الفصل الثاني

مظاهر الضعف ومجالي الانحلال في الدولة ونتائج ذلك

استمرت في هذا الدور مظاهر الضعف ومجالي الانحلال التي رأيناها في الدور الماضي؛ فسرير الخلافة متزعزع الأرجل، والخليفة ظلٌّ لا حقيقة له، وانحلال الإدارة بادٍ في كل دواوين الدولة، والوزراء والقادة هم المسيطرون، وأصحاب النِّحَل والمبادئ الهدامة يسرحون ويمرحون ويفعلون بالدولة وأقاليمها ما يشاءون، ولكن يجدر بنا أن نلاحظ أن هناك بعض المظاهر الجديدة التي يمكن إجمالها في النقاط السبع التالية:
  • (١)
    انهارت الخلافة انهيارًا مزريًا في هذا الدور، أكثر مما كانت عليه في السابق؛ فقد رأينا في الدور السابق أنها قد استعادت بعض هيبتها في زمني المعتضد والمكتفي، أما في هذا الدور، وخاصة في أيام البويهيين، فقد أصبح الخليفة موظفًا لدى السلطان البويهي يخصص له راتبًا مسمًّى، ويحمله معه في رحلاته وجولاته، ويمكننا اعتبار فترة البويهيين استمرارًا لفترة عهد إمارة الأمراء، ونلاحظ في هذه الفترة أن ظاهرة سمل عيون الخلفاء وتكحيلهم بميلٍ قد أصبحت شبه مطردة، والسر في ذلك هو أن من شرائط الخلافة عدم النقص البدني، والعمى نقصٌ بدني، فمتى سُمل الخليفة أصبح غير صالح لخلافة المسلمين، فلذلك يجب أن يخلع نفسه وإلا يُخلع، وقد كان لدخول البويهيين بغداد فاتحين، ضعضعة واضحة لأركان الخلافة؛ لأن البويهيين كانوا شيعة زيدية لا يعترفون بحكم العباسيين الغاصبين، ولم يُبقِ البويهيون شبح الخلافة العباسي إلا لضروراتٍ سياسية قدَّروها، ولقد أراد معز الدولة البويهي نقل الخلافة إلى الإمام أبي الحسن محمد بن يحيى الزيدي فحذَّره كبار قومه من ثورة الناس عليه، يقول البيروني: «لأن زعماء الأمصار قد اعتادوا الدولة العباسية، ودانوا بدولتهم وأطاعوهم طاعة الله ورسوله، ورأوهم أولي الأمر.»١ ويظهر أن هذا لم يكن السبب الحقيقي، وإنما السبب هو ما يذكره ابن الأثير (في تاريخه ٧: ١٤٩)٢ من أن معز الدولة لما عزم على ذلك قال له أصحابه: «إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه …»
  • (٢)

    كان للخليفة وزير حتى في الفترات التي انحطت الخلافة إلى أدنى الدرجات فيها، فلما جاء البويهيون ألغَوا منصب الوزارة، واكتفَوا بتسمية «كاتب» للخليفة واختصوا هم بلقب الوزارة لأنفسهم، وتدخلوا في تعيين هذا الكاتب.

  • (٣)
    كان الخليفة في العهد السابق هو المشرف على بيت المال كما جاء بذلك الشرع والعُرف المتوارث منذ العهد الإسلامي، أما في أيام بني بويه فقد صار الحل والربط ببيت المال للسلطان البويهي، والخليفة هو أحد المستحقين من بيت المال ليس غير، ويذكر ابن الأثير «في التاريخ، ص٧–١٤٨» أن «معز الدولة قد خصص للمستكفي خمسة آلاف درهم في اليوم»، ثم خفَّض هذا المبلغ للمطيع إلى ألفي درهم في اليوم (كما في تاريخ مسكويه، ص٢–٨٧)، ولما افتتح معز الدولة البويهي البصرة سنة ٣٦٠ﻫ قطع الراتب وأقطع الخليفة ضِياعًا تدر مائتي ألف دينار في السنة.٣
  • (٤)
    لم يكتفِ البويهيون بأخذ سلطات الخلافة موضوعًا، بل أخذوها شكلًا أيضًا، وذلك بأن طلبوا من الخليفة أن يفوِّض إليهم سلطات الخلافة؛ فقد ذكر مسكويه، في تاريخه أن الخليفة الطائع قال في سنة ٣٦٩ لعضد الدولة: «قد رأيت أن أفوِّض إليك ما وكل الله تعالى إليَّ من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي، فتولَّ ذلك مستخيرًا بالله.»٤
  • (٥)
    لم يكتفِ البويهيون بأخذ سلطات الخلافة موضوعًا وشكلًا، بل أخذوا تقاليدها ورسومها وشاراتها أيضًا، فقد كان من حق الخليفة وحده أن تُقرع له على أبواب دار الخلافة الطبول في أوقات الصلوات الخمس، فأراد معز الدولة أن يكون له مثل هذا الحق فلم يقبل الخليفة، ولكن عضد الدولة أجبر الطائع سنة ٣٦٨ﻫ على أن يكون له ذلك، فكان له ذلك ثلاث مرات يوميًّا في أوقات «الغداء والمغرب والعشاء».٥
  • (٦)

    طمع البويهيون في الخلافة نفسها؛ فقد ذكر مسكويه (في تاريخه ٢: ٤١٢) ما نصُّه: «دبَّر عضد الدولة سنة ٣٦٩ أن يقع بينه وبين الطائع لله بابنته الكبرى، ففعل ذلك، وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهدٍ من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار، وبُني الأمر فيه على أن يُرزق ولدًا ذكرًا منها فيُولَّى العهد وتصير الخلافة في بيت بني بويه، ويصير المُلك والخلافة مشتملين على الدولة البويهية.»

  • (٧)

    أشرنا قبلُ إلى أن منصب الوزارة قد أُلغي من دار الخلافة، وقام «الكاتب» مقام وزير الخليفة واختص السلطان البويهي «بالوزير»، ويجب أن نضيف هنا إلى ذلك أن الصفة الحربية قد أصبحت للوزير، مع أنه كان من طبقة الكتَّاب، وقد استتبع هذا أن أصبح للوزراء ألقاب تفخيم كسعد الدولة، وشرف الملك، وما إلى ذلك مما لم يكن معروفًا من قبل، ومما يجب أن نشير إليه هنا أن عضد الدولة اتخذ وزيرين أحدهما نصراني، وهذا أمر لم يحدث قبلئذٍ.

١  الجماهر في معرفة الجواهر، ص٣٢–٥٣.
٢  تاريخ ابن الأثير ٧: ١٤٩.
٣  تاريخ مسكويه ٢: ١٠٨.
٤  تاريخ تجارب الأمم لمسكويه ٢: ٣١٧.
٥  تاريخ مسكويه ٢: ٣٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤