الفصل الثالث

التأويل والمعرفة

(١) طبيعة المعضلة المعرفية

إن قيام الوجود الإنساني على ازدواجية الظاهر والباطن يمثل جوهر المعضلة المعرفية، فباطن الإنسان هو حقائق الألوهة، وظاهره هو حقائق الكون. ويمثل ظاهره حجابًا وغطاءً على باطنه بنفس القدر الذي يمثل به الكونُ بكل مستوياته ومراتبه حجابًا على حقائق الألوهة. وتتجلَّى هذه المعضلة في الإنسان — معرفيًّا — في اتجاهين مختلفين، فالإنسان إذا نظر إلى باطنه وكوْنِه على الصورة الإلهية اغترَّ وأصابه الكِبْر، وتجاوز ظاهره الكوني المادي، ووصل به الأمر إلى ادعاء الألوهة. وإذا نظر إلى جانبه المادي الكوني متجاهلًا باطنَه الإلهي استغرقته حاجاتُه المادية، وهبط — معرفيًّا — إلى أسفل من دَرك الحيوان والجماد. إن حل المعضلة لا يتمثل في تجاهل أحد البعدين وإنكاره لحساب الآخر، بل يتمثل في ضرورة التوافق والتناغم بينهما، فليس ظاهر الإنسان الكوني — في حقيقته — إلا مَجلًى إلهيًّا لا يتعارض مع باطنه، فهما وجهان لحقيقة وجودية واحدة لا تنقسم ولا تتعدد.

إن الإنسان حين ينظر إلى بُعده الإلهي الباطن وكونه على الصورة، دون أن يدرك أبعاد الاختلاف والمغايرة بينه باعتباره صورةً وبين الأصل الذي انعكس عنه؛ معرَّضٌ للسقوط والضياع؛ وذلك بادعاء الألوهة. وإنما يكون هذا الادعاء بسبب النسبة الجامعة بين الله والإنسان التي هي الصورة؛ «ولذلك لم يدَّعِ أحدٌ مِن خلق الله الألوهيةَ إلا الإنسان، ومَن سواه ادُّعيت فيه وما ادعاها؛ قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى١ ومثل هذا الادعاء يحجُب الإنسان عن سر عبوديته، ومفارقتِه للأصل الذي يُعدُّ صورةً له. إن الإنسان في حقيقته ليس إلهًا وإن توهم ذلك لكونه على الصورة الإلهية. إن هذا الادعاء من جانب الإنسان يرتدُّ في حقيقته إلى أنه نظر إلى بُعد المماثلة بينه وبين الله؛ متجاهلًا الأبعاد الأخرى. وإذا كنا نجد ابن عربي أحيانًا في موقف المشفق بل المتعاطف مع الإنسان في موقفه المعرفي المشكل، فإننا في أحيان أخرى نجده أقربَ إلى الإدانة وإصدار الحكم، فالإنسان الذي يدَّعي الألوهية — وإن انطلق من بُعد المماثلة — «يعلم من نفسه ويعلم كلُّ سامع من خلق الله أنه كاذب في دعواه، وأنه عبد ولذلك خلقه الله. فلهذا قيل فيه إنه خصيم مبين؛ أي: ظاهر الظلم في خصومته.»٢ وإذا كان الإنسان كاذبًا في دعواه، ويعلم أنه كاذب، انتفى الموقف المشكِل، وتحولت القضية برمتها إلى قضية صدق وكذب. ومع ذلك فإن الحكم بالكذب من جانب ابن عربي يمكن فَهمُه في ضوء موقف العارف المتحقق بالحقيقة من الجاهل الذي لا يدرك سوى أحد جانبيها.
إن الشريعة والوحي جاءا لمواجهة هذا الموقف بحلول تردُّ الإنسان إلى حقيقته، وتقهر جبروته المزعوم. إن ادعاء الألوهية في الإنسان داء، والشريعة تمثل الدواء الذي يقضي على هذا الداء، ويردُّ الإنسان إلى عبوديته وضعفه وعدمه الأصلي. «ولما علم سبحانه أن سر الألوهية في الإنسان داء عُضال كثَّر الأدوية، فما زال ينبهك في كتابه العزيز على أدويتك لهذا الداء لتستعملها فتبرأَ منه، فقال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، فهذه حقيقة، وفي هذه الحقيقة لم تزل الملائكة، وقال تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً. فالضَّعف الأول — بحكم التحقيق لا بحكم التفسير — خلْقُه إياك على فطرة العالم كله، والقوة نفخُه سرَّ الجمعية العامة الكبريائية فيك بعد تسويتك. والضعف الثاني والشيبة هو ما حصل لك من شرب دواء المعرفة الذي أعطاك فاستعملتَه، وبهذا تقع الفائدة، فلست من نمط العالم في شيء، ولا تتميز معهم البتة؛ فإنك انفصلت عنهم بسر الألوهية. فإن استعملته ولم تشرب من هذه الأدوية شيئًا، خرجت مع فرعون والنمرود وكلِّ مَن ادعى الربوبية على قدره.»٣
إن الشريعة تمثل وسيطًا بين طرفين: الطرف الوجودي، والطرف المعرفي. من الناحية الوجودية فالإنسان على فطرة العالم (وهذا هو الضعف الأول في الآية) وفيه سر الألوهة (وهذه هي القوة في الآية). من هذه الناحية يأتي الادعاء والكِبْر والداء، فتأتي الشريعة بمثابة الدواء لتردَّ الإنسان — معرفيًّا — إلى عبوديته (وهي حالة الضعف الثانية)، فيدرك الإنسان ضعفه الأول وأصلَه الوجودي العدمي. وبذلك يلتقي طرفا الوجود والمعرفة عن طريق وسيط الشريعة. قد نعترض على ابن عربي قائلين: إن الشريعة نفسها هي التي جاءت بالمماثلة بين الله والإنسان فيما يزعمه المتصوفة من قول الرسول : «إن الله قد خلق آدم على صورته.» ومن السهل على ابن عربي أن يردَّ على هذا الاعتراض بأن الشريعة — بدورها — لها جانبان: ظاهر وباطن، ومحكم ومتشابه، وتنزيه وتشبيه، ولا يجب أن نفهم أحد الجانبين بمعزل عن الآخر، فالنظر إلى جانب منهما دون الآخر يؤدي — بدوره — إلى واحدية المعرفة، ولا يؤدي إلى المعرفة الكاملة، كما سنتعرض له بالتفصيل بعد ذلك. إن الرفعة الإلهية التي جاءت بها الشريعة في وصف الإنسان ليست رفعة ذاتية له من حيث عينُه، ولكنها رفعة بالإعارة والإضافة. وهذه الرفعة لا تتحقق بكمالها إلا بتمام المعرفة، فهي «رفعة تعطيها الحقائق، لا تَعصِم من نار ولا تُدخل نعيمًا، ولا يدخل بها أهلُ الجنة في جنتهم ولا أهلُ النار في نارهم، فلا فائدة فيها، ولا سلطان لها على السعادة، وبها زلَّت أقدام أكثرِ أهل هذه الطريقة، وهي التي أخرجتهم عن الشريعة.»٤

إن المعرفة التي تعتمد على الشريعة بجانبَيها الظاهر والباطن هي التي تؤدي إلى الكمال الإنساني. أما الوقوف عند جانب واحد من جانبَي الإنسان — أو الشريعة — فلا يؤدي إلى الكمال، وقد أدَّى وقوف الإنسان عند جانبه الباطني إلى الكِبْر وادعاء الألوهية، فماذا لو وقف الإنسان عند الجانب الآخر؛ جانبِه المادي الكوني؟

إن وقوف الإنسان عند هذا الجانب قد يؤدي به إلى الاستغراق في حاجاته المادية الجسدية فينسى سرَّ الألوهة فيه، وينحطُّ إلى دركٍ أسفلَ من درك الحيوان. وهذا هو معنى أن الإنسان خُلق في أحسن تقويم، ثم رُدَّ إلى أسفل سافلين، فهما حالتان: الحالة الأولى هي حالته الروحية الباطنة قبل تلبُّسه بالمادة وعناصر الجسد التي هي عناصر الكون، والحالة الثانية هي حالة تلبُّس الروح بالجسد، أو احتجابِ باطن الإنسان بظاهره الكوني. وإذا كان الظاهر والباطن، أو الروح والجسد، ليسا متعارضَين في الحقيقة؛ لأن حقائق الكون ليست سوى حقائق الألوهة، فعلى الإنسان أن يَعيَ حقيقته الروحية حالةَ تلبُّسه بالمادة؛ بمعنى أنه يجب أن يتجرد عنها ويخلص إلى حقيقته الباطنية، والتجردُ هنا ليس تجردًا وجوديًّا بالموت، بل هو تجرد معرفي لا يفارق وجوده المادي. وإذا نجح الإنسان في هذا التجرد المعرفي حالةَ تلبُّسه بالمادة، فهو في أحسن تقويم، وإذا فشِل في هذا التجرد واستغرقه اللباسُ المادي عن حقيقته الروحية، فهو في أسفل سافلين. «إن للإنسان حالتين: حالة عقلية نفسية مجردة عن المادة، وحالة عقلية نفسية مدبِّرة للمادة. فإذا كان في حال تجريده عن نفسه، وإن كان متلبسًا بها حسًّا، فهو على حالته في أحسن تقويم، وإذا كان في حال لباسه المادةَ في نفسه كما هو في حسه، فهو على حالته في خُسْر لا ربحَ في تجارته فيه.»٥
المعضلة إذن معضلة معرفية لا وجودية، فالنفس — كما أسلفنا — واقعة بين طرفَي نقيض: بين الروح والعقل (بالمعنى الصوفي) من جهة، والهوى والشهوة اللذين هما توابعُ الجسد من جهة أخرى. فإذا تجرد الإنسان معرفيًّا أطاعت النفسُ الروح واستحقت اسمَ النفس المطمئنة، وإذا لم ينجح الإنسان في هذا التجرد، أطاعت النفسُ الهوى والشهوةَ واستحقت اسم الأمَّارة بالسوء. في الحالة الأولى يكون الإنسان في أحسن تقويم، وهي حالة الإنسان الكامل خليفةِ آدم الذي هو الخليفة الأصلي. أما في الحالة الثانية فيكون الإنسان في أسفل سافلين، وهي حالة الإنسان الحيوان الذي يشبه الإنسان الكامل في الصورة الظاهرة دون الحقيقة الباطنة. إن الفارق بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان — من جانب آخر — يتمثل في أن الإنسان الكامل ظلٌّ لنور آدم الخليفة الأول؛ الذي هو بدوره ظلٌّ لنور الحقيقة المحمدية الأزلية، بينما الإنسان الحيوان مجرد حشرة لا تختلف عن سائر الحيوان. قد يمكن القول بأن كلًّا من الإنسان الكامل والإنسان الحيوان يشتركان معًا في صفة الإنسانية، وينفصلان عن الحيوان بالفصل المقوِّم للإنسان؛ وهو النطق أو النفس الناطقة. وابن عربي لا ينكر ذلك، فالنفس الإنسانية الناطقة هي جزء من النفس الكلية بقوتَيها العلمية والعملية. وبهذا القدر يسمى الإنسان إنسانًا، ولكن الإنسان الكامل ينفصل — بعد ذلك — عن الإنسان الحيوان بحدود أخرى، وإن اجتمعا في حدِّهما الإنساني. وهذا هو ما يعبِّر عنه ابن عربي بقوله: «فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية، وظهر فيها جميعُ قوى الحيوان، أعطاه الفكر من قوة النفس العملية، وأعطاه ذلك من قوة النفس العلمية من الاسم الإلهي المدبر، فإن الحيوان جميعُ ما يعمله من الصنائع وما يعلمه ليس عن تدبير ولا رويَّة، بل هو مفطور على العلم بما يصدر عنه، لا يعرف من أين حصل له ذلك الإتقانُ والإحكام … بخلاف الإنسان فإنه يعلم أنه ما استنبط أمرًا من الأمور إلا عن فكر ورويَّة وتدبير، فيعرف من أين صدر هذا الأمر، وسائر الحيوان يعلم الأمر ولا يعلم من أين صدر. وبهذا القدر سُمِّي إنسانًا لا غير، وهي حالة يشترك فيها جميع الناس إلا الإنسان الكامل، فإنه زاد على الإنسان الحيوان في الدنيا بتصريفه الأسماءَ الإلهية التي أخذ قواها لما حذاه الحق عليها حين حذاه على العالم. فجعل الإنسان الكامل خليفةً عن الإنسان الكل الكبير الذي هو ظل الله في خلقه، فعن ذلك هو خليفة، ولذلك هم خلفاء عن مستخلف واحد، فهم ظلاله للأنوار الإلهية التي تقابل الإنسان في الوجود العنصري، فيكون ذلك الظل خليفة، فيوجد عنه الخلفاء خاصة. وأما الإنسان الحيوان فليس ذلك أصلَه جملةً واحدة، وإنما حُكمه حكم سائر الحيوان إلا أنه يتميز عن غيره بفصله المقوِّم له … فالإنسان الحيوان من جملة الحشرات، فإذا أكمل فهو الخليفة، فاجتمعنا لمعانٍ وافترقنا لمعانٍ.»٦
الفارق بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان ليس فارقًا وجوديًّا، ولكنه فارق معرفي. والكمال الإنساني بذلك أمر متاح ومفتوح لكافة البشر، فحيوانيَّتُنا قابلة للسموِّ والارتفاع والوصول إلى مرحلة الكمال. ولا يعني الوصولُ إلى درجة الكمال تجردَ الإنسان عن إنسانيته، أو لنقُلْ: لا يعني كمالُه تجردَه عن عبوديته، فالإنسان الكامل على الحقيقة هو الذي يتحقق بعبوديته المحضة التي لا تشوبها رائحة من الربوبية، وإلا كان معنى الكمال ادعاء الألوهية والكبر. إن الكمال — في نظر ابن عربي — تجاوز للثنائية التي تتجلى في الظاهر والباطن للألوهية والعبودية. وهذا التجاوز لا يتم إلا بالتحرر والشفافية، وهي حالة الفناء التي يصل إليها الصوفي في معراجه المعرفي. وحالة الفناء هذه هي نوع من الموت الاختياري المؤقت، ولا يصل الإنسان إلى مرتبة الكمال — وبذلك يكون نائبًا عن الحق وخليفة — إلا بهذا الموت الاختياري المؤقت عن حقائقه المادية وطبيعته العنصرية. والفارق بين حالة الفناء والموت الطبيعي هو فارق بين المعرفة الاختيارية التي يحصِّلها الإنسان في الدنيا، والمعرفةِ الاضطرارية التي تصل إليها الأرواحُ بعد الموت. المعرفة في الحالة الأولى لها نتائجها من النعيم الكامل برؤية الله الدائمة، والمعرفة في الحالة الثانية نتيجتها الحجاب عن الله والعذاب الجسدي؛ بمعنى أنها معرفة لا تُثمر نتائج المعرفة الأولى. إن حالة الفناء هي اتصال الإنسان بعالم البرزخ يستمد منه معرفته، ويكون فيه نائبًا عن الحق، «إن هذه المرتبة التي هي هذه النيابة الخاصة لا تكون إلا بالموت، والموت قسمان: اضطراري وهو المشهور في العموم والعرف، وهو الأجل المسمى الذي قيل فيه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، والموت الآخر موت اختياري؛ وهو موت في حياة دنياوية، وهو الأجل المقضيُّ في قوله تعالى: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا. ولمَّا كان هذا الأجل المقضيُّ معلومَ الوقت عند الله مسمًّى عنده، كان حُكمه في نفسه حكم الأجل المسمى، وهو قوله عزَّ وجل: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى؛ يعني في حاله. ولا يموت الإنسان في حياته إلا إذا صحَّت له هذه النيابة، فهو ميت لا ميتٌ كالمقتول في سبيل الله، نقله الله إلى البرزخ لا عن حكم الشهادة، فولَّاه النيابة في البرزخ في حياته الدنيا، فموته معنوي، وقتْلُه مخالفة نفسه.»٧

وهذا الموت الاختياري — أو حالة الفناء — ليس إلا محصلة لرحلة شاقة، تستهدف الوصول إلى المعرفة الحقة، والوصولَ إلى الكمال الإنساني. والمرحلة لا بُد أن تبدأ بظاهر الإنسان الكوني وتنتهي إلى باطنه الإلهي. وهي بذلك رحلة في اتجاه مضادٍّ لرحلة التمثل الإلهي في أعيان صور الموجودات، وهما الطريقان المتساويان؛ طريق الرب إلى العبد، وهو التجلي في أعيان صور الممكنات؛ وصولًا إلى الإنسان آخر المجالي وأرقاها، ورحلة العبد من ظاهره الكوني إلى باطنه الإلهي. وإذا كانت الرحلة الأولى من حالة الإطلاق في الألوهة إلى حالة التقيُّد في مراتب الوجود المختلفة؛ رحلةً في الخيال المطلق أو البرزخ، فرحلةُ الصوفي بدورها رحلةٌ خيالية برزخية تنتهي إلى الاتصال بالخيال المطلق. ومن ناحية أخرى، فرحلة الصوفي الخيالية تتم بآلة من نفس المصدر؛ وهي قوة الخيال الإنساني التي ليست بدورها سوى جزءٍ من الخيال المطلق المنفصل. وهذه الرحلة الخيالية تمكِّن العارف من الوصول إلى حقائق الوجود، وتمكِّنه — من ثَم — من تأويل مظاهره الحية وصولًا إلى معناها الباطن. وهذه الرحلة أيضًا تمكِّن الصوفي من الجمع بين طرفَي الوحي الظاهر والباطن في كل منسجم متناغم، فيلتقي تأويله الوجودي بتأويله للوحي كما التقى جانباه الظاهر والباطن. وهذا كله يمثل موضوع الصفحات التالية.

(٢) المعراج الصوفي والخيال

سبق أن أشرنا إلى أن ظهور أعيان الممكنات عن النفَس الإلهي، بدءًا من العقل الأول وانتهاءً إلى الإنسان، ليس إلا التمثل الخيالي الإلهي، وهذا التمثل الخيالي الإلهي يمر بمراتبَ ثلاث: المرتبة الأولى هي مرتبة الإطلاق أو الخيال المطلق؛ المتمثل في حقائق الألوهة والعماء وحقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية. المرتبة الثانية هي مرتبة التقيد الروحي التي تتمثل في العقول الروحية؛ وهي العقل الأول والنفس والطبيعة والهباء. أما المرتبة الثالثة فهي مرتبة التقيد الحسي الظاهري بدءًا من الجسم الكل (العرش) وانتهاءً إلى عالم العناصر، مرورًا بالكرسي والأفلاك الثابتة والمتحركة.

وإذا كان الإنسان قد جمع حقائقَ كل هذه المراتب، فهو في نفسه — كما أسلفنا — مخلوق خيالي برزخي؛ بمعنى أنه ناتج عن رحلة التمثل الإلهي الخيالي … وتتجلى برزخية الوجود الإنساني في مستويات عديدة مختلفة، فهو يجمع بين الظاهر والباطن، أو بين الروح والمادة، كما أن وجوده يمثل «برزخًا جامعًا للطرفين»؛٨ أي: طرفِ الحق وطرف الخلق. وهو من جهة أخرى يمتلك قوة الخيال المعرفية التي يتميز بها عن غيره من المخلوقات، فهو أحق بهذه التسمية وأَولى بها. وإذا كانت بعض الموجودات غير المتحيزة — كالملائكة مثلًا — قابلةً للتحيز في حضرة الخيال الوجودي والظهور فيها؛ وذلك كظهور جبريلَ في صورة دحية الكلبي للرسول أو في هيئة أعرابي أمام الصحابة، فإن ذلك لا يقدم في أحقية الإنسان لاسم الخيال. «ولا شك أنك أحق بحضرة الخيال من المعاني ومن الروحانيِّين؛ فإن فيك القوة المتخيلة، وهي من بعض قواك التي أوجدك الحق عليها، فأنت أحق بملكها والتصرُّف فيها من المعنى؛ إذ المعنى لا يتصف بأن له قوةَ خيال ولا الروحانيون من الملأ الأعلى بأن لهم في نشأتهم قوةَ الخيال، ومع هذا فلهم التميز في هذه الحضرة الخيالية بالتمثل والتخيل، فأنت أولى بالتخيل والتمثل منهم؛ حيث فيك هذه الحضرة حقيقة، فالعامة لا تعرفها ولا تدخلها إلا إذا نامت ورجعت القوى الحساسة إليها، والخواص يرون ذلك في اليقظة لقوة التحقق بها، فتصوُّر الإنسان في عالم الغيب في حضرة الخيال أقرب وأولى، ولا سيما وهو في نشأته له في عالم الغيب دخولٌ بروحه الذي هو باطنه، وله في عالم الشهادة دخولٌ بجسمه الذي هو ظاهره.»٩
إن الخيال — بهذا الفهم — أحد الأبعاد التي يتماثل بها الله والإنسان، «فالخيال موجِد لله عز وجل في حضرة الوجود الخيالي، والحق موجِد للخيال في حضرة الانفعال الممثل … وإذا ثبت إلحاق الخيال في قوة الإيجاد بالحق ما عدا نفسه، فهو على الحقيقة المعبر عنه بالإنسان الكامل، فإنه ما ثَم على الصورة الحقيَّة مثلُه، فإنه يوجد في نفسه كل معلوم ما عدا نفسه، والحق نسبة الموجودات إليه مثل هذه النسبة.»١٠ فالإنسان يمثل من حيث وجوده موقعًا وسطًا، فهو موجود خيالي. وهو من حيث قواه يمتلك القوة الخيالية، فهو أحق باسم الخيال من غيره من الموجودات. وليس امتلاك الإنسان لهذه القدرة أو القوة الخيالية في الإنسان قوةً إدراكية، فإنها يمكن أن تصير — في الإنسان الكامل — قوةً خلَّاقة موجدة تتماثل مع قوة الإيجاد الإلهي في الخيال. يمكن للعارف أو الإنسان الكامل عن طريق مخيِّلته أن يخلق من الصور البرزخية كما يشاء، ويؤثِّر بها على مخيِّلة غيره من البشر فيراها كائناتٍ محسوسة. والفارق بين الإيجاد الإلهي في الخيال والإيجاد الإنساني هو دوام الأول وفَناء الثاني؛ لأن التجليات الإلهية الدائمة تحفظ على الأول وجوده آنًا بعد آنٍ. أما الموجود الخيالي الذي يخلقه العارف فلا يثبت؛ لأن خالقه تطرأ عليه الغفلة والنسيان التي لا تجوز على الحق سبحانه. هذه القوة الخلاقة الخيالية عند العارف هي ما يطلق عليها ابن عربي اسم «الهمة»، ويعني بها القوة الإلهية في قلب الإنسان الكامل.١١

وإذا صحَّ لنا أن نطلق على الخيال المطلق اسم الخيال الميتافيزيقي، وعلى الخيال الوجودي اسم «الخيال الصوري» كما يسميه ابن عربي، فإن الخيال الإنساني هو الخيال «المعرفي»، والعلاقة بين هذه المراتب الثلاث للخيال لا تقوم على الانفصال، فمهمة الخيال الإنساني «المعرفي» اختراق وسائط «الخيال الصوري» وصولًا إلى الخيال المطلق «الميتافيزيقي». إن رحلة المعرفة الصوفية سعيًا لتجاوز ثنائية الظاهر والباطن في الإنسان لا تتم بآلة غريبة عن الموضوع الذي تخترقه وتنفُذ إليه، أو عن الهدف النهائي الذي تسعى إليه. وإذا كان الخيال المطلق بكل مستوياته يمثل برزخًا بين الذات الإلهية وغيرها، فإن خيال العارف يتوقف عند هذا الوسيط؛ إذ هو كما سبقت الإشارة وسيطٌ معرفي، إلى جانب كونه وسيطًا وجوديًّا. إن موضوع المعرفة وأداتها ليسا منفصلَين في الحقيقة وإن كانا متميزين. التمايز يؤدي إلى تمام المعرفة، والتداخل يجعلها ممكنة. وحين تتحقق المعرفة تنتفي ثنائية الذات والموضوع، ويعود خيال العارف إلى منبعه ويتَّحد بأصله. وحين تنتفي ثنائية الذات والموضوع، تنتفي معها بالتالي ثنائيةُ الظاهر والباطن، وتكتمل دائرة المعرفة بالإنسان كما اكتملت به دائرة الوجود.

تبدأ رحلة الصوفي الخيالية في اتجاه معاكس لرحلة التمثل الإلهي، تبدأ بتنقية خزانة الخيال الإنساني مما يمكن أن يكون قد عَلِق بها من كدورات نتيجةَ وجودها في الجسم البشري وخضوعها لسيطرة الحواس. إن الخيال قوة إدراكية تتوسط بين العقل والحس، «إليه ينزل المعنى وإليه يرتفع المحسوس، فهو يلقى الطرفين بذاته.»١٢ وإذا كان هذا الموقع الوسطي للخيال يجعله أداة قادرةً على النفاذ في الخيال الوجودي، فإنه — من جانب آخر — يجعله في حاجة إلى قوة أخرى حتى يصل إلى العلم الصحيح، وهو الوصول إلى المعنى الكامن خلف الصورة. وإذا كانت القوة المفكرة هي التي تقوم بهذه المهمة على المستوى المعرفي عند الفلاسفة، فابن عربي، والمتصوفة عمومًا، لا يعتدُّون بهذه القوة. إن القوة التي يحتاجها الخيال قوة إلهية كشفية. وهذه القوة — بدورها — تحتاج من الصوفي التحمُّل لتصفية خزانة الخيال مما يلحق بها من الكدورات؛ نتيجةَ وجود خزانة الخيال في الجسم الطبيعي، «وهو المعبر عنه بالحوض في هذا المنزل، وقعرُ هذا الحوض هو خزانة الخيال، وكدَرُ ماء هذا الحوض المستقر في قعره هو ما يوجه الخيال والتخيل عن صورته، فيطرأ التلبيس على الناظر بما ظهر له فما يدري أي معنًى لبِس هذه الصورة فيتحير، ولا يتخلص له ذلك أبدًا من نظره إلا بحكم الموافقة، وهو على غير يقين محقَّق فيما أصاب إلا بإخبار الله.»١٣
إن الخيال وإن تمكن من إدراك الوجود والنفاذ إلى مستوياته المختلفة وصوره المتعددة؛ يظل في حاجة إلى قوة أخرى تنقذه من اختلاط الظاهر بالباطن في الوجود، ومن امتزاج المعنى والصورة في داخله؛ حتى يصل إلى العلم الصحيح. وهذه القوة تحتاج للتعمل والمجاهدة وتصفية النفس من الشواغل؛ حتى يمكن تأويل ما يدركه الخيال تأويلًا صحيحًا. وإذا كنا سنؤجل التعرض لهذه القضية للفقرة المقبلة، فالذي يهمنا الآن هو التركيز على أهمية الخيال في رحلة المعراج الصوفي، وعلى ضرورة تصفيته وجِلائه؛ لكي يكون مستعدًّا وقابلًا للقيام بهذه الرحلة. ولا يمكن في نظر ابن عربي الوصولُ إلى الباطن إلا من خلال الظاهر؛ سواءٌ على مستوى الوجود أو الشريعة. إن تجاوز الثنائية لا يتم إلا من خلال الوسائط التي تجمع الطرفين وتميِّزهما في نفس الوقت. والشريعة — كما أسلفنا — هي الوسيط الذي يَعصم الإنسان من الكبر وادعاء الألوهة كما يعصمه من الهبوط إلى الحيوانية. ومن الطبيعي أن يكون استعداد الصوفي لرحلته المعرفية منطلقًا من تحقُّقه التام بأوامر الشريعة وتكاليفها الظاهرة؛ حتى يصل إلى درجة التوكل التي تُنتج له مجموعةً من الكرامات. ويترقى بعد ذلك في المقامات والأحوال حتى يصل إلى المعرفة الحقة، «فأول ما يجب عليك طلبُ العلم الذي به تقيم طهارتك وصلاتك وصيامك وتقواك، وما يُفرض عليك طلبُه خاصة، لا تزيد على ذلك، وهو أول باب السلوك. ثم العمل به، ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكل. وفي حال من أحوال التوكل يحصل لك أربع كرامات هي علامة وأدلَّة على حصولك في أول درجة التوكل؛ وهي طيُّ الأرض والمشي على الماء واختراق الهواء والأكل من الكون، وهو الحقيقة في هذا الباب، ثم بعد ذلك تتوالى المقامات والأحوال والكرامات والتنزُّلات إلى الموت.»١٤
وكلما زادت مشاهدات الصوفي وترقِّيه في الأحوال والمقامات المتعددة،١٥ ارتفعت عنه الحُجُب حجابًا وراء حجاب، فيصل إلى المعرفة التي لا ينالها غيره إلا بالموت. ومع رقيِّه في الأحوال والمقامات المختلفة يزيد باطنه علمًا — بقدر ما ينقُص من ظاهره، وذلك في رحلة الصعود والإسراء من عالم العناصر إلى العالم الأعلى. فإن كان العارف من أهل الفناء والاستهلاك كأبي يزيد البسطامي، ظلَّ متحققًا بباطنه، «وخُلِعت عليه خِلَع الذلَّة والافتقار والانكسار، فطاب عيشُه ورأى ربَّه فزاد أنسُه واستراح من حمل الأمانة المعارة التي لا بد له أن تؤخذ منه.»١٦ وإن كان العارف من أهل البقاء عاد من رحلته وخرج إلى الخلق بصورة الحق، فينقُص من باطنه بقدر ما يَزيد في ظاهره. وحين يعود الصوفي من هذه الرحلة مزوَّدًا بهذه المعرفة الحقيقية يكون قادرًا على تجديد الشريعة وإدراك جانبها الباطن.
«إن رحلة الصوفي تنتهي إلى تجاوز ثنائية الظاهر والباطن على المستوى الوجودي والإنساني، وكذلك على مستوى الشريعة. وليس معنى النقص والزيادة في الباطن والظاهر أن هناك ثنائيةً جديدة، بل الأحرى القول إن النقص في الظاهر تقابله زيادةٌ في الباطن، والنقص في الباطن تقابله زيادةٌ في الظاهر. والاعتبار في ذلك باتجاه الرحلة؛ فإن كانت الرحلة صاعدة كانت الزيادة في الباطن، وإن كان الصوفي عائدًا كانت الزيادة في الظاهر. وسبب ذلك التركيب»؛١٧ أي: تركيب الإنسان الطبيعي في هذا العالم المحسوس.

(٣) المعراج والكشف

إن رحلة الصوفي المعرفية رحلةٌ خيالية تستهدف الكمال الإنساني من جهة، وتحقيقَ الهدف النهائي من إيجاد الكون من جهة أخرى: «كنت كنزًا مخفيًّا لم أُعرف فأحببت أن أعُرَف، فخلقت الخلق؛ فبي عرفوني.» والإنسان جامع لطرفي الوجود (الظاهر والباطن) من حيث آخريتُه الكونية وأوَّليته الروحية. ولكي يتجاوز ظاهره وصولًا إلى باطنه لتحقيق كماله الذاتي، ويتجاوز ظاهر الكون وصولًا إلى باطنه وحقيقته؛ تحقيقًا للإرادة الإلهية، لا بد له أن يتخلص من عناصر الكون المتداخلة فيه والمكونة لطبيعته العنصرية والطبيعية. وهذا التخلص لا يتم إلا في الخيال عن طريق التجرد والزهد وتوجُّه الهمة إلى الله، «وأما الأولياء فلهم إسراءات روحانية برزخية يشاهدون فيها معانيَ متجسِّدة في صور محسوسة للخيال، يُعْطَون العلم بما تتضمنه تلك الصور من المعاني.»١٨ والعارفون «في هذا السفر مثل النائم فيما يرى في نومه وهو يعرف أنه في النوم.»١٩
والفارق بين الإسراء الصوفي والإسراء النبوي المحمدي — من هذه الجهة — هو أن هذا الإسراء الأخير إسراءٌ وانتقال حقيقي بالجسد، «وبهذا زاد على الجماعة رسول الله بإسراء الجسم واختراق السموات والأفلاك حسًّا، وقطْعِ مسافات حقيقية محسوسة؛ وذلك كله لورثته معنًى لا حسًّا من السموات فما فوقها … فإن إسراءاتِهم تختلف لأنها معانٍ متجسدةٌ؛ بخلاف الإسراء المحسوس، فمعارج الأولياء معارجُ أرواح ورؤيةُ قلوب وصور برزخيات ومعانٍ متجسِّدة.»٢٠
إن التخلص من عناصر الكون إذن يتم برحلة خيالية؛ أي: يتم في هذه الحياة الدنيا والروحُ ما زالت تحلُّ في الجسد، وهو الموت الاختياري. ويتم هذا التخلص التدريجي بدءًا من عالم العناصر الطبيعية صعودًا إلى السماء الأولى حتى السماء السابعة، ثم فلك الكواكب، وفلك البروج والكرسي والعرش والطبيعة والهباء واللوح والقلم؛ إلى عالم الخيال المطلق. «فهذا الإسراء فيه حلَّ تركيبهم، فيوقفهم بهذا الإسراء على ما يناسبهم من كل عالم بأن يمرَّ بهم على أصناف العالم المركب والبسيط، فيترك مع كل عالَم من ذاته ما يناسبه. وصورة ترْكِه معه أن يرسل الله بينه وبين ما ترك منه مع ذلك الصنف من العالم حجابًا، فلا يشهده، ويبقى له شهود ما بقي حتى يبقى بالسر الإلهي، الذي هو الوجه الخاص الذي من الله إليه. فإذا بقي وحده رُفِع عنه حجاب الستر، فيبقى معه الله تعالى كما بقي كلُّ شيء منه مع مناسِبه، فيبقى العبد في هذا الإسراء هو لا هو، فإذا بقي هو لا هو أسري به حيث هو لا من حيث لا هو إسراءً معنويًّا لطيفًا.»٢١
وإذا كانت عناصر الكون التي يخترقها الخيال الصوفي في رحلته الصاعدة لها ظاهرٌ وباطنٌ، كما سبقت الإشارة، فالصوفي لا يقف عند ظاهر هذه المراتب الوجودية، بل يتجاوز ظاهرها إلى باطنها الروحي، أو لنقُلْ: إن الصوفي لا يستمد معرفته من أجسام الكواكب، بل يستمدها من أرواحها المدبرة لها بمراتبها المختلفة؛ سواء كانوا حُجَّابًا أو ولاة أو نوَّابًا كما فصلنا في الباب السابق. «إن العامة ما تشاهد إلا منازلهم، والخاصة يشهدونهم في منازلهم كما أيضًا تشاهد العامة أجرامَ الكواكب ولا تشاهد أعيان الحجاب.»٢٢ فالعارف يكتسب المعرفة بباطن الكون من الأرواح المدبِّرة لكل مراتب الوجود. وعلى الصوفي أن يكون على حذر دائم من الخلط بين الكشف الخيالي والكشف الحسي، وعليه أيضًا أن يَحذَر الوقوف عند صورة بعينها من صور الوجود والاكتفاءَ بها، وإلا لم يتجاوز علمه هذه المرتبةَ التي وقف عندها.
ولكي يتجنب الصوفي المزلق الأول عليه أن يستجب لنصيحة ابن عربي، فمعيار التفرقة بين الكشف الخيالي والإدراك الحسي أنك «إذا رأيت صورة شخص أو فعلًا من أفعال الخلق أن تُغلق عينيك، فإن بقي لك الكشف فهو في خيالك، وإن غاب عنك فإن الإدراك يَعلَق به في الموضع الذي رأيته فيه. ثم إذا لَهَيت عنه واشتغلت بالذكر، انتقلت من الكشف الحسي إلى الكشف الخيالي؛ فتتنزل عليك المعاني العقلية في الصور الحسية، وهو تنزُّلٌ صعب.»٢٣
والمزلق الثاني، وهو الوقوف عند مرتبة معينة من مراتب الوجود، أو صورة بعينها من صوره، قد يوقِف الصوفي عند درجة من درجات المعرفة، وهي درجة ناقصة بالضرورة. وهدف الصوفي هو التحقق بالمعرفة الحقة تحقيقًا لإرادة الله من التجلي في أعيان صور الموجودات. وهذا مزلق يحذِّر منه ابن عربي بقوله: «فليكن عَقدُك عند دخولك إلى خلوتك إن شاء الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فكل ما يتجلَّى لك من الصور في خلوتك ويقول لك أنا الله، فقل سبحان الله [ما] أنت بالله. واحفظ صورةَ ما رأيت والْهَ عنها، واشتغل بالذِّكر دائمًا؛ هذا عقد واحد. والعقد الثاني ألا تطلُبَ منه في خلوتك سواه، ولا تعلِّق الهمةَ بغيره، ولو عرض عليك كلَّ ما في الكون فخذه بأدب ولا تقف عنده، وصمِّم على طلبك، فإنه يبتليك، ومهما وقفت مع ذلك فاتَك، وإذا حصَّلتَه لم يفُتْك شيء.»٢٤
إن المعراج الصوفي وإن بدأ بالمجاهدة والتعمل والتحقق بظاهر الشريعة والخلوة، فالمعرفة الناتجة عنه تتوقف على التجلي الإلهي على قلب العارف وباطنه. وهذا التجلي بدوره لا يكون إلا على قدر علم العارف بنفسه، وعلمُه بنفسه يتوقف على ترقِّيه في معراجه وعلى المرتبة الوجودية التي يصل إلى اختراقها. ووقوف العارف عند مرتبة خاصة يعني نقصًا في علمه، ويعني بالتالي نقصًا في درجة التجلي. من هذا المنطلق يجب على السالك أن يبذل قصارى جهده، ولا يقفَ عند صورة كونية مهما كانت مرتبتها حتى يترقى في العلم والمعرفة إلى كمالها: «فما حصل لك من العلم به منه [من الله وبه] في مجاهدتك وتهيُّئك في الزمان الأول مثلًا ثم أشهدت في الزمان الثاني، فإنما تشهد منه صورةَ علمك المقررةَ في الزمان الأول، فما زدت سوى انتقالك من علم إلى عين والصورةُ واحدة.»٢٥ فالكشف — أو الشهود — متوقف على العلم، والعلم متوقف على المرتبة الكونية التي وقف عندها السالك؛ فكلما قلَّ علمه قلَّ كشفه وقلَّت مشاهداته. فإذا وصل العارف إلى مقام الكشف التام الذي ليس وراءه كشف، تحقَّق بحقيقته الروحية الباطنة وتحقق بباطن الوجود، وتحقق — من ثَم — بباطن الشريعة. وحصل بالتالي على المعرفة الحقة في هذه الحياة الدنيا، وهو ما زال في عالم الظاهر الحسي متحققًا بحقيقته الجسمية، محافظًا على ظاهر الشريعة وأوامرها ونواهيها، «فقد حصَّلت ما كان ينبغي لك أن تؤخره لموطنه؛ وهو الدار الآخرة التي لا عمل فيها، أوانَ زمان مشاهدتك لو كنت فيه صاحب عمل ظاهر. وتلقِّي علم بالله باطنٍ كان أولى بك؛ لأنك تزيد حسنًا وجمالًا في روحانيتك الطالبة ربَّها، وفي نفسانيتك الطالبة حصتَها، فإن اللطيفة الإنسانية تُحشر على صورة علمها، والأجسام تُنشر على صورة أعمالها من الحَسن والقبيح، وهكذا إلى آخر نَفَس. فإذا انفصلت من عالم التكليف وموطن المعارج والارتقاءات، حينئذٍ تجني ثمرة غرسك.»٢٦
إن الفارق بين المعرفة التي يتحقق بها العارف في رحلته هذه، وبين المعرفة التي نصل إليها جميعًا بعد الموت؛ هو الفارق بين النعيم، أو بين التمتع برؤية الله الدائمة في موطن «الكثيب» في الجنة، والعذابِ بحجابه الدائم عن غير العارفين. إن هذه المعرفة الصوفية هي مناط التكليف ومناط الثواب والعقاب، وهي معرفة ناتجة عن العمل بظاهر الشريعة، فالعمل هو الظاهر، والمعرفة هي الباطن، ولا يمكن الوصول إلى الباطن إلا من خلال الظاهر. وإذا كانت العبادة في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ تعني ظاهريًّا العباداتِ الشرعيةَ، فإنها يمكن أن تعني — باطنيًّا — المعرفةَ، «فلو عرَف نفسه بمعرفتهم دونهم ما أوجد عيونهم، فصحَّ التكليف في القِدَم والخلق في حال العدم.»٢٧ فالعبادة ظاهرها العمل وباطنها المعرفة، والمعرفة هي الهدف النهائي من الإيجاد الإلهي.٢٨

وإذا كانت رحلة الصوفي تحقيقًا للمعرفة، وتجاوزًا لثنائية الظاهر والباطن على مستوى الوجود والإنسان والشريعة؛ رحلةً خيالية، فإن العلم الناتج عنها يكون علمًا متلبِّسًا بالصورة، أو لنقُلْ: إن كشف الصوفي في هذه الرحلة كشف خيالي، ومن شأن الخيال الجمعُ بين طرفي الحس والعقل أو المعنى والصورة. وهذا بدوره يثير إشكاليةً جديدة لاحظنا طَرفًا منها في حديث ابن عربي عن حاجة الخيال لقوة تعدِّيه من الصورة إلى العلم الخالص، إلى قوة تأويلية — إن صحَّ التعبير — تتجاوز الصورَ إلى معناها الخالص. وإذا كان المتصوفة عمومًا، وابن عربي خصوصًا، لا يثقون بالفكر والعقل الذي اعتمد عليه الفلاسفة والمتكلمون، فإنهم يضعون «القلب» بديلًا عن العقل، فما هو دور «القلب» في عملية المعرفة؟ وما هو دوره مِن ثَم في التأويل؟ هذا ما سنتعرض له في الصفحات المقبلة.

(٤) الخيال والقلب

سبقت الإشارة في الموازنة بين الإنسان والعالم إلى قيام الإنسان على التربيع المتماثل مع حقائق العالم، فالإنسان مكوَّن من روح وعقل ونفس وجسم. وسبقت الإشارة أيضًا إلى العلاقة بين الروح والعقل من جهة، والنفس والجسم من جهة أخرى، فالنفس برزخ بين الروح والجسم، وهي بحكم طبيعتها البرزخية عُرضة لطرفَي النقيض، فإذا أطاعت الروح والعقل انتهت إلى الخلاص وصحَّ عليها اسمُ «النفس المطمئنة»، وإن أطاعت الهوى والشهوة — وهما من توابع الجسد — سقطت وصحَّ عليها اسمُ «الأمَّارة بالسوء»، وإذا كان الخيال قوةً من قوى النفس، فهو — بدوره — قوة وسيطة بين العقل والروح من جهة، والحس من جهة أخرى، ولا يتجاوز إدراكُه ومعرفته هذا الإطارَ البرزخي، فإنْ خضع لمعطيات الحواس فهو خيال العامة، وإن تلقَّى عن الروح والقلب فهو خيال العارفين الذين يدركون الأمور على ما هي عليه. وإدراك الخيال عن القلب في حالة العارف هو الإدراك الصحيح الذي لا يحتاج إلى تأويل في ذاته، (وإن احتاج التعبير عنه باللغة إلى مثل هذا التأويل).

ورحلة الصوفي وإن بدأت بالخيال الإدراكي العادي بعد تصفيته وتنقيته تنتهي في غايتها النهائية إلى تجاوز الوجود الظاهر الحسي؛ بمستوياته ومراتبه المختلفة، فيتلقى العارف عن ربه مِن تجلِّيه على قلبه، فيصبح القلب هو المجلى المعرفي، ويصبح الخيال مرآةً عاكسة لما في القلب، وينتقل العارف من المشاهدة إلى المكاشفة، كما انتقل في رحلته الخيالية من العلم إلى المشاهدة. ومعنى ذلك أن العلم يؤدي إلى المشاهدة، والمشاهدة ترتبط بالحال التي يكون عليها الصوفيُّ والتي تحدِّد له المقام المعرفي. فإذا وصل العارف إلى حالة الفناء أو الموت الاختياري تتم له المكاشفةُ فيرى الله في كل الأشياء. ولا يصبح تنوُّع الصور وعدم ثباتها في خياله عائقًا عن المعرفة، بل الأحرى القول إنه يدرك الثبات في التنوع، ويدرك أن كل هذه الصور ليست سوى مجالٍ لحقيقة ثابتة واحدة.

تحتاج المعرفة الخيالية إلى التأويل، بينما لا تحتاج المعرفة القلبية إلى مثل هذا التأويل. ولكن هذه المعرفة الأخيرة نتيجةٌ للأولى ولازمة عنها، وهي التي تجعل تأويلها ممكنًا وقائمًا على أساس صحيح. إن الوجود كلَّه صور خيالية منصوبة، وابن عربي لا يفتأ يذكِّرُنا بالحديث النبوي: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، «فإذا ارتقى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانًا وكشفًا؛ ولهذا ذكر الله أمورًا واقعةً في ظاهر الحس، وقال: فَاعْتَبِرُوا، وقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً؛ أي: جُوزوها واعبُروا ما ظهر لكم من ذلك إلى عِلم ما بطَن به.»٢٩ فالوجود الخيالي يحتاج إلى تجاوز صوره الظاهرة، والخيال الإنساني هو القادر على ذلك، فإذا تجلى الله على القلب وتحقَّق الإنسان بروحه الباطنة، التي محلها القلب، أمكن تأويلُ هذا الوجود الخيالي وفَهْم حقيقته الباطنة.٣٠

إن العلاقة بين الخيال والقلب تتوازى مع علاقة الظاهر بالباطن، فالخيال يوازي الوجود الظاهر من جهة، كما يوازي ظاهر الإنسان من جهة أخرى، والقلب هو باطن الإنسان، وهو من ناحية أخرى مَسكن الروح الإلهي في الإنسان. وعلاقة الظاهر بالباطن والخيال بالقلب لا تقوم على الانفصال؛ إذ يمثل الظاهر والخيال أداةً ومَعْبرًا للوصول للباطن والقلب، ولا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بعبور الظاهر. من هنا يكتسب الخيال الإنساني أهميته؛ فهو الأداة القادرة على عبور الظاهر الحسي الوجودي، والقلب هو الأداة القادرة على التأويل. والعبور والتأويل ليسا هدفَين منفصلين، بل هما وسيلتان لغاية واحدة هي المعرفة الصحيحة التامة.

إن الفارق بين ابن عربي والفلاسفة أن الفلاسفة أخضعوا الخيال للعقل، واعتبروا العقل هو «الوسيلة المثلى للمعرفة اليقينية، والمعيار الحقيقي الذي لا يخطئ في الحكم على الأشياء … وعندما يتسامى الفلاسفة — رغم تباين اتجاهاتهم واختلاف مصادرهم وأصولهم — بالعقل إلى هذه الدرجة، فمن الطبيعي أن ينظروا إلى الخيال الإنساني نظرةً متشككة حذِرة، تتراوح بين الريبة والهجوم الحاد.»٣١ وحتى الفلاسفة الذين اختلطت فلسفتهم بالنزعة الصوفية، كالفارابي وابن سينا، فرَّقوا بين طريقين في الاتصال بالعقل الفعَّال: طريق التأمل والنظر، وطريق الإلهام والمخيلة. الطريق الأول هو طريق الفلاسفة، ووسيلته النظر العقلي، «وإن يكن نادر الوجود وخاصًّا بعظماء الرجال.» والطريق الثاني خاص بالأنبياء، «فكل إلهاماتهم وما ينقُلون إلينا من وحي منزَّل أثرٌ من آثار المخيلة ونتيجةٌ من نتائجها.»٣٢ يختلف ابن عربي مع الفلاسفة ولا يَعتدُّ بالعقل من حيث اعتماده على القوة المفكرة، وإن اعتدَّ به إذا تحول إلى مجرد قابل ومتلقٍّ عن الروح أو القلب. وقد أشرنا فيما سبق إلى أنه نظر إلى العلاقة بين الروح والعقل من خلال منظور الإمداد من جانب الروح والاستمدادِ من جانب العقل. وهو من ناحية أخرى يختلف مع الفلسفة الممتزجة بالتصوف، فلا يرى الخيال المُلْهَم قاصرًا على الأنبياء، كما أنه لا يُقصِر دور الخيال على الاتصال بالعقل الفعَّال، بل يراه أداةً لعبور الخيال الوجودي بكل مراتبه؛ كما سبق أن وضحنا.
ومن الطبيعي بعد ذلك كله حين يقارن ابن عربي بين معراج الصوفي الخيالي ومعراج الفيلسوف الزاهد، أو «صاحب النظر» كما يسميه، أن تتوقف رحلة «صاحب النظر» عند آخر حدود الأفلاك المتحركة لا يتعداها، بينما يستمر الصوفي مخترِقًا آفاقَ الأفلاك الثابتة والعالم الروحي، فيدخل البيت المعمور، ولا يدخله صاحب النظر. «ثم ارتحل من عنده يطلب العُروجَ ومسك صاحبه صاحب النظر هناك، وقيل له قفْ حتى يرجع صاحبك؛ فإنه لا قَدم لك هنا.»٣٣ وإذا كان الفيلسوف والصوفي لا يتساويان في معراجهما، فهما لا يتساويان أيضًا في المعرفة التي يحصِّلها كلٌّ منهما في الآفاق التي يتساويان في الوصول إليها. والعلة وراء ذلك أن الصوفي أو التابع تتلقاه روحانيةُ الأنبياء المقيمين في هذه الفلاك، بينما تتلقى صاحبَ النظر أرواحُ الأفلاك ذاتها، وفارق بين المعرفة التي تهبها أرواح الأفلاك وتلك التي تهبها أرواح الأنبياء، «فكل ما حصل لصاحب النظر حصل للتابع، وما كل ما حصل للتابع حصل لصاحب النظر، فما يزداد صاحب النظر إلا غمًّا على غم.»٣٤

إذا تجاوزنا هذا الخلاف الأساسي بين ابن عربي والفلاسفة في دور العقل وفي مدى فاعلية الخيال، يمكن لنا القول إن مفهوم الخيال الإنساني عند ابن عربي وعلاقته بقوى الحس من جهة، وبالقوى الباطنة من جهة أخرى، لا يختلف كثيرًا عما نجده عند الفلاسفة. وابن عربي لا يطيل إطالةَ الفلاسفة في وصف قوى الإدراك وعلاقة بعضها ببعض، بل يكتفي بالإطار العام والخطوط العريضة، وإن كان يضعها في نسق فلسفته وتصوره الخاص. فالحواس لها جانبان: جانبها الظاهر وجانبها الباطن، أو الجانب المُلْكي والجانب الملكوتي، أو جانب الغيب وجانب الشهادة. الحواس من حيث جانبها الظاهر تؤدي انطباعاتها إلى المخيلة، ومن حيث جانبها الباطن هي أرواح نورية تؤدي إلى القلب وفي خدمته. وانطباعات الحواس الظاهرية هي صور المدركات المبصَرة أو المسموعة أو المشمومة أو المَذوقة أو الملموسة. ويهمنا الآن فيما يرتبط بوظيفة الخيال الجانبُ الظاهر من الحواس.

إن الحواس الخمس في علاقتها بالخيال مجرد آلات تنقُل انطباعها بالمحسوسات نقلًا أمينًا، إذا كانت صحيحةً خالية من العلل والموانع كالضعف والمرض ووجود الحُجب بين الحضور والشيء المدرَك. وتنتقل هذه الصور الحسية إلى الخيال كما هي، فيحتفظ بها أو ينقلها إلى القوة المصورة التي تُنشئ من جزئيات هذه الصور صورًا جديدة عناصرُها منتزَعة من الصور الحسية. ومعنى ذلك أن الخيال مجرد ناقل أمين لمعطيات الحس من جهة، وما تهبه القوة المصورة من جهة أخرى. والخيال بهذا الفَهم مجرد مرآة عاكسة من خارج (انطباعات الحواس) أو من داخل (القوة المصورة). «وجعل سبحانه القوة الخيالية محلًّا جامعًا لما تعطيها القوة الحساسة، وجعل لها قوةً يقال لها المصورة، فلا يحصل في القوة الخيالية إلا ما أعطاه الحس أو أعطته القوة المصورة. ومادة المصورة من المحسوسات فتركِّب صورًا لم يوجد لها عين، لكنْ أجزاؤها كلها موجودة حسًّا.»٣٥
فإذا انتقلنا من الخيال إلى القوة المفكرة، عدنا إلى خلاف ابن عربي مع الفلاسفة، فالقوة المفكرة في نظر ابن عربي بلاءٌ من الله للإنسان، والعقل إذا اعتمد عليها معرَّض للضلال؛ ولذلك لم يعتمد المتصوفة على هذه القوة المفكرة التي قد تقع في شبهةٍ تشوش عليها طريق المعرفة. ولم يعتمدوا على العقل المفكر المستدل، بل اعتمدوا على العقل القابل المستمد من الروح أو القلب. والعلة وراء عدم الثقة بالقوة المفكرة أنها تعتمد على مقولاتها الخاصة في التمييز بين معطيات الخيال، وقد تصل إلى المعرفة إذا كانت مقدماتها صحيحة، ولكنها تصل إلى الجهل إذا كانت المقدمات خاطئة، فصوابها ليس صوابًا ذاتيًّا كإدراك الحواس أو إدراك الخيال: «إدراك الحواس للأشياء إدراك ذاتي، ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات. وإدراك العقل على قسمين: إدراك ذاتي هو فيه كالحواس لا يخطئ، وإدراك غير ذاتي، وهو ما يدركه بالآلة التي هي الفكر وبالآلة التي هي الحس. فالخيال يقلِّد الحس فيما يعطيه، والفكر ينظر في الخيال فيجد الأمور مفرداتٍ، فيحب أن ينشئ منها صورةً يحفظها العقل فينسُب بعض المفردات إلى بعض، فقد يخطئ في نسبة الأمر على ما هو عليه وقد يصيب، فيحكم العقل على ذلك الحد فيخطئ ويصيب، فالعقل مقلِّد؛ ولهذا اتصف بالخطأ. ولما رأت الصوفية خطأ النظَّار عدلوا إلى الطريقة التي لا لَبْس فيها ليأخذوا الأشياء عن عين اليقين ليتصفوا بالعلم اليقين.»٣٦
إن خطأ العقل ينتُج من اعتماده على الآلة التي هي القوة المفكرة، والتي تقوم بالربط بين معطيات الحواس؛ بناءً على أدلتها. إن خطأ العقل ليس ذاتيًّا؛ إذ العقل في ذاته مقلد، ومن ثَم يجب عليه أن يقلِّد الروح، وأن يتلقَّى المعرفة من منبعها الأصيل: «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده القَبول. فإذا كان بهذه المثابة فقَبوله من ربه لِمَا يخبر به عن نفسه تعالى أَولى من قَبوله من فكره.»٣٧ إن ابن عربي والمتصوفة، خلافًا لما هو شائع، لا يهاجمون العقل بإطلاق، ولكن يهاجمون العقل الذي يعتمد على أدلته ومقولاته في الاستدلال؛ أي: يعتمد على القوة المفكرة.٣٨ وإذا كان العقل مجرد مقلِّد يتلقَّى عن الفكرة كما يمكن أن يتلقَّى مباشرةً عن الروح، فعلينا أن نفهم هجوم ابن عربي على العقل على أساس أنه هجوم على القوة المفكرة لا على العقل ذاته. وهذه القوة المفكرة هي البلاء الذي ابتلى الله به الإنسان، «فكان البلاء الذي ابتلاه الله به أنْ خلق فيه قوةً تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمةً لقوة أخرى تسمى العقل، وجَبَر العقل مع سيادته على الفكر أن يأخذ منه ما يعطيه، ولم يجعل مجالًا للفكر إلا في القوة الخيالية … وذلك لأن العقل خُلِق ساذَجًا ليس عنده من العلوم النظرية شيء. وقيل للفكر ميِّز بين الحق والباطل الذي في هذه القوة الخيالية، فينظر بحسَب ما يقع له، فقد يحصل في شُبهة، وقد يحصل في دليل عن غير علم منه بذلك، ولكن في زعمه أنه عالمٌ بصور الشُّبَه من الأدلة، وأنه قد حصل على علم، ولم ينظر إلى قصور المواد التي استند إليها في اقتناء العلوم، فيَقبلها العقلُ منه ويحكم بها، فيكون جهْلُه أكثرَ من علمه بما لا يتقارب … ولما رجعوا إلى الأخذ عن قواهم المفكرة في معرفة الله، لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة الله، وذهبت كل طائفة إلى مذهب، وكثرت المقالة في الجانب الإلهي الأحمى، واجترءوا غايةَ الجراءة على الله. وهذا كله من الابتلاء الذي ذكرنا من خلقه الفكرَ في الإنسان.»٣٩
الخيال إذن قوة من قوى النفس تحتل موقعًا وسطًا بين الحس والفكر، وإذا كان إدراك الحواس للأشياء إدراكًا ذاتيًّا، والخيال مقلِّد للحس، فمن الطبيعي أن يختلف موقف ابن عربي من الخيال عن موقف سابقيه من الفلاسفة؛ على أساس أن ما ينطبع فيه من خارج أو داخل، من الحس أو من المصورة، ينطبع انطباعًا ذاتيًّا. قد نجد ابن عربي أحيانًا يتحدث عن أغاليط الخيال كما يتحدث عن أغاليط الحواس، ولكنه يردُّ هذه الأغاليط إلى علل طارئة في الحواس، كما يردُّ أغاليط الخيال إلى وجوده في الجسم الطبيعي، وإلى اعتماده على القوتين الحافظة والمذكِّرة. وينتهي ابن عربي إلى أنه «ما من قوةٍ إلا ولها موانعُ وأغاليطُ، فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت.»٤٠ وعلينا دائمًا أن نكون على وعي بتفرقة ابن عربي بين خيال العامة وخيال العارفين؛ الذي يصل إلى درجة من النقاء والشفافية تمتنع معها إمكانية الغلط.

وليس الخيال بهذا الفهم مجردَ قوة حيوانية، ولكنه القوة الإنسانية الوحيدة التي تمكِّن الإنسان من اختراق ظاهره وصولًا إلى باطنه، أو من اختراق الصور الوجودية بمراتبها المتعددة في رحلة شاقة صاعدة وصولًا إلى معناها الباطن الروحي. إن الخيال وسيلة وليس غايةً في ذاته، إنه وسيلة إلى القلب أو إلى باطن الإنسان الروحي. وحين يصل العارف إلى التحقق بباطنه والتحقق بحقيقة الوجود، تنتقل هذه المعرفة وتنعكس إلى الخيال، فيتلقى المعرفةَ الحقة، ويميز المعنى في الصورة التي يدركها؛ ومن ثَم يصبح قادرًا على التأويل.

إن للقلب — كما لكل شيء في فكر ابن عربي — جانبين: جانبًا سلبيًّا وجانبًا إيجابيًّا. يتمثل الجانب الإيجابي في أن القلب الفيزيقي هو موطن الروح الخليفة الإلهي في أرض البدن الإنساني. والقلب من هذه الزاوية قابلٌ للتجليات الإلهية، وقابل للمعرفة الحقة والعلم الصحيح. «إن العلم الصحيح لا يعطيه الفكر ولا ما قررته العقلاء من حيث أفكارهم، وإن العلم الصحيح إنما هو ما يقذفه الله في قلب العالم، وهو نور إلهي يختص به مَن يشاء من عباده؛ مِن مَلَك ورسول ونبي وولي ومؤمن. ومن لا كشف له لا علم له.»٤١ ولا يتحقق هذا الكشف إلا بالمجاهدات والمَشاقِّ التي أشرنا إليها.
أما الجانب السلبي للقلب فيتمثل في الغفلة التي يمكن أن تطرأ عليه، واشتغالِ صاحبه بأعراض الدنيا الزائلة فتصدأ مرآته. وقد يطرأ هنا سؤال: إذا كان القلب هو موطن الروح، والروح من العالم الأعلى، عالم الملكوت، والتجليات الإلهية دائمة لا تنقطع ولا تتوقف، فكيف يمكن للقلب أو للروح أن تنقطع صلتها بهذه التجليات؟ وتكمن إجابة ابن عربي على هذا السؤال فيما سبق أن أشرنا إليه من أن علاقة الظاهر بالباطن أو الروح بالجسم ليست قائمةً على الانفصال، فالنفس وسيط بينهما؛ لها وجه إلى الروح والعقل ووِجهةٌ إلى الجسم الطبيعي. ومن هذا المنطلق فإن النفس إذا اشتغلت بظاهرها وتجاهلت باطنها، كان هذا الاشتغال بمثابة الرانِ الذي يطرأ على مرآة القلب: «إن القلب مرآةً مصقولة كلها وجه لا تصدأ، فإن أطلق عليها أنها صَدئت، كما قال عليه السلام: إن القلوب لَتصدأُ كما يصدأ الحديد. وفيه أن جِلاءها ذِكر الله وتلاوة القرآن، ولكن من كونه الذكر الحكيم، فليس المراد بهذا الصدأ أنه طَخاءٌ على وجه القلب، ولكنه لما تعلَّق واشتغل بعلم الأسباب عن العلم بالله، كان تعلُّقه بغير الله صدأً على وجه القلب؛ لأنه المانع عن تجلي الحق إلى هذا القلب؛ لأن الحضرة الإلهية مُتجلَّاة على الدوام لا يُتصور في حقها حجابٌ عنا. فلما لم يَقبلها هذا القلب من جهة الخطاب الشرعي المحمود لأنه قَبِل غيرها، عَبَّر عن قَبول ذلك الغير بالصدأ والكُن والقُفل والعمى والران وغير ذلك.»٤٢
إن التجلياتِ الإلهيةَ الدائمة — وجوديًّا ومعرفيًّا — تمنع أن يكون هناك صدأ حقيقي على مرآة القلب، وإنما الغفلة والنسيان هو التعلق بالأسباب والأغيار والاشتغال بها. وحقيقة الأمر أن كل قلب عنده العلم بالله وإن تصوَّر صاحبُ القلب غير ذلك: «فالحق يعطيك أن العلم عنده، ولكن يغير الله في علمه وهو بالله في نفس الأمر عند العلماء بالله.»٤٣ فالمسألة إذن مسألة غفلة عن حقيقة العلم الباطن في القلب، ولكن هذه الغفلة تمثل حجابًا معرفيًّا بين باطن الإنسان وظاهره، وهذا الحجاب يَعوقه عن كماله المنشود.

ويمكن التعبير عن جانبَي القلب من خلال ثنائيات عديدة هي: الظاهر والباطن، ولَمَّة الملَك ولَمَّة الشيطان، والخواطر المحمودة والخواطر المذمومة؛ إذ القلب محور لكل هذه التناقضات وواقع بين طرفيها. قد يقال إن الشيطان والخواطر المذمومة والتعلق بالظاهر أمورٌ نفسية تتعلق بالنفس أكثرَ مما تتعلق بالروح، ولكن علينا ألا ننسى أن النفس في تصور ابن عربي هي كريمة الروح وحرَّته، كما سبقت الإشارة، فكونها مصدرَ كل شيء لا ينفي أنها في النهاية واسطةٌ بين الظاهر والباطن والجسم والروح والخواطر المذمومة والخواطر المحمودة ولمة الشيطان ولمة الملَك. والفارق بين القلب والنفس — في نظر ابن عربي — أن القلب لا يخلو عن المعرفة، وإن كانت هذه المعرفة محجوبةً لا تظهر على النفس، وهي من ثَم معرفة كامنة لا فائدة منها.

ومما له دلالته في هذا الصدد أن ابن عربي يفرِّق في التجليات الإلهية بين التجلي إذا كان على ظاهر النفس، وبين نفس التجليات إذا كانت على باطن النفس. فإذا كانت التجليات على ظاهر النفس «وقع الإدراك بالحس في الصورة في برزخ التمثل، فوقعت الزيادة عند المتجلى به في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة، وفي علوم موازين المعاني إن كان منطقيًّا، وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويًّا.»٤٤ وإذا وقع التجلي على باطن النفس «وقع الإدراك بالبصيرة في عالم الحقائق والمعاني المجردة عن المواد؛ وهي المعبر عنها بالنصوص؛ إذ النص ما لا إشكال فيه ولا احتمالَ بوجه من الوجوه، وليس ذلك إلا في المعاني، فيكون صاحب المعاني مستريحًا من تعب الفكر، فتقع له الزيادة عند التجلي في العلوم الإلهية وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما يتعلق بالآخرة، وهذا مخصوص بأهل طريقتنا.»٤٥
إن التفرقة بين هذين النوعين من التجليات تؤدي إلى التفرقة بين نوعين من العلوم: العلوم الدنيوية، كالفقه والمنطق والنحو، وعلوم الباطن؛ وهي علوم المعاني المجردة التي لا إشكال فيها ولا تحتمل التأويل؛ وهي التي يعبر عنها ابن عربي ﺑ «النصوص»، وهو مصطلح سنتعرض له فيما يلي. ويضيف ابن عربي إلى النوع الأول من هذه العلوم «الإدراك الحسي بالصورة في برزخ التمثل»، ومعنى ذلك أن المعرفة الخيالية تنتمي لظاهر النفس، والمعرفة الباطنية وعلوم الأسرار تنتمي لباطن النفس. وإذا كانت العلوم الباطنية لا تحتمل اللَّبس أو التأويل، فإن العلوم الأولى هي التي تحتاج للتأويل، ولا يمكن الوصول لتأويلها إلا بعلوم الباطن والأسرار، كما لا يمكن الوصول إلى علوم الباطن والأسرار إلا من خلال علوم الظاهر. إن التجلياتِ الإلهيةَ في التحليل الأخير هي الأصل الوجودي والمعرفي في نفس الوقت، هي أصل ظهور صور الموجودات في عالم البرزخ، وهي أصل المعارف كلها والعلوم؛ كونيةً كانت أم روحية. وإذا كانت العلوم كلها نتيجة للتجليات الإلهية، فمن الطبيعي أن ينكر ابن عربي أثر الفكر في تحصيل العلوم الدنيوية، ويردُّ العلوم كلَّها، كونيةً وباطنية، لأصلها الإلهي. إن أهل الظاهر يتوهمون أن الزيادة التي تحصل لهم في علومهم هي أثر من آثار الفكر، أما أهل الباطن العارفون المحققون فيعلمون الأمر كما هو عليه: «فأهل هذه الطريقة يعلمون أن هذه الزيادة إنما كانت من ذلك التجلي الإلهي لهؤلاء الأصناف، فإنهم لا يقدِرون على إنكار ما كُشف لهم، وغير العارفين يُحسُّون الزيادة وينسُبون ذلك إلى أفكارهم، وغير هذين يجدون من الزيادة ولا يعلمون أنهم استزادوا شيئًا، فهُم في المثل كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله؛ وهي هذه الزيادة وأصلها. والعجب من الذين نسبوا ذلك إلى أفكارهم، وما عَلِم أن فكره ونظره وبحثه في مسألة من المسائل هو من زيادة العلوم في نفسه من ذلك التجلي الذي ذكرناه، فالناظر مشغول بمتعلَّق نظره وبغاية مطلبه فيُحجَب عن علم الحال، فهو في مَزيد علم وهو لا يشعر.»٤٦
وهكذا ينتهي ابن عربي إلى التوحيد بين هذين النوعين من العلوم من حيث أصلهما الإلهي، ويردُّ الجهل بهذا الأصل إلى الحجاب الذي يفصل باطن النفس عن ظاهرها، ويَحول دون علاقة التداخل المفترضة. والإشكال الذي يقع فيه ابن عربي حقيقةً هو أنه أحيانًا يردُّ الحجاب إلى فعل النفس واشتغالِها بالأسباب وأمور الدنيا، وأحيانًا أخرى يردُّ الحجاب إلى حقائقَ إلهية؛ كما يردُّ المعاصيَ الواقعة من البشر إلى حقائق الألوهية أيضًا.٤٧ ويمكن رد هذا التعارض في فكر ابن عربي إلى طبيعة هذا الفكر التوفيقية، كما عرضنا له بالتفصيل قبل ذلك. والسؤال الآن: كيف يمكن للقلب تحصيلُ علوم الباطن؟ وما هي الأدوات المعِينة له على تحقيق هذه الغاية؟

إذا كانت التجليات الإلهية هي علة ظهور أعيان الموجودات، فإن هذه التجلياتِ ذاتَها هي علة المعرفة التي يقذفها الله في قلب المؤمن بعد أن يُجلِّي مرآة هذا القلب بتوجيه الهمة إلى الله، والانصرافِ عن كل ما سواه. ولا يمكن للقلب أن يمتلئ بالمعرفة الكاملة إلا بعد رحلة العارف الخيالية التي يخترق بها ظاهره وظاهرَ الكون؛ وصولًا إلى باطنه وحقيقة الكون. ومعنى ذلك أن هناك نوعين من التجلي: التجلي الوجودي للظهور في أعيان صور الممكنات، والتجلي الإلهي المعرفي على قلوب العباد. ولا يقع هذا التجلي الثاني إلا بعد رحلة الصوفي الصاعدة، فيتجلى الله على قلب العبد، أو لنقُلْ: تتجلى الحقيقة من باطنه فيصبح قادرًا على التأويل وفَهْم الباطن الحقيقي لظواهر الوجود. وإذا كان ظهور صور أعيان الممكنات يمثِّل حُجبًا كثيفةً متراكمة على الحقيقة الإلهية، فإن التجلي على القلوب يمثل رفعًا لتلك الحُجُب؛ وذلك على أساس أن القلب هو باطن الإنسان الذي يقابل حقيقة الألوهة، وظاهره هو جسده الذي يقابل حقائق الكون.

وفي هذا الصدد يحتفي المتصوفة بالحديث القدسي: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلبُ عبدي المؤمن.» وقد سبقت الإشارة إلى أن القلب متنوع، فهو يقابل تنوع الصور التي تظهر بها الألوهةُ في صور الموجودات، أو هو يقابل ظاهر الألوهة. وإذا كانت الألوهة لها ظاهر وباطن، كما سبقت الإشارة، فمن الطبيعي أن يقع التجلي الوجودي والمعرفيُّ من ظاهر الألوهة على باطن العبد، من ظاهر الألوهة على القلب الذي يتنوع معها. وإذا كان القلب هو باطن النفس الإنسانية، فالتجليات التي تقع من ظاهر الألوهة على باطن النفس تُنتج علوم الباطن والأسرار؛ «وتجلِّي الحق لكل مَن تجلَّى له من أي عالم كان، من عالم الغيب أو الشهادة، إنما هو مِن اسمه الظاهر. وأما الاسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أنه لا يقع فيها تجلٍّ أبدًا؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن معقولية النسب لا تتبدل وإن لم يكن لها وجودٌ عيني، لكن لها الوجود العقلي؛ فهي معقولة.»٤٨
التجلي واقع إذن من الظاهر الإلهي على الباطن الإنساني؛ وهذا هو بُعْد المغايرة، وواقع من الحقائق المتنوعة على القلب المتنوع؛ وهذا هو بُعد المماثلة. وهذان البعدان يلتقيان كما قلنا ويؤسسان مشروعية المعرفة وإمكانيتها، ويوصلان إلى العلم الصحيح: «إن العلم تحصيل القلب أمرًا ما على حدِّ ما هو عليه ذلك في نفسه، معدومًا كان ذلك الأمرُ أو موجودًا، فالعلم هو الصفة التي توجب التحصيل من القلب، والعالم هو القلب، والمعلوم هو ذلك الأمر المحصَّل.»٤٩
وإذا كان ابن عربي فيما سبق قد ربط بين الحواس والخيال والقوة المصورة، وجعل الخيال واسطةً تتلقى من كل منهما، فإن القلب في نظره — وهو باطن النفس — له قوًى إدراكية ظاهرة وأخرى باطنة. القوى الظاهرة هي الحواس الخمس، ويطلق عليها ابن عربي اسم الأمراء المُلْكيين، والقوى الباطنة هي الروح الحيواني والروح الخيالي والروح المفكرة والروح العقلي والروح القدسي، ويطلق عليها ابن عربي اسم الأمراء المَلَكوتيين.٥٠ وليست هذه القوى الإدراكية الباطنة الخمس سوى الحس المشترك الذي يطلق عليه ابن عربي اسم «الروح الحيواني» وخزانة الخيال وخزانة الفكر والعقل. وهذه القوى الأربع محلها الدماغ، وتترتب فيه على ترتيبها السابق.٥١ أما القوة الخامسة فهي الروح القدسي ومسكنها القلب؛ كما سبقت الإشارة. ومن الواضح أن عدد قوى الإدراك الظاهرة والباطنة يتماثل عند ابن عربي مع عدده عند الفلاسفة، وإن كان يطلِق على بعضها أسماءً مغايِرة، ويُخضِعها جميعًا لتصوراته الخاصة، فهي جميعًا في خدمة القلب؛ إذ القلب هو مسكن الخليفة، وهذه القوى كلها أمراء له، فالظاهرة هي المُلْكية والباطنة هي الملكوتية. قد يشير ابن عربي أحيانًا إلى الحافظة والذاكرة والقوة الوهمية، ولكنه يجعل الأولى والثانية في خدمة الخيال، ويجعل الثالثة من توابع العقل وقد تتلبَّس به.٥٢
وبصرف النظر عن اتفاق ابن عربي مع الفلاسفة أو اختلافه معهم، فالذي يهمنا هو أنه جعل هذه القوى كلها في خدمة القلب أو الروح لا في خدمة العقل. وتصوُّر ابن عربي — من جانب آخر — لهذه القوى في علاقتها بالقلب تصور روحي، يتماثل مع تصوره الروحي للوجود المادي في مراتبه المختلفة؛ فالحواس الخمس الظاهرة وكذلك الباطنة [هم] أمراء روحانيون، تدرك الأشياء بنور باطن فيها. والأشياء من جهة أخرى، أو المحسوسات، لها نورها الخاص باعتبارها مَجالٍ للنور الإلهي، أو باعتبار أن وجودها مستفاد من نور الوجود المطلق. ويلتقي النور الباطني للحواس بالنور الباطن في المحسوسات، ومن لقائهما تتم عملية الإدراك. وهكذا يستطيع ابن عربي ردَّ الإدراك الحسي من طرفي المدرِك والمدرَك إلى حقيقة روحية هي النور الإلهي المبسوط على الموجودات. ويكون من الطبيعي بعد ذلك كله أن يكون أيُّ إدراك، وبالتالي أي علم، له نسبة إلى الله، يعلم ذلك العارفون ويجهله المحجوبون، «لولا النور ما أُدرك شيء لا معلومٌ ولا محسوس ولا متخيل أصلًا، وتختلف على النور الأسماء الموضوعة للقوى؛ فهي عند العامة أسماء للقوى، وعند العارفين أسماء للنور المُدرَك به. فإذا أُدركت المسموعات سميتَ ذلك النور سمعًا، وإذا أُدركت المبصرات سميت ذلك النور بصرًا، وإذا أُدركت الملموسات سميت ذلك النور المُدرَك به لمسًا؛ وهكذا المتخيلات، فهو القوة اللامسة ليس غيره، والشامَّة والذائقة والمتخيِّلة والحافظة والعاقلة والمفكِّرة والمصوِّرة، وكل ما يقع به إدراك فليس إلا النور. وأما المدرَكات فلولا أنها في نفسها على استعداد به تَقبل إدراكَ المدرك لها ما أُدرِكَت؛ فلها ظهورٌ إلى المدرِك؛ وحينئذٍ يتعلَّق بها الإدراك. والظهور نور، فلا بد أن يكون لكل مُدرَك نسبة إلى النور بها تستعد إلى أن تُدرَك، فكلُّ معلوم له نسبة إلى الحق، والحق هو النور، فكل معلوم له نسبة إلى النور، فبالنور أُدركت المحال، ولولا ظهور المحال وقَبوله بما هو عليه في نفسه لإدراك المدرِك، ما أدركتَه … وهذه مسألة أغفلها كثير من الناس، فقد علمتَ أنه ما ثَم معلوم، من محال أو غيره، إلا وله نسبة إلى النور، ولولا ذلك النور الذي له إليه نسبة، ما صحَّ أن يكون معلومًا، فلا معلوم إلا الله. وعلى الحقيقة فلا يدري أحد ما يقول ولا كيف تُنسب الأمور مع كونه يعقلها، والعبارات تقصر عن الإحاطة بها على وجهها.»٥٣
إن هذا التصور النوري لحقائق الوجود، أو المدركات، من جهة، ولقوى القلب الباطنة والظاهرة من جهة أخرى؛ يمكِّن ابن عربي من الربط بين جانبي الوجود والمعرفة. إن النور الذي يدرِك به المدرِك، وبه تظهر المدرَكات للإدراك؛ هو النور الوجودي الذي بسطته حقائقُ الألوهة على الموجودات بما فيها حواسُّ الإنسان الظاهرة وقواه الإدراكيةُ الباطنة. ومعنى ذلك أن كل مدرَك قابلٌ للإدراك، وكل مدرِك يستطيع الإدراك؛ إدراكَ الأشياء على ما هي عليه. هذا من الناحية القابلية المحضة، ولكن تطرأ على القلب أصداء، وعلى الحواس موانع، وعلى الفكر شُبَه؛ تَعوق هذا النور الكامنَ فيها عن الإدراك الحقيقي. ومن هنا لا بد من الحاجة إلى تصفية القلب وتقوية الفكر والخيال وتجلية العقل؛ وصولًا إلى المعرفة الحقة، حينئذٍ يصبح القلب مرآة مَجلوَّةً قابلة للتجليات الإلهية المختلفة. والمقصود بالتجليات التي تتوجه على القلب تجلياتُ الباطن، أي: باطن النفس، لا الظاهر: «إن الله جعل لكل شيء — ونفس الإنسان من جملة الأشياء — ظاهرًا وباطنًا، فهي تدرِك بالظاهر أمورًا تسمى عينًا، وتدرك بالباطن أمورًا تسمى علمًا، والحق سبحانه هو الظاهر والباطن، فبه وقع الإدراك، فإنه ليس في قدرة كلِّ ما سوى الله أن يدرك شيئًا بنفسه، وإنما أدركه بما جعل الله فيه.»٥٤

هكذا يتَّحد التجلي المعرفي بالتجلي الوجودي. وإذا كان التجلي الوجودي في أعيان الموجودات يجعل لها ظاهرًا وباطنًا، فالتجلي المعرفي بدوره قد يكون تجلِّيًا على ظاهر النفس فتدرك أعيان الأشياء، وقد يكون تجليًا على باطنها — القلب — فتدرك علومًا هي علوم الأسرار. هذه العلوم الباطنة، بعكس العلوم الظاهرة، لا تحتمِل الخطأ والتأويل؛ لأنها أشبه بالنصوص التي لا إشكال فيها. إن التجليات الإلهية على قلوب العارفين هي التي تمكِّنهم من القدرة على التأويل، وفَهْم حقيقة أعيان الأشياء وأسرارها الباطنة. وإذا كان هذا التجلي على باطن نفس العارف أو على قلبه يتدرج مع رقيِّه في معراجه الصوفي، فإن علوم الباطن تزداد مع رقيه في هذا المعراج. وكلما رقي في معراجه درجةً زاد التجلي في باطنه على قدر ما ينقُص من ظاهره، حتى يصل إلى حالة الفناء أو الكشف التام. فيغمُر هذا التجلي كلَّ ظاهر الصوفي، أو لنقُلْ: يتحول الظاهر إلى باطن، وتنتفي الثنائية التي مردُّها إلى عالم الحس والمادة.

إن النقص والزيادة في علوم التجلي ليس نقصًا وزيادةً بالمعنى الحقيقي، بل النقص من جانبٍ تُقابله زيادةٌ في الجانب الآخر. النقص في الظاهر تُقابله زيادة في بالباطن، والعكس صحيح؛ النقص في الظاهر يرتبط برحلة الصعود، والنقص في الباطن يرتبط برحلة العودة، والعكس أيضًا صحيح. «وأمَّا نقص علوم التجلي وزيادتها فالإنسان على حالتين؛ خروج الأنبياء بالتبليغ أو الأولياء بحكم الوراثة النبوية … والإنسان في وقت رقيِّه في سُلَّم المعراج يكون له تجلٍّ إلهي بحسب سُلَّم معراجه … فالدرجة الأولى الإسلام؛ وهو الانقياد، وآخِر الدرَج الفناء في العروج والبقاء في الخروج، وبينهما ما بقي؛ وهو الإيمان والإحسان والعلم والتقديس والتنزيه والغنى والفقر والذلة والعزَّة والتلوين والتمكين في التلوين والفناء؛ إن كنت خارجًا، والبقاء؛ إن كنت داخلًا إليه. وفي كل درَج في خروجك ينقص من باطنك بقدر ما يزيد في ظاهرك من علوم التجلي، إلى أن تنتهي إلى آخر الدرج. فإن كنت خارجًا ووصلت إلى آخر الدرج، ظهر بذاته في ظاهرك على قدْرك، وكنت له مظهرًا في خلقه، ولم يَبقَ في باطنك منه شيءٌ أصلًا، وزالت عنك تجلياتُ الباطن جملةً واحدة. فإذا دعاك إلى الدخول فيه، فهي أول درج يتجلَّى لك في باطنك بقدر ما ينقُص من ذلك التجلي في ظاهرك؛ إلى أن تنتهي إلى آخر الدرَج، فيظهر على باطنك بذاته ولا يبقى في ظاهرك تجلٍّ أصلًا. وسبب ذلك ألا يزال العبد والرب معًا في كمال الوجود كلُّ واحد لنفسه، فلا يزال العبد عبدًا والربُّ ربًّا مع هذه الزيادة والنقص، فهذا هو سبب زيادة علوم التجليات ونقصها في الظاهر والباطن وسبب ذلك التركيب.»٥٥
إن ثنائية الظاهر والباطن التي تتجلى في الوجود والإنسان تتجلى كذلك في المعرفة، فهناك معرفة ظاهرة من التجلي على ظاهر النفس، ومعرفة باطنة من التجلي على القلب. المعرفة الأولى كونية خيالية، والثانية نصِّية لا احتمال فيها. والعلاقة بين التجليَّين، ومن ثَم بين المعرفتين، تقوم على التداخل، كما قامت علاقة الباطن والظاهر في الوجود والإنسان على التداخل كذلك. ومثل هذا التصور يستهدف في فكر ابن عربي المحافظةَ على التمايز الأساس بين الذات الإلهية والعالم من جهة، وبينها وبين الإنسان من جهة أخرى. ومن جانب آخر، فإن تفرقة ابن عربي بين العارف المستهلك، كابي يزيد البسطامي والحلاج والعارف، المتمكن الباقي العائد من رحلته متحققًا بظاهره؛ تستهدف الدفاع عن هؤلاء المتصوفة من أهل الفناء، وتبريرَ شطحاتهم وأقوالهم التي أدت بالحلاج أن يدفع حياته ثمنًا لها، كما تستهدف من جانب آخر الارتفاعَ بقيمة العارفين من أهل البقاء والخروج؛ لأنهم يعودون للخلق مجدِّدين للشريعة وارثين للعلم النبوي. ولكن كيف يمكن للصوفي التوفيقُ بين علوم الظاهر وعلوم الباطن؟ أو بين الإدراك الخيالي للعالم وحقيقته الباطنة؟ أو بين ظاهره وباطنه؟ حين يصل الصوفي إلى نهاية الطريق، ويعرف الحقيقة التي تتجلى على قلبه، يدركها في صفاء كامل ونورانية شفافة لا تَحتمِل اللَّبس؛ حيث تنتفي ثنائية الذات والموضوع، والعارف والمعروف، والعالم والمعلوم. ولكن هذا الإدراك الكشفي الذي يغمر باطن الصوفي وظاهره لا يستمر إلا مع أهل الفناء والاستهلاك؛ «كما قيل لأبي يزيد حين خلع عليه النيابة، وقال له: اخرج إلى خلقي بصفتي، فمَن رآك فقد رآني، فلم يسعه إلا امتثالُ أمر ربه، فخطا خطوةً إلى نفسه من ربه فغُشي عليه، فإذا النداء: ردُّوا عليَّ حبيبي فلا صبر له عني، فإنه كان مستهلكًا في الحق كأبي عقال المغربي، فرُدَّ إلى مقام الاستهلاك.»٥٦

وليس الأمر كذلك مع أهل البقاء والتمكين؛ فإنهم يعودون إلى ظاهرهم وإلى عالم التركيب المادي متحققين بمعرفتهم الباطنة. وتمثل هذه العودة عودةً إلى عالم الخيال الحسي وإلى قوى الإدراك؛ أي: عودة إلى عالم المزج والاختلاط حيث يمثل الظاهر حجابًا على الباطن. وإذا سلَّمنا مع ابن عربي بأن وجودنا المتلبس بالمادة يمثل حالة نوم، وإدراكنا للعالم يتماثل مع ما يراه النائم في نومه، فإن الصوفي بموته الاختياري في حالة الفناء يستيقظ ويدرك الأمور على ما هي عليه. فإذا عاد إلى حالة النوم من جديد، وهي عودته إلى عالم التركيب، كان قادرًا على إدراك حقيقة كونه نائمًا، ومتحقِّقًا كذلك بأن ما يدركه أو يراه إنْ هي إلا أحلام لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، بل لا بد من تأويلها بهدف إدراك معناها.

ويفهم ابن عربي الحديث النبوي: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» فهمًا حرفيًّا، فالحقيقة التي ندركها ونُحسها ونعانيها في تجربتنا اليومية المباشرة ليست إلا خيالًا يحتاج إلى عمليات مستمرة من التأويل. وإذا كان الإنسان العادي يتوقف عند مدركات الحس، أو المعاني العقلية التي تنتجها له القوة المفكرة في أحسن الأحوال، فالصوفي العارف بموته الاختياري، أو تجربةِ اليقظة التي عاشها، هو القادر على تأويل هذا الوجود، والعبورِ إلى باطنه كما يعبُر مفسِّر الحلم صورته الرامزة إلى حقيقته المرموز إليها. إن العارف وحده هو الذي يدرك أن عالم الحس الذي نعانيه ليس إلا حالة من النوم: «فإذا ترقَّى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانًا وكشفًا، ولهذا ذكر الله أمورًا واقعة في ظاهر الحس وقال: فاعتبروا، وقال: إن في ذلك لعبرة؛ أي: جُوزوا واعبُروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطن به.»٥٧
إن الوجود بمراتبه المختلفة يمثل حجابًا على الحقيقة الإلهية، كما تمثِّل الصورة في الحلم غطاءً على المعنى أو الرمز الذي يختفي وراءها؛ ومن ثَم فالوجود يحتاج إلى تأويل يتماثل مع تأويل الأحلام عبورًا من الظاهر إلى الباطن. وليس التأويل — على مستوى الوجود أو الأحلام — أمرًا متاحًا لكل البشر، بل هي هبة إلهية خصَّ الله بها العارفين الذين تجاوزوا هذا الوجود الظاهر، ووصلوا — معرفيًّا — إلى حقيقته الباطنة. والعارف وإن عاد إلى عالمنا المادي يظلُّ الحق معه فيراه في الأشياء كلها، ولا يزول عنه مشاهدته وإن اختلفت التجليات لاختلاف المجالي، لكنه في كل مجلًى يعرفه ولا ينكره.٥٨ ومن هنا يكتسب القوة الإلهية التي تجعله قادرًا على تأويل مظاهر الوجود وتأويل الشريعة معًا.
ولسنا نريد هنا التوسع في الموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الوجود الخيالي وعالم الأحلام، ويكفي أن نشير إلى ما سبق أن قلناه من ربط ابن عربي بين عالم البرزخ والصور الخيالية التي يراها النائم في الحلم؛ حيث تنتقل النفس الإنسانية في النوم إلى البرزخ، ومن هناك تستمد صور الأحلام بمراتبها ومستوياتها المختلفة.٥٩ ويكفي ما أشار إليه هنري كوربان من أن ابن عربي كان يعيش بالفعل في عالم البرزخ خارج حدود الزمان والمكان.٦٠ وما أشار إليه ابن عربي نفسُه من أن كتابَيه «الفتوحات» وكذلك «فصوص الحكم» ليسا سوى محصلة لمجموعة من الرؤى والأحلام تُلقى فيها المعارف المتضمنة في الكتابين.٦١
الوجود خيال يتماثل مع الحلم، وكلاهما يمثل عائقًا عن العلم الصحيح، فالوجود الخيالي يَحجُب الحقيقة كما يُفسد الحلم المعنى الذي يتضمنه؛ ومن ثَم فكلاهما في حاجة إلى التأويل الذي هو قوة إلهية يهبها الله للعارفين، يصبحون بها قادرين على عبور الصورة — وجوديةً كانت أم حلمية — إلى معناها الباطن؛ وصولًا إلى العلم الصحيح: «إن العلوم، وأعني بها المعلومات، إذا ظهرت بذواتها للعلم وأدركها العلم على ما هي عليه في ذواتها، فذلك العلم الصحيح والإدراك التام الذي لا شبهة فيه البتة. وسواء كان ذلك المعلوم وجودًا أو عدمًا، أو نفيًا أو إثباتًا، أو كثيفًا أو لطيفًا، أو ربًّا أو مربوبًا، أو حرفًا أو معنًى، أو جسمًا أو روحًا، أو مركَّبًا أو مفردًا، أو ما أنتجه التركيب، أو نسبةً أو صفةً أو موصوفًا؛ فمتى ما خرج مما ذكرناه عن أن يبرز للعلم بذاته، وبرز له في غير صورته؛ فبرز له العَدَم في صورة الوجود، وبالعكس، والنفي في صورة الإثبات، وبالعكس، واللطيفُ في صورة الكثيف وبالعكس، والرب بصفة المربوب، والمربوب بصفة الرب، والمعاني في صور الأجسام، كالعلم في صورة اللبن، والثبات في الدين في صورة القَيْد، والإيمان في صورة العُروة، والإسلام في صورة العمد، والأعمال في صور الأشخاص من الجمال والقبح؛ فذلك هو الكَدَر الذي يلحق العلم، فيحتاج مَن ظهر له هذا إلى قوة إلهية تعدِّيه من هذه الصورة إلى المعنى الذي ظهر في هذه الصورة.»٦٢
وإذا كان ابن عربي في هذا النص يعطي أمثلة من الخيال الوجودي (ظهور الرب بصورة العبد والعبد بصورة الرب) والخيال الحُلْمي (العلم في صورة اللبن)، فكلاهما عنده وجهان لحقيقة واحدة، ويصدران من منبع واحد؛ هو عالم البرزخ. والقوة الإلهية التي تعدِّينا من الظاهر إلى الباطن، أو من الصورة إلى المعنى، هي القدرة على التأويل، وهو إرجاع الصورة إلى معناها أو حقيقتها التي شوَّهتها الصورة في حالة الحلم، وغيَّرتها في حالة الوجود. ولكي يوضح ابن عربي فكرته عن ضرورة التأويل يلجأ إلى الصور الخيالية التي يراها النائم في نومه، أو يراها العارف في يقظته؛ كأمثلة يقيمها على أثر الصورة على معناها الباطن، وهو أثر إفادي واضح. بل إن ظهور بعض الملائكة في صورة بشرية كجبريل حين ظهر للرسول في عالم الخيال المنفصل في صورة دحية الكلبي؛ يفسد الحقيقة، ويحتاج مِن ثَم إلى التأويل «حلم النوم أفسد المعنى عن صورته؛ لأنه ألحقه بالحس، وليس بمحسوس حتى يراه مَن لا علم له بأصله، فيحكم عليه بما رآه في الصورة التي رآه عليها، ويجيء العارف بذلك فيعْبُر تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له وظهر بها، فيردُّها إلى أصلها، كما أفسد الحلمُ العلمَ فأظهره في صورة اللبن، وليس بلبن، فردَّه رسول الله بتأويل رؤياه إلى أصله، وهو العلم، فجرَّد عنه تلك الصورة، وفي تلك الصورة يكون حكم الحلم، فلذلك نقول إنه أفسد صورة العلم، فرده رسول الله ، والعابر المصيب — كان من كان — إلى أصله وأزال عنه ما أفسده الحلم … … وإذا رأى صاحب الرؤيا الأمرَ كما هو عليه في نفسه فليس بحلم، وإنما ذلك كشف لا حلم؛ سواء كان في نوم أو يقظة، كما أن الحلم قد يكون في اليقظة كما هو في النوم؛ كصورة دحية التي ظهر بها جبريل عليه السلام في اليقظة، فدخلها التأويل.»٦٣
ولكن إذا كان العارف قادرًا على تأويل أحلامه وإدراكه الخيالي، بحكم تجربة اليقظة التي عاشها، فكيف للإنسان العادي الذي لم يعاين الحقائق كما هي أن يفرِّق بين الخيال والحقيقة؟ من السهل أن يقتنع الإنسان العادي بأن الحلم تعبير عن حقيقة يجب البحث عنها، ومن السهل عليه كذلك أن يؤمن بقدرة بعض البشر على تفسير الأحلام وتأويلها؛ ما دامت الأحلام ظاهرةً إنسانية. ومن هذا المنطلق ذاته — منطلق الإيمان بتأويل الأحلام — يفرِّق ابن عربي بين الحلم ذاته والتعبير عن هذا الحلم بألفاظ لغوية. ويعد التعبير وسيطًا بين رائي الحلم وبين المفسِّر القادر على رد الصور الرامزة إلى حقيقتها المرموزة. هذا التعبير قد يطابق صورة الحلم وقد يخالفه؛ على حسب قدرة الرائي التعبيرية. فإذا تطابق التعبير مع الحلم انتقل الحلم من خيال الرائي إلى خيال السامع المفسِّر فيدركه، ومن ثَم يستطيع تأويله. وإذا كان التعبير غير مطابق للحلم لم يكن تعبيرًا، وإنما كان مجرد ألفاظ لا تؤدي إلى فَهم المفسِّر شيئًا، ومن ثَم تظلُّ صور الحلم مائلة في خيال الرائي دون أن تنتقل إلى خيال المفسِّر، وتنعدم بالتالي إمكانية تأويل الحلم. يقول ابن عربي: «والتأويل عبارة عما يؤدي إليه ذلك الحديث الذي حدث عنده في خياله. وما سمي الإخبار عن الأمور عبارةً ولا التعبير عن الرؤيا تعبيرًا إلا لكون المخبِر يعبُر بما يتكلم به؛ أي: يجوز بما يتكلم به من حضرة نفسه إلى نفس السامع، فهو ينقُله من خيال إلى خيال؛ لأن السامع يتخيله على قدر فهمه، فقد يطابق الخيالُ الخيال، خيالُ السامع مع خيال المتكلم، وقد لا يطابق. فإذا طابق سُمي فَهمًا، وإن لم يطابق فليس بفَهْم، ثم المحدِّث عنه قد يحدث عنه بلفظ يطابقه كما هو عليه في نفسه، فحينئذٍ يُسمى عبارة، وإن لم يطابقه كان لفظًا لا عبارة؛ لأنه ما عُبِرَ به عن محله إلى محل السامع.»٦٤

التأويل إذن يمكن أن يقع على الحلم، كما يمكن أن يقع على التعبير اللغوي عن هذا الحلم؛ إذا كان دقيقًا قادرًا على نقل محتوى الحلم من خيال الرائي إلى خيال المفسر، وأدى إلى فَهْمه لمحتوى الحلم. والتأويل — بهذا الفهم — ضرورة وجودية تنبَع من أن الوجود ليس سوى صور خيالية تُحجَب حقيقتها وباطنها الكامن. وإذا كان التأويل يمكن أن يقع على تعبير الحلم، فمن الضروري أن يقع أيضًا على التعبير عن الوجود. والموازاة التي يقيمها ابن عربي بين الوجود والقرآن تسمح لنا بأن نوازي بين القرآن والتعبير عن الحلم، ما دام الوجود نفسه يتوازى مع الأحلام. ومن الضروري أن يكون التعبير الوجودي (القرآن) مساويًا للوجود مساواةً تامة، فالوجود هو كلمات الله المسطورة، والقرآن هو كلماته المرقومة.

وهكذا يمكن القول إن التأويل منهج فلسفي عام يحكم فكر ابن عربي على مستوى الوجود والنص القرآني معًا؛ إذ هما في الواقع وجهان لحقيقة واحدة. والصوفي المتحقق هو القادر على القيام بهذا التأويل؛ بحكم أنه تجاوَز آفاق الوجود الخيالي الظاهر، وتلقَّى العلم الباطني النصي الذي لا احتمال فيه بوجه من الوجوه؛ وهذا معنى قول ابن عربي: «ولا يدخل التأويل النصوص.»٦٥ فالنصوص التي لا يدخلها التأويل ليست نصوصَ الشريعة، بل هو «الإدراك بالبصيرة في عالم الحقائق والمعاني المجردة عن المواد، وهي المعبَّر عنها بالنصوص؛ إذ النص ما لا إشكال فيه بوجه من الوجوه، وليس ذلك إلا في المعاني.»٦٦
التأويل إذن يعني رفع التناقض المتوهَّم بين الوجود والحقيقة من جانب، والشريعة والحقيقة من جانب آخر، «إن إدراك الحقيقة لا يتم استنادًا إلى العقل أو إلى النقل؛ لأن الحقيقة ليست في ظاهر النص، وإنما يتم عن طريق تأويل النص بإرجاعه إلى أصله والكشف عن معناه الحقيقي.»٦٧ والصوفي العارف هو القادر على القيام بهذا التأويل ورفْع هذا التناقض المتوهَّم. وليس معنى ذلك أن الصوفي يأتي بشريعة جديدة أو ينسَخ حكمًا شرعيًّا قائمًا، وإلا كان معنى ذلك وجود تعارض بين الحقيقة والشريعة أو بين الظاهر والباطن. إن العلاقة بين الظاهر والباطن «لا تعني أن أحدهما هو عين الآخر، وإنما تعني أن الباطن الأصل وأن الظاهر صورته. وكما أن الأصل لا يُفسَّر بالفرع، والسبب لا يُفسَّر بالنتيجة، فإن الباطن لا يُفسَّر بالظاهر، بل الظاهر هو الذي يُفسَّر بالباطن.»٦٨
١  الفتوحات ٢ / ٦٠٢.
٢  الفتوحات ٣ / ٣٥٥.
٣  روح القدس  ١٠٢-١٠٣.
٤  ورح القدس  ١٠١.
٥  الفتوحات ٢ / ٦١٦.
٦  الفتوحات ٣ / ٢٩٧، وانظر أيضًا: الفتوحات ٤ / ٨٥.
٧  الفتوحات ٣ / ٢٨٨.
٨  عقلة المستوفز  ٤٢.
٩  الفتوحات ٣ / ٤٢.
١٠  الفتوحات ٢ / ٢٩٠.
١١  أبو العلا عفيفي: الفلسفة الصوفية لابن عربي  ١٣٣، وفصوص الحكم  ٨٨-٨٩.
١٢  الفتوحات ٣ / ٢٩٠.
١٣  الفتوحات ٢ / ٥٩٦.
١٤  رسالة الأنوار  ٥.
١٥  انظر تفاصيل ومراتب الأحوال والمقامات: الفتوحات ٢ / ١٣٩–٣٧٥.
١٦  الفتوحات ١ / ١٦٧.
١٧  السابق نفسه.
١٨  الفتوحات ٣ / ٣٤٢.
١٩  الفتوحات ٢ / ٢٧٤.
٢٠  الفتوحات ٣ / ٣٤٣، وانظر: كتاب الإسرا  ٢-٣.
٢١  الفتوحات ٣ / ٣٤٣.
٢٢  الفتوحات ١ / ٢٩٦.
٢٣  رسالة الأنوار  ٧-٨.
٢٤  السابق  ٧.
٢٥  رسالة الأنور  ٤.
٢٦  رسالة الأنوار  ٤.
٢٧  تنزل الأملاك  ٤٤، وانظر أيضًا: الفتوحات ٢ / ٤٧٠، ٣ / ٣٧٨، ٤ / ٧٥.
٢٨  لمزيد من التفاصيل عن المعراج الصوفي عامة ومعراج ابن عربي خاصة، انظر: الفتوحات ٢ / ٧٣، ٢٨٤، ٣ / ٣٤٣–٣٥٤، رسالة الأنوار، كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى، شرح عبد الكريم الجيلي على رسالة الأنوار المسمى الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأنوار  ١٥٢–٢٥٠.
٢٩  الفتوحات ٢ / ٣٧٩.
٣٠  انظر: هنري كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي  ١٣–١٥.
٣١  جابر عصفور، الصورة الفنية في الموروث النقدي والبلاغي  ٤٨-٤٩.
٣٢  إبراهيم بيومي مدكور، في الفلسفة الإسلامية؛ منهج وتطبيقه  ٧٦، ٧٧. وانظر أيضًا: جوزف الهاشم، الفارابي  ١٤٠، وإبراهيم إبراهيم هلال، نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة ١ / ١١٤.
٣٣  الفتوحات ٢ / ٢٧٩.
٣٤  الفتوحات ٢ / ٢٧٣-٢٧٤.
٣٥  الفتوحات ١ / ١٢٥-١٢٦.
٣٦  الفتوحات ٢ / ٦٢٨ وانظر أيضًا: الفتوحات ١ / ٢١٣-٢١٤.
٣٧  الفتوحات ١ / ٢٨٨.
٣٨  انظر: محمود قاسم، موقف ابن عربي من العقل والمعرفة الصوفية  ١٠.
٣٩  الفتوحات ١ / ١٢٥-١٢٦.
٤٠  الفتوحات ١ / ٢٨٩.
٤١  الفتوحات ١ / ٢١٨.
٤٢  الفتوحات ١ / ٩٠، وانظر: مواقع النجوم  ١٣٠، ١٣٢-١٣٣، ١٤١-١٤٢.
٤٣  الفتوحات ١ / ٩٠.
٤٤  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٤٥  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٤٦  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٤٧  انظر: الفتوحات ١ / ٢٦٨-٢٦٩، ٤ / ٢٩٦.
٤٨  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٤٩  الفتوحات ١ / ٩٠.
٥٠  مواقع النجوم  ١٣١.
٥١  التدبيرات الإلهية  ١٣٣.
٥٢  انظر: الفتوحات ١ / ٢٨٩؛ التدبيرات الإلهية  ١٦٠-١٦١.
٥٣  الفتوحات ٣ / ٢٧٦-٢٧٧.
٥٤  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٥٥  الفتوحات ١ / ١٦٧.
٥٦  الفتوحات ١ / ١٦٧.
٥٧  الفتوحات ٢ / ٣٧٩.
٥٨  انظر: الفتوحات ٣ / ٢٣٤-٢٣٥.
٥٩  انظر: العلاقة بين الخيال والأحلام: محمود قاسم، الخيال في مذهب محيي الدين ابن عربي  ١٧–٣٦.
٦٠  انظر: الخيال الخلَّاق في تصوف ابن عربي  ٢٨-٢٩، ٣٥-٣٦.
٦١  انظر: الفتوحات ٣ / ٤٥٦؛ وفصوص الحكم  ٤٧.
٦٢  الفتوحات ٢ / ٥٩٦.
٦٣  الفتوحات ٤ / ٢٤٠-٢٤١.
٦٤  الفتوحات ٣ / ٤٥٣-٤٥٤، وانظر أيضًا: صلاح الراوي، الجوانب الفولكلورية في كتاب حياة الحيوان الكبرى الفصل الخاص بتفسير الأحلام من ٣٠١–٣٢٢ خاصة، وهي دراسة هامة تبرز أهمية المصدر الديني وحال الرائي في تحديد العلاقة بين المفسِّر ورموز الحلم، وتركز بصفة خاصة على أهمية التعبير عن الحلم، والذي يغير الرمز فيتغير المعنى.
٦٥  الفتوحات ٤ / ٢٤١.
٦٦  الفتوحات ١ / ١٦٦.
٦٧  أدونيس: الثابت والمتحول ٢ / ٩١.
٦٨  أدونيس: الثابت والمتحول ٢ / ٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤