الفصل الأول

الخيال المطلق

الوسيط الكلي أو الخيال المطلق
يمثل الخيال أو البرزخ في فكر ابن عربي مجمع الوسائط الأربع الأولى، وهي الألوهة والعماء والحقيقة الكلية والحقيقة المحمدية، وهي الوسائط التي سنتناولها هنا بالتفصيل. ولكن ما هو مفهوم الخيال أو البرزخ عند ابن عربي؟ يرفض ابن عربي أي تصور يؤدي إلى وجود أيِّ تعدد في مفهوم البرزخ أو الخيال. إنه من حيث ذاته يجب أن يكون واحدًا، ومن حيث توسطه بين طرفين متقابلين يجب أن يقابل كلًّا منهما بذاته لا بوجهين مختلفين متوحدين؛ إذ لو كان للبرزخ وجهان يقابل بكل واحد منهما جانبًا من جانبي الطرفين اللذين يتوسط بينهما، لكان هناك فاصل بين وجهيه أو جانبيه، وكان هذا الفاصل بدوره برزخًا داخل البرزخ، أو وسيطًا داخل الوسيط، مما يؤدي إلى تعدد في مفهوم البرزخ، أو يؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية. إن البرزخ يجب أن يكون واحدًا في ذاته غير منقسم، ويجب أن يقابل الطرفين اللذين يتوسط بينهما بذاته الواحدة؛ ولذلك فهو يجمع بينهما بذاته، أو لنقُل: يوحِّد بينهما. ومعنى ذلك أن البرزخ يؤدي وظيفة التوحيد بين المتقابلات، وهو لا يفعل ذلك بطريقة صناعية تمزج بينهما كما يمزج اللون الرمادي بين الأبيض والأسود، بل يفعل ذلك بذاته، فهو الأبيض في ذاته، والأسود في ذاته. يقول ابن عربي: «البرزخ يتوسَّع الناس فيه، وما هو كما يظنون، إنَّما هو كما عرَّفنا الله في كتابه في قوله في البَحْرَين — بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ — فحقيقة البرزخ ألا يكون فيه برزخ. وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته، فإن الْتقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلقى به الآخر، فلا بدَّ أن يكون بين الوجهين في نفسه برزخ يفرِّق بين الوجهين حتى لا يلتقيان، فإذن ليس ببرزخ، فإذا كان عين الوجه الذي يلتقي به أحدَ الأمرين الذي هو بينهما؛ عين الوجه الذي يلتقي به الآخر، فلذلك هو البرزخ الحقيقي. فيكون بذاته عينَ كل ما يلتقي به، فيُظهر الفصل بين الأشياء، والفاصل واحد العين. وإذا علمت هذا علمت البرزخ ما هو. ومثاله بياض كل أبيض، وهو في كل أبيضَ بذاته ما هو في أبيضَ ما بوجه منه ولا في أبيض آخرَ بوجه آخر، بل هو بعينه في كل أبيض. وقد تميَّز الأبيضان أحدهما عن الآخر، وما قابله البياض إلا بذاته، فعين الأبيض واحد في الأمرين، والأمران ما هو كل واحد عينُ الآخر. فهذا مثال البرزخ الحقيقي، وكذلك الإنسانية في كل إنسان بذاتها؛ فالواحد هو البرزخ الحقيقي، وما ينقسم لا يكون واحدًا. والواحد يَقْسِم ولا يُقْسَم؛ أي: لا ينقسم في نفسه، فإنه إنْ قبِل القسمة في عينه فليس بواحد. وإن لم يكن واحدًا لم يقابل كل شيء في الأمرين اللذين يكون بينهما بذاته. والواحد معلوم أنه ثَم واحدٌ بلا شك. والبرزخ يُعلم ولا يُدرَك ويُعقل ولا يشهد.»١

إن البرزخ كما يمثله ابن عربي في هذا النص بالبياض والإنسانية هو الكليات المعقولة التي تستدعي إلى الذهن حقيقةَ الحقائق؛ أحد مراتب هذا البرزخ كما سنرى. إنه موجود عقلي وليس موجودًا حسيًّا عينيًّا؛ ولذلك فهو يُعقل ولا يُشهد، ويُعلم ولا يُدرَك. إنه حضرة تتوسط بين حضرتين بالمعنى العقلي لا بالمعنى المكاني المحسوس، وهذه هي طبيعته الخاصة. أما وظيفته فهي الفصل بين الأمرين، والتوسط بينهما في نفس الوقت؛ الفصل بينهما باعتبار وجوده العقلي الذهني المتميز، والتوسط باعتبار وحدته الخاصة، ووجوده بذاته — في كل من الطرفين المتقابلين. البرزخ بهذا المفهوم مجرد تصور ذهني واحد في ذاته، يقوم بوظيفتي الوصل والفصل. وهذا المفهوم يجعل ابن عربي قادرًا على إعطاء البرزخ — أو الخيال — بُعدًا وجوديًّا — بالمعنى العقلي — دون أن يقع في أي كثرة حقيقية بالمعنى الحسي العيني. إن الخيال هو الفاصل بين الذات الإلهية والعالم، فهو بذلك يؤكد التمايز والثنائية، وهو من جانب آخر يتوسط بينهما بذاته، ويلتقي بكل منهما بذاته فيوحِّد بينهما.

والبرزخ — أو الخيال — باعتباره من المعقولات الكلية لا يتصف بوجود أو عدم، ولا يصح عليه النفي أو الإثبات، فهو فاصل بين الوجود والعدم، وبين النفي والإثبات، وبين العلم والجهل؛ إلخ كل هذه الثنائيات، «ولمَّا كان البرزخ أمرًا فاصلًا بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين مَنفيٍّ ومُثبَت، وبين معقول وغير معقول. سُمي برزخًا اصطلاحًا، وهو معقول في نفسه، وليس إلا الخيال، فإنك إذا أدركته وكنت عاقلًا تعلم أنك أدركت شيئًا وجوديًّا وقع بصرك عليه، وتعلم قطعًا بدليل أنه ما ثَم شيء رأسًا وأصلًا، فما هو هذا الذي أثبت له شيئية وجودية ونفيتَها عنه في حال إثباتك إياها؟ فالخيال لا موجودٌ ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا مَنفي ولا مثبَت.»٢
إن الخيال — أو البرزخ — قابل لكل الصفات المتقابلة، وجامع لكل الثنائيات المتعارضة. وإذا كان ابن عربي — كما قلنا — ينطلق من ثنائية أوَّلية بين الذات الإلهية والعالم، فإن الوسيط القادر على تلقِّي طرفي هذه الثنائية بذاته هو الخيال. والخيال بهذا الفهم حقيقة كلية معقولة تتوسط بين كل ما يتفرع عن هذه الثنائية الأولية من ثنائية ثانوية أو فرعية. وإذا كان الخيال باعتبار حقيقته العقلية يتحد بحقيقة الحقائق، فهو من حيث وظيفتُه البرزخية — من الجمع بين الأضداد والقابلية للوصف بكل المتعارضات — يتوحَّد بالألوهة التي هي جماع الأسماء الإلهية. ومن السهل — كما سنرى — أن يلتقي مفهوم الخيال أيضًا بحقيقة العماء وبالحقيقة المحمدية. وهذه الحقيقة المعقولة — الخيال — يمكن أن تسمى بهذه الأسماء كلها. وتعدد الأسماء عليها إنما يدل على جوانبَ مختلفة لذات الحقيقة الواحدة التي لا تكثُّر فيها بأي حال من الأحوال. وإلى جانب الأسماء السابقة يمكن أن يطلق عليها اسم عالم الجبروت؛ أي: العالم الفاصل بين عالم الملك وعالم الملكوت، أو عالم الشهادة وعالم الغيب، «فإنْ قلت: وما عالم البرزخ؟ قلنا: عالم الخيال، ويسميه أهل الطريق عالم الجبروت. وهكذا هو عندي.»٣ ومعنى ذلك أن مفهوم الخيال لا يقتصر على الوسائط الأربع التي يطلق عليها ابن عربي الخيال المطلق، بل يمتد ليشمل كل الوسائط؛ ابتداءً من عالم الخيال المطلق وانتهاءً إلى عالم الحس المدرَك.
ويمكننا أن نميز — مع ابن عربي — بين جانبين لهذه الحقيقة المعقولة التي يطلق عليها اسم الخيال أو البرزخ أو عالم الجبروت؛ الجانب الأول يتصل بالخيال بالمعنى السيكولوجي؛ باعتباره أداة إنسانية للإدراك والمعرفة. والجانب الثاني ما يمكن أن نطلق عليه الخيال الوجودي بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي. هذان الجانبان يطلق عليهما ابنُ عربي الخيال المتصل والخيال المنفصل. والعلاقة بينهما ليست علاقة انفصال أو تميز، بل الأحرى القول إنهما جانبان لحقيقة واحدة، وأن العلاقة بينهما هي علاقة الجزء (المتصل) بالكل (المنفصل). وإذا كان أبو العلا عفيفي قد أدرك كلًّا من الخيال المتصل والمنفصل تحت نوع الخيال السيكولوجي رغم انتباهه لوجود الخيال الميتافيزيقي،٤ فإننا من جانبنا نوحِّد — مع ابن عربي — بين الخيال المنفصل والخيال الوجودي بجانبَيه الفيزيقي والميتافيزيقي، ونعتبر أن الخيال المتصل وحده هو ما يمكن أن نطلق عليه الخيال بالمعنى السيكولوجي. يقول ابن عربي: «إن المتصل يذهب بذَهاب المتخيل، والمنفصل حضرة ذاتية قابلة دائمًا للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها، لا يكون غير ذلك. ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل. والخيال المتصل على نوعين: منه ما يوجد عن تخيل، ومنه ما لا يوجد عن تخيل؛ كالنائم ما هو عن تخيل ما يراه من الصور في نومه. والذي يوجد عن تخيُّل ما يمسكه الإنسان في نفسه؛ من مثل ما أحس به أو صوَّرته القوة المصوِّرة إنشاءً لصورة لم يدركها الحس من حيث مجموعها، لكن جميع آحاد المجموع لا بدَّ أن يكون محسوسًا.»٥

إن الخيال المتصل يرتبط بالمتخيِّل ويذهب بذَهابه، والمتخيل في هذه الحالة هو الإنسان، والخيال المتصل هو الخيال بالمعنى السيكولوجي. هذا الخيال قد يكون عن غير تخيُّل، مثل الصور التي يراها الإنسان في حالة النوم. هذه الصور لا تتشكل بفعل إرادي، بل تتم بطريقة عفوية حين تسكن الحواس، وتنشَط هذه القوة في الإنسان بفعل النوم. أما الخيال الناتج عن تخيل فهو فعل إرادي قادر على الاحتفاظ بالصور المدركة بالحس، أو التأليف بينها، وإبداع صورة جديدة ليس لها وجود حسي، وإن انتُزعت عناصرها المختلفة من الصور الحسية.

ويمتد مفهوم الخيال المنفصل — كما قلنا — ليشمل كل مراتب الوجود من أعلاها، وهو الخيال المطلق أو الخيال الميتافيزيقي، إلى أدناها؛ وهو العالم الحسي. هو الحضرة الذاتية القابلة للمعاني والأرواح فتجسِّدها بخاصيتها كما يقول ابن عربي في النص السابق. وإذا كان الوجود في تصور ابن عربي في خلق دائم جديد نحن في لَبْس منه بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، فالحضرة الخيالية حضرة دائمة مستمرة في الدنيا والآخرة. ويهمنا هنا التركيز على الجانب الميتافيزيقي للخيال الوجودي، وهو الذي يطلق عليه ابن عربي الخيال المطلق أو برزخ البرازخ. إن هذا الخيال يمثل الحضرة المعقولة التي تجلَّى فيها الحق بأعيان صور الممكنات. هي مرتبة التمثُّل الإلهي من الوحدة الذاتية المطلقة إلى التعين المحدود بمراتبه المختلفة. هي الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية. هو عالم الجبروت المقابل بطبيعته الخاصة لجانبَي الإطلاق والتحدد، والوحدة والكثرة. لذلك كله يعتبِر ابن عربي حضرة الخيال أوسع الحضرات؛ لأنها تقبل كل شيء بذاتها، حتى المحال الذي لا يُتصور وجوده. وإذا كان ابن عربي يقيم تفرقةً حادة بين الذات الإلهية والعالم، فإن هذه التفرقة تضيق إلى حد الاختفاء؛ وذلك عن طريق هذا الوسيط الكلي الذي ينتظم الوسائط كلها؛ إذ من خلال هذه الوسائط يتجلَّى الحق في صور أعيان الممكنات. وليست هذه الوسائط — كما سنرى — سوى وسائطَ خيالية أو برزخية؛ باعتبار أن كلًّا منها يقابل الحق بذاته وعينه التي بها يقابل الخلق، «فما أوسع حضرة الخيال، وفيها يظهر وجود المحال، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجودُ المحال، فإن الواجب الوجود، وهو الله تعالى، لا يقبل الصورة وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة، فقد قبِل المحالُ الوجودِ الوجودَ في هذه الحضرة.»٦

وإذا كانت كلمة «الحضرة» في هذا النص يمكن أن تنطبق على الحضرة الوجودية للخيال المتصل الإنساني، الذي يقيِّد الحق بالصورة، كما تنطبق على حضرة الخيال المنفصل الوجودي، فإن ذلك لا يتعارض مع ما نحن بصدده من تحليل الجوانب المختلفة للخيال المنفصل الوجودي. وإذا كانت حضرة الخيال عمومًا — متصلًا كان أم منفصلًا — لها قوة الجمع بين الإطلاق والتقييد؛ لأنها تتصرف في الواجب والمحال والجائز، فهي قوة إلهية، إلى جانب كونها قوةً إنسانية. ويجب ألا يغيب عن بالنا دائمًا أن التفرقة في نظر ابن عربي اعتبارية لا حقيقية.

ويتجلى جانب الخيال الإلهي في كونه قوةً بواسطتها أو من خلالها يتصرف الحق في المعلومات.٧ وإذا كان العالم موجودًا وجودًا أزليًّا في علم الله، فإن عملية إيجاد العالم من حالته العلمية إلى حالته العينية، أو من المعقول إلى المحسوس، إنما تتم عن طريق التجلي الإلهي في الخيال بمراتبه المتعددة. ومعنى ذلك أن الخيال المطلق هو القوة الإلهية الخلاقة التي تُظهِر المعقولات في صور المحسوسات عن طريق التجلي الإلهي من خلال الوسائط المعقولة المختلفة. والخلق — في ظل هذا الفهم — ليست عملية إيجاد من عدم، بل هو نتاج التخيل الخلاق للذات الإلهية. وإذا جاز لنا أن نطبِّق مفاهيم الخيال المتصل على الذات الإلهية، قلنا: إن وجود العالم، وجودًا علميًّا في العلم الإلهي، يمثل حالة الاتصال في مرتبة الأحدية المطلقة التي لا كثرة فيها بأي حال من الأحوال؛ بمعنى أن العالم كان موجودًا في الخيال المتصل الإلهي. وحين انفصل هذا الوجود الخيالي المتصل في مراتب التجليات المختلفة غير المتميزة زمانيًّا؛ تحوَّل إلى خيال منفصل هي صور أعيان الممكنات بمراتبها المختلفة. ومن الطبيعي بعد ذلك أن يشبِّه ابن عربي العالم بخيال الستارة أحيانًا، ويجعله كله مجرد صور خيالية منصوبة في أحيان أخرى: «فالعالم كله في صور مُثُل منصوبة؛ فالحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال، ثم تُقسِّم ما تراه من الصور إلى محسوس ومتخيل، والكل متخيل، وهذا لا قائل به إلا من أُشهِدَ هذا المشهد.»٨ والفارق بين التمثُّل الخيالي الإلهي والخيال الإنساني؛ أن الخيال الإلهي المنفصل لا يذهب ولا يفنى؛ لأن المتخيِّل نفسه، وهو الله، باقٍ أزلي. وإذا كان الانتقال من حالة الاتصال في العلم إلى حالة الانفصال الوجودي يتم عن طريق التجليات، أو التمثلات الخيالية، فإن هذه التجلياتِ الدائمةَ نفسها هي التي تحفظ على هذه الصورة البرزخية الخيالية دوامَها واستمرارها. هذه التجليات أو التمثلات المستمرة هي عملية الخلق الجديد الذي نحن في لَبْس منه، وهي أيضًا شئون الحق التي لا يدركها سوى قلب العارف الذي يتنوع بتنوع هذه التجليات. وسنبدأ في الفقرات التالية بتحليل المراتب الأربع الأولى؛ وهي مراتب الخيال المطلق:

(١) الألوهة

تمثل فكرة الألوهة أحد مستويات البرزخ أو الوسيط بين الذات الإلهية والعالم، إنها الحضرة الجبروتية التي تتوسط بين الذات الإلهية والعالم، وتقابل كلًّا منهما بذاتها، «ونسبة هذا الجبروت إلى الحق نسبة لطيفة لا يشعر بها كثير من الناس، وهو أن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين؛ فالألوهة في الجبروت البرزخي تقابل الخلق بذاتها، وتقابل الحق بذاتها؛ ولهذا لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل، فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق، ولها إلى الذات وجه به تظهر للذات؛ فلا يعلم المخلوق الذاتَ إلا من وراء هذا البرزخ، وهو الألوهة. ولا تحكم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ؛ وهو الألوهة. فتحققناها فما وجدنا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحسنى، فليس للذات جبر في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية. ولا يُعرف مِن الحق غيرُ هذه الأسماء الإلهية، وهي أعيان هذه الحضرات.»٩

الألوهة إذن وسيط أو برزخ بين الذات الإلهية والعالم. وهي تقابل كلًّا منهما بذاتها، فتتوسط وتفعل بينهما بذاتها. هي الفاصل والوسيط الوجودي والمعرفي في نفس الوقت، فلا فعل للذات في هذا العالم إلا من خلال هذا الوسيط، ولا تتعلق من جهة العالم أيُّ معرفة بالذات إلا من خلال هذا الوسيط أيضًا. وعلى ذلك فالألوهة — باعتبارها وسيطًا وبرزخًا — تحفظ التمايز بين الطرفين، كما أنها تجمع بينهما من خلال وساطتها. إنها لا توحِّد بين الذات والعالم وتُلغي ثُنائيتها، بل الأحرى القول إنها تجمع بينهما، كما تحفظ لكل منهما استقلاله المتميز في نفس الوقت. وعلى ذلك تظل الذات الإلهية والعالم في علاقة ثنائية قائمة على الانفصال التام الذي لا سبيل إلى تجاوزه. هذا الانفصال التام يؤكده الوجود المتميز المستقل لوسيط الألوهة هذا، حتى لو كان وجودًا ذهنيًّا لا عينيًّا؛ إذ الوجود الذهني أحد مراتب الوجود عند ابن عربي كما سنرى.

مثل هذا التوسط لوسيط الألوهة لا يتناقض مع ما يَشيع في كتابات ابن عربي عن وحدة الوجود الشاملة التي يعبر عنها ابن عربي كثيرًا؛ من خلال تعبيرات مجازية تصويرية أوقعت الباحثين في كثير من الاضطراب، وألجأتهم في أحيان كثيرة إلى إغفال قيمتها والتهوينِ من شأنها وقيمتها الفلسفية.١٠ وإذا أخذنا مثالًا واحدًا من هذه التعبيرات التصويرية، وهو مثال المرايا المتعددة التي تعكس شيئًا واحدًا فتتعدد صورُه وتختلف تبعًا لتعدُّد المرايا واختلاف طبائعها، لأدركنا أن المثال — بمعناه الحرفي — يدل دلالة واضحة على معنى الوحدة الوجودية عند ابن عربي. وهي وحدة قائمة على أساس وجود وسائط مختلفة — هي المرايا المتعددة المختلفة في طبيعتها — يتمثل فيها الشيء (أو الذات الإلهية) فتتعدد الصور تبعًا لتعدد المرايا، ولا يعني ذلك أيَّ تعدُّد في جانب الذات الإلهية نفسها. إن وسائط المرايا هي الوسائط الخيالية، وهكذا يجب أن تُفهَم وحدة الوجود عند ابن عربي؛ بدلًا من فهمها في ضوء تصورات فلسفية قَبلية كما أشرنا قبل ذلك. ومما يؤكد وجود الوسائط أو القوابل أن ابن عربي يردُّ على الفلاسفة قولهم باستحالة صدور الكثرة عن الواحد؛ على أساس أن الكثرة إنما ترتد إلى القوابل المختلفة، لا إلى الواحد من حيث ذاته، «واعلم أن الشيء الواحد العين إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة، فإن ذلك من حيث القوابل لا من حيث عينه. ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطُل قولُ الحكيم لا يصدر عن الواحد إلا الواحد.»١١
إن معضلة ثنائية الله والعالم قد طُرحت عند كلٍّ من الفلاسفة والمتكلمين قبل ابن عربي. وكان السؤال هو: كيف صدرت الكثرة عن الواحد، والمُحدَث عن القديم، والمعدوم عن الموجود، والفاني عن الباقي؟ وكلها أسئلة تفترض تمايزًا حادًّا وانفصالًا تامًّا بين الله والعالم. وكانت وسيلة ابن عربي المتميزة للتقريب بين طرفي هذه الثنائية هي وسيط الألوهة، التي هي بدورها إحدى الوسائط التي نحن بصدد تحليلها. تمثل فكرة الألوهة المرتبة الأولى للوسيط بين الله والعالم؛ هي التجلي الأقدس من مرحلة الأحدية (الوحدة المطلقة) إلى مرحلة الوحدانية (الكثرة المتوحِّدة). الذات الإلهية في مرتبة الأحدية تقف بمعزل عن العالم وعن أي معرفة وأي إدراك؛ وذلك لامتناع المناسبة بين هذه الذات والعالم أو الإنسان. ويستند العالم في وجوده إلى مرتبة الألوهة لا إلى الذات؛ لأن المناسبة بين الألوهة والعالم موجودة. الألوهة تتطلب المألوه كما تتطلب الأبوةُ البنوة. أما الذات الإلهية فلا مناسبة بينها وبين العالم، «والمناسبة بين الخلق والحق غير معقولة ولا موجودة، فلا يكون عنه شيء من حيث ذاته، ولا يكون عن شيء من حيث ذاته، وكل ما دل عليه الشرع أو اتخذه العقل دليلًا إنما متعلقه الألوهة لا الذات. والله من كونه إلهًا هو الذي يستند إليه الممكن لإمكانه.»١٢ العالم الممكن إذن يستند إلى الألوهة ولا يستند إلى الذات. والذات — من جانب آخر — لا يمكن أن تُعرف ماهيتُها وإنْ عُرف وجودها: «وأما أحدية الذات في نفسها فلا تُعرف لها ماهية حتى يُحكَم عليها؛ لأنها لا تشبه شيئًا في العالم ولا يشبهها شيء.»١٣ وكل ما يصل إليه الكون أو الإنسان من معرفة هذه الذات إنما هي صفات سلوبية تعتمد على النفي. وكل الصفات الثبوتية التي ينسُبها المتكلمون — خطأً — إلى الذات الإلهية إنما هي صفات الألوهة: «إن الكون لا تعلُّقَ له بعلم الذات أصلًا، وإنما متعلقه العلم بالمرتبة، وهو مسمى الله، فهو الدليل المحفوظ الأركان الشاهد على معرفة الإله، وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال، ونعوت الجلال، وبأية حقيقة يصدُر الكون من هذه الذات المنعوتة بهذه المرتبة المجهولة العين والكيف. وعندنا لا خلاف في أنها لا تُعلم، بل يطلق عليها نعوت تنزيه صفات الحدث، وأن القِدم لها، والأزل الذي يطلق لوجودها إنما هي أسماء تدل على سُلوب من نفي الأولية وما يليق بالحدوث. وهذا يخالفنا فيه جماعة من المتكلمين الأشاعرة، ويتخيلون أنهم قد علموا من الحق صفة نفسية ثبوتية، وهيهات أنَّى لهم بذلك!»١٤
إن الألوهة — في ظل هذا التصور — تمثل فاصلًا ووسيطًا وجوديًّا ومعرفيًّا بين الذات الإلهية والعالم. وهذا الفصل بين الذات والألوهة قد يوقِع ابن عربي في ثنائية الذات والصفات، وهي الثنائية التي دار عليها علمُ الكلام، واختلف حولها المعتزلة والأشاعرة. ولكن ابن عربي يتجاوز هذه الثنائية؛ لأنه لا يعتبر الألوهة كيانًا منفصلًا قائمًا بذاته له وجود عيني مستقل، بل هي مجموع الأسماء الإلهية الكامنة في هذه الذات والتي تتوق إلى الظهور. إنها نسب وإضافات لا تعني كثرةً عينية في هذه الذات: «وكل حكم يثبُت في باب العلم الإلهي للذات إنما هو للألوهية، وهي أحكام ونِسب وإضافات وسلوب، فالكثرة في النسب لا في العين.»١٥ إن الألوهة هي مجموع الأسماء الإلهية، وهي ليست زائدة على هذه الذات؛ لأنها ليست أعيانًا وجودية منفصلة. ومن جهة أخرى فهذه الأسماء ليست علة لألوهية الذات: «ولو كانت الصفات أعيانًا زائدة وما هو إله إلا بها، لكانت الألوهية معلولة بها، فلا يخلو أن تكون هي عين الإله، فالشيء لا يكون علة لنفسه، أو لا تكون، فالله لا يكون معلولًا لعلة ليست عينه، فإن العلة متقدمة على المعلول بالرتبة، فيلزم من ذلك افتقار الإله من كونه معلولًا لهذه الأعيان الزائدة التي هي علة له، وهو محال. ثم إن الشيء المعلول لا يكون له علتان، وهذه كثيرة، ولا يكون إلهًا إلا بها، فبطَل أن تكون الأسماء والصفات أحيانًا زائدة على ذاته، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.»١٦ ولكن ما معنى أن الألوهة — الأسماء والصفات الإلهية — نسب وأحكام لا عين لها؟ وما هي علاقة هذه النسب والأحكام بالذات؟
يرى ابن عربي أن هناك صفة ثبوتية واحدةً للذات الإلهية؛ هي صفة الاستغناء الذاتي، تقابلها للممكن (العالم) صفةٌ ثبوتية نقيضة؛ هي الافتقار الذاتي. والعلاقة بين الصفتين — الاستغناء والافتقار — هي علاقة الإله بالمألوه. ومن هذه العلاقة الأولية القائمة على الانفصال الكامل بين طرفيها تبدأ مجموعة من العلاقات المشتركة بين الذات والعالم عن طريق وسيط الألوهة، هذا الذي ليس بدوره سوى مجموع هذه العلاقات. إن التقابل والتضاد بين صفتَي الاستغناء والافتقار هو القطب الجاذب لمجموعة العلاقات التي تستهدف التوسط بين هذين النقيضين. هذه العلاقات هي ما يعطي للألوهة الكثرة الأسمائية، وإن كانت واحدة في ذاتها. تتكثَّر الأسماء لتكثُّر التعلقات، وليس معنى كثرة الأسماء الدالة على هذه التعلقات أن الألوهة تتكثر في ذاتها، فهي — في النهاية — صفة ثبوتية واحدة: «افتقار الممكن للواجب بالذات والاستغناء الذاتي للواجب دون الممكن يسمى إلهًا. وتعلقها بنفسها وبحقائق كل محقَّق، وجودًا كان أو عدمًا، يُسمى علمًا. تعلقها بالممكنات من حيث ما هي الممكنات عليه يُسمى اختيارًا. تعلقها بالممكن على التعيين يسمى إرادة. تعلقها بإيجاد الكون يسمى قدرة. تعلقها بإسماع المكوَّن لكونه يسمى أمرًا … تعلقها بإسماع المكوَّن لصرفه عن كونه أو كون ما يمكن أن يصدر عنه يسمى نهيًا … تعلقها بكيفية النور وما يحمله من المرئيات يسمى بصرًا أو رؤية. تعلقها بإدراك كل مدرَك الذي لا يصح تعلقٌ من هذه التعلقات كلها إلا به يسمى حياة. والعين في ذلك كله واحدة، تعددت التعلقات لحقائق المتعلَّقات والأسماء للمسميات.»١٧ ومعنى ذلك أن الألوهة هي مجموع الأسماء التي تدل على التعلقات بين الذات الإلهية والعالم. وهي رغم الكثرة الأسمائية تقوم على الوحدة الذاتية. ولكن كيف يمكن لابن عربي أن يحلَّ معضلة القِدم والحداثة ويتغلب — من خلال وسيط الألوهة — على مثل هذه الثنائية؟
إذا كانت الألوهة متعلقة بالعالم، والعالم محدَث، فهذا سيؤدي بابن عربي بالضرورة إلى أحد أمرين: إلى اعتبار الألوهة محدَثة، أو إلى القول بقِدم العالم. وكلا الأمرين يتعارض بشكل جذري مع الفكر الديني الذي ينطلق منه ابن عربي. ولكن من اليسير على ابن عربي أن يتغلب على مثل هذه الصعوبة؛ ما دامت الألوهة مجموعة من النسب والإضافات لا أعيان لها. إن الألوهة أحكام، والأحكام لها جانبان: جانب من حيث هي إمكانيات لم يُتَح لها الظهور، وجانب من حيث ظهورها في معطًى حسي مدرك مباشر. الحكم في الحالة الأولى ضمني باطن، وفي الحالة الثانية واضح ظاهر. المثال الذي يمكن أن يوضح هذه القضية حكمُ الأبوَّة في الذكر والأمومة في الأنثى؛ فقبل ظهور الابن يكون الحكم ضمنيًّا باطنًا باعتباره إمكانًا، وحين يظهر أو يولد مولود لرجل أو امرأة يتحقق الحكم الباطني الضمني، ويتحول إلى حكم واضح ظاهر لظهور الولد، وهو المعطى الحسي الذي تتجسد من خلاله أحكامُ الأبوة أو الأمومة. الذات الإلهية — في مرحلة الأحدية المطلقة — تتضمن الألوهة في باطنها باعتبارها أحكامًا ضمنية؛ وعلى ذلك يمكن القول إن الألوهة — من حيث هي باطن الذات الإلهية — قديمة. وهي من حيث ظهورها وتعلقها بإيجاد أعيان الممكنات محدَثة. والعالم — من جانب آخر — يخضع لهذين الاعتبارين؛ فهو محدَث من حيث الظهور، وقديم من حيث بطونه في العلم الإلهي، ومن حيث إنه المظهر الذي تبرز به الألوهة من بطونها في الذات؛ وعلى هذا يرفض ابن عربي أن ينسب صفة الاختراع إلى الله؛ على أساس أن الاختراع هو حدوث المعنى المخترَع في نفس المخترِع، وإيجاد الله للعالم إنما تم على أساس علمه السابق به، وهو علم قديم وليس حادثًا: «سألني وارد الوقت عن إطلاق الاختراع على الحق تعالى، فقلت له: علم الحق بنفسه عين علمه بالعالم، وإذا لم يزل العالم مشهودًا له تعالى وإن اتصف بالعدم، ولم يكن العالم مشهودًا لنفسه؛ إذ لم يكن موجودًا. وهذا بحر هلك فيه الناظرون الذين عدموا الكشف … فعَلِم العالم في حال عدمه وأوجده على صورته في علمه.»١٨
وليس هناك مِن فارق أساسي عند ابن عربي بين الوجود في العلم والوجود المادي الظاهر؛ إذ هما مرتبتان للوجود؛ أي: إن الوجود في العلم الإلهي والوجود العياني الحسي مرتبتان لحقيقة وجودية واحدة. ومن هنا يصح القول بأن العالم قديم طبقًا لوجوده العلمي. ويصح بنفس الدرجة القول بأنه مُحدَث طبقًا لوجوده الحسي الظاهر. والأساس الذي ينطلق منه ابن عربي أن الوجود ليس صفة إضافية زائدة تضاف إلى الشيء، وإنما هي عين الشيء نفسه: «إن الوجود والعدم ليسا بشيء زائد على الموجود والمعدوم، لكن هو نفس الموجود والمعدوم، لكن الوهم يتخيل أن الوجود والعدم صفتان راجعتان إلى الموجود والمعدوم، ويتخيلهما كالبيت والموجود والمعدوم قد دخلا فيه؛ ولهذا نقول قد دخل الشيء في الوجود بعد أن لم يكن. وإنما المراد بذلك عند المتحذلقين إنما معناه أن هذا الشيء وُجد في عينه، فالوجود والعدم عبارتان عن إثبات الشيء أو نفيُه.»١٩ ويفرِّق ابن عربي — من زاوية أخرى — بين مرتبتين للوجود: هما الوجود المطلق، وهو وجود الذات، والوجود المقيد، وهو الوجود العياني الحسي للعالم. والفارق بينهما أن الوجود المطلق هو الوجود الحق، منبعُ كلِّ وجود، هو النور الذي يسطع على الممكنات، فيُخرجها من حيِّز العدم الإمكاني إلى حيِّز الوجود الفعلي. وتنبع قابلية الممكن للوجود — دون العدم — من وجوده في علم الله؛ ومعنى ذلك أن له وجهًا ونسبةً إلى الوجود الحق تُغلِّب جانب الوجود فيه على جانب العدم فيقبل الوجود الظاهر، ويصبح وجوده — بالنسبة إلى الوجود الحق المطلق — وجودًا إضافيًّا بالمرتبة. وإذا كان الوجود العلمي يمثِّل أحد مراتب الوجود الأربع، وهي العيني والعلمي واللفظي والرقمي،٢٠ فمن الطبيعي أن يصح وصف العالم بالقدم على أساس مرتبة الوجود العلمي، ويصح أيضًا وصفُه بالحدوث على أساس مرتبة الوجود الحسي؛ إذ كلتاهما مرتبتان أو نسبتان لحقيقة واحدة.
وإذا صح أن يوصف العالم بالقِدم وبالحدوث معًا بالنسبة وبالإضافة، فإنه يمكن بنفس الدرجة وصفُه بالعدم وبالوجود؛ فقد كان معدومًا في الوجود الحسي موجودًا في الوجود العلمي؛ أي: معدومًا بالنسبة لمرتبة ما من مراتب الوجود، موجودًا بالنسبة لمرتبة أخرى؛ أي: موجودًا معدومًا بالنسبة والإضافة من حيث هو وجود مضاف. ومثل هذا التقسيم لا يصح على الوجود المطلق الحق، بل يصح فقط على الوجود الإضافي المقيد: «إذا ثبت عين الشيء أو انقضى، فقد يجوز عليه الاتصافُ بالعدم والوجود معًا؛ وذلك بالنسبة والإضافة، فيكون زيد الموجود في عينه موجودًا في السوق معدومًا في الدار. فلو كان العدم والوجود من الأوصاف التي ترجع إلى الموجود، كالسواد والبياض، لاستحال وصفه بهما معًا، بل إذا كان معدومًا لم يكن موجودًا، كما أنه إذا كان أسودَ لا يكون أبيض. وقد صح وصفه بالعدم والوجود معًا في زمان واحد. هذا هو الوجود الإضافي والعدم مع ثبوت العين. فإذا صح أنه ليس بصفة قائمة بموصوف محسوس ولا بموصوف معقول وحده دون إضافة، فثبت أنه من باب النسب والإضافات.»٢١
إن الألوهة — كما أشرنا — ليست إلا مجموعة من العلاقات والنسب لا أعيان لها؛ أي: ليس لها وجود حسي عياني مستقل، بل وجودها بالأحرى مجرد وجود عقلي مفهوم. ونتيجة لذلك فهي تقع في دائرة وسطى بين الوجود الحق (الذات الإلهية) والوجود المقيد المضاف (العالم). ويصعب، والحالة هذه، أن توصف بوجود أو عدم بالمعنى الحسي، وهذا يستدعي في الذهن معقولية الخيال ووظيفته الوسطية التي تفصل وتجمع في نفس الوقت. ومن الطبيعي، والحالة هذه، أن تكون الألوهة أمرًا ثالثًا بين الوجود المطلق والوجود المقيد المضاف. هذا الأمر الثالث «لا يتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم، وهو مقارن للأزلي الحق أزلًا؛ فيستحيل عليه أيضًا التقدم الزماني على العالم والتأخر كما استحال على الحق وزيادة؛ لأنه ليس بموجود، فإن الحدوث والقِدم أمر إضافي يوصل إلى العقل حقيقةً ما؛ وذلك أنه لو زال العالم لم نطلق على الواجب الموجود قديمًا — وإن كان الشرع لم يجئ بهذا الاسم؛ أعني القديم وإنما جاء باسمه الأول والآخر — فإذا زُلتَ أنت لم يقلْ أولًا ولا آخرًا؛ إذ الوسط العاقد للأولية والآخرية ليس ثَم، فلا أولَ ولا آخر. وهكذا الظاهر والباطن وأسماء الإضافات كلها، فيكون وجودًا مطلقًا من غير تقييد بأولية أو آخرية.»٢٢ ومعنى ذلك أن الأسماء الإلهية — ومجموعها الألوهة — لا تمثل وجودًا إضافيًّا كالعالم، بل هي مجرد نسب وإضافات لا وجود لها. إنها مجموعة من العلاقات تربط بين كينونتين: الكينونة الأولى هي الذات الإلهية بوجودها المطلق، والكينونة الثانية هي العالم بوجوده العيني المضاف، لا بوجوده العلمي الأزلي. إن هذه النسب والإضافات هي التي تقيِّد إطلاق الذات الإلهية، فتجمع بينها وبين العالم.

نحن إذن في مواجهة ثلاثية تحُلُّ محل الثنائية القديمة في الفكر الديني. والوسط الذي يجمع بين طرفي هذه الثنائية القديمة هو الألوهة المعقولة التي هي مجموعة من النسب والإضافات لا أعيان لها. وليس معنى ذلك أننا في مواجهة ثلاث كينونات مستقلة منفصلة، بل الأحرى القول إننا في مواجهة ثلاث مراتب لحقيقة واحدة؛ هي الوجود الحق المطلق. إذا نظرنا لهذه الحقيقة في مرتبة الإطلاق والتجرد قلنا «الذات». وإذا نظرنا إليها من حيث أحكامها الباطنة المعقولة قلنا «الألوهة». وإذا نظرنا إليها من حيث ظهور هذه الأحكام في حقائق حسية كثيرة قلنا «العالم». فهذه إذن ثلاث مراتب للوجود يمكن أن نطلق عليها الوجود الذاتي (الذات) والوجود العقلي (الألوهة) والوجود العياني الحسي (العالم).

قد نحس في بعض نصوص ابن عربي نزوعًا حسيًّا في وصف الأسماء الإلهية حالةَ توجُّهِها إلى إيجاد العالم، كما لو كانت كائنات حسية مستقلةً لها وجود مادي، ولكن علينا أن نحذر السقوط في مَهاوي مثل هذه التعبيرات الحسية،٢٣ وعلينا أن نستجيب لنصيحة ابن عربي، وألا نتوقف عند المستوى الظاهر في كتاباته دون النَّفاذ إلى المستوى الباطن الذي لا يفتأ ينبهنا إليه. وابن عربي يميل كثيرًا إلى تصوير المعاني في صور حسية؛ «إذ المعنى إذا أُدخل في قالب الصورة والشكل تعشَّق به الحس، وصار له فرجة يتفرَّج عليها ويتنزه فيها، فيؤديه ذلك إلى تحقيق ما نُصِب له ذلك الشكل وجسِّدت له تلك الصور.»٢٤ وهذا يفسِّر لنا غرام ابن عربي برسم الدوائر والتخطيطات والأشكال في كثير من كتبه.٢٥
المحذور الآخر الذي يجب أن نتوقَّاه هو أن نتصور أن هذه المراتب المختلفة للوجود، وهي الذات والألوهة والعالم، تقوم على نوع من التدرج الزماني؛ بمعنى أن الذات كانت موجودة أولًا ثم وُجدت الألوهة، أو بالأحرى ظهرت للوجود ثم ظهر العالم. مثل هذا التصور لا يستقيم مع فكر ابن عربي. إن العلاقة بين هذه المراتب الوجودية الثلاث ليست علاقة علة بمعلول أو سبب بنتيجة، وليس هناك أيُّ تفاوت في الزمن بين هذه المراتب؛ إذ لا مدخل للزمن في التجليات، بل الزمن أمر نسبي وهمي مرتبط بهذا العالم الحسي، ونسبة الأزل إلى الله كنسبة الزمن إلينا. ولمَّا كانت نسبة الأزل لله نسبةً غير وجودية، حيث إنها نعت سلبي، فلا بد أن يكون الزمان أمرًا متوهَّمًا لا موجودًا.٢٦ وعلى ذلك يتجنب ابن عربي استخدام كلمة الخلق أو الإبداع أو الاختراع، فكلها ألفاظ توهِم أسبقية العدم على الوجود. ويستخدم ابن عربي — بدلًا من ذلك — مصطلح «التجلي»، فمن التجلي الأقدس ظهرت الأسماء الباطنة، وعن التجلي المقدس ظهر العالم بمراتبه المختلفة، دون أيِّ فارق زمني، فالأمر — كما سبقت الإشارة — مثل لمح البرق.

وإذا كانت الألوهة ليست إلا مجموعةً من النسب والإضافات تربِط بين الوحدة والكثرة، فلا بدَّ أن يكون لها جانبان: جانب إلى الوحدة، وجانب إلى الكثرة؛ حتى تجمع بين جانبَي هذه الثنائية، كما جمعت بين ثنائيات الإطلاق والتحديد، والقِدم والحداثة، والوجود والعدم. وتنبع كثرة الألوهة من تعددها من حيث النسب والإضافات والعلاقات التي تعبر عنها. أما وَحدتها فهي دلالتها على علاقة الاستغناء من جانب المطلق والافتقار من جانب المقيد. هذه العلاقة هي الألوهة في وحدتها الذاتية، إنها واحدة من حيث دلالتها على الصفة الثبوتية النفسية الإلهية، وهي صفة الاستغناء. هذه الصفة لا تتعلق بشيء وجودي عياني، وإنما تتعلق بنقيضها العقلي وتدل عليه، وهي صفة الافتقار من جانب الممكنات الموجودة — أزلًا — في علم الله. هذه العلاقة (الاستغناء والافتقار) هي الألوهة، ويدل عليها الاسم «الله».

واسم الله يدل على الألوهة، كما يدل على جميع حقائقها المتكثِّرة في نفس الوقت، فهو الاسم الجامع. ودلالته على الحقائق الكثيرة هي دلالة ضمنية من حيث جمعيته المتضمنة في وحدته الذاتية، «فالإمام المقدم الجامع اسمه الله، فهو الجامع لمعاني الأسماء كلها، وهو دليل الذات، فنزَّهناه كما نزَّهنا الذات. وأيضًا فإنه من حيث ما وضع جامعُ الأسماء. فإنْ أخذناه لكونٍ ما من الأكوان فما نأخذه من حيث ما وُضع له، وإنما نأخذه من جهة حقيقةٍ ما من حقائقه التي هو مهيمن عليها. ولتلك الحقيقة اسم يدل عليها من غير اسم الله، فلنأخذها من جهة ذلك الاسم الذي لا يحتمل غيرها، ونبرز الكون منها، ونترك اسم الله على منزلته من التقديس. فإذا تقرر هذا وخرج الاسم الجامع عن التعلُّق بالكون، وبقي على مرتبته حتى لا تبقى حقيقة إلا برزت، فحينئذٍ يظهر سلطان ذاته كليًّا.»٢٧ ومعنى ذلك أن الاسم الجامع (الله) هو اسم لا تعلُّق له بالكون، وإن كان يمكن أن يدلَّ على جميع الأسماء التي تتعلق تعلقًا مباشرًا بالكون. فهذا الاسم يدل على ألوهية الذات، أو على مرتبة الألوهة في جمعيتها ووحدتها. وهذه المرتبة تتطلب الكون بالقوة لا بالفعل. أما باقي الأسماء الإلهية، والتي تمثل كثرة الألوهة، فتتطلب الكون بالفعل لا بالقوة. فإذا أورِد اسم «الله» متعلقًا بكون من الأكوان، فهو إنما يدل في هذه الحالة على الاسم الخاص المتعلق بهذا الكون، ولا يدل على الجمعية الإلهية.

إن للألوهة بهذا الفهم جانبين: جانب الوحدة متمثلًا في اسم الله، وجانب الكثرة متمثلًا في باقي الأسماء الإلهية المتعلقة بالكون. والعلاقة بين الجانبين لا تقوم على الانفصال، فالكثرة متضمَّنة في الوحدة بالقوة، فهما جانبان لحقيقة واحدة تشير في جانب منها إلى الذات، وتشير في جانب آخر إلى العالم. وهكذا تتأكد الوظيفة الوسطية أو البرزخية لمفهوم الألوهة؛ حيث تجمع بين عديد من الثنائيات وتوحِّد بينهما بذاتها، كما أنها في نفس الوقت تفصِل وتعزل بين هذه الثنائيات. إن مهمة هذا الوسيط هي تنزيه الذات الإلهية — من حيث هي — عن الانغماس في شئون العالم.

ويمكن لنا القول أخيرًا إن الألوهة — في فهم ابن عربي — يمكن أن تساويَ العلة الفاعلة عند الفلاسفة، مع فارق هام أنها — أولًا — علة ميتافيزيقية، وأنها — ثانيًا — لا تنفصل عن الواحد بوجود مستقل متميز. والأهم من ذلك أن هذا المفهوم يسمح لابن عربي بحل كثير من المعضلات التأويلية؛ خاصةً ما يرتبط منها بالآيات التي اعتُبرت متشابهة في القرآن كما سنعرض له بالتفصيل.

(٢) حقيقة الحقائق الكلية

تمثِّل حقيقة الحقائق أحدَ تجليات الوسيط — أو البرزخ — بين الذات الإلهية والعالم. وتكمن وساطتها — أو برزخيتها — في أنها تمثل محتوى العلم الإلهي أو معلومه القديم. وإذا كان ابن عربي يفرِّق بين العلم والمعلوم ويرى أن العلم هو «عبارة عن حقيقة في النفْس تتعلق بالمعدوم والموجود على حقيقته التي هو عليها، أو يكون إذا وُجد»،٢٨ فإن حقيقة الحقائق، أو الحقيقة الكلية، هي مجموع الحقائق التي يتكون منها العلم الإلهي. ولا يُشترط أن يكون لهذه الحقائق وجود عيني سابق على العلم بها. وهذا متضمَّن في التعريف السابق للعلم، فهو يتعلق بالمعدوم والموجود على السواء. وتعلقه بالمعدوم إنما يكون بحقائقه التي يكون عليها إذا وُجد. ومعنى ذلك أن العلم لا يتعلق بالعدم المحض، بل يتعلق بالعدم الذي يصح وجوده. وبهذا يتجنب ابن عربي وجود أي موجود عيني سابق على علم الله يتعلق به العلم. ولا مانع، والحالة هذه، من مرحلة وسطى أو حالة ثالثة بين الوجود المطلق والعدم المطلق. هذه المرحلة الوسطى ليست حالة الإمكان؛ لأن حالة الإمكان هي حالة العالم باعتبار وجوده في العلم الإلهي القديم. إن حقيقة الحقائق الكلية لا يمكن أن توصف بالإمكان؛ لأنها، من حيث معقوليتها كحقائقَ كلية، لا تقبل الوجود العيني الذي يقبله الممكن، وإن كانت يمكن أن تظهر في موجودات عينية من حيث حقائقها.
إن المرتبة الوجودية لحقيقة الحقائق هي بذاتها المرتبة الوجودية للألوهة؛ إذ هي مِثلها نِسَب وإضافات ليس لها وجود عيني، ومن ثَم فهي لا توصف بوجود أو عدم، ويصح عليها الوصفان في نفس الوقت. وإذا كان ابن عربي في أحيان كثيرة يوحِّد بين حقيقة الحقائق والمقولات العشر عند الفلاسفة،٢٩ فإنه في أحيان أخرى يوحِّد بينها وبين الألوهة.٣٠ ولكن المهم أنه يضعها — مثل الألوهة — في المرتبة الوسطى بين الوجود المطلق والوجود المقيد المضاف، ويصفها بكل الصفات التي تنطبق كلها على مرتبة الألوهة. وإذا كانت حقيقة الحقائق تمثل محتوى العلم الإلهي — الذي يتضمن بالضرورة العلم بالذات — فمن السهل أن تتوحد حقيقة الحقائق هذه مع الألوهة في مرتبتها الوجودية. وصفة العلم — من جانب آخر — إحدى حقائق الألوهة، فحقيقة الحقائق — من هذه الزاوية — إحدى الحقائق الإلهية. وإذا كان العلم هو العالم هو المعلوم فيمكن لنا أن نسلِّم بأن حقيقة الحقائق «تمثل الجانب الباطن للألوهة، وتمثل الألوهةُ الجانب الظاهر لحقيقة الحقائق.»٣١
وتتعدد أسماء هذه الحقائق الكلية عند ابن عربي؛ فهي: «أصل العالم وأصل الجوهر الفرد وفلك الحياة والحق المخلوق به.» وهي «حقيقة الحقائق أو الهيولى أو المادة الأولى أو جنس الأجناس.» أو «الحقائق الأُوَل أو الأجناس العالية.»٣٢ وكلها أسماء تشي بوظيفتها البرزخية بين الله والعالم، وتشير في بعضها إلى محاولة ابن عربي استخدامَ مصطلحات فلسفية تقرِّبنا من مفهوم العلة الهيولانية عند الفلاسفة. ويجب الإشارة هنا إلى أن تعدد المصطلح عند ابن عربي للدلالة على شيء واحد، إنما يرتدُّ — في جانب منه — إلى طبيعة فكره الوسطي التوفيقي أكثر مما يرتد إلى غموض أو اضطراب أو خلط.٣٣ فهو يسعى إلى التوحيد، ومن ثِم يضم كل المصطلحات المتاحة، ويعبِّر بها عن حقيقة واحدة تضم كل جوانبها المختلفة في نسق فكري موحد.
هذه الحقيقة — أو الحقائق — الكلية بمرتبتها الوجودية الثالثة والمتوسطة بين الوجود المطلق والوجود المقيد المضاف، تربِط بين الذات الإلهية والعالم. ولكنها شيء ثالث بينهما، وشيئيتها إنما هي شيئية معقولة لا محسوسة، «وعن هذا الشيء الثالث ظهر العالم، فهذا الشيء الثالث هو حقيقة الحقائق الكلية المعقولة في الذهن الذي يظهر في القديم قديمًا وفي الحادث حادثًا. فإن قلت هذا الشيء هو العالم، صدقت، وإن قلت إنه الحق القديم سبحانه، صدقت. وإنْ قلت إنه ليس العالم ولا الحق تعالى، وإنه معنًى زائد، صدقت. كل هذا يصح عليه، وهو الكلي الأعم الجامع للحدوث والقِدم. وهو يتعدد بتعدد الموجودات، ولا ينقسم بانقسام الموجودات، وينقسم بانقسام المعلومات. وهو لا موجودٌ ولا معدوم، ولا هو العالم وهو العالم، وهو غيرٌ ولا هو غير … فإنَّ العالم قد كان معدوم العين، وهذا على حاله لا يتصف بوجود ولا عدم، لكن العلم القديم يتعلق بما يتضمنه هذا الشيء الثالث المجمل من التفصيل … هذا الشيء الثالث الذي نحن بسبيله لا يقدر أحد أن يقف على حقيقة عبارته، لكن نومئ إليه بضرب من التشبيه والتمثيل، وبهذا ينفصل عن الحق الذي لا يدخل تحت المثال إلا من جهة الفعل، لا أنه ينبئ عن حقيقته … نسبة هذا الشيء، الذي لا يُحدُّ ولا يتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقِدم، إلى العالم كنسبة الخشبة إلى الكرسي والتابوت والمنبر والمحمل، أو الفضة إلى الأواني والآلات التي تصاغ منها؛ كالمُكْحُلة والقُرط والخاتم؛ فبهذا تعرف تلك الحقيقة. فخذْ هذه النسبة، ولا تتخيل النقص فيه كما تتخيل النقص في الخشبة بانفصال المحبرة عنها.»٣٤

إن هذه الحقيقة، التي مثَّل لها ابن عربي تمثيلًا ماديًّا، تشير إلى الوسيط المعقول الذي يتوسط بين الله والعالم. وهذا الوسيط ليس وسيطًا حسيًّا، إنه هو الألوهة نفسها، أو الألوهة كما تتجلى في صفة العلم. وليس العلم عند ابن عربي صفة زائدة، بل هو نسبة هي عين الله. وهذه الحقيقة — من جهة أخرى — هي العالم؛ ولذلك يصح وصفها بالقِدم وبالحدوث، وبالعدم وبالوجود. إن حقيقة الحقائق بكل ما تتصف به من صفات متعارضةٍ تتَّحد بالألوهة بمعناها الجمعي، ولا تقتصر على صفة العلم؛ فالعلم — من حيث هو نسبة — يمكن إدراجه في حقيقة الحقائق باعتباره أحد حقائقها أو نسبةً من نِسَبها. والعلم — من جانب آخر — يتضمن الكليات التي تحتوي الألوهة والعالم معًا إلى جانب حقيقة الحقائق الكلية. إن العلاقة بين الألوهة وحقيقة الحقائق، وبينهما وبين العلم من جهة أخرى، هي علاقة تطابق في حقيقتها، وإن أمكن — ذهنيًّا — التفرقةُ بين هذه المستويات.

وحين يتعرض ابن عربي لرسم جدول الحضرة الإلهية في كتابه «إنشاء الدوائر»، يصف العلاقة بين هذا الجدول وبين دائرة حقائق الحقائق بقوله: «وبدأنا به (يعني جدول الحضرة الإلهية) في الموجودات إذ هو الأول الذي لا أوليةَ له، والأشياء كلها معدومة؛ ولهذا جعلناه على أثر الشكل الهيولاني ومعه لمَّا كان مقارنًا لها في الأزل من غير أن يكون لها وجود في عينها، لكنها معلومة له سبحانه، يعلمها بحقيقة من حقائقها، فهو يعلمها بها لا بغيرها؛ إذ هي الشاملة للكل، وكان الحق أزلًا لها ظاهرًا، وهي له باطن؛ إذ هي صفة العلم، وليس العلم بشيء غيرها.»٣٥ وإذا كانت حقيقة الحقائق تقارن الألوهة من الناحيتين الوجودية — لأنهما تنتميان لنفس المرتبة الوسيطة بين الوجود المطلق والوجود المضاف — والمعرفية — من حيث إن كلًّا منهما يمثل موضوع العلم الإلهي ومحتواه — فكلتاهما — بالضرورة — متضمَّن في الآخر، وكل ما تتصف به إحدى الحقيقتين يمكن أن تتصف به الأخرى؛ إذ هما — في الواقع — مرتبتان لحقيقة واحدة. ولذلك لا ندهَش حين يصف ابن عربي حقيقة الحقائق بأنها «الدائرة المحيطة بالموجودات على الإطلاق من غير تقييد. وهي الحاوية على جميع الحقائق المعلومة الموجودة والمعدومة واللامعدومة. وفيها الحياة المعقولة التي هي في القديم قديمة وفي المحدث حادثة. وفيها العلمية والإرادية.»٣٦
يمكن لنا القول إذنْ إن حقيقة الحقائق هذه، وإن توحَّدت بالعلم الإلهي، فهي أشمل من صفة العلم ذاتها؛ إذ العلم نسبة من نِسَبها، إنها تتسع لتشمل الحياة والإرادة. إن تعلُّق العلم الإلهي بموضوعه — وهو الذات الإلهية — هو عين تعلقه بحقيقة الحقائق، هو عين تعلقه بالعالم.٣٧ تعددت التعلقات والمتعلَّق واحد، وتكثَّرت النسب والحقيقةُ ذاتها واحدة. وإذا كان ابن عربي لا يصف هذه الحقائق بالوجود ولا بالعدم، ويضعها في مرتبة وسطى بين الوجود المطلق والوجود المقيد المضاف، فإنه — من جانب آخر — حين يتحدث عن مراتب الموجودات من حيث الروحانية والتجسُّد، أي: من حيث قابليتها للتحيز من عدمه، يضع هذه الحقائق في المرتبة الرابعة؛ وهي الموجودات التي لا تقبل التحيز بذاتها ولكن تقبله بالتبعية، ولا تقوم بنفسها ولكن تحلُّ في غيرها، «وهي الأعراض كالسواد والبياض وأشباه ذلك. ومنها موجودات النسب، وهي ما يحدث بين هذه الذوات التي ذكرناها (يقصد الأقسام الثلاثة للموجودات؛ وهي: الوجود المطلق الذي لا تدرَك ماهيته، وهو الله. والثاني الموجود المجرد عن المادة؛ وهي العقول الروحانية القابلة للتشكيل والتصوير؛ وهي الملائكة والجن. والثالث الموجود الذي يقبل التحيز والمكان؛ وهي الأجرام والأجسام والجواهر الأفراد عند الأشعريين) وبين الأعراض كالأين والكيف والزمان والعدد والمقدار والإضافة والوضع، وأن يفعل وأن ينفعل. وكل واحد من هذه الموجودات ينقسم في نفسه إلى أشياءَ كثيرة.»٣٨
وحقيقة الحقائق بتوسطها بين الله والعالم، بين المطلق والمقيد، وبين التحيز واللاتحيز، يعتبرها ابن عربي الغيب الحقيقي بين عالمَي الغيب والشهادة، فهي معقولة غير مشهودة في ذاتها، وإن كانت يمكن أن تشهد فيما تتحيز فيه من الأشياء. وإذا كانت هذه الحقيقة هي الحاكمة على الوجود كله على أساس أنها تصدُق على الله كما تصدُق على العالم، فهي من هذه الوجهة خروج من الغيب إلى الشهادة حالَ تحيزها في العالم. ولكنها تعود — من جديد — إلى عالم الغيب؛ وذلك على أساس عدم بقاء الأعراض زمانَين متتاليين. ومعنى ذلك أن حقيقة الحقائق دائمة الحركة بين الظهور والاختفاء؛ وذلك لأن العالم في نظر ابن عربي ليس مشروعًا تمَّ وانتهى، ولكنه في حالة تخلُّق دائمة مستمرة؛ هي الخلق الجديد، الناتج عن دوام التجليات الإلهية. ولذلك يطلِق ابن عربي على حقيقة الحقائق اسم «الأعراض الكونية»: «هذه الأمور التي خرجت من الغيب إلى الشهادة، ثم انتقلت إلى الغيب، وهي الأعراض الكونية، هل هي أمور عينية، أو هي أحوال لا تتصف بالعدم ولا بالوجود، ولكن تعقل فهي نسب؟! وهي من الأسرار التي حار الخلق فيها؛ فإنها ليست هي الله، ولا لها وجود عيني فتكون من العالم، أو تكون مما سوى الله، فهي حقائق معقولة إذا نَسبْتَها إلى الله عز وجل قَبِلها ولم تستحِلْ عليه. وإذا نَسبْتَها إلى العالم قَبِلها ولم تستحِلْ عليه. ثم إنها تنقسم إلى قسمين في حق الله؛ فمنها ما يستحيل نسبته إلى الله فلا تُنسَب إليه، ومنها ما لا يستحيل عليه، فالذي لا يستحيل على الله يقبله العالم كلُّه إلا نسبة الإطلاق، فإن العالم لا يقبله. ونسبة التقييد يقبله العالم ولا يقبله الله. وهذه الحقائق المعقولة لها الإطلاق الذي لا يكون لسواها؛ فيقبلها الحق والعالم، وليست من الحق ولا من العالم، ولا هي موجودة، ولا يمكن أن ينكر العقل [العلم] بها. فمن هنا وقعت الحيرة، وعظُم الخطب، وافترق الناس، وحارت الحيرات، فلا يعلم ذلك إلا من أطلعه الله على ذلك؛ وذلك هو الغيب الصحيح الذي لا يوجد منه شيء فيكون شهادة، ولا ينتقل إليه بعد الشهادة. وما هو محال فيكون عدمًا محضًا، ولا هو واجب الوجود فيكون وجوده محضًا، ولا هو ممكن يستوي طرفاه بين الوجود والعدم، وما هو غير معلوم، بل هو معقول معلوم فلا يُعرف له حد، ولا هو عابد ولا معبود. وكان إطلاق الغيب عليه أولى من إطلاق الشهادة؛ لكونه لا عين له يجوز أن تشهد وقتًا ما، فهذا هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه.»٣٩

إن الربط بين حقيقة الحقائق الكلية والغيب المطلق من جهة، والربط بينها وبين النسب من جهة أخرى؛ يؤكد أن حقيقة الحقائق تتوحد بالأسماء الإلهية التي تمثل في مجموعها الألوهة. إن لحقيقة الحقائق الإطلاقَ على العموم، ومن هذه الزاوية تتوحد بالألوهة وتُنسَب إلى الحق وتصح عليه كما تُنسَب إلى العالم وتصح عليه. وصفة التقييد هي الصفة أو النسبة التي يقبلها العالم من حقيقة الحقائق وتصح عليه، ولا يقبلها الحق ولا تصح عليه. وفي مقابلة التقييد، فإن صفة الإطلاق لا يقبلها العالم ويقبلها الحق. وبعيدًا عن هذه الثنائية — الإطلاق والتقييد — يشترك الحق والعالم في كل النسب الأخرى التي تتضمنها حقيقة الحقائق. وهذا التصور لحقيقة الحقائق لا يبعُد كثيرًا عن تصور الألوهة على أساس أنها علاقة أولية ثنائية؛ هي الاستغناء من جانب الذات الإلهية، والافتقارُ من جانب العالم. أما كافة العلاقات والنسب أو الأسماء الإلهية فهي تمثِّل علاقاتٍ مشتركةً بين الذات والعالم.

ومما يؤكد هذا الربط والتوحيد بين الألوهة وحقيقة الحقائق أن ابن عربي يجعل حقائق هذه الحقيقة هي المتجلية على قلوب العارفين. ومعنى ذلك أن لها وظيفةً معرفية إلى جانب وظيفتها الوجودية. وهاتان الوظيفتان — الوجودية والمعرفية — تنطبقان تمامًا على الأسماء الإلهية التي تتجلى أيضًا على قلوب العارفين؛ فتمنحها المعرفة حسب طبيعة الاسم المتجلي. وهكذا تتوحد الصفات والأسماء الإلهية وجوديًّا ومعرفيًّا بحقيقة الحقائق؛ لأن «الحق يتجلى لعباده على ما شاء من صفاته؛ ولهذا السبب ينكره قوم في الدار الآخرة؛ لأنه تعالى تجلى لهم في غير الصورة والصفة التي عرَفوها فيه … فيتجلى للعارفين على قلوبهم وعلى ذواتهم في الآخرة عمومًا. فهذا وجه من وجوه الشبه. وعلى التحقيق الذي لا خفاء به عندنا أن حقائقها (يعني حقائق حقيقة الحقائق) هي المتجلية للصنفين في الدارين لمن عقَل أو فهِم.»٤٠
هذا التصور لحقيقة الحقائق بمركزها الوجودي الوسيط بين الله والعالم من جهة، ومركزها المعرفي الوسيط بين الله والإنسان من جهة أخرى؛ يجعل ابن عربي قادرًا على أخذ آيات الصفات بظاهرها، على اعتبار أن هذه الصفات حقيقة في الذات الإلهية، كما أنها حقيقة في الذات الإنسانية. والتمايز بين الذاتين، لا بين الصفتين، هو أساس التفرقة. ومن ثَم يردُّ على المؤولة — خاصة المعتزلة — منكرًا عليهم تأويلَهم على أساس أنهم تحاشَوا التشبيهَ بالأجسام، فوقعوا في التشبيه بالمعاني؛ خاصة في آية الاستواء حين فسروا الاستواء بأنه الاستيلاء.٤١
إن الفارق بين الألوهة وحقيقة الحقائق هو فارق اعتباري لا حقيقي. وإذا صح ما افترضناه، من أن مفهوم الألوهة عند ابن عربي يمكن أن يتساوى مع مفهوم العلة الفاعلة عند الفلاسفة، فإن مفهوم حقيقة الحقائق يمكن أن يساوي مفهوم العلة الهيولانية. وابن عربي نفسه يطلق على حقيقة الحقائق أسماء مثل الهيولى الكل أو المادة الأولى أو جنس الأجناس؛ كما أشرنا من قبل. فهي الهيولى «التي أوجد الحق من مادتها الموجودات العلويات والسفليات، فهي الأم الجامعة لجميع الموجودات، وهي معقولة في الذهن غير موجودة في العين، وهو أن تكون لها صورة ذاتية، لكنها في الموجودات حقيقة من غير تبعيض ولا زيادة ولا نقص، فوجودها عن بروز أعيان الموجودات قديمِها وحديثها، ولولا أعيان الموجودات ما عقَلناها، ولولاها ما عقلنا حقائق الموجودات، فوجودها موقوف على وجود الأشخاص، والعلم بالأشخاص تفصيلًا موقوف على العلم بها.»٤٢
والألوهة وحقيقة الحقائق — معًا — شرطان أساسيان لظهور العالم. ويفضِّل ابن عربي اعتبارهما شرطًا على اعتبارهما علة؛ على أساس أن العلة تستلزم المعلول، بينما الشرط قد يوجد ولا يوجد ما هو شرط له، وعلى العكس لا يوجد المشروط إلا بوجود شرطه المسبب،٤٣ واعتبارهما شرطًا يمكِّن ابن عربي من الحفاظ على نوع من الوجود المستقل — العقلي على الأقل — لكلٍّ من الألوهة وحقيقة الحقائق. أما ظهورهما العيني الحسي — أي: ظهور أحكامهما — فهو مرتبط بظهور العالم من الوجود العلمي إلى الوجود الحسي، «ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.»٤٤

إن حقيقة الحقائق كما تتحد بالألوهة وجوديًّا ومعرفيًّا، تمثل وسيطًا بين الله والعالم من جهة، وبين الله والإنسان من جهة أخرى. والوجود الذي يضفيه ابن عربي على حقيقة الحقائق هو وجود ذهني معقول لا عيانيٌّ محسوس، وهو نفس الوجود الذي يضفيه على الألوهة ويضفيه على الخيال أو البرزخ. وهذه المرتبة الوجودية المعقولة — عند ابن عربي — إحدى مراتب الوجود، وهي مرتبة هامة لا تقل عن مرتبة الوجود الحسي؛ الأمر الذي يعطي لهذه الوسائط — في فكر ابن عربي — قدرًا من الاستقلالية والتمايز يقف عائقًا دون وحدة الوجود بالمعنى الفلسفي المعاصر.

(٣) العماء أو الأعيان الثابتة في العدم

يمثل العماء أحد مراتب التمثل الخيالي، وهي المرتبة التي يطلق عليها ابن عربي اسم «الخيال المطلق». وهو موجود ناتج عن النفَس الإلهي للتنفيس عن كَرْب الوحدة المطلقة، ورغبة الذات الإلهية في الظهور في صور غيرية. لقد أحب الواحد أن يرى نفسه في صورةٍ غيرية يتجلى فيها ويرى فيها نفسه. ومع الحب والعشق يوجد الضيق الذي يسعى للتنفيس عن نفسه، فيخرج النفَسُ مكونًا العماء. وإذا كان العماء تنفيسًا عن العشق الذي هو شدة الحب، فهو خيال منفصل؛ لأنه ناتج عن تخيل؛ إذ لا يصح الحب — عند ابن عربي — إلا مع التخيل والتصور.٤٥ وحين أحب الواحد أن يرى نفسه في صورة غيرية، تخيل الصورة. وحين تنفَّسَ للتفريج عن العشق خرج النفَس على شكل الصورة التي تخيلها. وعلى ذلك فالعماء — النفَس — خيال منفصل؛ لأنه ناتج عن تخيل، وهو الخيال المطلق، «إن حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق … ففتح الله تعالى في ذلك العماء صِورَ كلِّ ما سواه من العالم. ألَا إن ذلك العماء هو الخيال المحقق، ألَا تراه يقبل صور الكائنات كلها، ويصوِّر ما ليس بكائن! هذا لاتساعه، فهو عين العماء لا غيره، وفيه ظهرت جميع الموجودات، وهو المعبَّر عنه بظاهر الحق في قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ. ولهذا في الخيال المتصل يتخيل من لا معرفة له بما ينبغي لجلال الله بتصوره، فإذا تحكَّم عليه الخيال المتصل فما ظنُّك بالخيال المطلق الذي هو كينونة الحق فيه، وهو العماء! فمن تلك القوة ضبطه الخيال المتصل … وهو من بعض وجود الخيال المطلق الذي هو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة.»٤٦

العماء — إذن — يمكن أن يتساوى مع العلة الصورية عند الفلاسفة باعتباره التمثُّلَ الأول في صورة غير محدودة، صورة بالمعنى الروحي إذا صحَّ هذا التعبير، هي أصل كل الصور في العالم، وهي — في نفس الوقت — تتضمن كل صور الموجودات الروحية والحسية في العالم؛ هذا هو وضعها أو مرتبتها الوجودية. أما مرتبتها المعرفية فهي تمثل الأصل الذي يستمد منه الخيال المتصل الإنساني. وقد توهم هذه المرتبة من التمثل الإلهي بأسبقية مرتبة الألوهة وحقيقة الحقائق في الزمان. ولكن ابن عربي — كما أشرنا — يعتبر الزمان — وكذلك الأزل — أمورًا اعتبارية لا حقيقية. ومن جهة أخرى يمكن أن يسمى هذا العماء — أيضًا — بالهباء أو الهيولى الكل. وإذا كان الهباء يمثل المرتبة الرابعة في الموجودات الروحية — موجودات المجموعة الثانية — كما سنرى، فالتفرقة عند ابن عربي تظلُّ تفرقةً اعتبارية لا وجوديةً حقيقية. وهذا الربط بين العماء والهيولى الكل — التي هي حقيقة الحقائق كما أشرنا قبل ذلك — ينفي أيَّ أسبقية لمرتبة على مرتبة، ويؤكد أن هذه المستوياتِ جميعَها مراتبُ مختلفة تؤدي وظائفَ متعددةً لحقيقة واحدة.

إن العماء ليس إلا التجلي المقدس للذات الإلهية حين أحبت أن تُعرف. وهنا يرتكز ابن عربي إلى حديث قدسي هام جدًّا عند المتصوفة: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف»، وعن هذا الحب ينتج الشوق. وهنا يلجأ ابن عربي إلى التصوير الحسي لإبراز المعنى الذي يريده. وعلينا أن نحذر — مرة أخرى — هذا المزلق الذي قد يقودنا إلى مادية يرفضها ابن عربي نفسه، «وكان أصل ذلك حكم الحب. والحب له الحركة في المحب. والنفَس حركة شوقية لمن تعشَّق به وتعلق. له في ذلك التنفُّس لذة، وقد قال تعالى: كنت كنزًا مخفيًّا لم أُعرَف فأحببت أن أُعرَف. فبهذا الحب وقع التنفُّس فظهر النفَس فكان العماء. فلهذا أوقع عليه اسمَ العماء الشارعُ؛ لأن العماء هو السحاب يتولَّد من الأبخرة، وهي نفس العناصر لما فيه من حكم الحرارة، فلهذا الالتفات سماه عماءً، ثم نفى عنه الهواء الذي يحيط به كما يحيط بجسم السحاب ويصرِّفه الهواءُ حيث شاء، فنفى أن يكون هذا العماء يتحكم فيه غيرُه؛ إذ هو أقرب الموجودات إلى الله الكائن عن نَفَسه … فهذا العماء هو الحق المخلوق به كل شيء، وسمي الحق لأنه عين النفَس، والنفَس باطن في المتنفس. وهكذا يعقل، فالنفَس له حكم الباطن، فإذا ظهر له حكم الظاهر فهو الأول في الباطن والآخر في الظاهر، وهو بكل شيء عليم، فإنه فيه ظهر كل شيء مسمًّى من معدوم يمكن وجود عينه، ومن معدوم يوجد عينه … فلهذا قلنا في الأشخاص إنها مخلوقة من وجود لا من عدم، فإن الأصل على هذا كان، وهو العماء عن النفَس، وهو وجود، وهو عين الحق المخلوق به.»٤٧
إن العماء هو باطن الألوهة الذي تحول إلى ظاهر يتضمن كل صور الموجودات من أعلاها إلى أدناها. وهو أيضًا الحق المخلوق به — وهذا أحد الأسماء التي أطلقها ابن عربي على حقيقة الحقائق. ومن ثم فهو يتَّحِد بحقيقة الحقائق، إنه — العماء — بمثابة التعين الأول الظاهر للعلم الإلهي الباطن. وهو تعين معقول غير محسوس، وتعين مرتبة تنفي أي كثرة أو تدرُّج زمني، «كان الله ولا شيء معه. ثم أُدرج فيه: وهو الآن على ما عليه كان. لم يرجع إليه من إيجاده العالم صفةٌ لم يكن عليها، بل كان موصوفًا لنفسه ومسمًّى قبل خلقه بالأسماء التي يدعوه بها خلْقُه. فلما أراد وجود العالم، وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه، انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجلٍّ من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، انفعل عنها حقيقةٌ تسمى الهباء، هي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور، وهذا أول موجود في العالم، وقد ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهل بن عبد الله رحمه الله، وغيرهما من أهل التحقيق، أهل الكشف والوجود. ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء ويسمونه أصحاب الأفكار الهيولى الكل. والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية، فقبِل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده، كما تقبل زوايا البيت نور السراج. وعلى حد قربه من ذلك النور يشتد ضوءه وقَبوله.»٤٨
ورغم التوحيد الذي نلمسه بين العماء والألوهة من جهة، وبينه وبين حقيقة الحقائق من جهة أخرى، فإن ثَم خلافًا وظيفيًّا — إن صحَّ التعبير — بين العماء وبين هاتين الحقيقتين. ويعتمد ابن عربي في تحديد هذه الوظيفة على حديث نبوي فحواه أن الرسول «» سُئِلَ: أين كان ربُّنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء. وتتحدد وظيفة العماء — بناءً على ذلك — على أساس أنه مستوى الاسم الإلهي «الرب» الذي دار حوله سؤال السائل. واسم الرب يتطلب المربوب؛ أي: يتطلب الوجود الفعلي للعالم. وإذا كان اسم الله — كما أشرنا — يمثل الاسم الجامع المعبر عن الألوهة في جمعيتها، فإنه لا يتطلب بالضرورة وجود العالم ولا يتعلق بالكون. واسم الرب — من جانب آخر — هو «مستوى اسم الرب كما كان العرش مستوى اسم الرحمن. والعماء هو أول الأينيات، ومنه ظهرت الظروف المكانيات والمراتب فيمن لم يقبل المكان وقَبِل المكانة. ومنه ظهرت المحالُّ القابلة للمعاني الجسمانية حسًّا وخيالًا، وهو موجود شريف الحق معناه. وهو الحق المخلوق به كل موجود سوى الله، وهو المعنى الذي ثبتت فيه واستقرت أعيان الممكنات، ويقبل حقيقة الأين وظرفية المكان ورتبة المكانة واسم المحل. ومن عالم الأرض إلى هذا العماء ليس فيها من أسماء الله سوى أسماء الأفعال خاصة، ليس لغيرها أثر من كون ما بينهما من العالم المعقول والمحسوس.»٤٩
العماء — في ظل هذا التصور — هو مستوى اسم الرب، وهو موجود معنوي لا حسي يمثل التعين الأول للألوهة — وحقيقة الحقائق — في الأين والظرفية. إنها تمثل ساحة الخلاء الذي ظهرت فيه الأفعال الإلهية متوجهةً على إيجاد أعيان الممكنات التي تتمتع بوجود ذهني في هذا العماء، وهي الحالة التي يسميها ابن عربي حالة الثبوت أو «الأعيان الثابتة»؛ وعلى ذلك فالعماء: «هو أول كثيف نوراني ظهر. فلمَّا تميز عمن ظهر عنه، وليس غيره، وجعله تعالى ظرفًا له — لأنه لا يكون ظرفًا له إلا عينه — فظهر حكم الخلاء لظهور هذا النفَس. ولولا ذلك ما قلنا خلاء.»٥٠

العماء إذن هو النفَس الإلهي الناتج عن الحركة الشوقية التي أساسها الحب للانكشاف والظهور. إنه باطن الألوهة، أو الأول — كما يقول ابن عربي — في البطون. وهو من جانب آخَر الآخِر في الظهور. وإذا كان النفَس ليس إلا عين المتنفِّس، فإن العماء هو الله. وعلينا أن نحذر أي تصور للانقسام أو الانفصال، فقد تم ذلك بضرب تجلٍّ من تجليات التنزيه كما يقول ابن عربي نفسه. إنه تجلٍّ شوقي للظهور من حالة البطون الخفي أساسه المحبة والعشق. والتسميات التي يطلقها ابن عربي على هذا العماء تؤكد أنه مستوًى من مستويات الوسيط الذي نتحدث عنه، وهو الخيال المطلق أو برزخ البرازخ. لكن هذا العماء الوسيط اختلف اسمه لاختلاف الدور الذي يقوم به.

وإذا كانت الألوهة وحقيقة الحقائق تمثلان وسائطَ ذهنية معقولة بين الوجود والعدم، والإطلاق والتقيُّد، والقِدم والحدوث، وكل الثنائيات الفاصلة بين الذات الإلهية والعالم، فإن العماء — بدوره — يمثل وسيطًا وجوديًّا بين حالتي الوجود والعدم، أو الوجود المطلق والوجود المضاف المقيد. وإذا كان العماء — كما أشرنا — يتَّحد بمفهوم الخلاء، أو عنه ظهر الخلاء، فإن هذا الخلاء ليس فراغًا خاليًا، بل هو ظل الوجود الحق الذي يتضمن كل موجودات العالم، من أعلاها إلى أدناها، وجودًا عقليًّا محضًا هو ما يطلق عليه ابن عربي «الأعيان الثابتة». والوجود الحسي لمثل هذه الأعيان يمثل مرتبة ثالثة يمكن أن يطلق عليها: «ظل ظل الوجود». ومعنى ذلك أننا بإزاء ثلاثة مستويات؛ أولها: هو الوجود الحق المطلق، ووسطها: هو ظل الوجود الحق، وهو العماء أو الأعيان الثابتة المعقولة، وثالثها: هو الوجود الحق الظاهر.

وتتَّحد الأعيان الثابتة — من حيث موقعها الوجودي الوسيط — بكل الوسائط التي حللناها قبل ذلك، وهي الألوهة وحقيقة الحقائق، كما أنها — من جانب آخر — توجد وجودًا ذهنيًّا معقولًا في هذا العماء الأيني الظرفي المعقول. إن الوجود الباطن للأسماء الإلهية في الذات هو وجود علمي لا عيني. إنه وجود في الذات في مرحلة الأحدية المطلقة. ووجود الأعيان الثابتة في الأزل يقابل الوجود الذاتي للحق، ولكن هذه المقابلة لا تعني الاثنينية؛ إذ إنه وجود في العلم الإلهي الأزلي. وهي من هذا الجانب تتوحد بحقيقة الحقائق. والفارق بين هذه الأعيان الثابتة وبين الألوهة وحقيقة الحقائق أنها تتمتع بوجود نسبي، بينما لا يمكن أن توصف هاتان الحقيقتان بوجود أو عدم. والوجود الذي تتمتع به هذه الأعيان الثابتة وجودٌ معقول في حيز معقول هو العماء. وهذا الوجود النسبي هو الوسيط الذي يتوسط ثنائية الوجود والعدم.

إن المعضلة — كما يطرحها ابن عربي — في أماكنَ كثيرة من كتاباته هي معضلة الانفصال الكامل والتمايز التام بين الوجود والعدم. والسؤال الذي يحاول الإجابة عليه — كما حاول الكثيرون غيره — هو: كيف تأتَّى للعدم المحض أن يقبل الوجود؟ ولمَّا كما العدم المحض — عند ابن عربي — هو المحال، فقد كان لا بد له أن يتجاوز إطار هذه الثنائية عن طريق خلق وسيط بين العدم والوجود. هذا الوسيط — مثل كل الوسائط — له جانبان: وجه إلى العدم، ووجه إلى الوجود، وهو يقابل الجانبين بذاته، فيفصل بينهما ويوحِّد في نفس الوقت. هذا الوسيط هو الأعيان الثابتة الموجودة في العماء. وهي — في ذاتها — معدومة من حيث الوجه الذي به تقابل العدم. ولكنها — من جانب آخر — لها وجود من حيث الوجه الذي تقابل به الوجود المطلق. ثم هي تنتقل من هذه الحالة الوسطية إلى حالة الوجود الحسي بتجلٍّ ثانٍ غير التجلي الذي انتقلت به من حالة العدم الكامل إلى الوجود الوسطي. «البدء افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع؛ لكون هذه الذات الموجِدة له اقتفت ذلك من غير تقييد بزمان؛ إذ الزمان من جملة الممكنات الجسمية، فلا يُعقل إلا ارتباط ممكن بواجب بذاته. فكان في مقابلة وجود الحق أعيان ثابتة موصوفة بالعدم أزلًا، وهو الكون الذي لا شيء مع الله فيه، إلا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان على حسب ما اقتضته استعداداتها، فتكونت لأعيانها لا له من غير بينيَّة تُعقل أو تُتوهم، وقعت في تصورها الحيرة من الطريقين: من طريق الكشف ومن طريق الدليل الفكري. والنطق عما يشهده الكشف بإيضاح ذلك يتعذر، فإن الأمر غير متخيَّل فلا يقال، ولا يدخل في قوالب الألفاظ بأوضحِ مما ذكرناه.»٥١
ويمكن القول بأن هذه الأعيان تمثل حالة الإمكان بين الواجب الوجود لذاته وبين الواجب العدم لذاته، أو المحال. وإذا كان ابن عربي يعتمد في تصوره للأعيان الثابتة على مفهوم المعتزلة للشيء المعدوم،٥٢ فثَم فارقٌ أساسي بين المفهومين، وبين مفهوم ابن عربي لهذه الأعيان ومفهوم «الإمكان» عند الفلاسفة. الممكن عند المعتزلة وعند الفلاسفة قابل للحالتين: حالة الوجود وحالة العدم، ووجوده صفة طارئة عليه من وجود آخر هو الوجود الواجب. أما الأعيان الثابتة عند ابن عربي فوجودها الحسي نابع من استعدادها الذاتي للوجود. إنها — في فكر ابن عربي — ليست قوالبَ سلبيةً محضة، بل لها جانب إيجابي يتمثل في استعدادها لسماع الأمر الإلهي وإجابته بالظهور. ومعنى ذلك أنها تمتلك قدرةً على سماع الأمر التكويني، وقدرةً على الاستجابة لهذا الأمر بطبيعتها الذاتية. وهذا هو الذي يميز مفهوم «الأعيان الثابتة» عن مفهوم «الممكنات» عند الفلاسفة؛ خلافًا لما ذهب إليه أبو العلا عفيفي من التوحيد بين المفهومين.٥٣
ويمكن لنا التمييز — مع ابن عربي — بين مرحلتين من مراحل تطور هذه الأعيان: المرحلة الأولى هي مرحلة انتقالها من عدمها الأزلي إلى وجودها الشيئي كأعيان ثابتة. والمرحلة الثانية هي انتقالها من حالة الثبوت إلى حالة الوجود الحسي الظاهر المدرك. وليس هذا التمييز بين المرحلتين إلا نفس التمييز الذي لاحظناه في تحليلنا للألوهة ولحقيقة الحقائق في جانبيهما الباطن والظاهر. إن الوجود الباطن للأسماء الإلهية أو للألوهة في الذات هو وجود علمي لا عيني. إنه وجود في الذات في مرحلة الأحدية المطلقة التي لا تكثُّر فيها بأي حال من الأحوال. ويمثل ظهورها في أعيان صور الموجودات، أو ظهور أحكامها، المرحلةَ التالية المتميزة — معرفيًّا لا وجوديًّا — عن المرحلة الأولى. ونفس التمييز لمسناه في حقيقة الحقائق من حيث إنها محتوى العالم الإلهي وأداته، ومن حيث ظهورها وتحيزُها في الأمور الحسية. ونفس الأمر نجده في الأعيان الثابتة؛ من أنها «موجودة منذ الأزل في العقل الإلهي، وأنها هي الحق لا غيره، وأن ظهورها على مسرح الوجود معناه ظهور الذات الإلهية في مجالي الوجود الخارجي حسب ما تقتضيه طبيعة تلك الأعيان.»٥٤
وإذا كان تعبير ابن عربي عن هذه الأعيان يتَّسِم أحيانًا بدرجة من التجسيد؛ «لدرجة أنه يخلع عليها وجودًا مستقلًّا وتجسيدًا يجاوز ما يريده»،٥٥ فيجب علينا أن نفهم ذلك في ضوء تحذير ابن عربي الدائم من الاستسلام لما تعطيه طبيعة اللغة من قوة في أصل وضعها. إن الوجود المستقل لهذه الأعيان — من حيث هي أعيان — وجود ذهني معقول، أو وجود خيالي بين الوجود والعدم. هي ظل الوجود، وظهورها الحسي الظاهر هو ظلُّ ظلِّ الوجود. وهذا ما يعبر عنه أحد شرَّاح ابن عربي والمدافعين عنه بقوله: «إن حقائق المكونات وماهياتها عبارة عندهم عن الصور العلمية المسماة بالأعيان الثابتة؛ لثبوتها في العلم، وعدم براحها عنه، حيث إنها لم تشُمَّ من رائحة الوجود الخارجي؛ فضلًا عن كونها موجودة. ومجموع هذه الصور هو الحضرة العلمية وهي صور أسمائه تعالى وصفاته. ولو شمَّت هذه الأعيان من رائحة الوجود الخارجي لزم حدوثُها، ويلزم منه حدوثُ العلم القديم. وهذه الحقائق هي المرائي التي ظهر بها الوجود الحق، أو هو مرآتها وهي ظهرت به … وإنما قلنا إن ظل ظل الوجود هو الظاهر لا نفس الوجود؛ لأن الوجود الحق في مرتبة أحديته الأزلية لا تعلق له بمظهر أصلًا. وظهوره إنما يكون باعتبار تجلياته على سحب شئونه لا باعتبار ذاته، فكان الظاهر ظله لا هو في هذه المرتبة الواحدية. وإلى هذه الإشارةُ بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي: ظل الوجود على الأعيان وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا فحصل لهذه الأعيان — بهذا الامتداد — الوجودُ العلمي، فكانت صور أسمائه تعالى وصفاته. فهي بباطنها وجود حق، وبظاهرها خلق، فهي الحق الخلق عندهم. ثم إن هذه الحقائق التي امتد عليها ظل الوجود العلمي سألت بلسان حالها — الذي هو أعظم من سؤال المقال — من حضرة الواجب تعالى ظهورَ آثارها وكمالاتها الخارجية، وذلك عند استعدادها وقبولها لذلك، فرحِمها الواجب تعالى، فتجلى إليها بما سألته فأفاض عليها من خزانة جوده، فأُلبِست آثارُها حُلَل الوجود الخارجي. فكان هذا المكون العيني والحسي ظل هذه الأعيان حقائق المكونات وماهيتها، وإلى هذه الإشارةُ بقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا (أمرنا) لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فالشيء المأمور والمخاطَب بقول «كُنْ» هو هذه الأعيان. وهذه المظاهر الحسية ظلالها … وإذا تقرر هذا، وعلمت أن حقائق الأشياء وماهياتها صور مخزونة في العلم الإلهي، وأنها ما شمت من رائحة الوجود الخارجي، وأن هذا المكون الموجود ظلها وأثرها، فكون المكون عدمًا محضًا معناه أنه راجع من هذه الحيثية إلى العدم لانعدام حقائقه في الخارج، والراجع إلى العدم عدم. نعم هو باعتبار أن وراءه الوجود — حيث ظهر هنا المكون به — موجود قطعًا لظهوره بظل الوجود الذي انطبع هو به. فالممكنات موجودة باعتبار ظهورها في الوجود معدومةٌ من أنفسها، فلها الوجود المستعار.»٥٦
إن المظاهر الموجودة في العالم الحسي — فيما يرى العطار — هي ظل لحقائق وماهيات موجودة في العلم الإلهي. وهذه الحقائق والماهيات — بدورها — صور تتمتع بوجود عقلي ذهني من حيث وجودها في العلم الإلهي. وهذه الحقائق — من ثَم — تتمتع بالوجود من حيث نسبتها للعلم الإلهي، وتتمتع بالعدم من حيث عدم وجود مظاهرها وصورها الحسية. وقد استفادت هذه الحقائق وجودها العلمي في مرحلة الفيض الأقدس حيث تجلى الحقُّ في نفسه لنفسه. وهي مرحلة امتداد الظل الوجودي العلمي على هذه الحقائق أو الأعيان الثابتة فيتعلق بها العلم الإلهي. والعلم الإلهي في هذا الفيض أو التجلي الأقدس هو علم الذات بنفسها، وهو — في نفس الوقت — العلم بالأعيان الثابتة؛ إذ هي ليست مغايِرةً للأسماء الإلهية. وذلك الامتداد الوجودي العلمي يُلقي على هذه الأعيان من ظله فيهبها الوجود، فهي — في هذا التجلي — ظل الوجود. أمَّا المرحلة الثانية أو التجلي المقدس، فهي خروج هذه الأعيان — بحكم استعدادها الذاتي — من العالم المعقول إلى العالم المحسوس دون أن تبارح العلم الإلهي بالطبع، فهي مستقرة فيه كما هي. ويكون هذا الظهور المحسوس هو ظل ظل الوجود.٥٧
ويعبر ابن عربي عن هذا التصور بأسلوب غامض بعضَ الشيء حين يقول في أول خطبة الفتوحات المكية: «الحمد الله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه.» ثم يشرح هذه العبارة بعد ذلك شرحًا لا يكشف كلَّ غموضها، وإن ألمح إلى المراحل التي أشار إليها العطار في حديثه السابق. يقول: «وعدم العدم وجود، فهو نسبة كون هذه الأشياء في هذه الخزائن محفوظة موجودة لله ثابتة لأعيانها غير موجودة لأنفسها [يعني خزائن الجود الإلهي المشار إليها — فيما يرى ابن عربي — بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]. فبالنظر إلى أعيانها هي موجودة عن عدم، وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن هي موجودة عن عدم العدم، وهو وجود. فإن شئت رجحت جانب كونها في الخزائن، فتقول أوجد الأشياء من وجودها في الخزائن إلى وجودها في أعيانها للنعيم بها أو غير ذلك. وإن شئت قلت أوجد الأشياء عن عدم، بعد أن تقف على حقيقة ما ذكرت ذلك.»٥٨
الأعيان الثابتة إذن مرحلة وسطى بين الوجود الحق والوجود المضاف، وهي حين تنتقل من العدم المحض إلى الوجود في العلم الإلهي نتيجة للتجلي الأقدس ينعدم عدمها؛ أي: توجد باعتبارها أعيانًا. وفي هذا الوجود العلمي تكتسب نوعًا من الاستقلال الذاتي يتمثل في استعدادها للوجود الظاهر؛ أي: إنها في هذه المرحلة تكتسب شيئية لم تكن لها من قبل من حيث عدمها المطلق المتوهم. ومعنى ذلك أن الوجود المطلق أكسبها ظله، فصارت قابلة ومستعدة للوجود العيني في عالم الظواهر؛ هذا هو جانبها السلبي. أما جانبها الإيجابي فيتمثل في أن العلم الإلهي تعلق بها على ما هي عليه من استعداد للثبوت؛ وذلك على أساس تصور ابن عربي — الذي سبقت الإشارة إليه — للعلم بأنه حقائق المعلوم على ما هو عليه المعلوم في نفسه؛ موجودًا كان أم معدومًا. فالأعيان الثابتة حالَ عدمها هي التي أعطت للعلم الإلهي حقائقها، فصار عالمًا بها على حقيقتها التي هي عليها. وهكذا يتضح التطابق والتوحد بين الأعيان الثابتة وحقيقة الحقائق، كما اتضح تطابقها مع الألوهة، «فأعيان العالم محفوظون في خزائنه عنده، وخزائنه علمُه ومُختزَنه نحن. فنحن أثبتنا له حكم الاختزان؛ لأنه ما علمنا إلا منا، فكان طريقًا وسطًا بين شيئية ثبوتنا وشيئية وجودنا. فإذا أراد أن ينقُلنا إلى شيئية وجودنا أمرَّنا عليه فاكتسينا الوجود منه، فظهرنا بصورته في شيئية وجودنا. وصورته ما نحن عليه في شيئية ثبوتنا، فإنَّ علمه عين ذاته. وإنما سُمي علمًا لتعلقه بالمعلوم، والتعلق محبة. فلو كان العدم وسطًا بين شيئية الثبوت وشيئية الوجود، لكان إذا أراد إيجادنا مرَّ بنا على العدم فاكتسينا منه نفي شيئية الثبوت، فلم نوجد لا في الثبوت ولا في الوجود؛ فلذلك لم يكن لنا طريق إلا وجود الحق لنستفيد منه الوجود.»٥٩
ويجب ألا نفهم من وسطية الوجود المطلق بين شيئية الثبوت وشيئية الوجود في النص السابق أيَّ أسبقية لشيئية الثبوت على الوجود المطلق؛ إذ الوجود الذي يعنيه ابن عربي هو الوجود العلمي للأعيان الثابتة في مرحلة الفيض الأقدس، وهو الوجود الوسيط بين شيئية الثبوت وشيئية الوجود. والانتقال من شيئية الثبوت — أو الوجود العلمي أو الظهور الحسي — يحتاج تجليًا آخر هو التجلي المقدس. إن هذه الانتقالات — من جانب آخر — يجب أن تُفهَم فهمًا يتباعد بها عن أي تطور أو انتقال بالمعنى الزماني. إنها ليست مراحل من تطور الحق شبيهة بتطور المطلق عند هيجل؛ كما يذهب أبو العلا عفيفي،٦٠ بل هي تجليات في مراتب مختلفة يمكن — ذهنيًّا — التمييز بينها، وإن كانت في حقيقتها لا تتميز ولا تتعدد.
وإشارة ابن عربي في النص السابق إلى تعلق العلم بالمعلوم باعتباره علاقةَ حب؛ يؤكد التوحد بين الأعيان الثابتة والعماء الناتج عن النفَس الإلهي للتنفيس عن الشوق إلى الظهور. في هذا العماء وجدت الأعيان الثابتة باعتبارها حقائقَ العالم وأساسه. وإذا كان العماء — كما أشرنا — هو الخيال المطلق، فمن الطبيعي أن يوحِّد ابن عربي — كذلك — بين الأعيان الثابتة والخيال المطلق أو برزخ البرازخ؛ باعتبارها موجودات في مرتبة الخيال بحكم وسطيتها الوجودية بين الذات الإلهية والعالم، أو بين الوجود والعدم، «وكذلك هي لأن لها وجودًا متخيَّلًا في الخيال. ولذلك يقول له الحق «كُنْ» في الوجود العيني، فيكون السامع لهذا الأمر الإلهي وجودًا عينيًّا يدركه الحس؛ أي: يتعلق به في الوجود المحسوس الحسي كما يتعلق به الخيال في الوجود الخيالي.»٦١
والأعيان الثابتة — أو العماء — إلى جانب وظيفتها البرزخية الوجودية، لها أيضًا وظيفة معرفية. وتتمثل هذه الوظيفة في أن الخيال المتصل الإنساني للعارف يستمد كثيرًا من معارفه وعلومه من هذا الخيال المطلق، فيعرف الأشياء على ما هي عليه في حال ثبوتها. ويستطيع — كذلك — أن يرى نفسه في حال ثبوتها في هذه الأعيان. واتصال العارف بهذا البرزخ أو الخيال المطلق يعني الاستمداد من بحر العلم الإلهي؛ إذ الأعيان الثابتة ليست إلا صور حقائق العلم الإلهي كما أسلفنا. ومعنى ذلك أن العماء والأعيان الثابتة باعتبارها برزخًا أو وسيطًا تقوم بمهمة الفصل والتوحيد، لا على المستوى الوجودي فحسب، بل على المستوى المعرفي أيضًا، «اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها: وهي الوجود المطلق الذي لا يتقيد؛ وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه؛ والمعلوم الآخر العدم المطلق الذي هو عدمٌ لنفسه، وهو الذي لا يتقيد أصلًا، وهو المحال، وهو في مقابلة الوجود المطلق. فكانا على السواء حتى لو اتصفا بحكم لحكم الوزن عليهما. وما من نقيضين متقابلين إلا وبينهما فاصل به يتميز كل واحد من الآخر، وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر. وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم لو حكم الميزان عليه لكان على السواء في المقدار؛ من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو البرزخ الأعلى، وهو برزخ البرازخ، له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم، فهو يقابل كل واحد من المعلومَين بذاته. وهو المعلوم الثالث، وفيه جميع الممكنات، وهي لا تتناهى، كما أنه كل واحد من المعلومين لا يتناهى. ولها في هذا البرزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق. ومِن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء الذي إذا أراد الحق إيجاده قال له كُنْ، وكنْ حرف وجودي، فإنه لو أنه كائن ما قيل له كُنْ. وهذه الممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه، وما تكون إذا كانت، مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان … ومن هذا البرزخ هو وجود الممكنات، وبها يتعلَّق رؤية الحق للأشياء قبل كونها. وكل إنسان ذي خيال وتخيُّل إذا تخيَّل أمرًا ما، فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ وهو لا يدري أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة.»٦٢
وإذا كان العماء يمثل التعين الأول غير المكاني للذات الإلهية باعتباره مستوى الاسم «الرب»، فإن كل مفردات العالم توجد في هذا العماء بالقوة والصلاحية في صورة الأعيان الثابتة. ومن هذه الأعيان ظهرت الموجودات الروحية والحسية حسب مراتبها الوجودية. وكان أول هذه الموجودات الموجودات الروحانية النورانية التي يطلق عليها ابن عربي الملائكة المهيَّمة أو الملائكة الكروبيين، «واختار له من الأينيات العماء، فكان له قبل خلق الخلق. ومنه خلق الملائكة المهيَّمة فهيَّمها في جلاله. ثم خلق الخلق فشغلهم هيمانهم في جلال جماله أن يروا سواه. فهم الذين لا يعرفون أن الله خلق أحدًا، فما أشرفها من حالة!»٦٣ ومن هؤلاء الملائكة الكروبيين سيختار الله العَلم أو العقل الأول أو الحقيقة المحمدية أو آدم أو الإنسان الكامل، وكلها أسماء تدل على حقيقة واحدة هي المرتبة الرابعة للوسيط البرزخي بين الله والعالم.

(٤) الحقيقة المحمدية

تمثل هذه الحقيقة المتعددة الأسماء آخرَ مراتب البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق، وتمثل في نفس الوقت أول مراتب الوسائط الروحية — أو عالم الأمر — الذي يتوسط بين الخيال المطلق وعالم الحس والشهادة. وهي حقيقة روحية لا مادية سارية في الكون بأسره من أعلاه إلى أدناه. هي الحقيقة المحمدية السارية في الأنبياء والرسل جميعًا، حتى تجد تجسُّدَها الأكمل في شخصية محمد العنصرية التاريخية. وهي الحقيقة الآدمية الروحية التي يمثل آدم العنصري أولَ تجلياتها المادية. وهي القلم الأعلى المهيمن — وجوديًّا ومعرفيًّا — على كل ما دونه من الموجودات الروحية والحسية على السواء. وهي العقل الأول الذي تفرَّعت عنه العقول الجزئية؛ عقول الكواكب والبشر على السواء. وهي أخيرًا روح الإنسان الكامل الذي لا يخلو عنه الكون في أي زمان، والذي يحفظ على الكون وجوده ونظامه. وهذه الروح هي التي تمثل — عند الصوفية عامَّةً وابن عربي خاصَّةً — قمةَ الولاية، وتتجسد في أشخاص بعينهم يمثلون أقطاب الدولة الصوفية الباطنية.

وإذا كانت الأعيان الثابتة في العماء تمثل صور حقائق العالم، فإن هذه الحقيقة تمثل الصورة الإلهية في أكمل مجاليها. فالإنسان — أو الحقيقة الإنسانية — على الصورة، وكونه على الصورة يقرِّبنا من مفهوم التمثل الخيالي أو التجلي في مرآة.٦٤ والإنسان — من جانب آخر — جامع لحقائق الكون كله من أعلاه إلى أدناه، ومن ثم فهو يعدُّ «برزخًا جامعًا للطرفين.»٦٥ بل الإنسان في نظر ابن عربي أحق بهذه التسمية من أي مخلوق آخر؛ وذلك لأنه — إلى جانب موقعه البرزخي كوسيط بين الحق والخلق — يمتلك قوة الخيال ذاتها. وهي قوة لا يمتلكها أي موجود آخر، فهو يمتلك القوة الإلهية ذاتها. يقول ابن عربي: «وللخيال الإيجاد على الإطلاق ما عدا نفسَه، فالخيال موجِد لله عز وجل في حضرة الوجود الخيالي، والحق موجِد للخيال في حضرة الانفعال الممثل … وإذا ثبت إلحاق الخيال في قوة الإيجاد بالحق ما عدا نفسه، فهو على الحقيقة المعبر عنه بالإنسان الكامل، فإنه ما ثَم على الصورة الحقية مثله، فإنه يوجد في نفسه كلُّ معلوم ما عدا نفسه. والحق نسبة الموجودات إليه مثل هذه النسبة.»٦٦
وإذا كانت الألوهة — كما أسلفنا — تمثل العلة الفاعلة، وحقيقة الحقائق تمثل العلة الهيولانية، والعماء أو الأعيان الثابتة تمثل العلة الصورية، فإن هذه الحقيقة الأخيرة، الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، تمثل العلة الغائية. والغاية من إيجاد العالم هي إظهار سلطان الأسماء الإلهية وأحكامها من جانب، والظهور في صورة غيرية من جانب آخر، «فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يُظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه ما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجلِّيه له. وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم وجودَ شبحٍ لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوَّة … فاقتضى الأمر جِلاء مرآة العالم، فكان آدم جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة. وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي العالم المعبَّر عنه في اصطلاح القوم ﺑ «الإنسان الكبير»، فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية.»٦٧

إن الغاية من ظهور العالم هي إظهار فاعلية الأسماء الإلهية من جهة، ورؤية الله ذاته في مرآة من جهة أخرى؛ «فأحببتُ أن أُعرَف فخلقت الخلق فبي عرَفوني»، وهذا يؤكد غائية وجود العالم. لكن العالم يمثل مرآةً غير مجلوَّة، أو جسدًا لا روح فيه. ومن ثَم كان لا بد من وجود الإنسان لجِلاء تلك الصورة، وليكون روح ذلك الجسد. ولقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى أن العالم كان موجودًا في العماء الناتج عن النفَس الإلهي وجودًا كليًّا، فالعماء في هذه الحالة يمثل الوجود الشبحي غير المسوي للعالم، كما يمثل المرآةَ غير المجلوَّة. وتمثل الحقيقة الإنسانية روح ذلك الجسد وجِلاء تلك المرآة. والملائكة المهيَّمون أو الكروبيون الذين خلقهم الله في العماء تمثل القوى الروحية والحسية لهذا النشء الجديد. وينتهي ابن عربي إلى أن الإنسان وُجِد عن ثلاث علل أو عناصر؛ هي الجمعية الإلهية، وهي الألوهة، وحقيقة الحقائق، والعماء.

إن الإنسان هنا قد يشير إلى آدم الخليفة، وقد يشير إلى الإنسان كمفهوم كلي، وقد يشير إلى الحقيقة المحمدية. بل الأحرى القول إنه يشير إلى هذه الأشياء مجتمعة؛ يشير إلى آدم باعتبار مرتبة الخلافة، ويشير إلى الإنسان باعتبار حقيقته الروحية، ويشير إلى الحقيقة المحمدية باعتبارها أصلَ العالم وبدْأه ومنتهاه. إن ما قاله ابن عربي في النص السابق عن آدم يكرره بعبارة أخرى عن الحقيقة المحمدية والعقل؛ حين يقول: «فلما أراد وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه، انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجلٍّ من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، انفعل عنها حقيقةٌ تسمى الهباء … فقبِل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قُوَّته واستعداده كما تقبل زوايا البيت نورَ السراج، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوءه وقَبوله … فلم يكن أقرب إليه قَبولًا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد المسماة بالعقل، فكان سيد العالم بأسره، وهو أول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية. وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه.»٦٨

وهناك أكثر من جانب للتعبير عن هذه الحقيقة الواحدة التي تتوسط بين الله والعالم، وتتوسط بين الله والإنسان. وهذه الحقيقة — من جانب آخر — تتَّحد بكل المراتب الثلاث السابقة. إن هذا الوسيط — كما أشرنا من قبل — وُجد عن التجلي الإلهي لكل من العماء وحقيقة الحقائق، ولكنه في نفس الوقت يتَّحد بهذه الجوانب الثلاثة. وإذا كان العماء هو أول الأينيات، وحقيقة الحقائق هي العلم الإلهي، والألوهة تمثل جمعية الصفات والأسماء الإلهية، فإن هذه الحقيقة بتعدد جوانبها تتحد بهذه الحقائق، وتشترك معها في وظيفتها البرزخية الوجودية والمعرفية على السواء.

تتوحَّد بالعماء من حيث كونُها المخلوقَ الأول الذي اصطفاه الله من الملائكة المهيَّمة أو الكروبيين الذين خلقهم الله في هذا العماء، «وإن الله لمَّا خلق الملائكة وهي العقول المخلوقة في العماء — وكان القلم الإلهي أول مخلوق منها — اصطفاه الله وقدَّمه وولَّاه على ديوان إيجاد العالم، وقلَّده النظرَ في مصالحه، وجعل ذلك عبادة تكليفه التي تقرِّبه من الله، فما له نظر إلا في ذلك. وجعله بسيطًا حتى لا يَغفُل ولا ينام ولا ينسى. فهو أحفظ الموجودات المحدَثة وأضبطه لِما علَّمه الله من ضروب العلم. وقد كتبها كلها مسطَّرة في اللوح المحفوظ عن التبديل والتحريف.»٦٩ فهذه الحقيقة المعقولة — العقل — تتوسط، وجوديًّا، بين الله والعالم. وهي من حيث كونها عقلًا تتحد بالعلم الإلهي تتوسط — معرفيًّا — بين الله والعالم كذلك.
ويشرح ابن عربي في نصٍّ آخرَ التسمياتِ المختلفةَ لهذه الحقيقة باعتبار وظائفها المتعددة؛ بقوله: «فأول ما أوجد الله من عالم العقول المدبِّرة جوهرٌ بسيط ليس بمادة ولا في مادة. عالم بذاته في ذاته، علمه ذاته. لا صفة له، مقامه الفقر والذلة والاحتياج إلى باريه وموجِده ومُبدعه. له نسب وإضافات ووجوه كثيرة، لا يتكثَّر في ذاته بتعددها. فياض بوجهين من الفيض: فيض ذاتي، وفيض إرادي، فما هو بالذات مطلقًا لا يتصف بالمنع في ذلك. وما هو بالإرادة؛ فإنه يوصف فيه بالمنع وبالعطاء. وله افتقار ذاتي لموجِده سبحانه الذي استفاد منه وجوده. وسمَّاه الحق سبحانه وتعالى في القرآن حقًّا وقلمًا وروحًا، وفي السُّنة عقلًا وغير ذلك من الأسماء … وهو أول عالم التدوين والتسطير. وهو الخازن الحفيظ العليم الأمين على اللطائف الإنسانية التي من أجلها وُجد ولها قُصِد. ميَّزها في ذاته عن سائر الأرواح تمييزًا إلهيًّا. علم نفسه فعلم موجِده، فعلم العالم، فعلم الإنسان … فهو العقل من هذا الوجه. وهو القلم من حيث التدوين والتسطير. وهو الروح من حيث التصرُّف. وهو العرش من حيث الاستواء. وهو الإمام المبين من حيث الإحصاء. ولا يزال هذا العقل مترددًا بين الإقبال والإدبار؛ يُقبِل على باريه مستفيدًا، فيتجلَّى له فيكشف في ذاته من بعض ما هو عليه، فيعلم من باريه قدر ما علم من نفسه، فعلمه بذاته لا يتناهى، فعلمه بربه لا يتناهى. وطريقة علمه به التجليات، وطريقة علمه بربه علمه به. ويقبل على مَنْ دونه مفيدًا، هكذا أبد الآباد في المزيد، فهو الفقير الغني، العزيز الذليل، العبد السيد. ولا يزال الحق يلهمه طلب التجليات لتحصيل المعارف.»٧٠
هذه الحقيقة إذن عقل من حيث معرفتها الذاتية بمبدعها، وهي قلم من حيث إنها أول الموجودات في عالم التدوين والتسطير. وهي روح مدبرة للعالم من أعلاه إلى أدناه. وهي تتوسط بين الله والعالم، مستمِدة من الله العلم، ومُمِدَّة له إلى كل الموجودات حسب استعدادها؛ خاصة الإنسان. وهي تتصف بكل هذه الصفات المتعددة — والمتعارضة أحيانًا — رغم أنها واحدة في ذاتها بسيطة جوهرية. ولسنا بحاجة للتأكيد على أن كل هذه الصفات تنطبق على الحقيقة المحمدية عند ابن عربي. فهي الروح المدبر للعالم،٧١ والعالم كله نسخة منها، أي: من حقائقها.٧٢ وهي العلم الإلهي القديم،٧٣ وهي المبدع الأول عن التجلي الإلهي، وهي كذلك مستوى العرش.٧٤
كما توحَّدت هذه الحقيقة بالعماء، فإنها تتوحَّد كذلك بحقائق العلم الإلهي؛ أي: حقيقة الحقائق الكلية. والعلوم التي يعرفها العقل الأول بالتجلي الإلهي ويحصيها ويدوِّنها باعتباره قلمًا؛ هي حقائق العلم الإلهي؛ لأن علم هذا العقل بنفسه وما هو عليه، وما عليه كلُّ الأشياء التي تنبعث عنه في العالم بكل مراتبه ليس إلا حقائق الألوهة. وهذا ما يعبر عنه العطار في النص التالي مستخدمًا مصطلح الحقيقة المحمدية: «إن هذه الحقائق المنفصلة المتميزة في هذا العلم الإلهي ترجع إلى أصل واحد؛ وهو حقيقة الإنسان الكامل ظل حقيقة محمد . فكانت هذه الحقائق العلمية برجوعها إلى هذا الأصل تفاصيلَ لإجمال حقيقته وجمعيتها الكلية. وكان النظر الإلهي إلى هذا الجامع نظرًا إليها؛ لأنها أجزاؤه وتفاصيله. وهذا النظر يكون عند تجلياته تعالى بالفيوضات السرمدية التي لا تنقطع عن خلقه آنًا واحدًا رحمةً بهم. فنظره تعالى بهذا إلى خلقه يكون بنظره تعالى إلى هذا الجامع، فكان كإنسان العين من العين للاشتراك في محل النظر وبه كانت الرحمة.»٧٥
إن العلاقة بين الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية هي علاقة الظل بالأصل، وهذه العلاقة تستدعي في أذهاننا علاقة الموجودات الحسية — ظل ظل الوجود — بحقائقها في الأعيان الثابتة — ظل الوجود. ولا تقوم مثل هذه العلاقات — كما أشرنا — على نوع من الاثنينية، فالإنسان الكامل والحقيقة المحمدية حقيقة واحدة، تجتمع فيها كل حقائق الألوهة كما تجتمع فيهما كل حقائق العالم. وعلى ذلك يكون الإنسان الكامل — أو الحقيقة المحمدية — هو «القابل لجميع الموجودات قديمِها وحديثها. وما سواه من الموجودات لا تقبل ذلك؛ فإن كل جزء من العالم لا يقبل الألوهة، والإله لا يقبل العبودية، بل العالم كله عبده، والحق سبحانه وحده إله واحد صمد، لا يجوز عليه الاتصاف بما يناقض الأوصاف الإلهية، كما لا يجوز على العالم الاتصافُ بما يناقض الأوصاف الحادثة العبادية. والإنسان ذو نسبتين كاملتين: نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية، ونسبة يدخل بها إلى الحضرة الكيانية، فيقال فيه عبد من حيث إنه مكلف، ولم يكن ثُم كان كالعالم. ويقال فيه رب من حيث إنه خليفة ومن حيث الصورة، ومن حيث أحسن تقويم. فكأنه برزخ بين العالم والحق، وجامع لخلق وحق. وهو الخط الفاصل بين الحضرة الإلهية والكونية كالخط الفاصل بين الظل والشمس. وهذه حقيقته، فله الكمال المطلق في الحدوث والقِدم، والحق له الكمال المطلق في القِدم، وليس له في الحدوث مدخل، يتعالى عن ذلك. والعالم له الكمال المطلق في الحدوث، وليس له في القِدم مدخل، يخسأ عن ذلك، فصار الإنسان جامعًا لله الحمد على ذلك.»٧٦
ولا نظن أننا في حاجة بعد ذلك إلى التأكيد على برزخية الدور الوجودي الذي تقوم به هذه الحقيقة. ولسنا بحاجة أيضًا إلى تأكيد أن تعدُّد الأسماء على هذه الحقيقة لا يعني تعددها في ذاتها، بقدر ما يشير إلى تعدد وظائفها البرزخية للتوسُّط بين الله والعالم من جهة، وبين الله والإنسان من جهة أخرى. كما أن هذا التعدد في المصطلح ما بين فلسفي وصوفي وقرآني يؤكد الطبيعة التوفيقية لفكر ابن عربي، ويؤكد بالتالي الافتراض الأساسَ الذي تنطلق منه هذه الدراسة.٧٧ وهذه الحقيقة المتعددة الجوانب تقوم — من جانب آخر — بوظيفة معرفية إلى جانب وظيفتها الوجودية؛ فآدم من حيث مرتبة النبوة والخلافة يمثل أحد تجليات هذه الحقيقة المحمدية أو أول هذه التجليات. كما يمثل الأنبياء والرسل جميعًا مجاليَ متغايرةً لهذه الحقيقة الواحدة، «فكل نبي من لدن آدم إلى آخِر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله : «كنت نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين، وغيره ما كان نبيًّا إلا حين بُعث.»٧٨ ومعنى ذلك أن هذه الحقيقة تتجلى في مراتبَ مختلفةٍ في صور الشرائع النبوية المختلفة، التي تعود في حقيقتها إلى هذا المنبع الأصلي؛ منبع الحقيقة المحمدية. وفي ظل هذا التصور تمثل الرسالة المحمدية، أو محمد النبي الذي ظهر بمكة، أكملَ هذه التجليات وأشملَها وجوديًّا ومعرفيًّا. وإذا كان وجود هذه الحقيقة في الرسل والشرائع كلها وجودًا باطنيًّا مستترًا، فإن وجودها في الشريعة الإسلامية يمثل مرحلة الظهور من البطون على المستوى الوجودي، كما يمثل الاكتمال والجمعية على المستوى المعرفي، «اعلم، أيَّدك الله، أنه لما خلق الله الأرواح المحصورة المدبرة للأجسام بالزمان عند وجود حركة الفلك لتعيين المدة المعلومة عند الله، وكان عند أول خلق الزمان بحركته خلق الروح المدبرة؛ روح محمد ، ثم صدرت الأرواح عند الحركات، فكان لها وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة. وأعلمه الله بنبوته وبشَّره بها؛ وآدمُ لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين. وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد إلى وجود جسمه وارتباط الروح به، انتقل الزمان في جريانه إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد بذاته جسمًا وروحًا. فكان الحكم له باطنًا أولًا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين، ثم صار الحكم له ظاهرًا، فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر؛ لبيان اختلاف حكم الاسمين وإن كان المشرِّع واحدًا؛ وهو صاحب الشرع، فإنه قال كنت نبيًّا، وما قال كنت إنسانًا ولا كنت موجودًا. وليست النبوة إلا بالشرع المقرر عليه من الله، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء الذين هم نوَّابه في هذه الدنيا … فكانت استدارته [يعني الزمان] انتهاء دورته بالاسم الباطن وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر، فقال: استدار كهيئته يوم خلَقه الله في نسبة الحكم لنا ظاهرًا؛ كما كان في الدورة الأولى منسوبًا إلينا باطنًا، أي: إلى محمد، وفي الظاهر منسوبًا إلى من نُسِبَ إليه من شرع إبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل.»٧٩
وإذا كان ظهور محمد يمثل انتهاء فَلك النبوة واكتمال الشريعة؛ بحكم انتقال الحكم من الاسم الباطن إلى الاسم الظاهر، فإن فلك الولاية — فيما يرى المتصوفة وابن عربي — ما يزال دائرًا. وما تزال هذه الحقيقة المحمدية تتجلى على قلوب العارفين؛ فتلهمهم من المعارف ما يصححون به ما يَعلَق بالشريعة من سوء الفَهم أو الغموض. ومعنى ذلك أن هذه الحقيقة ما تزال ساريةً — على المستوى الوجودي — في الخلق الجديد والمستمر للكون، وعلى المستوى المعرفي في التجلي الدائم على قلوب العباد، «إن في نسختنا من كتابَي آدم ومحمد سرًّا شريفًا ومعنًى لطيفًا. أما النبيون المرسلون وغير المرسلين والعارفون منا؛ فنسخة من آدم وواسط محمد عليهما السلام في حضرة الجلال. وأما أهل الشقاوة والشمال فنسخة من طين آدمَ لا غير، فلا سبيل لهم إلى خير.»٨٠
وهكذا ننتهي إلى القول بأن الحقيقة المحمدية أو القلم أو العقل الأول أو الإنسان الكامل، مثلها مثل الألوهة وحقيقة الحقائق والعماء، تمثل وسيطًا روحيًّا بين الله والعالم من جهة، وبين الله والإنسان من جهة أخرى. وهذه الحقيقة تمثل العلة الغائية؛ إذ هي أصل الكون، وكل ما في الكون إنما هو تجليات ومراتبُ مختلفة لها لا تؤدي إلى أي كثرة في وحدة هذه الحقيقة وبساطتها العقلية والروحية. وعلينا أن نفهم الغائية هنا بمعنًى مختلف عن معناها عند الفلاسفة، وأن نفهم العِلِّية بمعنًى مختلف كذلك. والانقسام إلى علة فاعلة وعلة هيولانية وعلة صورية وغائية هو تقسيم توضيحي لا يعني كثرة؛ إذ كلها مراتبُ متعددة لحقيقة واحدة هي البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق، أو برزخ البرازخ الذي يمثل وسيطًا بين الذات الإلهية والعالم من جهة، وبينها وبين الإنسان من جهة أخرى. إن الوجود في نظر ابن عربي دائرة مركزها الذات الإلهية، والعلاقة بين المركز والمحيط في الدائرة لا تقوم على الانفصال ولا على الاتصال. إن المحيط بطبيعته يطلب المركز، والمركز يطلب المحيط. وعملية الخلق إنما هي تجليات دائمة لا تنتهي.٨١
وإذا كانت المراتب الأربع السابقة تمثل مراتب الخيال المطلق أو البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ، فإن عالم العقول الكلية وما يليها من عوالم ومراتب انتهاء إلى عالم الكون والاستحالة؛ هو في نظر ابن عربي برزخ أيضًا. والفارق بين البرزخ الذي يبدأ بالقلم أو العقل الأول، وبين البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ؛ هو الفارق بين الإطلاق والتقييد. ولذلك يكتفي ابن عربي للتعبير عن هذه المراتب باسم «البرزخ» دون أي صفة إضافية. وهذا البرزخ الذي ينتظم العوالم كلَّها يطلِق عليه ابن عربي أيضًا اسم «الصور»، ويعني به عالم الصُّوَر الروحية والجسمانية على السواء، ويشبِّهه بالقرن الذي أعلاه ضيِّق وأسفله واسع؛ خلافًا لما ذهب إليه بعض المتصوفة من أن الصُّور أعلاه واسع وأسفله ضيق، وهو نفس الصور الذي ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة. وربْطُ ابن عربي بين الصُّور والصُّوَر٨٢ يؤكد أن مفهومه لهذا البرزخ لهذا البرزخ — الصور — يتسق مع تصوره العام؛ وهو أن العالم كله مجرد صور خيالية. يقول: «وأما أصحابنا فغلِطوا في هذا القرن، فأكثر العقلاء جعل أضيقه المركز وأعلاه الفَلك الأعلى الذي لا فلك فوقه، وأن الصور التي يحوي عليها صور العالم، فجعلوا واسع القرن الأعلى، وضيِّقَه الأسفل من العالم. وليس الأمر كما زعموا، بل لما كان الخيال كما قلنا يصوِّر الحق فمن دونه من العالم، حتى العدم، كان أعلاه الضيِّق وأسفله الواسع، وهكذا خلقه الله. فأول ما خلق منه الضيق، وآخِر ما خلق منه ما اتسع. وهو الذي يلي رأس الحيوان. ولا شك أن حضرة الأفعال والأكوان أوسع … فضيِّقه هو الأعلى على الحقيقة، وفيه الشرف التام. وهو الأول الذي نظهر منه إذا أنبته الله في رأس الحيوان، فلا يزال يصعد على صورته من الضيق وأسفله يتسع، وهو لا يتغير عن حاله. فهو المخلوق الأول. ألا ترى الحق سبحانه أول ما خلق القلم، أو قُل العقل كما قال، فما خلق إلا واحدًا، ثم أنشأ الخلق من ذلك الواحد، فاتسع العالم.»٨٣ ومعنى ذلك أن هذا البرزخ — أو الصُّور — ينتظم كل الموجودات من أعلاها — العقول الكلية — إلى أدناها، وهو عالم الكون والاستحالة. والعلاقة بين الخيال المطلق أو برزخ البرازخ وهذا البرزخ أو الصور لا تقوم على الانفصال والتمايز، بقدر ما تقوم على التداخل والتفاعل، كما سيكشف عنه تحليليًّا لمراتب هذا البرزخ في الفصول التالية.
١  الفتوحات ٣ / ٥١٨.
٢  الفتوحات ١ / ٣٠٤.
٣  الفتوحات ٢ / ١٢٩.
٤  انظر: الفلسفة الصوفية لابن عربي  ١٣٠.
٥  الفتوحات ٢ / ٣١١.
٦  الفتوحات ٢ / ٣١٢.
٧  الفتوحات ٣ / ٥٢٥.
٨  الفتوحات ٣ / ٤٧٠.
٩  الفتوحات ٤ / ٢٠٨-٢٠٩، وانظر أيضًا: ٢ / ٢٠٣، ٣٧٩، ٣ / ٣٥٨.
١٠  انظر: أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية لابن عربي ص١٥–١٨.
١١  الفتوحات ٢ / ٤٥٨.
١٢  الفتوحات ٢ / ٥٧٩.
١٣  الفتوحات ٢ / ٢٨٩.
١٤  الفتوحات ١ / ١٦٠.
١٥  الفتوحات ١ / ٤١.
١٦  الفتوحات ١ / ١٦٣.
١٧  الفتوحات ١ / ٤٤.
١٨  الفتوحات ١ / ٩٠.
١٩  إنشاء الدوائر  ٦-٧.
٢٠  انظر: الفتوحات ٢ / ٣٠٩، وكذلك إنشاء الدوائر  ٧-٨.
٢١  إنشاء الدوائر  ٧.
٢٢  إنشاء الدوائر  ١٦.
٢٣  انظر: إنشاء الدوائر  ٣٦–٣٨، وكذلك الفتوحات ١ / ١٠٠-١٠١.
٢٤  إنشاء الدوائر  ٦.
٢٥  انظر: إنشاء الدوائر، وهو واضح من اسمه، وانظر كذلك: الفتوحات ٣ / ٤٢١–٤٢٩.
٢٦  الفتوحات ١ / ٢٩١.
٢٧  إنشاء الدوائر  ٣٢-٣٣.
٢٨  إنشاء الدوائر  ١٠.
٢٩  انظر: إنشاء الدوائر  ٢٤–٢٦.
٣٠  انظر: الفتوحات ١ /  ٧٧، ١١٩.
٣١  أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية لابن عربي  ٦٨.
٣٢  انظر: إنشاء الدوائر  ١٦–١٩.
٣٣  هذه الأوصاف يُكثر أبو العلا عفيفي من إلصاقها بفكر ابن عربي كما أشرنا قبل ذلك.
٣٤  إنشاء الدوائر  ١٧–١٩.
٣٥  إنشاء الدوائر  ٣١.
٣٦  إنشاء الدوائر ٢٤١، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ١١٩ حيث يضع ابن عربي القدرة والسمع ضمن حقيقة الحقائق.
٣٧  انظر: أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم ٣٠.
٣٨  إنشاء الدوائر  ٢٠-٢١، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٤٥٤.
٣٩  الفتوحات ٣ / ٧٩، وكلمة «العلم» في الأصل «العالم» وهو خطأ واضح.
٤٠  الفتوحات ١ / ٧٧.
٤١  الفتوحات ١ / ٦٨١.
٤٢  إنشاء الدوائر  ٢٤–٢٦.
٤٣  انظر: أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية لابن عربي  ٣٤.
٤٤  فصوص الحكم  ٥٥.
٤٥  انظر: الفتوحات ٢ / ٣٢٩.
٤٦  الفتوحات ٢ / ٣١٠، وانظر: محمود قاسم، الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي  ٧.
٤٧  الفتوحات ٢ / ٣١٠، وانظر أيضًا نفس المصدر ٣ / ٤٢٠.
٤٨  الفتوحات ١ / ١١٩.
٤٩  الفتوحات ٢ / ٢٨٣.
٥٠  السابق ٢ / ١٥٠.
٥١  الفتوحات ٢ / ٥٥.
٥٢  انظر: الفتوحات ٤ / ٢١١.
٥٣  انظر: الأعيان الثابتة في مذهب ابن عربي ٢١٣.
٥٤  انظر: الأعيان الثابتة في مذهب ابن عربي  ٢١٤.
٥٥  أبو العلا عفيفي: الفلسفة الصوفية لابن عربي  ٥٠.
٥٦  العطار، الفتح المبين ١٤–١٦.
٥٧  انظر: أبو العلا عفيفي، الأعيان الثابتة  ٢١٧.
٥٨  الفتوحات ٢ / ٢٨١.
٥٩  الفتوحات ٤ / ١٠٨، وانظر أيضًا في التوحيد بين العماء وحقيقة الحقائق: الفتوحات ٢ / ٦٣.
٦٠  انظر: الأعيان الثابتة  ٢١٧.
٦١  الفتوحات ٤ / ٢١١.
٦٢  الفتوحات ٣ / ٤٦-٤٧.
٦٣  الفتوحات ٢ / ١٧٤.
٦٤  انظر: الفتوحات ٢ / ١٢٣-١٢٤.
٦٥  عقلة المستوفز  ٤٢.
٦٦  الفتوحات ٣ / ٢٩٠.
٦٧  فصوص الحكم  ٤٨-٤٩، وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٧٣٩.
٦٨  الفتوحات ١ / ١١٩.
٦٩  الفتوحات ٢ / ٤٢٢.
٧٠  عقلة المستوفز  ٥١-٥٢.
٧١  انظر: الفتوحات ١ / ١٤٣ وعنقاء مغرب  ٤٠.
٧٢  انظر: عنقاء مغرب  ٣٨.
٧٣  انظر: الفتوحات ١ / ١٣٥.
٧٤  انظر: عنقاء مغرب ٤٤-٤٥، ٤٠-٤١.
٧٥  الفتح المبين  ٤٠.
٧٦  إنشاء الدوائر  ٢١-٢٢، وانظر أيضًا: عقلة المستوفز  ٤٢-٤٣.
٧٧  انظر التبريرات المختلفة لهذا التعدد ومصادرها في: التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية  ص١٢٢–١٢٨.
٧٨  فصوص الحكم  ٦٣-٦٤.
٧٩  الفتوحات ١ / ١٤٣-١٤٤، وانظر أيضًا الصفحات ١٣٤-١٣٥، ١٣٧.
٨٠  عنقاء مغرب  ٣٨.
٨١  انظر: الفتوحات ١ / ١٢٥.
٨٢  انظر: الفتوحات ١ / ٣٠٥.
٨٣  الفتوحات ١ / ٣٠٦-٣٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤