الفصل الثاني

عالم الأمر (العقول الكلية)

يهتم هذا الفصل بالتركيز على المجموعة الثانية من مجموعة الوسائط، وهي التي يمكن أن تسمى العقول الكلية أو الأرواح الكلية. وهذه المجموعة هي ما يطلِق عليها ابن عربي اسمَ عالم الأمر الذي يتوسط بين عالم الخيال المطلق الذي حللناه في الفصل السابق، وبين عالم الخلق والشهادة الذي سنتناوله في الفصل التالي. وتبدأ هذه العقول أو الأرواح بالمبدع الأول؛ الذي هو القلم الأعلى أو العقل الأول أو الروح الكلي أو حقيقة محمد أو الإنسان الكامل؛ كما سبقت الإشارة. ومعنى ذلك أن هذا المبدَع الأول له في حقيقته جانبان: جانب منهما يتصل بعالم الخيال المطلق وينتمي إليه، وجانب منهما ينتمي إلى عالم الأمر ويتصل به. هذان الجانبان يؤكدان الطبيعة البرزخية الخاصة لهذا المبدَع الأول في عالم العماء من الناحيتين الوجودية والمعرفية على السواء.

والعلاقة بين هذا المبدَع الأول وما ينبعث عنه من عقول أو أرواح تمثِّل عالم الأمر؛ ليست علاقة انفصال أو تدرُّج زماني، بل هي بالأحرى تجليات لهذا المبدَع الأول في مراتبَ مختلفةٍ متميزة تمثل حقائق متعددة لحقيقة هذا المبدَع الأول. وأولُ مُنبعَث عن هذا القلم هو اللوح المحفوظ [النفس الكلية]. وعنهما معًا انبعثت الطبيعة الكلية، ومن الثلاثة انبعث الجوهر الهبائي الذي وُجِد فيه الجسم الكل أو العرش آخِرُ مراتب عالم الأمر وأول مراتب عالم الخلق. وهذه التجليات أو الانبعاثات عن المبدَع الأول تمثِّل مراتبَ وجودية ودرجاتٍ معرفيةً في نفس الوقت، «فلما شاء الله أن يخلق عالم التدوين والتسطير عيَّن واحدًا من هؤلاء الملائكة الكروبيين، وهو أول مَلَك ظهر من ملائكة ذلك النور، سمَّاه العقل والقلم، وتجلَّى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه إلى لا غايةٍ وحدٍّ، فقيل بذاته علم ما يكون وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخَلْقي. فاشتق من هذا العقل موجودًا آخر سمَّاه اللوح، وأمر القلم أن يتدلَّى إليه ويودِع فيه جميع ما يكون إلى يوم القيامة لا غير … فعَلِمها اللوح حين أودعه إياها القلم، فكان من ذلك علم الطبيعة. وهو أول علم حصل في هذا اللوح من علوم ما يريد الله خلقه، فكانت الطبيعة دون النفس، وذلك كله في عالم النور الخالص. ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابل هذا النور بمنزلة العدم المطلق للوجود المطلق، فعندما أوجدها أفاض عليها النور إفاضةً ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلَأَم شَعَثَها ذلك النورُ فظهر الجسم المعبر عنه بالعرش فاستوى عليه الاسم الرحمن بالاسم الظاهر؛ فذلك أول ما ظهر من عالم الخلق.»١
وعلى ذلك لا يمكن النظر إلى اللوح المحفوظ والطبيعة الكلية والجوهر الهبائي على أساس أنها موجودات منفصلة عن العقل الأول أو الحقيقة المحمدية، بل يجب النظر إليها على أساس أنها تجليات مختلفة لهذه الحقيقة في مراتب متعددة، لا تعني كثرةً وجودية بأي حال من الأحوال. وعلينا من جانب آخر أن نستبعد بالمِثل أيَّ مفهوم للتدرج أو التتالي الزماني لمثل هذه المراتب المختلفة، فالعقل الأول هو «أول موجود في عالم التدوين والتسطير، وهو الموجود الإبداعي. ثم بعد ذلك من غير بَعدية زمان انبعث عن هذا العقل موجودٌ انبعاثي هو النَّفْس، وهو اللوح المحفوظ … وهو دون القلم الذي هو العقل في النورية والمرتبة الضيائية، فهو كالزمردة الخضراء لانبعاث الجوهر الهبائي الذي في قوة هذه النفس، فانبعث عن النفس الجوهرُ الهبائي، وهو جوهر مظلم لا نور فيه. وجعل الله مرتبة الطبيعة بين النفْس والهباء مرتبةً معقولة لا موجودة. ثم بما أعطى الله مِن وضع الأسباب والحكم ورتَّب في العالم من وجود الأنوار والظُّلم لما يقتضيه الظاهر والباطن، كما جعل الابتداءَ في الأشياء والانتهاءَ في مقاديرها بأجلٍ معلوم، وذلك إلى غير نهاية. فما ثَم إلا ابتداءات وانتهاءات دائمة من اسمَيه الأول والآخر. فعن تينِكَ الحقيقتين كان الابتداء والانتهاء دائمًا، فالكون جديد دائمًا، فالبقاء سرمدي في التكوين … وما من موجود خلقه الله عن سبب إلا بتجلٍّ إلهي خاص لذلك الموجود لا يعرفه السبب، فيتكون هذا الموجود عن ذلك التجلي الإلهي والتوجه الرباني عند توجه السبب لا عن السبب.»٢ ومعنى ذلك أن هذه الموجودات الأربعة ليست موجوداتٍ حسيةً منفصلة، بل هي أشبه بموجودات معقولة تمثل مراتبَ مختلفةً لحقيقة القلم الأول. وإذا كانت هذه الموجودات المعقولة قد انبعثت عن القلم أو العقل الأول، فهي قد انبعثت عن تجلٍّ إلهي خاص بكل منها باسم إلهي خاص توجه على حقائقها. إن الربط بين هذه الموجودات المعقولة والتجليات الإلهية من جانب، ونفي بَعدية الزمان في إيجادها من جانب آخر؛ يؤكد ما نذهب إليه من اعتبارها مراتب مختلفة لحقيقة العقل الأول أو القلم.

(١) العقل الأول (القلم)

يمثل العقل الأول أو القلم — كما أشرنا — في ذاته برزخًا بين عالم الخيال المطلق وعالم المعقولات الكلية. وقد حلَّلنا في الفصل السابق صلة العقل الأول أو القلم بالخيال المطلق. ويهمنا الآن تحليلُ صلته بالمعقولات أو الأرواح الكلية التي تنبعث عنه؛ وهي اللوح المحفوظ (النفس الكلية) والطبيعة الكل والهباء. ويبدو أن ابن عربي يميز بين جانبَي هذه الحقيقة التي تسمى العقل الأول، فهي — من الجانب الذي ترتبط به بالخيال المطلق أو عالم الألوهة — تتسم بالكمال وتتحد بالعلم الإلهي. ومن جانبها الذي يتصل بالمعقولات المنبعثة عنه تتسم بقدر من النقص؛ إذ العلم الذي يتضمنه من هذا الجانب هو العلم المتغير الذي يرتبط بالموجودات، وهو العلم الذي يتجلَّى به إلى اللوح المحفوظ (النفس الكلية). وإذا كانت الأرواح الملائكية الكروبيون لا يعلمون من عالم الخلق شيئًا، فإن العقل الأول قد انتقش فيه بتجلٍّ خاص «عِلمُ ما يكون إلى يوم القيامة مما لا تعلمه الأرواح المهيمة، فوجد في ذاته قوة امتاز بها عن سائر الأرواح؛ فشاهدهم وهم لا يشاهدونه ولا يشهد بعضهم بعضًا … وعلم أن في العلم حقائقَ معقولاتٍ سمَّاها معقولات من حيث إنه عقَلها لمَّا تميزت عنده … ورأى أن عنده من الحق ما ليس عند الأرواح المهيمة، فعلم أنه أقرب مناسبةً للحق من سائر الرواح.»٣ ومعنى ذلك أن العقل الأول — من هذا الجانب — قد جمع كل أصناف العلم الإلهي، وبذلك تميز عن الملائكة الكروبيين رغم أنه واحد منهم. وهذا هو جانبه الباطن الذي يتَّحد من خلاله بعالم الخيال المطلق أو العلم الإلهي.
ويتمثل الجانب الآخر للعقل الأول في جانبه الظاهر؛ من حيث انتماؤه إلى عالم المعقولات الكلية، وإن كان على قمتها وجودًا وعلمًا. هذا الجانب الظاهر يتمثل فيه جانب النقص والفقر والذِّلَّة إلى موجِده ومبدعه؛ من حيث إنه في حاجة مستمرة للتجليات الإلهية المستمرة لدوام هذا العلم.٤ وتعبير ابن عربي عن هذين الجانبين لحقيقة القلم أو العقل الأول يشوبه بعض الاضطراب، فهو أحيانًا يفرِّق بينهما تفرقةً حادة، كما فعل في الفتوحات حين فرَّق بين «النون» أو الملك «نون» وبين القلم على أساس أن القلم يختص بالعلم التفصيلي، بينما يختص «نون» بالعلم الإجمالي الذي يتضمن أيضًا علم التفصيل؛ باعتباره علمًا من علوم العلم الإجمالي. يقول: «وجعل منزلته [يعني القلم] دون النون، واتخذه كاتبًا، فيعلمه الله سبحانه من علمه ما شاءه في خلقه بوساطة النون، ولكن من العلم الإجمالي. ومما يحوي عليه العلم الإجمالي علمُ التفصيل، وهو من بعض علوم الإجمال؛ لأن العلوم لها مراتب؛ من جملتها علم التفصيل. فما عند القلم الإلهي من مراتب العلوم المجملة إلا علم التفصيل مطلقًا، وبعض العلوم المفصلة لا غير.»٥ ومن الممكن فَهم هذا التمييز بين «النون» والقلم على أساس التفرقة التي أشرنا إليها بين جانبَي هذه الحقيقة؛ حقيقة القلم أو العقل الأول، فهو من حيث كونه عقلًا يتصل مباشرةً بالعلم الإلهي، وتنتقش فيه كلُّ العلوم مُجمَلها ومفصَّلها. ومن حيث كونه قلمًا — يتصل باللوح — له حدود معينة وعلوم خاصة هي علوم التفصيل التي يكتبها في اللوح. وهذا هو ما يعبر عنه ابن عربي في كتاب «عقلة المستوفز» بقوله: «وليس فوق القلم موجود محدَث يأخذ منه يعبر عنه بالدواة، وهي النون كما ذكره بعضهم، وإنما نونُه التي هي الدواة عبارة عما يحمله في ذاته من العلوم بطريق الإجمال من غير تفصيل، فلا يظهر لها تفصيل إلا في اللوح المحفوظ، فهو [يعني القلم] محل التجميل، والنفس محل التفصيل.»٦ وإذا كنا في تحليلنا السابق قد رأينا توحيد ابن عربي بين العقل الأول والإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، فإننا هنا يجب أن نشير إلى أن الإنسان الكامل — أو الحقيقة المحمدية — يمثل جانب الكمال الفعلي في هذه الحقيقة، بينما يمثل العقل الأول جانب الكمال الإمكاني والنقص الفعلي. والتفرقة هنا بين جانبَي هذه الحقيقة هي تفرقة اعتبارية؛ فالعقل الأول من حيث إنه أول مبدَع في عالم المعقولات الروحية يدرك هذا النقص الكامن فيه، فيسعى — من حيث علمه — إلى تجاوزه؛ وذلك عن طريق إيجاد أعيان الممكنات التي يرى صورها في العماء، «ورأى في جوهر العماء صورة الإنسان الكامل الذي هو للحق بمنزلة ظل الشخص من الشخص. ورأى نفسه ناقصًا عن تلك الدرجة. وقد علم ما يتكون عنه من العالم إلى آخره في الدنيا وفي المولدات، فعلم أنه لا بد أن يحصل له درجة الكمال التي للإنسان الكامل وإن لم يكن فيها مثل الإنسان الكامل، فإن الكمال في الإنسان الكامل بالفعل، وهو في العقل الأول بالقوة. وما كان بالقوة والفعل أكمل في الوجود ممن هو بالقوة دون الفعل. ولهذا أوجد العالم في عينه فأخرجه من القوة إلى الفعل؛ ليتصف بكمال الاقتدار.»٧

إن هذا النقص الذي يراه العقل الأول في نفسه عن مرتبة الإنسان الكامل؛ هو نقص من حيث جانبه الظاهر الذي يتطلب الكمال. والكمال إنما يتحقق عند بروز أعيان الممكنات بالانبعاث عن قوة هذا العقل؛ حتى يتحقق كماله بظهور الجوانب المتعددة لعلمه الباطن. إن العقل في ذاته أو باطنه كامل من حيث إنه وُهب العلم بما كان وما يكون، وهو من حيث ظهوره باعتباره مبدَعًا أولُ ناقص يسعى إلى كماله بإبراز جوانبه المختلفة. وعلى ذلك يُفهم الانبعاث للعقول الأخرى من العقل الأول على أساس أنه ظهورُ جوانبَ أخرى لهذا العقل كانت باطنة. ومثل هذا التصور ينفي التعدد الظاهري للعقول، كما نفينا من قبلُ التعددَ الفعلي لمستويات الوسيط الأول الذي تناولناه في الفصل السابق.

وإذا كان العقل الأول من حيث جانبه الباطن قد اتحد بالألوهة وحقيقة الحقائق والعماء، فإنه من حيث جانبه الظاهر كأول مبدع يرتبط بالاسم الإلهي البديع، وبحرف الهمزة من حروف اللغة.٨ والربط بين مراتب الوجود وحروف اللغة عند ابن عربي نابع من تصوره للعماء على أساس أنه النفَس الإلهي. وكما تتشكَّل حروف اللغة — ومن ثَم كلماتها — في النفَس الإنساني باعتماد أعضاء النطق على أماكن معينة في جهاز النطق، كذلك تتشكل الموجودات المختلفة في العماء، وتظهر عن طريق التجليات المختلفة الدائمة والمستمرة لحقائق الألوهة. وإذا كان المبدَعُ الأول هو العقل الأول، فمن الطبيعي أن يوازي حرف الهمزة في حروف اللغة، إذا وضعنا في اعتبارنا خلط القدماء بين الهمزة وألف المد التي هي حركة الفتح الطويلة؛ التي تمثل التحرر الكامل لهواء النفَس من أي احتكاك.

(٢) اللوح المحفوظ (النفس الكلية)

يمثل اللوح المحفوظ (النفس الكلية) أولى مراتب تجليات العقل الأول، وثانيةَ مراتب التجليات في العماء. وإذا كان العقل الأول يمثل الروح الكلي الذي تفرَّعت عنه الأرواح الجزئية للموجودات، فإن اللوح المحفوظ يمثل النفس الكلية التي تفرَّعت عنها النفوس الجزئية المدبرة للصور والأجسام في العالم الحسي. وقد توجه على إيجاد هذا اللوح أو النفس الكلية الاسمُ الإلهي «الباعث»؛ لأنها أول منبعِث عن العقل الأول، ويوازيها من حروف اللغة حرفُ الهاء. والفارق بين اللوح المحفوظ والعقل الأول فارق كمي لا كيفي؛ بمعنى أن كلًّا منهما يمثل مرتبة مختلفة لحقيقة العماء، أو النفس الرحماني، هو نفسه الفارق بين المدة الطويلة المفتوحة والهاء. فالهاء تمثل مرحلةً أدنى من التحرر على المستوى الصوتي؛ لما فيها من الاحتكاك نتيجةَ ضيق مخرج الهواء عنه في حالة المدة الطويلة. وإذا كان القلم أو العقل الأول في مستواه العلمي الباطن قد اتسم بالكمال، فإن اللوح المحفوظ يختص من العلوم بعلم ما يكون عنه إلى يوم القيامة.٩ إن الفارق بين العقل الأول واللوح المحفوظ فارق بين التجلي الأكمل المطلق والتجلي المحدود المقيد، وإن اتسما معًا بالنورية والصفاء. ولذلك يعتبِر ابن عربي اللوح أقلَّ في الصفاء والنورانية من العقل ويشبهه بالزمردة الخضراء، بينما يشبه العقل بالدرة البيضاء.١٠
ويمكننا أن نميز — مع ابن عربي — بين جانبين لحقيقة اللوح المحفوظ (النفس الكلية)، جانب منها يتصل بالعقل الأول ويطلق عليه ابن عربي اسم «القوة العلمية»، وجانب منها يتصل بما يليها من المعقولات — وهي الطبيعة — ويطلق عليه ابن عربي اسم «القوة العملية».١١ هذان الجانبان يتماثلان مع الجانبين اللذين أشرنا إليهما في العقل الأول، ويؤكدان الطبيعة البرزخية الوسطية لحقيقة اللوح المحفوظ (النفس الكلية). ومعنى ذلك أن اللوح المحفوظ بدوره له باطن وظاهر، باطنه إلى القلم حيث يمثل العلم الإلهي بالعالم، وهذه هي حقيقته الروحية أو العلمية. أما ظاهره فهو ظله الذي يمتد عنه مكونًا الطبيعة؛ أي: إن الطبيعة ليست موجودًا منفصلًا مستقلًّا عن اللوح أو النفس، بل هي الظل الكامن في هذه النفس بالقوة. وامتداد هذا الظل يمثل خروج الطبيعة من حالة القوة إلى حالة الفعل. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا أن هذا الخروج من حالة إلى حالة لا يعني الانفصال أو التميز الكامل؛ بقدر ما يعني تعدد المراتب لذات الحقيقة الواحدة. إن كمون الطبيعة في اللوح يتماثل مع كمون اللوح في العقل، كما يتماثل أخيرًا مع كمون العقل نفسه في العماء. وظهور هذه المستويات والمراتب من حالة الكمون إلى حالة الظهور العقلي؛ هي مجرد تصورات ذهنية اعتبارية؛ «إن الطبيعة ظل النفس الكلية الموصوفة بالقوتين المعبر عنها بلسان الشرع باللوح المحفوظ. فما لم يمتدَّ من ظل النفس وبقي فيها، فهو الذي نزلت به عن العقل في درجة النورية والإضاءة، وما امتد من ظل النفس فمن الطبيعة.»١٢
وليس معنى وجود اللوح أو النفس الكلية عن العقل الأول بالانبعاث انقطاعَ صلتها بالمصدر الأصلي، وهو عالم الألوهة أو البرزخ الأعلى، وإلا انقطع الخيط، وتوحَّد فكر ابن عربي بفلاسفة الفيض أو الصدور. إن ما يميز ابن عربي هو حرصه الدائم على الاحتفاظ بالمصدر الأصلي في حالة فعالية دائمة؛ هي فعالية الأسماء الإلهية وتوجهاتها الدائمة على الإيجاد والخلق الجديد. ونتيجةً لذلك فاللوح (النفس الكلية) — وكل الموجودات كذلك — لها وجه إلى علَّتها المباشرة، ووجه إلى هذا المصدر الأصلي. فالعلة المباشرة للنفس الكلية أو اللوح هي انبعاثها عن القلم أو العقل الأول. ويظل لها وجه إلى الحق، وهو تجلِّي الله للعقل لإيجاد هذه النفس. وهذا هو ما يؤكد عليه ابن عربي دائمًا؛ من أن لكل موجود في الوجود العقلي أو الحسي جانبًا إلى الحق، وجانبًا إلى الخلق الذي هو سببه وعلَّته المباشرة. وهذه العلل والأسباب المباشرة من عالم الخلق تمثل الحُجُب الإلهية التي يحتجب الله بها عن العالم. فالعقل الأول — في جانبه الباطن العلمي — لا يحجُبه شيء عن مبدعه، وهو في نفس الوقت حجابُه بين المبدع وبين النفْس؛ باعتباره سببها وعلَّتها المباشرة، «فلكل موجود عند سببٍ وجهٌ إلى سببه ووجه إلى الله، فهو برزخ بين السبب وبين الله. فأولُ البرازخ في الأعيان وجود النفس الكلية، فإنها وُجِدت عن العقل والموجِد الله، فلها وجه إلى سببها، ولها وجه إلى الله، فهي أول برزخ ظهر.»١٣ ويجب أن نفهم الظهور هنا بمعنى الظهور العقلي المتميز ذهنيًّا لا وجوديًّا.
إن اللوح المحفوظ (النفس الكلية) يتلقى قوته العلمية عن القلم الأول، وهذه القوة إنما تتصل بعلم ما يكون عن هذا اللوح وهذه النفس. وتشير القوة العملية في النفس الكلية إلى جانبها الفاعل من كونها نفْسًا. ومن هذا الجانب الفاعل يمتد ظل النفس عنها مكونًا الطبيعة. والعلاقة بين القوتين العلمية والعملية لا تقوم على الانفصال والتميز، فالقوة العملية إنما تعمل طبقًا لما تقتضيه القوة العلمية التي علمت وجود الطبيعة. ووجود الظل في النفس الكلية ناشئ عن احتجابها عن المصدر الأصلي بحجاب العقل الأول الذي يفصل بينهما بذاته. فقد تجلَّى الحق للعقل الأول لإيجاد النفس الكلية، وعن ذلك التجلي النوري تكوَّن الظل، «فكان ذلك الظل الممتد عن ذات العقل — من نور ذلك التجلي وكثافة المحدث بالنظر إلى اللطيف الخبير — نَفْسًا؛ وهو اللوح المحفوظ.»١٤ وليس معنى ذلك أن النفس الكلية ظل خالص، فهي تستمد جانبها النوري من تجلِّي الحق لها، وتستمد ظلها من حيث سببها وعلَّتها المباشرة المحدثة التي هي العقل الأول. هذا الظل الجزئي الموجود في النفس الكلية نتيجةً لوجودها عن علة مباشرة محدثة؛ يمتد عنها بضربٍ آخرَ من التجلي فتظهر الطبيعة الكلية.

(٣) الطبيعة

تمثل الطبيعة إذن المرتبة الثانية من مراتب التجلي عن العقل الأول، والمرتبة الثالثة من مراتب التجلي عن العماء أو الخيال المطلق. إذا كانت هذه المرتبة — مثل ما سبقها من مراتب — متميزةً معرفيًّا، فإنها لا تتميز وجوديًّا أو حسيًّا؛ إذ إن وجودها وجود عقلي لا حسي؛ «وجعل الله مرتبة الطبيعة بين النفس والهباء مرتبة معقولة لا موجودة.»١٥ ولكن كيف امتد ظل النفس الكلية عنها مكوِّنًا الطبيعة؟ يحتاج مثل هذا الامتداد — أيضًا — إلى تجلٍّ إلهي حتى تحتفظ الطبيعة بعلاقتها المصدر الأصلي. والتجلي الإلهي الذي ظهرت عنه الطبيعة تجلٍّ من الاسم الإلهي «الباطن»، ويوازيها من الحروف اللغوية حرف العين. وإذا كان ابن عربي يضع الطبيعة في المرتبة الثالثة بعد العقل الأول والنفس الكلية أو اللوح، فإنه يضع بعدها في الترتيب كلًّا من الهيولى الكل أو الجوهر الهبائي والجسم الكل. توجَّه على الجوهر الهبائي الاسم الإلهي «الآخر»، وله من الحروف حرف الحاء، أما الجسم الكل فقد توجَّه عليه الاسم الإلهي «الظاهر»، وله من الحروف حرف «الغين».١٦ وللأسماء الإلهية هنا دلالتها، فالطبيعة تمثل باطن النفس الكلية (اللوح المحفوظ)، والجسم الكل يمثل الظهور الأول المعقول في الجوهر الهبائي أو الهيولى الكل؛ الذي يمثل بدوره آخر مراتب عالم الأمر. ومعنى ذلك أن الهباء — أو الهيولى الكل — كان آخر المراتب المعقولة التي تجلَّت لها الطبيعة من بطونها في النفس الكلية (اللوح المحفوظ)، فظهر عن هذا التجلي الجسمُ الكل أول مراتب عالم الخلق؛ «وكان امتداد هذا الظل على ذات الهيولى الكل فظهر من جوهر الهيولى والطبيعة الجسمُ الكل مظلمًا، ولهذا شبهوه بالسبجة السوداء لهذه الظلمة الطبيعية.»١٧
ويجب الإشارة هنا إلى أن التمييز بين هذه المراتب يتسم — عند ابن عربي — ببعض الغموض، فهو أحيانًا يوحِّد بين الجوهر الهبائي والجسم الكل، ويطلق على الجوهر الهبائي — أيضًا — اسم «السبجة السوداء» كما أطلقه على الجسم الكل.١٨ وفي أحيان أخرى كثيرة يخلط بين هذا الجوهر الهبائي وبين العماء من جهة، وبينه وبين حقيقة الحقائق من جهة أخرى؛ فيطلق عليه اسم الهيولى الكل؛ كما هو واضح في النص السابق وفي نصوص أخرى كثيرة.١٩ ولكن مثل هذا الغموض يزول إذا أدركنا أن هذه المراتب ليست مراتبَ وجوديةً بالمعنى الحسي، بل هي موجودات معقولة تمثل وسائط ذهنية. وهذا هو الفارق الذي أشرنا إليه بين ابن عربي وبين فلاسفة الصدور أو الفيض. إن ترتيب الموجودات هنا، وما يرتبط به من أسماء إلهية ويوازيه من حروف اللغة، إنما يمثل جوانب مختلفة لحقيقة واحدة هي حقيقة النفَس الإلهي على مستوى الحروف، وحقيقة الألوهة على مستوى الأسماء. إن الترتيب مجرد تصور ذهني عقلي، والأمر في حقيقته دائرة يرتبط أولها بآخرها، «فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله العقل، فهو أول الأجناس. وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة، واتصل الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها؛ فكانت الدائرة. وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضًا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر. ولما كانت الخطوط الخارجية من النقطة التي في وسط الدائرة إلى المحيط الذي وُجِد عنها؛ تخرج على السواء لكل جزء من المحيط، كذلك نسبةُ الحق تعالى إلى جميع الموجودات نسبةٌ واحدة، فلا يقع هناك تغير البتة كانت الأشياء كلها ناظرة إليه وقابلة منه ما يَهَبها نظرَ أجزاء المحيط إلى النقطة.»٢٠ وعلى ذلك لا يجب النظر إلى اللوح المحفوظ والطبيعة والجوهر الهبائي والجسم الكل باعتبارها كائناتٍ مستقلةً منفصلة عن العقل الأول أو الحقيقة المحمدية، بل يجب التعامل معها على أساس أن تجليات مختلفة لحقيقة واحدة هي جوهر العماء أو الألوهة. ويكون التداخل والخلط بين أسماء هذه المراتب ليس خلطًا على الحقيقة أو غموضًا.
إن العلاقة بين الطبيعة والهباء والجسم الكل ليست علاقة انبعاث كما هي العلاقة بين اللوح المحفوظ والعقل الأول، بل الأحرى القول إنها علاقةُ تفاعلٍ تقوم على التداخل والتوالج بين هذه المراتب المختلفة لحقيقة النفس الكلية. وابن عربي نفسه يعبر عن هذه العلاقة بالتوالج وبالنكاح المعنوي، ويستخدم مفرداتٍ لغويةً مثل الأب والأم والأبناء. وإذا كان انبعاث اللوح المحفوظ (النفس الكلية) عن العقل الأول «كانبعاث حوَّاء من آدم في عالم الأجرام»،٢١ فإن اللوح المحفوظ (النفس الكلية) تتضمن بدورها بذورَ الأمومة والأبوة اللتين أشرنا إليها باسم القوة العلمية والقوة العملية. القوة العملية تتوجه على إيجاد الصُّوَر، والقوة العلمية تتضمن المعرفة التي تعمل من خلالها القوة العملية. ومعنى ذلك أن القوة العلمية تمثِّل الأبوة، بينما تمثل القوة العملية الأمومة؛ «فبصفة العمل تظهر صور العالم عنه كما تظهر صورة التابوت عن عمل النجار فيها ويعطي الصور. والصُّور على قسمين؛ ظاهرة حسية، وهي الأجرام وما يتصل بها حسًّا كالأشكال والأكوان، وصور باطنة معنوية غير محسوسة، وهي ما فيها من العلوم والمعارف والإرادات. وبتينك الصفتين ظهر ما ظهر من الصور، فالصفة العالمة أب؛ فإنها المؤثر، والصفة العاملة أُم؛ فإنها المؤثر فيها.»٢٢
الأبوة والأمومة إذن هما القوتان العلمية والعملية في اللوح المحفوظ [النفس الكلية] التي تُعتبر بدورها مثل حوار — الأم — لصدورها صدورًا انبعاثيًّا عن القلم الأول الذي يمثل آدم الأب. وعن القلم الأول واللوح المحفوظ، أو الأب والأم الأصليين — آدم وحواء — ظهرت آباء وأمهات أُخَر هم بمثابة أبناء للأب والأم الأصليين. اللوح المحفوظ من حيث علاقته بالطبيعة أب، وهو أُمٌّ من حيث علاقته بالعقل الأول. والطبيعة من جانب آخر أم من حيث علاقتها باللوح المحفوظ، وأبٌ من حيث علاقتها بالهباء والجسم الكل، «وبعد أن عرفت الأب الثاني من الممكنات، وأنه أمٌّ ثانية للقلم الأعلى، كان مما أُلقيَ إليها من الإلقاء الأقدس الروحاني الطبيعةُ والهباء، فكان أول أم ولدت توءمين: فأول ما ألقت الطبيعة ثم تبعتها بالهباء، فالطبيعة والهباء وأخ وأخت، فكان الطبيعة الأب؛ فإن لها الأثر، وكان الهباء الأم؛ فإن فيها ظهر الأثر، وكانت النتيجة الجسم، ثم نزل التوالد في العالم إلى التراب على ترتيب مخصوص.»٢٣ إن الأب الثاني — بعد العقل الأول — هو اللوح المحفوظ؛ وذلك من حيث علاقته بما يليه. أما من حيث علاقته بالعقل الأول فهي أم، ولا بد هنا من استخدام الاسم المؤنث (النفس الكلية). وإذا كان ابن عربي — فيما سلف — يشير إلى علاقة الانبعاث بين العقل والنفس الكلية في ضوء علاقة آدم بحواء، فمن الطبيعي أن يكون أول نتاج عن التوالد بينهما توءمين هما الطبيعة والهباء. هذان التوءمان يتناكحان بدورهما — الطبيعة أب والهباء أم — فيُنتجان الجسم الكل.

إن هذا الوصف التفصيلي الحسي الذي يُغرَم به ابن عربي دائمًا لا يجب أن يَلفتنا عن كون هذه الحقائق مراتبَ وتجلياتٍ لحقيقة واحدة تتكثَّر عقليًّا لا وجوديًّا؛ إذ كلها تجليات عن النفَس الإلهي (العماء) الذي هو عين المتنفِّس. وكلها موجودات روحية لا حسية، وعقلية لا عينية. إنها تبدو كذلك في عقولنا من حيث كوننا صورًا لحقيقة باطنية، أو كما يقول ابن عربي شعرًا:

الحمد لله الذي بوجوده
ظهر الوجودُ وعالمُ الهيمان
والعنصر الأعلى الذي بوجوده
ظهرتْ ذواتُ عوالم الإمكان
من غير ترتيبٍ فلا متقدم
فيه ولا متأخر بالآن
حتى إذا شاء المهيمنُ أن يرى
ما كان معلومًا من الأكوان
فتح القديرُ عوالم الديوان
بوجود روحٍ ثم روحٍ ثانِ
ثم الهباء وثم جسم قابل
لعوالم الأفلاك والأركان٢٤
وعلى ذلك يجب أن نفهم الطبيعة بما صدر عنها من الهباء والجسم الكل فَهمًا يتباعد عن الوجود الحسي العيني. وإذا كان كل من العقل الأول واللوح المحفوظ حقائقَ روحية، فالطبيعة حقيقة عقلية غير موجودة العين. وإذا كان ابن عربي يضعها ثالثة في ترتيب الموجودات، فإن هذا الوضع قد تم، كما يقول، على أساس افتراضي لا حقيقي: «اعلم أن الطبيعة في الرتبة الثالثة عندنا من وجود العقل. وهي معقولة الوجود غير موجودة العين … فقدَّر سبحانه مرتبة الطبيعة أنه لو كان لها وجود لكان دون النفْس، فهي وإن لم تكن موجودة العين، فهي مشهودة للحق. ولهذا ميَّزها وعيَّن مرتبتها، وهي للكائنات الطبيعية كالأسماء الإلهية تُعلَم وتُعقَل، وتظهر آثارها، ولا تُجهل، ولا عين لها جملة واحدة من خارج. كذلك الطبيعة تعطي ما في قوتها من الصور الحسية المضافة إليها الوجودية ولا وجود لها من خارج.»٢٥

إن هذا التوازي الذي يقيمه ابن عربي بين الطبيعة والأسماء الإلهية؛ يتسق مع التوازي الذي يقيمه بين الهباء والعماء، فتتوجه الطبيعة على الهباء لإيجاد الجسم الكل كما تتوجه الأسماء الإلهية على العماء لإيجاد الأعيان الثابتة فيه. وإذا كان الجسم الكل موجودًا في الهباء بالقوة، وكذلك الأعيان الثابتة موجودة في العماء باعتبارها حقائق، فإن الجسم الكل يمكن أن يوازي الأعيان الثابتة؛ لوجوده في الهباء كما توجد الأعيان الثابتة في العماء. وعلى ذلك لا نبعد كثيرًا إذا اعتبرنا هذه المستويات الأربعة لعالم الأمر، وهي القلم واللوح والطبيعة والهباء، مستوياتٍ موازيةً لمراتب الخيال المطلق الذي حللناه في الفصل السابق، وإن كانت غير منفصلة — وجوديًّا — عنها. هذه التوازيات الرباعية — كما يقول ابن عربي — توجد على جميع المستويات الوجودية، فهي في عالم الألوهة «تسمى هناك حياةً وعلمًا وإرادةً وقولًا، كما تسمى في الأجسام حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة، كما تسمى في الأركان نارًا وهواءً وماءً وترابًا، كما تسمى في الحيوان سوداء وصفراء وبلغمًا ودمًا، والعين واحدة، والحكم مختلف.»

فالعين واحدةٌ والحكم مختلف
وذاك سر لأهل العلم ينكشف٢٦
وإذا كانت الألوهة قد توجَّهت على إيجاد العالم من أربع نسب: هي الحياة والعلم والإرادة والقول، فإن الطبيعة الكلية — بالمثل — قد توجهت على إيجاد صور العالم الطبيعي من أربع نسب: هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. وكل نسبة من هذه النسب الطبيعية تقابل نسبة إلهية من النسب الأربع المذكورة. فالطبيعة على ذلك ذات معقولة — كالألوهة — ولها أربع نسب، «فهي ذات معقولة مجموع أربع حقائق. يسمى أثر هذه الأربع في الأجسام المخلوقة الطبيعية حرارةً ويبوسة وبرودة ورطوبة. وهذه آثار الطبيعة في الأجسام لا عينها؛ كالحياة والعلم والإرادة، والقول في النسب الإلهية، وما في الوجود العيني سوى ذات واحدة. فالحياة تنظر إلى الحرارة، والعلم ينظر إلى البرودة، والإرادة تنظر إلى اليبوسة، والقول ينظر إلى الرطوبة.»٢٧ ولكي يعلل ابن عربي هذه الموازاة بين النِّسب الأربع الإلهية ونظائرها الطبيعية؛ يلجأ إلى التأويل مستشهدًا بالقرآن والحديث. فالموازاة بين صفة الحياة ونسبة الحرارة مَردُّها إلى أن «الحي الطبيعي لا بدَّ من وجود الحرارة فيه.»٢٨ والموازاة بين العلم والبرودة مَردُّها أن النبي وصف العلم بالثلج وبرد اليقين، «ومنه قوله حين وجد برد الأنامل بين ثدييه فعَلِم عِلمَ الأولين والآخرين.»٢٩ أما الموازاة بين الإرادة واليبوسة فلِأنَّ الإرادة هي العزم على فعل الشيء، والعزم قُوَّة وصلابة كما هي اليبوسة، ويستشهد ابن عربي بقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ.٣٠ وتتم الموازاة بين القول والرطوبة على أساس أن القول قد يوصف باللين، وقد يوصف بالشدة، ويستشهد ابن عربي بقوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.٣١
ويقيم ابن عربي — من جانب آخر — توازياتٍ بين هذه النسب الإلهية والطبيعية والموجودات المعقولة الأربعة من زاوية التداخل والتوالج بين كل مستوًى من مستويات هذه النسب. فإذا كانت نسبة الحياة شرطًا لوجود نسبة العلم، فإن العقل الأول شرط لوجود النفس الكلية (اللوح المحفوظ). وعلى ذلك يتوازى العقل الأول مع نسبة الحياة مع نسبة الحرارة الطبيعية. وتتوازى النفس الكلية مع نسبة العلم التي تتوازى بدورها مع نسبة البرودة، وهذه كلها تسمى النسب الفاعلة. أما النسب المنفعلة فهي على المستوى الإلهي الإرادةُ والقول، وعلى المستوى المعقول الطبيعةُ والهباء، وهي الرطوبة واليبوسة على المستوى الطبيعي. وهذه الحقائق الأربع — بمستوياتها الثلاثة — هي أصل ظهور العالم بمراتبه الثلاث: وهي الألوهة وعالم المعقولات والعالم الطبيعي المحسوس.٣٢

إن هذه التوازيات والتداخلات التي يقيمها ابن عربي بين العقل الأول والنفس الكلية والطبيعة والهباء؛ تؤكد التوحيد بين هذه المراتب، وتستهدف وضعها في فَلك واحد أصغر من الفلك الأكبر الذي حللناه في الفصل السابق بمراتبه الأربع، وأطلقنا عليه — مع ابن عربي — الخيال المطلق أو البرزخ الأعلى أو العماء. في هذا العماء وُجِد القلم الأول بالإبداع، وانبعثت النفس الكلية عن هذا القلم. وعنهما معًا وُجدت الطبيعة والهباء فأنتجا بدورهما الجسم الكل أولَ موجودات عالم الخلق؛ وهو العرش.

وإذا كنا في تحليل المجموعة الأولى من مجموعة الوسائط اعتبرنا العقل الأول أو الحقيقة المحمدية هي العلة الغائية، فإنها تتحول في هذه المجموعة الثانية إلى أن تكون علة فاعلة. ويصبح الجسم الكل أو العرش هو العلة الغائية. ويمكن بالمِثل اعتبارُ النفس الكلية بما يمتد عنها من ظل هو الطبيعة الكل العلة الهيولانية، وأن نعتبِر الهباء هو العلة الصورية. ويجب أن نلاحظ أن التمايز بين العلل في هذا المستوى ليس على نفس الدرجة من الوضوح التي وجدناها في المجموعة الأولى؛ وذلك بحكم علاقة التداخل والتوالج بين مراتب هذا المستوى. وأكثر من ذلك يمكن اعتبارُ كل مرتبة من مراتب هذا المستوى علةً فاعلةً، قائمة بذاتها، لها تأثيرها المستقل في عالم الخلق أو العالم الحسي. فالعقل الأول هو مصدر كل علم من كونه عقلًا، «وهو الذي ظهرت منه هذه العقول بوساطة هذه النفوس الطبيعية.»٣٣ والنفس الكلية هي مصدر كل النفوس الجزئية المدبرة للأجسام. أما الطبيعة فهي مصدر كل المولدات الطبيعية في عالم الأجسام، والهباء مصدر كل الصور الظاهرة في عالم الكون والفساد.
وإذا كان عالم الخيال المطلق يمثل وسيطًا بين الذات الإلهية والعالم، فإن عالم المعقولات بمراتبه المختلفة يمثِّل بدوره وسيطًا بين عالم الخيال وعالم الحس المشهود. إنها عالم الأمر الذي يفصِل بذاته بين العالمَين ويجمع بينهما في نفس الوقت. وكما يتكون عالم الخيال المطلق من مراتب أربع، كذلك عالم الأمر يتكون من مراتب أربع. والفارق بين المراتب الأربع لعالم الخيال المطلق والمراتب الأربع لعالم المعقولات؛ هو أن المراتب الأربع الأولى تمثل مستوياتٍ متوازيةً لحقيقة واحدة، بينما تمثل المراتب الأربع الثانية مستوياتٍ متداخلةً لنفس الحقيقة. والفارق بين التوازي والتداخل في الحالتين هو الفارق بين الإطلاق الكامل في الحالة الأولى، والإطلاق النسبي في الحالة الثانية؛ بمعنى أن الوسائط الأولى في الخيال المطلق هي وسائطُ كلية مطلقة، أما وسائط عالم المعقولات فهي وسائطُ أقلُّ إطلاقًا؛ وذلك لتباعدها — من حيث المرتبة — عن الذات الإلهية المطلقة، واحتجابِها عنها بوسيط عالم الخيال المطلق، واقترابها — بالتالي — من عالم الوجود المقيد المضاف. وإذا كانت الذات الإلهية يمكن تمثيلها بنقطة الدائرة، فعالم الخيال المطلق أو العماء يمثل الدائرة الأولى المحيطة بهذه النقطة، وتمثل دائرة المعقولات الدائرة الأبعد عن هذه الدائرة الأولى. هذا إذا نظرنا للوجود من جهة نقطة الدائرة، فإذا نظرنا إليها من زاوية الوجود المقيد المضاف للعالم الحسي — كما يفعل ابن عربي — كانت دائرة الخيال المطلق هي الدائرة الأوسع التي تضم في داخلها دائرة المعقولات. وهذه بدورها تضم في داخلها دائرة الموجودات الحسية من أعلاها، وهو الجسم الكل أو العرش، إلى أدناها؛ وهو عالم العناصر.٣٤
١  الفتوحات ١ / ١٤٨.
٢  الفتوحات ٢ / ٦٧٥.
٣  الفتوحات ٣ / ٤٣٠.
٤  انظر: عقلة المستوفز  ٥١-٥٢.
٥  الفتوحات ١ / ٢٩٥.
٦  عقلة المستوفز  ٥٥. وقد لاحظ الجيلي هذا الاضطراب في تعبير ابن عربي. انظر: الإسفار عن رسالة الأنوار  ٢٤٥–٢٤٧، وانظر أيضًا: اصطلاح الصوفية ص١٤.
٧  الفتوحات ٣ / ٤٣٠.
٨  انظر: الفتوحات ٢ / ٤٢٠، ٤٢٧.
٩  انظر: اصطلاح الصوفية  ١٤.
١٠  انظر: اصطلاح الصوفية  ١٢.
١١  انظر: الفتوحات ٣ / ٤٢٠.
١٢  الفتوحات ٣ / ٢٩٦.
١٣  الفتوحات ٢ / ٥٦٨.
١٤  الفتوحات ٣ / ٤٣٠.
١٥  الفتوحات ٢ / ٦٧٥.
١٦  الفتوحات ٢ / ٤٣٠، ٤٣١، ٤٣٣.
١٧  الفتوحات ٣ / ٢٩٦. هكذا في الفتوحات «السبجة» بالجيم، وفي اصطلاح الصوفية بالخاء. والجيم هي الأصل. انظر: القاموس المحيط، مادة سبج.
١٨  انظر: اصطلاحات الصوفية  ١٢.
١٩  انظر على سبيل المثال: الفتوحات ١ / ١١٩، ٢ / ١٥٠، ٢ / ٤٣١-٤٣٢.
٢٠  الفتوحات ١ / ١٢٥.
٢١  الفتوحات ١ / ١٣٩.
٢٢  الفتوحات ١ / ١٣٩-١٤٠.
٢٣  الفتوحات ١ / ١٤٠.
٢٤  عقلة المستوفز  ٢٣-٢٤.
٢٥  الفتوحات ٢ / ٤٣٠.
٢٦  الفتوحات ٣ / ٤٣٠.
٢٧  الفتوحات ٢ / ٤٣٠.
٢٨  الفتوحات ٢ / ٤٣٠.
٢٩  الفتوحات ١ / ٢٩٣.
٣٠  الفتوحات ٢ / ٤٣٠.
٣١  الفتوحات ٢ / ٤٣٠.
٣٢  الفتوحات ١ / ٢٩٣.
٣٣  الفتوحات ٢ / ٦٧.
٣٤  انظر هذه الدوائر في: الفتوحات ٣ / ٤٢١–٤٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤