الفصل الرابع

محلة نصر

وُلِد أستاذنا الإمام بحصة شبشير من قرى إقليم الغربية، ولكنه نشأ بقرية «محلة نصر» من قُرَى مركز شبراخيت بإقليم البحيرة، حيث نشأ والده ونشأت أسرته من قبله.

وقرية «محلة نصر» هذه إحدى القرى الصغيرة في أقاليم الريف، ولكنها — على صغرها — كانت من تلك القرى التي يصح أن يقال فيها إنها موصولة التاريخ بتاريخ القُطْر كله، ذات كيان اجتماعي مكين، تتمثل فيه أحداث العهود ويحس أهله فيه طوارئ الزمن من عهد إلى عهد، بل من ولاية إلى ولاية؛ لأنهم يعيشون في ظل كيان غير منقطع عن مجرى الحوادث الكبرى في الإقليم، وفيما حول الإقليم من ميادين الحياة في أنحاء البلاد.

ولا يخطرنَّ لنا أن هذا شأن عام مشترك بين جميع القرى في هذه الأنحاء، فإن من هذه القرى ما يبلغ من عزلته أن يتغير الوالي في القُطْر كله ولا يدركون تغيُّره بعمل ظاهر في القرية، بل منها ما يعم الوباء وينتشر بين أقاليم شتى، ولا يصل إليها، لقيام العلاقة بينها وبين ما حولها على المعاملات البعيدة، وقد تكون منها معاملات «حولية» تعود مع المواسم والمحاصيل، ولا تخرج من نطاقها المحدود بقية أيام الحول.

أما هذه القرية الصغيرة في إقليم البحيرة — محلة نصر — فكانت من تلك القرى الممتازة بدوام اتصالها بالحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر أنحاء البلاد، وتاريخها في خلال القرن الذي وُلِد فيه الأستاذ الإمام شاهِدٌ على هذه الصلة الدائمة بينها وبين كل حادث خطير من الحوادث القهرية، التي سجلت لنا أدوار التاريخ في الوطن المصري بحذافيره.

مارست العيش في ظل نظام الإقطاع، وسُمِّيت باسم محلة «نصر»؛ لأنها كانت إقطاعًا لرجل بهذا الاسم، لم يَبْقَ من تاريخه ما يُعرَف غير هذه النسبة.

ولما نشأت أنظمة «التفاتيش» الزراعية التي خلفت عهد الإقطاع، كان أكبر هذه التفاتيش من أملاك الخديو إسماعيل على مقربة منها، أو على علاقة بأهلها، وإلى جوار هذا التفتيش بمركز السنطة هاجر أبو الأستاذ وعمه، وكان معهم — كما قال الأستاذ في تاريخه — قدر من المال يسمح لهم باستئجار أطيان يعملون فيها بأيديهم ومعونة شركائهم، فاشتهر والده بين أهلها «بالفتوَّة والبراعة في الصيد بالسلاح، فأحبه لذلك مصطفى أفندي المنشاوي ومحمد أخوه، وكانا موظفين في دائرة إسماعيل باشا الخديو؛ أولهما في وظيفة مفتش زراعة، والثاني في وظيفة ناظر، وطابت له صحبتهما، فعدُّوه كأنه واحد من أهلها، ودام ذلك مدة سنين».

وقد كان أهل «محلة نصر» يشعرون بتقلُّب الأحوال بين والٍ ووالٍ من أبناء الأسرة الخديوية، فاعتُقِل بعض أهلها في زمن عباس الأول، ثم أُفْرِج عنهم في عهد خلفه محمد سعيد، ومنهم والده وبعض رؤساء أسرة المنشاوي، لاتهامهم بحمل السلاح وإيواء بعض المطلوبين للخدمة العسكرية، في أشد أيام النقمة عليها.

ولم تَنْجُ المحلة الصغيرة من وباء الطاعون الذي فتك بكثير من سكان القطر في منتصف القرن التاسع عشر، فمات به جده «حسن خير الله» عن ولدين هما أبوه وعمه.

وكان للقرية مقامها الديني، أو كان هذا المقام هو نواتها الذي التفت به سائر مساكنها، وذلك أن أجداد محمد عبده كانوا يسكنون الخيام مدة من الزمن، ثم اتفق أن اتصل بهم شيخ يُسمَّى عبد الملك لا يُعرَف نسبه، وكان معتقدًا ينسبون إليه الكرامات، فاتخذ خلوة يتعبَّد فيها بالمحل الذي قامت عليه بعد ذلك «محلة نصر»، ثم توفي فنهض جدهم — وكان من بيت الشيخ — ببناء قبة له جعلوا لهم مساكن من حولها، وانضمت إليها بيوت كثيرة تألفت القرية من مجموعها بعد فترة وجيزة.

ولم تَخْلُ القرية من «قوتها الحيوية» التي أسلفنا في الكلام على القرية المصرية أنها كانت عُدَّة الريفيين في مقاومة سلطان الطغاة الكبار، ومقاومة أعوانهم من الطغاة الصغار أصحاب الإقطاع أو أصحاب الالتزام؛ إذ كان هؤلاء الطغاة أعجز من أن يسوقوا الزارعين جميعًا بعصا الإكراه، ولم يكن لهم بد من مداراة العلية البارزين منهم، ومصانعة الأُسَر التي تمكَّنت من مقاد أهل القرية بجاه الثروة أو بجاه الكثرة.

روى المؤرخ المشهور «علي مبارك باشا» أنه اطَّلَع بين مراجعه المخطوطة على رحلةٍ لعبد اللطيف البغدادي تُعرَف بالرحلة الكبرى، رأى فيها اسم محلتَيْ نصر ومسروق، وقال إنه نزل ضيفًا في بيت خير الله التركماني، وإن البيوت الكبيرة في البلد كانت ثلاثة: بيت الشيخ، وبيت خير الله، وبيت الفرنواني.

ويظهر أن بيت التركماني من هذه البيوت — وهم أجداد محمد عبده — كان أقواهم شكيمة وأعصاهم مقادًا على سادة القرية من أصحاب الإقطاع والالتزام، فحاربوه وطاردوه ولم يكفُّوا عن متابعته بالمطاردة والاضطهاد، كأنهم أيقنوا أنهم لا يَأْمَنون مقاومته وتمرده عليهم أو يستأصلوه، فلم يزالوا بعصبة جده لأبيه حتى اعتقلوا منهم نحو اثني عشر رجلًا، وسعَوا بهم لأنهم ممَّن يحمل السلاح ويقف في وجوه أعوان «السلطة» عند تنفيذ المظالم، ثم جاء دور أبيه بعد حينٍ، فحورب في رزقه وعمله حتى هاجر القرية وقضى بعيدًا منها نحو خمس عشرة سنة.

وليس في أخبار هذه الأسرة ما يدل على ثراء كبير في ماضيها البعيد أو القريب، ولكن كل خبر من أخبارها التي بقيت لنا يدل على كثرتها وسعة انتشارها في إقليم البحيرة وما جاوره من بلاد إقليم الغربية.

فأخوال أبيه كانوا أكثر سكان القرية التي عُرِفت باسم «كنيسة أورين»، ومنهم — الحاج محمد خضر — عمدة القرية، وأخواله هو كانوا معظم سكان الحصة التي اشتهرت بحصة «شبشير»، وجده لأمه هو عميد أكبر بيوتها بيت عثمان الكبير.

وكان له أقارب بمنية طوخ في مركز السنطة، وأقارب في القرى بين الإقليمين، أما أقاربه في محلة نصر فهم كما جاء في ترجمته «كثيرون يتصلون بهم من جهة الناس» أيْ بالنسب والمصاهرة، ولم يكن في القرية عند تأسيسها سكان غير أهله بيت التركماني، وغير بيتين آخَرين هما بيت الفرنواني وله بهم صلة كما يظهر من سيرة صاحب الضريح المدفون في محلة نصر، والبيت الثالث هو بيت الشيخ الذي أشار إليه الرحالة البغدادي، وربما كانت عصبته من الأقارب والأصهار أكبر هذه العصب عددًا وأصعبها مقادًا؛ لأنها كانت — كما تقدَّم — هدف المقاومة والاضطهاد من أعوان الحكام، وكان مصابها بالمظالم يكشفها لتلك المقاومة كلما حلت المظلمة بواحد من المنتسبين إليها واللاجئين إلى جوارها.

•••

ولا يخفى أن قيام «دستور الأسرة» أدل على كيانها الاجتماعي من مجرد الكثرة العددية أو سعة الجاه المكتسَب بالوفرة والثروة؛ لأن الكثرة والوفرة قد تدلان على وجود الأسرة ولا تدلان على رعاية آدابها وحماية حوزتها والتزام سمتها وسمعتها، ونحن في العصر الحاضر نذكر دستور الأسرة في قرى الريف ونسمع مَن يسميه تارة بسبر البلد أو بسبر العائلة، قبل أن تسري على الألسنة كلمة التقاليد العائلية أو كلمة العرف الاجتماعي، وكان هذا «السبر» ولا يزال أقوى سلطانًا بين أهل البلد من سلطان الحكم والشريعة في كثير من الأحوال …

ومن الأخبار القليلة التي رُوِيت لنا عن «محلة نصر» نعلم أنها — على صغرها — قرية ذات أُسَر مسماة وبيوت منسوبة، وأن أسرة التركماني من أُسَرها الثلاث المعدودة كان لها بيت كبير فيها بغير باب تعيش فيه أكثر من «عائلة» واحدة من عائلات الأسرة الكبيرة. وترك الدار الكبيرة بغير باب في الريف علامة في وقت واحد على الكرم المقصود والجوار المرهوب، فلا تقام السدود في وجه الضيف الغريب، ولا يجترئ المعتدي على اقتحام الدار على كره أهلها، وتلك هي آية الكرم والمنعة في كل عُرْف وكل بيئة، فليس للبيت مكانة وراء مكانة الموئل الذي لا يُغلَق ولا يُستباح.

ويروي الأستاذ الإمام من ذكريات طفولته أنه كان قبل أن يدرك معنى الكرم والمنعة يرى أن الكبراء من زوار القرية ينزلون في بيته ضيوفًا على أبيه، ولا يذهبون إلى بيت العمدة وهو أغنى من أبيه وأقرب إلى مقام الرئاسة في الحكومة، وكان أبوه يأكل مع الضيوف ولا يأكل مع أهله في الدار، فإذا خلا البيت من الضيوف تناول طعامه وحده على حكم هذه العادة، فكان الطفل الصغير يضيف هذا الانفراد إلى سمت الوقار الذي يرعاه لأبيه، ويحسبه أكبر رجل في الدنيا؛ لأنه لا يعرف من الدنيا غير «محلة نصر» وما جاورها من شبيهاتها في الإقليم المحدود.

وكل أبناء القرى تروي لنا عن هذه الأسرة أنها كانت تنشأ على الفروسية وتحمل السلاح، وتتعرض للشبهة والمطاردة، بل للسجن والمصادرة من جرَّاء هذه الخصلة المتأصلة فيها، ومن أنباء الأسرة في جيلين قريبين نعلم أنها لم تكن قطُّ تستكين إلى المقام في موطنها على كُرْهٍ ومهانة … فلا يزال البارزون من أبنائها بين مقامٍ مُرْضٍ في ديارهم أو إيثار للهجرة والاغتراب، إن لم يُقعِدهم عنها السجن والاعتقال.

ولا ينبئنا صاحب الترجمة بأصل هذه النسبة — نسبة التركماني — التي اشتهر بها بيته وسمع «المزَّاحين» من أهل البلد يلقِّبونه بها وهو لا يفقه معناها، ولكنه سأل عنها كما نسأل عنها اليوم، فقال له والده: «إن نسبنا ينتهي إلى جدٍّ تركمانيٍّ جاء من بلاده في جماعة من أهله، وسكنوا في الخيام مدة من الزمن …»

ويلفت النظر في هذه الرواية أن اللقب كان مما سمعه الطفل الصغير من «المزاحين» في القرية، ولم يسمعه من أبيه ولا أحد من ذوي قرابته، فليس هو باللقب الذي تتحدث به الأسرة وتدَّعيه لنفسها مفاخرةً به كما كان يفعل بعض المنتسبين إلى غير هذا البلد في عهود الطغيان الأجنبي، بل لعله كان مما يقال على سبيل المغايظة والاستثارة للأطفال الصغار، فإذا جاء اللقب بغير دعوى، فقد يكون له مرجع من التاريخ نهتدي إليه من مراجعة أخبار التركمان في هذه البلاد منذ كانت لهم أخبار مترددة بهذا الاسم في التاريخ الحديث.

فإذا قدرنا أن البيت التركماني عُرِف بهذا الاسم قبل وفود عبد اللطيف البغدادي إلى «محلة نصر» بنحو خمسين سنة، فقد مضى عليه في مصر نحو ثمانية قرون، وهي مدة كافية لإعراقه في هذا الوطن بالنسبة إلى الوافدين إليه من أبناء الأمم التي اختارته لسكناها بعد زوال الدولة الرومانية، على تفاوتٍ في الأزمنة من فتح العرب إلى أيام المماليك.

ويَرِد ذكر التركمان كثيرًا في أخبار القرون الأولى من تلك الفترة، فيقول المقريزي وقد ذكر أنه أدرك عهد الظاهر برقوق: «إن جيوش الدولة التركية كانت بديار مصر على قسمين: منهم مَن هو بحضرة السلطان، ومنهم مَن هو في أقطار المملكة وبلادها وسكان بادية كالعرب والتركمان، وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس وتقدمة ألف فارس.»

ومن هذا السياق العابر نعلم أن التركمان كانوا بين فِرَق الجيش، وأنهم لم يكونوا من المماليك المبتاعين؛ لأنهم كانوا سكان خيام، ولم تَجْرِ العادة بشراء الأسرة بخيامها من أهل البادية، ويوافق هذا الخبر ما رواه صاحب الترجمة عن أبيه من سكنى أجدادهم في الخيام قبل انتقالهم إلى البيوت حول مقام الشيخ «عبد الملك» الذي سبقت الإشارة إليه، ولا بد أن يكون هذا قد حدث قبل عهد الظاهر برقوق.

ونحن إذن بين فرضين: أحدهما أن هذا اللقب المتواتر قد لُقِّبت به الأسرة عدة قرون بغير معنى ولغير سبب، والفرض الآخَر أن الاتفاق بين التسمية وبين المذكور من سكناها الخيام ومن نشأتها على الفروسية وحمل السلاح لم يكن بعض عوارض المصادفة أو الاختلاق، بل كان بقية منقولة بين التذكر والنسيان، يجوز لنا أن نفهم منها أن جَدًّا قديمًا للأسرة وفد إلى مصر قبل نحو ثمانية قرون، واختار المقام في إقليم البحيرة لموافقته في ذلك العهد على الخصوص لسكنى البادية، ويرجح أن مقدم هذا الجد إلى مصر كان على أيام صلاح الدين؛ لأنه كان يستكثر من جنود الأكراد وجيرانهم التركمان، وكان شديد العناية بإقليم البحيرة وكل ما جاور ميناء الإسكندرية إلى الغرب أو طريق الصحراء الغربية من حيث وَفَدَ الفاطميون أسلافه في حكم مصر، ولم يزل على حذر من جانب هذا الطريق بعد إسقاط الدولة الفاطمية بعدة سنين، فلا جرم يختص بإقطاعه أقرب الناس إليه، وينشر فيه جنده التركمان والأكراد ليقيموا فيه مقام الأهل ويحرسوه حراسة العسكر مع مقامهم فيه.

أما نسب صاحب الترجمة لأمه، فجملة ما نعلمه عنها أنه كانت تُنسَب إلى بني عديٍّ بالصعيد، وهم منتسبون إلى القبيلة القرشية قبيلة عمر بن الخطاب كما هو معلوم، ولكن الأستاذ الإمام يقول إن «ذلك كله روايات متوارثة لا يمكن إقامة الدليل عليها».

وقد كانت مع أهلها من البيت الذي عُرِف في قرية «حصة شبشير» باسم «بيت عثمان الكبير»، وتزوج منها والده أثناء هجرته إلى إقليم الغربية، واسمها «جنينة» بنت عثمان، ويصفها ولدها الأمين فيقول: «إنها كانت ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء، وتعد ذلك مجدًا وطاعة لله وحمدًا …» ويقول: إن منزلتها بين نساء القرية لم تكن تقل عن منزلة أبيه بين رجالها.

والذي نراه أن انتساب هذه الأم إلى بني عدي بإقليم أسيوط، وانتساب بني عدي إلى القبيلة القرشية المعروفة، أمر لا داعية للشك فيه؛ لأن هجرة القبائل القرشية إلى إقليمي المنيا وأسيوط خبر من أخبار الفتح العربي المتواترة، ولزوم هذا الاسم للقبيلة المعروفة به عند منفلوط لا يتسلسل مع الزمن اختلافًا بغير سند أصيل، وقد ينتسب رجل أو امرأة إلى إحدى القبائل دَعِيًّا فيها بغير سند، ولكن انتساب قرية كاملة إلى القبيلة أمر نحسب أن تكذيبه أصعب من تصديقه، ولا موجب لتكذيبه على أية حالة بغير دليل.

وإنما تحتاج الرواية إلى دليل راجح إذا ارتفعت النسبة إلى رجل معلوم؛ إذ لا يلزم من صحة النسب إلى قبيلة عمر بن الخطاب أن يكون العدوي المنسوب من ذريته، ولا يثبت ذلك إلا بسلسلة النسب المحدود، ومتابعة أخبار الأبناء والأجداد ما بين الموطن الأول في الحجاز وموطن فروع في هذه الديار.

على أن الأخبار المتقدمة جميعًا لا تتناقض في اختلافها ولا تتباعد كثيرًا في جوهرها، فكلها تنتهي إلى نتيجة واحدة لا غرابة فيها، وهي أن المصلح الغيور قد أنبتته قرية موصولة بالتاريخ ترشحه لرسالته التاريخية، ونمَّته أسرة أبيَّة تورثه ما قد ورث عنها من عزة وعزيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤