مقدمة

يُعَد هذا البحث — من إحدى زواياه — امتدادًا للدراسة التي قام بها الباحث في مرحلة سابقة عن «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة».١ وقد انتهى الباحث في دراسته السابقة إلى أن المجاز تحوَّل في يد المتكلِّمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحث إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني — هي منطقة التصوف — لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني، واستكناه طبيعتها، ومناقشة المعضلات التي تُثيرها؛ وذلك استكمالًا للجانبين الرئيسيَّين في التراث: الجانب العقلي كما يمثله المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة.

وخلال الفترة الطويلة التي استغرقها هذا البحث تعدَّل كثير من الأفكار والمفاهيم التي انطلق منها الباحث؛ خاصةً المفهوم الرئيسي الذي تقوم عليه الدراسة؛ وهو مفهوم التأويل. لقد بدأ الباحث دراسته الأولى من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الديني والفلسفي المعاصر، والذي يرى التأويل جهدًا عقليًّا ذاتيًّا لإخضاع النص الديني لتصورات المفسِّر ومفاهيمه وأفكاره. وهي نظرة تُغْفِل دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسِّر. إن العلاقة بين المفسِّر والنص ليست علاقة إخضاع من جانب المفسِّر وخضوع من جانب النص، والأحرى القول إنها علاقة جدلية قائمة على التفاعل المتبادل. وهذا التصور لمفهوم التأويل سنناقشه بالتفصيل ونناقش مغزاه في التمهيد الذي يلي هذه المقدمة.

انطلاقًا من هذا التصور، لم نجد مفرًّا — في دراسة التأويل عند ابن عربي — من مواجهة فلسفة ابن عربي كلها في جوانبها الوجودية والمعرفية، إلى جانب مفاهيمه الخاصة بماهية النص الديني ودوره الوجودي والمعرفي، ومفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة باعتبارها الوسيطَ الذي يتجلى من خلاله النص. الوجود في نظر ابن عربي خيال يماثل الصور التي تتراءى للنائم في أحلامه. والمراتب المختلفة والمتعددة للوجود من أولها إلى آخرها، وهو الوجود الإنساني، تخضع جميعها لهذا التصور. من هذا المنطلَق يفرِّق ابن عربي بين ظاهر الوجود وباطنه، ويرى ضرورة النَّفاذ من الظاهر الحسي المتعين إلى الباطن الروحي العميق، في رحلة تأويلية لا يقوم بها إلا الإنسان؛ لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهة في نفس الوقت.

يتماثل مع هذا التصور الوجودي تصورُ ابن عربي للنص الديني، فهو الوجود المتجلي من خلال اللغة، وهو — بالمثل — يتكوَّن من ظاهر وباطن وحد ومطلع، وهي مراتبُ ومستويات تتماثل مع مراتب الوجود ومستوياته. ولا ينفصل تأويل الوجود عن تأويل النص والنفاذ إلى مستوياته المتعددة التي لا يفهمها إلا الإنسان الكامل الذي تحقق بباطن الوجود وتجاوز ظاهره.

لهذا كله كان على الباحث أن يحاول الكشف عن فلسفة التأويل عند ابن عربي في جوانبها المتعددة؛ الوجودية والمعرفية؛ إذ لا يمكن فهم تأويل النص إلا من خلالهما. وعلى هذا انقسمت الدراسة إلى أبواب ثلاثة وتمهيد. تعرَّضنا في التمهيد لمغزى دراسة قضية التأويل بصفة عامة، ومدى ما يمكن أن تفيده من تصحيح لكثير من المفاهيم والتصورات المستقرة في أذهاننا عن التراث، وتعرَّضنا كذلك لأهمية ابن عربي بصفة خاصة، كما ناقشنا الدراسات السابقة عن ابن عربي من خلال رؤيتنا لمفهوم التأويل.

وقد خصصنا الباب الأول للتأويل والوجود، وحاولنا فيه تحليل مراتب الوجود المختلفة من عالم الخيال المطلق إلى عالم الحس والشهادة، مرورًا بعالمَي الأمر والخلق. وعلى هذا انقسم هذا الباب إلى فصول أربعة؛ الفصل الأول عن الخيال المطلق الذي ينتظم وسائط الألوهة وحقيقة الحقائق والعماء والحقيقة المحمدية. أما الفصل الثاني فيهتم بدراسة عالم الأمر؛ وهو العالم الوسيط الذي ينتظم العقل الأول والنفس الكلية والطبيعة والهباء. ويهتم الفصل الثالث بالمستوى الثالث من مراتب الوجود؛ وهو مستوى عالم الخلق الذي ينتظم العرش والكرسي والفلك الأطلس وفلك البروج. أما الفصل الرابع والأخير فيدرس مستويات عالم الملك والشهادة، وهو العالم الذي ينتظم الأفلاك السبعة المتحركة وعالم العناصر الطبيعية؛ عالم الكون والاستحالة.

ولم تكن الدراسة في هذا الباب كله مجرد دراسة وصفية، بل حاول الباحث تحليل هذه المستويات والمراتب في علاقتها المتفاعلة طبيعيًّا وروحيًّا؛ أي: من جانبَيها الظاهر والباطن. وقد كشف هذا التحليل، إلى حد نرجو أن يكون واضحًا، مدى خضوع تصورات ابن عربي في كثير من مفاهيمه واصطلاحاته لمعطيات النص القرآني؛ الأمر الذي نرجو أن يكون مؤكِّدًا لتصورنا لعلاقة التفاعل بين المفسِّر والنص.

وقد كان من الضروري أن يخصَّص الباب الثاني للتأويل والإنسان؛ وذلك من خلال تحليل مستويات ثلاثة، في تصور ابن عربي، لعلاقة الإنسان بالوجود. المستوى الأول هو علاقة الإنسان بالعالم، وهو موضوع الفصل الأول من هذا الباب. في هذا الفصل حاولنا تحليل جوانب التشابه وكذلك جوانب الاختلاف بين الإنسان والعالم؛ من حيث ظاهره الذي يتماثل مع حقائق الكون ويضمها في كيانه الصغير. وتوجَّه الفصل الثاني على دراسة الجانب الباطن في الإنسان ومماثلته لحقائق الألوهة؛ من حيث إنه خُلِقَ على الصورة الإلهية، وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كل الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد العالم. ومن خلال هذا التحليل لجانبَي الإنسان الظاهر والباطن، أو الكوني والإلهي، تعرَّض الفصل الثالث لمعضلة المعرفة الإنسانية، وتأكيد ابن عربي على أن المعرفة لا تتم إلا بتجاوز ظاهر الإنسان — وهو ظاهر الكون — وصولًا إلى باطنه الروحي الإلهي من خلال رحلة خيالية. وحين يتم للإنسان تجاوز ظاهره إلى باطنه يستطيع أن يؤول الوجود، كما يستطيع بنفس القدر فَهم حقيقة الوحي الإلهي ومستوياته المتعددة. ولذلك خُصص الفصل الرابع والأخير من هذا الباب لتحليل العلاقة بين الحقيقة والشريعة من خلال هذه الرحلة التأويلية التي تنتظم الوجود والنص معًا.

وكان الباب الثالث والأخير مكوَّنًا من فصول ثلاثة؛ يهتم الفصل الأول بتحليل العلاقة بين القرآن والوجود، وتماثُل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة التي حلَّلْناها في الباب الأول، وتماثلها مع مراتب العارفين التي حلَّلْناها في الباب الثاني. وهذا التماثل بين القرآن والوجود يقوم عند ابن عربي على أساس أن الوجود هو كلمات الله المرقومة، والقرآن هو كلماته الملفوظة، والعارف المتحقق هو القادر على فهم كلمات الله في مستويَيْها الوجودي واللفظي. وقد قادنا هذا التصور إلى أن نخصص الفصل الثاني من هذا الباب للُّغة والوجود، وحاولنا تحليل مفهوم ابن عربي للغة في جانبيها الإلهي والإنساني؛ بدءًا من المستوى الصوتي للغة وانتهاءً إلى مستوى التركيب. وركزنا في تحليل الجانب الدلالي على تأكيد ابن عربي على ذاتية العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة في جانبها الإلهي، وهي العلاقة التي لا يكتشفها إلا الصوفي. ومن خلال اكتشافها يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل.

وقد كان الفصل الثالث والأخير عن قضايا التأويل، وقد حللنا في هذا الفصل التنزيه والتشبيه، والمحكم والمتشابه، والجبر والاختيار، والثواب والعقاب. وهي مجرد نماذج لا يمكن الادعاء أنها تستوفي كل الجوانب التطبيقية لتأويل القرآن في فكر ابن عربي، ولا نظن أن أي دراسة يمكن أن تفي وحدها بكل هذه الجوانب. وقد اعتمدنا في هذا الاختيار على محورية هذه القضايا في الفكر الديني من جهة، وعلى أنها قضايا لم تبرز من خلال أبواب البحث وفصوله السابقة من جهة أخرى.

وكل ما يرجوه الباحث — في النهاية — أن يكون البحث قد أبرز فلسفة التأويل عند ابن عربي، دون أن تكون التفاصيل الكثيرة والقضايا المتشعبة قد ضلَّلت هدفه الرئيسي، وحجبته عن عين القارئ. كما يرجو — من جانب آخر — أن يكون وعيه بمعضلة التأويل وعلاقة التفاعل بين المفسِّر والنص، قد عصَمه من الأهواء الأيديولوجية في تفسير ابن عربي عامة، وفلسفة التأويل خاصة. ويجب على الباحث هنا أن يعترف أن هذا الوعي كان يمثل في كثير من الأحيان عقبةً جعلته يحرص دائمًا على أن يعطي لنصوص ابن عربي مركز الصدارة ويكثر من إيرادها. وكان من نتيجة هذا الحرص تَضَخُّم حجم البحث على غير مراد الباحث، لكن هذه النصوص تستحق — من جانب آخر — الكشفَ عنها وإبرازها؛ فأكثرها لم تكشف عنه الدراسات السابقة بوضوح كافٍ.

١  صدر عن دار التنوير بعنوان «الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، بيروت، ١٩٨٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤