تمهيد

يُعَد هذا البحث، وما سبقه من دراسات قام بها الباحث، جزءًا من خطة أكبر يأمُل الباحث أن يستطيع، مع غيره من الباحثين، إنجازها فيما يستقبِل من أبحاث. قد تبدو هذه الخطة عالية الطموح بالنسبة لباحث ما زال على أول الطريق، ولكن أي إنجاز إنما يبدأ بالحلم. والحلم الذي يسعى الباحث لتحقيقه هو إعادة النظر في تراثنا الديني بكل جوانبه من خلال منظور علاقة المفسِّر بالنص، وما تثيره هذه العلاقة من معضلات على المستوى الوجودي والمعرفي على السواء. والآفاق التي يمكن أن يفتحها لنا هذا المنظور ثرية ومتنوعة، ويمكن أن تضيء لنا كثيرًا من الجوانب التي ما تزال مجهولة في التراث. بل لا أكون مبالغًا إذا قلت إنها يمكن أن تُصحِّح لنا كثيرًا من الأفكار الشائعة والمستقرة في تراثنا الديني على وجه الخصوص.

من هذه الأفكار الشائعة المستقرة التي يمكن أن نعيد طرحها فكرةُ التفرقة بين التفسير والتأويل، وهي تفرقة تُعْلي من شأن التفسير، وتغُضُّ من قيمة التأويل على أساس من موضوعية الأول وذاتية الثاني. الموضوعية في الحالة الأولى موضوعية تاريخية تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصرَ نزوله. ومثل هذا التصور يقع في تناقض منطقي من الوجهة الدينية الاعتقادية التي ينطلق منها أصحابه؛ إذ النص عندهم صالح لكل زمانٍ ومكان؛ لأنه يحتوي كل الحقائق، ويُعَد جماعًا للمعرفة التامة. ومثل هذا الاعتقاد يتناقض تمامًا مع القول بضرورة اعتماد المفسِّر على المأثورات المروية عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف عند فهمهم وتفسيرهم للنص.

ولكي يحلَّ أصحاب هذا التصور مثل هذا التعارض المنطقي، ذهبوا إلى أن المعرفة الدينية لا تتطور، وأن جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة فيما يتصل بالوحي ومعناه، وأن التمسك بمعرفتهم هو العاصم من الزَّلل والانحراف. وهكذا انتهى الأمر بهم إلى عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية من جهة أخرى.١

وواقع الأمر أن الاعتماد على تفسير السلف من الصحابة والتابعين لا يخلو عند أصحاب هذا التصور من موقف اختياري يعتمد على الترجيح بين الآراء. هذا الاختيار القائم على الترجيح يعكس بدوره موقفًا تأويليًّا نابعًا من موقف المفسِّر وهموم عصره وإطاره الفكري والثقافي، وكلها أمور لا يمكن لأي مفسِّر أن يتجنبها مهما ادَّعى الموضوعية والانعزال عن الواقع والحياة مرةً أخرى في الماضي. هذا إلى جانب أن استبدال لفظة بلفظة للشرح والتوضيح، أو التعبير عن المعنى بعبارات أخرى، يتضمن بالضرورة فهمًا خاصًّا يرتبط بتطور دلالة اللغة من عصر إلى عصر، كما يرتبط بالإطار المعرفي الذي تعكسه اللغة في تطورها التاريخي. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الألفاظ التي يُظنُّ أنها مترادفة تعكس فروقًا دقيقة في دلالتها، أدركنا أن أي شرح لا بد أن يتضمن نوعًا من التأويل.

ولا يبالغ الباحث إذا ذهب إلى أن تفسير الصحابة أنفسهم — خاصةً ابن عباس الذي نُظِر إليه على أنه ترجمان القرآن — لا يتجاوز إطار التأويل، فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يرُدُّ فيها على تأويلاتهم، بل يؤول بعض آيات القرآن التي تهاجم المؤوِّلة على أساس أن المقصود بها الخوارج.٢ ومما يؤكد ما نذهب إليه أن هذه التفرقة بين التفسير والتأويل تفرقة اصطلاحية متأخرة؛ فالطبري — مثلًا — يسمي تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، وابن عباس يرى أنه يعلم تأويل القرآن، وتؤكد الروايات أن الرسول دعا لابن عباس فقال: «اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل.»٣
ولعلَّ في ذلك كله ما يسمح لنا أن نتجاوز التفرقة الاصطلاحية المتأخرة بين التفسير والتأويل، ونعود إلى الأصل؛ وهو التوحيد بينهما على أساس من الإيمان بأن المفسِّر — في علاقته بالنص — لا يستطيع تجاهل البُعد التاريخي الذي يفصله عن زمن النص، ولا يستطيع من ثَم أن يحلَّ نفسه في الماضي وصولًا إلى موضوعية مطلقة في فهم النص. وليس معنى ذلك أن ذاتية المفسِّر تُلغي الوجود الموضوعي للنص وتُخضِعه إخضاعًا كاملًا لينطق بما تشاء، فمثل هذا التصور يُعَد — من جانبنا — ترجيحًا للذاتية على الموضوعية، وإلغاءً للوجود التاريخي للنص لحساب المفسِّر، وهو ما تأباه رؤيتنا لعلاقة التفاعل الجدلية بين المفسِّر والنص.٤
وإذا تجاوزنا إطار التراث التفسيري المباشر إلى الفكر الإسلامي عامةً، والفلسفة خاصة، أمكن لدراسة قضية التأويل — من خلال المنظور الذي نطرحه — أن تصحح لنا كثيرًا من أوجه القصور في فهمنا للفلسفة الإسلامية. فقد نُظِر إلى هذه الفلسفة غالبًا — خاصةً عند المستشرقين — باعتبارها أثرًا من آثار الأفكار الأجنبية الواردة من كل بقاع الأرض. وصار دَرْس الفلسفة الإسلامية لا يعني سوى البحث عن أصول هذه الأفكار هنا وهناك، والمقارنةِ بينها وبين أصولها، وبيان مدى الخطأ والصواب الذي وقع فيه هذا الفيلسوف أو ذاك، في فهم أفكار أرسطو أو أفلاطون أو غيرهما من فلاسفة اليونان.٥

وإذا كان من الممكن تفسير نظرة المستشرقين للفلسفة الإسلامية من خلال منظور تأويلي معرفي؛ على أساس أنهم ينطلقون في فهمهم للتراث الإسلامي من إطار تراثهم المعروف إلى تراثنا المجهول بالنسبة لهم، فإن تفسير موقف الباحثين العرب والمسلمين يحتاج لمزيد من الكشف والإيضاح. والواقع أن كثيرًا من هؤلاء الباحثين قد خضعوا، بدرجات متفاوتة، للمنظور الذي انطلق منه المستشرقون، وإن اختلفت النتائج التي توصَّلوا إليها من خلال هذا المنظور طبقًا لاتجاهاتهم الفكرية الخاصة.

ذهب بعضهم إلى إنكار وجود ما يسمى بالفلسفة الإسلامية على أساس أن الرُّوح الإسلامية بطبيعتها ليست روحًا فلسفية؛ لأنها تنكر الذاتية التي هي أصل قيام المذاهب الفلسفية. وبناءً على هذا التصور فإن المسلمين لم يفهموا الفلسفة اليونانية، ولم يكونوا قادرين على إيجاد فلسفة حقيقية. وعلينا البحث عن هذه الروح الإسلامية في القرآن الذي صدرت عنه الفرق الإسلامية المختلفة، والتي يبخل عليها الباحث باسم الفلسفة.٦ ولا تحتاج مثل هذه النظرة إلى التعليق؛ لأنها تستدعي إلى أذهاننا مباشرةً الدعوى القديمةَ التي تَزعَّمها أرنست رينان عن خرافة السامية والآرية. كما أنها نظرة تعتمد على مقياس الفلسفة اليونانية التي لم يتصور هذا الباحث فلسفة إلا على غِرارها.
وتخفُّ حدة هذه النظرة نسبيًّا عند باحث آخر اتخذ العقل مقياسًا لتحديد ما هو فلسفي، وفصلِه عمَّا يُستبعد من مجال الفلسفة. وبناءً على ذلك استبعد علم الكلام والتصوف كله من مجال الفلسفة. استبعد علم الكلام لأن شُغْلَه الشاغل — فيما يرى الباحث — كان التوفيق بين العقل والنقل، وهذه القضية قضية تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، ولا يفيدنا إثارتها في العصر الحديث. أما التصوف فهو يعتمد على التجربة والذوق والحَدْس، ولا يعتمد على العقل الذي هو أصل التفكير الفلسفي.٧ والذي يهمنا من إيراد هذا الرأي هو تجاهله لمعضلة التوفيق بين العقل والنقل في الفلسفة العقلية، وقَصْرُها على علم الكلام من ناحية، ورغبته في استبعاد هذه القضية من مجال الدرس المعاصر على أساس تاريخيتها من ناحية أخرى.
والنظرة الثالثة هي التي ترى البحث عن الفلسفة الإسلامية الحقيقة بهذا الاسم في علوم الفكر التي نشأت نشأةً إسلامية خالصة دون تأثر بأفكار أجنبية. وسنجد الفلسفة الإسلامية الحقيقية في علم الكلام وعلم أصول الفقه خاصة؛ هذين العلمين اللذين وإن تأثرَا في مرحلة متأخرة بالعلوم الأجنبية، نشآ نشأةً إسلامية خالصة.٨ وتعتمد مثل هذه النظرية على رؤية تاريخية تفصل في التراث الإسلامي بين عصر النقاء وعصر الامتزاج والتأثر، هذا إلى جانب أنها تعزل حركة الفكر عن حركة الواقع الشاملة التي تنتظم ما هو اجتماعي سياسي وما هو ديني فكري في سياق واحد.
وقد حاولت كثير من الدراسات أن تجمع في تفسير نشأة الفكر الإسلامي بين الوحي والفكر الأجنبي، وواقع الظروف السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها هذا الفكر،٩ ولكن بعض هذه الدراسات نظرت للعلاقة بين الوحي والتراث الأجنبي من خلال منظور ديني انتهى بهم إلى إدانة تأويلات المتصوفة؛ على أساس أنها «ليس لها في القرآن نسب سوى التأويل المتعسِّف المفتعَل من جانب فلاسفة الصوفية. وهم في الواقع لم يستخرجوا بذور نظرياتهم مطلقًا من القرآن أو السُّنة، بل جاءوا بالنظريات وحاولوا التوفيق بينها وبين الآيات، وادعوا في الوقت ذاته أنهم متمسكون بروح الدين أو القرآن؛ في تناقض واضح.»١٠

ومثل هذه النظرة للعلاقة بين الفكر والنص الديني تتبنى — دون وعي — فهمًا خاصًّا للنص، تحكم من خلاله على معضلة التأويل عند الفلاسفة والمتصوفة. والمنظور الذي نقترحه هنا هو النظر إلى الفلسفة الإسلامية في جوانبها المتعددة، من خلال علاقة جدلية بين عناصر ثلاثة؛ هي العناصر المكوِّنة لمضمون هذه الفلسفة ومنهجها. العنصر الأول هو الواقع التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه الفلسفة وتطورت. والعنصر الثاني هو دور النص الديني بالمعنى الواسع الذي يشمل القرآن والأحاديث النبوية. ونعني بالنص هنا التراث التفسيري في حركته المتطورة، لا مجرد ما هو مكتوب بين دفَّتَي المصحف وفي مجموعات الأحاديث. أما العنصر الثالث فهو التراث الفلسفي السابق الذي انتقل إلى المسلمين، بكل ما تعنيه كلمة التراث من شمول وتنوع، دون الوقوف عند حدود الفلسفة اليونانية في عصورها المختلفة.

الأساس في هذه العناصر كلها هو العنصر الأول؛ وإن قامت العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة على التفاعل المستمر. ومما يؤكد هذه القضية أن القرآن قد نزل مستجيبًا لحاجات الواقع وحركته المتطورة، خلال فترة زادت على العشرين عامًا. ومع تغير حركة الواقع وتطوره — بعد انقطاع الوحي — تظل العلاقة بين الوحي والواقع علاقةً جدلية، يتغير فيها معنى النص ويتجدد بتغير معطيات الواقع، بنفس التمثل الفكري الناتج عن حركة الامتزاج الجنسي والثقافي، فتُفهَم الأفكار والفلسفات الطارئة في إطار هذه الحركة، أو لنقُلْ: تُؤوَّل هذه الأفكار والفلسفات تأويلًا خاصًّا.

من خلال هذا المنظور يتسع مفهوم التأويل في تراثنا الفكري ليتجاوز ثنائية العقل والنقل، كما يتجاوز ثنائية التفسير والتأويل كما سبقت الإشارة. ويمكن لهذا المنظور أن يصحح كثيرًا من الأفكار المستفزة عن تراثنا الفكري والفلسفي والديني، ويعيد استكشاف جوانب الأصالة التي غابت في دوامة البحث عن الأصول، والمقارنة بين الأصل والنقل والحكم بالخطأ أو الصواب. ويمكن لهذا المنظور أخيرًا أن يزيل التصدُّع القائم بين جوانب التراث في أذهاننا وفي مناهجنا؛ فلا نقيس الفكر الإسلامي على الفكر اليوناني أو غيره، ولا نقيس هذا الفكر من خلال منظور ديني مغلَق، يحكم عليه في النهاية بالخروج عن دائرة الإسلام، كما حكم عليه المقياس اليوناني بالخروج عن دائرة الفلسفة.

وتقودنا قضية التأويل — من جانب آخر — إلى دراسة مفاهيم القدماء عن اللغة بجوانبها المختلفة خاصة من الزاوية الفلسفية، والكشف عن الأسس الوجودية والمعرفية التي شكَّلت هذا المفهوم. وهذا الضرب من البحث قد ينير لنا كثيرًا من المعضلات في كتب البلاغيين واللغويين القدماء، كما أنه يمكن أن يفيد في بلورة كثير من المفاهيم النقدية والبلاغية في التراث. وفيما يرتبط بالتصوف خاصة؛ فدراسة قضية التأويل وما يرتبط بها من مفاهيم بلاغية ولغوية من شأنه أن يكشف عن مفهوم الرمز عند المتصوفة؛ سواء في كتاباتهم النثرية أو أشعارهم أو شروح هؤلاء لأشعارهم وأشعار غيرهم. وهذا من شأنه أن يفتح لنا في التراث آفاقًا ما تزال مجهولة إلى حد كبير.

ولا يقف مغزى دراسة قضية التأويل عند حدود التراث بكل ما يمثله هذا التراث من قيمة، بل يمتد هذا المغزى إلى الواقع الراهن الذي نعيش فيه جميعًا، فالنص الديني بكل ما يحمله من تراث تفسيري واقع متعيِّن في حياتنا اليومية، وفي ثقافتنا المعاصرة، يشكِّل حركة هذا الواقع، كما يتشكل — تفسيريًّا — وَفق مواقف متباينة ومتعارضة من هذا الواقع. ودراسة قضية التأويل يمكن أن تكشف لنا عن كثير من أصول المواقف التفسيرية التي تطالعنا بها المطابع كلَّ يوم في شكل كتب أو مجلات دينية، وتلك التي تطالعنا بها أجهزة الإعلام في برامجها الدينية المختلفة.

إن فهم الواقع بما فيه من تباين وتعارض هو الهدف والغاية من وراء العلم. وليست دراسة التراث — من هذا المنظور التأويلي — عكوفًا على الماضي واجترارًا لأمجاده؛ فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تواصل يمكن أن تكشف عنها الدراسة من خلال هذا المنظور الجدلي بين الماضي والحاضر. وإلى جانب ما يمكن أن تقدمه لنا دراسة قضية التأويل على المستوى الثقافي، فإنها يمكن أيضًا أن تكشف لنا عن أصول كثير من المعتقدات والممارسات الشعبية الدينية، وأنماط السلوك السائدة في أمتنا.

١

كان اختيار ابن عربي دون غيره من المتصوفة والفلاسفة لدراسة قضية التأويل عنده اختيارًا قائمًا على مجموعة من الأسباب؛ أولها أهمية ابن عربي نفسه ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي؛ هذا إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من استكمال معرفة جانبَي التراث بالنسبة للباحث. ثاني هذه الأسباب أن دراسة ابن عربي نفسِه تثير، بشكل واسع، معضلةَ التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحيانًا، والتي طرحت لفكر ابن عربي وقيمته. أما ثالث هذه الأسباب وآخرها فهو إحساس الباحث المبكر، والذي أكدته الدراسة، أن التأويل عند ابن عربي ليس مجرد وسيلة في مواجهة النص، بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم الوجود والنص معًا. وابن عربي من ثَم يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المشابِهة في فكر غيره؛ سواء السابقون عليه أو التالون له. وفي هذا ما يحقق بعض خطوات الطموح الذي أشرنا إليه في أول هذا التمهيد.

تتبدى أهمية ابن عربي في حقيقة أنه يمثل همزة الوصل بين التراث الصوفي والفلسفي السابق عليه كله، وبين كل المفكرين الذين جاءوا بعده، والذين لم يكد ينجح واحد منهم في تجاوز تأثير فلسفته بالسلب أو الإيجاب؛ بما في ذلك ابن تيمية ومدرسته، وهو أمر نأمُل أن نكشف عنه أو يكشف عنه غيرُنا في دراسات لاحقة. وتظهر أهمية ابن عربي بالنسبة للتراث السابق عليه في أنه بلور كثيرًا من المفاهيم والتصورات التي توجد عند سابقيه بشكل ضمني غامض. من هذه الزاوية تكشف لنا دراسة ابن عربي كثيرًا من جوانب الغموض في أفكار المتصوفة السابقين عليه؛ خاصةً أولئك الذين لم تصل كتبهم، أو وصلت لنا منهم مجرد أقوال متناثرة غامضة؛ كالحلَّاج والتستري والنفَّري وابن مَسَرَّة. إن قراءة ابن عربي لتراث هؤلاء المتصوفة وتمثُّلَه له — وإن تكن قراءة تأويلية تتمثل في عناصر فكرهم وتحيلها إلى مركَّب جديد — يمكن أن تبدِّد كثيرًا من الغموض الذي يحيط بأفكار هؤلاء المتصوفة. وقد اعتمد أسين بلاسيوس على ابن عربي للكشف عن فكر مدرسة ابن مَسَرَّة في كتابه عن هذا الأخير، وليكشف في نفس الوقت عن تأثر ابن عربي بهذه المدرسة.١١
أما عن أثر ابن عربي في المفكرين التالين له فهو أكثر وضوحًا وبروزًا، ولقد بدأ هذا التأثير يتشكَّل … خلال زيارة ابن عربي لقونية عام ٦٠٧ﻫ / ١٢١٠م؛ وذلك حينما اتخذ صدر الدين القونوي تلميذًا له. ومن خلال هذا الأخير وعلاقته ببعض المتصوفين العظام من الفرس، وصلت تعاليم ابن عربي إلى الشرق. ويكفي القول إن صدر الدين القونوي كان أستاذًا لقطب الدين الشيرازي الشارح المعروف لفلسفة السُّهْرَوَرْدي، وكان صديقًا حميمًا لجلال الدين الرومي مؤلف «المثنوي»؛ النصِّ العظيم الذي يلخص الحكمة الصوفية. وقد ألهمت تعاليم ابن عربي — في قرن لاحق — كاتبًا صوفيًّا عظيمًا آخر؛ هو عبد الكريم الجيلي مؤلَّفَه «الإنسان الكامل». ولم يكن تأثير ابن عربي قاصرًا على الجانب النظري للتصوف فحسب، بل امتد بعمق إلى صياغة الحياة الصوفية كلها؛ فمن خلال الرومي في الشرق وأبي الحسن الشاذلي في الغرب تشكَّلت — بتعاليم ابن عربي — طريقتان من أكبر الطرق الصوفية. ومن أظهر الأدلة على أثر ابن عربي ذلك العددُ الهائل من التعليقات والشروح التي أُلِّفت على كتبه.١٢
ولا يقف مدى تأثير ابن عربي وحدود انتشار أفكاره عند الثقافة الإسلامية في الشرق والغرب، بل يتجاوز ذلك إلى الفلسفة المسيحية الغربية؛ كما أشار إلى ذلك أسين بلاسيوس في أبحاث كثيرة متنوعة، مثل تأثيره في ريمون لول وتأثيره في دانتي أليجري مؤلف الكوميديا الإلهية؛ حيث أثَّر في الأول بمفهومه عن الأسماء الإلهية وحضراتها، وأثَّر في الثاني بمفهومه عن الجنة والنار ومراتبهما المختلفة.١٣ والحق أن دراسة قراءة ابن عربي للتراث السابق عليه تستحق وحدها دراسة خاصة؛ لأنها لم تَنَلْ نفس القدر من الاهتمام الذي نالته دراسة تأثير ابن عربي في التراث الصوفي والفلسفي التالي له.١٤ هذا عن أهمية ابن عربي باعتبار موقعه في التراث الإسلامي والتراث العالمي، فماذا عن أهميته بالنسبة لما تثيره الدراسات التي كتبت عنه من قضايا ترتبط بقضية التأويل؟

٢

لم يختلف الباحثون — قديمًا وحديثًا — حول شيء قدْرَ اختلافهم حول ابن عربي. اختلف القدماء حوله وتأرجحوا بين طرفَي النقيض؛ فبعضهم اعتبره قِديسًا عارفًا وليًّا، يتناسب دوره مع اسمه، فهو محيي الدين حقًّا. والبعض الآخر اعتبره كافرًا ملحدًا زنديقًا «مميتًا للدين».١٥ وقد تحيَّر فيه ابن تيمية؛ فتارةً ينسُبه إلى وَحدة الوجود ويضعه إلى جانب ابن سبعين، وأحيانًا أخرى يعترف بأن ابن عربي يفصل بين الحق والخلق والله والعالم.
أمَّا الدارسون المحدَثون — سواء كانوا من المستشرقين أو من الباحثين العرب والمسلمين — فلم يكادوا يتجاوزون هذا الإطار دون تلك النبرة الحادة التي تُسارع إلى التكفير أو التقديس. وقد كان من الطبيعي أن يفهم المستشرقون ابن عربي في إطار وحدة الوجود؛ تسليمًا بما قاله عنه كلٌّ من محبيه وأعدائه على السواء. ولكنهم فهموا وحدة الوجود عند ابن عربي في إطار وحدة الوجود في الفلسفة الغربية، ومن خلال المصطلح Pantheism؛ وذلك على أساس من انطلاقهم — الذي أشرنا إليه — من المعروف إلى المجهول، في حركة معرفية تأويلية. هذا التصور لوحدة الوجود عند ابن عربي يتبنَّاه كل من نيكلسون وأسين بلاثيوس،١٦ وحين لم تستجب نصوص ابن عربي كلُّها لمثل هذا التصور لم يجد أسين بلاسيوس تفسيرًا لذلك سوى أنها تحفظات «يمليها الحذر والحيطة؛ من أجل تخفيف هذه القسمات الحادة لهذه النظرية.»
والواقع أن وحدة الوجود عند ابن عربي يجب أن تُفهَم فهمًا خاصًّا يتباعد بها عن أي تصور مسبق لوحدة الوجود في الفلسفة الغربية الحديثة أو المعاصرة أو الوسيطة أو القديمة؛ وذلك لأن ابن عربي ينطلق من ثنائية حادة واضحة يقيمها بين الذات الإلهية والعالم من جهة، وبينها وبين الإنسان من جهة أخرى. ورغم تنبُّه هنري كوربان لهذه التفرقة، فإنه لم يتوقف عن استخدام المصطلحات الغربية لفهم ابن عربي، مع أنه ينبِّه إلى خطورة مثل هذا المسلك. والحق أن دراسة هنري كوربان هي في تقدير الباحث أقرب الدراسات التي قدَّمها المستشرقون إلمامًا بالجوانب المختلفة لفكر ابن عربي؛ فهي تجمع بين وحدة الوجود عند ابن عربي وبين الثنائية الواضحة في فكره كذلك؛ وذلك من خلال انطلاقها الأساسي لدراسة الخيال الخلَّاق، كما سنتعرض لها بعد ذلك. وفي مقابل وحدة الوجود يؤمن آربري أن فكر ابن عربي فكر توحيدي Monistic لا فكرُ وَحدة وجود.١٧
وقد انعكس هذا الخلاف بين المستشرقين حول ابن عربي في وجهات نظر الباحثين العرب. ويُعَد أبو العلا عفيفي رائد الباحثين في ابن عربي، لا في رسالته للدكتوراه التي أعدَّها تحت إشراف نيكلسون فحسب، بل في أبحاثه العديدة التي توجهت في معظمها على جوانب من فكر ابن عربي. وقد ذهب أبو العلا عفيفي إلى أن ابن عربي من فلاسفة وحدة الوجود؛ رغم تنبهه للتفرقة الأساسية في فكر ابن عربي بين الذات الإلهية والعالم. وقد فهم أبو العلا عفيفي وحدة الوجود عند ابن عربي في ضوء المفهوم الغربي Pantheism؛ متابِعًا في ذلك أستاذه نيكلسون. وحين لم يستجب فكر ابن عربي لمثل هذا التصور عن وحدة الوجود، اتُّهم بالتناقض وقصورِ أدواته الفلسفية والمشاعرية. واتُّهم في أحسن الأحوال بالغموض والقصد إلى المداراة؛ رغبةً في أن يضفي على فكره طابَعًا سُنِّيًّا إسلاميًّا.١٨
وقد تابع أبا العلا عفيفي في رؤيته لابن عربي كثيرٌ من الباحثين؛ على رأسهم إبراهيم بيومي مدكور ومحمود قاسم؛ اللذان قارنا في دراستيهما بين ابن عربي واسبينوزا وابن عربي وليبنتز.١٩ واكتفى كل من عبد القادر محمود وتوفيق الطويل بالتسليم بوحدة الوجود دون أي محاولة لبلورة مفهومهما لوحدة الوجود عند ابن عربي.٢٠
وفي مقابل هذا الفريق الذي تابع أبا العلا عفيفي ونيكلسون، نجد فريقًا آخر لا يرى في فكر ابن عربي أيَّ أثرٍ لوحدة الوجود، بل يرى فكره قائمًا على الثنائية بين الله والعالم واللهِ والإنسان. وقد انطلق هذا الفريق الأخير من موقف دفاعي حسن النية، يستهدف تبرئة ابن عربي من تهمة وحدة الوجود، وإدخالَه في حظيرة الإسلام التي حاول بعض الدارسين المحدَثين إخراجه منها. ولا نريد الآن مناقشة مغزى هذا الموقف الدفاعي بالنسبة لمعضلة التأويل، وكل ما نريد التأكيدَ عليه في هذا العرض العاجل؛ هو أننا لا نَعدَم في الدراسات الحديثة عن ابن عربي أصداءً واضحة للنبرة القديمة المتعصبة لابن عربي أو ضده، وللتصوف عامةً أو ضده؛ فقد ذهب عباس العزاوي مثلًا إلى حدِّ اتهام ابن عربي بالقصد إلى التخريب العقائدي في أقطار الدولة الإسلامية؛ عن طريق نشر أفكاره الباطنية في الحلول ووحدة الوجود.٢١ وذهب باحث آخر إلى إخراج التصوف عامةً وابن عربي بصفة خاصة من حظيرة الإسلام؛ وذلك بناءً على موقف سُني متعصب؛ لانتماء هذا الباحث إلى جماعة أنصار السُّنة المحمدية.٢٢
في مقابلة هذه النبرة الهجومية الحادة، نجد نبرة دفاعية تبريئية عند محمد غلاب، الذي ذهب — مستشهدًا بالشعراني — إلى أن النصوص التي تدل على وحدة الوجود عند ابن عربي قد دُسَّت عليه من الحاقدين والمتعصبين المعاصرين لابن عربي أو التالين له، مدفوعين لذلك بضيق الأفق أو الاتجاهات السياسية المغرضة.٢٣ ويحاول جمال المرزوقي أن يقف من ابن عربي موقفًا معتدلًا كما يقول، فيأخذ من أقواله ما يتمشى مع الشَّرع على ما هو عليه، ويؤوِّل ما يمكن تأويلُه من أقوال ابن عربي تأويلًا حسنًا إنْ كان إلى ذلك سبيل، «وإلا فإنكاره أَولى إن كان مخالفًا للشرع مخالفةً صريحة لا تقبل شكًّا ولا جدالًا.»٢٤
وبين وحدة الوجود والثنائية يتردد أبو الوفا الغنيمي التفتازاني؛ فهو في مكان يسلِّم بوحدة الوجود عند ابن عربي، وفي مكان آخر يفرِّق بين الوحدة المطلقة التي ذهب إليها ابن سبعين والتي تنفي أيَّ اثنينية، وبين وحدة الوجود عند ابن عربي والتي تفسح في مذهبه «مكانًا للقول بوجود الممكنات.»٢٥
ولعل في كل ما عرضناه من خلاف الباحثين حول حقيقة ابن عربي وحقيقة فلسفته ما يؤكد قضيتنا الرئيسية، ونظرتَنا إلى معضلة التأويل، وتصورنا لخطرها، لا في الفكر الديني القديم فحسب، بل في ثقافتنا المعاصرة بشكل خاص، وفي معضلة المعرفة بوجه عام. فقد هاجم ابنَ عربي المهاجمون على أساس موقف ديني خاص لا يخلو، كما سبقت الإشارة، من موقف تأويلي يفهم الدين فهمًا خاصًّا. من خلال هذا الموقف اعتُبر ابن عربي خارجًا عن إطار الدين، ودخيلًا على الإسلام، ومخرِّبًا لعقائده. وهذه نظرة لا يكاد باحث يتجاوزها، وإن لم تتسم دائمًا بمثل هذا التعصب. نجد ذلك مثلًا عند أبي العلا عفيفي الذي يشير في مواطن كثيرة إلى فشل ابن عربي في التوفيق بين مذهبه والإسلام، كما سنشير من بعد.٢٦

وأما المدافعون عن ابن عربي فلا يتجاوزون إطار هذه النظرية أيضًا؛ من حيث رغبتهم في إضفاء طابَع سُني على فكره بإنكار وحدة الوجود وتأكيد الثنائية. وهكذا يتوحد موقف الباحثين، ويتغير نظرتهم لابن عربي، وتظل المشكلة معلَّقة؛ لأن السؤال الأساسي نفسه خاطئ؛ سواء أُعلن السؤال أو ظلَّ مستترًا في عقل الباحث. والسؤال الذي نصِفه بالخطأ هنا هو السؤال عن حقيقة معتقد ابن عربي، ومدى توافقه أو تعارضه مع الإسلام. والإسلام الذي ينطلق منه الباحث — أي باحث — لمحاكمة ابن عربي أو تبرئته أو لمجرد تقييمه وتقييم فكره؛ يتضمن بالضرورة موقفًا تأويليًّا حتى مع استناده في هذا الموقف للتراث؛ فالاستناد إلى التراث — كما أشرنا — يعتمد على الاختيار والترجيح بناءً على موقف تأويلي.

ونجد تجلِّيًا آخر لهذا الخلاف حول فكر ابن عربي في خلاف الدارسين حول تأويل ابن عربي للنص القرآني، وهو خلاف يتراوح بين الحماسة التي نجدها عند محمود قاسم٢٧ والإنكارِ الذي نجده عند محمد حسين الذهبي.٢٨ وقد توقف أبو العلا عفيفي في أماكن كثيرة من كتبه عند منهج التأويل، تأويل القرآن، عند ابن عربي. وتحليله لمنهج ابن عربي في تأويل القرآن يقوم على تصور ثنائي للعلاقة بين الفكر والنص، فهو يلاحظ مثلًا أن ابن عربي في تأويله لآيات القرآن الخاصة بالتشريع يراعي المستويَين الظاهر والباطن في المعنى، «فيشرح المسألة الفقهية وحكمها الشرعي كما يفعل أهل الظاهر، ثم يعقِّب عليها بما يسميه «الإشارة»، ويبيِّن أثرها في القلب.» ويخلُص من هذه الملاحظة الصحيحة إلى أن ابن عربي «لم يكن ظاهري المذهب في العبادات كما يُقال، بل كان ظاهري المذهب في العبادات مع الظاهريين، باطني المذهب مع الباطنيين، وكان إلى الباطنيين أقرب؛ لأنه كان فقيهًا وصوفيًّا، وكان أدنى في فهمه للدين إلى الصوفية منه إلى الفقهاء الظاهريين.»٢٩
ومثل هذا الحكم على باطنية ابن عربي في العبادات، وتظاهره بالظاهرية مع الظاهريين؛ حكم أخلاقي، فكيف يمكن أن تُفهم العبادات فهمًا باطنيًّا لا يُسَلَّم بظواهرها، وهي القيام بالعبادات نفسها من صلاة وزكاة وصوم وحج؟ وحين ينتقل أبو العلا عفيفي إلى تأويل ابن عربي لآيات الاعتقاد يرى أنه «اتخذ من هذه النصوص سياجًا لأفكاره، وإطارًا ينسُج فيه خيوط مذهبه، وأخضعها لمنهج خاص من التأويل، مستساغ أحيانًا، وغير مستساغ أحيانًا أخرى؛ واستخلص منها كل ما أراد استخلاصه من المعاني التي ينطوي عليها مذهبه في وحدة الوجود.»٣٠
وهكذا يرى أبو العلا عفيفي تأويل ابن عربي للقرآن من خلال منظور لا يرى للقرآن أيَّ تأثير في فكر الرجل، بل يرى لفكر ابن عربي سيطرةً على النص وإخضاعًا له، كما لو كان ابن عربي يتعامل مع نص لا ينتمي إليه تاريخيًّا أو حضاريًّا. وحين يرى أبو العلا عفيفي أن ابن عربي يهاجم التأويل والمؤوِّلة، يفسِّر أبو العلا عفيفي ذلك على أساس أن ابن عربي يتظاهر بذلك، ولكنه في الواقع قد تعامل مع النص بطريقة أسوأ من التأويل؛ لأنه يفسِّره بطريقة تناسب مذهب الوحدة الوجودية، ولو كان ذلك على حساب لغة القرآن وتركيبه النحوي، «فأحيانًا يتحول القرآن إلى أن يكون أفلاطونية حديثة، وأحيانًا يتحول إلى نوع آخر من الفلسفة، ومن المستحيل أن يكون هو القرآن الذي نفهمه.»٣١

وليس أكثر من هذا النص دلالةً على المعيار الديني الذي يحاكم أبو العلا عفيفي تأويلات ابن عربي على أساسه. إن ابن عربي — كما سنرى — لا يرفض المستوى الظاهر في معنى النص، بل يسلِّم به لا على مستوى آيات التشريع والعبادات فقط، بل على مستوى آيات الاعتقاد أيضًا. إن المستوى الظاهر هو الأساس الضروري الذي ينبني عليه المعنى الباطن، ولا وجود لهذا المعنى الباطن إلا من خلال هذا الظاهر الذي يبرزه في إطار اللغة كما يفهمها عامة البشر. وقد نزل الوحي الإلهي للبشر كلهم ليفهموا ظاهره أولًا، ثم ينفُذ من استطاع منهم إلى باطنه. إن تماثل مستويات النص القرآني مع مستويات الوجود — كما سنحلله بالتفصيل بعد ذلك — ينفي إهمال المستوى الظاهر، فلو ارتفع الوجود الظاهر لم يكن ثَم وسيلة للوصول إلى الباطن.

وحين يربط ابن عربي بين آيات القرآن ويفهم بعضها في سياق البعض الآخر، يسمي أبو العلا عفيفي هذا خَلْطًا.٣٢ والحق أن هذا الخلط في كتب ابن عربي كثير حتى لَيصعُب على الباحث التمييزُ بين النصوص القرآنية وكلام ابن عربي. وهذا الخلط إن دل على شيء فإنما يدل على حضور النص حضورًا دائمًا في وعي ابن عربي وفلسفته. إن النظر إلى معضلة التأويل من خلال ثنائية تَفْصِل بين الفكر والنص هو المسئول عن هذه الأحكام التقييمية المتسرعة؛ هذا إلى جانب النظر إلى فكر ابن عربي من خلال منظور وحدة الوجود التي فُهمت في ضوء هذا المفهوم في الفلسفة الغربية.
لا يكاد مسلك أبو العلا عفيفي ونظرته إلى تأويل ابن عربي تختلف في جوهرها عن نظرة جولد تسيهر، في الفصل الذي خصصه للتفسير في ضوء التصوف الإسلامي، في كتابه عن مذاهب التفسير. والفارق بين جولد تسيهر وعفيفي أن جولد تسيهر لا يتبنَّى موقفًا تأويليًّا دينيًّا واضحًا — ربما بحكم أنه ليس مسلمًا — وبين مناهج التأويل عند فلاسفة الأفلاطونية المحدثة خاصة فيلون وأريجن٣٣ وفهم ذاك في ضوء هذا. وهذا الربط يتسق عمومًا مع منهج المستشرقين ويؤكد موقفهم التأويلي الذي أشرنا إليه.
ولأن جولد تسيهر لا يملك موقفًا تأويليًّا دينيًّا إسلاميًّا، فقد استطاع أن يرى جانبَي العلاقة بين الفكر والنص، فأشار إلى صعوبة أن يجد المتصوفة لأفكارهم سندًا في القرآن،٣٤ ولكنه عاد فأشار إلى بعض الآيات القرآنية التي استخدمها المتصوفة وساعدتهم على صياغة تصوراتهم عن الوجود، وعلاقة الله بالعالم؛ خاصةً الآية ٣٥ من سورة النور.٣٥
وقد أشار جولد تسيهر — فيما يرتبط بتأويل ابن عربي — إلى إصراره على الجمع بين الظاهر والباطن،٣٦ كما أشار إلى وقوفه عند المستوى الظاهر في الآيات التي تتسق في ظاهرها مع تصوراته الصوفية، «فإذا جرى الحديث مثلًا في الآية ١٦٩ من سورة آل عمران عن الشهداء: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، لم يبحث ابن عربي في ذلك عن معنًى متأوَّل أو مجازي، بل هو يتطلب الفهم الظاهر لحياة الشهداء «كحياة زيد وعمرو» بين أظهُرنا. ولا يُقال في الشهداء أموات لنهي الله عن ذلك؛ لأن الله أخذ بأبصار الخلق عن إدراك حياتهم، كما أخذ بأبصارهم عن إدراك الملائكة والجن، مع معرفتنا أنهم معنا حضور.»٣٧
والحق أن دراسة جولد تسيهر عن تأويل ابن عربي تُعد في تقدير الباحث أنضجَ دراسة قُدمت عن هذا الموضوع، رغم كل ما يمكن أن يقال عليها من مآخذ؛ فقد استطاع جولد تسيهر أن يعطي أمثلة تطبيقية تغطي تقريبًا كلَّ وسائل التأويل عند ابن عربي؛ بدءًا من مستوى التأويل المعتمِد على أصوات الحروف؛ خاصةً حروف ضمير «هو» الذي يدل على الهوية الذاتية عند ابن عربي، وانتهاءً إلى التأويل النحوي الذي يعتمد على قراءة خاصة لا تتفق مع القراءات المشهورة.٣٨ وقد غطَّت دراسته — من جانب آخر — كثيرًا من موضوعات التأويل عند ابن عربي؛ كتأويل الشريعة وقصص الأنبياء، وإيجاد الصوفية سندًا من القرآن لأحوالهم ومقاماتهم الصوفية. ويجب الإشارة أخيرًا إلى أن جولد تسيهر قد قدَّم عرضًا لأهم مصطلحات التأويل التي استخدمها ابن عربي خاصة والمتصوفة عامةً؛ كالإشارة والاعتبار والتطبيق والرمز، ووضَّح الفروق بين هذه المصطلحات ومجالي استخدامها.٣٩

أما الجوانب السلبية فترتد في جانب منها إلى موقف جولد تسيهر التأويلي باعتباره مستشرقًا. وهو موقف جعله ينظر لعلاقة الفكر بالنص باعتبارها علاقة استخدام من جانب المتصوفة، رغم تنبُّهه الذي أشرنا إليه لجانبي العلاقة، لكنه لم ينظر إلى هذين الجانبين في تفاعلهما المتبادل، واكتفى بوصف كيفية استخدام المتصوفة للنص لإعطاء أفكارهم مشروعيةً دينية. وقد نظر إلى هذا الاستخدام — من جانب آخر — في ضوء موقف المفسرين المسيحيين من كتابهم المقدس، وقاس ذاك على هذا.

وترتد السلبية في جانب آخر منها إلى اعتماد جولد تسيهر بصفة أساسية على كتاب التفسير المنسوب لابن عربي.٤٠ وقد أكدت الدراسات أن هذا الكتاب من تأليف القاشاني، رغم التشابهات الكثيرة بين تفسير كثير من الآيات في هذا التفسير ومثيلتها في كتب ابن عربي.٤١ فابن عربي لم يستخدم مثلًا مصطلح التطبيق الذي أشار إليه جولد تسيهر نقلًا عن التفسير الذي اعتمد عليه.

والحق أن هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية هذه الدراسة بأي حال من الأحوال، ويكفي أنها دراسة عرَضت لابن عربي بهذا المستوى من العمق والدقة، رغم أنها مجرد جزء من فصل في دراسة واسعة عن تاريخ التفسير الإسلامي ومناهجه. وقد كان لهذه الدراسة الفضل الأول في تنبيه الباحث إلى أهمية دراسة التأويل عند ابن عربي دراسةً أكثر تفصيلًا وأكثر شمولًا.

ولعل في كل ما عرَفناه من خلاف الباحثين حول فكر ابن عربي وحول تأويله؛ ما يؤكد أهمية دراسة ابن عربي عامة، وأهمية دراسة معضلة التأويل بصفة خاصة. ورغم كل هذه الدراسات التي عرَضنا لها وحللنا مُنطلَقاتها، فما يزال ابن عربي في حاجة إلى دراسات ودراسات.

٤

وإذا كان جولد تسيهر هو الذي نبَّه الباحث لأهمية دراسة قضية التأويل عند ابن عربي، فثم دراستان قد فتحتا الباب أمام الباحث لتقديم تفسير متوازن لفكر ابن عربي؛ تفسير لا ينكر وحدة الوجود الواضحة، ولا ينكر — في نفس الوقت — الثنائية الأساسية التي ينطلق منها ابن عربي. هذا إلى جانب أنه تفسير قادر على اكتشاف العلاقة الجدلية بين الفكر والنص عند ابن عربي، وقادر من ثَم على النظر إلى التأويل باعتباره منهجًا فكريًّا، لا مجرد وسيلة لإخضاع النص.

الدراسة الأولى هي دراسة هنري كوربان عن الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، وهي دراسة كشفت بشكل واضح عن أهمية العالم الوسيط — عالم الخيال الوجودي — لا في فكر ابن عربي فحسب، بل في الفكر الإشراقي كله؛ خاصةً عند الشيعة الإسماعيلية. وقد استطاع هنري كوربان أن يربط ببراعة بين وجود هذا العالم الوسيط وأهميته للتأويل الرمزي؛ على أساس أن خيال العارف يتصل بهذا العالم — عالم الخيال والرموز — فيستمد منه قدرته على التأويل الرمزي الذي هو حجر الزاوية في فلسفة الشيعة والمتصوفة معًا.٤٢
أمَّا الدراسة الثانية فهي دراسة سليمان العطار التي أشارت إلى توفيقية ابن عربي كحل للصراع بين مناهج المعرفة المختلفة والمتصارعة في إطار الفكر الديني؛ خاصةً منهج الفقهاء الحسي الذي يعتمد على ظاهر النص ولا يرى وراءه شيئًا، ومنهج المتكلمين والفلاسفة العقلي الذي يؤول النص ليتفق مع أدلة العقل. وكان الحل التوفيقي الذي طرحه ابن عربي — فيما يرى الباحث — هو الاعتماد على الخيال الذي هو قوة وسيطة بين الحس والعقل.٤٣
ورغم أن الباحث هنا لا يتفق مع كل من هنري كوربان وسليمان العطار في موقفهما التأويلي من ابن عربي، فإن هاتين الإشارتين كانتا بمثابة ضوء كافٍ فتح السبيل أمام الباحث لكي يفسِّر لا فكر ابن عربي فحسب، بل ليرى هذا الفكر ودلالته على الواقع الذي عاش فيه ابن عربي، ومن خلاله تشكلت نظرته للوجود والعالم. من هذا المنطلَق يختلف الباحث مع هنري كوربان الذي انطلق في فَهْم ابن عربي من تجاوزه لإطار عصره ودينه، فقال في حماسة بالغة: «إن ابن عربي واحد من هؤلاء الأفراد القلائل ذوي النزعة الروحية الذين لا ينتمون إلى عقيدة عصرهم أو إلى عصرهم، بل يُعتبرون معايير لعقيدتهم وعصرهم … والوسيلة الوحيدة لفهم ابن عربي هي أن تصبح واحدًا من مريديه لفترة من الزمن، وأن تتوجه إليه بنفس الطريقة التي توجه هو بها إلى كثير من مشايخ التصوف.»٤٤ ومن الطبيعي — في ظل هذه النظرة التي تفصل بين الفكر والواقع والرجل وعمره — أن يرى هنري كوربان أن كلًّا منا يرى نفسه في ابن عربي؛ وذلك لأن لابن عربي تجلياتٍ مختلفةً على قدر كل باحث.٤٥
وقد كانت هذه النظرة — فيما يبدو — مبررًا لسليمان العطار لكي يسمح لنفسه بقراءة ابن عربي قراءة خاصة جدًّا، رغم إشارته السالفة التي تضع مفهوم الخيال عند ابن عربي في إطار الصراع بين المناهج الدينية في عصر ابن عربي. لكن الباحث سرعان ما يتجاهل هذه الحقيقة في محاولته أن يستخرج من فكر ابن عربي نظريةً في الخلق الفني عامة، والإبداع الأدبي خاصةً، فيلجأ عن عمد ووعي إلى استبدال كلمة فنان بكلمة صوفي عند ابن عربي، واستبدال كلمة الفن بالكشف الصوفي عنده.٤٦
وعلى أساس من إشارة هنري كوربان لأهمية العالم الوسيط، وإشارة سليمان العطار لأهمية الخيال معرفيًّا عند ابن عربي في ضوء صراع المناهج في عصره، انطلق الباحث — رغم الخلاف الذي أشرنا إليه — إلى محاولة تفسير فكر ابن عربي الذي يجمع بين وحدة الوجود من جانب، وثنائية العلاقة بين الذات الإلهية والإنسان من جانب آخر. إن الوقوف عند أحد الجانبين في فكر ابن عربي يُغفل الجانب الآخر، ويُري ابن عربي في مستوًى واحد من مستويات فكره ولغته. وابن عربي دائم التنبيه إلى تعدد المستويات في عباراته وألفاظه، وهو لا يفتأ يحذِّر قارئه من مهاوي الوقوع في السطحية؛ نتيجةً لطبيعة اللغة العُرفية التي لا مفر أمامه من استخدامها. يقول في أول كتاب الفتوحات بعد أن يقرر عقيدته — وهي نفس عقيدة أهل السنة من الأشاعرة — ويُشهِدَنا عليها: «فهذه عقيدة العوام من أهل الإسلام، أهل التقليد وأهل النظر مُلخَّصة مختصرة … ثم أتلوها بعقيدة خواص أهل الله من أهل الطريق المحققين، أهل الكشف والوجود … وأما التصريح بعقيدة الخلاصة، فما أفردتها على التعيين؛ لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مُبدَّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاةً مبينة، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف قدْرَها، ويميزها من غيرها، فإنه العِلم الحق والقول الصدق، وليس وراءها مرمًى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تُلْحِق الأباعد بالأداني، وتَلحِم الأسافل بالأعالي.»٤٧
ورغم هذا التنبيه والتحذير فقد انقسم الباحثون في شأن ابن عربي — كما رأينا — إلى فريقين، تمسَّك كل فريق بمستوًى واحد من مستويات فكره، وراح يؤول المستوى الآخر في ضوء المستوى الذي فهمه. إن المعضلة، كما يطرحها ابن عربي، معضلة الوجود المعرفة، أكبر من أن تتسع لها اللغة العادية الاصطلاحية المتداولة؛ ولذلك لا بد من استخدام لغة رمزية جديدة تتغلب على هذه المعضلة، وتنفُذ من إطار سجن اللغة العادية الضيق. ولكن اللغة الجديدة لا بدَّ أن تتسم ببعض الغموض؛ «فذلك راجع إلى ما تعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها، لا ما هو عليه الأمر في نفسه عند أهل الأذواق.»٤٨
إن وحدة الوجود التي فُهمت في إطار ليبنتز أو اسبينوزا لا يمكن أن تفسِّر لنا ابن عربي؛ فهي وحدة إما أن تُحِلَّ الله في الطبيعة، كما هو الأمر عند اسبينوزا، أو تُلغي وجود العالم لحساب الله؛ كما هو الأمر عند ليبنتز.٤٩ وابن عربي لا يلجأ إلى أحد الحلين، بل يحتفظ بعلاقة الثنائية بين الذات الإلهية والعالم؛ بحيث لا يجمع بينهما حد مشترك. ويجعل عالم الخيال بكل مراتبه وتدرجاته، بدءًا بالألوهة، هو الوسيط بين الله والعالم، وهو وسيط وجودي ومعرفي في نفس الوقت.
ولا يمكن أن تفسِّر الثنائية وحدها فكر ابن عربي، فهذا العالم الوسيط له جانبان: ظاهر وباطن يقابل بظاهره العالم الحسي الذي نعانيه ونشاهده، عالم الطبيعة والكون والاستحالة. ويقابل بباطنه الذات الإلهية؛ فهذا العالم الوسيط يُقَرِّب بين طرفَي هذه الثنائية فيتوسط بينهما من جانب، ويعزل بينهما ويفصل من جانب آخر فلا يلتقيان. وعلى ذلك فوحدة الوجود عند ابن عربي لها معنًى خاص، ويجب أن تُلحَظ من جانبين، وبالتالي أن تُفهم في إطار هذه الثنائية الأولية، وفي إطار هذا الوجود الوسيط الذي يجمع بينهما ويفصل في نفس الوقت. ويمكن التعبير عن هذه الجوانب أو الاعتبارات الثلاثة على النحو التالي:
  • (١)

    «وجود بشرط شيء، وهو الوجود الجزئي المقيَّد بحدود الزمان والمكان والمادة.

  • (٢)

    وجود بشرط لا شيء، وهو معارِض للأول؛ وهذا هو الوجود الكلي الذي هو مطلق بالقياس إلى الجزئي فقط.

  • (٣)
    وجود لا بشرط شيء؛ وهو المطلق الذي هو غير المقيد بالإطلاق كالكلي، كما هو معلق عن التقييد وفي التقييد كالجزئي. وبدهي أن النمط الثالث من الوجود هو الذي يجب إسناده إلى ذات الحق — تعالى — ويصحُّ حمله عليها. فوحدة الوجود في هذا الموطن هي وحدة المطلق الذي هو وجودٌ بذاته ومن ذاته ولِذاته. ولا يُعقل بتاتًا تصورُ ثنائية أو كثرة في صعيد الوجود المطلق.»٥٠
هذه المراتب الوجودية الثلاث تفصِل بين الوجود المطلق غير المشروط بشيء حتى بشرط الإطلاق — إذ الإطلاق في هذه الحالة شرط زائد على الوجود — وبين الوجود المقيد الجزئي المشروط، بوجود ثالث هو «بشرط لا شيء»؛ أي: وجود مشروط بالنفي.٥١ وليست هذه المراتب الثلاث — كما سنحللها بعد ذلك إلا مرتبة الذات الإلهية (الوجود لا بشرط شيء) ومرتبة الألوهية (الوجود بشرط لا شيء) ومرتبة العالم (الوجود بشرط شيء).

ويبقى السؤال الآن: من أين استقى محيي الدين بن عربي مثل هذا التصور؟ وما دلالته ومغزاه في إطار قضية التأويل من جهة، والواقع الذي عاشه ابن عربي من جهة أخرى؟

٥

لقد عاش ابن عربي في وطنه الأول — الأندلس — ذروة الصراع بين المسيحية والإسلام من جهة وبين الاتجاهات المختلفة في هذا المجتمع من جهة أخرى، بين سُنة وشيعة وأشعرية ومعتزلة وفقهاء وفلاسفة ومتصوفة.٥٢ وحين غادر موطنه الأصلي إلى المشرق لم يجد الأحوال في العالم الإسلامي الفسيح تختلف كثيرًا عما تركه في بلاده، فالخلافات قد مزَّقت وحدة الخلافة والدولة، وحوَّلتها إلى دويلات صغيرة متنازعة؛ يتحالف بعضها مع أعداء الإسلام ضد جيرانهم المسلمين. في ظل هذا الجو المُلَبَّد بالصراع على جميع المستويات اجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا وفكريًّا، بل ولغويًّا، عاش ابن عربي وتشكلت فلسفته ونظرته إلى العالم والكون. والحق أن تَنَقُّل ابن عربي الدائم من مكان إلى مكان — باستثناء فترة الاستقرار الطويلة نسبيًّا والتي قضاها في مكة في زيارته الثانية — كان يعكس هذا التوترَ والقلق وعدم الاستقرار. وليس من الغريب في مثل هذه الظروف أن يولد ابن عربي في الأندلس ويتزوج للمرة الثانية في قونية من أم تلميذه صدر الدين القونوي، وليستقر بعض الوقت في مكة، ثم يموت في دمشق. ولعل هذا ما جعل هنري كوربان يتخذ من سيرة ابن عربي وحياته وتنقلاته ولقاءاته — خاصةً مع ابن رشد والخضر — دلالة رمزية على الصراع الفكري في العالم الإسلامي عامة، والتحولات الروحية في حياة ابن عربي خاصة،٥٣ وإنْ نظر إلى هذا الصراع في مستواه الثقافي فقط، ومن خلال منهجين هما منهج الإشراق كما مثله ابن سينا والسهروردي والشيعة، ومنهجُ العقل كما مثله ابن رشد وشرَّاح أرسطو.

والذي لا شك فيه أن التصوف يمثِّل — بجانبيه العملي والنظري — موقفًا من الحياة يتسم بالتعالي والازدراء والترفُّع، ولا شك أن هذا الموقف ذاته لا ينفصل عن إطار الواقع الذي يدفع إلى رد الفعل، فيسعى الصوفي للبحث عن حلول متعالية لمشكلات هي في حقيقتها واقعية. إن الصوفي يحاول أن يتجاوز إطار الواقع الحسي العياني المباشر بكل تناقضاته وصراعاته وهمومه؛ سعيًا إلى المطلق الثابت الخالد الذي يتجاوز إطار الصراع والقلق والتوتر. ولكن الحلول التي يتبناها الصوفي — خاصةً إذا كان مفكرًا فيلسوفًا كابن عربي — تظل تعمل دائمًا في طياتها جرثومةُ الواقع.

وقد كان ابن عربي يُحس إحساسًا حادًّا بحاجة هذا العالم الماسة إلى مرشد يُصلِح أمره ويقوده إلى الخير والنجاة، ولكنه بحث عن هذا المرشد في ذاته فأقام دولة باطنية، هي دولة الأولياء والعارفين، ووضع نفسه على رأسها مقارنًا بين نفسه وبين عيسى الذي يعود في آخر الزمان ليحكم بشريعة الإسلام؛ وقد عمَّ الكفرُ وطغى بظهور المسيح الدجَّال. والفارق بين عيسى وابن عربي أن ابن عربي خاتم الولاية المحمدية، بينما يمثل عيسى خاتم الولاية العامة. من هنا يحِق لنا أن نرى فكر ابن عربي في ضوء ظروف عصره، وأن نرى أن حلوله الفلسفية تحمل في باطنها كلَّ جوانب الصراع الذي عاش فيه، وإنْ حاولت أن تتغلب عليه بقدر هائل من الوسطية التوفيقية.

وليست التوفيقية التي نعنيها هنا مجرد التوفيق الفكري الفلسفي بين آراء وأفكار مختلفة متعارضة، بل التوفيقية التي تستهدف خلق إطار موحَّد يسمح بمشروعية كل الأفكار والتأويلات؛ باعتبارها تجلياتٍ مختلفةً للحقيقة المطلقة المتعالية عن التقييد والحصر. إن المشروع الذي قدَّمه ابن عربي وجوديًّا ومعرفيًّا وتأويليًّا مشروع ديني مفتوح يتجاوز إطار الخلافات الدينية والعقائدية والسياسية، وإن لم يتجاوز إطار الإسلام نفسه باعتباره آخر الأديان وأكملها وأشملها تعبيرًا عن الحقيقة المطلقة كما يؤمن ابن عربي نفسه.

من هذا المنطلَق قد نجد في فكر ابن عربي تشابهاتٍ كثيرةً مع أفكار كثيرة قد ترتد في بعضها إلى الأفلاطونية المحدثة، أو إلى الأرسطية، أو إلى المعتزلة والأشاعرة، أو إلى الشيعة. وقد ترتد بعض هذه الأفكار إلى الفكر المسيحي أو اليهودي أو الغنُّوصي. والحق أننا نجد لكل هذه العناصر وجودًا في فكر ابن عربي وفلسفته، لكن هذه العناصر تتحول — في مشروع ابن عربي — إلى مُرَكَّب جديد له قدرٌ من الجِدَّة والأصالة. ومن هنا يصدُق القول مع أبي العلا عفيفي أن لابن عربي «في كل معسكر قدم.»٥٤

والسؤال الذي يعنينا الآن: من أين استقى محيي الدين بن عربي فكرته عن العالم الوسيط الذي يطلق عليه اسم البرزخ أو الخيال بمراتبه المختلفة؟ وتبدو أهمية هذا السؤال في حقيقة أنه يثير سؤالين آخرَين لا بد من الإجابة عنهما؛ السؤال الأول: ما دلالة هذا العالم الوسيط بالنسبة لعصر ابن عربي؟ والسؤال الثاني: كيف يتفاعل النص مع الفكر في ضوء الظروف التي يُعَد هذا الفكر استجابةً لها؟

أما دلالة العالم الوسيط بالنسبة لعصر ابن عربي وتوفيقيته، فتتضح من حقيقة أن هذا العالم الوسيط — خاصة الألوهة — هو الذي يحل كلَّ التعارضات الثنائية بين الله والعالم، وهي المعضلات التي انقسم على أساسها المتكلمون إلى فرق مختلفة؛ فهذا الوسيط يمكن أن يحل ثنائية صدور المُحدَث عن القديم، والفاني عن الباقي، والناقص عن الكامل، والمحدود عن المطلق؛ هذا على المستوى الفلسفي الخالص. فإذا انتقلنا إلى نظرية المعرفة كان هذا العالم الوسيط هو عالم الرموز والدلالات الحقة، وهو العالم الذي يتصل به الخيال الإنساني فيستمد منه معرفته وعلمه. وعلى مستوى النص الديني يمكن لهذا العالم الوسيط أن يحل معضلة التشبيه والتنزيه، والذات والصفات، والوحدة والكثرة، والمحكم والمتشابه، والجبر والاختيار، والعدل الإلهي والمشيئة المطلقة؛ إلخ كل هذه الثنائيات المتعارضة.

والحقيقة أن ابن عربي يجد بهذا العالم الوسيط حلولًا للكثير من المشكلات العقائدية التي ظلت محل خلاف بين المسلمين، يعكس بدوره مواقفَ متميزة من الواقع، «ففي ضوء نظرية الوجود الذي هو بشرط لا شيء، نستطيع أن نجد حلولًا منطقية لعدد من المشكلات اللاهوتية التي تعرَّض لها علم الكلام، أو تعثَّر أمامها أثناء تطوره التاريخي. فلو أن المعتزلة مثلًا أدركوا أن الوجود الإلهي في حقيقته هو وجود لا بشرط، لَمَا استحال لديهم القول بتعدد الصفات وثبوتها، أو أزلية القرآن، أو إمكانية الرؤية في الدار الآخرة. أليس وجود الحق مطلقًا حتى عن قيد الإطلاق؟ فكيف يمتنع عليه تعالى تجلِّيَه الذاتيَّ من خلال صفاته وكمالاته اللامتناهية؟ أو تجليه الخارجي الفائق من وراء حجاب الحروف والكلمات البشرية؟ أو ظهوره المُعجِز في مجالي «الصور الخالدة» في ظلال نعيم السماء؟»٥٥
وإذا كان المعتزلة لم يستطيعوا الوصول إلى مثل هذه الحلول المنطقية، فذلك راجع لأنهم — على الأقل في مرحلة النشأة — كانوا أصحاب موقف من الواقع يحاولون صياغة موقفهم صياغةً دينية.٥٦

وابن عربي — على العكس من ذلك — لا يحاول أن يصوغ موقفًا واضحًا من الواقع، بل الأحرى القول إنه يحاول أن يفسر الواقع على ما هو عليه، ويُضْفي عليه مَسحةً من الجمال تُخفي قبحه. من هذا المنطلق يكتسب هذا الوسيط أهمية على المستوى الوجودي والمعرفي والديني؛ إذ إنه العالم الذي يتضمن الصراع داخله ويمتصه، كما يتضمن كل التناقضات والثنائيات. وفي ظل هذا العالم الوسيط الخيالي تصبح التناقضات مجرد أوهام، والثنائيات اعتبارات مختلفة لحقيقة واحدة. وتزول الخلافات داخل اتجاهات الدين الواحد، وبين الأديان بعضها بالبعض الآخر. ويصل ابن عربي إلى الدين الكامل الشامل دين الحقيقة والحب الذي يَسَع كل أشكال العبادات وصورها.

وهكذا يصل ابن عربي إلى أن يحل كلَّ معضلات الواقع وتناقضاته عن طريق الفكر المثالي المتعالي. وحين يجد ابن عربي أن هذه الحلول لا تجِد صدًى في الواقع، يتجاوزه مكونًا بناءً سياسيًّا باطنيًّا روحيًّا راقيًا يعتبره هو العالم الحقيقي ودولة الباطن. ويعتبر أن هذه المعرفة معرفة ذوقية حدسية ينكرها العقل والحس، ولكن المنكرين معذورون؛ لأن حقيقة الوجود تتجلى لهم على قدرهم. وينتهي ابن عربي إلى أن الرحمة الإلهية الشاملة ستنتظم الجميع في نهاية الأمر؛ لأن كل معرفة مهما تكن محدوديتها ونَقْصُها تستند إلى أصل وجودي في بنائه الخيالي، وتستند إلى درجة معرفية في بنائه السياسي الروحي الباطن. ويبقى بعد ذلك السؤال عن أصول ابن عربي الفلسفية والدينية.

٦

يحاول أبو العلا عفيفي جاهدًا أن يردَّ مفهوم البرزخ — موحدًا بينه وبين مفهوم الكلمة Logos — إلى تأثير فيلون الإسكندري، ويرى أن تأثير هذا المفهوم «بارز بوضوح في التشابه بين المصطلحات التي يستخدمها كل منهما.»٥٧ والحق أن أبا العلا عفيفي، منطلقًا من تصوره الأساسي لفلسفة ابن عربي، قد وحَّد بين مصطلحات كثيرة، وتعامل معها باعتبارها أسماءً تدل على حقيقة واحدة.
ورغم تنبُّه أبي العلا عفيفي — مستندًا إلى القاشاني — إلى الأصل القرآني الذي يمكن أن يُفَسِّر مفهوم الكلمة وكذلك البرزخ عند ابن عربي، فإنه يرجِّح التأثير اليهودي والمسيحي على التأثير القرآني.٥٨ والحق أن مصطلحات البرزخ أو الخيال والكلمة لها أصولها القرآنية، كما أن لها أصولها الفلسفية في فكر ابن عربي وإن كان الأصل الفلسفي يستند بدوره إلى نص من الأحاديث النبوية. العماء هو أصل الخيال وأصل تصور ابن عربي لمفهوم الكلمات الإلهية.

ويستند ابن عربي إلى إجابة الرسول عن سؤال سائل: «أين كان ربنا قبل أن يخلق الكون؟» ويجيب : «كان في عماء؛ ما تحته هواء وما فوقه هواء.» من هذا الحديث يقيم ابن عربي بناءه الفلسفي عن العماء الناتج عن النَّفَس الإلهي للتنفيس عن الشوق والحب للظهور في صورة غيرية يُعْرف بها معرفة مغايرة لمعرفته بذاته. هذا العماء هو الهيولي في عالم البرزخ المطلق، وأحد مستوياته التي تماثل العلة الصورية كما سنحلله بالتفصيل بعد ذلك.

ولأن العماء هو النَّفَس الإلهي الذي توجد فيه صور العالم بالقوة، فالموجودات كلمات الله التي وُجدت عن نَفَسه كما توجد الحروف والكلمات عن النَّفَس الإنساني. من هنا تجب الإشارة إلى أن مصطلح الكلمة عند ابن عربي يختلف كثيرًا عن مصطلح Logos عند فيلون أو غيره. وحين يستخدم ابن عربي مصطلح «كلمة» للدلالة على الأنبياء في كتاب «فصوص الحكم»، فيجب أن نفهم هذا الاستخدام في ضوء أن الوجود كله كلمات الله التي لا تتناهى، كما أن عيسى كلمة الله ألقاها إلى مريم، وكلماته لأن الله يقول عن مريم وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ. أما مصطلح البرزخ — الخيال — فهو أيضًا يعتمد على أصل قرآني مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ. ومن هذا الأصل يتشكل مفهوم ابن عربي الفلسفي للبرزخ على أساس أنه يقوم بوظيفتَي الفصل والجمع.

وليس الهدف هنا من وراء مناقشة أبي العلا عفيفي إنكارَ علاقة التأثير والتأثر، وانتقال الأفكار بين الفكر الإسلامي وغيره، بل الهدف بيان أن هذا الانتقال والتأثير يجب النظر إليه دائمًا في ضوء ما سبقت الإشارة إليه من عنصرَي ظروف الواقع من جهة، وفعالية النص الديني بكل ما يحيط به من تراث تفسيري من جهة أخرى. والمصادر الفلسفية لفكرة العالم الوسيط بين الله والعالم تمتد من أفلاطون إلى أفلوطين إلى الجانب الإشراقي في الفلسفة الإسلامية. وهناك دون شك كثيرٌ من أوجه الشبه التي تتيح المقارنة بين ابن عربي وكل هؤلاء الفلاسفة.

وهناك من الباحثين من ردَّ فكر ابن عربي بالفعل إلى أفلاطون وأفلوطين؛٥٩ على أساس من التشابه بين كثير من الأفكار عند كل منهما؛ خاصة تصور أفلوطين للتدرُّج الكوني القائم على الفيض أو الصدور عن الواحد، والذي ينتهي إلى الإنسان، ثم رحلة العودة التي يقوم بها الإنسان لتجاوز هذه الكثرة الظاهرة إلى أصلها الواحد.٦٠ لكن التشابه في بعض الأفكار بين أفلوطين وابن عربي لا يعني التماثل القائم على الاقتراض؛ فهذا التشابه يمكن أن يفسَّر في ضوء تشابه الظروف السياسية من اضطراب وعدم استقرار وصراعات على مستوى الواقع والفكر، وهي ظروف عاشها كلٌّ من أفلوطين وابن عربي كما سبقت الإشارة.٦١ في هذا الإطار قد يلتقي ابن عربي وأفلوطين وتتشابه بعض أفكارهما، ولكن ابن عربي مسلِم يعيش في عصر آخر وتواجهه هموم قد تُشابه في عمومها ما واجهه أفلوطين، ولكنها في حقيقتها مختلفة. وهذا الاختلاف هو ما يجب البحث عنه، وهو اختلاف نجده في المنهج والنتائج معًا؛ التصوف عند أفلوطين تصوف عقلي، والوسائط التي تملأ الهُوَّة بين الله والإنسان وسائطُ عقلية كذلك، بينما المتصوف عند ابن عربي لا يعتمد على العقل كثيرًا ولا يُعَوِّل عليه، والوسائط عنده وسائط خيالية لا تقوم على الفيض أو الصدور عن الواحد، كما هو الأمر عند أفلوطين، فالواحد الذي يصدر عنه الكون عند أفلوطين يساوي الألوهة التي هي أحد مستويات عالم الخيال المطلق، وهي بدورها وسيط بين الذات الإلهية والعالم. وصدور الكون عن الألوهة — عند ابن عربي — لا يتم عن طريق الفيض أو الصدور، بل يتم عن طريق سلسلة من التجليات — والتجلي كلمة قرآنية — هي البديل للفيض والصدور عند أفلوطين.
من هذه الزاوية أيضًا يختلف ابن عربي عن ابن سينا والفارابي اللذين أوقفا سلسلة الفيوضات عند العقل العاشر الذي هو جبريل، وهو العقل الذي يتصل به عقل الفيلسوف أو مخيلة النبي يستمدان منه معرفتهما.٦٢ وإذا كانت نظرية الفيض أو الصدور، سواء في أصلها الأفلوطيني أو في صياغتها الإسلامية، تستهدف حل معضلة صدور الكثير عن الواحد، فإنها تجعل العقل العاشر علَّة لكل ما يحدث تحت فلَك القمر في عالم الكون والاستحالة، وكأنها بذلك عزلت الواحد عن أي فعالية بعد آخر سلسلة الفيوضات. وابن عربي — كما سنرى — يجعل الألوهة — على وحدتها وبساطتها المتناهية في ذاتها — في حالة فعالية دائمة، وتَدخُّل مباشر في أحوال العالم؛ وذلك عن طريق فكرة التجليات التي لا تنقطع، وهو ما يطلق عليه ابن عربي «الخلق الجديد»؛ مستدلًّا بالآية القرآنية: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.
ويمكن بالمثل أن نجد أصولًا لوسائط ابن عربي الخيالية عند الشيعة، كما نجد تشابهًا واضحًا بينه وبين الشيعة في الجمع بين المصطلح القرآني والمصطلح الفلسفي؛ دلالة على شيء واحد. فالكرماني — مثلًا — يفصِل فصلًا كاملًا بين الذات الإلهية والعالم، ويهاجم المعتزلة لأنهم أضافوا لهذه الذات أوصافًا ثبوتية فشبَّهوها بالمخلوقات، وهذه الذات لا يصح عليها سوى صفات السلب من كل جانب.٦٣ وإذا كان الكرماني يضع العقل الأول موجودًا ثانيًا عن هذه الذات المتعالية والمطلقة والمفارقة للعالم، فإنه يجعل وجود هذا العقل بالإبداع لا بالفيض، فهذا العقل «وجوده لا بذاته بل بإبداع المتعالي سبحانه إياه … فيكون ذلك الواحدُ المتقدمُ الرتبةِ وجودُه لا بذاته، بل هو في ذاته فِعل عمن لا يستحق أن يقال إنه فاعل، وهو مفعول لا من مادة، وهو فاعل لا في مادة هي غيره.»٦٤

هذا العقل يساوي الألوهة عند ابن عربي وإن يكن مبدعًا، والألوهة ليست كذلك عند ابن عربي، وهذا العقل الأول — من جانب آخر — له وجود، والألوهية عند ابن عربي ليس لها وجود مستقل في ذاتها، بل هي مجرد نسب وأسماء لا أعيانٌ لها.

يصدر عن هذا العقل الأول بالانبعاث — عند الكرماني — العقلُ الثاني الذي هو القلم،٦٥ وينبعث عن القلم اللوحُ الذي هو الهيولي أيضًا، «وأنها هي المعرب عنها باللوح المحفوظ الذي أودِع كل الصور.»٦٦ وهكذا نرى أن الشيعة — بحكم محورية قضية التأويل عندهم — قد زاوجوا، كما يفعل ابن عربي، بين المصطلحات الفلسفية والمفاهيم القرآنية. ويظل هناك فارق بين ابن عربي والشيعة؛ فابن عربي يجعل العقل الأول هو القلم، والنفس الكلية هي اللوح المحفوظ، ويحتفظ للألوهة — التي تساوي العقل الأول عند الكرماني — بموقع وسيط خيالي. أما أن العقل الأول عند الكرماني يساوي الألوهة عند ابن عربي، فهذا ما يعبر عنه قول الكرماني إنه «الحق والحقيقة، وهو الوجود الأول، وهو الموجود الأول، وهو الوحدة، وهو الواحد، وهو الأزل، وهو القدرة، وهو القادر الأول، وهو الحياة، وهو الحيُّ الأول، ذات واحدة تلحقه هذه الصفات، يستحق بعضها لذاته، وبعضها بإضافته إلى غيره من غير أن تكون هناك بالذات.»٦٧
هذه المراتب الثلاث للوجود عند الكرماني، وهي العقل الأول والعقل (القلم) والهيولى (اللوح المحفوظ)، نجدها نفسها عند ناصر خسرو وإنْ جعل الكلمة (= الأمر الإلهي كنْ) وسيطًا بين العقل الأول، ويسميه ناصر خسرو المبدِع، والعالم الروحاني الذي يشمل العقل الكلي (القلم) والنفس الكلية (اللوح).٦٨ وبين هذا العالم الروحاني وعالم الزمان الحسي يوجد عالم وسيط قائم على أساس ثلاثي كذلك، وهذا العالم يشمل إسرافيل وميكائيل وجبريل، أو الجد والفتح والخيال. يتماثل مع هذا العالم الوسيط وما يسبقه من العالم الروحاني مراتب الدعاة والأئمة الذي هو عالم الدين، فالنُّطقاء (الأنبياء) يتوازون مع العقل الكلي، والأسس (الأوصياء) يتوازون مع النفس الكلية؛ «وذلك لأن تمام النفس الكلية وانتقالها من هذه القوة إلى حد الفعل يتم في أنفس النطقاء (الأنبياء) والأسس (الأوصياء) والأئمة ومَنْ تبعهم، فهؤلاء البشر كلهم في النفس الإنسانية بحد القوة، وبقبول العلم والتعليم، يصِلون من حد القوة إلى حد الفعل.»٦٩
ولا نريد المضي في عرض أفكار الشيعة الإسماعيلية وتصوراتهم، ويكفي القول إننا يمكن أن نلمح كثيرًا من أصول ابن عربي في الفكر الشيعي؛ خاصةً تلك الموازاة بين مراتب العالم الروحية والوسيطة ومراتب العارفين عند ابن عربي، الذين هم الدعاة بدرجاتهم المختلفة عند الشيعة.٧٠ ومع ذلك كله يظل تصور ابن عربي لعالم الخيال بمراتبه المختلفة تصوُّرَه وحده. يمكن أن يُقال إنه جمع عناصره من هنا وهناك، ومن يستطيع أن يزعم أن أي فكر يبدأ من فراغ؟!

إن إصرار ابن عربي على خيالية الوجود شديدة الدلالة على تجاوزه لهذا العالم، أو رغبته في تجاوزه على الأقل، وهو تجاوز جعله يؤسس دولة باطنية تتماثل في كثير من جوانبها مع تصور الشيعة لمراتب الأئمة والدعاة. ويظل الفرق بين ابن عربي والشيعة قائمًا؛ فالشيعة حزب سياسي ديني يسعى لتغيير الواقع السياسي عن طريق إظهار دولته الباطنية، وابن عربي يكتفي بهذا البناء الباطني بديلًا عن أبنية الواقع الذي طالما طاف فيه وارتحل خلاله حتى أدركه اليأس، فوجد في رحمة الله الشاملة، التي تسَع المسلم وغير المسلم والمؤمن والكافر على السواء، ملاذه الأخير.

ولعلنا بعد هذا التمهيد الطويل قد استطعنا، من خلال منظور تأويلي، أن نفسر فكر ابن عربي في ضوء العناصر الثلاثة التي نعتبرها عناصر متفاعلة متداخلة؛ وهي الواقع والنص والفكر. ولعل في هذا التفسير ما يجيب عن أسئلة كثيرة قد تطرأ على ذهن القارئ أثناء قراءة البحث. وقد آثرنا أن نفعل ذلك في هذا التمهيد تحاشيًا للتدخل والتعليق على كل فكرة من أفكار ابن عربي؛ الأمر الذي من شأنه أن يعوق تسلسل سياق الأفكار، ويُحيل نسق ابن عربي إلى نُتَف متناثرة ممزقة.

١  يُعَد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أكبر ممثلي هذا الاتجاه. انظر عن ابن تيمية: صبري المتولي، منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم  ٦٣–٦٩، وانظر ابن القيم:  الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة صفحات ٥، ٦، ١٣، ١٧، ٢١، ٦٠-٦١، ٨٣، ٨٥ من الجزء الأول على سبيل المثال لا الحصر.
وانظر من الباحثين المحدثين الذين يتبنون هذا الموقف:
محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون ١ / ٢٨٤-٢٨٥. وسنتعرض فيما يلي لموقف الباحثين في إطار هذه النظرة من تأويل ابن عربي للقرآن.
٢  انظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ٦ / ١٩٨، والسيوطي: الإتقان في علوم القرآن ١ / ١٤٢.
٣  انظر في معنى التفسير والتأويل: السيوطي، الإتقان ٢ / ١٧٣.
٤  عرضنا لهذه المعضلة بالتفصيل من زاوية معضلة التأويل في الفكر الفلسفي المعاصر؛ انظر: مقال الباحث، الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النص، مجلة فصول، العدد الثالث، ١٩٨١م.
٥  انظر أمثلة على هذا المسلك:
دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام  ١٥–٣٥، بينيس؛ مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود ٩١–١٢٢؛ وكذلك بحث برتيزل في نفس الكتاب  ١٣١–١٤٧، أوليري، الفكر العربي ومركزه في التاريخ  ٩–٥٢، ٩٣–١٠٨، نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه ١٢–٨٨، The Mystics of Islam, pp. 8–27.
وانظر أيضًا الأبحاث التي ترجمها ونشرها عبد الرحمن بدوي في كتاب «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية».
وانظر: جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ١٨–٢٠، ١٣٦–١٣٨، ١٩٥.
وانظر — أخيرًا — مناقشة مصطفى عبد الرازق لهذه الآراء: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ٤–٣٠، ١٢٤–١٣٠.
٦  انظر: عبد الرحمن بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، المقدمة ز، ح-ط.
٧  انظر: محمد عاطف العراقي، مذاهب فلاسفة المشرق  ١٥، ١٧، ٣٦، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية  ١٥، ١٧، ٢٠–٢٧.
٨  انظر: مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية  ٩٨–١٠١.
٩  انظر: أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام  ٧٥–٤٨، إبراهيم بيومي مدكور: في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه ٦٤، عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام  ١–٧٦، قاسم غني: تاريخ التصوف في الإسلام  ٩٠–٩٢.
١٠  عبد القادر محمود، الفلسفة الصوفية ٧٤، وانظر أيضًا: إبراهيم إبراهيم هلال، نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة ١ / ٦٢–٦٥.
١١  انظر: The Mystical Philosophy of Ibn Masarra and His Followers, pp. 37–39, 123–129.
وانظر أيضًا: مقدمة آربري الإنجليزية لكتابَي المواقف والمخاطبات للنفَّري ٨–١١.
١٢  R. W. J. Austin, Sufis of Andalusis, p. 49.
وانظر أيضًا: Sayyed Hossein Nasr, Sufi Essays, pp. 97–103.
وله أيضًا: Three Muslim Sages, pp. 118–121.
وله كذلك: Ibn Arabi in the Persian Speaking World, pp. 357–363.
(ضمن الكتاب التذكاري لمحيي الدين بن عربي).
١٣  انظر: الفلسفة الصوفية لابن مَسَرَّة ومدرسته ١٧٠–١٨٣.
وانظر أيضًا: Islam and the Divine comedy, pp. 92–96.
١٤  انظر على سبيل المثال لا الحصر عن تأثير ابن عربي في الفكر الشيعي التالي له:
Toshihiko Izutsu, The concept and Reality of Existence, pp. 2, 30, 62–64, 113.
وانظر أيضًا: دراسات سيد حسين نصر المُشار إليها قبل ذلك.
وانظر عن تأثير ابن عربي في عبد الكريم الجيلي: أبو العلا عفيفي: محيي الدين بن عربي في دراساتي (ضمن الكتاب التذكاري) ص٢٦–٣١. وانظر أيضًا:
Nicholson; Studies in Islamic Mysticism, pp. 72–142.
وانظر عن تأثير ابن عربي في الطرق الصوفية: أبو الوفا الغنيمي التفتازاني: الطريقة الأكبرية (ضمن الكتاب التذكاري).
١٥  انظر على سبيل المثال: برهان الدين البقاعي، تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي  ١٩–٧٠.
١٦  انظر لنيكلسون: A Literary History of the Arab, pp. 401-402.
وأسين بلاثيوس، ابن عربي حياته ومذهبه ٢٥١-٢٥٢.
١٧  انظر: An Account of the Mystics of Islam, p. 101.
١٨  انظر: The Mystical Philosophy of Muhid-Din Ibnul’ Arabi, pp. 3, 7, 17, 21, 33, 45, 55, 57, 105, 113, 118, 122-123, 140, 153, 157, 160, 163, 169.
وانظر أيضًا: ابن عربي في دراساتي ٨، ١٤.
١٩  انظر دراسة مدكور، وحدة الوجود بين ابن عربي واسبينوزا (ضمن الكتاب التذكاري ٣٦٧ وما بعدها). وانظر: محمود قاسم، محيي الدين بن عربي وليبنتز.
٢٠  انظر: عبد القادر محمود، الفلسفة الصوفية في الإسلام ٤٨٧–٥٢١؛ وتوفيق الطويل، فلسفة الأخلاق الصوفية عند ابن عربي، ضمن الكتاب التذكاري ١٥٦.
٢١  انظر: محيي الدين بن عربي وغلاة الصوفية، ضمن الكتاب التذكاري  ١٣١ وما بعدها.
٢٢  انظر: عبد الرحمن الوكيل، مقدمة كتاب البقاعي ١–١٦. وقد بلغ من احتفاء المحقق بالكتاب أن صدَّره بعنوان من عنده فوق عنوان المؤلف هو «مصرع التصوُّف».
٢٣  انظر: المعرفة عند محيي الدين بن عربي، ضمن الكتاب التذكاري  ٢٠٢-٢٠٣.
٢٤  الوجود والعدم في فلسفة ابن عربي الصوفية ٩.
٢٥  ابن سبعين وفلسفة الصوفية ٢١٦، وانظر أيضًا: الطريقة الأكبرية ٢٩٥، ٣١٦.
٢٦  انظر: الفلسفة الصوفية لابن عربي  ٤٠، ٤٢، ٤٥، ٥٥-٥٦، ٥٧.
٢٧  انظر: مقال تفسير مجهول ومثير للقرآن، للمتصوف الكبير محيي الدين بن عربي، مجلة الهلال، ديسمبر ١٩٧٠م، ٧٩–٨٩.
٢٨  انظر: التفسير والمفسِّرون ٣ / ٧٣–٨١، انظر أيضًا: ابن عربي وتفسير القرآن ٣٩–٤١.
٢٩  ابن عربي في دراساتي ١٠-١١.
٣٠  ابن عربي في دراساتي ١١-١٢.
٣١  انظر: الفلسفة الصوفية لابن عربي ١٩٢، وانظر أيضًا: ابن عربي في دراساتي ١٣.
٣٢  انظر: مقدمة فصوص الحِكم ١٩-٢٠.
٣٣  انظر: مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٠٤، ٢٣٦، ٢٥٥.
٣٤  مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٠١.
٣٥  مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٠٤–٢٠٦.
٣٦  مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٥٧–٢٥٩.
٣٧  مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٦٠.
٣٨  مذاهب التفسير الإسلامي ٢٨٠–٢٨٤، ٣٨٣.
٣٩  انظر: الصفحات: ٢٤٧، ٢٦١، ٢٦٤، ٢٦٥، ٢٦٧، ٢٦٨، ٢٧٢، ٢٧٤.
٤٠  انظر: مذاهب التفسير الإسلامي  ٢٤٦.
٤١  انظر: محمد حسين الذهبي، ابن عربي وتفسير القرآن ٤٢ وما بعدها.
٤٢  انظر:
The Creative Imagination in The Sufism of Ibn Arabi, pp. 3-4, 12-13, 27-28, 45, 48, 52, 79, 149, 166, 189, 193, 221.
٤٣  انظر: سليمان العطار، الشعر الصوفي في الأندلس حتى نهاية القرن السابع الهجري  ٢٧-٢٨.
٤٤  الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي  ٥.
٤٥  انظر: الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي  ٧٥-٧٦.
٤٦  انظر: شعر التصوف في الأندلس ٤٠.
٤٧  الفتوحات المكية ١ /  ٣٨.
٤٨  الفتوحات ١ / ١٣٥.
٤٩  انظر: جيمس كولنز، الله في الفلسفة الحديثة ١٠٣، ١٢٢، وانظر أيضًا: محمد غلاب، مشكلة الألوهية ١١٣، ويوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة  ١٠٨–١١١، ١٣٧.
٥٠  عثمان يحيى، نصوص تاريخية خاصة بنظرية التوحيد في التفكير الإسلامي، ضمن الكتاب التذكاري  ٢٣٨، وانظر أيضًا: مقدمة عبد الرازق القاشاني لشرحه على فصوص الحكم  ٤-٥.
٥١  انظر في تحليل هذه المراتب الثلاث ومعناها: بحث توشيكو أزوتسو ضمن كتاب دراسات فلسفية: The Problem of Quidities and Natural Universal in Islamic Mytaphisics, pp. 137–147.
٥٢  انظر: حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام ٤ / ٢٢٥–٢٢٧، ٤٦٧–٤٧٠، ٥٣٧–٥٥٠.
٥٣  الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي  ٣٨–٧٧.
٥٤  الفلسفة الصوفية لابن عربي  ١٧٤.
٥٥  عثمان يحيى: نصوص تاريخية خاصة بنظرية التوحيد في التفكير الإسلامي  ٢٣٨.
٥٦  انظر في ذلك التمهيد الذي قدمنا به لدراستنا «الاتجاه العقلي في التفسير»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م.
٥٧  الفلسفة الصوفية لابن عربي ٩٠، وانظر أيضًا: ص٦٦ هامش رقم ١، وكذلك نظرية الإسلاميين في الكلمة  ٣٥، ٤٨.
٥٨  انظر: نظرية الإسلاميين في الكلمة  ٥٥-٥٦.
٥٩  انظر: إبراهيم إبراهيم هلال، التصوف الإسلامي بين الفلسفة والدين  ١٣٤-١٣٥.
٦٠  انظر عن فلسفة أفلوطين: R. T. Wallis, Neo-Platonism, pp. 47–72.
وانظر أيضًا: فؤاد زكريا، التساعية الرابعة لأفلوطين، المقدمة  ٢٧-٢٨، ٣٩-٤٠، ٣٢–٤٢.
وانظر أيضًا: نجيب بلدي، تمهيد لتاريخ مدرسة الإسكندرية وفلسفتها ١٣٦.
٦١  انظر عن اضطراب عصر أفلوطين: واليس، الأفلاطونية المحدثة  ٧–٢٨، وفؤاد زكريا  ٣٩.
٦٢  انظر: إبراهيم بيومي مدكور، في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه، الجزء الأول  ٤٠، ٥٢، ١٠٠. وانظر أيضًا: إبراهيم إبراهيم هلال، نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة، الجزء الأول، ٣٨-٣٩، ٤٦-٤٧.
٦٣  انظر: راحة العقل  ٥٢-٥٣.
٦٤  راحة العقل  ٦٠.
٦٥  انظر: راحة العقل  ١٠٦-١٠٧.
٦٦  راحة العقل  ١١٤.
٦٧  راحة العقل  ٨٢. وانظر أيضًا:
ed Madelung; Aspects of Isma’ili Theology.
ma’ili Contribution to Islamic Culture, p. 52.
٦٨  انظر: إبراهيم الدسوقي شتا، مقدمة جامع الحكمتين  ٦٣، وانظر أيضًا المرجع السابق  ٥٦-٥٧.
٦٩  إبراهيم شتا، المرجع السابق  ٥٤.
٧٠  انظر: كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع  ٤٤٩–٤٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤