قال (ص٢٥): «إني أعمل وأكافح كي يتغير هذا المناخ. وسيتغير لا بمجهودي أنا وحدي، بل بمجهود هؤلاء الشبان الجدد الذين رأوا النور وتحرروا من استبداد التقاليد وعملوا لتطور الفكر في مصر.»

وهي ليست شهادة بقدر ما هي وثيقة. إنها مسئولية ثقيلة أن نتحمل عبء تطوير مجتمعنا.

•••

ما هي مسئولية الأدب الجديد؟

إن السؤال — رغم بساطته — يثير لغطًا إذا تناوله البعض، كما يحدث بالفعل، على طريقة الحماس العاطفي المفرط … لكل ما هو جديد.

ولكني أقول إن الفرق بين القديم والجديد، لم يعد فرقًا زمنيًّا. وإنما هو — في أقرب المعاني وأولها — فرق اجتماعي وسيكولوجي. بمعنى أننا لا نمقت تراثنا القديم، بل يجب أن ننكب على دراسته في تآلف وفهم وحب. و«ليست العبرة في الأدب والفن بالقديم والجديد، وإنما العبرة بقيمة هذا الفنان أو الأديب، قيمته الإنسانية والاجتماعية التي يحِنُّ بها إلينا، ونحِنُّ إليه بها. فنتبادل وإياه الفكرة في حنان وانشغال إنسانيين» (ص٤٧).

«فيجب أن يكتب بلغته، وأن يكون كفاحيًّا في مذهبه لأن الشعب يكافح من أجل حقه في الحياة الكريمة. وإن مشكلة المرأة هي رفٌّ لجميع المشكلات الاجتماعية، ولذلك يجب أن تكون مساواتها بالرجل بؤرة الكفاح. وهي تنتهي من هذا الموقف إلى أن الأدب يجب أن يكون إنسانيًّا في نزعته، اشتراكيًّا في برنامجه، وأن ديمقراطية الدولة يجب أن تنطوي على ديمقراطية المجتمع والمصنع والمزرعة والبيت» (ص٨٧، ٨٨).

أبناء الطائفة الأخيرة هذه، هم الذين يحملهم سلامة موسى «الأمانة»، وليس من بينهم على وجه التأكيد هؤلاء «الشبان» الذين يتمسكون بالقيم الخلقية.

وهؤلاء، لا يقتصر نشاطهم الرجعي على الدعوة إلى المثل القديمة فحسب، بل هم يبعثون هذه المثل من مرقدها، لا بقصد الدراسة كما نريد، وإنما بقصد الاستهواء والتطبيق.٩

وإذَن، فالأدباء الجدد، هم الذين درسوا مجتمعهم، وتبينوا حقيقة الصراع العميق بين متناقضاته، ومن ثم آثروا الوقوف إلى جانب الأطوار الجديدة النامية من تاريخه.

وعلى هذا الضوء، فهموا كلمة الشعب فهمًا جديدًا؛ لأنهم بدءوا يحسون أن الشعب هو الجندي المجهول الذي يجب عليهم أن يرفعوه إلى المستوى الفني والاهتمام الذهني في القصة أو الشعر والرسم والنحت ويكتبوا عن حياته ويرسموا أهدافه وما فيه من عبقرية أو إنسانية (ص٣٢).

والحق أن الوسيلة والهدف — في الأدب الحي الجديد — أصبحا كلًّا واحدًا لا يقبل التجزئة لأن الوحدة العضوية التي تجمعهما لا تحتمل فصلًا حاسمًا بين عناصرها.

والعلاقة بين الإطار الفني للعمل الأدبي، ومحتواه الإنساني، لم تعد علاقة ميكانيكية يمكن الحكم — على هداها — بأن البلاغة في اللفظ دون المعنى، أو العكس؛ لأن الأعمال الفنية في حقيقتها كائنات حية متكاملة. ولم تكن هذه الأعمال على غير هذا النحو من قبل، وإنما كانت هناك نظرة آلية خلقت هذه التجزئة. ولذا كان «الأديب الجديد، هو الذي يدرس الحياة، ويحاول أن يجد نظرة جديدة لشئونها أعمق وأوسع من النظرة المألوفة.» والنظرة الجديدة لا تسقط هكذا من السماء، إنها تنمو في أحشاء النظرة القديمة، وتُولَد من صميم التناقض الكامن داخلها، وعملية الولادة هذه تفترض البقاء المؤقت لقوة النظرة القديمة؛ لأن النظرة الجديدة لم تكتسب من القوة بعدُ ما يمكِّنها من صياغة المجتمع والفكر على نحوٍ جديد … مرة واحدة.

وأسلحة الفنان في معركته الجديدة تصنع أرض المعركة نفسها، فإذا كان هو يخوض معركة شعبية، وجب أن تكون لغته — مثلًا — هي لغة الشعب؛ لأن اللغة تعين الأسلوب والمنهج، إذ هي تدخل في التركيب العضوي للعمل الفني، وليست «وسيلة للتعبير» كما يتوهم البعض.

كان حماة اللغة العربية — وما زالوا — يقولون إن اللغة هي أداة التعبير. وإذا وجد الفنان المصري أنه لا يستطيع أن يصل أفكارنا بالناس، إلا بواسطة هذه الأداة، فإننا يجب أن «نرفع» الشعب إلى مستوى الأدب «الرفيع».

وأجاب الأدباء الجدد على أن المبدأ الأول القائل بأن اللغة أداة، والفنان له مطلق الحق في استخدام الأداة القادرة على التعبير عن إحساساته ومشاعره. وقالوا إنهم يجدون في اللغة الشعبية المصرية أداة أكثر توفيقًا في نقل خلجاتهم، وأقدر تعبيرًا عن أهدافهم. ثم استطردوا بأنهم «ينزلون» إلى الشعب بلغته، بدلًا من العكس. وفي هذا «الارتفاع» و«النزول» يتضح مدى الخطأ في كلتا الدعوتين؛ لأنهما أغفلتا هذا الفهم الجديد للغة، وهي أنها «عنصر حي» في التركيب العضوي للعمل الأدبي. وحين نقول بأدب مصري، لا يتوه عن بالنا أنه من غير المعقول أن يصبح هذا الأدب كائنًا عضويًّا حيًّا متكاملًا، وفي بنيانه العضوي ذراع غريبة، لأن هذا — فوق أنه مستحيل — يؤدي إلى تشويه الكائن الحي. وكذا نفس الأمر في العمل الفني، ما دمنا نقول بأن اللغة «عضو» حي في جسمه الحي، ولا يمكن بالطبع أن نستغني عنه بعضوٍ آخر مماثلٍ في جسمٍ آخر، ولو كان شقيقًا توأمًا.

ومن أعباء الناقد الجديد، أن يرافق الفنان الجديد في خطواته الجديدة.

•••

بمعنى أنه يلتزم بهذه النظرة الموضوعية للعمل الفني. فالأوروبيون ينظرون إلى أدب الكاتب، كما ينظر أحدنا إلى المبنى الكامل بكل ما يحتوي من حدائق وطبقات وموقع وما يدل عليه من فلسفة المهندس الذي وضع تصميمه وأشرف على تشييده. ولكن الناقدين عندنا يقفون عند إحدى اللبنات ويقولون: «هذه رخوة أو هذه في غير موضعها» (ص٥٣).

وكلمات سلامة هنا توضح العلاقة بين الناقد والفنان، فليست هناك حواجز حاسمة بين مهمتهما في المجتمع الوليد، إنهما يشتركان في المنهج الواحد، و«النظرة» الواحدة، ولذا، فعلاقتهما هي علاقة اليد باليد الأخرى أثناء البناء، وانجلت بذلك الوظيفة الحقيقة للناقد.

وعندما قرر مؤلف «الأدب للشعب» (ص٩١): أن النقد السديد للأدب هو النقد الاجتماعي. أي يجب أن نسأل عن قيمة الأديب، ما هي خدمته للشرف أو للإنسانية، كان تقريره بمثابة رد فعل للحركة النقدية القديمة التي تدرجت في فهمها للنقد من أنه «إبراز العيوب» إلى «إبراز العيوب والمحاسن»، وتوقفت عند هذا الحد، وما كانت تعني بالعيوب والمحاسن إلا اللفظات اللغوية، والتركيبات النحوية وما إليها، ولم تشر يومًا إلى العيوب الاجتماعية أو محاسنها في العمل الأدبي، حتى لا يتحول الأدب في زعمهم عن هدفه الأصيل.

ولما تغيرت مفاهيم الأديب حسب نظرتنا الجديدة إليها، تدرج النقد في خطواته الأمامية إلى أن كشف عن قيمته الاجتماعية، ولكن هذه القيمة — كما قلت — لا تصيب مرماها إلا إذا توازنت مع الفن الناجح، ولذا خطا النقد الحديث خطواته الجديدة بأن تقدم إلى العمل الفني بسؤالين:

  • إلى أي مدى تناسق الشكل البنائي مع المحتوى الإنساني في إبراز قيمة العمل الفني؟

  • ما القيمة الإنسانية لهذا العمل؟

وأصبحت الأحكام الحاسمة وسيلة غير مجدية للإجابة على هذه الأسئلة، وإنما هو «التشريح العلمي» للنص، الذي أصبح الطريق الجديد للناقد … يرافق معه الفنان وعمله مرافقة منيرة كاشفة.

والناقد الجديد هو الذي يعرِّف الأدب بأنه «دراسة الإنسان في جملته. وهذه العبارة تعني أن ندرس الإنسان في اقتصاده وأمراضه وثقافته واتجاهاته الذهنية والعاطفية وأهدافه المستقبلية» (ص١١٠). وإذَن فالأديب «الذي لا يعرف علل الفقر والمرض، لا يجهل الاقتصاد فحسب، وإنما يجهل الأدب.»

والترابط الموضوعي بين المعارف الإنسانية هو الذي حدد للأديب تعريفه العلمي للعمل الفني. هذا الترابط الوثيق هو ما نحسه في «تشابك» اتجاهات العلم الواحد، وبين العلوم المختلفة، ولا يمكن فهم هذه العلاقة الشبكية إلا حسب منهج علمي، بل لا يمكن التعرف على هذه العلاقة، وتفهم دقائقها إلا إذا حصلنا على هذا المنهج. وما الأخطاء النظرية والتطبيقية، التي يقع فيها الكثيرون من أدبائنا، إلا لأنهم يدرسون أحد جوانب الحياة معزولًا عن بقية الجوانب الأخرى، غير واعين بالرابطة المادية والروحية التي تضم جوانب الحياة جميعًا. وحتى لو عثروا على هذه الرابطة، فإن منهجهم العفوي لا يدلهم على حقيقتها الموضوعية.

والمفكر الثوري هو الذي يدرس مجتمعنا على المدى البعيد.

والسؤال: أين كان أدباؤنا من «هذا المدى البعيد»؟

كان المدى البعيد في نظرهم إلى الماضي ولذا جاء أدبهم أكفانًا جميلة الصنع، ولكنها لا تبشر بالحياة، وإنما تدق أجراسًا جنائزية «جميلة».

والأجراس الحزينة في أدبنا الحديث نسمعها في وضوح من صفحات الأدب «الغيبي» الذي لا يجد تفسيرًا للكون والحياة والإنسان إلا في بطون الكتب الصفر. وخطورته أنه لا يرتد إلى الماضي؛ لأنه يعالج — بالفعل — مشكلاتنا المعاصرة، وإنما يفرز بواسطة منهجه الغيبي، كافة عوائق تقدمنا وارتقائنا؛ فالتواكلية المطلقة، والهروبية، واللامبالاة، وغيرها من القيم التي يبثها هذا النوع من الأدب على أنها فضائل اجتماعية، تعبر في حقيقة الأمر عن فلسفة خنوعية متخاذلة لا تلبث قلوبنا إزاءها أن تفرغ ما بداخلها من شحنات الكفاح والعمل. هذا الأدب يذيب صلابتنا ويحيلنا إلى دمًى يحركها القدر. لقد نسوا أن القدر الحقيقي هو الإنسان، الإنسان المبدع الخلاق الذي يقفز كل يوم مع انتصاراته العلمية المظفرة من أسرار الغيب والمجهول، إلى عالم الحقيقة والإنسان وحدهما. والمثول أمام الحقيقة والإنسان لن يعوزه دقات حزينة من أدب أسود، وإنما يتطلب فرحًا وإشراقًا وتفاؤلًا.

أي إن الأدب الواقعي ليس هو الواقع فحسب، وإنما هو النظرة العلمية للواقع أيضًا. والتشريح العلمي للواقع يقود الفنان الصادق — بالضرورة — إلى التفاؤل، ويقوده إلى فهم الموضوعية فهمًا لا يلغي ذاتيته. ومهما اشترك أدباء العالم جميعًا في منهجٍ واحد ينظرون به للأدب والحياة، فإنهم سيظلون إلى الأبد متباينين مستقلين، تفصل بين الواحد والآخر حدود منيعة حاسمة، هي المكونات العضوية والذهنية والاجتماعية والنفسية لكل فنان١٠ التي لا ريب أنها تختلف — بطريقةٍ أو بأخرى وبدرجةٍ كبيرةٍ أو صغيرة — بين أديبٍ وآخر. وهذه هي ذاتية الفنان … وموضوعية الفن.

الموضوعية في الفن لا تقتصر، في تسجيلها الظروف المحيطة بجوهر العمل الفني، على الصدق الفوتوغرافي … إنها تعترف بالعامل السيكولوجي الذي يزهو به عشاق علم النفس، وتعترف بالعامل الاقتصادي الذي يتحصن داخله الميكانيكيون … ولكنها تعترف في نفس الوقت أن هذا العامل الأخير هو العامل «الحاسم» في تطور المجتمعات وتاريخها. إنه ليس «العامل الوحيد» كما يقول رواد الاتجاه الميكانيكي، ولكنه العامل الحاسم، ليس «عاملًا وحيدًا» لأنه ليس إلهًا جديدًا أو قدرًا جديدًا، لا قبل للإنسان على احتماله أو تغييره. ولأننا نعترف بكافة الظروف الموضوعية الأخرى التي لا يمكن لعقلٍ صادقٍ إنكارها. ولذا كان على الأديب أن يدرس هذه الظروف في علومها المختلفة.

ودراسة كهذه ستسمو به إلى «المرتبة الإنسانية» بعد أن كان أديبًا فحسب. «الإنسان» يلزم أن يتعرف على ذاته الإنسانية بأن يكشف العلاقة بينها وبين هذا الكون الذي يعيشه. والفنان أولى البشر جميعًا باكتشاف إنسانيته. والكاتب العظيم (ص١٧٦) «يمكن أن يكون بعضه فيلسوفًا، أو بعضه عالمًا، أو بعضه أديبًا، ولكن معظمه يجب أن يكون على الدوام إنسانًا.»

والفنان الإنسان في بلادنا العربية لن يكتب للفراغ … بل سيُضطر إلى أن يكتب للبشر، فيوثق علاقتهم بهذا الكون وتلك الحياة، التي يعيشونها وهُم، إما في غيبوبة الخرافة، أو في أسر النظم اللاإنسانية. وهو حين يَزيد الفهم للحياة، «سيَزيد التوسع الذهني. ويَزيد الوجدان كأننا نزداد وجودًا بقراءته» (ص١١٧).

والفنان الإنسان — في بلادنا العربية — لن يطالبنا بأن نجعل مراسينا الاجتماعية وفق التقاليد في الألف سنة الماضية، وإنما وفق ما نستعد له من نظم الألف سنة القادمة (ص١٠٦).

يقول سلامة موسى (ص٥٢): «وهذا وضع جديد للأديب، الذي لم يعد خادمًا يهرج ويسلي ويمدح ويقول النكتة. إذ هو الآن معلم ومرشد. هو نبي له رسالة.»

١  راجع في هذا الموضوع «الأسس الفنية للنقد الأدبي» للدكتور عبد الحميد يونس، دار المعرفة بالقاهرة، ١٩٥٩م.
٢  صدر عن مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة.
٣  راجع «في الأدب الجاهلي».
٤  راجع «حديث الأربعاء».
٥  راجع مَجلة «الشهر» المصرية، العدد الخامس عشر.
٦  نخص بالذكر مقدمة لويس عوض لترجمته «بروميثيوس طليقًا»، وكتابه «في الأدب الإنجليزي»، ثم محمود العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما «في الثقافة المصرية»، وعلي الراعي في كتابه «دراسات في الرواية المصرية»، وجميع مؤلفات مفيد الشوباشي النقدية.
٧  (أ) علي الجارم انتهز فضيحة هروب الجمل إلى فاروق ليغيثه من الذبح فقال:
عابدين كعبة مصر ركنُها حَرَم
للخائفين إذا خَطْب بهم نَزَلا
تَهوي إليها وفود الأرض ضارعةً
ترجو بها الأمن أو تُحْيِي بها الأملا
أمر وعاه بنو الإنسان وحدهم
فمن بربك، قل لي، أخبر الجملا
«راجع ص١٠٠ من الأدب للشعب.»
(ب) العقاد يصف زيارته لفاروق بقوله:
«إنني لم أسعد من قبل بفرصة كهذه الفرصة الواسعة لاستجلاء طلعة المليك عن كثب، والإصغاء إلى جلالته على انفراد في جو لا مثيل له بين أجواء اللقاء والحديث. لأنه جو الملك والديمقراطية ممثلَين في شخصه الكريم أجمل تمثيل، مجتمعَين في سماعه وكلماته وإرشاداته أحسن اجتماع»، «… لقد سمعت في هذا الحديث الواحد كلام فيلسوف، وكلام وطني غيور، وكلام محدث ظريف. وطاف بخاطري ذكر الإيمان وذكر الوطن.»
وينظم هذه المعاني شعرًا فيقول:
وما اتخذتْ غير فاروقها
عمادًا يحاط وركنًا يُؤم
ولا عرفتْ مثله في العلا
صديقًا يشاركها في القَسَم
فدَتْه البلاد وفدَّى البلاد
بعالي التراث وغالي القِيم
مليك يلوذ به عرشه
وكم ملك بالعروش اعتصم
٨  Plekhanov, Art and Social life, p. 48.
٩  «أرى أن يكون نشر الكتب القديمة في نطاقٍ محدود، وبعد فحصٍ دقيق، ذلك أن كثيرًا منها لا يخلو من إسفاف يترك أثرًا في أخلاق شبابنا، ودواوين الشعراء ذوي الأسماء الطنانة على حين أن الواحد منهم لا يساوي عشرة قروش» سلامة موسى، مَجلة الثورة، عدد ديسمبر ١٩٥٤م.
١٠  يقول سلامة موسى (ص١٧٦): «إن الشخصية التي تنبع من النفس ستبقي على الطابع الذي يميز بين كاتب وآخر، حتى ولو كان كلاهما شعبيًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤