الإنسان

(١) التوائم، وشذوذ الطبيعة فيها

للطبيعة نواميس ثابتة، وقواعد معينة تسير عليها في أعمالها وأحكامها في الممالك الثلاث الجماد والنبات والحيوان، ولكنها قد تشذ في بعض الأحوال، فيتولد من شذوذها مخلوقات غير اعتيادية يسمونها خوارق الطبيعة أو شذوذ الطبيعة، ولا بُدَّ لهذا الشذوذ من أسباب ترجع إلى تلك النواميس، وإن كنا لم نتصل إلى معرفتها.

ومن قبيل خوارق الطبيعة، التوائم المتحدة أو المختلطة، وهي كثيرة في أجنة النبات تظهر في البزور والأثمار كل يوم، أما في الحيوان فإنها نادرة، وهي أندر ما تكون في الإنسان، ولم يعنَ العلماء في تعليل هذه الخوارق والبحث عن أسبابها إلا في القرن الثامن عشر فما بعده، وكانوا قبل ذلك إذا ذكروها إنما يريدون بذكرها التحدث بها على سبيل الاستغراب، ولم يتصلوا إلى تعليل تلك الخوارق إلا بعد وضع علم الأجنة، ودرس حياة الجنين وما يطرأ عليه من التغيير، وهو في بطن أمه، فوجدوا بالبحث والمراقبة أن السبب الرئيسي يرجع إلى حال البيضة، وأن التوءم المتحد يتولد من بيضة واحدة غالبًا؛ أي أن يكون نقطتان جرثوميتان في بيضة واحدة تنميان معًا، وتتحدان من بعض أجزائهما اتحادًا كليًّا أو جزئيًّا، وقد يكون التوءمان متساويين حجمًا أو متفاوتين، فالتوائم المتحدة تقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين؛ التوائم المتساوية، والتوائم المتفاوتة.

(١-١) التوائم المتساوية

هي أن يولد التوءمان متساويين في الحجم، وتقسم التوائم المتساوية إلى أقسام باعتبار الأعضاء التي يتحد التوءمان بواسطتها، فإما أن يكون اتحادهما في الرأس أو في الصدر أو في السرة أو في الحوض، ومن أبسط أحوال التوائم المتحدة أن يولد التوءمان في جسم واحد لا ينفصلان إلا في الرأس، فيكون مزدوجًا فيعبر عنه الناس بإنسان ذي رأسيين، وقد يتحد الرأسان فيصيران رأسًا واحدًا ذا وجهين، وفي أحوال أخرى لا تظهر التوءمية إلا في الذراعين، فيكون الجسمان متحدين جميعًا إلا الأذرع، فيكون في الصدر أربع أذرع، وقد يبقى أثر التوءمية في العنق، فيظهر المولود طفلًا ذا عنقين ورأس واحد، أو تكون في الصدر فيولد ذا صدرين وبطن واحد وفخذين فقط، وقس على ذلك ما قد يتفق تولده من ضروب الاتحاد باختلاف الأعضاء.

ثم إن الاتحاد في الرأس أو الصدر أو البطن أو الحوض قد يكون جزئيًّا، بحيث لا يتجاوز الجلد، فيكون كل من التوءمين كاملًا بكل أعضائه مستقلًّا في أعماله الحيوية مع استطراق بينهما في نقطة الاتصال، وقد يكون الاتحاد كليًّا حتى يختلط العضوان المتحدان، فيتكون منهما صدر واحد أو بطن واحد أو رأس واحد؛ فالرجلان صاحبا الرأس الواحد قد يكون في تجويف رأسيهما دماغ أو دماغان، وكذلك في ذوي الصدرين فقد يكون لهما قلب أو قلبان، ونحو ذلك مما لا يقع تحت حصر، ولا يعيش من التوائم المتحدة المتساوية إلا ما كان الاتحاد بينهما جزئيًّا، وسائر الأعضاء في الجسمين مستقلة.

ومن هذا النوع التوءمان راديكا ودوديكا، أفاضت الجرائد في ذكر العملية الجراحية التي أجريت لفصلهما وهما أنثيان.

ومنه التوءمان الصينيان ليوتانغسن وليوسنغسن، وهما ذكران، وفي السابعة عشرة من العمر، وقد اتحدا مثل اتحاد راديكا ودوديكا تقريبًا إلا أن نقطة الاتصال أطول قليلًا ومحيطها ٢٣ سنتيمترًا، وعلوها ٩ سنتيمترات، وثخانتها نحو ثلاثة سنتيمترات، وطول كل من التوءمين متر و٤٤ سنتيمترًا، وهما قويا البنية لا يظهر عليهما التعب من هذه المشاركة، وأما واسطة الاتحاد فيهما؛ ففي طرف القص — أي العظم الصدري — فإنه يستطيل قليلًا ويخرج من الصدر حتى يلتقي برفيقه فيتحدان، والمظنون أنهما متحدان أيضًا بالحجاب الحاجز وبشيء من الكبد.

ومن أشهر التوائم المتساوية التوءمان السياميان «شانغ» و«انغ» ابنا بونكر، ولدا في قرية قرب بانكوك بسيام سنة ١٨١١، وهما متحدان بعظم الفص في أسفل الصدر بزائدة لحمية ضخمة، وبزائدة من البريتون.

وقد حملا إلى أوروبا وهما طفلان، ثم سافرا إلى أميركا، وعرضا نفسيهما للفرجة فجمعا مالًا طائلًا فاستقرا في كارولينا بالولايات المتحدة، واشترى كل منهما عقارًا يستغله لنفسه، واتفقا أن يقيما كل ثلاثة أعوام في بيت أحدهما على التناوب، فعاشا في ذلك مدة والناس يحترمونهما.

وكان طول شانغ خمسة أقدام وقيراطان ونصف، وانغ أطول منه بقيراط واحد، ومن غريب سيرتهما أنهما تزوجا أختين سنة ١٨٤٣؛ فولد لشانغ عشرة أولاد سليمي الحواس إلا صبيًّا وصبية ولدا أصمين، وولد لأخيه انغ اثنا عشر ولدًا كلهم صحيحو الأبدان، ولما حدثت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة خسرا كل ما كانا يملكانه من العقار فعادا إلى التعيش بعرض أنفسهما في أوروبا.

وفي سنة ١٨٦٣ مال شانغ إلى الإفراط في المسكر ونحوه وظل أخوه معتدلًا في كل شيء، وفي هذا التناقض في الأخلاق مع اتحادهما دمًا ومزاجًا موضع نظر للباحثين في النفس وخصائصها.وفي سنة ١٨٧٢ أصيب شانغ بألم عصبي في العين اليمنى ثم أصابه انحلال في سائر البدن، ولم يعد يستطيع الصعود على السلالم أو نحوها، وفي يناير سنة ١٨٧٤ أصابته نزلة صدرية لم يسرع في معالجتها، ففي السابع عشر من ذلك الشهر أفاق انغ وظل شانغ نائمًا، فنادى انغ بعض أولاده ليوقظ عمه، فنادى الغلام «عماه عماه» وحرَّكه فإذا هو ميت، فصاح «هو ميت»، فاضطرب انغ وقال بنغمة اليائس الحزين «فإذن أنا مائت أيضًا» ثم انقطع بوله وعسر تنفسه، ومات بعد أخيه بساعتين، ولهما من السن ٦٣ سنة.

وقد كتب الأستاذ هريسن ألن فيهما تقريرًا طويلًا نشره في جملة أعمال كلية الطب في فيلادلفيا، يؤخذ منه أن واسطة الاتصال بين التوءمين كانت عبارة عن امتداد جلدي قصير محيطه تسعة قراريط؛ سطحه العلوي أعرض من سطحه السفلي، في داخله نقطة اتصال رأسي الغضروفين الخنجريين الممتدين من القصين، وفي تلك النقطة كيس زلالي وأربطة بما يشبه المفصل ليساعد التوءمين على التحرك عند الاقتضاء، وهناك أيضًا زائدة بريتونية من كل جانب تمتد نحو الأخرى لكنهما لا تلتقيان، وتمتد من كبد كل من التوءمين زائدة تضيع في نقطة الاتصال، وبين طرفي الزائدتين وعاء دموي هو واسطة الاستطراق بين الدورتين فيهما، وهناك توائم أخرى متحدة من هذا النوع لم تشتهر لأنها لم تعِش طويلًا أو لأسباب أخرى.

(١-٢) التوائم المتفاوتة

وهي ما كان فيها أحد التوءمين ناميًا، والآخر ضامرًا، وقد ذكروا تباينات عديدة من هذا النوع منها ما يكون فيه التوءم الضامر متصلًا بجنب النامي كأنه طفل يحمله شاب، ويغلب أن يكون في التوءم الضامر نقص في أعضائه ولا يكون له حياة مستقلة، بل يبدو كأنه بضعة من ذاك. من أمثلة ذلك توءم جينوي اسمه لازاروس كولوريد ولد سنة ١٧١٦ وصفه بعضهم، وهو شاب؛ قال: إن التوءم الضامر عبارة عن طفل يتصل برفيقه في عظم الصدر، فيبدو للناظر كما يبدو الطفل يحمله الرجل، وكان ذلك الطفل كامل الأعضاء لا ينقصه إلا ساق واحدة، وكان ينام ويأكل بنفسه، وقد يكون التوءم الضامر أو الصغير مستقرًّا في جيب بجلد التوءم الآخر، وقد لا يبقى من أحد التوءمين إلا بعض أعضائه فتظهر زائدة في أعضاء رفيقه كأن يكون التوءم عبارة عن رجل ذي ثلاث أذرع أو ثلاث أرجل أو نحو ذلك.

وأشهر توءم من هذا النوع الآن رجل هندي اسمه «لالو» ولد في لكنو الهند ومعه توءم آخر متصل به في بطنه، وكانا في أول الولادة متساويين حجمًا، فلما نميا ظل أحدهما صغيرًا، ولم ينمُ إلا قليلًا، فأصبح كأنه طفل يحمله شاب، ونظرًا لغرابة ذلك في الناس جعل يطوف المدن يعرض نفسه للفرجة في الأسواق، وهو الآن في الولايات المتحدة، كتب إلينا بشأنه حضرة حبيب أفندي فارس فرزلي أحد أدباء السوريين في وورسسترماس في جملة رسالة ذكر فيها جماعة يتجرون بعرض غرائب المخلوقات للفرجة، فيطوفون المدن بغرائبهم، فلا يمكثون في البلد الواحد إلا يومًا أو بضعة أيام تخفيفًا للنفقة قال الكاتب: «ويزيد عددهم على ٢٥٠ في جملة غرائبهم؛ امرأة بلحية يزيد طولها على شبر، وشاربين مثل شاربي الرجال وزوجها معها، ومنها رجل روسي وجهه مغطى بالشعر يشبه وجه الأسد، وحصان طول ذنبه ٣١ قدمًا، ورجل صيني طوله ٢٨ قيراطًا وعمره ٤٥ سنة، ورجل هولاندي طوله ثمانية أقدام ونصف قدم، وهو أطول إنسان … إلى أن قال: ورجل هندي اسمه لالو عمره خمس وعشرون سنة يلتصق ببطنه جثة طفل كاملة إلا الرأس.»

(٢) أطول رجل في العالم

في إنكلترا اليوم رجل اسمه لويس ويلكنس لم يرَ الناس مثل طوله بين الرجال منذ قرنين، والعادة في طوال القامة أن يكونوا نحافًا ضعافًا لانحصار قوة النمو في طولهم دون عرضهم، وأما ويلكنس هذا فإنه غريب النمو طولًا وعرضًا، فقد بلغ ارتفاعه ثمانية أقدام وقيراطين ومعدل طول الرجل لا يزيد على ستة أقدام، ومحيط صدر ويلكنس ٦٦ قيراطًا (نحو متر و٦٥ سنتيمترًا) ومحيط فخذه ٣٤ ونصف قيراط، ووزنه نحو ٣٦٤ رطلًا مصريًّا، وطول باعه مثل طول قامته تمامًا، ويدل ذلك على تناسب أعضائه؛ أي إنها مع كبرها غير الاعتيادي فإنها متناسبة، وطول كفه ١٢ قيراطًا وعرضها خمسة قراريط، والرجل المعتدل القامة يلبس قفازًا حجمه سبعة قراريط وقفاز ويلكنس ١٤ قيراطًا، قطر إصبعه الوسطى قيراط ونصف قيراط ومحيطه ٤ ونصف قيراط، محيط جمجمته ٢٧ قيراطًا؛ أي نحو ٧٥ سنتمترًا، وطول حذائه ٢٥ قيراطًا.

أصله إنكليزي وولد في سانبول مينيسوتا بالولايات المتحدة سنة ١٨٧٤، ولم يكن يظهر عليه في طفولته أنه سيبلغ هذا القدر من النمو، وما زال نموه اعتياديًّا حتى بلغ الرابعة من عمره، فأسرع في النمو سرعة غريبة، ولما بلغ العاشرة أصبح أكبر أولاد مدرسته، وقد بلغ طوله ستة أقدام، ولما أدرك الثامنة عشرة من عمره بلغ إلى أبعد أطواله (ثمانية أقدام وقيراطين) وهو طوله إلى اليوم، ولم يكن أحد أبويه يمتاز عن سائر الناس في شيء من هذا القبيل، وهو صحيح البدن قوي العضل لم يشكُ من صحته، إلا مرة وهو في الثامنة من عمره على أثر رفسة جواد أصابت رأسه فأفقدته رشده وكان سارحًا في غنم لأبيه، فلما رفسه الفرس سقط مغشيًّا عليه ولم يعلم به أهله إلى اليوم التالي فوجدوه لا يزال غائبًا عن رشده، ولما كشف الأطباء عن جرحه أجمعوا على قرب الخطر ثم علموا بعد ذلك أنه ظل عائشًا فاستغربوا كثيرًا.

والمستر ويلكنس من أهل الذكاء وله معرفة حسنة باللغات الفرنساوية والإنكليزية والألمانية، وهو يحسن السباحة ويحب الرياضة البدنية، وله غية في جمع طوابع البريد والنقود القديمة، وحيثما مشى استلفت انتباه الناس ومشى الأولاد في أثره إعجابًا بكبر جثته؛ ولذلك فهو قلما يسير ماشيًا في الأسواق فرارًا من تجمهر الناس حوله أو التفاتهم إليه.

ومن غريب أحواله أنه يتكلف ضِعفي ما يتكلفه سائر الناس على لوازم الحياة، فهو يدفع ثمن الثوب ضِعفي ما يدفع سواه، وكذلك في أثمان الأحذية وفي أجور المركبات والأسِرَّة في الفنادق، وفي أثمان الأطعمة وفي كل شيء تقريبًا.

ولكي يتضح للقارئ هول هامته صوروه بجانب رجل من أوساط الناس طولًا وسمنًا، فإذا هو يتطاول بذراعه وقبعته ولا يدرك قبعة المستر ويلكنس، وقد ألبسوا قبعته لرجل اعتيادي فغرق رأسه فيها إلى الذقن.

(٣) أطول امرأة في العالم

ذكرنا أطول رجل في العالم، ونحن ذاكرون أطول امرأة، وهي الآنسة ايلا يوين من كورين التابعة لميسوري من الولايات المتحدة الأميركية، والغريب فيها أيضًا أنها أطول من ذلك الرجل، فطوله ثمانية أقدام وقيراطان وطولها ثمانية أقدام وأربعة قراريط، والداها مائلان إلى الطول، ولكنهما أقصر منها كثيرًا، طول الوالد ستة أقدام وقيراط وطول الوالدة خمسة أقدام وتسعة قراريط، وإذا وقفا بجانبها اتضح الفرق بينها وبينهما.

وكانت ايلا إلى التاسعة من عمرها لا تتميز كثيرًا عن سائر أبناء جيلها، ولكنها لم تكد تتجاوز التاسعة حتى أخذ نموها يتضاعف، ولم تتم العاشرة حتى صار طولها ستة أقدام وتسعة قراريط، وأحست من ذلك الحين بالمضايقة من كل ما حولها، فأصبح فراشها قصيرًا وأثوابها قصيرة، وكذلك كرسيها ومائدتها وسائر أدوات المنزل، ولم يبقَ في أثوابها ولا أثواب والدتها ولا والدها ثوب يناسبها؛ لأنها أطول من كليهما، وأصبحت غريبة بين أهلها وجيرانها، لا توافق بنات جيلها؛ لأنها أكبر منهن هامة ولا توافق النساء لأنها أضعف منهن إدراكًا وعقلًا. ولما أدركت الحادية عشرة أصبحت في خطر من المرور في الأبواب أو المسير في أرض المنزل لئلا يدق رأسها بعتبات الأبواب أو ذيول القناديل، وزد على ذلك أن والديها كانا في ضيق مالي بحيث لا يستطيعان تجديد كل ثيابها أو تبديل شيء من أدوات البيت.

فلما بلغ طولها ثمانية أقدام أصبحت موضع استغراب أهل بلدها. وانتشر خبرها في الولايات المتحدة، فسعى بعض الذين يتجرون بالغرائب هناك، واسترضى والديها على أن يطوف بها في البلاد للفرجة، فسارت معه، فلما دخلت نيويورك طاف بها حوانيت باعة البرانيط فلم يجد عندهم برنيطة توافق رأسها، فاصطنعوا لها برنيطة خصوصية، وهكذا فعلوا بسائر ألبستها، ثم طافوا بالفتاة في أميركا وأوروبا، وهي لا تزال تزداد طولًا حتى بلغت ثمانية أقدام وأربعة قراريط ثم توقف نموها.

وكانت من يوم خروجها من بيت أبيها قد صممت في باطن سرها أن تجمع ما تستطيع اقتصاده من دخلها في ذلك الطواف؛ لتقتني به من الألبسة والأدوات ما يناسب هامتها، وقد توفقت إلى ذلك فعادت من سياحتها في أوروبا وأميركا إلى مسقط رأسها، فابتنت فيه بيتًا علو أبوابه ونوافذه عشرة أقدام، وارتفاع سقفه خمسة عشر قدمًا، واصطنعت أدوات المنزل على هذه النسبة، فجعلت علو المائدة أربعة أقدام ونصف قدم، وهي لا تناسب طولها تمامًا، لكنها جعلتها وسطًا بينها وبين سائر الناس؛ للجلوس حولها مع ضيوفها عند الاقتضاء، واصطنعت خزانة للثياب (بيرو) علوها ستة أقدام، وطول فراشها تسعة أقدام ونصف، وكانت قبل اصطناع هذا الفراش لا تستطيع الرقاد إلا وهي مثنية الساقين، وبالجملة لم يهنأ لها عيش إلا بعد بناء ذلك البيت واصطناع أدواته على تلك الصورة. وتقيم الآنسة ايلا يوين الآن في كورين بهناء ورفاه وأهل البلد يعجبون بمنظرها ويفتخرون بإحرازهم أطول إنسان في العالم.

(٤) البغمة

هو لفظ يوناني الأصل معناه «طول ما بين أصل الأصابع والمرفق»؛ ويراد به أمة من الأقزام ذكرها القدماء واختلفوا في وصفها، وهم بين مصدق ومكذب أقدمهم هوميروس، فقد ذكرها في النشيد الثالث من الإلياذة في أثناء وصفه براز منيلاوس وفاريس؛ إذ انتظم الجيشان للقتال، وإليك نظم ذلك في الإلياذة العربية:

نظم القواد سرى الجند
بحما الجيشين عن الحد
زحف الطروادة عن بعد
بصديد عالٍ مشتد
ودوي يقصف كالرعد
كالرهو إذا اشتد المطر
والقر مواطنه يذر
في الجو تعجُّ له زمر
فوق الأقيانس تنتشر
للبغمة محكمة الحشد
وقال صاحب الإلياذة العربية في تفسير لفظ البغمة:

وفي قوله للبغمة إشارة إلى اعتقاده وجود أمة من الأقزام بهذا الاسم، لا يربو طول الواحد منها على ذراع، كانوا يقولون بوجوده في بلاد إثراقة. ا.ﻫ.

واختلف المؤرخون القدماء في تعريف هذه الأمة وتعيين مكانها، فقال بعضهم إنها تقطن في أقاصي الجنوب وراء الأوقيانوس؛ حيث يكثر الغرانيق فينقض على رجالها ويؤذيهم.

أما هيرودوتس الرحالة الشهير، فقد ذكر جيلًا من الناس قصار القامة يقيمون في أواسط أفريقيا، قال ذلك عرضًا في أثناء كلامه عن شمالي أفريقيا وصحراء ليبيا وينابيع النيل على لسان خمسة فتيان من الناسمونة سكان سيرته قرب خليج قابس، اختاروهم بالاقتراع وأرسلوهم للبحث عما في بادية ليبيا (الصحراء الأفريقية الكبرى). قال هيرودوتس: «فالفتيان الخمسة المذكورون أرسلهم أصحابهم، وقد زودوهم شيئًا كثيرًا من الطعام والماء، فدخلوا أولًا بلادًا مأهولة ثم بلادًا فيها الوحوش الضارية بكثرة ثم تقدموا غربًا يتبطنون القفار حتى رأوا بعد سير طويل في الرمال بقعة شجراء؛ فدخلوها وأكلوا من ثمارها، وبينما هم يأكلون انقضت عليهم جماعة من الناس قصار القامات وأخذوهم جبرًا وساروا بهم في أماكن كثيرة المنافع، وبعد أن اجتازوها وصلوا إلى بلد كل أهله سود البشرة وأجسامهم صغيرة كالأولين، وكان يشق البلد نهر كبير فيه تماسيح، وهو يجري من الغرب إلى الشرق.»

ومع هذا الوصف الصريح ما زال المؤرخون مرتابين في وجود هؤلاء الأقزام؛ ولذلك رأيت أكثرهم إذا ذكر البغمة أنكرهم، وعدَّ القول بهم خرافة، كما فعل استرابون أو تحذر من اعتقاده صحة وجودهم، وزعم آخرون أن البغمة يقطنون أواسط الهند. قال كتيسياس في وصفهم: «إنهم قبح الوجوه، سود البشرة، لا يزيد طول أحدهم على ذراعين، طوال الشعر حتى يكتسوا بلحاهم، فيغنيهم ذلك عن الثياب، ولهم مهارة في رمي النبال، يصطادون بها الذئاب والثعالب والنسور والعقبان، يتكلمون لغة سائر الهنود، وفيهم أنفة ونخوة وماشيتهم صغيرة الحجم مثلهم.» فهذه الأمة إذا صح وجدوها فهي غير التي أرادها هيرودوتس، وأما هذه فقد ورد ذكرها في كتب العرب أيضًا، قال القزويني في جملة كلامه عن الأمم العجيبة الأشكال: «ومنها أمة في بعض جزائر الزنج، قاماتهم قدر ذراع، وأكثرهم عور، وعورهم لمحاربة الغرانيق، تأتيهم وتحاربهم كل سنة، فتقتل منهم ما شاء الله»، فيظهر أن القزويني نقل ذلك عن قدماء اليونان.

فلما أقبل التمدن الحديث باكتشافاته الجغرافية في أواسط أفريقيا، اكتشف بعض أهل الرحلة قبائل من السودان قصار القامة، ذكروا أنهم يجلسون بين يدي ملكهم وظهورهم إليه، وقال آخرون إن في أواسط أفريقيا قطرًا كبيرًا كل أهله قزم لا شغل لهم غير قتل الفيلة. وقال ستانلي يصف غابات إيتوري في الكنغول «وإليها (إلى الغابات) يلجأ جماعات من الأقزام لهم رغبة في القتال، ومهارة في الاحتيال»، لكنه لم يقُل إنه شاهدهم أو خالطهم، وأول من درس أحوالهم ووصفهم السير هري جونستون على أثر عودته من رحلته الشهيرة وسماهم «أوكابي»، فلم يكتفِ علماء الإنسان بالسماع، فأحبوا مشاهدة أولئك الناس عيانًا، فاستحثوا الكولونيل هريسون على ذلك في أثناء رحلته في العام قبل الماضي، فذهب إلى غابة من بلاد امبوتي على نهر الإيتوري، قضى فيها بضعة أشهر يترقب الفرص ويتخذ الوسائل حتى تمكن من القبض على أربعة رجال وامرأتين من أمة الأوكابي، ومعهم زنجي هو المترجم بينهم وبين الكولونيل هريسون. ومهما يكن من اختلاف الاسم أو الوصف، فيغلب على الظن أن الأوكابي بقية تلك الأمة التي ذكرها التاريخ.

وقد قاسى هريسون مشقات جسيمة في نقل هؤلاء الستة من أواسط أفريقيا إلى لندرا، فمروا بالخرطوم، ومنها إلى القاهرة قضوا في ذلك عدة أسابيع قامت في أثنائها جمعيات الدفاع عن الإنسان في إنكلترا تعترض على إخراج أولئك الناس من أوطانهم قسرًا، فاضطر الكولونيل هريسون أن يبرهن للورد كرومر وللحكومة الإنكليزية أن هؤلاء الأقزام إنما صحبوه باختيارهم، ولما وصلوا إلى لندرا أقدم علماء الإنسان على تفحص أحوالهم ودرس طبائعهم وهي لا تخرج عما نشره السير هري جونستون سنة ١٩٠٢، وخلاصة ذلك أن قاماتهم معدل طولها في الرجال ٤ أقدام وستة قراريط، وفي النساء ٤ أقدام وقيراط، وأطول رجل فيهم لا يزيد طوله على خمسة أقدام؛ أي نحو متر ونصف، ووجدوا بين نسائهم من لا يزيد طولها على متر.

وليس ذلك القِصر عن شذوذ في الخلق، وإنما هو طبيعة من طبائع تلك القبائل، وهي تُعرف أيضًا بقبائل امبوتي أو بامبوتي أو وامبوتي، وتمتاز عن سائر أمم أفريقيا بقصر القامة، وبشكل الأنف والشفة العليا، قال السير جونستون: «إن العظم الأنفي فيهم يكاد يكون أثريًّا، ومع ذلك فقاعدة الأنف عريضة جدًّا، والمناخير منتفخة وبارزة، وأما الشفة العليا فإنها أكثر نتوءًا وطولًا وأكثر هبوطًا مما في شفاه سائر الزنوج، وأما الملامح الأخرى، فالذقن قصير، والعنق مندمج مع قصر؛ حتى يخيل للناظر أن الرأس متصل بالصدر مباشرة، والساقان قصيرتان لكنهما عبلتان، والقدمان كبيرتان مع انحراف للداخل والشعر صوفي القوام قصير أسود مع ميل إلى الحمرة، وكذلك الجلد فإنه ليس حالكًا كما في سائر الزنوج، وأطول ما شاهده هريسون من لحاهم لا يزيد طولها على ١٥ سنتيمترًا، ولكن بعض العربان أخبره أنه يعرف غير واحد منهم يزيد طول لحيته على نصف متر، وأما سائر سطح الجسد فيكسوه زغب رفيع كثيرًا ما نشاهده في أولادنا وهم أطفال، فإذا شبوا تحول إلى شَعر، وأما في هؤلاء البغمة فيبقى الشعر زغبًا، لكنه يكتسب بتقدم العمر حمرة ويغزر خصوصًا على صدور الرجال.»

وأما أخلاقهم؛ فأولها الشجاعة بلا تعدٍ، ومع ذلك فقد ذكر الكولونيل هريسون أن جماعة منهم سطوا على قافلة بلجيكية، فقتلوا ١٧ من رجالها وسلبوا ما تحمله من السلع ونحوها، ولكنهم أشد وطأة على جيرانهم الزنوج إذا تعدوا على حدودهم أو آذوهم في شيء من أموالهم، فإنهم يختفون بين الأشجار الغضة التي لا تنفذ فيها الشمس في رابعة النهار، فيتربصون وأقواسهم موتورة في أيديهم يراقبون أعداءهم، ولا يهابون أحدًا حتى الأفيال الهائجة فإنهم يهاجمونها ويصطادونها، وهم رحَّل لا يقيمون في بيت ولا مضرب، يقتاتون بما يصطادونه من الحيوان وبالأثمار البرية، وأدوات الطبخ عندهم قدور من التراب يعالجون فيها فريستهم بلا سلخ ويأكلون الجلد قبل اللحم، ويقرضون أطراف العظام بأسنانهم، وهم عراة لا يلبسون ثوبًا من نسيج أو جلد إلا الذين يخالطون القبائل المجاورة، فإن نساءهم يأتزرن بورق الشجر ويتزينَّ بأزهار يغرسنها في ثقوب لهن بالشفة العليا.

وهم مجردون من كل شعور ديني، فلا يؤمنون بإله، ولا يعتقدون بشيء من الأرواح، فإذا بلغ أحدهم إلى التاسعة من العمر تزوج امرأة أو عدة نساء، ويندر أن يعيش أحدهم أكثر من أربعين سنة، و«ثمن» المرأة عندهم يختلف من عشرة نبال إلى ١٥ نبلًا، ولا تنتقل العروس إلى بيت زوجها إلا بعد أن تخلف لأبيها شيئًا من الأسلحة، وهي رياشهم وآنيتهم، وإذا ولد لأحدهم بنت تذمر، وعدَّ ولادتها مصيبة.

ويرى الكولونيل هريسون أن هذه الأمة آخذة في الانقراض لما تقاسيه من عوارض الإقليم، فإن الشتاء عندهم ثمانية أشهر يهطل المطر في أثنائها مدرارًا حتى تفيض الأرض ويصير ترابها وحلًا؛ ولذلك فإن علل الحلق متفشية فيهم لا ينجو منها أحد؛ لأن الطبيعة قد أذنت بانقراضهم، ولكل أمة أجل.

ومن غريب أمر هذه الأمة أنها لا تتكلم لغة خاصة بها مثل سائر قبائل الزنوج في أفريقيا، وإنما يقتبسون ألفاظهم من لغات الأمم المجاورة، فيؤلفون منها لغة شبهها الكولونيل هريسون باللغة الهندستانية من حيث تألفها من عدة لغات أو لعلها أقرب شبهًا باللغة المالطية، وإليك أمثلة من لفظها: فالماء عندهم يسمى «مائي» وهو لفظ عربي الأصل، والقوس اسمها «تزيا»، والجرس «ليكليكلي» وهو حكاية صوت دقه، واسم القرن «ماليدي»، والرقص «اوهبلي»، والتدخين «ماربابا»، وقس عليه …

فالأمة التي ذكرها هوميروس هيرودوتس، وأنكرها سترابون، واختلف آخرون في وصفها منذ مئات من السنين، قد اكتشفها أهل هذا القرن، ونقلوا نموذجًا منها إلى أعظم مدائن العالم، ولله في خلقه شئون.

(٤-١) الأقزام

ما زال الناس يلدون القصار والطوال من قديم الزمان، وقد ذكر المؤرخون طوائف من الأقزام أشهرها البغمة في أواسط أفريقيا، ذكر هيرودوتس وبليني وغيرهما أنها تقيم في صحراء ليبيا، وقد عثر بعض الذين اخترقوا أواسط أفريقيا على جماعة من القصار تشبه أن تكون بقية تلك القبيلة.

وكان الرومانيون في إبان تمدنهم وشيوع الترف والبذخ بين أظهرهم يجدون في اقتناء الأقزام للتلاهي بمنظرهم والضحك من حركاتهم في جملة أسباب لهوهم، وكانوا إذا أعوزهم الأقزام «اصطنعوا» أقزامًا بوسائل من القسوة والخشونة يتحداها النخاسون أو تجار الرقيق غير خليقة ببني الإنسان، فيربونهم على الغذاء القليل، ويعالجونهم بالإدهان والعقاقير التي يزعمون أنها تقصِّر القامة، أهمها دهن الخلد أو الخفاش؛ يدهنون به العمود الفقري حال الولادة، فيشبون قصارًا ضئالًا، يبيعونهم لأهل اليسار واللهو ويسمونهم في اصطلاحهم «نانوس».

وكان الملوك في الأجيال الوسطى يهتمون باقتناء الأقزام للهو، وبعضهم كان يقتني القردة لهذه الغاية، وظلوا على نحو ذلك إلى عهد غير بعيد. ومن غريب ما يحكى أن بعض إمبراطرة النمسا في أواسط القرن السابع عشر جمع أقزام مملكته وجبابرتها إجابة لاقتراح الإمبراطورة، وقد أرادت أن تقابل بين القصار والطوال، وترى نتيجة الجدال بينهما، فاجتمعوا في فينا وطمأنوا القصار أن لا بأس عليهم من بطش الطوال، ونبهوا على هؤلاء أن لا يمدوا أيديهم، بل يقتصروا على الكلام، فدار الجدال على سبيل المداعبة، فكان الفوز للقصار، وأكثرهم تعودوا المماجنة والمعاكسة بمعاشرة الأغنياء وأهل البلاط ونحوهم، فأخذوا يسخرون من الطوال ويغالبونهم بالتهكم والتنكيت حتى استجاروا وطلبوا النجاة، واهتمت إمبراطورة أخرى بتربية جيل من الأقزام بالتزاوج فيما بينهم، لكنها لم تفلح.

واشتهر جماعة من الأقزام من أقدم أزمنة التاريخ أقدمهم فيلتاس كوس اليوناني، نبغ سنة ٣٣٠ قبل الميلاد في علم النحو والشعر، وكان لقصره إذا جلس أثقلوه بالأحمال لئلا تحمله العاصفة، وكان أستاذًا لبطليموس فيلادلفوس الشهير، ومنهم كروباس قزم جوليا بنت أخت أغسطس كان طوله قدمين وقبضة، وقزم آخر لها اسمه اندروميدا في مثل طوله.

واشتهر عند المسلمين من القصار عبد الله بن مسعود، وكان شديد القصر، يكاد الجلوس يوارونه من قصره، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف كان قصيرًا دحداحًا تزوج سكينة بنت الحسين بن علي فلم ترضَه فخلعت منه، والحطيئة كان مفرط القصر؛ ولذلك لُقب بالحطيئة، وذو الرمة وكُثير كانا قصيرين جدًّا، وكان الوزير محمد بن القاسم قصيرًا حتى احتيج أن يقصر من ارتفاع سرير الخلافة أربع أصابع مفتوحة، وكان العباس بن الحسن الوزير قصيرًا جدًّا، وفيه قيل:

لا تنظرن إلى العباس عن قصرٍ
وانظر إلى الفضل والمجد الذي سادا
إن النجوم نجوم الليل أصغرها
في العين أبعدها في الجو إصعادا

ومن أقزام الأجيال الأخيرة جون دستريكس من أهل القرن السادس عشر، بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وطالت لحيته، ولم يزد طوله على ثلاثة أقدام، وكان علمًا باللغات، وجوفري هدسن، قزم إنكليزي، كان طوله وهو غلام ١٨ قيراطًا، فقدمته دوكة بوكنهام سنة ١٦٢٦ على مائدة الملك في رقاق على طبق كأنه لون من ألوان الحلوى، وانتشب بعد ذلك خصام بينه وبين المستر كروفت وطلبه للمبارزة، فأتاه مسلحًا بحقنة (طلمبا) فغضب هدسن لاستخفافه به واغتنم فرصة أخرى أطلق فيها الرصاص على خصمه فقتله سنة ١٦٥٣.

ومنهم نقولا فري قزم ستانسلاس، ملك بولندا، توفي سنة ١٧٦٤ وسنه ٣٣ سنة، وطوله ثلاثة أقدام. وأغرب منه القزم ريتشبورغ المتوفى سنة ١٨٥٨ في باريس، وكان طوله ٢٣ قيراطًا، وكان في طفوليته خادمًا في بيت أورليان، ولما قام الفرنساويون للثورة انضم إلى الثائرين وخدمهم خدمًا لا يستطيعها سواه؛ لأنه كان يدخل باريس ويخرج منها متى شاء، تحمله امرأة كما تحمل المراضع الأطفال، ولا يشتبه أحد به، فينقل الأخبار والأسرار التي يخافون نقلها على أيدي الرجال. ومنهم شارلس ستراتوم الأميركاني عُرض في إنكلترا سنة ١٨٤٦، وكان طوله وهو في الخامسة والعشرين من عمره ٣١ قيراطًا، وتزوج امرأة طولها ٣٢ قيراطًا ووُلد لهما ولد، وتوفيا سنة ١٨٨٣. ومنهم شيما القزم الصيني، بلغ طوله وهو في الثانية والأربعين من عمره ٢٥ قيراطًا، ولويزا زارتي من أهل المكسيك طولها ٢١ قيراطًا، وجاء مصر منذ عشرين سنة رجل وامرأة وعُرضا للفرجة بالقاهرة لا يزيد طول أحدهما على ٧٥ سنتيمترًا.

ومن أقصر الأقزام الأحياء اليوم رجل اسمه ريبكون جنسيتا هو من أهل جزائر المحيط، طافوا به أشهر عواصم العالم، وهو الآن في السادسة والأربعين من عمره، وطوله سبعون سنتيمترًا، وهو صحيح البدن والعقل لم يصَب بمرض في حياته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤