المكتشفون

في هذا الجزء، سأقدم السيرة الذاتية لأهم المكتشفين الذين تحدثنا عنهم من قبل، هؤلاء هم الذين وضعوا أساس العلم.

(١) أندريه ماري أمبير

ولد أندريه ماري أمبير في ليون في الثاني والعشرين من يناير ١٧٧٥. كانت الأسرة تقضي أوقاتها بالتناوب في ليون وبوليمينو — قرية صغيرة تبعد عشرة كيلومترات إلى الشمال — حيث كانت الأسرة تمتلك منزلًا. في عام ١٨٧٢، أراد والده أن يكرس وقته لتربية ابنه، فجاء واستقر تمامًا في مقاطعتهم. وعلى الرغم من عدم ذهابه إلى مدرسة، تلقَّى أمبير تربية ممتازة؛ فدرس الآداب اللاتينية والفرنسية، إلى جانب عدة فروع من العلوم. لم يكن أحد يطلب منه دراسة مجال معين، وإنما كانوا يتركونه حرًّا يتجول من مجال إلى آخر. وحتى قبل أن يتمكن من القراءة، كان يظهر شغفًا بالاستماع إلى مقاطع من كتاب «التاريخ الطبيعي» لبوفون، وينهل من موسوعة ديدرو ودالمبير، حتى إنه في غضون أعوام، كان بوسعه تسميع مقالات كاملة منها غيبًا. كان أمبير واثقًا من إمكانياته، وفي عامه الثالث عشر، شرع في كتابة بحث عن القطاعات المخروطية. ونظرًا لعدم وجود أي اتصال بينه وبين العالم الخارجي، كانت أفكاره جميعها جديدة ومبتكرة. ثم قدم إلى أكاديمية ليون أول أعماله حول طريقة جديدة لصنع خط له نفس طول محيط دائرة. كانت طريقته تستدعي طرق الحساب متناهي الصغر لكنه لم يكن قد درسه من قبل. ومن ثم رُفض بحثه. وعندها، بدأ يقرأ ما كتبه دالمبير في موسوعته عن هذا الأمر، وأدرك أنه لا بد له من دراسة الرياضيات. وتلقى بالفعل دروسًا في حساب التفاضل والتكامل على يد أحد الرهبان بليون، وبعدها عكف على قراءة أعمال أولر وبرنولي، ثم درس كتاب «الميكانيكا التحليلية» للاجرانج.

لم تؤثر الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ بشكل واضح على بوليمينو، حتى قرر والده جان جاك — الذي كان يعمل في الأصل تاجرًا للحرير وشاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا — أن يقبل وظيفة قاضي صلح بليون. وبعدها أصبح ضابطًا للأمن، ثم رئيسًا لمحكمة شرطة الجنح. في عام ١٧٩٢، توفيت شقيقة أمبير. وكانت مدينة ليون قد رفضت تنفيذ الأوامر القادمة من باريس، فتم حصارها مدة شهرين. وبعد سقوط المدينة، أُلقي القبض على والد أمبير وأُعدم بالمقصلة. وكان لهذا الموت المفجع أثر لا يمحى على الشاب أندريه ماري. فانقطع عن دراسة الرياضيات أكثر من ثمانية عشر شهرًا. لكن حالفه الحظ السعيد بمقابلة جولي كارون ووقع في حبها. لكنها بدت أقل ولعًا به، حتى كتبت قائلة: «إنه لا يحسن التصرف، إلى جانب أنه أخرق ذو مظهر سيئ.» وعلى الرغم من ذلك، أعلنا خطبتهما. ورغبة منه في إثبات قدرته على كسب العيش، بدأ يعطي دروسًا في الرياضيات بليون. وتزوجا في عام ١٧٩٩، وفي العام التالي، رُزقا بابنهما جان جاك (١٨٠٠–١٨٦٤) الذي أصبح بعد ذلك مؤرخًا، ثم التحق بالأكاديمية الفرنسية. في عام ١٨٠٢، عُين أمبير أستاذًا للفيزياء والكيمياء بالمدرسة المركزية ببورج. لكن كانت جولي مريضة، فاضطر إلى السفر بمفرده. وفي بورج، كتب بحثًا عن نظرية الألعاب في الرياضيات، وقدمه للأكاديمية في عام ١٨٠٣. ووجد فيه عالم الفلك والفيزيائي بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧) خطأً أصلحه أمبير بعد ذلك، وبالفعل تم طبع الكتاب. ثم عكف أمبير على دراسة حساب المتغيرات. وحرصًا منه على البقاء قريبًا من زوجته — التي تقيم في بوليمينو — عاد أمبير ليدرِّس الرياضيات بمدرسة ليون، بناءً على توصية من عالم الفلك جان باتيست دولامبر (١٧٤٩–١٨٢٢). لكن، توفيت جولي في يوليو ١٨٠٣، تاركة أمبير في حالة كاملة من التخبط. فقرر التوجه إلى باريس.

ساعدته شهرته — دون أن يكون حاصلًا على شهادة — على الحصول على منصب معيد بكلية الهندسة في عام ١٨٠٤. وفي عام ١٨٠٦، تزوج ثانية من فتاة تدعى جان بوتو، لكنهما سرعان ما انفصلا حتى قبل مولد ابنتهما. وكانت بينهما القطيعة التامة، وتم الطلاق في عام ١٨٠٨، وحصل أمبير على حضانة ابنته. وفي عام ١٨٠٩، عُين أستاذًا بكلية الهندسة، وظل يعمل هناك حتى عام ١٨١٨. وكان يشارك أوجستين لويس كوشي (١٧٨٩–١٨٥٧) — أحد أكبر علماء الرياضيات على مر العصور — في مهمة تدريس التحليل والميكانيكا. لكن كان هناك فرق شاسع بين الطريقة الجامدة — التي كان يلاقي الطلاب صعوبة في اتباعها — لكوشي، والطريقة الأكثر سهولة والمفضلة بين الطلاب لأمبير. كان أمبير شهيرًا وكان يزيد من شعبيته بين طلابه شروده غير المألوف: فمرة يضع قطعة الطباشير بدلًا من السكر في كوب الماء، ومرة قماش تنظيف السبورة بدلًا من منديله … ويُروى أنه ذات يوم جلس يكتب إثبات حل جديد على باب عربة، وفي لحظة واحدة وجد سبورته تمشي بعيدًا بأقصى سرعة. ومستغرقًا في أفكاره، كان يصطدم بشجرة في فناء الكلية، ثم يعتذر لها معتقدًا أنها شخص. كانت ملابسه السوداء على الطريقة الفرنسية لها طراز خاص يبهج الطلاب. وحينما كان يقف أمام السبورة، كان دائمًا ما يلتفت إلى طلابه ليتأكد أن ما يكتبه مقروء، وبما أن الإجابة كانت دائمًا بالنفي، فكان يعيد الكتابة بخط أكبر وأكبر حتى ينتهي به الأمر بكتابة حروف عملاقة مما يجبره على إعادة مسح السبورة باستمرار. وفي يوم ما، كان أمبير يعرض بحثًا أمام لجنة أكاديمية العلوم، وفجأة حدث هرج بين الحاضرين وقام رجل — مرتدٍ ثيابًا باللون الأزرق الغامق وحاصل على وسام الشرف — ليجلس في المكان الشاغر، مكان أمبير. وما إن أنهى أمبير عرضه، حتى عاد إلى كرسيه الجالس عليه هذا الشخص الغريب، وخاطب زملاءه متعجبًا كيف لشخص غريب أن يدخل الأكاديمية ويجلس مكان أحد أعضائها دون أن يقول له أحد شيئًا. فأجابه رئيس الأكاديمية إتيان جيفري سانت-هيلار (١٧٧٢–١٨٤٤) إن هذا المجهول إنما هو عضو بالمعهد وتم انتخابه في الخامس من نيفوز (الشهر الرابع في التقويم الجمهوري) من العام السادس. فسأل أمبير في أي مجال يتخصص هذا الغريب، فأجابه في الميكانيكا، فسارع أمبير وأحضر التقويم السنوي للأكاديمية، وتحقق ممن التحقوا بالأكاديمية في ذلك الوقت: كان نابليون بونابرت! وفي نهاية الجلسة، قال الإمبراطور بابتهاج لأمبير إن هذا هو عيب عدم مخالطته لزملائه، ودعاه إلى العشاء في اليوم التالي في قصر التويلوري، مؤكدًا له أنه سيحرص على أن يجلس بجانب الإمبراطورة حتى لا يخطئ في معرفتها. لكن في اليوم التالي، نسي أمبير تمامًا أمر الدعوة. وبعد انتظار دام ساعة، جلس الإمبراطور ليتناول عشاءه من دون أمبير!

في عام ١٨٢٨، تم تعيين أمبير رئيسًا للجامعة، ولقد ظل في منصبه حتى وفاته. وتنوعت اهتماماته ومن ضمنها رغبته في تصنيف العلوم. ويبدو أنه كان أمرًا حاسمًا لانتخابه رئيسًا للمعهد في نوفمبر ١٨١٤؛ حيث كان يتنافس مع كوشي. كان له إسهام كبير في الكيمياء باكتشافه للفلورين. كما اهتم بدراسة انكسار أشعة الضوء حتى أصبح مدافعًا كبيرًا عن النظرية الجسيمية للضوء لأوجستين جان فريسنيل (١٧٨٨–١٨٢٧)، الذي كان يقيم لدى أمبير منذ عام ١٨٢٢ وحتى وفاته.

ثم توالت أعماله الشهيرة حول الكهرباء والمغناطيسية. في عام ١٨٢٠، اكتشف هانز كريستيان أورستيد (١٧٧٧–١٨٥١) أن الإبرة الممغنطة تنحرف إذا كانت في محيط تيار كهربائي. لكن لم يكن أحد قادرًا على فهم هذه الظاهرة — وبالطبع تفسيرها. وفي غضون أسابيع قليلة، وضع أمبير أسس وقواعد الكهرومغناطيسية. وبيَّن التشابه بين الكهرباء والمغناطيسية، مفسرًا المجال المغناطيسي للأرض مؤكدًا على وجود تيارات جسيمية في المغناطيس والصفائح المغناطيسية. وأوجد مفهوم التيار الكهربائي، معطيًا له اتجاهًا وواضعًا له الصيغ الشهيرة التي تُسمى منذ ذلك الحين «ببونوم أمبير». واقترح أن الكهرومغناطيسية يمكن استخدامها في نظام البُرُق. كما اخترع أمبير البوصلة غير الثابتة التي قادت إلى اختراع المقياس الجلفاني والملف اللولبي الذي أدى إلى اختراع المغناطيس الكهربي.
في عام ١٨٢٦، تم تعيينه أستاذًا بجامعة فرنسا؛ حيث كان يعطي محاضرات حول الديناميكا الكهربية. وممن حضروا هذه المحاضرات كان جوزيف ليوفيل (١٨٠٩–١٨٨٢) وهو عالم الرياضيات الذي اكتشف الأعداد المتسامية؛ أي الأرقام التي ليست جذورًا لمعادلة متعددة الحدود لها معاملات كاملة (العدد رقم متسامٍ). كان ليوفيل قد نقح الملاحظات التي أخذها من محاضرات أمبير. ولبعض الوقت، عمل أمبير أستاذًا للفلسفة بكلية الآداب.

غادر أمبير باريس في السابع عشر من مايو ١٨٣٦، منطلقًا في جولة تفتيش بوصفه مفتشًا عامًّا للجامعات، لكنه توفي في مارسيليا في العاشر من يونيو ١٨٣٦ ودُفن بمقابر مونمارتر بباريس إلى جوار ابنه.

(٢) أرشميدس

ولد أرشميدس — من سيراقوسة بسيسيليا — في عام ٢٨٧ق.م كان والده عالم فلك. يُقال إن أرشميدس اخترع البرغي أثناء رحلته إلى مصر. كما أنه درس بلا شك مع خلفاء إقليدس (القرن الثالث ق.م) بالإسكندرية. وكان يُراسل بعضهم، وعلى وجه الخصوص كونون الساموسي (٢٨٠ق.م–٢٢٠ق.م). في مقدمة كتابه حول الأشكال اللولبية، يروي لنا أرشميدس أن علماء الرياضيات اعتادوا أن يتبادلوا مبرهناتهم الأخيرة، لكن دون إثباتاتها، ثم يطالبوا بأسبقية ملكيتهم لها. ولكي يربكهم، أرسل لهم أرشميدس مجموعة من نتائجه واضعًا بينها نتائج خاطئة.

يبدو أن أرشميدس كان مقربًا من هيرون الثاني السيراقوسي (٣٠٦ق.م–٢١٥ق.م. أما الطاغية الشهير فكان يُعرف بهيرون الأول وكان يعيش قبل مائة وخمسين عامًا). كان المعاصرون لأرشميدس يستشهدون بأعماله، وحظي بشهرة لم ينلها أحد من جيله. ولا يرجع السبب إلى أفكاره الجديدة في الرياضيات، وإنما إلى الآلات التي كان يخترعها والتي استخدمت في الحروب، وخاصة في الدفاع عن سيراقوسة أيام حصارها على يد الرومان في عام ٢١٢ق.م تحت قيادة كلاوديوس ماركوس مارسيلوس (٢٦٨ق.م–٢٠٨ق.م). كما قام أرشميدس باختراعات أخرى أكثر سلمية مثل بكرة رفع الأثقال المركبة. كان مفتونًا بالهندسة، وهو يعد بالنسبة لكثير من المؤرخين أحد أكبر علماء الرياضيات على مر العصور. فلقد أجرى تعديلات على نظام التكامل لحساب أسطح وأحجام العديد من الأجسام. فعلى حد قول عالم الرياضيات ميشيل تشازل (١٧٩٣–١٨٨٠)، فإن أرشميدس هو مؤسس الحساب متناهي الصغر الذي طوره فيما بعد يوهانز كِبلر (١٥٧١–١٦٣٠) وبونافنتورا كافليري (١٥٩٨–١٦٤٧) وبيير دي فيرما (١٦٠١–١٦٦٥) وجوتفريد فيلهلم لايبنتز (١٦٤٦–١٧١٦) وإسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧). أثبت أرشميدس كيف يمكن حساب الجذر التربيعي لرقم بطريقة تقريبية، ووجد طريقة التمثيل التقريبي للأرقام الكبيرة بواسطة الكسور. كما اقترح اعتبار هي القيمة التقريبية ﻟ . وفي الميكانيكا، اكتشف المبرهنات الأولية المتعلقة بمركز جاذبية الأشكال المسطحة والصلبة. وتتعلق مبرهنته الأكثر شهرة بتحديد وزن جسم صلب مغمور في الماء، التي تعرف الآن باسم قاعدة أرشميدس والتي رويت قصة اكتشافها.

ولقد وصل بضعة كتب كتبها أرشميدس إلينا اليوم. أثناء صيف ١٩٠٦، اكتشف يوهان لودفيج هيبرج (١٧٩١–١٨٦٠) — مؤلف روايات خفيفة ومسرحيات وأستاذ فقه اللغة بجامعة كوبنهاجن — مخطوطة ترجع إلى القرن العاشر تحتوي على أحد أعمال أرشميدس. ولقد ألقى هذا الاكتشاف الضوء على الطريقة التي كان أرشميدس يتوصل بها إلى نتائجه.

قُتل أرشميدس في عام ٢١٢ق.م أثناء استيلاء الرومان على سيراقوسة خلال حرب قرطاجة. كان يعتبر أهم إنجازاته هي النتائج المتعلقة بشكل كرة مرسوم داخل أسطوانة، وطلب أن يُرسم هذا الشكل على مقبرته. ولقد روى لنا سيسرون قصة زيارته لهذه المقبرة في عام ٧٥ق.م. كانت أعمال أرشميدس غير معروفة بالقدر الكافي وقت وفاته، لكنها لاقت شهرة كبيرة في القرن السادس الميلادي عندما نشرها أوتوسيوس الأشقلوني (حوالي ٤٨٠م) مصحوبة بتعليقات.

(٣) يوهان بالمر

ولد يوهان ياكوب بالمر بمدينة لوزان بالقرب من بال بسويسرا في الأول من مايو ١٨٢٥. كان الابن الأكبر، وكان والده — الذي يدعى أيضًا يوهان ياكوب — يعمل قاضيًا أعلى. وذهب بالمر إلى المدرسة الابتدائية بليستال، ثم الثانوية ببال. وتفوق في الرياضيات وعقد العزم على الالتحاق بالجامعة لدراستها. وذهب في البداية إلى كارلسروه، ثم إلى جامعة برلين؛ حيث حصل على شهادة الدكتوراه ببال عن رسالته حول الخط المنحني المرسوم في دائرة تتدحرج على سطح مستوٍ.

وطوال حياته، ظل يدرِّس في بال، في البداية في مدرسة ثانوية للبنات. وفي الفترة من ١٨٦٥ إلى ١٨٩٠، كان يعطي محاضرات بالجامعة أيضًا. اهتم بمجال الهندسة، لكنه لم يقم بأي اكتشاف فيه. وعندما بلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا — في عام ١٨٦٨، تزوج من كريستين بولين رينك وأنجب منها ستة أطفال.

في عام ١٨٨٥، توصل إلى صيغته المتعلقة بخطوط طيف ذرة الهيدروجين. ولقد صدرت في أحد مقاليه اللذين كتبهما في حياته، وكان يبلغ من العمر ستين عامًا. وقد ظهر مقاله الثاني في عام ١٨٩٧، وكان قد بلغ عمره اثنين وسبعين عامًا.

وتوفي في بال في الثاني عشر من مارس ١٨٩٨.

(٤) هنري بيكيريل

كان جد ووالد بيكيريل — المولود في باريس عام ١٨٥٢ — وابنه أيضًا جميعهم مهندسين، كما عملوا جميعهم أساتذة للفيزياء بمتحف التاريخ الطبيعي، وجميعهم كانوا أعضاءً بأكاديمية العلوم. درس بيكيريل بثانوية لويس الأكبر؛ حيث كان معلمه هو عالم الرياضيات الكبير جاستون داربو (١٨٤٢–١٩١٧). والتحق بكلية الهندسة عام ١٨٧٢، وتخرج فيها عام ١٨٧٤ في قسم الطرق والكباري. ثم تزوج من لوسي جامين، ابنة أستاذه في الفيزياء بكلية الهندسة الذي كان عالم بصريات شهيرًا وعضوًا بالأكاديمية. واستقبلا في عام ١٨٧٨ ابنهما الأول — جان — الذي التحق بكلية الهندسة وصار أستاذًا بمتحف التاريخ الطبيعي بقسم الفيزياء، واكتشف الاستقطاب الدوراني شبه المغناطيسي وأصبح عضوًا بأكاديمية العلوم في عام ١٩٤٦. لكن يبدو أن المسيرة العلمية توقفت هنا.

منذ تخرجه في كلية الطرق والكباري، أبدى بيكيريل اهتمامًا أكبر بالعلوم المجردة أكثر من العلوم التطبيقية. وسرعان ما تخلى عن مسيرته كمهندس.

وكان الموضوع الأكثر ذيوعًا بين الفيزيائيين هو التفاعل بين الضوء والمادة في وجود المجالات المغناطيسية مثل أعمال مايكل فاراداي (١٧٩١–١٨٦٧) وجوزيف لارمور (١٨٥٧–١٩٤٢). كما عمل الهولنديان هندريك أنطون لورنتز (١٨٦٣–١٩٢٨) وبيتر زيمان (١٨٦٥–١٩٤٣) في نفس المجال أيضًا. ولقد تمحور أول أعمال بيكيريل حول القدرة الدورانية المغناطيسية والاستقطاب الضوئي، مما قاده في عام ١٨٧٦ إلى إرجاع الدوران الذي يحدث على مستوى استقطاب الضوء إلى تأثير المغناطيسية الأرضية. كما درس أيضًا أطياف انبعاث البخار المعدني المتوهج، إلى جانب ظاهرة البريق والإشعاعات تحت الحمراء. ولقد تناولت رسالته للدكتوراه عام ١٨٨٨ ظاهرة امتصاص البلورات للأشعة. ولقد نشر عدة مقالات في هذا الموضوع، بالإضافة إلى كتاب يدعى «الكيمياء الكهربية» في عام ١٨٨٧. إلا أن مجاله المفضل ظل دراسة الكهرباء.

ابتداءً من عام ١٨٨٨، عمل معيدًا لمحاضرات الفيزياء بكلية الهندسة. وفي عام ١٨٨٩، تم اختياره للانضمام لأكاديمية العلوم؛ حيث أصبح سكرتيرها الدائم كبديل عن مارسلين بيرتهولت (١٨٢٧–١٩٠٧) الكيميائي والسياسي. في عام ١٨٩٢، تم تعيينه أستاذًا للفيزياء بمتحف التاريخ الطبيعي عقب وفاة والده. وفي نهاية محاضرته الافتتاحية المخصصة لتكريم سابقيه — والده وجده — تحدث عن «حياة كاملة مكرسة للعلم». في عام ١٨٩٥، أصبح أستاذًا بكلية الهندسة. وبعد عام، اكتشف بمحض الصدفة الطاقة الإشعاعية لأملاح اليورانيوم. ولقد جاء اكتشافه في موعده؛ لأنه في نفس الوقت كان سيلفانوس طومسون (١٨٥١–١٩١٦) يستعد في لندن لنشر نتائج مشابهة. في عام ١٩٠٣، حصل بيكيريل على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة مع بيير كوري (١٨٥٩–١٩٠٦) وزوجته ماري كوري سكلودوفسكا (١٨٦٧–١٩٣٤) لاكتشافهما للطاقة الإشعاعية الطبيعية ودراساتهما حول الإشعاعات المنبعثة.

وبعد هذه الجائزة، استكمل بيكيريل أعماله بالتعاون مع بيير وماري كوري، لكنه توفي في الخامس والعشرين من أغسطس ١٩٠٨ في مدينة كوراسيك، ولم يكن يبلغ من العمر سوى ستة وخمسين عامًا.

(٥) ألكسندر جراهام بل

ولد ألكسندر جراهام بل بإدنبرة في الثالث من مارس عام ١٨٤٧. ودرس بجامعتي إدنبرة ولندن. ولقد تحددت مسيرته وفقًا لمسيرة جده ووالده. فكان جده «خبيرًا في الإلقاء والبيان»، وهي مهنة لم تعد موجودة. وأصبح يُقصد بها أساتذة إلقاء الشعر الذين لديهم القدرة على قراءة قصائد ومقتطفات من أعمال شكسبير بنطق رائع وتأثيرات بلاغية ومسرحية. وكان والد بل — ميلفيل — ذائع الصيت في مهنته. وكانت له عدة مؤلفات بلغ عدد طبعات أحدها مائتي طبعة! كان ميلفيل بل قد اخترع نظامًا لتمثيل الأصوات عن طريق رموز تشير إلى موضع وحركة الحلق واللسان والشفتين. وكان يمكن استخدامه لنطق اللغة الإنجليزية، بل أيضًا اللغات الأجنبية. في طفولته، كان والده يتخذ منه مثالًا لعرض هذا النظام خلال المؤتمرات التي ينظمها.

في عام ١٨٧٠، استقرت الأسرة في لندن. وكان بل يعمل في تدريس الإلقاء ومعالجة النطق. كانت والدته قد أصابها الصمم، مما شجعه أكثر على متابعة هذا الطريق. لكنه اكتشف أنه مهدد بالإصابة بالسل، المرض الذي أودى من قبل بحياة شقيقيه. هاجرت الأسرة إلى اسكتلندا الجديدة عسى أن يسترد بل صحته. وهناك كان يُدرس لغة الإشارة للصم. ونظرًا لشهرته، تم تعيينه في عام ١٨٧٣ أستاذًا للفسيولوجيا الصوتية بكلية الخطابة بجامعة بوسطن. ومكث هناك أربعة أعوام. كان بعض الأساتذة يظنون أن تعلم هذه اللغة مضيعة للوقت، وأنه بالأولى تعلم مخاطبة ضعاف السمع. كان بل قد شرع في تعليم طفل أصم منذ ولادته، عمره خمس سنوات، بالإضافة إلى فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عامًا أصابها الصمم وهي في الرابعة من عمرها. وبعد مرور عامين، تزوجها. وقد ساعده الدخل الذي يحصل عليه من أهليهما في توفير الموارد المالية الكافية لتمويل هذه التجارب، إلى جانب التجارب التي قادته لاختراع الهاتف ولم يكن يبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا. كان قد لاحظ مبكرًا منذ طفولته أنه كلما ضغطنا على وتر للبيانو في غرفة ما، كان يتردد صدًى في البيانو الموضوع في الغرفة الأخرى. وهكذا أدرك أن اهتزازات أي وتر تنتقل في الهواء، مما أوحى له بفكرة تطوير تلغراف متعدد باستخدام شفرة مورس. ولم يعد يتبقى سوى تحويل النبضات إلى كهرباء وتنغيم الصوت إلى تغيرات في التيار الكهربائي لاختراع الهاتف، الأمر الذي تم كما رأينا من قبل في العاشر من مارس ١٨٧٦. وتأسست أول شركة للهواتف — شركة بل للهواتف — في التاسع من يوليو ١٨٧٧.

ونظرًا لتيسر حالته المادية، أعلن بل تقاعده الرسمي في عام ١٨٨٠، لكنه لم يتوقف أبدًا عن العمل والاختراع. وظل يتابع تجاربه حول الاتصال. واخترع في البداية — في ذلك العام — الفوتوفون الذي يتيح نقل الأصوات عن طريق أشعة الضوء. ويمكن أن نرى في هذا الاختراع تمهيدًا لاختراع الألياف الضوئية. ثم طرأت له فكرة الاستعاضة عن المعدن بالشمع في صناعة أسطوانات الفونوغراف. كما وجد طريقة لتحديد أماكن الأشياء المعدنية — مثل طلقات الرصاص — داخل جسم الإنسان، حتى قبل اكتشاف الأشعة السينية. وقام بإجراء تجارب على الطائرات الورقية، مبديًا اهتمامًا واسعًا بتصنيع الطائرات. في عام ١٩٠٩، بعد ستة أعوام من نجاح ويلبر رايت (١٨٦٧–١٩١٢) وشقيقه أورفيل (١٨٧١–١٩٤٨) في الطيران، قطعت إحدى طائراته مسافة نصف ميل. كما اخترع تقنيات أخرى لتعليم الكلام للصم، الأمر الذي ظل شاغله الأكبر طوال حياته.

وتوفي بل في باديك نوفا سكوشا في الثاني من أغسطس ١٩٢٢.

(٦) فراكا فولفجانج ويانوس بولييه

ولد فراكا فولفجانج بولييه في التاسع من فبراير ١٧٧٥ في بوليا (بالقرب من ناجيزيبين) بترانسيلفانيا بالإمبراطورية النمساوية (المعروفة الآن بسيبو برومانيا). ودرس بجينا ثم بجوتنجن؛ حيث تلقى محاضرات أبراهام جوتلف كيستنر (١٧١٩–١٨٠٠). وربطت الصداقة بينه وبين كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) الذي كان طالبًا هناك هو الآخر. وقد قضى حياته كلها يعمل في تدريس الرياضيات والفيزياء والكيمياء في ماروسفاسارهلي.

جذبته بشدة مبادئ الهندسة، وخاصة قاعدة المتوازيات. وتراسل مع جاوس بخصوص هذا الشأن. وكان عمله الرئيسي عبارة عن بحث عن الأساس المحدد والنظامي للهندسة والحساب والجبر والتحليل. ولقد حاول — دون جدوى — منع ابنه يانوس من دراسة قاعدة المتوازيات. وأمام إحباطه الشديد من هذه القاعدة، مضى يكتب قصائد ومسرحيات ويؤلف الموسيقى.

وتوفي في العشرين من نوفمبر ١٨٥٦ بماروسفاسارهلي بترانسلفانيا (تدعى الآن تيرجو مورس، برومانيا).

ولد ابنه — يانوس بولييه — في الخامس عشر من ديسمبر ١٨٠٢ في كولوسفار بالإمبراطورية النمساوية المجرية (تُعرف الآن بكلوج، رومانيا). وعندما بلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، كان يعرف — بفضل دروس والده — التحليل الرياضي والميكانيكا التحليلية. كما كان يعزف الكمان بمهارة، ويقدم حفلات بفيينا. ثم استكمل دراسته بالكلية الملكية للمهندسين بفيينا من عام ١٨١٨ وحتى ١٨٢٢. وفور تخرجه، التحق بهيئة الأعمال المدنية بالجيش وظل هناك مدة أحد عشر عامًا. كان الأول بين كل زملائه بالجيش النمساوي الإمبراطوري في المبارزة والرقص. لم يكن يدخن أو يحتسي الكحوليات على الإطلاق، ولا حتى القهوة. وكان وهو في عامه الثالث والعشرين لا يزال محتفظًا بنوع من التواضع البريء. كما كان ماهرًا في اللغويات، بارعًا في التحدث بتسع لغات مختلفة من بينها الصينية ولغة التبت.

في الفترة ما بين ١٨٢٠ و١٨٢٣، أعد مؤلفًا حول نظام كامل للهندسة غير الإقليدية. وقبل نشره، اكتشف أن جاوس قد توصل بالفعل إلى معظم هذه النتائج، لكن لم يكن يمتلك القدر الكافي من الثقة لنشرها. كانت تلك ضربة قوية ليانوس، لكنه أصر على طبع مؤلفه في عام ١٨٣٢ كملحق لأحد كتب والده. وبعد أن قرأ هذا العمل، أرسل جاوس إلى صديق له كان يعتبر بولييه عبقريًّا من الدرجة الأولى وإلى فولفجانج بولييه، يقول لهما إن أعمال ابنه جاءت شبه متطابقة مع تأملاته التي قضى فيها الثلاثين أو الخمسة والثلاثين عامًا الأخيرة! حينما كانت الأفكار في الهواء! في عام ١٨٤٨، اكتشف بولييه أن نيكولاي إيفانوفيتش لوباتشفسكي (١٧٩٢–١٨٥٦) قد نشر عملًا مشابهًا في عام ١٨٢٩. كما طور بولييه المفهوم الهندسي للأرقام المركبة كأزواج مرتبة من الأرقام الصحيحة. وفي حين لم يتجاوز الملحق الذي نشره في كتاب والده أربعًا وعشرين صفحة، وُجد لديه — عند وفاته في السابع والعشرين من يناير ١٨٦٠ بماروسفاسارهلي — أكثر من عشرين ألف صفحة مخطوطة.

(٧) إيميل بوريل

ولد فيليكس إدوارد جاستين إيميل بوريل في السابع من يناير ١٨٧١ بسانت أفريك بلافيرون. ومنذ طفولته، كان عبقريًّا مفتونًا بالرياضيات. وحصل على منحة للدراسة بثانوية لويس الأكبر بباريس، وفي سن الثامنة عشرة، كان أول المقبولين بالمسابقة العامة لكلية الهندسة والمدرسة الطبيعية العليا. وبالاتفاق مع والده اختار الالتحاق بالثانية لكونه ميالًا للبحث أكثر من السعي وراء المال والمركز الاجتماعي. ثم تزوج من ابنة العالم الرياضي بول أبيل (١٨٥٥–١٩٣٠) المعروفة برواياتها — المكتوبة تحت اسم مستعار كاميل ماربو (اختصار مارجريت وبوريل) (١٨٨٣–١٩٦٩) التي حازت جائزة فيمينا عام ١٩١٣. كما ألفت كتابًا روت فيه ذكريات شديدة الجاذبية لمن يريد أن يعرف أكثر عن الظروف التي أحاطت بزوجها.

تم تعيين بوريل — حتى قبل مناقشة رسالته — مدرسًا بجامعة ليل وهو لا يزال في العشرين من عمره. ثم أصبح أستاذًا بالمدرسة الطبيعية العليا في عام ١٨٩٦، وأخيرًا اخترعوا له خاصة منصب الأستاذية لنظرية الدوال بجامعة السوربون في عام ١٩٠٩. وأثناء الحرب، ألح لكي يتم إرساله إلى الجبهة مما أهله للحصول على وسام صليب الحرب لشجاعته عام ١٩١٨.

بعد الحرب العالمية الأولى، حصل بوريل على الأستاذية في حساب الاحتمالات، وكرس طاقته لتطوير هذا المجال وعلاقته بالفيزياء الرياضية. كان من أوائل علماء الرياضيات الذين اهتموا بنظرية الألعاب وبتعريف ألعاب الاستراتيجية. كما ألف كتابًا عن لعبة البريدج. في عام ١٩٢١، تم انتخابه في أكاديمية العلوم. ولقد عمل جاهدًا لإنشاء معهد هنري بوانكاريه في باريس عام ١٩٢٨، الذي أصبح مركزًا عالميًّا معروفًا بأبحاثه في الرياضيات.

وعلى الرغم من عدم ميله للاجتماعيات، فقد كان يتردد على بعض مثقفي عصره مثل بول فاليري (١٨٧١–١٩٤١) وأيضًا زميله عالم الرياضيات بول بينلوفيه (١٨٦٣–١٩٣٣) ذي الاتجاهات الاشتراكية، الذي أصبح رئيسًا للمجلس في الفترة ما بين ١٩١٧ و١٩٢٥. وعندما هاجمت الصحافة ماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤) بسبب علاقتها ببول لانجوفين (١٨٧٢–١٩٤٦)، قام بوريل وزوجته باستضافتها لديهما مدافعين عنها بإصرار. ما بين ١٩٢٤ و١٩٣٦، أصبح بوريل نائبًا عن مدينة لافيرون، ثم عين وزيرًا للبحرية في الفترة من ١٩٢٥ وحتى ١٩٤٠. وعلى إثر اعتقاله وسجنه مدة قصيرة على يد نظام فيشي، انضم إلى المقاومة وحصل على وسام المقاومة في عام ١٩٤٥ وعلى وسام الصليب الأكبر الشرفي في عام ١٩٥٠. وعن مجمل أعماله منحه المركز القومي للبحث العلمي أول ميدالية ذهبية في عام ١٩٥٥.

وتوفي في باريس في الثالث من فبراير ١٩٥٦.

(٨) روبرت فيلهلم فون بنزن

ولد روبرت فيلهلم أبرهارد فون بنزن بمدينة جوتنجن بويستفالي في الحادي والثلاثين من مارس ١٨١١ وهو أصغر أشقائه الأربعة. كان والده أستاذًا للغات الحديثة بالجامعة. وبعد أن التحق بالمدرسة في هولزميندين، انتقل بنزن لدراسة الكيمياء بجوتنجن وناقش في عام ١٨٣٠، وهو في التاسعة عشرة من عمره، رسالته حول الوسائل المختلفة لقياس الكتلة الذرية للسوائل. ثم سافر مدة ثلاث سنوات — بتمويل جزئي من الحكومة — داخل ألمانيا وإلى باريس وبالطبع إلى فيينا. وتمكن من زيارة مصنع آلات كارل أنطون فرانز جوزيف هينشيل (١٨٢٥–١٨٨٣) وهناك رأى آلة بخار جديدة. وفي برلين، كان على اتصال بفريدلييب فرديناند رونج (١٧٩٥–١٨٦٧) صاحب اكتشاف الأنيلين. وفي جيسين، التقى بجوستوس فون ليبيج (١٨٠٣–١٨٧٣)، وبإيلهارد ميتشيرليتش (١٧٩٤–١٨٦٣) في بون. وأثناء إقامته بباريس، تابع بعض المحاضرات بكلية الهندسة، وتعرف على بعض الكيميائيين ذائعي الصيت مثل جوزيف لويس جاي-لوساك (١٧٧٨–١٨٥٠). واستطاع أن يكوِّن علاقات قوية بالعديد من العلماء.

وعند عودته إلى ألمانيا، حصل على وظيفة في جوتنجن، وبدأ أعماله التجريبية حول عدم ذوبان أملاح المعادن في حمض الزرنيخ. وحتى الآن، يعد اكتشافه لفكرة استخدام هيدرات أكسيد الحديد كعامل محفز أفضل ترياق لعلاج التسمم بالزرنيخ. وخلال عامين، انتهى من كتابة رسالته حول المكونات المعدنية-العضوية التي تُعد إسهامه الوحيد في مجال الكيمياء العضوية والفسيولوجيا.

في عام ١٨٣٦، خلف فريدريش فوهلر (١٨٠٠–١٨٨٢) بجامعة كاسيل. وظل هناك مدة عامين، قبل أن يتم تعيينه أستاذًا بجامعة مارسبورج؛ حيث كان مديرًا لمعمل الكيمياء. وهناك قام بأخطر تجاربه حول مشتقات الكاكوديل، المصنوع من الزرنيخ المذاب في أسيتات البوتاسيوم. كانت طريقة تركيبه مجهولة، وكانت مكوناته سريعة الاشتعال ورائحته مثيرة للغثيان، ولا سيما أنه كان من السموم. ولقد جاوزت نتائجه تلك التي توصل إليها جاي-لوساك وليبيج وفوهلر. لكنه أصيب بأضرار بالغة بسبب التسمم بالزرنيخ، حتى إن تجاربه كلفته إحدى عينيه.

كان عمله التالي يتعلق بالتحليل الغازي. واقترح طرقًا لإعادة تدوير الغازات ولكيفية الحصول ثانية على منتجات مشتقة مفيدة من الأفران العالية. كما أوضح كيف يمكن تحديد الوزن النوعي للغاز وقياس قدرته على الامتصاص عن طريق السوائل وأيضًا معدل انتشاره. كما طور طريقة تحليل الغازات لقياس تغيرات الحجم أثناء التفاعلات الكيميائية بين الغازات. ولقد أرست أعماله أسس التقنيات الجديدة التي ستظل تستخدم مائة عام بعد ذلك. كما درس التيارات المجلفنة في البطاريات الكهربائية. وهو صاحب فكرة الاستعاضة عن القطب الكهربائي البلاتيني باهظ الثمن بآخر من الكربون. وكانت هذه هي بطارية بنزن المستخدمة على نطاق واسع في إنتاج الأقواس الكهربية وأقطاب التحليل الكهربائي.

وتعد رحلته الجيولوجية إلى أيسلندا — الممولة من قبل الحكومة الدنماركية عقب ثورة بركان مونت هيكلا في عام ١٨٤٥ — إحدى المحطات التي لا تنسى في فترة إقامته بمارسبورج. وقام بنزن — الذي طالما اهتم بالجيولوجيا — بجمع الغازات المنبعثة وبعمل التحليل الكيميائي للعديد من الصخور البركانية. كما درس نظرية ينابيع المياه الساخنة التي كان يعتقد حينها أنها من مصدر بركاني، وأثبت بنزن أن هذا التدفق يأتي من المياه التي تغلي في منتصف المسار وتدفع بباقي تيار المياه إلى أعلى. في عام ١٨٥١، قضى بنزن عامًا بجامعة برسلو (فروتسواف ببولندا). وهناك قابل جوستاف روبرت كيرشوف (١٨٢٤–١٨٨٧) الذي أصبح صديقًا له. وفي عام ١٨٥٢، طلبت جامعة هيدلبرج من بنزن أن يخلف ليوبولد جميلين (١٧٨٨–١٨٥٣). ودبر بنزن حصول كيرشوف على منصب هناك هو الآخر. ولقد كان وجود بنزن بهيدلبرج سببًا في جذب العديد من الطلاب والكيميائيين إليه من كافة أنحاء العالم على غرار أوجست كيكولي (١٨٢٩–١٨٩٦) وإيميل ريتشارد أوجست كارل إيرلينماير (١٨٢٥–١٩٠٩) ويوهان فريدريش فيلهلم أدولف فون باير (١٨٣٥–١٩١٧) وهنري روسكو (١٨٣٣–١٩١٥). كانت لديه أفضل المعدات في ذلك الوقت، وأصبحت جامعة هيدلبرج أحد المراكز الأولى على مستوى العالم في أبحاث الكيمياء. تخلى بنزن عن مجال الكيمياء العضوية الذي أخذ يتطور بسرعة، واستأنف تجاربه حول البطاريات الكهربائية. وباستخدام حمض الكروميك بدلًا من حمض النيتريك، استطاع إنتاج معادن نقية عن طريق التحليل الكهربائي مثل الكروم والمغنسيوم والألومنيوم والمنجنيز والصوديوم والباريوم والكالسيوم والليثيوم. وابتداءً من عام ١٨٥٢، شرع في أعمال رائدة في الكيمياء الضوئية مع هنري روسكو (١٨٣٣–١٩١٥). ودرسا كمية اﻟ H-Cl المكون من الهيدروجين والكلورين التي تعتمد على كمية الضوء التي يتلقاها. ثم عكف على العمل مع كيرشوف حول التحليل الطيفي، قاطعًا نهائيًّا تعاونه مع روسكو.

خطرت لجوستاف كيرشوف فكرة عبقرية، تتمثل في فصل أشعة الضوء المختلفة عن طريق منشور بدلًا من مشاهدته من خلال زجاج ملون لبيان الفروق بين موجات الألوان. وكان هذا هو مولد التحليل الطيفي، الذي سيصبح ذا أهمية بالغة في التحليل الكيميائي. إلا أنه لدراسة أي طيف كان لا بد من وجود شعلة غير مضيئة وذات درجة حرارة مرتفعة. وفي مقالهما الصادر في ١٨٦٠، قال كل من بنزن وكيرشوف إن قنديل الغاز الذي صنعه أحدهما يمتلك الخواص المناسبة. بالطبع كان يقصد «موقد بنزن» الشهير الذي يرجع اختراعه إلى عام ١٨٥٥. وحتى ذلك التاريخ، كانت الشعلات — حتى تلك التي تستخدم لإضاءة المعامل — مرتعشة وكثيرة الدخان وغير ساخنة بالدرجة الكافية. كانت فكرة بنزن بسيطة: بدلًا من خلط الهواء بالغاز في موضع الاحتراق، كان من الأفضل خلطهما قبلًا. وذهب لمقابلة متخصص في الميكانيكا بيتر ديزاجا ليأخذ منه إرشادات لتصنيع موقده. وكان ابنه — سي ديزاجا — يعمل على تأسيس مصنع للأجهزة العلمية. وعلى الرغم من عدم وجود أي نص يثبت ذلك، فإن بيتر ديزاجا لا بد أنه كان صاحب إسهام كبير في الشكل النهائي للموقد ذي الثقبين الكبيرين والقرص المثقوب الذي يدور. ولم يتقدم بنزن وديزاجا بطلب تسجيل براءة اختراع، وبدأ آخرون يصنعون هذا الموقد، بل ويقدمون على طلب براءة اختراع له؛ مما اضطر بنزن وديزاجا إلى مراسلة السلطات والمطالبة بأحقيتهما في الاختراع. وفي عام ١٨٥٧، تشارك بنزن وروسكو في كتابة مقال ذُكر فيه هذا الموقد.

كان بنزن وكيرشوف منغمسين في التحليل الطيفي وتطوير جهاز التحليل الطيفي. وبفضل هذا الجهاز، اكتشفا في عام ١٨٦١ المعدن الرابع لمجموعة القلويات وهو السيزيوم، وأطلق عليه هذا الاسم بسبب الشعاع الطيفي الأزرق الجميل الذي له. وبعد بضعة شهور، كان اكتشاف معدن قلوي آخر وهو الروبيديوم الذي يمتلك شعاعين باللون البنفسجي. ولقد قاد جهاز التحليل الطيفي إلى اكتشاف الثاليوم (على يد كروكس عام ١٨٦١)، والإنديوم (على يد رايخ وريختر عام ١٨٦٣)، والجاليوم (على يد لوكوك دي بواسبودرن عام ١٨٧٥)، والسكانديوم (على يد نلسون عام ١٨٧٩)، والجيرمانيوم (على يد وينكلر عام ١٨٨٦). في عام ١٨٦٨، تم اكتشاف الهليوم في طيف الشمس. وفي عام ١٨٧٠، صنع بنزن جهازًا لقياس كمية الحرارة المتولدة من جسم، وهو جهاز حساس يمكنه قياس حجم الثلج المذاب أكثر من وزنه. كما تمكن أيضًا من الحصول على الحرارة النوعية للمعادن وتحديد أوزانها الذرية الحقيقية. ونحن مدينون لبنزن باختراعات أخرى مثل المضخة، وجهاز قياس كمية الحرارة المتولدة من جسم الذي يعمل بالبخار، ومقياس الضوء، والصمام الجديد.

كان بنزن مكرسًا بالكامل للعلم وظل عَزَبًا. كما كان شديد التواضع، حتى إنه لم يكن يستخدم «أنا» أثناء الحديث عن اكتشافاته. إلا أنه كان مدركًا لقيمته ويعلم كيف يستثمر هذه القيمة بوعي. في عام ١٨٤٢، اختِير بالجمعية الكيميائية بلندن وأكاديمية العلوم بباريس. كما نال العديد من التكريمات الأخرى. وكان يقول إن مثل هذا التكريم كانت قيمته الوحيدة لديه هي إسعاد والدته. في الجامعة، كان عادة ما يتولى أمر المحاضرات التمهيدية التي كان يتهرب منها زملاؤه. وكان يشدد على ضرورة التجربة ويمهد لطلابه بصبرٍ الدخولَ إلى عالم الكيمياء التحليلية. وكان يعهد إلى كل واحد من طلابه بمهمة ليتابع تقدمهم فيها حتى يصلوا إلى نوع من الاستقلال. ومن أشهر طلابه يوليوس لوثر ماير (١٨٣٠–١٨٩٥) وديمتري إيفانوفيتش مندليف (١٨٣٤–١٩٠٧).
قرر بنزن التقاعد وهو في الثامنة والسبعين من عمره، والتفت إلى متابعة الجيولوجيا وآخر تطوراتها. وظل يراسل أصدقاءه روسكو وكيرشوف وهيرمان فون هلمهولتز (١٨٢٤–١٨٧٤). وتوفي بنزن في السادس عشر من أغسطس ١٨٩٩ ودُفن ببيرجفريدهف بمدافن هيدلبرج. وشيد له نصب تذكاري داخل مبنى هوبتسراس عام ١٩٠٨.

(٩) أندريه لويس شولسكي

ولد أندريه لويس شولسكي في الخامس عشر من أكتوبر عام ١٨٧٥ بمونتجيون في منطقة جونزاك أن شارنت ماريتيم. كان والده أندريه شولسكي يعمل مدير مطعم، وكانت والدته تدعى آن مورو. ويبدو أنه ليس لدينا أي تفاصيل عن طفولته التي يُحتمل أن يكون قضاها بمونتجيون. ولقد التحق بثانوية سان جون دانجيلي وحصل على الجزء الأول من البكالوريا من بوردو في الرابع عشر من نوفمبر ١٨٩٢ وهناك أيضًا، أتم الجزء الثاني — بتقدير جيد — في الرابع والعشرين من يوليو ١٨٩٣. في الخامس عشر من أكتوبر عام ١٨٩٥، التحق بكلية الهندسة. وعند تخرجه برتبة مساعد ملازم التحق بالمدفعية كطالب بالمعهد التطبيقي للمدفعية والهندسة. وفي الأول من أكتوبر ١٨٩٩، عُين ملازمًا ثانيًا بالكتيبة رقم اثنين وعشرين من المدفعية. وخلال عامي ١٩٠٢ و١٩٠٣، قام بمهمات مختلفة في تونس ثم في الجزائر، وفي عام ١٩٠٥، تم تعيينه بالهيئة الجغرافية لأركان الحرب بالجيش. وهناك عُرف على الفور بذكائه الحاد وتمكنه من العمليات الرياضية بسهولة فائقة، وأيضًا بأفكاره غير التقليدية، بل المتناقضة في بعض الأحيان، التي كان يدافع عنها بحرارة شديدة. في ذلك الوقت، بعد مراجعة خط الشمال لباريس، تقرر القيام بمسح أرضي جديد لفرنسا باستخدام حساب المثلثات. وكانت مشكلة التعويض في الشبكات أمرًا يشغل بال العديد من الضباط بالهيئة الجغرافية، الراغبين في إيجاد طريقة بسيطة وسريعة ومحددة. وفي سبيل حل المعادلات المشروطة بطريقة المربعات الأقل، تخيل شولسكي طريقة حساب غاية في العبقرية سرعان ما قدمت خدمات جليلة؛ كانت تلك هي طريقة شولسكي. وفي عام ١٩٠٥، أصبح شولسكي ملازمًا أول وتزوج في عام ١٩٠٧.

قام شولسكي بمهمة في كريت — المحتلة من قبل القوات الدولية — من نوفمبر ١٩٠٧ وحتى يونيو ١٩٠٨. وعلى إثر اقتراح من الكولونيل لوبانسكي — قائد أعلى الجيوش الفرنسية بكريت وعالم مساحة الأرض سابقًا — حاز موافقة سريعة من المقدم بورجوا، مدير قسم مساحة الأرض. وفي مارس/أبريل ١٩٠٦، تقرر الشروع في مسح القطاعات الفرنسية والبريطانية بالجزيرة، بالإضافة إلى حساب المنسوب الطبوغرافي للقطاعات الفرنسية. ولقد قضى ثلاثة ضباط، من بينهم القائد لالوماند وشولسكي، ثلاثة أشهر في الأعمال التحضيرية للعمل. وقضي شولسكي بمفرده ثلاثة أشهر أخرى لتنفيذ مسح الأراضي. واستمرت أعمال دراسة الأرض ووضع العلامات خلال الشتاء، بينما لم تسمح الظروف السياسية باستكمال جمع البيانات الطبوغرافية.

في عام ١٩٠٩، تم تعيين شولسكي قائدًا واستمر عمله في الهيئة الجغرافية، إلا أنه اضطر إلى اللحاق بكتيبته ليقضي بها عامين، مدته القانونية كقائد للسرية. في عام ١٩١١، عاد مرة أخرى إلى الهيئة الجغرافية، وعُهد إليه بمهمة قياس مناسيب الأرض بالجزائر وتونس، كما أجرى العديد من الأعمال الجيوديسية في الجزائر والصحراء الكبرى. كانت أعماله في الجزائر بهدف إنشاء خط للسكك الحديدية. وفي تونس، تم القيام بمهمة القياس الدقيق لمناسيب الطرق والسكك الحديدية بالعاصمة تونس على أكمل وجه، وتم الانتهاء من الشبكة الرئيسية بتونس خلال شتاء ١٩١٣-١٩١٤، وعلى الفور تم مراجعة الحسابات وتدقيقها، وتم وقف الشبكة والقيام بالتعويضات. في شهر مايو ١٩١٢، تلقى شولسكي أمرًا بدراسة طريقة لقياس مناسيب الأرض تتيح له العمل بشكل أسرع مما كان الأمر في تونس والجزائر، مع الالتزام بالدقة الكافية لكي تستخدم النتائج على الفور في دراسة السكك الحديدية، وأيضًا تمهيدًا لخطة محتملة في إطار مجموعة الخطوط التي سيتم قياس مناسيبها بالمغرب لاحقًا. وتمت دراسة طريقة وظروف العمل العامة في المكتب في البداية، ثم تم تجربتها على أرض الواقع في منطقة فينسين ذات الشكل المضلع على يد أربعة عسكريين يساعدون شولسكي. ولقد سافر جميعهم إلى الدار البيضاء في مطلع يوليو ١٩١٢، واستمر عملهم في المغرب حتى يناير ١٩١٣.

في الخامس والعشرين من مايو ١٩١٣، أصبح شولسكي يعمل تحت قيادة وزارة الخارجية، وعُين رئيسًا للهيئة الطبوغرافية لمنطقة تونس العاصمة. وظل هناك حتى الثاني من أغسطس ١٩١٤ حين أُعلنت التعبئة ومضى إلى بنزرت. في الخامس عشر من سبتمبر، أبحر إلى أيسوار. ونزل في مارسيليا في السابع عشر من سبتمبر. في الرابع والعشرين من نفس الشهر، عُين قائدًا للسرية التاسعة من الكتيبة رقم ثلاثة وعشرين من المدفعية. وفي السابع والعشرين من سبتمبر، اختِير ليخلف القائد الذي تم تسريحه. وكانت مهمته قيادة الوحدة حتى الثامن عشر من أكتوبر. وبوصول قائد جديد، عاد مرة أخرى إلى قيادة سريته. في الثالث من يناير عام ١٩١٥، أُرسل إلى اللواء قائد المدفعية في المعسكر رقم سبعة عشر لينظم هناك إطلاق النيران. وفي الحادي عشر من فبراير، أُرسل إلى الهيئة الجغرافية من ضمن مجموعة تعمل على شبكات إطلاق النيران بقطاع الجيش بأحد الأفواج. وكان شولسكي أفضل الضباط في فهم وتطوير دور الجيوديسية وعلم الطبوغرافيا في تنظيم إطلاق نيران المدفعية.

وما بين الخامس والعشرين من سبتمبر ١٩١٦ وفبراير ١٩١٨، جعلت منه هذه المميزات الأجدر بالالتحاق بمهمة في رومانيا التي دخلت الحرب إلى جوار الحلفاء في نهاية أغسطس. وهناك كان يمارس مهام المدير الفني للهيئة الجغرافية. ثم تمت ترقيته في السادس من يوليو ١٩١٧ إلى قائد سرية.

توفي شولسكي في الحادي والثلاثين من أغسطس ١٩١٨ في الساعة الخامسة صباحًا في أحد الشوارع بشمال بانييو (إيسن)، متأثرًا بجراحه في ساحة إحدى المعارك.

(١٠) لويس داجير

ولد لويس جاك ماندي داجير في الثامن عشر من نوفمبر ١٧٨٧ بمدينة كورماي أن باريسيز. وكان والده محضرًا بمحكمة الإقطاعيين، ثم انتقل إلى أورليانز حيث مقاطعة لاكورون. عاش داجير طفولة حرة للغاية، ولم يهتم أحد بتعليمه، وبدأ يعمل مساعدًا لمهندس معماري بأورليانز، ثم أصبح وهو في السادسة عشرة من عمره مساعدًا للمسئول عن التزيين بورشة إينياس يوجين ماري ديجوتي (توفي ١٨٢٤)، الذي كان مسئولًا عن تصميم خلفيات وديكورات الأوبرا. كان داجير شديد الحماسة والذكاء؛ مما أهله ليصبح مسئولًا عن إدارة ديكورات مسرحية «الغامض» و«الأوبرا الكوميدية». وسرعان ما حل محل ديجوتي بعد وفاته في ١٨٢٤ كمدير مسئول عن ديكورات الأوبرا. ثم قام بتطوير مسرح يقوم على الإيهام أسماه الديوراما وتم افتتاحه في الحادي عشر من يوليو ١٨٢٢؛ كان عبارة عن عرض مكون من لوحات ضخمة دائرية تقوم على خداع البصر، بلغت أبعادها أربعة عشر مترًا في اثنين وعشرين، تظهر فيها تأثيرات تغير الضوء. كان داجير يستخدم بانتظام غرفة مظلمة تساعده على تعديل منظور ورؤية ديكوراته، ولقد استطاع تكوين ثروة، كما حصل على وسام الشرف برتبة فارس. إلا أن حريقًا ناتجًا عن خطأ أحد العاملين لديه تسبب في تدمير مؤسسته بالكامل في الثالث من مارس ١٨٣٩، وأفلس تمامًا. في عام ١٨٢٦، درس أعمال نيبس. وفي الرابع من يناير ١٨٢٩، تعاقد معه. لكن كان تعاونهما قصير المدى بسبب وفاة نيبس في عام ١٨٣٣. استكمل داجير تجاربه بمفرده وتمكن من تحقيق اكتشاف هام عن طريق الصدفة. في عام ١٨٣٥، وضع في بوتقة ما لوحًا معرضًا للشمس، وبعد بضعة أيام فوجئ بظهور الصورة. واستنتج أن هذه الظاهرة ترجع إلى أبخرة الزئبق التي تسربت من مقياس حرارة مكسور. ولقد أتاح هذا الاكتشاف تقليل مدة تحميض الصورة من ثمانية أيام إلى ثلاثين دقيقة. وعلى الرغم من تمكنه من إنتاج صور، فإنه لم ينجح في تثبيتها إلا في عام ١٨٣٧. وأطلق على هذه الطريقة اسم «الداجيروتيب». وحاول التعريف باختراعه وسعى للبحث عن شريك. لكن أحدًا لم يبد مهتمًّا. فاتجه حينها إلى دومينيك فرانسوا جان أراجو (١٧٨٦–١٨٥٣) — العالم البارز والسياسي — الذي أدرك على الفور فائدة التصوير الفوتوغرافي. وتم تعيين لجنة لدراسة الاختراع. وفي السابع من يناير ١٨٣٩، تم الإعلان عن الاختراع أمام أعضاء أكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون الجميلة، إلا أنه لم يتم الإعلان عن التفاصيل إلا في التاسع عشر من أغسطس، بعد أن اشترت الحكومة الفرنسية حقوقه وأهدت هذه الطريقة إلى العالم أجمع. إلا أنه تم منح براءة اختراع أخرى في إنجلترا وبلاد الغال (فرنسا) لفوكس تالبوت (١٨٠٠–١٨٧٧) الذي أسمى طريقته «الكالوتيب». حظي داجير بالكثير من التكريم. ثم ترك فرنسا ليتقاعد في عام ١٨٤٠ في بري سورمارن مع زوجته جورجينا أرونسميث — التي تزوجها عام ١٨١٢ — وابنة أختها. واستكمل أعماله لتطوير وتحسين اختراعه حتى عام ١٨٤٤. وكانت تسليته هي الرسم والتصوير.

توفي داجير على إثر أزمة قلبية في العاشر من يوليو ١٨٥١.

(١١) تشارلز داروين

كان تشارلز روبرت داروين الابن الخامس لأسرة إنجليزية ثرية. ولد في الثاني عشر من فبراير ١٨٠٩ بمدينة شروزبري في منطقة شروبشاير. كان جده إرازموس داروين (١٧٣١–١٨٠٢) طبيبًا مشهورًا. في عام ١٨٢٥، بدأ داروين دراسة الطب بجامعة إدنبرة. لكنه لم يتحمس للدراسة هناك، وترك جامعة إدنبرة ليلتحق بكامبريدج؛ حيث بدأ يدرس ليصبح راعيًا إنجيليًّا. وهناك وقع لقاءان حاسمان في حياته: لقاؤه بالجيولوجي أدام سيدجويك (١٧٨٥–١٨٧٣) وبالعالم الطبيعي جون ستيفنز هنسلو (١٧٩٦–١٨٦١). ثم أصبح داروين هاويًا شغوفًا بجمع الحشرات.

في عام ١٨٣١، أوصى هنسلو بتعيين داروين باحثًا على السفينة بيجل التي كانت مهمتها تحديث قياسات وبيانات شواطئ بتاجونيا. ودامت الرحلة حتى أكتوبر ١٨٣٦، ذهب فيها إلى جزر كاب فير والأزور مرورًا بسواحل أمريكا الجنوبية وتاهيتي وجزر جالاباجوس وأستراليا وكيب تاون. وقد حصَّل داروين مجموعة ضخمة من الملاحظات في مجالي الجيولوجيا والأحياء، وتمكن من إحصاء نوعيات متعددة من الأنواع الحفرية والحية: «كانت الزيارة لأرخبيل جالاباجوس فرصة خاصة لمشاهدة عملية التطور في ملء الطبيعة: يبدو أن هذا الأرخبيل حديث العهد بفوهاته وينابيع حممه غير المعدودة، شعرت وكأنني أشهد تقريبًا فعل الخلق نفسه.» وبعد عودته، وبفضل ميراث العائلة الذي كفل له حياة ميسورة، تمكن داروين من استكمال أبحاثه. ولقد أكدت مشاهداته افتراضات السير تشارلز لايل (١٧٩٧–١٨٧٥) — الجيولوجي البريطاني — الذي انتقد بشدة النظرية الكارثية المستوحاة من التوراة، التي كان يُعتقد أنها المسئولة عن اختفاء بعض الأنواع. وأكد لايل أن الأرض تخضع لتغيرات مستمرة بفعل قوى طبيعية، لكنه لم يشكك في ثبات الأنواع. أما داروين، ففكر أن الاختلافات الطفيفة بين الأنواع التي تعيش على الجزر المختلفة تثبت — من دون شك — أن الأنواع تتغير. ومن هنا ولد «أصل الأنواع». ولم تتأخر ردود الفعل على نظرية داروين. وقال بعض علماء الأحياء إنه غير قادر على إثبات تأكيداته. بل أيضًا، كيف له تفسير انتقال التغيرات إلى الأجيال الأخرى؟ ولم يتمكن داروين من الإجابة عن هذه الأسئلة. كان لا بد من انتظار يوهان جريجور مندل (١٨٢٢–١٨٨٤) ليمكن إثبات هذه الافتراضات. إلا أن المعارضة الأكثر شراسة جاءت من الكنيسة؛ لأن أفكار داروين تتعارض مع ما جاء في الكتاب المقدس حول خلق الإنسان. في عام ١٨٧١، بلغت الجرأة بداروين درجة جعلته يقول إن الإنسان ينحدر من سلالة القردة! وفي نهاية القرن التاسع عشر، اعترفت الكنيسة في النهاية أنه لا يوجد تعارض حقيقي بين مفهوم التطور والنظريات الكتابية.

ولقد عمل داروين على تطوير افتراضاته حتى وفاته في التاسع عشر من أبريل ١٨٨٢.

(١٢) توماس ألفا إديسون

ولد توماس ألفا إديسون في الحادي عشر من فبراير عام ١٨٤٧ في ميلان بأوهايو، وكان الطفل السابع والأخير لصامويل ونانسي إديسون، وعندما بلغ من العمر سبعة أعوام، انتقلت عائلته للعيش في بورت هيرون بميشيجان. لم يتلق إديسون في طفولته سوى قدر ضئيل من التعليم ولم يذهب إلى المدرسة إلا بضعة شهور، وقامت والدته بتعليمه القراءة والكتابة والقليل من الحساب، إلا أنه ثقف نفسه بنفسه بقراءاته. ولقد ظل طوال عمره يدعو إلى الثقافة الشخصية. وفي عامه الثالث عشر، عمل بائعًا للصحف والحلوى بمحطة القطار الذاهب من بورت هيرون إلى ديترويت. وكان يقضي وقت فراغه في قراءة الكتب العلمية والتقنية، كما حظي بفرصة تعلم كيفية تشغيل التلغراف. وزادت خبرته في هذا المجال، حتى عمل وهو في السادسة عشرة من عمره عامل تلغراف بدوام كامل.

كانت صناعة التلغراف تزدهر بسرعة كبيرة؛ مما أعطى الفرصة للشباب مثل إديسون للسفر وزيارة البلاد لاكتساب الخبرة. وهكذا عمل إديسون في عدد من مدن الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يصل إلى بوسطن في عام ١٨٦٨. وقرر التخلي عن مهنته كعامل تلغراف ليتفرغ لعمله كمخترع. وحصل على أول براءة اختراع عن جهاز مسجل كهربائي لتصويت الناخبين في المجالس. لكنه لم يحقق نجاحًا تجاريًّا. وقرر إديسون ألا يخترع شيئًا قبل أن يتأكد من احتياج الجمهور إليه.

في عام ١٨٦٩، كان في نيويورك. وهناك بدأ باختراع طابعة «يونيفرسال ستوك» للتلغراف التي بيعت سريعًا بأربعين ألف دولار. أصبح لديه من ثم المال الكافي لإنشاء معمله الأول ومصنع صغير في نيو أرك بنيوجيرسي على أبواب نيويورك. وخلال خمسة الأعوام التالية، قام بالعديد من الاختراعات التي ساعدت في تحسين سرعة وفعالية التلغراف. وتزوج إديسون من ماري ستيلول.

في عام ١٨٧٦، باع مصنعه وانتقل مع أسرته وعماله إلى منلو بارك على بعد أربعين كيلومترًا إلى جنوب غرب نيويورك. وأعد هناك كافة التجهيزات لأي اختراع يريده. وكان هذا هو المعمل الأول من نوعه في العالم. وكان اختراعه الهام التالي هو الفونوغراف الذي جلب له شهرة عالمية. وقام بجولة في البلاد باختراعه وقام بعرضه أمام الرئيس رذرفورد ريتشارد هايز (١٨٢٢–١٨٩٣) في أبريل ١٨٧٨ في البيت الأبيض.

ثم شرع في مواجهة التحدي الأكبر على الإطلاق: تطوير مصباح كهربائي متوهج. لم تكن الفكرة جديدة وعمل فيها بالفعل العديد من الأشخاص، إلا أنه لم يكن هناك مصباح عملي للاستخدام المنزلي، فلم يكن الأمر يقتصر على اختراع لمبة كهربائية، وإنما نظام كامل يتيح جعلها أكثر عملية وأمانًا واقتصادًا. وبعد عام ونصف من العمل، تحقق النجاح، وأضاء المصباح بالفتيلة مدة ثلاث عشر ساعة ونصف متواصلة. وتم أول عرض جماهيري للاختراع في ديسمبر ١٨٧٩ عندما أضاء إديسون مجمعه العلمي بمنلو بارك بالكامل. وانقضت الأعوام التالية في تأسيس الصناعة الكهربائية. في سبتمبر ١٨٨٢، تم إنشاء أول محطة تجارية بشارع بيرل في جنوب مانهاتن التي توفر الإضاءة لمنطقة تتجاوز كيلومترين مربعين. وبالطبع، كان هذا الأمر نجاحًا عالميًّا هائلًا جلب له المجد والثروة. وتطورت مختلف شركاته الكهربائية حتى عام ١٨٨٩ عندما ضمها جميعها لإنشاء «إديسون جنرال إلكتريك» وعلى الرغم من وجود اسمه عليها، فإنه لم يكن يتحكم فيها أبدًا لأن مؤسسته كانت في حاجة لتدخل المصرفيين من أمثال جون بيربونت مورجان (١٨٣٧–١٩١٣). وفي عام ١٨٩٢، حُذف اسم إديسون من الشركة. وفي عام ١٨٨٤، توفيت زوجته ماري.

كان إديسون قد ترك إدارة شركته بمنلو بارك لالتزامه بالتطوير الصناعي للكهرباء، مما جعله يقلل من إقامته هناك، ليقيم مع أولاده الثلاثة في نيويورك. وفي العام التالي — خلال عطلته بنيو إنجلند — قابل مينا ميلر ووقع في حبها. وتزوجا في فبراير ١٨٨٦ واستقرا في ويست أورانج بنيوجيرسي؛ حيث اشترى منزلًا يدعى جلينمونت، وعاشا هناك حتى وفاته. وشرع في إنشاء معمل جديد بالقرب من منزله. وتم افتتاح المباني الخمسة في نوفمبر ١٨٨٧، وكان يضم معامل للفيزياء والكيمياء والتعدين؛ حيث كان يمكن دراسة عشرة أو عشرين مشروعًا في ذات الوقت. واستمر إديسون في تطوير هذه المعامل وتعديلها وفقًا للظروف. وعلى مدار الأعوام أُنشئت المصانع حول المعامل لتطوير اختراعاته في صورة صناعية. وخلال الحرب العالمية الأولى، كان إجمالي العاملين لديه حوالي عشرة آلاف شخص.

عاد إديسون إلى العمل على اختراع الفونوغراف، وصنَّع منه أنواعًا مخصصة لحاجات الأفراد والمؤسسات. وتمامًا كما حدث مع الكهرباء، طور إديسون كل ما يتعلق بالفونوغراف: أسطوانات وأدوات التسجيل، ومعدات تصنيع الأسطوانات. ابتكر إديسون بالفعل صناعة الأسطوانات. وأراد أن يصنع جهازًا «يقوم مع العينين بنفس ما يقوم به الفونوغراف للآذان»، كان هذا هو السينما. قام إديسون بعرضه الأول في عام ١٨٩١. ثم بدأ في إنتاج صناعة الأفلام بعد عامين. ومن جديد، طور كل ما كان يلزم صناعة الفيلم وعرضه. إلا أن مغامرة صناعة الأفلام كانت بالطبع قد بدأت قبله، وعلى الرغم من النجاح الذي حققه، كان المجال مليئًا بالمنافسة حتى قرر إديسون تركه في عام ١٩١٨.

بعد نجاحات الفونوغراف، جعلته السينما — أكبر إخفاق في مسيرة إديسون العلمية — يتوارى. لمدة عقد، عمل على تحسين طرق استخراج الحديد. وباع كل حصصه في شركة جنرال إلكتريك، لكنه عجز عن إيجاد طريقة لتحقيق قيمة من الناحية التجارية وفقد كل النقود التي استثمرها. وأنقذه كل من اختراع الفونوغراف والسينما من الإفلاس.

وأراد عندئذ تطوير نوع من المراكم (بطارية) يعمل بشكل أفضل مع العربات الكهربائية. كان مولعًا بالسيارات وامتلك عددًا منها، سواء تلك التي تسير بالبنزين أم الكهرباء أم البخار. وكان يعتقد أن أفضل طريقة للتسيير هي الكهرباء، إلا أن بطاريات الرصاص الحامضية لم تكن مناسبة. ونجح في تصنيع أول مركم قلوي في عام ١٨٩٩. كان هذا هو أكثر مشروعاته تعقيدًا واستغرق منه عشرة أعوام. لكن كان الوقت قد مر، وتطورت السيارات التي تسير بالبنزين وأصبح لها الغلبة. إلا أن المركم القلوي الذي اخترعه أصبح شائع الاستخدام في السكك الحديدية والسفن ومصابيح عمال المناجم. كما أنه كان أكثر اختراعاته إدرارًا للربح المالي.

في عام ١٩١١، بنى مجمعًا صناعيًّا ضخمًا بويست أورانج، جمع فيه كل شركاته في مؤسسة كبيرة هي «شركة توماس إديسون»، وأصبح رئيسها ومديرها. كان يبلغ من العمر أربعة وستين عامًا وبدأ دوره في الشركة يتغير، وكذا حياته كلها. فبدأ يترك مزيدًا من المسئوليات لمعاونيه. وانشغلت معامله بتطوير اختراعاته القديمة بدلًا من صنع الجديد. كان عصر الاختراعات قد ولى.

في عام ١٩١٥، طُلب من إديسون أن يتولى رئاسة مجلس البحرية الاستشاري، وكانت مهمته وضع مواهب العلماء والمخترعين في البلاد في خدمة القوات المسلحة. وقضى عدة شهور في قاعدة عسكرية يجري تجارب على تقنيات الكشف عن الغواصات باستخدام سفينة مُنحت له خصوصًا لهذا الغرض.

أصبح إديسون رمزًا وطنيًّا للمهارة والإبداع الأمريكي، ومنحه الكونجرس ميدالية خاصة. وفي عام ١٩٢٩، احتفلت البلاد باليوبيل الذهبي للمصباح ذي الفتيل المتوهج. وكان هنري فورد (١٨٦٣–١٩٤٧) قد أنشأ في ديربورن بميشيجان متحفًا للتاريخ الأمريكي يحتوي على تقليد كامل لمعمل منلو بارك. كما أقام فورد مأدبة على شرف إديسون بجرينفيلد فيلادج بحضور الرئيس الأمريكي هربرت كلارك هووفر (١٨٧٤–١٩٦٤) بالإضافة إلى العديد من العلماء والمخترعين. وشهد أيضًا العديد من مظاهر التكريم؛ فنجد في الجريدة الفرنسية لنشر العلوم «الطبيعة»، في العدد الصادر بتاريخ الخامس عشر من سبتمبر ١٩٢٩، تقريرًا عن كل ما يحدث في أتلانتيك سيتي. ومن الممتع أن نقتبس جزءًا منه:

انتهى هذا المهرجان باحتفال رسمي في قاعة المدينة برئاسة السيد أركرايت — رئيس الجمعية الوطنية للإضاءة الكهربائية. وفي نهاية الاحتفال، ضغط على زر وأضاء فنارًا عملاقًا مبنيًّا على سطح القاعة. وعند هذه الإشارة، هبط قائد الطائرة — التي كانت تحوم في الجو — عموديًّا، متحكمًا في صافرة بضغط الهواء موضوعة على متنها. ونبهت أصوات الصافرة أذنًا كهربائية شديدة الحساسية موجودة في القاعة وموصلة بنظام تحكم أضاء القاعة بأكملها. وفي اللحظة ذاتها، انطلقت حزمة مضيئة مذهلة على هيئة أنوار الشفق القطبي، غلفت المبنى كله بمعطف حقيقي من اللهب.

في نهاية العشرينيات، طلب منه صديقاه هنري فورد وهارفي صامويل فايرستون (١٨٦٨–١٩٣٨) إيجاد مصدر جديد للمطاط لصناعة إطارات السيارات. فالمطاط الطبيعي لا ينمو في الولايات المتحدة، وأصبحت تكلفة الاستيراد باهظة للغاية. اختبر إديسون آلاف النباتات المتنوعة لاكتشاف بديل وتوفي أثناء بحثه.

كانت صحته قد شهدت تدهورًا كبيرًا في عاميه الأخيرين، فلم يعد يذهب إلى معمله، ومكث يعمل في البيت. وتوفي في الثامن عشر من أكتوبر عام ١٩٣١.

(١٣) ألبرت أينشتاين

يوجد بالفعل العديد من السير الذاتية لأينشتاين، مما يجعلني أقدم بصعوبة على تقديم واحدة أخرى، لكنها ستكون قصيرة.

ولد ألبرت أينشتاين في أولم بمقاطعة ورتمبرج بألمانيا في الرابع عشر من مارس ١٨٧٩. ونعلم أن والديه كانا قلقين؛ لأنه لم يبدأ الكلام إلا في عامه الثالث. تربى أينشتاين على الديانة اليهودية. في البداية، التحق بمدرسة في ميونخ من سن السادسة وحتى الثالثة عشرة. وتلقى أيضًا دروسًا في آلة الكمان. ثم التحق بلويتبولد جمنازيوم. ودرس الرياضيات، وخاصة فرع التحليل الرياضي حوالي عام ١٨٩١.

في عام ١٨٩٤، انتقلت أسرته إلى ميلان، بينما ظل هو في ميونخ. كان راغبًا في دراسة الهندسة الكهربائية بالمعهد الفيدرالي للتكنولوجيا العريق بزيورخ، لكنه لم ينجح في امتحان القبول. في عام ١٨٩٦، تخلى عن الجنسية الألمانية وظل بدون جنسية بضع سنوات. فلم يتقدم بطلب الجنسية السويسرية إلا في عام ١٨٩٩، وحصل عليها بعد عامين. عقب فشله في الالتحاق بالمعهد، انضم إلى الكلية الفيدرالية بآرو بسويسرا. وظل راغبًا في دخول المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا ليدرس هناك الرياضيات والفيزياء ليصبح أستاذًا. كانت النظرية هي ما يشغل جل تفكيره؛ لأنه — على حد قوله — كان يفتقر إلى الخيال والاستعدادات العملية. وبعدما نجح أخيرًا في الالتحاق بالمعهد، حصل على الشهادة في عام ١٩٠٠. نال العديد من زملائه، ومنهم مارسيل جروسمان (١٨٧٨–١٩٣٦) — الذي كان زميله في نفس الفصل وأحد أصدقائه المقربين — منصب معيد. بينما لم يجذب طلب أينشتاين انتباه المعهد أو أي جامعة أخرى تقدم للعمل بها. استطاع الإفلات من الخدمة العسكرية بسبب إصابته بالقدم المفلطحة ومرض الدوالي. وفي منتصف عام ١٩٠١، حصل على منصب معلم مؤقت بالكلية الفنية العليا بوينترثور. وتخلى عن طموحه في الحصول على منصب جامعي. وتبعتها وظيفة مؤقتة أخرى بشافهويزن. كتب والد جروسمان خطاب توصية لصالحه ليتمكن من الحصول على منصب بمكتب براءات الاختراع ببرن. وتم تعيينه خبيرًا فنيًّا من الدرجة الثالثة. وظل يعمل هناك منذ عام ١٩٠٢ وحتى عام ١٩٠٩، كموظف مؤقت حتى عام ١٩٠٤، وبعدها تم تثبيته. في عام ١٩٠٦، تمت ترقيته إلى الدرجة الثانية من الخبراء. ونحن نعلم أنه توصل بمفرده خلال هذه الفترة — من دون أي اتصالات بزملائه أو بالمؤلفات العلمية بل وأثناء وقت فراغه — إلى نظرية النسبية الخاصة. وفي عام ١٩٠٥، حصل على الدكتوراه من جامعة زيورخ عن رسالته حول طريقة جديدة لتحديد أبعاد الجزيئات. ولقد أهدى هذه الرسالة إلى جروسمان. وفي العام ذاته، نُشرت له ثلاثة مقالات. وفي المقال الأول، بحث ظاهرة الانبعاث الكمي للطاقة الكهرومغناطيسية التي اكتشفها ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧)، وأثبت أن طاقة هذه الكمات تكون متناسبة مع تردد الإشعاع بصورة مباشرة. وتضمن المقال الثاني نظرية النسبية الخاصة؛ حيث طرح افتراضية أن سرعة الضوء تكون ثابتة في كل الأنظمة المرجعية التي هي في حالة حركة موحدة الشكل بنسبة بعضها لبعض. بينما كان المقال الثالث متعلقًا بالميكانيكا الإحصائية، وهو المجال الذي درسه من قبل لودفيج بولتزمان (١٨٤٤–١٩٠٦) وجوشيا ميلارد جيبس (١٨٣٩–١٩٠٣). ولاحقًا في عام ١٩٠٥، أثبت أينشتاين التعادل بين الكتلة والطاقة، مقترحًا الصيغة الشهيرة: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء .

بعد عام ١٩٠٥، استمر أينشتاين يعمل في هذه الموضوعات، مقدمًا إسهامات هامة للنظرية الكمية. وأراد أن يمد تطبيق نظرية النسبية الخاصة إلى أنظمة أخرى في حالة حركة تسارعية. وظهر أمامه المفتاح في عام ١٩٠٧ من خلال مبدأ التعادل، الذي يؤكد أن التسارع الناتج عن الجاذبية لا يختلف عن التسارع الناتج عن القوى الميكانيكية؛ أي إن الكتلة الناتجة عن الجاذبية مماثلة للكتلة الساكنة. في عام ١٩٠٨، حصل أينشتاين على منصب مدرس بجامعة برن بعد أن ناقش رسالة حول نتائج قانون توزيع الطاقة للأجسام السوداء. وفي العام التالي عُين أستاذًا للفيزياء بجامعة زيورخ. وأصبح معروفًا كأحد ألمع العلماء في عصره. في عام ١٩١١، حصل على كرسي الأستاذية بجامعة كارل-فرديناند ببراغ. وكان هذا العام محوريًّا بالنسبة له؛ فلقد توقع أن مسار الضوء المنبعث من نجم بعيد والمارِّ بجوار الشمس سيحيد باتجاهها. ولو تم إثبات هذا الأمر، لأصبح أول تحقق تجريبي لنظرية النسبية الخاصة.

في عام ١٩١٢، بدأ أينشتاين — بالتعاون مع مارسيل جروسمان — مرحلة جديدة من عمله لصياغة نتائجه حول الجاذبية بعبارات رياضية. واستخدم في ذلك الحساب الموتري tensoriel الذي اخترعه توليو ليفي-سيفيتا (١٨٧٣–١٩٤١) وجريجوريو ريتشي-كورباسترو (١٨٥٣–١٩٢٥). وأطلق أينشتاين على هذا العمل النسبية العامة. في عام ١٩١٢، حصل على كرسي الأستاذية بالمعهد الفيدرالي للتكنولوجيا بزيورخ، وعاد أستاذًا إلى المكان الذي درس فيه طالبًا. عاد إلى ألمانيا عام ١٩١٤ دون أن يطلب استعادة الجنسية الألمانية. كان قد عُرض عليه عرض مدهش؛ منصب بأكاديمية بروسيا للعلوم بالإضافة إلى كرسي الأستاذية بجامعة برلين دون أي التزام بالتدريس. كما عرضوا عليه إدارة معهد القيصر فيلهلم للفيزياء الذي سيتم إنشاؤه في برلين.

في عام ١٩١٥، نشر أينشتاين أخيرًا نظرية النسبية العامة. ولقد عرض هذه النظرية في جوتنجن وخرج مملوءًا بالرضا؛ لأنه استطاع إقناع عالمي رياضيات لهما شهرة عالمية بها، وهما دافيد هيلبرت (١٨٦٢–١٩٤٣) وفليكس كلاين (١٨٤٩–١٩٢٥). وفي الواقع، كان هيلبرت قد قدم — قبل أسبوع — مقالًا يتضمن معادلات النسبية العامة. في عام ١٩١٩، أكد فريق إنجليزي من علماء الفيزياء الفلكية توقعات أينشتاين حول انحراف الضوء أثناء الكسوف. وأظهرت الصحافة الشعبية إعجابًا شديدًا بأينشتاين. كان عنوان جريدة لندن تايمز بتاريخ السابع من نوفمبر ١٩١٩: «ثورة علمية – نظرية جديدة للكون – التخلي عن أفكار نيوتن». إلا أنه كانت هناك اعتراضات على نظريات أينشتاين، حتى إن محاضراته ببرلين توقفت في عام ١٩٢٠ بسبب مظاهرات معادية للسامية. كانت أول زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩٢١. وقام بجمع أموال لتمويل الجامعة العبرية بالقدس، كما عقد العديد من المؤتمرات حول النسبية.

حصل أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٢١، ليس عن نظرية النسبية، وإنما عن أعماله في عام ١٩٠٥ عن التصوير الكهربائي الذي نستخدمه يوميًّا في أجهزة التصوير الفوتوغرافي. لكنه لم يحضر مراسم الاحتفال بتسلم الجائزة لوجوده في اليابان كما رأينا من قبل. وفي تلك الفترة، كان أينشتاين كثير السفر للخارج: باريس في عام ١٩٢٢، فلسطين عام ١٩٢٣، أمريكا الجنوبية في عام ١٩٢٥ بعد اكتشافه الكبير الأخير — موجات الجاذبية — في عام ١٩٢٤.

في عام ١٩٢٧، بدأ جداله مع نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢) حول التفسير الاحتمالي للميكانيكا الكمية. وكان ذلك بمناسبة أحد مؤتمرات «سولفاي» التي كان يقيمها — ابتداءً من عام ١٩١١ — رجل الصناعة البلجيكي إرنست سولفاي (١٨٣٨–١٩٢٢). لا بد من مشاهدة صورة المشاركين في هذا المؤتمر، سنجد فيها كل رموز العلم من الدرجة الأولى: ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧)، ونيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢)، ولويس دي برولي (١٨٩٢–١٩٨٧)، وفرنر هايزنبرج (١٩٠١–١٩٧٦)، وإرفين شرودنجر (١٨٨٧–١٩٦١)، وبول ديراك (١٩٠٢–١٩٨٤)، وهندريك أنطون لورنتز (١٨٥٣–١٩٢٨)، وماكس بورن (١٨٨٢–١٩٧٠)، وولفجانج باولي (١٩٠٠–١٩٥٨)، وإرفينج لانجموير (١٨٨١–١٩٥٧)، وتشارلز ويلسون (١٨٦٩–١٩٥٩)، وأوين ريتشاردسون (١٨٧٩–١٩٥٩)، وبيتروس ديبي (١٨٨٤–١٩٦٦)، وويليام لورانس براغ (١٨٩٠–١٩٧١)، وأرثر كومبتون (١٨٩٢–١٩٦٢)، وويليام فاولر (١٩١٢–١٩٩٥)، وماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤)؛ وكلهم حائزون جائزة نوبل.

وبين عامي ١٩٣٠ و١٩٣٢، قام أينشتاين بزيارة ثانية للولايات المتحدة. وهناك عرضوا عليه منصبًا بمعهد الدراسات المتقدمة ببرنستون بنيو جيرسي. وكانت الفكرة تقوم على أن يمضي خمسة أشهر في برنستون وسبعة في برلين. وقبل أينشتاين العرض وغادر ألمانيا في ديسمبر ١٩٣٢. وفي الشهر التالي، أمسك النازيون بمقاليد الحكم بألمانيا ولم يعد أينشتاين إليها أبدًا. في عام ١٩٣٣، قام بعدة رحلات في أوروبا وتلقى عروضًا من جامعات كثيرة ليأتي ويقيم فيها. لكن ما كانت في البداية زيارة عابرة للولايات المتحدة تحولت إلى إقامة دائمة في عام ١٩٣٥. وفي برنستون، عمل أينشتاين على توحيد القوى الأربع التي تتحكم في الفيزياء. ولا تزال هذه المشكلة بدون حل كامل إلى يومنا هذا. ويبدو أن نظرية الأوتار الحديثة قد تقدر على حلها، لكن لا يزال ينقصها بعض التأكيدات التجريبية اللازمة للتحقق من أي نظرية فيزيائية. في عام ١٩٤٠، أصبح أينشتاين مواطنًا أمريكيًّا، لكنه ظل محتفظًا بجنسيته السويسرية. ولقد ساهم في الحرب بكتابته مقاله عن النسبية لعام ١٩٠٥ بخط يده وبعرضه للبيع في مزاد بستة ملايين دولار. وتوجد هذه المخطوطة الآن بمكتبة الكونجرس بواشنطن. ونعرف أيضًا خطابه إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت (١٨٨٢–١٩٤٥) يحذره فيه من أن ألمانيا تسعى لتصنيع قنبلة نووية، ويدعوه إلى الحرص على أن تسير الولايات المتحدة في نفس الطريق قبل فوات الأوان.

بعد وفاة أول رئيس لدولة إسرائيل في عام ١٩٥٢، عُرض عليه هذا المنصب لكنه رفضه. وقبل أسبوع من وفاته، وقع على نداء وجهه لبرتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) يدعو فيه كل الأمم إلى نبذ الأسلحة النووية. لقد أمضى عمره كله مدافعًا عن السلام.

توفي أينشتاين في برنستون في الثامن عشر من أبريل عام ١٩٥٥، وتم حرق جثمانه ونثر رماده بترنتون في نفس اليوم.

(١٤) إنريكو فيرمي

ولد إنريكو فيرمي في روما في التاسع والعشرين من سبتمبر عام ١٩٠١. وكان والده رئيس المفتشين بوزارة الاتصالات ووالدته تدعى إيدا دي جاتيس. ولقد لوحظ نبوغه في الرياضيات وهو لا يزال في المدرسة. وفي عام ١٩١٨، حصل على منحة بالمدرسة الطبيعية العليا في بيزا، وهي مؤسسة ذات شهرة عالمية. وقضى هناك أربعة أعوام وحصل على الدكتوراه في الفيزياء في عام ١٩٢٢ تحت إشراف لويجي جايتانو ألفريدو رانييري جيوفاني بوتشيانتي (١٨٧٥–١٩٥٢). وكانت رسالته — ذات الطابع التجريبي — تدور حول انكسار الأشعة السينية على الأسطح المنحنية للبلورات. كما نشر أيضًا أعمالًا أخرى نظرية حول الديناميكا الكهربية والنسبية، جامعًا بين صفات العالم التجريبي والمنظِّر.

في عام ١٩٢٣، حصل على منحة من الحكومة الإيطالية ليقضي بضعة شهور في معمل ماكس بورن (١٨٨٢–١٩٧٠) بجوتنجن. وفي عام ١٩٢٤، حصل على بعثة روكفيلير وسافر إلى ليدن بهولندا ليعمل مع بول إيهرنفيست (١٨٨٠–١٩٣٣). ومن عام ١٩٢٤ وحتى عام ١٩٢٦، أصبح مدرسًا للفيزياء الرياضية والميكانيكا بجامعة فلورنسا.

في عام ١٩٢٦، اكتشف «إحصاء فيرمي»؛ وهو قانون يتحكم في الجسيمات الخاضعة لمبدأ استبعاد باولي (والآن تسمى هذه الجسيمات الفرميونات) بالتناقض مع الجسيمات التي تخضع لإحصاء بوز-أينشتاين وهي البوزونات. في عام ١٩٢٧، أصبح فيرمي أستاذًا للفيزياء النظرية بجامعة روما، وظل في هذا المنصب حتى عام ١٩٣٨. في الأعوام الأولى لمسيرته المهنية، كان يعمل على بعض مشاكل الديناميكا الكهربية ومختلف الظواهر المطيافية، ثم إشعاع . في عام ١٩٢٨، تزوج فيرمي من لورا كابون التي كتبت بعد ذلك كتابًا تروي فيه ذكرياتها مع زوجها.
في عام ١٩٣٤، اكتشف فريدريك جوليو (١٩٠٠–١٩٥٨) وزوجته إيرين كوري (١٨٩٧–١٩٥٦) النشاط الإشعاعي الصناعي، وحصلا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٣٥. يمكن حدوث تحولات نووية في نواة كل العناصر تقريبًا إذا ما تعرضت لقصف النيوترونات. فتلتقط النواة النيوترونات وتنقسم. إلا أن الكثير من التجارب ظلت بدون تفسير. وفكر فيرمي في أن النيوترونات البطيئة — التي تتباطأ بفعل البرافين — ستكون أكثر فعالية في الانشطار النووي. وكان هذا هو الاكتشاف الذي تحدثت عنه، والذي سمح بإنتاج عناصر أكثر من تلك الموجودة في الجدول الدوري لمندليف (١٨٣٤–١٩٠٧). وحصل فيرمي على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٣٨. وكان بالطبع أكبر متخصص في النيوترونات على الإطلاق. وفور حصوله على الجائزة، هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليهرب بالأساس من بطش نظام موسوليني الفاشي. ومن عام ١٩٣٩ وحتى عام ١٩٤٢، عمل أستاذًا للفيزياء بجامعة كولومبيا بنيويورك.

وفي مطلع عام ١٩٣٩، اكتشف أوتو هان (١٨٧٩–١٩٦٨) وفريتز ستراسمان (١٩٠٢–١٩٨٠) الانشطار النووي، الذي يقوم على انبعاث نيوترونات ثانوية، وعلى الفور تبين لفيرمي إمكانية إحداث تفاعل متسلسل. وفي الثاني من ديسمبر ١٩٤٢، تم إنشاء أول مفاعل نووي، وتم أول تفاعل نووي خاضع للتحكم في جامعة شيكاجو؛ ومن ثم، أصبح لفيرمي دور هام في مشروع مانهاتن الذي يديره روبرت جيمس أوبنهايمر (١٩٠٤–١٩٦٧) والمخصص لتطوير القنبلة النووية. وفي عام ١٩٤٤، حصل فيرمي على الجنسية الأمريكية وأصبح أستاذًا بمعهد الدراسات النووية بجامعة شيكاجو. وتحول اهتمامه إلى فيزياء الطاقات العالية والتفاعلات بين البيونات والنوكليونات. وفي أعوامه الأخيرة، جذب انتباهه معرفة المصدر الغامض للأشعة الكونية، وطور نظرية تنص على أن هناك مجالًا مغناطيسيًّا — يعمل كمسرع عملاق — وهو السبب في الطاقات الهائلة الموجودة.

وقد شهد فيرمي في صالح أوبنهايمر عندما اتُّهم ظلمًا بالتجسس لصالح الروس أثناء حركة المطاردات الشهيرة (المكارثية). لم يتم معاقبة أوبنهايمر وإنما تم تجريده من كل صلاحياته بالتعامل في شئون الدولة. ولقد تأثر فيرمي بشدة بهذه الأحداث، وانتقد المشاعر العمياء التي حالت دون صدور حكم محايد يقوم على الوقائع.

وتوفي فيرمي بشيكاجو في التاسع والعشرين من نوفمبر عام ١٩٥٤ بسبب إصابته بالسرطان.

(١٥) ألكسندر فليمنج

ولد ألكسندر فليمنج بلوشفيلد بالقرب من دارفيل في أيرشاير باسكتلندا في السادس من أغسطس ١٨٨١. وتنقل بين عدة مدارس في المنطقة قبل أن يمضي إلى لندن حيث يعيش شقيقه الأكبر توم الذي كان يعمل طبيبًا. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما التحق بكلية الهندسة بشارع ريجينت. كان شقيقه يريد أن يعمل فليمنج بالتجارة. وعُين فليمنج في البداية كاتبًا بإحدى الشركات البحرية. وفي عام ١٩٠٠، اندلعت حرب البوير الثانية، والتحق فليمنج واثنان من أشقائه بالكتيبة الاسكتلندية، لكن الأمر لم يعدُ كونه معسكرًا رياضيًّا ليس أكثر، فكانوا يمارسون الرماية ويسبحون ويمارسون لعبة كرة الماء، لكنهم لم يذهبوا أبدًا إلى ما بعد بلاد الغال. وبعد فترة قصيرة، توفي عمهم، تاركًا لكل منهم ثروة صغيرة. وشجع توم شقيقه على دراسة الطب، وبالفعل حصل فليمنج على درجات ممتازة في اختبارات القبول، وكان له حق الاختيار بين الكليات الثلاث الأقرب له. فاختار مستشفى كلية طب سانت ماري؛ لأنه كان يلعب كرة الماء ضد فريقها! وهناك، ناقش في عام ١٩٠٨ رسالته عن العدوى الميكروبية ووسائل مقاومتها. ثم فكر في ترك مستشفى سانت ماري ليصبح جراحًا، وعندما علم رئيس نادي رماية سانت ماري برغبة فليمنج اندهش؛ خاصة أن فليمنج كان بارعًا في الرماية، وفعل كل ما في وسعه ليبقي فليمنج، وكان يعمل في قسم علم البكتيريا، فأقنع فليمنج بالعمل مع مدير القسم، السير ألمروث إدوارد رايت (١٨٦١–١٩٤٧) الباحث اللامع. وقرر فليمنج البقاء في سانت ماري، وظل يعمل فيها طوال مسيرته المهنية. إنه القدر!

في عام ١٩٠٩، اكتشف الطبيب والكيميائي الألماني بول إيهرليتش (١٨٥٤–١٩١٥) — الحائز جائزة نوبل في العام السابق في الفسيولوجيا والطب لاكتشافه طريقة العلاج الكيميائي — علاجًا لمرض الزهري؛ ألا وهو دواء الأرسفينامين. وكان قد جرب المئات من المُركبات، ولم ينجح سوى المُركب رقم ستمائة وستة! وكان فليمنج أحد القلائل الذين تناولوه، وأُطلق على أعماله في هذا المجال «سري ٦٠٦».

أثناء الحرب العالمية الأولى، انتقل فريق عمل مستشفى سانت ماري إلى فرنسا لإنشاء مستشفى في الريف. وبلغت الآثار المدمرة للعدوى الميكروبية مدًى جعل فليمنج يعتقد بضرورة وجود منتج كيميائي لمقاومتها بفعالية كما عالج الأرسفينامين مرض الزهري. وكان فليمنج وراء ابتكارات كثيرة في علاج الجرحى.

في سبتمبر ١٩١٥، تزوج من الممرضة سارة ماريون ماك إيلروي. وبعد عودته إلى معمل سانت ماري بعد انتهاء الحرب، ظل يبحث عن مضاد فعال للالتهاب. واكتشف الليزوزيم — وهو إنزيم موجود في عدة سوائل جسدية مثل الدموع — الذي يمتلك قدرة طبيعية على التطهير، لكنه لم يكن فعالًا في مواجهة عوامل العدوى الأكثر قوة. وأجرى فليمنج تجارب عديدة في معمله الذي تحول إلى ما يشبه المستودع. إلا أن عدم النظام هذا اتضح أنه كان مفيدًا، ففي عام ١٩٢٨، اكتشف فليمنج مزرعة البكتيريا الشهيرة التي نما عليها الفطر مما قاده إلى اكتشاف البنسلين. كان هذا في الثالث من سبتمبر عام ١٩٢٨، وهو يوم بارز في تاريخ الإنسانية. أدرك فليمنج أنه ما دام البنسلين مادة تُفرز، فيمكن إذن استخراجها. وفي الثالث عشر من فبراير ١٩٢٩، قدم اكتشافه إلى نادي البحث الطبي، الذي بقي متشككًا بالرغم من كل شيء. ثم أجرى تطبيقات موضعية لمنتجه، لكن البنسلين لم يكن يعطي نتيجة بالحقن؛ لأنه كان غير مستقر وكان نشاطه سريع التوقف. ولما لم يكن فليمنج عالمًا في الكيمياء الحيوية، فلم يستطع تنقيته. وأمام هذه الصعوبات، تخلى عن أبحاثه.

ظهرت أهمية اكتشاف فليمنج أثناء الحرب العالمية الثانية بفضل أعمال كل من السير هاورد فلوري (١٨٩٨–١٩٦٨) بأكسفورد، وإرنست بوريس تشاين (١٩٠٦–١٩٧٩)، اللذين نجحا في استخراج وتنقية البنسلين. ونشرا في السادس عشر من أغسطس ١٩٤١ مقالًا حاسمًا في الجريدة الطبية «ذا لانسيت». وعندها، استأنف فليمنج أبحاثه حول هذا الموضوع وأجرى تعديلات على بروتوكولات التحقق من قوة ودرجة نشاط المنتج في الدم. وفي عام ١٩٤٣، تم علاج مراهق يعاني من تسمم الدم بالبنسلين. وبعد ثلاثة أيام من حقنه به، انخفضت الحمى بصورة مذهلة، وأُنقذت حياته. ولكوننا في وقت حرب، كان هناك احتياج لجرعات ضخمة من البنسلين. وكان ثمن تصنيعه باهظًا. تعاون فليمنج مباشرة مع برنامج البحث، وأصبح المنتج متوفرًا في الولايات المتحدة وفي تورنتو.

في يوليو ١٩٤٤، كرم الملك جورج الرابع فليمنج، الذي حصل في عام ١٩٤٥ على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب مناصفة مع فلوري وتشاين. ثم توفيت زوجته سارة في الثاني والعشرين من نوفمبر ١٩٤٩. في أبريل ١٩٥٣، تزوج اليونانية أماليا كوتسوري-فوريكا (١٩٠٩–١٩٨٦) زميلته بمستشفى سانت ماري التي استمرت في أبحاثها وعُرفت باسم «السيدة فليمنج».

وتوفي فليمنج في منزله بلندن في الحادي عشر من مارس ١٩٥٥، ودفن بكاتدرائية سانت بول.

وكما قال فليمنج: «أحيانًا ما نكتشف أشياء لم نكن نبحث عنها.» وهو ما حدث مع اكتشاف أمريكا.

(١٦) دنيس جابور

ولد دنيس جابور في بودابست في الخامس من يونيو ١٩٠٠. وكان الابن الأكبر لبيرتالان جابور — مدير إحدى شركات التعدين — وزوجته أدريان. وبدأ ولعه بالفيزياء يظهر وهو في الخامسة عشرة من عمره. وتعلم التحليل من كتاب ألفه أورست دانيلوفيتش شفلسون (١٨٥٢–١٩٣٤)، وهو الكتاب الأكبر حجمًا في ذلك الوقت (عشرة أجزاء؛ أي ما يقرب من خمسة آلاف صفحة طُبعت بين ١٩٠٤ و١٩١٤). كان مفتونًا بنظرية المجهر وطريقة جابرييل ليبمان (١٨٤٥–١٩٢١) للتصوير بالألوان التي اكتشفها في متحف الاختراعات ببودابست. وكان لديه هو وشقيقه جورج معمل صغير يقومان فيه بإعادة إجراء التجارب الهامة في ذلك الوقت، مثل الأشعة السينية والنشاط الإشعاعي. وفي الجامعة، اختار دراسة الهندسة؛ لأن الفيزياء — في ذلك الوقت — لم تكن مهنة يمكن ممارستها في المجر، فلم يكن هناك سوى اثني عشر أستاذًا في كل جامعاتها. وحصل على شهادته من المعهد التقني ببرلين في عام ١٩٢٤، وعلى درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية في عام ١٩٢٧. كما تابع في جامعة برلين محاضرات ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥)، وماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧)، ووالتر هيرمان نيرنست (١٨٦٤–١٩٤١)، وماكس فون لو (١٨٧٩–١٩٦٠)؛ وكلهم حاصلون على جائزة نوبل. كان موضوع رسالته يدور حول تطوير أحد أوائل مسجلات الذبذبات السريعة بالأشعة الكاثودية. ولهذا الغرض، قام بتصنيع عدسة إلكترونية. في عام ١٩٢٧، تم تعيينه في شركة سيمينز آند هالسكي الألمانية، وهناك اخترع مصباحًا يعمل ببخار الزئبق أصبح يُستخدم في الإضاءة العامة. وكان هذا — كما يروي هو بنفسه في سيرته الذاتية (التي يمكن الاطلاع عليها بسهولة على شبكة الإنترنت) — أول تجربة سرنديبية له (وهي كلمة لا يوجد مقابل لها في اللغة الفرنسية، لكن تعني — كما أوضحنا من قبل — اكتشاف شيء لم نكن نبحث عنه عن طريق المصادفة).
في عام ١٩٣٣، غادر ألمانيا بعد وصول النازيين إلى الحكم. وبعد فترة إقامة قصيرة في المجر، سافر إلى إنجلترا. كان ذلك في فترة الركود الاقتصادي وكان الأجانب يواجهون صعوبات شديدة للعمل. لكنه حصل على منصب مخترع في شركة طومسون هوستن برجبي. وكان مسئولًا عن إنتاج مصابيح تعمل بالامتصاص الضوئي وظل يعمل هناك حتى عام ١٩٤٨. كما كتب مقالات عن نظرية الاتصال، وطور نظامًا للعرض السينمائي المطيافي. وفي عام ١٩٤٨، أجرى جابور أول تجاربه عن التصوير التجسيمي الذي كان يسمى حينها «إعادة تكوين شكل الموجة». وكانت تلك هي ثاني تجاربه مع «السرنديبية»، ولا سيما أن هدفه كان تحسين وضوح المجهر الإلكتروني لرؤية الشبكات الذرية. وما بين ١٩٥٠ و١٩٥٣، حصل على نتائج مثيرة بالتعاون مع معمل الأبحاث بإلدرماستون AEI. لكنهم كانوا متقدمين بعشرين عامًا عن عصرهم (فكان لا بد من انتظار اختراع الليزر في عام ١٩٦١ وتطويره بعد عشرة أعوام)، ومن ثم ظلوا بعيدين عن هدفهم.
في الأول من يناير ١٩٤٩، التحق بالكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا بلندن، في البداية مدرسًا في مجال الإلكترونيات ثم أستاذًا للفيزياء التطبيقية، وظل يعمل هناك حتى تقاعده في عام ١٩٦٧. وكان يهتم مع طلابه ببعض المسائل مثل تفسير متناقضة إرفينج لانجموير (١٨٨١–١٩٥٧) حول عدم إمكانية تفسير التفاعل المكثف بين الإلكترونات في أقواس الزئبق ذات الضغط المنخفض. كما صنعوا معًا غرفة ويلسون ومجهرًا هولوجرافيًّا ومنظارًا طيفيًّا جديدًا، وحاسبًا آليًّا تناظريًّا (أنالوج) وأنبوبًا مسطحًا للتلفاز الملون ونوعًا جديدًا من المحولات الأيونية الحرارية. كانت أعماله النظرية تقوم على نظرية الاتصال والبلازما والمجنيترون، وقضى عدة سنوات يعمل على شكل للاندماج النووي. وحتى بعد تقاعده، ظل يعمل باحثًا بالكلية الإمبراطورية وكان ضمن فريق بحث معامل CBS بستانفورد في كونيتيكيت. لكنه كان شديد الاهتمام بمستقبل الحضارة الصناعية، وألف ثلاثة كتب في هذا الموضوع. وفي عام ١٩٧١، حصل — منفردًا — على جائزة نوبل في الفيزياء؛ أي إنه انتظر أحد عشر عامًا ليحصل عليها بمفرده.

كان قد تزوج عام ١٩٣٦ من مارجوري لويز — ابنة جوزيف كينراد بتلر ولويز بتلر من روجبي. وأصبح مواطنًا بريطانيًّا يتصرف كسيد مهذب.

توفي جابور في لندن في الثامن من فبراير ١٩٧٩.

(١٧) لويجي جالفاني

ولد لويجي جالفاني في بولونيا في التاسع من سبتمبر عام ١٧٣٧. وكانت رغبته الأولى هي دراسة اللاهوت والالتحاق بسلك الرهبنة. إلا أن أسرته أقنعته بالعدول عن ذلك. ودرس بدلًا من ذلك الطب في جامعة بولونيا، أول جامعة أُنشئت في العالم (١٠٨٨). وكانت رسالته عن طبيعة تكوين العظام. تم تعيينه معيدًا في قسم التشريح بجامعة بولونيا، ثم أصبح — بفضل مواهبه في عمله كجراح وطبيب مولد — أستاذ طب التوليد. كانت أوائل أعماله تدور حول التشريح المقارن، إلا أنه نظرًا لحصول الجامعة على مولد كهربائي وقارورة ليدن، شرع في إجراء تجارب على التحفيز الكهربائي للعضلات. ونحن نعرف البقية.

في عام ١٧٩٠، توفيت زوجته ابنة الدكتور دومينيكو جوسمانو جاليتزي (١٦٨٦–١٧٧٥). وكانا قد تزوجا منذ ثلاثين عامًا. في العشرين من أبريل ١٧٩٨، استقال جالفاني من كرسي الأستاذية؛ لأنه لم يكن يريد أن يؤدي اليمين المدنية لجمهورية سيزالبين (التي تكونت أثناء حملة بونابرت على إيطاليا)، الأمر الذي كان ضد قناعاته السياسية والدينية. واضطر للجوء إلى شقيقه جياكومو ليغرق في الفقر والإحباط، إلا أن أصدقاءه سارعوا بمساعدته واقتنصوا له الإعفاء من تأدية القسم. ونظرًا لشهرته، تم تعيينه أستاذًا متفرغًا.

وتوفي في بولونيا في الرابع من ديسمبر ١٧٩٨ قبل أن يدخل المرسوم حيز التنفيذ.

بطبيعته، كان جالفاني شجاعًا ومتدينًا. فلم يكن ينهي محاضرة دون أن يناشد المستمعين الإيمان «بالعناية الإلهية الأبدية التي تنمي وتحمي وتحرك الحياة بين البشر المختلفين.»

(١٨) يوهان جوتنبرج

ولد يوهان جينسفليتش — المعروف بجوتنبرج — في ماينتس في نهاية القرن الرابع عشر، نحو عام ١٣٩٤. كان والده فريل جينسفليتش قد ورث منزلًا يدعى زوم جوتنبرج، وهو الاسم الذي أطلقه على نفسه. وكان والده أحد مسئولي الخزانة الأربعة للأسقف، وكان ضمن المواطنين الذين لهم أصول رومانية، ومن ثم امتيازات خاصة في المدينة. كان قد تزوج مرة ثانية من إليز رايخ، ابنة تاجر ثري. وكان يوهان ابنهما الثالث. توفي والده في عام ١٤١٩. لم يكن جوتنبرج يعرف إلى أي دراسة أو مهنة يجب عليه أو يمكنه أن يتجه. في الواقع، كانت الطبقة الاجتماعية — في ذلك الوقت في ماينتس — تحدد نوع الدراسة والعمل الذي يمارسه كل فرد. ومن ثم اتجه بدون تردد إلى صناعة المصوغات وأعمال المعادن، إلا أن عدم استقرار الأوضاع السياسية جعلت جوتنبرج يغادر ماينتس في عام ١٤٢٨.

واستقر في شارع أربوجوست بستراسبورج. ولا نعرف شيئًا تقريبًا عن نشاطاته وحياته في بداية تلك الفترة سوى أنه كان محبًّا للنزال، مما ورطه في بعض المشاكل العامة والخاصة. انتهى به الأمر بافتتاح ورشة لأعمال المعادن، ثم تعاون مع أندرياس دريتزهن — أحد المتدربين لديه قديمًا — ومع هانز ريف لصناعة ما يشبه المرايا. في الواقع، كان الأمر يتعلق أكثر بمستلزمات دينية للحج لمدينة آخن. وسرعان ما انضم إليهم أندرياس هيلمان. واستثمروا مبالغ ضخمة في هذا الأمر، لكن تأجيل الحج الذي كان مزمعًا تنظيمه في عام ١٤٣٩ أطاح بكل خططهم. وانخرط الشركاء في مشروع سري جديد، ويبدو أنه كان مشروع اختراع آلة طباعة جديدة ثورية.

توفي أندرياس دريتزهن في نهاية عام ١٤٣٨، ورفع شقيقاه قضية ضد جوتنبرج؛ لأن — على حد قولهما — عقد الشراكة ينص على أن ورثة الشريك المتوفى يحق لهم أخذ مكانه. لكن لم يكن هناك أي شيء مُسجل رسميًّا يفيد بذلك. ووفقًا لبعض التفاصيل في القضية، يبدو أن مشروع آلة الطباعة كان على وشك الانتهاء.

لا نعلم الكثير عما فعله جوتنبرج ما بين ١٤٣٩ و١٤٤٢. وعلى أي حال، فلا بد أنه كان يبحث عن تمويل. توفيت أخته في عام ١٤٤٣، واستولى زوجها على منزل طفولته. ويُعتقد أن جوتنبرج عاد إلى ماينتس ما بين عامي ١٤٤٤ و١٤٤٥ دون أن يتمكن من أخذ شيء معه إلى ستراسبورج؛ حيث تم اكتشاف آلته للطباعة لاحقًا. ومن الممكن أن يكون جوتنبرج قد اضطر إلى إعادة تكوين جهازه من جديد. وبدأت اتصالات تتم بينه وبين المحامي الثري يوهان فوست (حوالي ١٤٠٠–١٤٦٦). وشرح له جوتنبرج أسس اختراعه وأقنعه بمدى نفعه واستمراريته. وكانت الجامعات تنمو وإنتاج الكتب أصبح يتطلب الكثير من الناسخين وظل عملًا طويلًا ومرهقًا. كان المناخ الفكري ملائمًا لمثل هذا الاختراع، وقرر فوست إقراضه ثمانمائة جيلدر بنسبة فائدة ستة بالمائة.

وعلى عكس التجارب الأولية للطباعة، قرر جوتنبرج استخدام حروف منفصلة وقابلة للتركيب. كانت تلك في حد ذاتها فكرة ثورية، لكن كانت المشكلة تكمن في إيجاد المادة التي تُصنع منها هذه الحروف. كان الحديد شديد الصلابة ويثقب الورق، بينما الرصاص شديد المرونة فكان يتحطم، ومن ثم كان يجب إعادة صنع الحروف. ولم يكن الخشب يمتلك الصلابة الكافية. وأخيرًا صمم جوتنبرج مزيجًا من الرصاص والأنتيمون والقصدير. ومع فكرته باستخدام الضغط للطباعة أصبح الاختراع جاهزًا. وقام بتشغيل اثني عشر عاملًا، وطالب حديث التخرج من السوربون يدعى بيتر شويفر (حوالي ١٤٢٥–١٥٠٣). وتم الانتهاء من طباعة الكتاب المقدس طبعة جوتنبرج في الرابع والعشرين من أغسطس ١٤٥٦، وهو بالطبع يوم لا ينسى في تاريخ البشرية. ولم يظهر اسم جوتنبرج عليه. ويبدو أن أول طبعة من الكتاب المقدس طبعها جوتنبرج قد باعت أكثر من مائة وثمانين نسخة، لا يتبقى منها اليوم سوى إحدى وعشرين. ولقد طبعت ثلاثون نسخة على الجلود، وتحتوي كل صفحة على عمودين من اثنين وأربعين سطرًا. وفي سبيل جعلها تشبه المخطوطة، كانت الهوامش والمسافات بين العمودين تزين بالورود والعصافير كما جرت العادة في ذلك العصر. وكان يوضع أسفل الحروف الكبيرة خط أحمر، بينما تُرسم الحروف الأولى باليد. وبالطبع، تمت طباعة الكتاب المقدس قبل أن يتمكنوا من وضع هذه الزخارف، ولا سيما أن تاريخ انتهاء الطبع بالتحديد لا يزال مجهولًا.

في السادس من نوفمبر ١٤٥٥، قاضى يوهان فوست جوتنبرج ليجبره على تسديد الدين بالإضافة إلى الفوائد؛ أي حوالي ألفي جيلدر. وحكمت المحكمة لصالح فوست، مما اضطر جوتنبرج إلى التنازل له عن أدواته بما فيها الكتاب المقدس. ومن ثم ذهبت أعوام من العمل المضني إلى فوست بكل بساطة. ولا أحد يعلم لماذا قرر فوست مقاضاة جوتنبرج؛ هل لأنه مل انتظار استرجاع أمواله، أم لأنه أراد التخلص من جوتنبرج الذي أصبح عديم الفائدة بالنسبة له بعد أن انتهى من طباعة الكتاب المقدس. كما أن دور بيتر شويفر في القضية كان مريبًا؛ فبعد أن تزوج من ابنة فوست، جاءت شهادته ضد جوتنبرج. وباستخدام معدات جوتنبرج، قام فوست وشويفر في عام ١٤٥٧ بطباعة كتاب المزامير بماينتس، وهو أول كتاب يظهر عليه اسم من طبعه.

ويبدو أن جوتنبرج — على الرغم من مشاكله — ظل يمتلك ورشة الطباعة أثناء خمسينيات القرن الخامس عشر وربما إلى ستينياته. ولقد ساعده ماديًّا كونراد همفري نائب البلدية. وفي عام ١٤٦٠، تمت طباعة موسوعة «الكاثوليكون» للراهب الدومينيكاني من جنوة جوهانز بالبو (توفي ١٢٩٨)، والمعروف أيضًا باسم جيوفاني دي جينوفا. وبدأ اسم جوتنبرج ينتشر، حتى إن مبعوث من ملك فرنسا جاء لزيارته في عام ١٤٥٨.

اندلعت أحداث شغب سياسية في ماينتس. وفي ديسمبر ١٤٦١، هاجم رئيس أساقفة ماينتس — أدولف ناسو — المدينة واستولت جيوشه عليها. واضطر السكان المعارضون لناسو أن يغادروا البلاد ومن بينهم جوتنبرج الذي صُودر منزله. وبعد استعراض القوة هذا، أدرك ناسو أن مدينةً بدون حياة وبدون تجارة وبدون سكانها؛ لن تكون مفيدة بالنسبة له؛ ومن ثم بدأ يشجع السكان على العودة. وفي ١٤٦٥، قام بدعوة جوتنبرج إلى بلاطه وكرمه موفرًا له المأوى والكساء.

وتوفي جوتنبرج في الثالث من فبراير ١٤٦٨.

(١٩) ويليام روان هاميلتون

ولد ويليام روان هاميلتون في دبلن بأيرلندا في الرابع من أغسطس عام ١٨٠٥. ولم يتوفر لوالده — أرشيبولد — الوقت الكافي لتعليمه، فكان كثير السفر في أنحاء إنجلترا لمباشرة أعماله؛ ولذلك عُنيت والدته — سارة هتون — بتعليمه. ومنذ عامه الخامس، بدأ عمه، القس جيمس هاميلتون، تعليمه اللغة اللاتينية واليونانية والعبرية. وسرعان ما أصبح ويليام متمكنًا من لغات أخرى. في سن الثانية عشرة، تعرف على الأمريكي زيرا كولبيرن (١٨٠٤–١٨٣٩) الذي كان قادرًا على القيام بحسابات مسلية في عقله. وبدأ ويليام الشاب يحاول مضاهاته والدخول معه في منافسات صغيرة. وهكذا استطاع اكتساب حب الرياضيات. في الثالثة عشرة، قرأ هاميلتون كتاب الجبر لمؤلفه أليكسيس كلود كليرو (١٧١٣–١٧٦٥) المكتوب بالفرنسية. وفي الخامسة عشرة، بدأ في دراسة أعمال إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) والماركيز بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧). في عام ١٨٢٢، اكتشف خطأ في كتاب «الميكانيكا السماوية» للابلاس، وجذب بذلك انتباه جون برينكلي (١٧٦٣–١٨٣٥) عالم الفلك الملكي بأيرلندا، الذي قال عنه: «هذا الشاب الصغير هو — ولن أقول سيكون — العالم الرياضي الأول في عصره.»

التحق هاميلتون بكلية الثالوث المقدس بدبلن وهو في الثامنة عشرة من عمره. وفي غضون عام واحد — وعلى الرغم من أنه لم يحضر جميع المحاضرات — حصل على التقدير الأمثل في الدراسات التقليدية، وهو تقدير لم ينله أحد سوى مرة واحدة خلال عشرين عامًا. وفي أغسطس ١٨٢٤، اصطحبه عمه جيمس إلى سمرهيل لمقابلة عائلة ديزني. وهناك تدله في حب الابنة كاثرين. لكن كان لا يزال أمامه ثلاثة أعوام في الكلية، ولم يكن بالطبع في وضع يمكنه من التقدم لخطبتها. إلا أنه كان يتقدم بخطى سريعة. وقبل نهاية عام ١٨٢٤، تقدم بأول مقال له إلى الأكاديمية الأيرلندية الملكية. وفي شهر يناير التالي، أخبرته والدة كاثرين أن ابنتها ستتزوج من رجل دين متيسر الحال يكبرها بخمسة عشر عامًا. وفي الاختبار التالي، حصل هاميلتون على تقدير جيد بدلًا من جيد جدًّا كالمعتاد، وسقط مريضًا بل إنه فكر في الانتحار، ثم اتجه إلى الشعر، وهي عادة ظل محتفظًا بها طوال الفترات الكئيبة في حياته.

في عام ١٨٢٦، حصل على التقدير الأمثل في الدراسات الكلاسيكية والعلوم، وهو ما لم يحدث من قبل. وقدم بحثًا بعنوان «نظرية أنظمة الأشعة» للأكاديمية الأيرلندية الملكية، شرح فيه الوظائف المميزة لعلم البصريات. وأقنعه ممتحنه الأخير — تشارلز بويتون — بالترشح لوظيفة عالم فلك ملكي بمرصد دنسينك، على الرغم من وجود ستة ترشيحات أخرى من بينها جورج بيدل إيري (١٨٠١–١٨٩٢). وفي عام ١٨٢٧، تم تعيين هاميلتون أستاذًا لعلم الفلك بكلية الثالوث المقدس، على الرغم من أنه لم يكن أنهى بعد دراساته، وكان عمره لا يتجاور الحادية والعشرين. وقد أثار هذا التعيين جدلًا؛ لأن هاميلتون لم يكن يمتلك خبرة واسعة في الملاحظات الفلكية. وظن سابقه جون برينكلي — الذي أصبح أسقفًا — أنه قام باختيار خاطئ، وهو ما ثبت صحته في النهاية؛ لأن هاميلتون سرعان ما فقد اهتمامه بعلم الفلك واتجه إلى الرياضيات.

وقبل أن يبدأ في القيام بمهامه في هذا المنصب المرموق، قام هاميلتون بزيارة إلى إنجلترا واسكتلندا — حيث يرجع أصل عائلته — والتقى فيها الشاعر ويليام وردزوورث (١٧٧٠–١٨٥٠) وأصبحا صديقين. وكانت إحدى شقيقات هاميلتون، إليزا، تكتب الشعر أيضًا وكان وردزوورث يفضل قصائدها عن قصائد أخيها ويليام. وكانا يتناقشان بكثرة في العلوم والشعر، فكان هاميلتون يؤيد فكرة أن لغة الرياضيات لا تقل فنية عن اللغة الشعرية، لكن وردزوورث لم يكن يتفق معه.

اتخذ هاميلتون طالبًا تحت إشرافه، إدوين ريتشارد ويندهام ويندهامكوين — ثالث كونت لديورافين — (١٨١٢–١٨٧١)، وكان له لقب الفيكونت آدار الشرفي قبل أن يصبح كونتًا، لكن كان تأثير كل منهما على الآخر سلبيًّا، فعانى آدار من مشاكل في الرؤية بسبب المراقبة الفلكية، بينما أصيب هاميلتون بالمرض من فرط الإجهاد، وقررا الذهاب في عطلة إلى أرماغ وزيارة عالم فلك آخر هو توماس رومني روبنسون (١٧٩٢–١٨٢٢). وفي هذه المناسبة، قابل هاميلتون الليدي كامبل، التي أصبحت فيما بعد كاتمة أسراره الأقرب إليه. كما زار حبه القديم كاثرين، لكنه كان متوترًا في وجودها لدرجة أنه حطَّم قطعة من تليسكوبه أثناء عرضه عليها. ولقد ألهمته تلك الحادثة فترة شعرية جديدة. وفي يوليو ١٨٣٠، قام هاميلتون وشقيقته بزيارة أخرى إلى وردزوورث. وفكر هاميلتون في الزواج، ربما من فتاة تدعى إيلين دي فير لكن المشروع فشل سريعًا. وإن أصبح صديقًا مقربًا لأوبري شقيقها، لكنهما اختلفا حول مسائل دينية.

وأخيرًا، تزوج هاميلتون من هيلين ماريا بايلي التي كانت تقيم أمام مرصده. لكنها لم يكن لديها أدنى فكرة عن إدارة المنزل، كما كانت كثيرة المرض، مما حول حياته الأسرية إلى نوع من الفوضى. وطوال الأعوام التالية، كانت تقضي معظم وقتها إما عند والدتها أو مريضة.

وفي عام ١٨٣٢، نشر هاميلتون الملحق الثالث لكتابه، طبق فيه الدالة المميزة على دراسة أسطح الموجة لفريسنيل. ومن هنا، توقع الانكسار المخروطي وطلب من همفري لويد (١٨٠٠–١٨٨١) — أستاذ الفيزياء بكلية الثالوث المقدس — أن يتحقق علميًّا من صحة هذا الافتراض. وكان بالفعل نجاحًا جلب لهاميلتون شهرة واسعة، لكن جلب معه جدلًا بينه وبين جيمس ماكولاج (١٨٠٩–١٨٤٧)، الذي كان قد وصل هو الآخر إلى نتائج قريبة من الاكتشاف النظري لهاميلتون، لكنه اضطر إلى الاعتراف بأنه لم يستطع تجاوز الخطوة الأخيرة.

في الرابع من نوفمبر ١٨٣٣، قدم هاميلتون إلى الأكاديمية الأيرلندية الملكية مقالًا عبر فيه عن الأرقام المركبة بأزواج جبرية؛ أي أزواج من الأرقام الحقيقية المرتبة. في عام ١٨٣٤، ولد ابنه الأول ويليام إدوين، وغادرت زوجته دنسينك لمدة تسعة أشهر وتركته وحيدًا. في عام ١٨٣٥، نشر هاميلتون كتابه «الجبر، علم الزمن المحض» مستلهمًا أفكاره من دراسته لأعمال إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤). وفي الكتاب، كان يقوم بتحديد الأزواج الجبرية بواسطة الزمن. في عام ١٨٣٥، تم تكريمه كما رُزق بابنه الثاني، أرشيبولد هنري. لكن الأعوام التالية لم تحمل له نفس القدر من السعادة. بعد اكتشافه للأزواج الجبرية، حاول مد النظرية لتشمل الثلاثيات، وتحول الأمر إلى هاجس بالنسبة له استمر عدة أعوام. غادرت هيلين مع طفليهما لمدة عشرة أشهر. ثم، بعد ميلاد ابنتهما — هيلين إليزا إميليا — رحلت هيلين إلى إنجلترا بمفردها تاركة أطفالها. وبدأ هاميلتون يعاني من مشاكل الإفراط في تناول الكحوليات، لدرجة أن شقيقته جاءت لتقيم معه في دنسينك. عادت هيلين في عام ١٨٤٢، وكان هاميلتون لا يزال مشغولًا بالثلاثيات. وفي السادس عشر من أكتوبر ١٨٤٣، توصل إلى حل لمسألة الرباعيات الهندسية.

في عام ١٨٤٥، زاره توماس ديزني في مرصده وبصحبته ابنته كاثرين. كان إدمان هاميلتون للكحوليات قد أخذ يتفاقم، حتى إنه فقد السيطرة على نفسه ذات مرة أثناء حضوره لمأدبة بالجمعية الجيولوجية بدبلن. وفي عام ١٨٤٧، توفي اثنان من أعمامه، بينما انتحر أحد زملائه بالكلية. وفي العام التالي، بدأت كاثرين تراسله. وشيئًا فشيئًا أخذت مراسلتهما طابعًا شخصيًّا. ونظرًا لشعورها بتأنيب الضمير، اعترفت كاثرين لزوجها بالأمر. وعندها كتب إليهما هاميلتون يعدهما بأنهما لن يسمعا منه بعد الآن. وبعدها أرسلت إليه كاثرين خطابًا وحاولت الانتحار بعدها. وقضت باقي حياتها مع والدتها دون أن تنفصل رسميًّا عن زوجها. وظل هاميلتون يراسلها عن طريق بعض الأصدقاء. وليس من العجيب أن غرق هاميلتون من جديد في إدمان الكحوليات بعد كل هذه الأحداث. لكنه بدأ في تأليف كتابه حول الرباعيات الهندسية الذي صدر في عام ١٨٥٣، إلا أنه أدرك أنه مكتوب بطريقة سيئة لمن يريد تعلم هذه النظرية. ثم ساعد ابن كاثرين في الاستعداد لاجتياز اختباراته في … الرباعيات الهندسية! كان هذا بالنسبة له انتصارًا على زوج كاثرين الذي لم يكن بمقدوره مساعدة ابنه. وتعبيرًا عن شكرها له، أرسلت إليه كاثرين رسالة تضم الكلمات التالية: «من إنسانة يجب ألا تنساها وألا تسيء الظن بها، إنسانة كانت ستموت سعيدة لو كنا استطعنا اللقاء مرة أخرى.» وعلى الفور، سافر هاميلتون لرؤيتها وأهداها نسخة من كتابه. وتوفيت كاثرين بعد أسبوعين من هذا اللقاء.

واستأنف هاميلتون العمل، عاقدًا العزم على تأليف كتاب عالي الجودة حول الرباعيات الهندسية، الأمر الذي استغرق سبعة أعوام، حتى إن الفصل الأخير لم ينتهِ؛ إذ وافته المنية في الثاني من سبتمبر ١٨٦٥ بدبلن بسبب داء النقرس، مباشرة بعد انتخابه كأول عضو أجنبي بالأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية. ولقد ناهز كتابه الثمانمائة صفحة!

(٢٠) رينيه-جست هاوي

ولد الأب رينيه-جست هاوي في عام ١٧٤٣ في سانت جستأن شوسيه (بإقليم واز بفرنسا) لأسرة متواضعة. درس الآداب الكلاسيكية، ثم بدأ في تدريسها من عام ١٧٦٠ وحتى ١٧٨٤، لكنه كان شغوفًا بالعلوم الطبيعية والفيزياء. وفي عام ١٧٧٨، اكتشف علم المعادن، عندما تابع — في المتحف — محاضرات لويس دوبنتون (١٧١٦–١٨٠٠)، زميل جورج لويس لوكليرك، كونت بوفون (١٧٠٧–١٧٨٨) وصاحب سلالة أغنام المارينو. ومنذ عام ١٧٨١ قام بصياغة نظرية وصفية لبنية البلورات استنادًا إلى افتراضية أن الانفلاق البلوري (أي القيام بصهر أي معدن) يُنتج الشكل الهندسي للنواة أو «الجزيء المتكامل». وعلى مدار أربعين عامًا، حاول تعميق هذه الفكرة عارضًا للمفاهيم الأساسية للحلقة الأولية والشبكة الدورية والتماثل. ويعد هاوي مؤسس علم البلورات. ولقد تم انتخابه في أكاديمية العلوم عام ١٧٨٤، بالإضافة إلى العديد من الأكاديميات العلمية الأوروبية الأخرى. كان كثير التواصل مع العلماء الآخرين كما جرت العادة في ذلك العصر. وظل متواضعًا شديد التهذيب يعيش حياة عنوانها البساطة. إلا أنه سُجن في عام ١٧٩٢ لكونه قسيسًا غير محلف، لكنه نجا من مذابح سبتمبر. ولقد سمحت له الإمبراطورية باستكمال أعماله.

توفي هاوي في باريس في الأول من يونيو ١٨٢٢ في الوقت الذي ظهر فيه مؤلفه «بحث في علم البلورات».

ويجب عدم الخلط بينه وبين أخيه فالنتين هاوي (١٧٤٥–١٨٢٢) الذي كرس حياته كلها لتعليم المكفوفين.

(٢١) هيرمان لودفينج هلمهولتز

ولد هيرمان لودفيج فرديناند هلمهولتز في بوتسدام ببروسيا في الحادي والثلاثين من أغسطس ١٨٢١. وعلى الرغم من قلة شهرته في فرنسا، فإنه يعد أحد أهم العلماء في القرن التاسع عشر. نظرًا لاعتلال صحته، تلقى هلمهولتز تعليمه الأول على يد والده، المدرس بإحدى المدارس الثانوية. وفي عمر التاسعة، التحق بالمدرسة الثانوية وتخرج فيها وهو في السابعة عشرة من عمره. ولعدم امتلاكه للإمكانيات المادية الكافية التي تمكنه من دراسة الفيزياء، التحق بمعهد فريدريش فيلهلم الجراحي الطبي ببرلين؛ حيث كانت الدراسة بالمجان لمن يتعهد بالعمل جراحًا في الجيش بعد تخرجه. وكان لأستاذ الفسيولوجيا يوهانز بيتر مولر (١٨٠١–١٨٥٨) أكبر الأثر عليه هو وزملائه. كانوا جميعًا شديدي الإعجاب به، إلا أنه كان ينتمي إلى جيل آخر وكان مؤيدًا لنظرية الحيوية في علم الأحياء، وهي نظرية لم يمكن لطلابه أن يتقبلوها. أصبح هلمهولتز جراحًا بالجيش في بوتسدام. واستكمل في نفس الوقت دراساته في الفيزياء والرياضيات ونشر فيهما عدة مقالات. في عام ١٨٤٧، بعد أقل من خمسة أعوام من انتهاء دراسته وكان يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا فقط، قدم هلمهولتز للجمعية الفيزيائية ببرلين أعماله — التي أصبحت الآن من الكلاسيكيات — حول عدم فناء الطاقة، معطيًا الصيغة الرياضية لقانون بقاء الطاقة. وفي عام ١٨٤٢، كان جوليوس ماير (١٨١٤–١٨٧٨) قد نشر عملًا نظريًّا حول هذا الموضوع، وبعد ذلك مباشرة أظهر جيمس جول (١٨١٨–١٨٨٩) نتائج التجارب التي كان يجريها منذ عدة أعوام، والتي قادته إلى نظرية مماثلة لتلك التي أصدرها ماير. واندلع جدال حول أسبقية كل منهم في أولوية هذا الاكتشاف. كان هلمهولتز مؤيدًا لأفكاره؛ لأن قانون بقاء الطاقة لا يمكن أن يتماشى مع نظرية الحيوية التي طالما حاربها.

وبعد خدمة دامت خمسة أعوام في الجيش، عُين — لفترة قصيرة — معلمًا للتشريح بكلية الفنون ببرلين. ثم عُرض عليه منصب أستاذ مشارك للفسيولوجيا بجامعة كونيجسبرج. ثم تزوج هلمهولتز. وحينها قدم ثاني أعماله أهمية، وهو حساب سرعة الاستجابة العصبية. كما عمل على دراسة فسيولوجيا الإبصار واخترع أوفتالموسكوب (منظار فحص قاع العين). في عام ١٨٥٦، ألف الجزء الأول من كتاب «بحث حول فسيولوجيا الإبصار»، الذي ظهر الجزء الثالث والأخير منه بعد عشرة أعوام. وما بين عامي ١٩٢٤ و١٩٢٥، تمت ترجمته إلى الإنجليزية لكونه أداة لا غنى عنها للطلاب.

في عام ١٨٥٥، أصبح هلمهولتز أستاذًا للتشريح والفسيولوجيا بجامعة بون. وفي ذلك الوقت وقع في مشاكل مع وزارة التعليم؛ لأنه تجرأ وأدخل بعض الرياضيات في محاضرات التشريح. ويجب التنويه إلى أن هذه المحاضرات لم تكن دائمًا مُعدة جيدًا، بل كانت تحتوي في بعض الأحيان على ثغرات أو حتى أخطاء، لكن كل هذا لا يقارن بأهمية اكتشافاته العلمية. واتخذ عمله التالي من علم السمعيات موضوعًا له وكان مثار اهتمامه منذ التحاقه بالعمل بكونيجسبرج. في عام ١٨٥٨، حصل على كرسي الأستاذية في الفسيولوجيا بجامعة هيدلبرج، وهو منصب رفيع في ألمانيا وظل يشغله حتى عام ١٨٧١. ولقد تناول العديد من القضايا المتنوعة، خاصة الديناميكا المائية والديناميكا الكهربائية والسمع والنظرية الفسيولوجية للموسيقى. وفي عام ١٨٦٣، نشر كتابه حول إدراك الألوان الذي لم يكن مجرد كتاب حول أعماله في مجال الرؤية، وإنما كتاب يلخص وينظم معارف العصر. وما بين ١٨٦٦ و١٨٦٨، أكمل أبحاث برنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦) حول الهندسة، مسلطًا الضوء — لأول مرة — على أصلها التجريبي. ثم أصبح هلمهولتز نائب رئيس جامعة هيدلبرج.

في عام ١٨٧٠، أصبح كرسي الأستاذية في الفيزياء بجامعة برلين شاغرًا، وعندها لم يُعرض عليه المنصب فقط، بل طُلب منه إملاء الشروط التي يريدها لقبوله. وبالفعل طلب أربعة آلاف تالر راتبًا، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت، وقد كان، وأيضًا إنشاء معهد جديد للفيزياء يديره بنفسه، بالإضافة إلى شقة في محيطه. كانت تلك هي شروط العمل الأفضل على الإطلاق، واستطاع هلمهولتز أن يتحدث عن «معبد للفيزياء». كما تم تكريمه أيضًا. في عام ١٨٨٧، تم تعيينه أول مدير لهذا المعهد الذي أقيم في شارلوتنبرج بالقرب من برلين، مع الاحتفاظ بمنصبه كأستاذ. كانت اهتماماته متنوعة للغاية لدرجة أنه في الفترة من ١٨٦٦ إلى ١٨٩٤ نشر خمسة مقالات حول مسلمات الهندسة؛ بهدف إثبات أنها — على عكس ما قال إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤)؛ جاءت نتيجة التجربة. وبالفعل كان يتم الاستشهاد بكتاباته في المناقشات حول الهندسة غير الإقليدية كدليل على وجود البعد الرابع. ومن أغرب نتائج أعماله أنه اعتُبر — من قبل بعض معاصريه — من مؤيدي مذهب الروحانية (استحضار الأرواح). كان الوسيط الروحاني الأمريكي هنري سلايد يقدم عروضًا يخرج خلالها أشياء من علبة مغلقة. وكان التفسير الشعبي لهذه الظاهرة يستند إلى أن سلايد يستخدم البعد الرابع. وتفجرت مناقشات حادة بين العلماء الذين لاموا هلمهولتز لتسببه في فضيحة علمية. ولقد أُقيل أحد الأساتذة بجامعة برلين من منصبه بسبب اتهاماته لهلمهولتز.

وفي الأعوام التالية، انشغل هلمهولتز بمسائل الفيزياء وإن ظل دائمًا مهتمًّا بالقضايا الفسيولوجية. وكان هينريتش هيرتز (١٨٥٧–١٨٩٤) يعمل في رسالته عن التلغراف اللاسلكي والراديو تحت إشراف هلمهولتز الذي كان يعقد مؤتمرات للجمهور العادي. بعد أن توفيت زوجته الأولى، تزوج ثانية في عام ١٨٦١. وجعلت زوجته من منزلهما صالونًا علميًّا وأدبيًّا وفنيًّا. وأصبح هلمهولتز مقربًا من العائلة الإمبراطورية. كما شارك في تأسيس جمعية الألب الألمانية.

في عام ١٨٩٣، زار المعرض الدولي بشيكاجو بصفته مبعوثًا من الحكومة الألمانية. وأثناء عودته، سقط بعنف على سلم الباخرة، ولم يتعافَ أبدًا بشكل كامل من هذه السقطة. وتوفي بسبب نزيف في المخ في الثامن من سبتمبر عام ١٨٩٤ بشارلوتنبرج.

كان لهلمهولتز منهج تجريبي في العلوم. وكان يمتلك الفضول والإبداع والقدرة على التصدي لأي مسألة علمية منذ تكوينها وحتى تفسير نتائجها مرورًا بقدرته على تصنيع الأجهزة اللازمة. كانت لديه قدرة هائلة على التلخيص مما سهل عليه ربط نتائجه بنتائج الباحثين الآخرين. ومن جوانب عدة، يظل هلمهولتز أحد أكبر العلماء في العصر الحديث.

(٢٢) شارل إرميت

ولد شارل إرميت بديوز — أحد أهم مناطق مقاطعة لامورت — في الرابع والعشرين من ديسمبر ١٨٢٢. ولقد شهدت هذه المنطقة مولد الكاتب إدموند أبوت (١٨٢٨–١٨٨٥) والمؤلف الموسيقي جوستاف شاربونتييه (١٨٦٠–١٩٥٦). كان شارل إرميت الابن قبل الأخير في أسرة مكونة من سبعة أبناء. وكان والداه يمتلكان متجرًا لبيع الأقمشة بالجملة. ومع ازدهار تجارة العائلة، انتقلوا جميعًا للعيش في نانسي في عام ١٨٢٦. والتحق إرميت بكلية المدينة. لكن لم تكن دراسته تسير على ما يرام، وظلت بالنسبة له ذكرى كريهة. فأرسلوه إلى باريس إلى كلية هنري الرابع ثم كلية لويس الأكبر لحضور محاضرات السنة التمهيدية ومحاضرات الإلقاء. في كلية هنري الرابع، كان أكثر ما جذبه هو محاضرات الفيزياء لشارل ديسبرتز (١٧٩١–١٨٦٣)، الذي أصبح فيما بعد أستاذًا بجامعة السوربون وعضوًا بأكاديمية العلوم. وكان أستاذه في الآداب السيد كابوش يعيب عليه دومًا ميله إلى الفيزياء. كان يعمل بدون حماسة، ولم يكن سعيدًا في المدرسة الداخلية، وكان لديه — على حد تعبيره — شعور بأنه في سجن، فأهمل دراسة الفلسفة وحتى الرياضيات.

وفي مطلع العام الدراسي ١٨٤٠-١٨٤١، التحق بكلية لويس الأكبر في صف الرياضيات التمهيدي للالتحاق بكلية الهندسة. وكان أستاذه هناك هو لويس بول إيميل ريتشارد (١٧٩٥–١٨٤٩) الذي مر عليه — منذ عشرين عامًا تقريبًا — إيفريست جالوا (١٨١١–١٨٣٢) كطالب لديه. لكن سرعان ما طاله الإحباط. وعلى الفور أدرك أستاذه ريتشارد — مستشعرًا العبقرية الرياضية في تلميذه — أنه لن يتجاوب مع مقرر إجباري يدرسه، فقرر تركه حرًّا. وبدأ إرميت يذهب إلى مكتبة سانت-جينيفيف ليقرأ مقالات جريدة جريجون السنوية، وكان يقضي هناك ساعات يتصفح أبحاث أكاديميات العلوم بباريس وبرلين وسان بطرسبرج. وقرأ أعمال كبار علماء الرياضيات مثل ليونارد أولر (١٧٠٧–١٧٨٣)، وجوزيف لويس لاجرانج (١٧٣٦–١٨١٣)، وأدريان ماري لوجندر (١٧٥٢–١٨٣٣)، ونيلز هنريك أبل (١٨٠٢–١٨٢٩)، وكارل جوستاف جاكوب جاكوبي (١٨٠٤–١٨٥١). وبالرغم من ثقته في قيمة تلميذه، كان ريتشارد قلقًا من ابتعاد إرميت تمامًا عن مقررات الاختبار، بل ومن كرهه لها، تمامًا مثلما كان الحال مع جالوا.

في عام ١٨٤١، حصل على أول جائزة له في الرياضيات الخاصة أثناء المسابقة العامة. وفي العام ذاته، تقدم إلى كلية الهندسة لكن لم يتم قبوله. في عام ١٨٤٢، نشر مقالتين. وفي الأول من نوفمبر ١٨٤٢ قُبل بكلية الهندسة على الرغم من عدم حصوله على البكالوريا، على عكس العديد من معاصريه. لكن كان ترتيبه الثامن والستين، وهو مستوى ضعيف بسبب إجاباته في الهندسة الوصفية. وحتى بعد خمسين عامًا، لم يستطع نسيان مشاعر الحنق بسبب هذا الأمر. وبسبب عجز بسيط في قدمه اليمني أثناء ولادته كان مضطرًّا إلى استخدام عصا للسير، واعتبر غير لائق للالتحاق بالخدمة العسكرية وتم شطبه من الجداول. لكن بناءً على طلب رسمي من والديه وعلى إصرار ممثلي مدينة لامورت، تم قبوله بقرار وزاري بشرط أن يتعهد بعدم التقدم — عند خروجه — إلى وظيفة في الإدارات العامة. وكان مدير الدراسات في ذلك الوقت هو جاسبارد جوستاف كوريوليس (١٧٩٢–١٨٤٣). كان ميشيل شازلز (١٧٩٣–١٨٨٠) يدرسه الجيوديسية والآلات، بينما كان جان ماري كونستانت دوهامل (١٧٩٧–١٨٧٢) وجاك شارل فرانسوا ستيرم (١٨٠٣–١٨٥٥) وجوزيف ليوفيل (١٨٠٩–١٨٨٢) أساتذته في التحليل، وكان شارل فيليكس أوجستين لوروا (١٧٨٦–١٨٥٤) يقوم على تدريس الهندسة الوصفية وجابريل لاميه (١٧٩٥–١٨٧٠) الفيزياء، وأخيرًا كان ممتحن الرياضيات هو كلود لويس ماثيو (١٧٨٣–١٨٧٥). لم تمنعه المحاضرات بكلية الهندسة من متابعة أفكاره الخاصة، فاستمر يتردد على مكتبة سانت-جينيفيف القريبة منه، ومن مدخراته اشترى الترجمة الفرنسية لكتاب كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) الصادر في عام ١٨٠١.

في يناير ١٨٤٣ — بناءً على نصيحة ليوفيل — أرسل إرميت — وكان يبلغ بالكاد عشرين عامًا — إلى عالم الرياضيات الألماني الكبير جاكوبي — وكان حينها في قمة مجده — خطابًا من عدة صفحات يعرض فيه إجمالًا للنتائج التي توصل إليها بنفسه. ولقد رد عليه جاكوبي، متذكرًا الوقت الذي طلب فيه النصيحة والدعم من لوجندر. ولم يكن رد جاكوبي بدافع من الكياسة، فلقد كان في ذلك الوقت يتابع طباعة الأعمال الكاملة له، ولم يتردد في وضع رسالة إرميت إلى جانب أعماله.

بعد مغادرته لكلية الهندسة، ظل إرميت يعمل في باريس، لكنه كان قد أصبح لغزًا بالنسبة لأسرته. ولم تستطع والدته بطبيعتها الإيجابية فهم اهتمام ابنها الزائد بالرياضيات، بينما نظر والده بنوع من التسامح لما اعتبره جنونًا هادئًا أصاب ابنه. وفي ذلك الوقت، قابل إرميت الأخوين جوزيف وألكسندر برتراند. لكنه لم يكن يميل إلى جوزيف، الذي كان في مثل عمره، وبينما تم قبوله بكلية الهندسة وهو في الحادية عشرة من عمره، اضطر هو إلى الانتظار حتى أتم عامه السابع عشر ليتمكن من دخولها.

في أغسطس ١٨٤٤، استأنف مراسلاته لجاكوبي حول الدوال المختصرة، وهو المجال الذي ظل طوال حياته موضوعه المفضل، فبعد خمسين عامًا، كتب إلى توماس يوهانز ستايلتج (١٨٥٦–١٨٩٤): «لا أستطيع الخروج من مجال المختصرات، فكما جاء في المثل، الماعز يرعى حيث يكون مربوطًا.»

ومنذ عام ١٧٩٥، أصبح مجال التدريس مفتوحًا أمام خريجي كلية الهندسة — الذين تخلوا عن مسيرتهم المهنية اللامعة — لتكريس حياتهم لتعليم الشباب وللبحث العلمي. ولقد سار في هذا الطريق بالفعل جوزيف لويس فرانسوا برتراند (١٨٢٢–١٩٠٠) وبيير أوسيان بونيه (١٥٥٠–١٦٣١) وجوزيف ألفريد سيريت (١٨١٩–١٨٨٥). لم يكن إرميت يستطيع أن يستمر في العيش هكذا، وتحت ضغط والدته، قرر أن يمضي هو الآخر في هذا الطريق، لكنه لم يكن حاصلًا على أي شهادة. وهكذا اضطر الذي كان يعتبره الجميع أحد أساتذة الرياضيات أن يخضع للاختبارات التي يمقتها — وهو في الرابعة والعشرين من عمره — بدءًا بالبكالوريا. ولقد حصل على تقدير مقبول في الرياضيات! وأخيرًا في التاسع من مايو ١٨٤٨، تم قبوله للحصول على درجة الليسانس في الفيزياء. وتم تعيينه في كلية الهندسة كممتحن مؤقت للمقبولين في يوليو ١٨٤٨.

وبعدما أصبح له منصب أخيرًا، تزوج من شقيقة صديقيه جوزيف وألكسندر برتراند. وكان هذا مولدًا لأسرة كبيرة من علماء الرياضيات. في البداية، جوزيف برتراند الذي التحق بأكاديمية العلوم في عام ١٨٥٦ وأصبح سكرتيرها الدائم للعلوم الرياضية في عام ١٨٧٤. ولقد كان برتراند ابن أخت جان ماري كونستانت دوهامل؛ أستاذ إرميت في كلية الهندسة. أما ألكسندر برتراند فكان صهره هو بول أبل (١٨٥٥–١٩٣٠). ولقد تزوجت ابنة أبل من إميل بوريل (١٨٧١–١٩٥٦) وابنة إرميت من إيميل بيكارد (١٨٥٦–١٩٤١). كما ربطهم النسب أيضًا بعائلتي بوترو (إيميل وابنه بيير) وبوانكاريه (هنري ولوسيان ورايموند الذي أصبح رئيسًا للجمهورية). وفي هذا الوسط من الثقافة الفكرية العالية، قضى إرميت حياة هادئة منعزلة مكرسة بالكامل للعلم، فلم يكن ينفتح على العالم إلا من خلال مراسلاته مع زملائه من علماء الرياضيات التي شكلت حيزًا كبيرًا في حياته، فلم يكن يشعر بقدر كبير من الراحة وسط المجتمع بالإضافة إلى تشاؤمه الشديد، كما كان يعتبر نفسه «أخرق ومتوحشًا». كان لديه ميل جارف إلى الموسيقى وامتلك ذاكرة موسيقية واسعة. وعلى الرغم من أنه لم يدرس الموسيقى قط، فإنه كان قادرًا على عزف أي لحن سمعه ولو لمرة واحدة على البيانو. لكنه كان يشعر بنفور كبير من الرسم والنحت خاصة، اللذين اعتبرهما فنَّين وثنيين دون شك؛ فلم يكن يعلق أي لوحة على جدران مكتبه لكيلا تعوق تفكيره، ولم يكن يذهب أبدًا إلى معارض الرسم، بينما كان يتردد برغبته على عروض الأوبرا للتسلية برفقة زملائه بونيه وسيريت. كان يحب القراءة ولا سيما أعمال فيكتور هوجو (١٨٠٢–١٨٨٥). وعلى عكس العديد من علماء الرياضيات، لم تكن الفلسفة تستهويه، فكان يقول: «لا أحب الفلسفة أبدًا؛ لأنها تتجاوز حدود تفكيري، فأنا أفضل البقاء على الأرض.»

في ديسمبر ١٨٤٨، عُين معيدًا مساعدًا للتحليل الرياضي بكلية الهندسة، وظل في هذا المنصب حتى الأول من نوفمبر ١٨٥٣. وفي يونيو ١٨٤٨، أصبح إرميت محاضرًا بديلًا في محاضرات الرياضيات بكلية فرنسا، وكان كرسي الأستاذية في قسم التحليل الرياضي فارغًا؛ كان من يشغله جيوم ليبري (١٨٠٣–١٨٦٩) — لاقتناعه بتورطه في سرقة كتب قيمة من المكتبات العامة، ومهددًا بحكم قضائي بعد سقوط فرانسوا جيزو (١٧٨٧–١٨٧٤)، الذي كان يعرقل القضية قبل ذلك — قد هرب. وبعد الإقصاء النهائي لليبري، تم تخصيص كرسي الأستاذية لجوزيف ليوفيل بدلًا من أوجستين لويس كوشي (١٧٨٩–١٨٥٧). ولم يكن إرميت من المرشحين.

في عام ١٨٥٦، تم انتخابه في أكاديمية العلوم. في السادس من أبريل ١٨٥٦ كان قد تقدم بطلب للاقتراع بين زملائه للحصول على منصب ليبري، لكنه لم يحصد سوى صوت واحد، وانتخب شازلز بدلًا منه. ثم قام بإعادة الكرة مرة أخرى في العشرين من أبريل ١٨٥٦ للحصول على منصب ستيرم، وحصل على صوتين في الجولة الأولى، وصوت واحد في الجولة الثانية، وفاز به جوزيف برتراند. ومنذ هذا الوقت، بدأ بالتأكيد العداء بينه وبين أخي زوجته وصديقه القديم، الذي على الرغم من نبوغه المبكر كما رأينا حيث حصل جوزيف برتراند على درجة الدكتوراه في العلوم وهو في السابعة عشرة برسالة حول النظرية الرياضية للكهرباء؛ فإنه لم يترك أثرًا ذا قيمة في مجال الرياضيات كما كانت نجاحاته الأولى تبشر. كان إرميت فائق النشاط في الأكاديمية. وكما تظهر مراسلاته الكثيرة مع صديقه عالم الرياضيات السويدي جوستا مانجوس ميتاج-ليفير (١٨٤٦–١٩٢٧)، فلقد كان شديد الانشغال بانتخاب الأعضاء الجدد. ولقد أرسل كامي جوردان (١٨٣٨–١٩٢٢) — أثناء طلبه للترشح — ملفه العلمي إلى إرميت ليفحصه، ولقد رد عليه إرميت كالتالي:

السيد كامي

إن فحص أعمالك أمر في غاية الصعوبة وشاق للغاية وتمنعني التزاماتي من القيام به، لكن إصرارك على الشروع فيه — على الفور — يجبرني على أن أخطرك أنك إذا استطعت أن ترسله لي عن طريق أصدقائك الأعضاء في الأكاديمية، فسأرد عليه، أو أتقدم باستقالتي كعضو في المعهد على الفور.

لقد تشرفت بكوني خادمك المتواضع والمطيع.

وتم انتخاب جوردان.

وعلى الرغم من أن زملاءه قد تم تعيينهم بكلية فرنسا وكلية الهندسة والكلية الطبيعية أو بالسوربون، ظل إرميت راضيًا بوظيفته كممتحن. وفقط في عام ١٨٦٢ — بناءً على مبادرة لويس باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) مدير قسم الدراسات العلمية بالكلية الطبيعية العليا منذ عام ١٨٥٧ — تم استحداث منصب محاضر في الرياضيات وعُهد به إلى إرميت. لكنه لم يبلغ بالفعل منصبًا يليق بشهرته إلا بعد عام ١٨٦٩ وهو في السابعة والأربعين من عمره، ومن ثم بدأ يصبح له تأثير عميق على الأجيال القادمة من علماء الرياضيات الفرنسيين. وفي الواقع، تقاعد دوهامل — أستاذ إرميت — في عام ١٨٦٩ من منصبه كأستاذ بالسوربون وبكلية الهندسة، وتم تعيين إرميت في البداية بديلًا له بالسوربون، ثم عين في نوفمبر أستاذًا للتحليل الرياضي بكلية الهندسة، وبنهاية شهر مايو ١٨٧٠، أصبح خلفًا لدوهامل كأستاذ وحاصل على كرسي الأستاذية الأعلى بقسم الجبر بجامعة السوربون.

في عام ١٨٧٣، نُشرت في تقارير أكاديمية العلوم — ومن الطريف أنها كانت متوفرة في جميع المقاهي الكبرى بباريس — أربع ملاحظات عن الدالة الأُسية. وأثبت إرميت — مستخدمًا طريقة تعميم نظرية الكسور المتصلة التي ظل يعمل عليها لسنوات — أن الرقم — أساس اللوغاريتمات الطبيعية — هو رقم متسامٍ؛ أي إنه ليس جذرًا لرقم متعدد النتائج تكون معاملاته الجبرية أرقامًا صحيحة. وكانت هذه نتيجة هامة لكونها أول مثال لإثبات تسامي أي رقم، وهي لم تكن مصممة خصوصًا لهذا الغرض. كما فتح إثبات إرميت الباب ومهد الطريق لإثبات تسامي الرقم ؛ أي إثبات استحالة تربيع دائرة. وقد رأينا أن إرميت لم يكن يرغب في الانخراط في مثل هذا العمل، وأن الإثبات نفسه جاء على يد كارل لويس فرديناند ليندمان (١٨٥٢–١٩٣٩) في عام ١٨٨٢.

استمرت شهرة إرميت في الازدياد. كان الجميع يراسله، ويحضر لزيارته من شتى أنحاء أوروبا، كما تلقى الأوسمة والألقاب الشرفية، وتم انتخابه في العديد من الأكاديميات. وفي عام ١٨٧٦، تخلى عن منصبه كأستاذ بكلية الهندسة؛ نظرًا لأهمية دوره التعليمي في السوربون، وأيضًا ليوفر الوقت اللازم لأبحاثه؛ ومن ثم حصل في كلية الهندسة على لقب الأستاذ الشرفي، وحل كامي جوردان محله.

بدأت صحة إرميت تتراجع، مما أثر على روحه المعنوية وجعله يشعر بأنه شاخ؛ فأصبح شارد الذهن، قليل النشاط، وبدأ يقضي أيامًا وأسابيع دون أن يعمل شيئًا، حتى إنه قال إن الرياضيات لم تعد تستهويه، واستسلم لتيار من الأفكار الكئيبة، وأصبحت تسليته هي متابعة «الرنين الرتيب لأجراس سانت إتيان دو مون»، وبدأ يتذمر من وقوعه في أخطاء متكررة في الحساب، وأدرك أن التحليل الرياضي يتطلب جهدًا زائدًا، كما أنه أصبح ينفر منه، إلا أن العمر لم يبطئ من نشاطه الفكري، على حد قول صهره إيميل بيكارد؛ فاستمر يتابع عن كثب الحركة العلمية المعاصرة، وإن بدا متحفظًا أمام بعض الأفكار الجريئة الجديدة في الرياضيات في ذلك العصر، حتى إنه حاول أن يقنع هنري ليبيج (١٨٧٥–١٩٤١) بالعدول عن قراره بنشر كتابه حول الأسطح غير التفاضلية. واحتفالًا ببلوغه السبعين عامًا، أُقيمت — في السوربون في الرابع والعشرين من ديسمبر ١٨٩٢ — احتفالية كبيرة جمعت الكثير من الشخصيات العلمية المعاصرة. وفي عامه الخامس والسبعين، قرر إرميت التقاعد.

توفي شارل إرميت يوم الإثنين الرابع عشر من يناير ١٩٠١ بمنزله الكائن باثنين شارع السوربون. وتمت مراسم الجنازة بكنيسة سانت سيفيرين ظهر يوم الخميس السابع عشر من يناير، ودُفن بمدافن مونبارناس.

(٢٣) مانيوس رودولف هيستنز

ولد مانيوس رودولف هيستنز برايسلين بمينيسوتا في عام ١٩٠٦. وبدأ دراسته الجامعية في كلية سانت أولاف، ثم في جامعتي ويسكنسن وشيكاجو. كان منصبه الأول في جامعة شيكاجو، لكنه تركه في عام ١٩٤٧ ليصبح أستاذًا بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس حيث ظل يدرِّس حتى تقاعده. كما كان عضوًا مشاركًا في شركة راند، ومعهد التحاليل الدفاعية، ومركز أبحاث آي بي إم واطسون، ومعهد التحليل الرقمي التابع للمكتب الوطني للمعايير من عام ١٩٤٩ وحتى ١٩٥٤. وتتعلق أهم أعماله بآراء بولزا حول الأشكال الرباعية في فضاء هيلبرت، مما قاده إلى كتابة مقاله بالتعاون مع إدوارد ستيفيل (١٩٠٩–١٩٧٨) حول طريقة متجهات الميل المتلازمة. وظل نشطًا في أبحاثه حتى وفاته في عام ١٩٩١، مكرسًا أعوامه الأخيرة لدراسة طريقة المضاعفات للاجرانج.

(٢٤) فرانسوا جاكوب

ولد فرانسوا جاكوب بنانسي في السابع عشر من يونيو ١٩٢٠، ودرس بمدرسة كارنو الثانوية بباريس، ثم بدأ دراسة الطب ليصبح جراحًا، إلا أن دراسته توقفت بسبب الحرب. وفي يونيو من عام ١٩٤٠، رحل لينضم إلى القوات الفرنسية الحرة بلندن. ثم أُرسل ضابطًا طبيبًا إلى أفريقيا، وبالتحديد إلى فزان بليبيا ثم إلى تونس، حيث أُصيب. ثم التحق بالقسم الثاني من الجيش، وتلقى إصابات بالغة في نورماندي في أغسطس ١٩٤٤. ومكث في المستشفى عدة شهور، وتم منحه وسام صليب التحرير.

وبعد الحرب، استأنف دراسته، وناقش رسالته في باريس في عام ١٩٤٧. لكنه لم يستطع أن يصبح جراحًا بسبب إصاباته. فعمل في العديد من المجالات قبل أن يتحول أخيرًا إلى علم الأحياء. وحصل على دكتوراه في العلوم عام ١٩٥١. وانضم إلى العمل بمعهد باستير في عام ١٩٥٠، الذي كان يديره أندريه لووف (١٩٠٢–١٩٩٥). وأصبح مديرًا للمعمل في عام ١٩٥٦، ورئيسًا لقسم علم وراثة الخلايا — تأسس حديثًا — في عام ١٩٦٠. في عام ١٩٦٤، عين أستاذًا بكلية فرنسا حيث تم استحداث كرسي الأستاذية في علم وراثة الخلايا خصوصًا من أجله.

في عام ١٩٦٥، حصل بالتقاسم مع جاك مونو (١٩١٠–١٩٧٦) على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب؛ لاكتشافهما للآليات التي تضمن انتقال المعلومات الوراثية ودوائر التحكم في نشاط الجزيئات داخل الخلايا البكتيرية. كما حصل أندريه لووف على نفس الجائزة معهما لاكتشافه دورة المستذيب (إحدى طريقتي تكاثر الفيروسات). في عام ١٩٧٧، تم انتخابه عضوًا بأكاديمية العلوم، ثم عضوًا بالأكاديمية الفرنسية في عام ١٩٩٦ بدلًا من جان-لويس كورتيس (١٩١٧–١٩٩٥).

كان فرانسوا جاكوب قد تزوج في عام ١٩٤٧ من عازفة البيانو ليز بلوش وأنجبا أربعة أطفال.

(٢٥) فريدريش أوجست كيكولي

ولد فريدريش أوجست كيكولي فون شترادونيتس في السابع من سبتمبر عام ١٨٢٩ بدارمشتاد، وبدأ بدراسة العمارة بمعهد الفن المعماري بجيسين، لكنه قرر تكريس حياته للكيمياء، عقب حضوره مؤتمرًا عقده البارون جوستوس فون ليبيج (١٨٠٣–١٨٧٣). وبعد دراساته مع ليبيج وهاينريش فيل (١٨١٢–١٨٩٠)، أقام عامًا في باريس، يستمع إلى جان-باتيست دوماس (١٨٠٠–١٨٨٤)، ويعقد صداقات مع شارل أدولف فورتز (١٨١٧–١٨٨٤) وهنري فيكتور رينيو (١٨١٠–١٨٧٨) وخاصة شارل جرهارت (١٨١٦–١٨٥٦)، وهو أحد مخترعي نظام الترقيم الذري. ثم حصل كيكولي على درجة الدكتوراه من جيسين في عام ١٨٥٢، ثم عمل — بشكل خاص — لصالح البارون فون بلانتا بريشنو في منطقة فاليه.

وتتميز مسيرة كيكولي المهنية بطابع من الحركة المميز للعادات الألمانية في ذلك العصر. وبدأ في القيام بأبحاثه العلمية في عام ١٨٥٤ داخل أحد مستشفيات لندن كمساعد لجون ستينهاوس (١٨٠٩–١٨٨٠)، كما كان يتردد على ألكسندر ويليام ويليامسون (١٨٢٤–١٩٠٤) وويليام أودلينج (١٨٢٩–١٩٢١).

في عام ١٨٥٦، التحق بالعمل بجامعة هيدلبرج؛ حيث التقى بيوهان فريدريش فيلهلم أدولف فون باير (١٨٣٥–١٩١٧). ثم حصل على كرسي الأستاذية بجامعة جاند في عام ١٨٥٨. في عام ١٨٦٠، نظم مجلسًا بكارلسروه لوضع مدونة مصطلحات نظامية وعقلانية للكيمياء. وفي عام ١٨٦١، قام بنشر الجزء الأول من كتاب الكيمياء العضوية الشهير. وتزوج في عام ١٨٦٢، إلا أن زوجته توفيت بعد بضعة أشهر. وكان في تلك الفترة أن تراءت أمام كيكولي بنية البنزين. ثم غادر جاند ومضى للعمل في جامعة بون في عام ١٨٦٧. وتزوج ثانية في عام ١٨٧٦. بعد اكتشافه للبنزين، توقفت أبحاثه، وتوفي بعدها بثلاثين عامًا في الثالث عشر من يوليو ١٨٩٦.

لم يكن كيكولي كيميائيًّا جيدًا بصورة متفردة، ولا معلمًا لامعًا، لكنه كان — مع كل هذا — محبوبًا من طلابه.

(٢٦) يوهانز كِبلر

ولد يوهانز كِبلر في السابع والعشرين من ديسمبر ١٥٧١ بويل ديرشتاد بمقاطعة ورتمبرج، وكان طفلًا عليلًا لوالدين فقيرين؛ فكان والده جنديًّا مرتزقًا ووالدته ابنة صاحب نزل. في عام ١٥٧٦، استقرت العائلة بليونبرج. وخرج والده للحرب لآخر مرة بينما كان يوهانز في الخامسة من عمره، ويُعتقد أنه قُتل في هولندا. وعاش كِبلر مع والدته في نزل جده. ويروي لنا أنه كان يساعدها في خدمة النزلاء. تلقى تعليمه الأول بالمدرسة المحلية، ثم في المدرسة الإكليريكية القريبة منهم. ولقد ساعده ذكاؤه الواضح على الحصول على منحة لدراسة اللاهوت اللوثري بجامعة توبنجين. وفي ذلك الوقت، كان من المعتاد أن يحضر الطلاب دروسًا في الرياضيات، بما في ذلك علم الحساب والهندسة وعلم الفلك والموسيقى. وكان القائم على تدريس علم الفلك بتوبنجين أحد أهم العلماء الفلكيين في عصره، مايكل مايستلين (١٥٥٠–١٦٣١). ولقد أصبح كِبلر مفتونًا بأفكار نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣).

كانت عائلة كِبلر لوثرية، وانضم هو إلى طائفة أوجسبورج (١٥٣٠) التي كانت تهدف إلى إظهار أن الإيمان اللوثري لم يختلف في شيء عن الكاثوليكية الرومانية، منددة بالتجاوزات التي انزلقت فيها تدريجيًّا الكنيسة الكاثوليكية. إلا أن كِبلر لم يكن مقتنعًا بمسألة الوجود الحقيقي للمسيح خلال الإفخارستيا (سر التناول)، ومن ثم رفض الإقرار بسر الاعتراف، فتم حرمانه من الأسرار، لكنه رفض التحول لاعتناق الكاثوليكية. وانفض من حوله اللوثريون والكاثوليك، ولم يجد أي ملجأ أثناء حرب الثلاثين عامًا. وفي عام ١٦١٢، تم حرمانه نهائيًّا، إلا أنه ظل طوال حياته شديد التدين؛ ولهذه الأسباب، نصحه مايستلين بالتخلي عن طموحه بأن يصبح كاهنًا، وأن يتجه إلى تدريس الرياضيات.

وفي عام ١٥٩٦، أثناء تدريسه للرياضيات بجراتز، كتب دفاعًا عن نظام كوبرنيكوس «غموض النظام الكوني». وبسبب تفشي الحركة المضادة للإصلاح، اضطر كِبلر إلى ترك منصبه بجراتز لكونه لوثريًّا. وسافر إلى براغ ليعمل مع عالم الفلك الدنماركي الشهير تيكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١). وعندما توفي براهي في عام ١٦٠١، ورث كِبلر منصبه كعالم الرياضيات الإمبراطوري للإمبراطور الألماني رودولف الثاني (١٥٥٢–١٦١٢) الذي امتد حكمه من عام ١٥٧٦ إلى عام ١٦١١. إلا أن تكاليف الإقامة الخاصة بهذا المنصب لم تكن تُدفع له في معظم الأحيان، فاضطر لكي يكسب عيشه إلى كشف الطالع للمترددين على البلاط الإمبراطوري. اكتشف كِبلر — الذي ورث أيضًا ملاحظات قيمة من براهي — أن مدار كوكب المريخ على شكل قطع ناقص. وفي عام ١٦٠٩، نشر كتابه «علم الفلك الجديد» الذي يضم قانونيه الأوليَّين حول حركة الكواكب. ويؤكد القانون الأول أن مدارات الكواكب لها شكل القطع الناقص وأن مركزها هو الشمس. والثاني ينص على أن المساحة التي يغطيها شعاع موصل من الشمس إلى الكوكب تتناسب مع زمن المسح بالأشعة.

في عام ١٦١٢، طُرد اللوثريون من براغ، وسافر كِبلر إلى لينز. كانت زوجته وطفلاه قد وافتهم المنية حديثًا، لكنه سرعان ما تزوج، وإن ظل يعاني من مشاكل خاصة ومادية. وتوفيت ابنتاه في عمر صغير، واضطر إلى العودة إلى ورتمبرج للدفاع عن والدته التي تم اتهامها بالشعوذة. ظهر قانونه الثالث في عام ١٦١٩ في مقاله «العالم المتجانس»، وكان ينص على أن مربع زمن دوران الكوكب يتناسب مع مكعب المحور الأكبر للقطع الناقص للمدار. ويكون من السهل تطبيق هذا القانون إذا ما عرفنا المسافة التي تفصل قمرًا عن الكوكب الذي يدور حوله. وكُتب أن القمر يكون في حالة توازن في مدار دائري تحت تأثير قوتين متساويتين ومتضادتين؛ قوة الجاذبية وقوة الطرد المركزي.

وعلى الرغم من قيامه بالعديد من التنقلات الإجبارية، فإن كِبلر نجح في نشر مؤلفه الأساسي «ملخص علم الفلك» بأجزائه السبعة في عام ١٦٢١. كما أكمل «جداول رودولف» التي بدأها تيكو براهي. باستخدام اللوغاريتمات، وتتيح هذه الجداول حساب المواضع السابقة والتالية للكواكب في تاريخ محدد.

ونحن مدينون لكِبلر باكتشافات أخرى؛ فكان أحد أوائل من درسوا تكوين الصورة في غرفة مظلمة بها فتحة صغيرة، مما أدى إلى ميلاد التصوير الفوتوغرافي، كما اهتم بشدة بعلم البصريات والرؤية، وكان هو صاحب فكرة استخدام النظارة لتصحيح عيوب البصر، كما شرح دور العينين في الرؤية المركزة، واكتشف قوانين الانكسار الداخلي، مفسرًا مبدأ المجهر. وفي يوم زواجه الثاني، لاحظ أنهم يقيسون حجم برميل النبيذ بإدخال حبل لولبي في فوهته. وشرع يبحث عن تفسير رياضي لهذا، وكانت النتيجة دراسة لحجم المجسمات الدورانية … حيث اكتشف — استنادًا إلى أعمال أرشميدس (٢٨٧ق.م–٢١٢ق.م) — الحل باستخدام الأرقام التي لا تقبل القسمة. ولقد طور هذه الطريقة فيما بعد بونافونتورا كافليري (حوالي ١٥٤٧–١٥٩٨)، وهي تحتوي على أسس الحساب متناهي الصغر. والقائمة لا تتوقف هنا فحسب، فلقد حاول كِبلر قياس المسافات بين النجوم طبقًا لزاوية الاختلاف الناتجة عن مدار الأرض، وشرح أن ظاهرة المد والجزر سببها القمر (ولم يكن جاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) متفقًا معه). واقترح كِبلر أن الشمس تدور حول محورها، كما حدد تاريخ ميلاد المسيح الذي أصبح معترفًا به عالميًّا. وكان أول من يعطي صيغة رياضية محضة للوغاريتمات بعيدًا عن الجداول التي توصل إليها جون نابيه (١٥٥٠–١٦١٧) في عام ١٦١٤. في عام ١٦١٩، اكتشف اثنين من الأجرام الصلبة متعددة الصفحات منتظمة الشكل. وكانت له أعمال في مجال الهندسة، ومنها تفسير شكل خلية النحل. وأخيرًا، هو من اخترع كلمة «ستالايت» (جسم تابع).

وتوفي كِبلر في ريجينزبرج في الخامس عشر من نوفمبر ١٦٣٠ وهو في طريقه إلى مدينة ساجان لتحصيل دين ما.

(٢٧) جوستاف كيرشوف

ولد جوستاف روبرت كيرشوف في الثاني عشر من مارس ١٨٢٤ في كونيجزبرج في بروسيا، الآن تعرف باسم كالينينجراد في روسيا.

درس الفيزياء الرياضية بجامعة كونيجزبرج مع فرانز نيومان (١٧٩٨–١٨٩٥)، والرياضيات مع كارل جوستاف جاكوب جاكوبي (١٨٠٤–١٨٥١). وناقش رسالته في برلين وهو في الرابعة والعشرين من عمره.

بدأ كيرشوف يهتم بالمسائل المتعلقة بالكهرباء. وفي عام ١٨٤٥، وضع تعريفًا لمفهوم الجهد الكهربائي، وصاغ القوانين حول الدوائر الكهربائية، قوانين كيرشوف الشهيرة: قانون نقاط التفرع الذي يقول إن المجموع الجبري للتيارات الداخلة والخارجة عند نقطة التفرع — داخل دائرة كهربائية — يساوي صفرًا، وقانون الدوائر الكهربائية الذي يقول إن المجموع الجبري لفروق الجهد بالشبكة المغلقة يكون صفرًا.

كما عمم قانون جورج سيمون أوم (١٧٨٩–١٨٥٤) — الذي يرجع إلى عام ١٨٢٧ — حول التيار الكهربائي للموصلات ثلاثية الأبعاد، وأثبت لاحقًا أن التيار يمر خلال الموصل بسرعة الضوء.

حصل على شهادة التأهيل في ١٨٤٧، وبدأ يحاضر في جامعة برلين. ثم في عام ١٨٥٠، عُين أستاذًا للفيزياء بجامعة برسلو (فروتسواف ببولندا)، وهناك التقى بروبرت فيلهلم بنزن (١٨١١–١٨٩٩) الذي ساعده على الحصول على منصب له بجامعة هيدلبرج في عام ١٨٥٤، وهناك اخترعا جهاز المنظار الطيفي.
ولقد أتاح تطوير المنظار الطيفي ذي المنشور لتحليل الضوء في المواد المحترقة لكيرشوف وضع قانون حول الإشعاع: العلاقة بين قدرة الانبعاث والامتصاص لجسم ما تكون مستقلة عن خواص هذا الجسم، وإنما تتحدد وفقًا لحرارة وطول الموجة؛ ومن ثم، تقاس قدرة الانبعاث بالتناسب مع قدرة الجسم المعتم، الذي عرفه كيرشوف بكونه الجسم الذي يمتص كل شيء بالكامل. ومن المعروف أن دراسة ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧) لإشعاع الجسم المعتم هي التي قادته إلى النظرية الكمية.

تم انتخاب كيرشوف نائبًا لرئيس الجامعة في عام ١٨٦٥. وانتهى في عام ١٨٧٥ بقبول كرسي الأستاذية في الفيزياء النظرية ببرلين.

ولقد توفي هناك في السابع عشر من أكتوبر ١٨٨٧.

(٢٨) هانز أدولف كريبس

ولد هانز أدولف كريبس في هايدلشيم بألمانيا في الخامس والعشرين من أغسطس ١٩٠٠. وهو سليل أسرة يهودية من سيليزي. كان والده جورج يعمل طبيب أنف وأذن وحنجرة، ووالدته تدعى ألما وهي مولودة في دافيدسون.

تلقى تعليمه الأولي بثانوية أندريانوم بهايدلشيم. وما بين ١٩١٨ و١٩٢٣، درس كريبس الطب بجامعات جوتنجن وفريبورايم برسجو وبرلين. وبعد أن قضى عامًا في عيادة تابعة لجامعة برلين، ناقش رسالته بهامبورج في عام ١٩٢٥. وقضى العام التالي في قسم الكيمياء بالمعهد الباثولوجي ببرلين؛ حيث كان في احتكاك دائم بأحدث الاكتشافات في مجال الكيمياء الحيوية.

في عام ١٩٢٦، أصبح مساعدًا لأوتو واربورج (١٨٨٣–١٩٧٠) — الحائز جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعام ١٩٣١ — بمعهد قيصر فيلهلم للأحياء ببرلين. وظل يعمل هناك حتى عام ١٩٣٠، ثم عاد إلى المستشفيات. في البداية، عمل بمستشفى البلدية بألتونا مع الأستاذ ليوبولد ليشتويتز (١٨٧٦–١٩٤٣)، ثم عمل بالعيادة الطبية بجامعة فريبورايم برسجو مع الأستاذ سيجفريد جوزيف تانهويزر (١٨٨٥–١٩٦٢).

عين في عام ١٩٣٢ محاضرًا بالجامعة. وفي تلك الفترة، كان يجري تجاربه حول البول مع عالم الكيمياء الحيوية كيرت هنسليت (١٩٠٧–١٩٧٣). لكن بعد وصول الحزب القومي الاشتراكي (النازي) إلى الحكم، اضطر إلى الهجرة إلى إنجلترا في عام ١٩٣٣ بناءً على دعوة من السير فريدريك جولاند هوبكنز (١٨٦١–١٩٤٧) — الحاصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعام ١٩٢٩ — للعمل بكلية الكيمياء الحيوية بكامبريدج. ثم حصل على منصب بالجامعة في نفس المدينة.

في عام ١٩٣٥، تم تعيين كريبس مدرسًا علمَ الأدوية بجامعة شيفلد، ثم انتقل إلى قسم الكيمياء العضوية الجديد. وأثناء الحرب، ظل يعمل على دراسة الأدوار الغذائية المختلفة لفيتامينات (أ) و(ج). وفي عام ١٩٤٥، أصبح أستاذًا ومديرًا لوحدة أبحاث. في عام ١٩٥٣، حصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب مناصفة مع فريتز ألبرت ليبمان (١٨٩٩–١٩٨٦)، الذي اكتشف أحد الإنزيمات الهامة في تكوين البول. وعمل كريبس أستاذًا بجامعة أكسفورد في الفترة من ١٩٥٤ حتى ١٩٦٧.

وتوفي في الثاني والعشرين من نوفمبر ١٩٨١ بأكسفورد.

(٢٩) رينيه لاينيك

ولد رينيه ثيوفيل هياسينت لاينيك بكويمبر في السابع عشر من فبراير ١٧٨١. توفيت والدته بسبب الدرن وهو لا يزال في السادسة من عمره. وكان والده — سليل النبلاء — لا يبالي بأطفاله. وقام خال رينيه الطبيب بتربيته. والتحق في البداية بثانوية نانت. لكن بسبب الاضطرابات الثورية، سافر إلى باريس ليلحق بأخيه الأكبر طالب الحقوق. وبدأ ينتظم في المحاضرات في كلية الصحة الخاصة وأيضًا محاضرات جان نيكولا كورفيسار دي ماريست (١٧٥٥–١٨٢١) الطبيب الخاص بنابليون بالمستشفى الخيري. في عام ١٨٠٣، نشر له عمل حول ضيق الشريان التاجي، وعمل آخر حول الأمراض التناسلية وآخر عن التهاب الصفاق (الغشاء البريتوني). وبالتعاون مع صديقه جاسبارد لوران بايل (١٧٧٤–١٨١٦)، اكتشف الآفة الأساسية والباثولوجية المسببة للدرن. ثم كتب بحثًا حول تصنيف الأمراض التشريحية. واندلع جدل بينه وبين جيوم دوبويرتان (١٧٧٧–١٨٣٥) الذي كان يريد نسبته لنفسه. كان لاينيك يتمتع بطيبة وحب للخير غير عاديين، وكانت كل جهوده لا تهدف إلا إلى تخفيف آلام البشرية.

في عام ١٨١٥، عُين كبيرًا للأطباء بمستشفى نيكر، وبعد بضعة أسابيع، اكتشف فكرة الكشف بالسماعة. كان على علم بكتاب جوزيف ليوبولد أوينبريجير (١٧٢٢–١٨٠٩) الصادر باللغة اللاتينية في عام ١٧٦١، الذي تُرجم إلى الفرنسية على يد كورفيسار؛ حيث وضع فيه وصفًا لطريقة فحص العضو بالنقر عليه. ولقد قاد اكتشاف لاينيك إلى إحداث تحول هائل في الطب. فبدأ يتم فحص المرضى بدلًا من ملاحظاتهم فقط. وفي عام ١٨١٩، نشر كتابه «الكشف الطبي بالسماعة، دراسة في تشخيص أمراض الرئة والقلب تقوم أساسًا على هذه الطريقة الجديدة في الاستكشاف». ولقد كتب إلى صديق له: «الكتاب الذي أنوي نشره سيكون — على ما آمل — نافعًا سواء عاجلًا أم آجلًا لتقدير قيمة حياة الإنسان، ومن ثم، كان من واجبي إنهاؤه مهما كان الثمن.» وبالفعل، فإن هذا الكتاب يتميز بدقة ومرجعية جيدة تجعله دائمًا حديثًا.

في عام ١٨٢٢، تم تعيينه أستاذًا بكلية فرنسا. وفي عام ١٨٢٣، حصل على كرسي الأستاذية في طب العيادات بكلية الطب بباريس. وكان يدرس دون أن يلتفت إلى الخطابة والرغبة في أن ينال الإعجاب. وأصبح عضوًا بالأكاديمية الملكية للطب وباللجنة المعنية بإعادة تنظيم الدراسات الطبية. كان صديقًا لمدام دي ستال (١٧٦٦–١٨١٧)، وشاتوبريان (١٧٦٨–١٨٤٨)، ودوقة بيري (١٧٩٨–١٨٧٠) التي كانت تتخذه طبيبًا خاصًّا، وللكثير من الشخصيات العامة.

وبعد مرضه، غادر باريس وعاش في بريتاني، ومات في منزل العائلة بكيرلوانك في الثالث عشر من أغسطس ١٨٢٦ بسبب الدرن الذي التقطه، دون شك، أثناء عمله وقام بتدريس طرق تشخيصه بنفسه، ولم يكن يبلغ من العمر سوى خمسة وأربعين عامًا. وفي وصيته، كتب عن صديق له: «أُوصي له بساعتي وأوسمتي وخاتمي. وأهديه أيضًا سماعتي، أفضل شيء تركته.»

(٣٠) كورنيليوس لانكزوس

ولد كورنيليوس لانكزوس (اسمه الحقيقي كورنيل لوي) في الثاني من فبراير ١٨٩٣ بمدينة زيكسفيهرفار بالمجر في عائلة ذات أصول يهودية. ثم غير اسمه ذا الرنين الألماني إلى لانكزوس كورنيل (ففي اللغة المجرية، يأتي الاسم بعد اسم العائلة). كان والده محاميًا. التحق أولًا بمدرسة يهودية حيث تعلم عدة لغات، ثم انتقل إلى المدرسة الثانوية المحلية الكاثوليكية التي يديرها رهبان طائفة السيستريسان، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية في عام ١٩١٠، قيد نفسه بجامعة بودابست. وحدث أول اتصال بينه وبين نظرية النسبية أثناء محاضرات ليونارد إيوتفوس (١٨٤٨–١٩١٩)، رئيس الأكاديمية المجرية للعلوم الذي كان وزيرًا للتعليم العام. وكان ليبوت فيجير (١٨٨٠–١٩٥٩)، وهو القائم على تدريس الرياضيات، يتطرق — من ضمن موضوعات أخرى — إلى متواليات فورييه.

وبعد حصوله على الدبلوم، نال منصب معيد بالجامعة التقنية ببودابست. ولقد كان شديد الاهتمام بالنسبية، وجاءت رسالته عن إعادة صياغة النظرية الكهرومغناطيسية ومعادلات ماكسويل بمساعدة الرباعيات. وأرسل نسخة من رسالته إلى أينشتاين الذي أجابه بأنه سيشرفه الحصول على نسخة عليها إهداء منه. كان ذلك في عام ١٩٢١، وكانت القوانين المجرية تجبر لانكزوس على الحصول على منصب في جامعة فريبورج. وظل هناك ثلاثة أعوام، ثم ذهب إلى فرانكفورت. وخلال العام الدراسي ١٩٢٨-١٩٢٩، أصبح مساعدًا لأينشتاين ببرلين، ثم عاد إلى فرانكفورت.

قضى لانكزوس عام ١٩٣١ أستاذًا مُعارًا إلى جامعة بوردو آلافاييت بإينديانا. وعند عودته إلى ألمانيا، كان الوضع قد أصبح أكثر صعوبة لشخص ذي أصول يهودية، فرجع مرة أخرى إلى بوردو. وأثناء عمله في الجامعة، بدأ ينشر مقالات في الفيزياء الرياضية. ثم كتب في عام ١٩٣٨ أول مقال له عن التحليل الرقمي، وهو فرع في الرياضيات يهدف إلى دراسة الطرق واللوغاريتمات المستخدمة لإجراء حسابات رقمية على حاسب آلي. وبعد عامين، ظهر له العمل الذي اقترح فيه طريقة المصفوفة لحساب المعاملات الجبرية لمتتالية فورييه. وبعد خمسة وعشرين عامًا، أصبح هذا العمل من بشائر تحويلات فورييه السريعة التي هي أساس نقل كافة الإشارات. واستمر لانكزوس يعمل في نظرية النسبية ويراسل أينشتاين بصورة علمية وودية.

في عام ١٩٤٤، عمل مدة عام بشركة بوينج. وفي عام ١٩٤٦، استقال من منصبه ببوردو واتخذ منصبًا دائمًا في بوينج. كان يعمل هناك على تطبيقات رياضية في مجال صناعة الطائرات، وطور طرقًا رقمية جديدة لحل المشاكل التي تُطرح في هذا المجال.

في عام ١٩٤٩، التحق بمعهد التحليل الرقمي التابع للمكتب القومي للمعايير بلوس أنجلوس. وعمل على برمجة اللوغاريتمات التي طورها من قبل. كما تعرف على الكثير من الشخصيات العامة في مجال الرياضيات الذي كان يشهد حركة توسع هائلة. وفي هذه الفترة، بدأ يعمل على حساب القيم الخاصة لمصفوفة، وابتكر طريقة لحل أنظمة معادلات خطية. ويعتبر لانكزوس هذه الطريقة أكثر إسهاماته أهمية في مجال الرياضيات.

إلا أنه في مطلع الخمسينيات، تطورت حركة المكارثية بقوة في الولايات المتحدة. وأصبح الجو العام غير مشجع بسبب التحقيقات والشكوك؛ ولذلك سعد لانكزوس بشدة عندما تلقى عرضًا من إرفين شرودنجر (١٨٨٧–١٩٦١) — الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام ١٩٣٣ — ومن أيامون دي فاليرا (١٨٨٢–١٩٧٥) — رئيس وزراء جمهورية أيرلندا — للقدوم لإدارة قسم الفيزياء النظرية بدبلن، وتسلم هذا المنصب في عام ١٩٥٢ وعاد إلى العلوم حبه الأول.

وفي دبلن، وجد لانكزوس ظروفًا ممتازة للعمل، وكانت فترة شديدة الخصب بالنسبة له. وكان دي فاليرا — الذي كان يدرس ليصبح أستاذًا في الرياضيات — يحضر بنفسه من وقت لآخر حلقات النقاش التي ينظمها لانكزوس. وانخرط لانكزوس في الحياة الثقافية بدبلن. وكان يقوم بالعديد من الرحلات إلى الولايات المتحدة. وفي الرابع والعشرين من يونيو ١٩٧٤، تعرض لأزمة قلبية — أثناء زيارته لبودابست — وتوفي في اليوم التالي.

(٣١) إرفينج لانجموير

ولد إرفينج لانجموير في بروكلين عام ١٨٨١. وحصل على الدكتوراه من جامعة جوتنجن في عام ١٩٠٦. في عام ١٩٠٩، التحق بمعمل أبحاث شركة جنرال إلكتريك بشينيكتادي بنيو جيرسي للعمل بها. ولقد صاغ نظريات حول بنية الذرة وفتح آفاقًا جديدة في دراسة الكولويد (أشباه الغراء) والكيمياء الحيوية بفضل أعماله في الشرائح الجزيئية. في الفيزياء، يعد لانجموير رائدًا فيما يتعلق بالتفريغ الكهربائي في الغازات والإرسال الإلكتروني وتطوير المضخة الفارغة التي تعمل بتكثيف الزئبق. ووفقًا له، كانت التطبيقات الصناعية لهذه الأعمال منتجات ثانوية لتجارب أُجريت من أجل العلم في المقام الأول. في عام ١٩٣٢، حصل لانجموير على جائزة نوبل في الكيمياء عن أعماله حول التأثير المحفز للامتصاص في الشرائح الجزيئية على سطح المواد الصلبة والسائلة؛ مما فتح الباب أمام أبحاث أخرى حول الكولويد والكيمياء الحيوية.

ولقد توفي لانجموير في عام ١٩٥٧.

(٣٢) هنري لو شاتولييه

ولد هنري لويس لو شاتولييه في باريس في الثامن من أكتوبر ١٨٥٠ في أسرة من المعماريين والمهندسين. ولقد تلقى تعليمه الأول في الرياضيات والكيمياء على يد والده. ولقد عاون هنري والده بعد ذلك في إنشاء مصنع للألومنيوم بفرنسا، وحصل بذلك على معلومات أساسية عن علم المعادن. كانت والدته كاثوليكية شديدة الالتزام، وإن كانت تقدر الشعر والفنون والآداب. ولقد زرعت في ابنها هذا الميل.

وبعد دراسته بكلية الهندسة — التي التحق بها ثم تركها للالتحاق بكلية المناجم وبكلية فرنسا — كان شاتولييه ينوي تكريس نفسه للعمل مهندسًا للمناجم. وبعد عامين قضاهما في بيزانسون، كانت المفاجأة؛ إذ عُرض عليه منصب أستاذ الكيمياء بكلية المناجم بباريس. في عام ١٨٨٢، حصل على منصب بكلية الهندسة، ثم عُين أستاذًا بكلية فرنسا في عام ١٨٨٣. وأخيرًا أصبح أستاذًا في السوربون في عام ١٨٨٧. في العام ذاته، قرر العودة لكلية المناجم ليعمل أستاذًا في الكيمياء الصناعية والتعدين. ثم في عام ١٨٨٩، عاد مرة أخرى إلى كلية فرنسا أستاذًا للكيمياء غير العضوية وظل في هذا المنصب حتى عام ١٩٠٨. وفي عام ١٩٠٧، تم انتخابه بأكاديمية العلوم. كانت مسيرته العلمية تمتاز بنوع من الازدراء لكل ما هو مجرد تكهنات، وبنوع من الإدراك العميق للتفاعل بين النظرية والتطبيق في العلوم. وكانت مهمته كمعلم تحفز نشاطه البحثي الخاص. كان يكره الميل المبالغ إلى التجربة، ويسعى لتعويد طلابه على الملاحظة وتأويل ما يرونه والتفكير السليم. كما جذبه أيضًا علم الاقتصاد والمشكلات الاجتماعية. ولقد ظل بسيطًا شديد التواضع والطيبة على الرغم من كل مظاهر التكريم. ويعد لو شاتولييه مؤسس «مجلة التعدين». وتوفي في السابع عشر من سبتمبر ١٩٣٦ بميريبل ليزيشيل في مقاطعة الإيزير.

(٣٣) هنري ليبيج

ولد هنري ليون ليبيج ببوفيه في الثامن والعشرين من يونيو ١٨٧٥. كان والده من أصل متواضع، لكنه تمكن من أن يصبح عاملًا بإحدى المطابع. وقد توفي بمرض الدرن بعد ولادة ابنه بفترة وجيزة. كما توفي أحد أشقائه أيضًا بسبب نفس المرض. ولقد عانى ليبيج نفسه من العواقب الوخيمة لهذا المرض، وظلت صحته عليلة طوال حياته. كانت والدة ليبيج من النساء اللواتي يعملن بلا كلل، ولقد بذلت كل ما في وسعها ليتمكن ابنها من استكمال دراسته على نفقتها. وكان ليبيج — الذي أظهر نبوغًا منذ المدرسة الابتدائية — قد حصل على منح طوال دراسته الإعدادية أو الثانوية بمدرسة لويس الأكبر. وتم قبوله بالمدرسة الطبيعية العليا. وعلى الرغم من احتكاكه بصفوة المفكرين، فإنه ظل وفيًّا لطبقته الاجتماعية. وتزوج من شقيقة أحد زملائه وأنجبا طفلين.

وبعد حصوله على شهادة الإجازة في تدريس الرياضيات عام ١٨٩٧، بدأ في تدريس صفوف المرحلة الإعدادية بنانسي في الفترة من ١٨٩٩ و١٩٠٢. وفي عام ١٩٠٢، ناقش ليبيج رسالته للدكتوراه بعنوان «التكامل، الطول، المساحة» وعرض فيها لنظرية جديدة للتكامل — تكامل ليبيج — سيكون لها شأن كبير في العديد من فروع الرياضيات. ولقد اعتمد ليبيج على أعمال كامي جوردان (١٨٣٨–١٩٢٢) وإيميل بوريل (١٨٧١–١٩٥٦) ورينيه لويس بير (١٨٧٤–١٩٣٢)؛ من أجل وضع نظريته عن الدوال التي يمكن قياسها، والتي قد تكون شديدة التقطع. كما أصبح مفهومه عن التكامل ينطبق على دوال لها عدة متغيرات.

وظل يدرِّس بجامعة رين حتى عام ١٩٠٦، ثم انتقل إلى جامعة بواتييه. كما عُين أستاذًا بجامعة السوربون في عام ١٩١٠، بالإضافة إلى عمله بالتدريس في كلية فرنسا والمدرسة الطبيعية العليا للفتيات بسيفر. كان يمتاز بالإبداع في عرض محاضراته. ولم يكن يدرس نظريته أبدًا خوفًا من أن تجعل التعميمات الكثيرة من علم الرياضيات مجالًا عقيمًا. ولقد تم انتخابه في أكاديمية العلوم في عام ١٩٢٢.

وتوفي ليبيج في باريس في السادس والعشرين من يوليو ١٩٤١.

(٣٤) جوتفريد فيلهلم لايبنتز

ولد جوتفريد فيلهلم لايبنتز في مدينة ليبزيج بساكس في الأول من يوليو ١٦٤٦. وكان والده — فريدريش لايبنتز — أستاذًا للفلسفة. وكانت والدته — كاترينا شوموك — ابنة أحد المحامين والزوجة الثالثة لفريدريش لايبنتز. توفي والده وهو لا يزال في السادسة من عمره. وتولت والدته مسئولية تربيته، وغرست فيه الحس الأخلاقي والديني الذي لعب دورًا هامًّا في حياته وأفكاره.

عندما بلغ السابعة من عمره، التحق لايبنتز بمدرسة نيكولاي بليبزيج. ودرس اللغة اللاتينية واليونانية. كما درس منطق أرسطو (٣٨٥ق.م–٣٢٢ق.م). لكنه لم يكن راضيًا عن كل أفكاره، فشرع في تكوين آرائه الخاصة محاولًا إيجاد ترتيب ما للحقائق المنطقية. واهتم بدراسة الميتافيزيقا وعلم اللاهوت، وقرأ العديد من الكتب لمؤلفين كاثوليك وبروتستانت. في عام ١٦٦١، التحق بجامعة ليبزيج. وهناك درس الفلسفة وعلم البلاغة واللغات اللاتينية واليونانية والعبرية، إلا أن مستوى تدريس الرياضيات كان ضعيفًا.

في عام ١٦٦٣، ناقش رسالته للماجستير «مبادئ الفرد» التي دافع فيها عن قيمة الفرد. ثم قضى صيف ١٦٦٣ في جامعة يينا؛ حيث انضم إلى محاضرات الرياضيات التي يلقيها إيرهارد ويجيل (١٦٢٥–١٦٩٩) وكان هو أيضًا أستاذًا للفلسفة. وعندها بدأ لايبنتز يعي أهمية الطريقة المنطقية للإثباتات الرياضية في الفلسفة. كان ويجيل يعتقد أن مفهوم العدد مفهوم عالمي أساسي، ولقد كان لأفكاره عظيم الأثر على لايبنتز.

عاد لايبنتز إلى ليبزيج للإعداد لرسالته في الحقوق، وحاول فيها أن يمزج بين الملامح الفلسفية والتشريعية. كما درس العلاقات بين هذه الموضوعات وبين الأفكار الرياضية التي تعلمها من ويجيل. وبعد عدة أيام، توفيت والدته. ثم ناقش رسالته التأهيلية في الفلسفة التي نُشرت في عام ١٦٦٦. وكان يهدف منها إلى إرجاع أي تفكير أو اكتشاف إلى مجموعة من العناصر الأساسية مثل الأرقام أو الحروف أو الأصوات والألوان. إلا أن رسالته في الحقوق رُفضت لأسباب مجهولة. وعلى الفور، انطلق إلى جامعة ألتدورف ليناقش رسالة أخرى في فبراير ١٦٦٧ بعنوان «عن الحالات المحيرة».

وهناك عُرض عليه كرسي الأستاذية بجامعة ألتدورف، لكنه كان يخطط لمشاريع أخرى. تم تعيينه سكرتيرًا لجمعية الخيميائيين بنورنمبرج. ثم التقى بالبارون يوهان كريستيان فيرهر فون بوينبرج (١٦٢٥–١٦٧٩) الذي أقنعه بالقدوم إلى فرانكفورت في نوفمبر ١٦٦٧. كان بوينبرج كاثوليكيًّا، بينما كان لايبنتز لوثريًّا. كان لايبنتز منشغلًا بإعادة توحيد الكنائس المسيحية. وفي الأعوام التالية، بدأ تنفيذ مشروعات مختلفة علمية وأدبية وسياسية. كما استأنف مسيرته المهنية كمُشرع بمدينة ماينز. وكانت إحدى مهامه هي العمل على تحسين القانون المدني الروماني. ولقد نظر إلى هذا المشروع كجزء هام من مشروعه الضخم لتجميع كافة المعارف الإنسانية. وكان جزء من هذا المشروع يقوم على تنسيق العمل بين مختلف المجتمعات العلمية.

ثم بدأ في دراسة قوانين الحركة، ساعيًا إلى تفسير ظاهرة الصدمات المرنة. في عام ١٦٧١، نشر بحثا عن افتراضية جديدة تقوم على أن كل حركة إنما تعتمد على فكر. كما كان قد بدأ في صناعة آلة حاسبة جديدة. وقام بزيارة إلى باريس ليتمكن من الاتصال بشكل أكبر بالعلماء في عام ١٦٧٢. وأراد إقناع فرنسا بمهاجمة مصر بغية تحويل رغبة لويس الرابع عشر (١٦٣٨–١٧١٥) في ضم بعض الأقاليم الألمانية. وفي باريس، التقى بنيكولا مالبرانش (١٦٣٨–١٧١٥)، ودرس الرياضيات والفيزياء مع كريستيان هيوجينز (١٦٢٩–١٦٩٥). كما قدم أعمالًا حول المتواليات العددية. كان بوينبرج نفسه قد مات، بينما ظلت أسرته تساعد لايبنتز ماديًّا، فسافر إلى لندن مع ابن أخي بوينبرج مصرًّا على مهمته في نشر السلام. كما عرض لآلته الحاسبة — التي لم تكن انتهت بعد — مما عرَّضه لانتقادات روبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣). كما علم لايبنتز أن نتائجه حول المتواليات كانت بالفعل معروفة، ومن ثم أدرك أن معارفه في الرياضيات لم تكن كافية. وبدأ سعيه لتنميتها. والتقى بجاك أوزنام (١٦٤٠–١٧١٧) وهنري أولدنبرج (حوالي ١٦١٨–١٦٧٧). وفي باريس، التقى — في أغسطس — إيهرنفريد والتر فون تشيرنهوس (١٦٥١–١٧٠٨). وكان لقاءً مفيدًا للطرفين في مجال الرياضيات. أثناء إقامته في باريس قد طور قواعد التحليل الرياضي. وجاء في مخطوطة بتاريخ الحادي والعشرين من نوفمبر ١٦٧٥ أنه استخدم الصيغة للمرة الأولى، مُعطيًا القاعدة لاشتقاق ناتج ما من الدالة. وهي القاعدة التي تحمل اسمه حتى الآن. وفي خريف عام ١٦٧٦، توصل إلى مشتقة ؛ حيث يكون رقمًا صحيحًا أو كسريًّا.

أرسل إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) — عن طريق أولدنبرج — رسالة إلى لايبنتز. ووجد فيها لايبنتز عدة نتائج لكن دون أن يوضح فيها كيف توصل إليها. كان هذا النوع من التحدي شائعًا في ذلك العصر بين علماء الرياضيات. فأجابه لايبنتز، مدركًا أنه لا بد له من نشر نتائجه بأسرع وقت ممكن. كان لايبنتز يرغب في البقاء في باريس كعضو أجنبي بأكاديمية العلوم، لكنه لم يتلق أي دعوة منها؛ لأن الأكاديمية كانت تعتبر أن لديها ما يكفي من الأعضاء الأجانب. ومن ثم، قبل منصب أمين المكتبة والمستشار الذي عرضه عليه دوق هانوفر، يوهان فريدريش (١٦٢٥–١٦٧٩). وغادر باريس في أكتوبر عام ١٦٧٦ متجهًا إلى هانوفر بعد أن مر بلندن وهولندا. وظل هناك حتى وفاته. في الرابع والعشرين من أكتوبر ١٦٧٦، أرسل نيوتن خطابًا ثانيًا إلى لايبنتز لكنه لم يصله إلا في يونيو ١٦٧٧ أثناء وجوده في هانوفر. ونظرًا للمدة الطويلة بين إرساله للخطاب وتلقيه الرد من لايبنتز، ظن نيوتن أن لايبنتز أراد أن يستولي على نتائجه. وفي رده، أعطى لايبنتز تفاصيل أكثر حول مبادئ حساب التفاضل، بما فيها قاعدة اشتقاق دالة من دالة. لم يقدم لايبنتز حلًّا لمشكلة جديدة كما أشار نيوتن، لكن كانت طريقته أمرًا حيويًّا في تطوير التحليل الرياضي.

كما بدأ في عدة مشروعات حول صرف المياه في مناجم هارز، محاولًا استغلال قوة الرياح والماء لتشغيل المضخات. إلا أن المشروع لم يحرز أي تقدم، وبالفعل توقف بعد وفاة الدوق ومجيء أخيه من بعده في عام ١٦٨٠. إلا أن لايبنتز يظل هو أول من درس الجيولوجيا استنادًا إلى الملاحظات التي سجلها أثناء عمله بهارز. وصاغ افتراضية تقول إن الأرض كانت في الأصل كرة من النار. واستكمل أعماله في مجال الرياضيات، وخاصة تطوير نظم الترقيم المزدوج بمناسبة انتخابه بأكاديمية العلوم بباريس في عام ١٧٠١. وكان له عمل هام آخر يدور حول المحددات التي تظهر أثناء حل بعض أنظمة المعادلات الخطية.

كما نشر أعماله في مجال الميتافيزيقا مثل «تأملات في المعرفة، حقائق وأفكار» و«خطاب في الميتافيزيقا». وأراد أن يعيد التفكير إلى مبادئ علم الجبر، مُستبقًا بذلك أعمال عالم المنطق الإنجليزي جورج بوول (١٨١٥–١٨٦٤). هذا إلى جانب نشره لأعمال تاريخية حول أسرة جيلف، بما فيها منزل برنسويك. في عام ١٦٨٨، تم نشر تفاصيل عمله حول حساب التفاضل في جريدة «أكتا أيروديتوروم» تحت عنوان «طريقة جديدة لحساب الحد الأقصى والأدنى» … لكن المقال لم يكن يتضمن سوى نتائج دون إثبات واحد، مما دعا جاكوب برنولي (١٦٥٤–١٧٠٥) إلى القول إن المقال كان أقرب إلى اللغز منه إلى التفسير. وفي نفس الجريدة، نشر لايبنتز في عام ١٦٨٦ مقالًا حول حساب التكامل. وفي العام التالي، ظهر كتاب نيوتن «الفلسفة الطبيعية ومبادئ الرياضيات». كان نيوتن قد اكتشف في عام ١٦٧١، طريقة حساب التفاضل fluxions، لكنه لم ينشرها على الفور. مما أسفر عن جدل بينه وبين لايبنتز.

كان للايبنتز أعمال في مجال الديناميكا. كما انتقد أفكار رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠)، وأراد أن يفهم بالفعل ماهية الطاقة الحركية والطاقة الكامنة والحركة. ولقد تطرق إلى هذا الموضوع عدة مرات، ولا سيما أثناء إقامته بروما؛ حيث تم اختياره عضوًا بالأكاديمية الباباوية للعلوم. وهناك قرأ أيضًا كتاب نيوتن، وكتب بحثًا حول الديناميكا بأسلوب مشابه. كما بذل لايبنتز جهودًا كبيرة في تطوير المجتمعات العلمية والأكاديميات: في برلين ودرسدن وفيينا وسان بطرسبرج.

وطوال حياته، كان للايبنتز مراسلات زاخرة مع أكثر من ستمائة شخصية. وفي عام ١٧١٠، نشر عملًا فلسفيًّا «ثيوديسيه» وفيه عالج قضية وجود الشيطان في عالم من خلق إله خيِّر. ووفقًا له، فالكون لا بد من أن يكون غير كامل؛ لأنه لو كان كاملًا لما أمكن تمييزه عن الله. كان العالم هو أفضل ما يمكن دون أن يبلغ الكمال. وبالطبع، كانت هناك كوارث طبيعية تقتل الأبرياء، لكن القضاء على هذه الكوارث الطبيعية قد يؤدي إلى تغيير قوانين الطبيعة؛ مما سيؤدي إلى وضع أكثر سوءًا. ولقد تعمق بشكل أكبر في هذه الموضوعات في كتابه «مونادولوجيا» في عام ١٧١٤.

ولقد غلب الخلاف بينه وبين نيوتن على أعماله الرياضية في سنواته الأخيرة، خاصة ما يتعلق بأسبقية اكتشاف حساب التكامل والتفاضل. في عام ١٧١١، اتهمه جون كيل (١٦٧١–١٧٢١) بالسرقة الأدبية في مقال بجريدة «صفقات المجتمع الملكي بلندن». وطلب لايبنتز سحب المقال، لكن كيل أجاب بأن هذه الفكرة جاءته من الخطابين اللذين أرسلهما نيوتن. وكتب لايبنتز من جديد للجمعية الملكية، وتم تخصيص لجنة لبحث هذه المسألة، لكن لم يُطلب من لايبنتز أن يروي قصته للوقائع، بل قام نيوتن نفسه بكتابة تقرير اللجنة، وبالطبع قطع بأن العالم الإنجليزي معه الحق. ونُشر التقرير في مطلع عام ١٧١٣ تحت عنوان «كوميرسيوم أبيستوليسيوم». ولم يعرف لايبنتز عنه شيئًا إلا في خريف عام ١٧١٤. وكان رده عبارة عن رسالة هجاء غير موقعة «كارتا فولانز» جاء فيها أن نيوتن لم يفهم شيئًا من المشتقات الأولى والثانية. ورد كيل على هذا الهجاء، إلا أن لايبنتز رفض الاستمرار في هذا الصراع مع شخص يعتبره أحمق. وانتهى الأمر بأن كتب إليه نيوتن مباشرة، ورد عليه لايبنتز بإعطائه وصفًا تفصيليًّا لاكتشافه لحساب التفاضل.

وتوفي لايبنتز في الرابع عشر من نوفمبر ١٧١٦ بهانوفر ودُفن بكنيسة نيوستادير كريش الصغيرة.

(٣٥) بول ليفي

ولد بول بيير ليفي بباريس في الخامس عشر من سبتمبر ١٨٨٦. وكانت عائلته تضم العديد من علماء الرياضيات. التحق بثانوية سان لويس؛ حيث أظهر نبوغًا ليس في الرياضيات وحسب، وإنما حصل أيضًا على جوائز في اللغة اليونانية والفيزياء والكيمياء. وكان الأول في امتحان القبول بالمدرسة الطبيعية العليا والثاني في امتحان كلية الهندسة. واختار كلية الهندسة. ولقد نشر أول مقالاته قبل حتى أن ينهي دراسته هناك في عام ١٩٠٥. وكان الأول على دفعته عند تخرجه في الكلية. وخلال عام أنهى خدمته العسكرية، ثم التحق بكلية المناجم في عام ١٩٠٧. وفي نفس الوقت، تابع محاضرات الرياضيات لإيميل بيكارد (١٨٥٦–١٩٤١) وجاستون داربو (١٨٤٢–١٩١٧) بجامعة السوربون، إلى جانب محاضرات جورج همبرت (١٨٥٩–١٩٢١) وجاك هادامار (١٨٦٥–١٩٦٣) بكلية فرنسا.

كان هادامار صاحب الفضل في توجيه أبحاث ليفي، الذي عمل على التحليل الوظيفي وحصل على الدكتوراه في العلوم عام ١٩١٢ أمام لجنة مكونة من بيكارد وهادامار وهنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢). وفي عام ١٩١٣، أصبح أستاذًا بكلية المناجم بباريس. خلال الحرب العالمية الأولى، خدم في المدفعية، وهناك استخدم قدراته الرياضية في تطوير الدفاع الجوي. كان عالم الرياضيات الشاب رينيه يوجين جاتو (١٨٨٩–١٩١٤) قد قُتل في بداية الحرب، ومن ثم طلب هادامار من ليفي أن يعد أعمال جاتو بهدف طبعها. وبالفعل نفذ ما طلبه هادامار، لكنه طور أفكاره الخاصة حول هذا الموضوع ونشر هذه الأعمال في عام ١٩١٩. وفي العام ذاته، ألقى ثلاث محاضرات بكلية الهندسة حول حساب الاحتمالات ودور قوانين جاوس في نظرية الأخطاء. لم يكن هناك في ذلك الوقت نظرية رياضية للاحتمالات، وإنما مجموعة من المسائل الصغيرة. ويمكن القول إن ليفي هو صاحب أول نظرية حديثة للاحتمالات استخدم فيها كافة موارد التحليل الرياضي. كما درس — على وجه الخصوص — قانون الحركة البراونية.
تم تعيين ليفي أستاذًا للتحليل الرياضي بكلية الهندسة في عام ١٩٢٠. وظل في هذا المنصب حتى تقاعده في عام ١٩٥٩. وكان له أعمال حول مختلف القضايا الرياضية مثل المعادلات ذات المشتقات الجزئية وتحويل لابلاس والمتواليات. وفي عام ١٩٦٤، تم انتخابه بأكاديمية العلوم. ولقد تزوجت ابنته ماري-هيلين من لوران شوارتز (١٩١٥–٢٠٠٢).

توفي ليفي في باريس في الخامس عشر من ديسمبر ١٩٧١.

(٣٦) أوتو لوفي

ولد أوتو لوفي بفرانكفورت على نهر الماين في الثالث من يونيو ١٨٧٣. كان والده يدعى جاكوب لوفي ويعمل تاجرًا، ووالدته آنا ويلستاتير. بعد أن أنهى دراسته بالمدرسة الثانوية بمدينته، التحق بكلية الطب بجامعتي ميونيخ وستراسبورج (التي كانت تتبع ألمانيا في ذلك الوقت). وإلى جانب محاضرات التشريح لجوستاف ألبرت شوالبي (١٨٤٤–١٩١٦) — التي تابعها لوفي باهتمام — جذبته أيضًا محاضرات كلية الفلسفة. ولم يبدأ في الاستعداد بجدية لاختباراته قبل صيف عام ١٨٩٣. إلا أن لامبالاته بمجال الطب تحولت فجأة إلى اهتمام شديد بحلول خريف عام ١٨٩٤.

في عام ١٨٩٦، حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة ستراسبورج تحت إشراف أوسوالد شميدلبرج (١٨٣٨–١٩٢١) — الذي يعد رائد علم الصيدلة. كان لوفي يتابع أيضًا محاضرات برنارد نونين (١٨٣٩–١٩٢٥) — الطبيب الباثولوجي التجريبي المعروف، وأيضًا محاضرات أوسكار مينكوفسكي (١٨٥٨–١٩٣١) وأدولف مانجوس-ليفي (١٨٦٥–١٩٥٥). ثم انتظم في محاضرات الكيمياء التحليلية غير العضوية لمارتن فريند (١٨٦٣–١٩٢٠) بفرانكفورت. ثم عمل عدة أشهر بمعهد الكيمياء الحيوية لفرانز هوفميستر (١٨٥٠–١٩٢٢) بستراسبورج. وفي عامَي ١٨٩٧-١٨٩٨، أصبح المساعد الخاص بكارل هاركو فون نوردن (١٨٥٨–١٩٤٤) بمستشفى فرانكفورت. وبعد أن أدرك مدى ارتفاع معدل الوفيات بسبب مرض الدرن والالتهاب الرئوي بسبب عدم توافر العلاج، قرر أن يصبح طبيبًا.

في عام ١٨٩٨، أصبح لوفي مساعدًا لهانز هورست ماير (١٨٥٣–١٩٣٩) — الصيدلي الشهير — بجامعة ماربورج أن دير لاهن. ودرس الاستقلاب، وحصل على منصب أستاذ في عام ١٩٠٠. وبعد عامين، نشر مقالًا حول تركيب البروتينات في جسم الحيوان، وأثبت أن الحيوانات تعيد تكوين البروتينات في أجسامها بفضل الأحماض الأمينية، وكان ذلك بمنزلة اكتشاف هام في علم التغذية. وفي نفس العام، بدأ بكتابة أول سلسلة من مقالاته حول إسهام وظائف الكلى في الفسيولوجيا وعلم الصيدلة. وفي عام ١٩٠٢، قضى عدة أشهر في معمل إرنست هنري ستارلينج (١٨٦٦–١٩٢٧) بلندن، وهناك عمل بالتعاون مع صهر ستارلينج، ويليام مادوك بايليس (١٨٦٠–١٩٢٤). كما قابل هناك أيضًا هنري هاليت دال (١٨٧٥–١٩٦٨) وظلا صديقين طوال حياتهما. وبعد عودته إلى ماربورج، استكمل دراساته حول الكلى وآليات عملها لإدرار البول.

في عام ١٩٠٥، عين أستاذًا مشاركًا بجامعة فيينا. كما أثبت أن تفضيل الفركتوز على الجلوكوز ليس هو السمة الخاصة فقط بالكلاب التي تم استئصال بنكرياسها، بل أيضًا تلك التي تُحرم من الجليكومين بأي طريقة أخرى، مثل التسمم بالفسفور على سبيل المثال. وبيَّن أن القلب — على عكس الكبد — لا يستطيع استخدام الفركتوز. وأخيرًا، اكتشف أن الحقن بالإبينفرين (الأدرينالين) لأرانب يكون كبدها خاليًا من الجليكومين عن طريق منعها من الطعام يعيد الجليكومين إلى المعدل الطبيعي. وكانت أبحاثه الأخرى — التي أجراها في فيينا مع ألفريد فرهوليتش (١٨٧١–١٩٥٣) — تدور حول الجهاز العصبي النباتي. ولقد نُشر مقاله الأشهر في هذا المجال في عام ١٩٠٥.

في عام ١٩٠٨، تزوج من جيدا جولدشميد، ابنة الدكتور جيدو جولدشميد (١٨٥٠–١٩١٥)، الذي أصبح لاحقًا أستاذًا للكيمياء بجامعة براغ ثم بجامعة فيينا. ورزقا بثلاثة أبناء: هانز وفيكتور وجيدو، وابنة واحدة تدعى آنا. في عام ١٩٠٩، حصل لوفي على كرسي الأستاذية في علم الصيدلة بجامعة جراتز. وهناك استثمر مواهبه كمعلم. ودرس الظروف المسئولة عن ارتفاع السكر في الدم بسبب الحقن بالإبينفرين. وفي عام ١٩٢١، اكتشف الانتقال الكيميائي للنبضات العصبية. وتكريمًا لأعماله حصل مناصفة — مع صديقه هنري هاليت دال (١٨٧٥–١٩٦٨) — على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام ١٩٣٦. كان قد أحدث تجديدًا شاملًا في المفاهيم المتعلقة بالجهاز العصبي السمبثاوي. واعتُقل عندما اجتاح الألمان النمسا في عام ١٩٣٨. وأُفرج عنه بعد أن أُجبر على تحويل أموال جائزة نوبل من بنك السويد بستوكهولم إلى بنك آخر تابع للنازيين.

قضى بعض الوقت أستاذًا زائرًا بجامعة ليبر ببروكسل وبمعهد نوفيلد لأكسفورد. وصل لوفي إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٤٠، واكتشف وجود معمل وودز هول الحيوي التابع للبحرية بماساتشوستس. وهناك عمل على دراسة الخلايا وبنيتها وطريقة عملها وعلاقاتها بعضها ببعض. ثم قبل منصب أستاذ البحث بعلم الصيدلة بكلية الطب بجامعة نيويورك ليتمكن من العمل في معمل جورج والاس. وظل محتفظًا بعلاقاته مع العديد من علماء الأحياء في العالم أجمع، وكان ذلك مصدر إلهام لعمله.

منذ طفولته، كان لوفي مفتونًا بالثقافة الكلاسيكية. وكان شديد الإعجاب بالموسيقى والعمارة والتصوير. وكان يحب التردد على المتاحف والمعارض.

أصبح لوفي مواطنًا أمريكيًّا في عام ١٩٤٦. وتوفي في الخامس والعشرين من ديسمبر ١٩٦١.

(٣٧) ديميتري إيفانوفيتش مندليف

ولد ديميتري إيفانوفيتش مندليف في عام ١٨٣٤، بتوبولسك بسيبيريا. كان الابن الأصغر لأسرة مكونة من سبعة عشر طفلًا. كان والده قد أصبح ضريرًا، ومن ثم تولت والدته مسئولية إدارة مصنع الزجاج الذي كانت تمتلكه الأسرة. ولقد نال مندليف معارفه العلمية الأولى بفضل احتكاكه بصانعي الزجاج. في عام ١٨٥٤، تجلى نبوغه للعيان — وهو لا يزال في العشرين من عمره — بفضل بحث مميز في الكيمياء عندما كان طالبًا بجامعة سان بطرسبرج. وفي العام التالي، كان الأول على دفعته عند تخرجه في معهد التربية. ثم أقام بهيدلبرج، وهناك ناقش رسالته حول التماثل الشكلي للبلورات تحت إشراف بنزن (١٨١١–١٨٩٩). وعُين أستاذًا بجامعة سيمفيروبول، ثم بجامعة أوديسا. وفي سن الثالثة والعشرين أصبح مسئولًا عن إلقاء محاضرات بجامعة سان بطرسبرج. في عام ١٨٦٤، نال منصب أستاذ التكنولوجيا الكيميائية، ثم في عام ١٨٦٧، منصب كرسي الأستاذية في الكيمياء غير العضوية. وفي العام التالي، شرع في كتابة «مبادئ الكيمياء». ولقد أصبح هذا الكتاب مرجعًا هامًّا وتُرجم إلى جميع اللغات، وفيه ورد الجدول الدوري الشهير الذي عُدل فيما بعد في عام ١٨٧١. كما تطرقت أبحاث مندليف إلى المحاليل المائية وقابلية الغازات للضغط وتمدد السوائل بالحرارة وطبيعة البترول. ولقد قضى بعض الوقت في بنسلفانيا والقوقاز ليدرس طبيعة آبار البترول، المورد الطبيعي الرئيسي للبلاد. في عام ١٨٩٠، ترك مندليف الجامعة بسبب انتمائه للحركة الليبرالية وأصبح المستشار العلمي للخدمات العسكرية الروسية. وبعد ثلاثة أعوام، عُين مديرًا لمكتب الأوزان والقياسات بسان بطرسبرج. ويبدو أنه كان في حاجة إلى صوت واحد فقط ليحصل على جائزة نوبل في عام ١٩٠٦. ولقد جاء تكريمه بعد وفاته بتسمية العنصر ذي الوزن الذري ١٠١ «مندليفيوم» المُكتشف في عام ١٩٥٥ على يد الأمريكي ألبرت جيورسو (المولود عام ١٩١٥) وزملائه.

وتوفي مندليف على إثر أزمة قلبية (أو بسبب الالتهاب الرئوي تبعًا لمصادر أخرى) بسان بطرسبرج في العشرين من يناير ١٩٠٧.

(٣٨) جاك مونو

ولد جاك لوسيان مونو في باريس في التاسع من فبراير ١٩١٠. وقضى سنواته الأولى في وسط فرنسا. كان والده رسامًا، وكان ذلك أمرًا غير معتاد في أسرة بروتستانتية مكونة من أطباء وقساوسة وموظفين ومعلمين. وكانت والدته أمريكية من ميلواكي من عائلة ذات أصول اسكتلندية، وكان ذلك أيضًا أمرًا غير مألوف بالنسبة لطبقة البورجوازيين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر. وفي المرحلة الثانوية، التحق بمدرسة كان الثانوية. وهناك يتذكر مونو — على وجه الخصوص — الأستاذ دور ديلا سوشير، معلم اللغة اليونانية ومؤسس متحف أنتيب. ويعود الفضل إلى والده — القارئ لأعمال داروين — في تنمية ميل مونو إلى علم الأحياء.

جاء مونو إلى باريس ليستكمل دراساته العليا في العلوم الطبيعية. ولقد أدرك لاحقًا أن هذه المحاضرات كانت متأخرة ما يقرب من عشرين عامًا. ولقد بدأ دراسة الأحياء على يد زملاء أكبر منه سنًّا مثل جورج تيسييه (١٩٠٠–١٩٧٢) وأندريه لووف (١٩٠٢–١٩٩٤) وبوريس إيفروسي (١٩٠١–١٩٧٩) ولويس رابكين (١٩٠٤–١٩٤٨). وحصل على درجة الماجستير في عام ١٩٣١ وناقش رسالته للدكتوراه في عام ١٩٤١. وبعد أن ألقى محاضرات في كلية العلوم في عام ١٩٣٤ وقضى بعض الوقت في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عام ١٩٣٦، عاد مونو ليعمل بمعهد باستير. وفي عام ١٩٥٤، تم تعيينه مديرًا لقسم الكيمياء الحيوية الخلوية، ثم أستاذًا لكيمياء الاستقلاب بجامعة السوربون في عام ١٩٥٩. وفي عام ١٩٦٥، حصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب مناصفة مع فرانسوا جاكوب (المولود عام ١٩٢٠) وأندريه لووف. وفي عام ١٩٦٧، أصبح أستاذًا بكلية فرنسا ومديرًا لمعهد باستير في عام ١٩٧١.

وفي عام ١٩٣٨، تزوج من عالمة الآثار والمستشرقة أوديت بروهل، التي أصبحت أمينة متحف جيميه، ورزقا بتوءمين. كانت اهتمامات مونو تتوزع ما بين شتى مناحي الفنون والعلوم. فكانت تسليته هي سماع الموسيقى والإبحار. ويبدو أن مونو كان يمتلك مستوى تركيز أعلى من المتوسط مما يفسر تشتته المتكرر. فلم يكن من النادر أن يرفع سماعة الهاتف ليجيب على من يطرق الباب ثم يغلق سريعًا. ذات يوم حضر إلى معهد باستير مستغرقًا في الضحك: أحضرته زوجته بالسيارة، وبعد أن نزل مد يده ليدفع لها أجرة توصيله. وهناك العديد من القصص حول شرود العلماء.

توفي جاك مونو في عام ١٩٧٦.

(٣٩) شارل نيكول

ولد شارل جول هنري نيكول بمدينة روان في الحادي والعشرين من سبتمبر ١٨٦٦. كان والده يوجين نيكول طبيبًا وأستاذًا للتاريخ الطبيعي بمدرسة العلوم والفنون بالمدينة. لكن توفي والده المفتون بعمله في عمر السابعة والأربعين. وكانت والدته — على الرغم من تفانيها — صارمة ومتحفظة. التحق بمدرسة كورني الثانوية بروان، كان قارئًا نهمًا لأعمال جول فيرن (١٨٢٨–١٩٠٥). كانت لديه طموحات أدبية، إلا أنه التحق في سن الثامنة عشرة بكلية الطب إرضاءً لوالده. وفي العام الرابع من دراسته، سافر إلى باريس لينضم إلى شقيقه الأكبر موريس في عام الامتياز. ولقد أصبح موريس مديرًا لمعهد علم البكتيريا بالقسطنطينية وأستاذًا بمعهد باستير بباريس. ومع بداية عام الامتياز، استكمل نيكول دراسته ليصبح عالمًا في الميكروبيولوجي بمعهد باستير تحت إشراف إيلي ميتشنيكوف (١٨٤٥–١٩١٦) — الحاصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعام ١٩٠٨ عن أعماله حول ظاهرة البلعمة (ابتلاع البلاعم للأجسام الغريبة والقضاء عليها) والدور المناعي للبلعمات الكبيرة — وإيميل روو (١٨٥٣–١٩٣٣)، صاحب اكتشاف علاج الدفتيريا عن طريق ترياق يستخرج من الخيل.

بعد مناقشة رسالته حول إصابة الزهري الأولية وعصية دوكري، عاد نيكول إلى روان في أبريل ١٨٩٤ كأستاذ بديل بكلية الطب وكطبيب مساعد بالمستشفيات. وفي عام ١٨٩٥، تزوج من آلين آفيس، وأنجبا ولدًا وبنتًا أصبحا طبيبين بعد ذلك. لكن بسبب إصابته تدريجيًّا بالصمم، اتجه نيكول إلى العمل داخل المعمل واهتم بعلم الأمراض الجلدية.

ولقد وضع نيكول في روان نظامًا لتعليم الميكروبيولوجي، كما طور معملًا لدراسة علم البكتيريا وأصبح مديرًا له. ونشر التشخيص البكتيري للدفتيريا والتشخيص المناعي للتيفوئيد بمجرد أن عدله فرناند فيدال (١٨٦٢–١٩٢٩). وشارك في الحملة للقضاء على الدرن. وتمكن من إنشاء مصحة بأويسيل. وعلى الرغم من صدمة الرأي العام البرجوازي والإدارة الطبية للمستشفيات التي كانت تعامل فتيات الليل بطريقة غير إنسانية، عكف نيكول على اكتشاف طريقة لعلاج داء الزهري. وفي نهاية عام ١٨٩٤، كان قد ضمن إنتاج مصل لعلاج الديفتيريا في روان، ولم يكن روو يقدر على تلبية كل الطلبات. وأراد نيكول إنشاء وحدة معالجة بالأمصال يُلحق بها مركز أبحاث. إلا أن كل هذه الأنشطة جلبت له عداء الموظفين المحليين المحافظين الذين كان ينافسهم. وتضاعفت أمامه العقبات، على الرغم من كونه أستاذ كرسي منذ عام ١٩٠٠. وعندها، طُلب منه السفر لإدارة معهد باستير في تونس العاصمة الذي تأسس في عام ١٨٩٤ وكان يديره أدريان لوار (١٨٦٢–١٩٤١) ابن أخي لويس باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) قبل أن يتقدم باستقالته. وبعد عام من التردد، انتهى بقبول المنصب — بتشجيع من إيميل روو — غادر روان مع أسرته في نوفمبر ١٩٠٢. وظل هناك حتى وفاته.

كان يصارع في كل الساحات: البحث والإدارة والتمويل والتعليم والتربية الصحية والوقاية. ووضع خططًا لمعهد جديد باسم باستير افتتح في مايو ١٩٠٥. كان يكرس جل عمله للأمراض المعدية مثل التيفوس بالطبع، وأيضًا الملاريا وأمراض الطحال وداء الليشمانيات الجلدي والحمى والبرص والرمد الحبيبي والحمى المتكررة. وفي عام ١٩٠٩، أثبت أن الحصبة تنتج عن الإصابة بفيروس. كما طور أوائل العلاجات للتيفوس والحصبة عن طريق مصل للوقاية. كان التكريم يقترب.

في عام ١٩٢٠، دخل أكاديمية الطب. وفي عام ١٩٢٧، حصل على جائزة أوزوريس من معهد فرنسا، ثم جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب في أكتوبر ١٩٢٨. في عام ١٩٢٩، تم ترشيحه بأكاديمية العلوم. وحصل في عام ١٩٣٢ على كرسي الأستاذية في الطب والفسيولوجيا خلفًا لأرسين دارسونفال (١٨٥١–١٩٤٠) ولقد شغل كلود برنارد (١٨١٣–١٨٧٨) سابقًا هذا المنصب.

وبتشجيع من صديقه الكاتب جورج دوهامل (١٨٨٤–١٩٦٦)، قرر نيكول تأليف كتاب حول الأمراض المعدية. ولقد أتاحت له محاضراته الفرصة للتعريف بأفكاره حول البحث العلمي للباحثين، وأيضًا حول مصير الأمراض المعدية وحول التجربة في الطب ومسئوليات الطبيب. لكن لشدة مرضه، لم يستطع إكمال محاضراته وتوفي في تونس في الثامن والعشرين من فبراير ١٩٣٦.

«لا يمكننا معرفة العالم، ما لم نعرف الإنسان» هكذا كتب نيكول. لم يتخلَّ أبدًا عن طموحاته الأدبية ونجح في نشر رواياته وقصصه. تم اعتبار أسلوبه قديمًا على طريقة الكاتب بارباي دورفيلي. ووصفه جان روستاند (١٨٩٤–١٩٧٧) كشاعر وروائي واقعي، رجل الأحلام ورجل الواقع.

(٤٠) جوزيف نيبس

ولد جوزيف نيبس في عام ١٧٦٥ بشالون على نهر الساون. ولم يحظ بلقب نيسيفور إلا لاحقًا. كان والده محاميًا ومستشارًا للملك ومحصل الإيداعات بالمدينة ومدير أملاك دوق روهان. وكان لنيبس أخت وأخوان. التحق في عام ١٧٨٦ بمدرسة أوراتوريان دانجير وشغف بالفيزياء والكيمياء. لكنه ترك المدرسة في عام ١٧٨٨ لينضم إلى الحرس الوطني لشالون. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يوقع خطاباته باسم نيسيفور. في عام ١٧٩٢، التحق بالجيش الثوري وخرج في حملة إلى جنوب فرنسا وسردينيا. في العاشر من مايو ١٧٩٢، أصبح ملازمًا، ثم تمت ترقيته إلى ملازم أول في السادس من مايو ١٧٩٣. لكنه اضطر إلى الخروج من الجيش بسبب إصابته بالتيفوس في عام ١٧٩٤، ومضى يقيم في نيس. تزوج في الرابع من أغسطس ١٧٩٤ من آنييس روميرو، ابنة صاحب المنزل الذي يقيم فيه، التي اعتنت به بتفانٍ أثناء مرضه. وذهبا ليقيما في قرية سان روش القريبة من نيس، وهناك انضم إليهما كلود شقيقه الأكبر. وحظي الشقيقان بحياة ميسرة واجتماعية وعاشا اعتمادًا على الإيرادات السنوية التي تأتيهما على الرغم من ضياع الكثير من ممتلكاتهما بسبب الثورة الفرنسية. في الخامس من أبريل ١٧٩٥ وُلد ابنه إيزيدور.

وكما سنرى، كان نيبس — على غرار توماس ألفا إديسون (١٨٤٧–١٩٣١) دائم الاختراع. ووفقًا لخطاب اكتُشِف في الاتحاد السوفييتي عام ١٩٤٦، فإن نيبس اخترع مع شقيقه كلود لأول مرة جهازًا للتصوير الفوتوغرافي أثناء رحلتهما إلى كالياري بسردينيا. ثم عند عودتهما إلى نيس، عكف الشقيقان على تطوير مبدأ جديد لمحرك يقوم على تمدد الهواء أثناء الانفجار. وعاد نيبس إلى شالون في عام ١٨٠١ ليدير ميراث العائلة. ولقد حظي الشقيقان ببراءة اختراع مدة عشر سنوات من نابليون عن محركهما الذي أسمياه بيريلوفور (من الأصل اليوناني بيروس أي النار، وأيلوس أي الهواء أو الرياح، وفورين أي يحمل). وكان هذا المحرك هو أول محرك في العالم يعمل بالاحتراق الداخلي. ولقد استطاع نموذج مصغر لمركب طوله متران أن يسير ضد التيار في ساون بفضل هذا المحرك. وبين عامي ١٨٠٧ و١٨٠٩، طور نيبس مضخة لاستبدال آلة مارلي التي كانت تزود قصر فرساي بالمياه. في عام ١٨١١، اهتم بزراعة نوع من النباتات العشبية المستخدم في الصباغة بدلًا من شجرة النيلة التي لم تعد متوافرة بسبب الحصار القاري. وسافر شقيقه إلى إنجلترا في عام ١٨١٧ ليستغل براءة اختراع المحرك هناك.
كان نيبس منبهرًا بفكرة الطباعة بالحفر على الحجر، ودرس جيدًا أعمال ألويز سينيفيلدر (١٧٧١–١٨٣٤)، إلا أنه لم يكن يجيد الرسم، وكان يستعين بابنه إيزيدور لهذا الغرض. وعندما تم استدعاء ابنه للجيش (للمشاركة في معركة ووترلو)، كان عليه إيجاد طريقة أخرى للرسم على الحجارة. وهكذا، أثناء قيامه بتعديل شكل بدائي من التصوير الليثوجرافي، توصل إلى اختراع جهاز أسماه الهليوجراف. وسافر إلى إنجلترا للترويج لاختراعه متوجهًا إلى الجمعية الملكية. لكنه مُني بالفشل؛ لأن تلك الجمعية لم تكن تهتم بأي اكتشاف يصر صاحبه على الاحتفاظ بسره.

في الفترة من ١٨١٦ إلى ١٨١٨، انخرط نيبس في أبحاث حول تثبيت الصور داخل الغرف المظلمة. وفي عام ١٨١٨، نجح في تثبيت أول صورة له خلال ثلاثة أشهر. ثم اخترع دراجة ولها مقعد يمكن ضبطه. وفي عام ١٨٢٢، نجح في نقل صورة شخصية للبابا بيوس السابع (١٧٤٠–١٨٢٣) بفعل الضوء وحده على لوح من الزجاج المصبوغ بالقار. كما توصل إلى إظهار صور أخرى على ألواح مطلية بقار اليهودية. وفي عام ١٨٢٤، تمكن من الحصول على صور فوتوغرافية على ألواح ليثوجرافية وأسماها «وجهات نظر من الغرفة المظلمة». وكان تظهيرها يستغرق خمسة أيام. في عام ١٨٢٥، خاطب نيبس عالِمَي البصريات فنسنت شوفالييه (١٧٧١–١٨٤١) وابنه شارل (١٨٠٤–١٨٥٩) اللذين زوداه بكل ما يلزم لتطوير الغرفة المظلمة. وخلال الأعوام التالية، حاول حفر الصور الناتجة على القار على مختلف الأسطح مثل النحاس والقصدير أو الفضة المصقولة. واستدعى حفارًا باريسيًّا يدعى أوجستين فرانسوا لوميتر (١٧٩٧–١٨٧٠) ليستشيره في أعماله وليعاونه في طباعة الألواح المنقوشة على الورق. وأخيرًا، تمكن في عام ١٨٢٧ من الحصول على «وجهات نظر من الغرفة المظلمة» مطبوعة على القصدير غير المحفور. وكان هذا هو النموذج الوحيد المحفوظ لصورة توصل إليها نيبس في هذه المرحلة من أعماله.

في مجال آخر، توصل في عام ١٨٢٦ إلى إنتاج ألياف للنسيج من نبات الصقلاب السوري. وفي عام ١٨٢٧، اضطر إلى السفر إلى إنجلترا لأخيه الذي مات بعد إصابته بالجنون في كيو بعد أن ظل يبحث دون جدوى عن طريقة لإنشاء آلية للحركة الدائمة خلال أعوامه الأخيرة. وفي عام ١٨٢٩، لجأ — بسبب الديون — إلى مشاركة لويس جاك ماندي داجير (١٧٨٧–١٨٥١). لكنهما فشلا في مساعيهما لتبييض القار الغامق في سبيل الحصول مباشرة على الصور الإيجابية. في يونيو ١٨٣٠، عملا معًا مدة أسبوعين بسان لوو ديفارين. وفي العام التالي، حاولا استخدام كافة أشكال الأصماغ (المثبتات) لكن دون نتيجة إيجابية. ولم يتوصلا إلى صور في أقل من ثماني ساعات من التظهير إلا في يونيو ١٨٣٢ باستخدام باقي تقطير ماء اللافندر كمنتج حساس للضوء. وأطلقا على طريقتهما الجديدة اسم «فيزوتوتيب». وفي نوفمبر ١٨٣٢، عاد داجير ثانية إلى سان لوو ديفارين للعمل مع نيبس حول تطوير تلك الطريقة الجديدة.

توفي نيبس فجأة في الخامس من يوليو ١٨٣٣. ولم يُعرف أي اختراع من اختراعاته. إلا أنه يمكن القول إن معركة ووترلو قد ساهمت في اختراع التصوير الفوتوغرافي!

(٤١) هانز كريستيان أورستيد

ولد هانز كريستيان أورستيد في قرية دنماركية صغيرة تدعى لانجلاند في الرابع عشر من أغسطس ١٧٧٧. كان والده يدعى سورن كريستيان أورستيد وكان صيدليًّا، ووالدته تدعى كارين هيرمانزن. ولقد أرسلا ابنهما وشقيقه إلى ألمانيا ليتلقيا تعليمهما هناك؛ لأنهما لم يكن لديهما الوقت الكافي ليخصصاه لهما. ولقد درس هناك الولدان اللغة الألمانية وقواعد اللاتينية والفرنسية وأيضًا مبادئ الرياضيات. وعاد أورستيد ليعمل في صيدلية والده بمجرد بلوغه عامه الحادي عشر. لم يلتحق أورستيد وأخوه بأي مدرسة، لكنهما اجتازا بنجاح في عام ١٧٩٤ امتحان القبول بجامعة كوبنهاجن. وهناك درس أورستيد الصيدلة والفلك والكيمياء والرياضيات. وحصل باقتدار على شهادة في الصيدلة في عام ١٧٩٧. إلا أنه في ذلك الوقت، كانت الدراسة الجامعية تشمل مجالات أوسع من تلك التي تغطيها الآن، ومن ثم حصل أورستيد على الجائزة الأولى عن بحث عن حدود الشعر والنثر. كما تلقى محاضرات في الفلسفة، وتأثر بشكل خاص بأفكار إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤). وفي عام ١٧٩٩، حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالة بعنوان: «حول شكل للميتافيزيقا الأساسية للطبيعة الخارجية». وفيها طور فكرة كانط حول أن أي عقيدة عقلانية للطبيعة لا يمكن أن تسمى علمًا طبيعيًّا إلا إذا كانت القوانين الطبيعية التي تقوم عليها معروفة سابقًا ولا تأتي فقط من التجربة.

قضى أورستيد عام ١٨٠٠ يلقي محاضرات بالجامعة ويدير صيدلية. ثم بدأ يسافر بداية إلى ألمانيا؛ حيث التقى الفلاسفة يوهان جوتليب فيخته (١٧٦٢–١٨١٤) وفريدريش فون شليجل (١٧٧٢–١٨٢٩) ببرلين، ثم فريدريش فيلهلم جوزيف فون شيلينج (١٧٧٥–١٨٥٤) والفيزيائي والكيميائي يوهان فيلهلم ريتر (١٧٧٦–١٨١٠) بفيينا. وبعدها، سافر إلى باريس وهولندا. وفي فرنسا، كان لقاؤه مع جورج كوفييه (١٧٦٩–١٨٣٢) وكلود لويس بيرتهولت (١٧٤٨–١٨٢٢). وعند عودته إلى الدنمارك في عام ١٨٠٤، حاول — لكن دون جدوى — أن يحصل على منصب في الجامعة. فبدأ يلقي محاضرات عامة، لكن الحضور كان بأجر. وبالطبع نتيجة لكثرة المترددين على محاضراته، عُرض عليه أخيرًا منصب جامعي، لكنه لم يصبح أستاذًا إلا في عام ١٨١٧.

كانت الاكتشافات الأولى للكهرباء قد تمت في القرن الثامن عشر باكتشاف الكهرباء الاستاتيكية للأجسام المنعزلة. ثم كان اكتشاف لويجي جالفاني (١٧٣٧–١٧٩٨) بالصدفة للكهرباء الحيوانية التي تتسبب في تيار مستمر. وفي عام ١٨٠٠، اخترع أليساندرو فولتا (١٧٤٥–١٨٢٧) العمود الكهربائي. وعلى الفور اهتم أورستيد بهذا المجال وطور بطارية كهربائية جديدة، وعرض اختراعه أثناء رحلة بحرية قام بها إلى ألمانيا، واكتشف حينها أن مرور الكهرباء داخل الماء يحلله إلى أكسجين وهيدروجين، وبدا أنه تم إثبات وجود صلة بين القوة الكهربائية والألفة الكيميائية. وتساءل ريتر صديق أورستيد كيف يمكن لهذين العنصرين المكونين للماء أن يتحركا بصورة غير مرئية ثم يظهرا في أقطاب متضادة. ورأى في هذه التجربة الدليل على الفلسفة الطبيعية لشيلينج. وكان ريتر هو من جذب انتباه أورستيد إلى العلاقات بين الكهرباء والمغناطيسية. كنا نعرف بالفعل تأثيرات الكهرباء على المغناطيسية، وكان ريتر يعتبرهما تعبيرين لنفس القوة الطبيعية. في عام ١٨٠٢، اعتقد أندريه ماري أمبير (١٧٧٥–١٨٣٦) في فرنسا أن في إمكانه إثبات أن الأمر عبارة عن سائلين مختلفين منفصلين أحدهما عن الآخر. بينما — بعد مرور خمسة أعوام — أكد توماس يونج (١٧٧٣–١٨٢٩) في إنجلترا أنه لا يوجد سبب يدعو لتخيل وجود صلة مباشرة بين المغناطيسية والكهرباء.

إلا أنه في الفترة من ١٨٠٧ إلى ١٨١٢ تحولت اهتمامات أورستيد إلى الكيمياء. ولأنه متأثر بكانط وشيلينج، فقد أراد تعديل النظرية الكيميائية لإرجاع أي فعل كيميائي إلى قوى أولية. كانت وحدة الطبيعة تضمن وجود مثل هذه القوى، ومن ثم اقتنع أورستيد بأن الكهرباء الاستاتيكية والجلفنة والمغناطيسية والعلاقات الكيميائية كلها متصلة بعضها ببعض. فوفقًا له، يوجد — في الكيمياء — قوتان أساسيتان؛ هما الأكسدة والاحتراق.

إلا أن أعمال أورستيد التجريبية خلال الأعوام التالية حولت تفكيره بوضوح عن أفكار معلمه شيلينج. ولقد رأينا أن اكتشاف الكهرومغناطيسية تم «مباشرة» أمام طلابه أثناء محاضرة في عام ١٨٢٠، مما يعد سابقة وحيدة من نوعها في تاريخ العلوم. كان من الغريب أن أورستيد أمضى ثلاثة أشهر بعد ذلك قبل أن يقرر استئناف التجربة، وقام بتوضيح الطبيعة المحددة للأثر الذي يتركه سلك كهربائي على بوصلة، فيتحرك موضع المؤشر ليصبح عموديًّا على السلك. وفكر أورستيد في البداية أن الأمر لا يعدو كونه نوعًا من الجاذبية، إلا أن فكرة تحريك السلك من اليمين إلى اليسار لم يكن لها أي تأثير؛ إذن فلا يمكن أن تكون قوة جاذبية بين السلك وأحد القطبين؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لتبع القطب المنجذب السلك. يعمل التفاعل بين الكهرباء والمغناطيسية على شكل دوائر حول السلك. ولقد أعطت قاعدة اليد اليمنى المعروفة فكرة العلاقة بين اتجاه التيار الكهربائي وخطوط القوى المغناطيسية. ولقد فتح اكتشاف أورستيد آفاقًا جديدة للبحث. وتطورت الكهرومغناطيسية بسرعة. ولقد صاغ مايكل فاراداي (١٧٩١–١٨٦٧) مبادئها. ولاحقًا، سيتم تحديد الضوء بواسطة انتشار الموجات الكهرومغناطيسية. ثم جاءت المعادلات التي صاغها جيمس كلارك ماكسويل (١٨٣١–١٨٧٩). وعلى سبيل المفارقة، كان ريتر بنفسه قد استشرف اكتشاف أورستيد، فكتب منذ عام ١٨٠٣ أن بعض الظواهر الكهربائية يمكن أن تحدث عندما يبلغ ميل الكسوف أقصى مداه. وخلال مسيرته المهنية، انخرط أورستيد في أبحاث أخرى حول قابلية الغازات للضغط. وكان آخر اكتشاف كبير لأورستيد هو عزل الألومنيوم. كان هذا المعدن معروفًا، لكن لم يتمكن أحد أبدًا من فصله. إلا أن الفضل في هذا العمل نُسب إلى فريدريش فوهلر (١٨٠٠–١٨٨٢)؛ لأنه استطاع أن ينتج الألومنيوم النقي بعد ثلاثة أعوام.

وطوال عمره، ظل أورستيد — كما رأينا — مهتمًّا بالفلسفة، أو بشكل عام بالآداب. وكان له تأثير كبير على الكتَّاب المعاصرين له مثل هانز كريستيان أندرسن (١٨٠٥–١٨٧٥) الذي كان يشجعه على كتابة قصصه القصيرة. كما ساهم في إثراء اللغة الدنماركية بالعديد من الكلمات الجديدة.

في نوفمبر ١٨٥٠، احتفلت الدنمارك بيوبيل أورستيد بالتعاون مع جامعة كوبنهاجن جاعلين اليوم عطلة رسمية.

وتوفي أورستيد في كوبنهاجن في التاسع من مارس ١٨٥١.

(٤٢) لويس باستير

ولد لويس باستير في السابع والعشرين من ديسمبر ١٨٢٢ في دوول بجورا؛ حيث كان والده يمتلك مدبغة، ثم انتقلت الأسرة إلى أربوا وهو في الخامسة من عمره، وهناك التحق بالمدرسة. في عام ١٨٣٩، التحق بالكلية الملكية في بيزانسون. كانت نتائجه متوسطة، ولم ينل سوى تقدير «متوسط» في الكيمياء في البكالوريا. وفي عام ١٨٤٣، كان رابع من يتم قبولهم بالمدرسة الطبيعية العليا بباريس.

وبعد حصوله على الإجازة في تدريس الفيزياء (كان الثالث على أربعة عشر متقدمًا تم قبول أربعة فقط منهم)، انضم باستير إلى فرق العمل بمعمل كريستوف فرانسوا ديلافوس (١٧٩٦–١٨٧٨) وبدأ عمله مع أوجست لوران (١٨٠٧–١٨٥٣) رائد النظرية الذرية في الكيمياء العضوية. وفي الثالث والعشرين من أغسطس ١٨٤٧، ناقش باستير رسالة في الفيزياء وأخرى في الكيمياء.

في عام ١٨٤٨، تم تعيينه أستاذًا للفيزياء بالكلية الملكية بديجون — المنصب الذي لم يشغله قط — ثم أصبح أستاذًا بديلًا للكيمياء بكلية العلوم بجامعة ستراسبورج. تزوج باستير في التاسع والعشرين من مايو ١٨٤٩ من ماري لوران — ابنة رئيس أكاديمية المدينة — وأنجبا خمسة أطفال.

في عام ١٨٥٤، أصبح أول عميد لكلية العلوم بجامعة ليل التي أُنشئت حديثًا. وبناءً على طلب لويس إيمانويل بيجوتيولي — رجل صناعة من ليل يعمل في صناعة السكر والكحوليات — بدأ باستير يجري أبحاثًا حول التخمر، وأثبت أن الفطريات كائنات حية وأنها هي المسئولة عن التخمر، وليس عن المنتجات المشتقة منه كما كان يعتقد العديد من الكيميائيين حينها، ثم طور طريقة للتصنيع تتيح تجنب المشاكل المتعلقة بالتخمر.

في عام ١٨٥٧، تم تعيينه إداريًّا بالمدرسة الطبيعية العليا وأيضًا مديرًا للدراسات العلمية. وأقام معمله في مخزن المدرسة، وعكف منذ ذلك الحين على دراسة أنواع التخمر اللبنية والكحولية.

ثم بدأ في دراسة موضوع التوالد التلقائي الذي أثار جدلًا، لم يكن باستير يعتقد في صحته؛ ومن ثم كان محط انتقاد مؤيدي تلك النظرية وخاصة فليكس أرشميدس بوشيه (١٨٠٠–١٨٧٢). ولقد قدم بوشيه — العالم الطبيعي من روان — بحثًا لأكاديمية العلوم في ديسمبر ١٨٥٨ حول نماذج لأجسام تولد تلقائيًّا في الهواء. وسرعان ما أجابه باستير متهمًا إياه بالخطأ. وعلى مدار ستة أعوام، تتابعت التجارب. مصطحبًا معه بالونات معقمة، ذهب باستير ومعه بعض الزملاء إلى شامونيكس عند بحر الجليد، وأثبت أنه وفقًا للارتفاع والمواقع، فإن الهواء لا يحتوي دائمًا على نفس الكمية من الجراثيم. إلا أن كل فريق رفض الاستماع إلى حجج الآخر. وفي السابع من أبريل ١٨٦٤، عرض باستير نتائجه أثناء مؤتمر ضخم في السوربون. ودحض نظرية التوالد التلقائي. وفي عام ١٨٦٢، تم انتخاب باستير عضوًا بأكاديمية العلوم. ثم أصبح سكرتيرها الدائم في عام ١٨٨٧، ثم سكرتيرًا دائمًا شرفيًّا في عام ١٨٨٩.

في عام ١٨٦٣، طلب نابليون الثالث من باستير دراسة أمراض النبيذ. فقام بتسخين النبيذ ليقتل أي جراثيم، وقضى من ثم على مشكلة حفظه ونقله. كان هذا ما يسمى «بالبسترة». إلا أنه تم اتهامه بالتسلط داخل المدرسة الطبيعية، واصطدم بزملائه. وأخيرًا تم إلغاء منصبه كمدير للدراسات العلمية. ثم أصبح أستاذًا في الجيولوجيا والفيزياء والكيمياء التطبيقية بكلية الفنون الجميلة، وأيضًا أستاذًا للكيمياء بجامعة السوربون في الفترة من ١٨٦٧ وحتى ١٨٧٥. في عام ١٨٦٨، أصيب بجلطة تسببت في إصابته بالشلل النصفي؛ مما تركه بيد مثنية ومنقبضة ومشية صعبة وبطيئة حتى وفاته. في عام ١٨٧٧، تطرق باستير إلى موضوع الأمراض المعدية بين الحيوانات؛ وعليه، سافر من يونيو ١٨٦٥ إلى آليس وقضى هناك أربعة أعوام لدراسة أمراض دودة القز.

وابتداءً من عام ١٨٧١، شرع في العمل حول تخمر الجعة، وتقدم بطلب براءة اختراع عن تصنيعه لجعة الرفانش. في عام ١٨٧٧، بدأ باستير أهم أعماله حول الأمراض المعدية وتخفيف حدة الإصابة بالميكروبات والتطعيمات. وبدأ أبحاثه حول داء الكلب (السعار) في عام ١٨٨٠، في أعقاب وفاة طفل بمستشفى سانت أوجوني. في السادس من يوليو ١٨٨٥، أعطى باستير أول تطعيم ضد داء الكلب (السعار) لجوزيف ميستر، شاب من منطقة الألزاس وقد عضه كلب مسعور. كان باستير قد تم انتخابه عضوًا بالأكاديمية الفرنسية في الثامن من ديسمبر ١٨٨١ خلفًا لإيميل ليتريه. وتم استقباله هناك في السابع والعشرين من أبريل ١٨٨٢ على يد إرنست رينان.

في عام ١٨٨٧، تعرض باستير لسكتة دماغية أخرى. في الرابع عشر من نوفمبر ١٨٨٨، قام الرئيس سادي كارنو بافتتاح معهد باستير بباريس. ولقد ظل باستير يدير هذا المعهد حتى وفاته. ولقد جرى الاحتفال بعيد ميلاده السبعين في جامعة السوربون بحضور سادي كارنو وعدد ضخم من كبار الشخصيات. كما أعطته جامعة أكسفورد درجة الدكتوراه في العلوم. وأُهدي ميدالية صممها لويس أوسكار روتي (١٨٤٦–١٩١١) وعليها الشعار القومي، كما أعطته الجمهورية لقب «فاعل خير للبشرية». كان باستير عضوًا بالأكاديمية الطبية منذ عام ١٨٧٣. وحصل على وسام الصليب الأكبر الشرفي منذ عام ١٨٨١. كما صدر مرسوم إمبراطوري — لم يُفعل أبدًا — بتعيينه سيناتورًا في السابع والعشرين من يوليو ١٨٧٠.

في عام ١٨٩٤، عاد باستير إلى ليل ليرأس مؤتمرًا حول علاج الدفتيريا يقدمه زميله إيميل روو (١٨٥٣–١٩٣٣).

توفي باستير من جراء نزيف في المخ في الثامن والعشرين من سبتمبر ١٨٩٥ في فيلنوفايتانج. وأقيمت له مراسم جنازة قومية في الأول من أكتوبر. ودُفن بمدفن شُيِّد خصوصًا له في معهد باستير.

(٤٣) أرنو بنزياس

ولد أرنو آلان بنزياس بميونخ في السادس والعشرين من أبريل ١٩٣٣. لكنه لم يحتفظ إلا بقدر ضئيل من الذكريات حول الحرب والنقل الإجباري إلى بولندا. ذات ليلة، بعد عامه السادس، أخذه والداه وسافرا إلى إنجلترا. ثم وصلا إلى نيويورك في يناير ١٩٤٠. التحق في البداية بمدرسة سيتي كولدج بنيويورك، وهي مؤسسة ترجع إلى القرن الماضي، وطالما عملت على مساعدة أبناء المهاجرين الفقراء على التحول إلى مواطنين أمريكيين من الطبقة المتوسطة. وهناك اكتشف الفيزياء، لكنه اختار في النهاية الهندسة الكيميائية.

وبعد عامين قضاهما في الجيش، نال بنزياس منصب معيد بجامعة كولومبيا بنيويورك داخل معمل فيزياء الموجات القصيرة. وبدأ في كتابة رسالته تحت إشراف الأستاذ تشارلز هارد تاونز (المولود في ١٩١٥) الحائز جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٤ عن أعماله في الإلكترونيات الكمية. وكان بنزياس مسئولًا عن إنشاء مكبر إشعاعي أثناء تجربة من اختياره في علم الفلك الإشعاعي.

في عام ١٩٦١، وجد عملًا مؤقتًا في معامل شركة بل بهولمدل بنيوجيرسي. وعُرض عليه الإقامة هناك، وبالفعل مكث هناك. كان يعمل على الهوائيات التي تتلقى الإشارات من الأقمار الصناعية. وانضم إليه عالم فلك آخر في عام ١٩٦٣؛ وهو روبرت وودرو ويلسون (المولود في ١٩٣٦) من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بباسادينا. وبعد عام، تمكنَا من التعرف على التوزيع المستمر لموجات الراديو المنبعثة من جسم أسود عند درجة حرارة ٣٫٥ درجات كلفنية وفقًا للقانون الذي صاغه منذ سبعين عامًا فيلهلم وين (١٨٦٤–١٩٢٨) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام ١٩١١.

في عام ١٩٦٥، فسر فيليب جيمس إي بييبلز (المولود في ١٩٣٥) وروبرت هنري دايك (١٩١٦–١٩٩٧) هذا الإشعاع على أنه نتيجة الانفجار الكبير الذي هو أصل تكون الكون من خمسة عشر إلى ثمانية عشر مليار عام. في عام ١٩٢٧، كان عالم الفيزياء الفلكية البلجيكي جورج لوميتر (١٨٩٤–١٩٦٦) قد وضع افتراضية تقول إن هناك ما يعرف بالذرة البدائية. وفي عام ١٩٢٩، اكتشف إدوين باول هوبل (١٨٨٩–١٩٥٣) تمدد الكون عن طريق ملاحظة ميل الإشعاعات المضيئة المنبعثة من المجرات البعيدة نحو الاحمرار. وفي عام ١٩٤٦ تحدث جورج جاموف (١٩٠٤–١٩٦٨) لأول مرة عن الانفجار العظيم. وتعد درجة الحرارة ٣٫٥ كلفن هي الصلة الوحيدة بين درجة ٢٫١٧ للحالة فائقة السيولة للهليوم، التي حاز بيوتر ليونيدوفيتش كابيتزا (١٨٩٤–١٩٨٤) بفضل اكتشافها جائزةَ نوبل في الفيزياء في عام ١٩٧٨، مناصفة مع بنزياس وويلسون.

(٤٤) ماكس بلانك

ولد ماكس كارل إرنست لودفيج بلانك في الثالث والعشرين من أبريل ١٨٥٨ بمدينة كييل بشليسويج هوليستين. كان والده أستاذًا للحقوق بجامعة كييل، وكان جده وجد جده أيضًا أستاذين في علم اللاهوت بجامعة جوتنجن. في عام ١٨٦٧، انتقلت العائلة للإقامة بميونخ، وهناك التحق بلانك بالمدرسة. وعند بلوغه عامه السادس عشر، التحق بجامعة ميونخ عام ١٨٧٤. لكن قبل الشروع في تنفيذ القرار، كان قد تشاور مع أستاذ الفيزياء فيليب يوهان جوستاف فون جولي (١٨٠٩–١٨٨٤)، الذي قال له إن الفيزياء أصبحت علمًا منتهيًا ولم يعد هناك مكان لمزيد من الاكتشافات. إلا أن بلانك أصر على استكمال هذا الطريق. وبدأ دراسته في برلين على يد العديد من الأساتذة مثل هيرمان فون هلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٤) وجوستاف روبرت كيرشوف (١٨٢٤–١٨٨٧). كان معجبًا بكيرشوف، وإن كان يعتبره جافًّا ورتيبًا كمعلم. ثم عاد إلى ميونخ، وناقش رسالته — في الحادية والعشرين من عمره — حول القانون الثاني للديناميكا الحرارية. وبعدها، حصل على منصب بجامعة ميونخ في عام ١٨٨٠، وظل هناك حتى عام ١٨٨٥، وهو التاريخ الذي حصل فيه على كرسي الأستاذية بجامعة كييل. بعد وفاة كيرشوف في عام ١٨٨٧، خلفه بلانك في كرسي الأستاذية في الفيزياء النظرية بجامعة برلين في عام ١٨٨٩. وظل محتفظًا بهذا المنصب طيلة ثمانية وثلاثين عامًا وحتى تقاعده في عام ١٩٢٧.

وفي برلين، شرع في أعماله الأكثر أهمية. درس الديناميكا الحرارية، وخاصة توزيع الطاقة بحسب طول الموجة. وفي عام ١٩٠٠، حصل على صيغة جديدة — تُعرف باسم صيغة بلانك للإشعاع — عن طريق مزج صيغ فيلهلم وين (١٨٦٤–١٩٢٨) وجون ويليام ستروت (لورد رايليه) (١٨٤٢–١٩١٩). وفي غضون شهرين، استنتج كافة النتائج النظرية لصيغته، مقدمًا نظرية كمات الطاقة. ولقد بدأت نظريته تواجه مقاومة بسبب أعمال نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢) الذي حدد مواضع الخطوط الطيفية. لكن انتهى الأمر بقبولها، حتى وإن كان بلانك يقول إنه هو نفسه لا يفهمها.

تم انتخابه عضوًا بأكاديمية العلوم في عام ١٨٩٤. وفي عام ١٩١٨، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء. لكنه لم يشارك كثيرًا في التطورات اللاحقة التي شهدتها نظريته. في الفترة من عام ١٩١٢ وحتى عام ١٩٤٣، أصبح بلانك رئيسًا لمنظمة القيصر فيلهلم جيسيلشافت الألمانية للبحث.

مكث في ألمانيا طوال فترة الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أنه كان وقتًا عصيبًا بالنسبة له، ولا سيما بعد إعدام ابنه إرفين لتخطيطه لاغتيال هتلر. كما هُدم منزله على إثر غارة جوية. جردته الحرب العالمية الثانية من كل ممتلكاته، ما عدا حقيبة ظهر وحقيبة سفر استطاع أخذهما معه أثناء إخلاء الأمريكيين لمكان القتال في مايو ١٩٤٥. إلا أنه فقد كتاب مذكراته الذي ظل محتفظًا به طوال حياته أثناء عمليات الإخلاء. وبعد الحرب، عاد إلى منصبه كرئيس لمنظمة القيصر فيلهلم جيسيلشافت في عام ١٩٤٥-١٩٤٦ ليدافع عن العلم الألماني خلال فترة غاية في الصعوبة.

كان بلانك اجتماعيًّا بطبعه، كما كان يجيد العزف على البيانو. وكان يحب تسلق قمم جبال الألب، واستطاع وهو في الثانية والسبعين من عمره أن يتسلق قمة جبل يونجفراو، وقمة جبل جروسفينيديجر بعدها بسبعة أعوام.

توفي بلانك بجوتنجن في الرابع من أكتوبر ١٩٤٧.

(٤٥) هنري بوانكاريه

ولد جول هنري بوانكاريه بنانسي في التاسع والعشرين من أبريل ١٨٥٤. وكان عالم الرياضيات الأكثر نبوغًا في جيله دون شك. كان والده إيميل ليون بوانكاريه (١٨٢٨–١٨٩٢) أستاذ الطب بالجامعة، أما والدته فكانت تدعى أوجوني لونوا. وكان والده يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا ووالدته في الرابعة والعشرين. وهو ابن عم رايموند بوانكاريه (١٨٦٠–١٩٣٤) الذي أصبح رئيسًا للوزراء أكثر من مرة، ثم أصبح رئيسًا للجمهورية خلال الحرب العالمية الأولى. كان ابن عمه الآخر هو عالم الرياضيات لوسيان بوانكاريه (١٨٦٢–١٩٢٠) الذي أصبح أستاذًا بارزًا بجامعة السوربون. كان هنري قادرًا على الكتابة بيديه اليمنى واليسرى، لكنه كان قصير النظر. ولاقى صعوبات شديدة في توافق حركة عضلاته، كما أصيب إصابة حادة بمرض الدفتيريا.

في عام ١٨٦٢، التحق بثانوية نانسي وظل يدرس بها مدة أحد عشر عامًا. كان طالبًا متميزًا في جميع المواد، وحصل على الجائزة الأولى في الرياضيات أثناء المسابقة العامة. وأثناء محاضرات الرياضيات الخاصة، تعرف عليه بول آبل (١٨٥٥–١٩٣٠) الذي أصبح هو الآخر عالمًا شهيرًا في الرياضيات. وقال عنه:

صدمتني هيئة بوانكاريه، فلم يكن يمتلك للوهلة الأولى شكل الطالب الذكي. فكان يبدو مستغرقًا في أفكار داخلية، وقد علت عينيه نظرة غامضة من فرط التفكير. وعندما كان يتحدث، كانتا تتألقان بتعبير طيب يمتزج فيه الخبث والعمق.

وعندما تم قبوله بالمدرسة الطبيعية العليا وبكلية الهندسة في عام ١٨٧٣، اختار بوانكاريه الالتحاق بالهندسة. وهناك كان أستاذه شارل إرميت (١٨٢٢–١٩٠١). كانت ذاكرته خارقة، فكان يظل طوال المحاضرات عاقدًا يديه دون أن يدون ملاحظة واحدة. ثم أنهى بعد ذلك دراسته بكلية المناجم، وعمل بعدها مهندسًا بمنطقة فيزول أثناء إعداده لرسالته التي ناقشها في باريس تحت إشراف شارل إرميت في عام ١٨٧٩. وكانت رسالته تدور حول المعادلات التفاضلية، إلا أنها لم تكن مقنعة بالقدر الكافي للممتحنين بسبب غموضها.

كان أول منصب جامعي له في كان. لكن كانت محاضراته ينقصها التنظيم. في عام ١٨٨١، وعلى الرغم من ذلك حصل على كرسي الأستاذية في كلية العلوم بباريس. وفي عام ١٨٨٦، مُنح كرسي الأستاذية في الفيزياء الرياضية والاحتمالات بجامعة السوربون. كما عُين أيضًا أستاذًا بكلية الفنون التطبيقية.

وفي عام ١٨٨٩، أصبح اسم هنري بوانكاريه معروفًا للجميع. وحصل بالفعل على جائزة — منحها له الملك أوسكار الثاني، ملك النرويج والسويد (١٨٢٩–١٩٠٧) من فرط شغفه بالرياضيات — عن بحث حول مسألة الأجسام الثلاثة في ميكانيكا الأجرام السماوية. كانت لجنة التحكيم مكونة من كارل تيودور فيرشتراس (١٨١٥–١٨٩٧) وجوستا مانجوس ميتاج-ليفر (١٨٤٦–١٩٢٧) وشارل إرميت. إلا أن بحث بوانكاريه كان به خطأ اكتشفه عالم الرياضيات الشاب لارس إدفارد فراجمان (١٨٦٣–١٩٣٧) أثناء إعداده لطباعة المخطوطة. وأجبر هذا الخطأ بوانكاريه على إجراء تعديلات جذرية على بحثه. كما اضطر أيضًا إلى دفع مبلغ كتعويض عن مصاريف طباعة النسخة الأولى، وكان مبلغ التعويض يفوق قيمة الجائزة التي تلقاها. لكن — كما أثبتنا — فإن الأخطاء قد تكون مفيدة، وبالفعل فتح هذا الخطأ الباب أمام نظرية العشوائية والكسور (الفراكتال).

عادة كان يصنف بوانكاريه كآخر عالم موسوعي في العلوم وآخر متخصص عالمي في الرياضيات. وجاءت إسهاماته في العديد من المجالات الرياضية، بل أيضًا ميكانيكا الأجرام السماوية وميكانيكا السوائل ونظرية النسبية. كما درس أيضًا علم البصريات والكهرباء ونظام التلغراف والأنابيب الشعرية والمرونة والديناميكا الحرارية ونظرية الطاقة الكامنة والنظرية الكمية وعلم الكون. وفي الرياضيات، كان صاحب الفضل في اكتشاف دوال فوش. كما ندين له أيضًا بالعديد من المؤلفات في فلسفة العلوم. أتاحت له ثقافته الواسعة التطرق إلى المشكلات من زوايا مختلفة. وفتحت له كتاباته حول فلسفة العلوم الطريق للالتحاق بالأكاديمية الفرنسية؛ حيث انتخب عضوًا في الثامن والعشرين من يونيو ١٩٠٩، ثم أصبح مديرًا لها في عام ١٩١٢. كما كان عضوًا بأكاديمية العلوم منذ عام ١٨٨٧، وتم انتخابه رئيسًا لها في عام ١٩٠٦.

توفي بوانكاريه في السابع عشر من يوليو ١٩١٢ بباريس بسبب تضخم البروستاتا. لم يكن يبلغ من العمر سوى ستة وخمسين عامًا، وكانت وفاته صدمة وخسارة فادحة لكل المجتمع العلمي الدولي.

(٤٦) لويس فراي ريتشاردسون

ولد لويس فراي ريتشاردسون بنيوكاسل أبون تاين بنورثمبرلاند في الحادي عشر من أكتوبر ١٨٨١. وكانت أسرته منذ قرون تضم دباغين وأعضاء في إحدى الطوائف البروتستانتية. التحق في البداية بمدرسة نيوكاسل؛ حيث كانت مادته المفضلة هي دراسة نظريات إقليدس (القرن الثالث ق.م). بين عامَي ١٨٩٤ و١٨٩٨، انتقل إلى يورك، ثم عاد إلى نيوكاسل للانضمام لكلية دورهام للعلوم. وهناك درس الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان. في عام ١٩٠٣، التحق بالكلية الملكية بكامبريدج. وكان من بين أساتذته جوزيف جون طومسون (١٨٥٦–١٩٤٠) الحائز جائزة نوبل في الفيزياء في عام ١٩٠٦ عن أعماله حول توصيل الكهرباء في الغازات.

بعد أن غادر كامبريدج، شغل ريتشاردسون عدة مناصب في مؤسسات حكومية وجامعات: المعمل الوطني للفيزياء (١٩٠٣-١٩٠٤، ١٩٠٧–١٩٠٩)، وهيئة الأرصاد الجوية (١٩١٣–١٩١٦)، وجامعة أبريستويث (١٩٠٥-١٩٠٦)، وكلية مانشستر للتكنولوجيا (١٩١٢-١٩١٣). هذا بالإضافة إلى كونه عالمًا كيميائيًّا بمصانع بيت الوطنية (١٩٠٦-١٩٠٧) والمسئول عن معمل الفيزياء والكيمياء بشركة سنبيم لامب (١٩٠٩–١٩١٢). وحوالي عام ١٩١٠، تقدم بطلب ترشحه — بعد أن نشر مقالًا في جريدة مرموقة — للعمل بالكلية الملكية. إلا أن أعماله في الرياضيات التطبيقية قُيمت على أنها «رياضيات تقريبية»، ومن ثم رفض طلبه!

من عام ١٩٢٠ وحتى عام ١٩٢٩، عمل ريتشاردسون مديرًا لقسم الفيزياء بكلية ويستمينستر للتدريب. ثم من عام ١٩٢٩ وحتى عام ١٩٤٠، أصبح مدير كلية بيسلي للتكنولوجيا باسكتلندا.

في مجال الرياضيات، يُعرف اسم ريتشاردسون بين طلبة التحليل الرقمي. فإذا افترضنا أننا نقوم بعدة قياسات لكمية ما بتسجيل قراءات متغيرة في إطار مجال مرجعي معين، فإنه بواسطة النقط التي يتم الحصول عليها، يمكننا رسم منحنى؛ وهو ما يسمى ﺑ «الاستكمال». ويمكِّننا ذلك من الحصول على قيمة تقريبية من القياس الذي قمنا به لقياس قيمة واقعة خارج المجال؛ وهو ما يعرف ﺑ «الاستكمال من الخارج». وتوجد طريقة من الاستكمال الخارجي تحمل اسم ريتشاردسون. كما اهتم بالحل الرقمي للمعادلات ذات المشتقات الجزئية بواسطة طرق التفاضل المنتهي. ولقد طبق هذه التقنية على طرق التنبؤ بالأرصاد الجوية، دون أن يدرك أن السؤال مطروح بطريقة خاطئة، فقد تكون النتيجة شديدة الحساسية تجاه التغيرات الطفيفة في البيانات (تأثير الفراشة الشهير). وكان ريتشاردسون رائدًا في مجال دراسة الكسور (فراكتال) والعشوائية. وفي نظرية الاضطراب، أدخل ثابت ريتشاردسون الذي يميز كسر اضطراب الطاقة الناتج عن تغيرات الحرارة، على عكس التغيرات الناجمة عن اختلاف سرعة الرياح.

إلا أن شخصية ريتشاردسون كانت تمتلك جانبًا مختلفًا تمامًا. توفي اثنان من أقاربه أثناء الحرب العالمية الأولى. وفي عام ١٩١٦، انضم إلى وحدة إسعاف الأصدقاء في فرنسا بعد أن رفض الخدمة العسكرية اعتراضًا على الحرب. لكنه انضم إلى الوحدة السادسة عشرة من المشاة الفرنسية حتى عام ١٩١٩. ولقد دفعته قناعاته العميقة إلى دراسة الأسباب الإحصائية والديناميكية وغيرها التي أدت إلى الحرب. وفي عام ١٩١٩، ألف كتابًا صغيرًا بعنوان «النفسية الرياضية للحرب» وأهداه إلى مجموعة من أصدقائه المسعفين. وعلى الرغم من الدعم الذي قدمه له برتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) — الذي شاركه أفكاره السلمية — لم يجد ريتشاردسون ناشرًا ونشر كتابه على نفقته الشخصية. وابتداءً من عام ١٩٢٦، جمع عددًا كبيرًا من البيانات حول ما كان يطلق عليه «النزاعات المميتة»، التي تراوح مجالها من الحرب العالمية الأولى وحتى حرب العصابات بشيكاجو. وكان يقيم حدة هذه النزاعات باستخدام لوغاريتم للوفيات، ووجد أن هذه الحدة تتناسب عكسيًّا مع تواترها. يعد ريتشاردسون هو رائد علم ألعاب الحرب. ويمكن الآن إيجاد النموذج الحركي البسيط الذي كان يستخدمه لشرح الاستقرار في جميع الكتب الأساسية حول بناء النماذج تحت اسم معادلات المفترس والفريسة. ولقد قادت دراسة هذا النموذج ريتشاردسون إلى استنتاج متشائم يقول إن جميع المواجهات بين الأمم تكون لا تسير على وتيرة واحدة. كان ريتشاردسون قد شرع في تلك الدراسة على أمل الوصول إلى تفسير رياضي لأسباب وآلية الحروب من شأنه تقليل الاعتداءات، لكنه وصل في النهاية إلى الاستنتاج المضاد. كما صدمته حقيقة أن أبحاثه حول تدفق الهواء تم استخدامها في العشرينيات والثلاثينيات بواسطة العسكريين في أعمال خاصة بنشر الغازات السامة. وإلى جانب كتابه حول التنبؤ بالأرصاد الجوية بواسطة طرق الاستكمال الخارجي، نشر كتابًا بعنوان «السياسات الخارجية العامة» في عام ١٩٣٩، وآخر بعنوان «الأسلحة وانعدام الأمن» في عام ١٩٤٩، وأخيرًا «إحصائيات النزاعات المميتة» في ١٩٥٠.

توفي ريتشاردسون في كليمون بأرجيل باسكتلندا في الثلاثين من سبتمبر ١٩٥٣.

(٤٧) برنارد ريمان

ولد جورج فريدريش برنارد ريمان بريسيلنز بالقرب من هانوفر في السابع عشر من سبتمبر ١٨٢٦. كان والده فريدريش برنارد ريمان راعيًا بروتستانتيًّا تزوج من شارلوت إيبيل وكان برنارد ثاني أبنائهما الستة: ولدان وأربع فتيات. تولى والده مسئولية تعليمه حتى بلغ العاشرة من عمره، ثم أحضروا معلمًا محليًّا يدعى شولز ليقوم بتعليمه.

في عام ١٨٤٠، التحق ريمان مباشرة بالصف الثالث في مدرسة هانوفر الثانوية. وأقام وقتها عند جدته. وعند وفاتها — في عام ١٨٤٢ — غادر ليلتحق بمؤسسة يوهانوم في لونبرج. ويبدو أنه كان مجرد تلميذ جيد. درس بكثرة المواد التقليدية مثل اللغة العبرية وعلم اللاهوت. كما أظهر نوعًا من الاهتمام بالرياضيات، ولذلك صرح له مدير المؤسسة بالاطلاع على كتب الرياضيات في مكتبته الخاصة. وأقرضه كتابًا لأدريان ماري لوجندر (١٧٥٢–١٨٣٣) حول نظرية الأعداد، وقرأ ريمان الكتاب ذا التسعمائة صفحة كاملًا في ستة أيام!

وفي ربيع عام ١٨٤٦، التحق بجامعة جوتنجن، بكلية اللاهوت بتشجيع من والده. لكنه استمر يتابع محاضرات الرياضيات وطلب من والده السماح له بتغيير دراسته. كان ريمان متعلقًا بأسرته، ولم يكن ليغير مجال دراسته دون موافقة والده. وبالفعل تلقى محاضرات موريتز ستيرن (١٨٠٧–١٨٩٤) وكارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) أحد أكبر علماء الرياضيات والفيزياء في عصره. ومن ثم أصبحت جامعة جوتنجن من أشهر الجامعات في مجال الرياضيات، لكنها لم تكن قد بلغت تلك الدرجة من الشهرة في ذلك الوقت. كما أن جاوس لم يكن يلقي هناك سوى محاضرات للمستوى الأولي. إلا أن ستيرن بدا كمن أدرك على الفور قدرات طالبه، فكان يقول إن ريمان «يُبلي بالفعل بلاءً حسنًا.»

في ربيع عام ١٨٤٧، ذهب ريمان إلى جامعة برلين لدراسة الرياضيات على يد ياكوب شتاينر (١٧٩٦–١٨٦٣)، وكارل جوستاف جاكوب جاكوبي (١٨٠٤–١٨٥١)، ويوهان بيتر جوستاف لوجون دريشليه (١٨٠٥–١٨٥٩)، وفرديناند جوتهولد ماكس أينشتاين (١٨٢٣–١٨٥٢). كانت تلك الفترة محورية بالنسبة له. كان يتناقش مع أينشتاين — على وجه الخصوص — حول استخدام المتغيرات المركبة في نظرية الدوال المختصرة. إلا أن التأثير الأبلغ كان لدريشليه. كان الاثنان يستندان — في استنتاجاتهما — إلى حس حدسي متطور وإلى التحليل المنطقي للمسائل الأساسية بهدف تقليص الحسابات الطويلة إلى الحد الأدنى. وأثناء إقامته في برلين طور ريمان قواعد عمله الرئيسي حول نظرية المتغيرات المركبة.

في عام ١٨٤٩، عاد إلى جوتنجن وناقش رسالته في السادس عشر من ديسمبر ١٨٥١ تحت إشراف جاوس. كما خضع عمله لتأثير فيلهلم إدوارد ويبر (١٨٠٤–١٨٩١)، وكان ريمان يعمل مساعدًا له مدة ثمانية عشر شهرًا أعطاه فيها كمًّا هائلًا من المعرفة حول الفيزياء النظرية، بل وأيضًا لتأثير يوهان بنديكت ليستينج (١٨٠٨–١٨٨٢) الذي أطلعه على علم طبولوجيا الأسطح. وفي رسالته، درس ريمان نظرية المتغيرات المركبة، ولا سيما ما يسمى الآن بأسطح ريمان. كان عملًا غاية في الإبداع والخصوبة، كما وصفه جاوس في تقريره عن المناقشة.

وبناءً على توصية جاوس، حصل ريمان على منصب بجامعة جوتنجن للإعداد لرسالته التأهيلية، وهي رسالة ثانية ذات مستوى أعلى وتلزم للترقي لمنصب أستاذ. وقضى ثلاثين شهرًا يعمل على تمثيل الدوال بواسطة متواليات حساب المثلثات، ووضع شرطًا يسمى الآن «تكامل ريمان». وفي سبيل الحصول على التأهيل، كان لا بد له من عقد مؤتمر. وأعد ريمان ثلاثة موضوعات؛ اثنين حول الكهرباء وواحدًا حول الهندسة. وعلى عكس كل التوقعات، وقع اختيار جاوس على موضوع الهندسة. ولقد أصبح الموضوع الذي تناوله ريمان في هذا المؤتمر في العاشر من يونيو ١٨٥٤ بعنوان «حول الافتراضات التي تحدد أسس الهندسة»؛ من كلاسيكيات الرياضيات. ومن أهم النقاط الرئيسية لهذا العمل كان تعريف وتر الانحناءات، الذي سيستخدمه ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥) بعد ستين عامًا في صياغة نظرية النسبية العامة. ومن بين الحضور، كان جاوس هو الوحيد القادر على استيعاب مدى أهمية النتائج التي توصل إليها تلميذه. وخلال أحد اجتماعات الكلية، تطرق إليها بعظيم المديح والحماس النادر. كانت أعمال ريمان سابقة لعصره بكثير، ومن ثم لم يقدرها معاصروه حق قدرها.

كان عمل ريمان التالي يدور حول توزيع الشحنات الكهربائية الاستاتيكية. وكانت النتيجة مفيدة للغاية على المستوى الرياضي. ثم لفتت انتباهه المعادلات ذات المشتقات الجزئية.

وعند وفاة جاوس في عام ١٨٥٥، ذهب كرسيه إلى دريشليه، إلا أنه بعد عامين نال ريمان كرسي الأستاذية بمفرده. وعمل منذ ذلك الحين على الدوال الأبيلية لاستكمال رسالته. كما طور أسطح ريمان ودرس خواصها الطبولوجية. كما استخدم مبدأً منسوبًا إلى دريشليه. وكان عملًا رياضيًّا ذا أهمية كبيرة. وحاول نشر نتائجه في جريدة متخصصة، إلا أن المقال كان يضم مفاهيم جديدة وغير متوقعة لدرجة أن كارل فيشتراس (١٨١٥–١٨٩٧) — عالم الرياضيات البارز — رفضه على الفور!

في عام ١٨٥٨، حضر علماء الرياضيات الإيطاليون إنريكو بيتي (١٨٢٣–١٨٩٢) وفليس كاسوراتي (١٨٣٥–١٨٩٠) وفرانشسكو بريوشي (١٨٢٤–١٨٩٧) إلى جوتنجن، وتناقش معهم ريمان في بعض الأفكار الطبولوجية. واستمرت هذه الاتصالات، فزار ريمان بيتي في إيطاليا عام ١٨٦٣. توفي دريشليه في عام ١٨٥٩، وحصل ريمان على كرسي الأستاذية في الرياضيات بجامعة جوتنجن. وبعد بضعة أيام، تم انتخابه عضوًا بأكاديمية العلوم ببرلين بفضل علماء الرياضيات إرنست إدوارد كومر (١٨١٠–١٨٩٣) وكارل فيلهلم بروشارد (١٨١٧–١٨٨٠) وفيرشتراس. ولكونه عضوًا جديدًا، كان عليه تقديم عمل، فأرسل تقريرًا حول الأعداد الأولية الأصغر من رقم ما. وكان عملًا هامًّا ساهم في توجيه بعض الأبحاث الرياضية إلى هذا الطريق الجديد وفي هذا العمل أيضًا أن درس الدالة الشهيرة التي تحمل اسمه، ولا يزال الطريق مفتوحًا أمامها بكونها أحد أهم التخمينات الرياضية.

في يونيو ١٨٦٢، تزوج ريمان من صديقة شقيقته إليز كوش، وأنجب منها طفلة. وفي خريف ١٨٦٢، أصيب ريمان بالبرد وتحول الزكام إلى درن. كان دائمًا ذا صحة عليلة، ويبدو أن هذه الإصابة كانت قديمة بالتأكيد. وفي سبيل علاجه، سافر ليقيم في مكان ذي مناخ أكثر دفئًا، وذهب إلى إيطاليا. وقضى شتاء عام ١٨٦٢-١٨٦٣ في صقلية. كما ذهب لزيارة بيتي وباقي العلماء الإيطاليين الذين التقى بهم في ألمانيا. وفي يونيو ١٨٦٣، عاد إلى جوتنجن. وتدهورت صحته من جديد، فعاد مرة أخرى إلى إيطاليا. وظل مقيمًا في شمال البلاد من أغسطس ١٨٦٤ وحتى أكتوبر ١٨٦٥. ثم رجع إلى جوتنجن ليقضي شتاء ١٨٦٥-١٨٦٦. لكنه سرعان ما عاد إلى سيلاسكا على ضفاف بحيرة ماجور في السادس عشر من يونيو ١٨٦٦.

خارت قوى ريمان سريعًا، وتوفي في العشرين من يوليو ١٨٦٦.

(٤٨) فنسنت جوزيف شايفر

ولد فنسنت جوزيف شايفر في الرابع من يوليو ١٩٠٦ بشينيكتادي في ولاية نيويورك. وتخرج في عام ١٩٢٨ في معهد دافي للجراحة. في عام ١٩٣١، أصبح مساعدًا لإرفينج لانجموير (١٨٨١–١٩٥٧) بمعمل الأبحاث بشركة جنرال إلكتريك، وظل يعمل هناك حتى عام ١٩٥٤. في عام ١٩٣٨، ترقى لمنصب باحث مشارك. وفي عام ١٩٥٤، تم تعيينه مديرًا للبحث بمؤسسة مونيتالب. وظل في هذا المنصب حتى عام ١٩٥٩، حين نال كرسي الأستاذية في الفيزياء بجامعة ولاية نيويورك في ألباني. وتقاعد شايفر في عام ١٩٧٦. وتوفي في الخامس والعشرين من يوليو ١٩٩٣.

(٤٩) لوران شوارتز

ولد لوران شوارتز في باريس في الخامس من مارس ١٩١٥. والتحق بالمدرسة الطبيعية العليا في عام ١٩٣٤. وحصل على إجازة تدريس الرياضيات عام ١٩٣٧. وناقش رسالته للدكتوراه في العلوم عام ١٩٤٣ بجامعة ستراسبورج.

كان يلقي محاضرات بكلية العلوم بجرنوبل في عامي ١٩٤٤-١٩٤٥ قبل تعيينه أستاذًا بكلية العلوم بنانسي. وخلال تلك الفترة، توصل إلى عمله الشهير حول التوزيعات — الذي هو تعميم لمفهوم الدوال — الصادر في عام ١٩٤٨. ولقد أهَّله هذا العمل لنيل ميدالية فيلدز عام ١٩٥٠. ويعد هذا الوسام — الذي يُهدى كل أربع سنوات — معادلًا لجائزة نوبل التي لا تقدم جوائز في الرياضيات، ويشترط فقط ألا يزيد عمر المتقدم للجائزة عن أربعين عامًا. وقد شارك شوارتز في مغامرة بورباكي الجماعية لتجديد الرياضيات.

في عام ١٩٥٣، أصبح شوارتز أستاذًا بجامعة باريس، وظل في منصبه حتى عام ١٩٥٩. ثم بدأ يُدرس في كلية الهندسة منذ ١٩٥٩ وحتى ١٩٨٠. وبعدها قضى ثلاثة أعوام بجامعة باريس السابعة قبل تقاعده في عام ١٩٨٣. كان لتدريسه أثر على أجيال من الطلاب. ومن بين تلاميذه نذكر — على سبيل المثال — جاك لويس ليونز (١٩٢٨–٢٠٠١) الذي ترك أثرًا بالغًا في التحليل الرقمي على مستوى العالم، كما حصل ابنه بيير لويس ليونز (المولود في ١٩٥٦) على ميدالية فيلدز عام ١٩٩٤.

نال لوران شوارتز قائمة طويلة من الجوائز. كما تمت تسميته أستاذًا شرفيًّا في العديد من الجامعات؛ منها: جامعة برلين (١٩٦٠)، وبروكسل (١٩٦٢)، ولوند (١٩٨١)، وتل أبيب (١٩٨١)، ومونتريال (١٩٨٥)، وأثينا (١٩٩٣). كان لوران شوارتز أحد ألمع علماء الرياضيات في القرن العشرين. لكن لم يُنتخب بأكاديمية العلوم بباريس إلا في عام ١٩٧٢ بسبب بعض المواقف السياسية دون شك. كان شوارتز مفكرًا ملتزمًا مناضلًا لا يكل من الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان. وكان معارضًا لحرب الجزائر وحرب فيتنام. وشارك بفاعلية في الدفاع عن علماء الرياضيات الذين اضطهدوا بسبب أفكارهم مثل ماسيرا وبليوتش.

وفي النهاية، كان شوارتز أحد أكبر جامعي الفراشات الذين عرفتهم فرنسا. وكانت مجموعته الشخصية — بما فيها العينات القادمة من المناطق الاستوائية — واحدة من أهم المجموعات وأكثرها تنوعًا في فرنسا.

كان لوران شوارتز صهر بول ليفي (١٨٨٦–١٩٧١). وتوفي في الرابع من يوليو ٢٠٠٢.

(٥٠) جون سكوت راسل

ولد جون سكوت راسل بباركهيد بالقرب من جلاسجو باسكتلندا في التاسع من مايو ١٨٠٨. كان والده ديفيد راسل متخرجًا في جامعة جلاسجو ويعمل معلمًا بمدرسة القرية. توفيت والدته آنييس كلارك سكوت بعد ولادته بقليل. كان طفلًا وحيدًا. وكان يبلغ من العمر ثلاثة أعوام حينما عُين والده راعيًا للطائفة بكولينسبرج بالقرب من كيركالدي بإحدى الأبرشيات التي انفصلت عن الكنيسة الاسكتلندية. ثم عاد وانتقل إلى هاويك، وتزوج هناك ثانية وأنجب أطفالًا آخرين. ثم سافر إلى إيرول بالقرب من بيرث.

قضى جون عامًا في جامعة سان أندروز قبل أن يلتحق بجامعة جلاسجو. وهناك كانت المرة الأولى التي يضيف فيها اسم عائلة والدته إلى اسمه. وتخرج عام ١٨٢٥ وهو في السابعة عشرة من عمره. سافر بعد ذلك إلى إدنبرة ليعمل في تدريس الرياضيات «بأكاديمية الجنوب»، وهي المدرسة التي أنشأها بنفسه ومعه أحد أصدقائه. ثم مضى يُدرِّس بمعهد ليث للميكانيكا، ويلقي محاضرات في الرياضيات والعلوم الطبيعية لطلبة كلية الطب بالكلية الملكية للجراحين. في عام ١٨٣٢، عقب وفاة جون ليزلي (١٧٦٦–١٨٣٢) — الأستاذ بجامعة إدنبرة — حل جون محله في إلقاء محاضراته، لكنه لم يتقدم لطلب الوظيفة؛ علمًا منه بأن المنصب كان مخصصًا لديفيد بروستر (١٧٨١–١٨٦٨). لكن في الواقع، كان المرشح المُختار هو جيمس ديفيد فوربس (١٨٠٩–١٨٦٨) — البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا — الذي كان مستندًا إلى دعم سياسي وأكاديمي قوي. ومرة أخرى تقدم جون بطلب الحصول على منصب كرسي الأستاذية في الرياضيات عام ١٨٣٨، لكن لسوء حظه، كان المنصب من نصيب فيليب كيلاند (١٨٠٨–١٨٧٩).

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عمل سكوت راسل على تطوير نموذج للنقل بالبخار وذلك لنقل الركاب. إلا أن المشروع لم يحالفه النجاح بسبب معارضة القائمين على إنشاء الطرق البرية. وقد كان النجاح حليفه في عمله مع شركة يونيون كنال، التي كان يعمل لديها في مشروع للنقل البخاري بين القنوات المائية. وبالفعل، بدأ خدمة النقل تلك بين جلاسجو وبيسلي في عام ١٨٣٤. كما أجرى أول مشاهدة تجريبية لأثر دوبلر على الصوت أثناء حركة القطار. كما درس الصلة بين مقاومة الحركة وتوليد الأمواج في المياه. وعرض أعماله في اجتماعات الجمعية البريطانية لتقدم العلوم التي تأسست عام ١٨٣١. وعينته هذه الجمعية — مع السير جون روبنسون (١٧٣٩–١٨٠٥) من إدنبرة — في «لجنة الموجات» بهدف القيام بالمشاهدات والتجارب. في عام ١٨٣٧، نشرا أول تقرير لهما، إلا أن روبنسون توفي في عام ١٨٤٣، ووقع سكوت راسل بمفرده على تقرير عام ١٨٤٤ وفيه وصف بالتفصيل «موجته الانتقالية العظمى». في عام ١٨٣٧، حصل على الميدالية الذهبية من الجمعية الملكية بإدنبرة.

وبعد أن عمل لصالح صاحب إحدى السفن بجرينوك، سافر راسل إلى لندن عام ١٨٤٤. وعمل في البداية في مجلة للسكك الحديدية، ثم أصبح أمين سر جمعية الفنون، وجعله منصبه يتولى الكثير من مسئوليات إقامة المعرض الكبير عام ١٨٥١. وأعاد تنظيم تلك الجمعية، وأسس معهد المهندسين البحريين. وفي عام ١٨٤٩، انتُخب عضوًا بالجمعية الملكية بلندن. ثم أصبح مديرًا للورشة البحرية وتعاون مع إيزامبارد كينجدوم برونل (١٨٠٦–١٨٥٩) في إنشاء أوائل السفن المصنوعة من الصلب، ومنها سفينة «جريت إيسترن» وغيرها من البوارج. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، واجه قضايا تتعلق بتمويل عقود التسليح. كما تعين عليه مواجهة الجدل المتعلق بسفينة «جريت إيسترن»، واضطر إلى الاستقالة من منصبه في معهد المهندسين المدنيين.

كان مؤلفه الأهم هو «النظام الحديث في العمارة البحرية» والمنشور في عام ١٨٦٥. ولاحقًا، عمل على مراجعة بحثه حول الموجات المنفردة والصادر في عام ١٨٨٥ — بعد وفاته — تحت عنوان «موجة الانتقال في محيطات المياه والهواء والأثير».

ومؤخرًا، عرفنا أنه كان له دور في مفاوضات السلام أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.

توفي راسل في الثامن من يونيو ١٨٨٢ بفنتنور بجزيرة وايت.

(٥١) ألويز سينيفيلدر

ولد ألويز يوهان نيبوموك فرانز سينيفيلدر ببراغ في السادس من نوفمبر ١٧٧١. كان والده ممثلًا بالمسرح الملكي بميونخ، وكان قادمًا إلى براغ لعرض مسرحي وقت مولد ابنه. التحق ألويز بالمدرسة الثانوية بميونخ، ونظرًا لاجتهاده حصل على منحة تقدر بمائة وعشرين فلورين سنويًّا، مما أتاح له دراسة الفقه التشريعي في أنجولستاد. إلا أن وفاة والده عام ١٧٩١ أجبرته على قطع دراسته ليساعد والدته وأسرته المكونة من ثمانية أفراد. وبدأ يؤلف مسرحيات وكانت تلك هي هوايته الأولى التي منعه والده منها. وبدأ يجني من ورائها بعض الأموال. إلا أن القائمين على الطباعة لم يكونوا مهتمين بموعد طباعة مسرحياته، ومن ثم، لم يلحق ناشره، لوتنر، معرض ليبزيج ليعرض فيه مسرحيته «ماتيلد فون التنستينون». وغرق سينيفيلدر في الديون. وعندها قرر طباعة مسرحياته بنفسه، الأمر الذي قاده إلى اختراع الليثوجرافيا في عام ١٧٩٩. ولقد منحه ملك بافيير براءة الاختراع لمدة خمس عشرة سنة لاستغلال اكتشافه. ولقد حصل سينيفيلدر على نفس الشهادة في فيينا ولندن وباريس. وأنشأ مطبعة لليثوجرافيا في أوفنباخ أولًا، ثم في فيينا، وأخيرًا في ميونخ. وسينيفيلدر هو مؤلف «فن الليثوجرافيا» المنشور في عام ١٨١٨. ولقد نال العديد من الأوسمة، وحصل — في نهاية حياته — على منحة كاملة من ملك بافاريا.

على الرغم من جميع مشاكله المادية وإحباطه وفشله المتكرر، فإنه ظل متعلقًا بفكرة مثالية ثابتة. وفي سيرته الذاتية، عبر عن أمله في أن يجلب اختراعه المنفعة للبشرية ليرفعها إلى مرتبة أكثر سموًّا.

توفي سينيفيلدر في ميونخ في السادس والعشرين من فبراير ١٨٣٤.

(٥٢) إدوارد ستيفيل

ولد إدوارد ستيفيل بزيورخ في عام ١٩٠٩. وقضى فعليًّا معظم عمره بالمعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في المدينة. في البداية، درس فيه الرياضيات والفيزياء، ثم ناقش رسالته في عام ١٩٤٣، ثم أصبح أستاذًا هناك. كانت أعماله الأولى تدور حول الرياضيات التي تسمى البحتة. وفي عام ١٩٤٨، أسس — بالتعاون مع هاينز روتيشاوزر (١٩١٨–١٩٧٠) وأمبروز بي سبيسر — معهد الرياضيات التطبيقية. كان ستيفيل حالمًا، ووعى على الفور مدى أثر الحاسب الآلي على الرياضيات والعلوم. وفي عام ١٩٤٩، وفور علمه بأن هناك عالمًا ألمانيًّا يدعى كونراد زوس (١٩١٠–١٩٩٥) قد اخترع حاسبًا آليًّا — Z4 — في نيوكيتشن، ذهب إلى هناك واستطاع تأجير الآلة لصالح المعهد ونقلها إلى هناك. كان زوس — على الرغم من كونه معزولًا بسبب الحرب — قد استطاع وحده تطوير هذا الحاسب الآلي الذي يفوق الحواسيب الأمريكية في ذلك الوقت. وجعلت مبادرة ستيفيل من المعهد أول جامعة أوروبية تمتلك حاسبًا آليًّا، واضعًا إياها في مقدمة الساحة في مجال تطوير الحساب الرقمي باستخدام الآلة؛ أي التحليل الرقمي وعلم الحاسب الآلي. وبالفعل، أجريت هناك أعمال هامة عديدة: دراسة لوغاريتم متلازمة الميل ولوغاريتم ولغة البرمجة Algol التي سبقت لغة فورتران واللغات الأخرى المتطورة. وكان لستيفيل نفسه إسهامات في الجبر الخطي وطرق التربيع (لحساب القيمة التقريبية للتكامل) وفي نظرية التقريب. وقرب نهاية حياته، بدأ يهتم بالميكانيكا وميكانيكا الأجرام السماوية.

وتوفي ستيفيل في عام ١٩٧٨.

(٥٣) توماس يوهانز ستايلتج

ولد توماس يوهانز ستايلتج في التاسع والعشرين من ديسمبر ١٨٥٦ بزوول، عاصمة إقليم أوفريجسيل بهولندا. وكان لديه شقيقان وأربع أخوات. واسماه الأولان هما نفس اسمي والده (المتوفى عام ١٨٧٨)، وكان مهندسًا مدنيًّا حاز شهرة كبيرة بعد أن جفف بحيرة هارلم وأتم بناء ميناء روتردام، بالإضافة إلى كونه عضوًا بالبرلمان. وبدأ الشاب توماس يوهانز (أو توماس جان كما يُطلق عليه بالفرنسية) دراسته بكلية الهندسة بديلفت عام ١٨٧٣. لكنه — بدلًا من حضور المحاضرات — كان يقضي معظم وقته في المكتبة يقرأ أعمال كبار علماء الرياضيات، مثل كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) وكارل جوستاف جاكوب جاكوبي (١٨٠٤–١٨٥١)، الأمر الذي تسبب في رسوبه في اختبار التخرج عام ١٨٧٥، يليه اختبار عام ١٨٧٦.

وحينها، اتصل والده — الذي أدرك ميول ابنه — بصديقه الأستاذ هندريكوس جيراردوس فان ديساند-باخيزن (١٨٣٨–١٩٢٣) مدير مرصد ليد. وفي أبريل ١٨٧٧، انضم توماس يوهانز إلى المرصد بصفته معيدًا للحسابات الفلكية. وابتداءً من عام ١٨٧٨ — عقب سفر جاكوبس كورنيليوس كابتين (١٨٥١–١٩٢٢) إلى جرونينج — شارك ستايلتج في المشاهدات مع صديقه إرنست، شقيق مدير المرصد. وكانت أعمالهما تقوم على وضع بيان للنجوم القريبة من القطب، وعلى مراقبة النجوم الأساسية لمناطق الجنوب، وعلى دراسة الأخطاء النظامية في تحديد خط الزوال. كما اهتم أيضًا بتقليل الانحناءات الأساسية للنجوم التي تمت ملاحظتها ما بين عامَي ١٨٦٤ و١٨٧٤.

ظل ستايلتج مكرسًا جل وقت فراغه للرياضيات. وبدأ يفكر بالفعل في الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة بجامعة جونز هوبكنز ببلتيمور تحت إشراف عالم الرياضيات الإنجليزي جيمس جوزيف سلفستر (١٨١٤–١٨٩٧). في عام ١٨٨٢، قدم عرضًا بديعًا لنتيجة توصل إليها فرانسوا فليكس تيسراند (١٨٤٥–١٨٩٦) حول الميل المتبادل للمدارات. وعلى الفور، أرسله الأخير إلى عالم الرياضيات الفرنسي الكبير شارل إرميت (١٨٢٢–١٩٠١)، ومن هنا نشأت بينهما صداقة قوية مسجلة في مراسلات هائلة (٤٣٢ رسالة، ٩٢١ صفحة!) لم يقطعها سوى الوفاة. كانت هذه الرسائل في بداياتها رسمية، ثم ازدادت حميمية وشخصية شيئًا فشيئًا. وهي تعرفنا بالكثير عمن كتباها، على الرغم من أنها كانت تدور دائمًا حول موضوع واحد … الرياضيات. وكان من الواضح أن هذه الخطابات كانت تؤثر على الموضوعات التي يعمل عليها ستايلتج، بما أن الكثير من مقالاته كُتبت بناءً على أسئلة طرحها إرميت.
في الأول من يناير ١٨٨٣، تحرر ستايلتج من مراقباته الفلكية، وبدأ يعمل في منزله على تقليل الفروق بين خطوط طول لييد وجرينتش. واستغل الأمر للقيام بزيارة إلى باريس، التقى فيها إرميت الذي دعاه فورًا إلى العشاء في منزله بصحبة صهره عالم الرياضيات إيميل بيكارد (١٨٥٦–١٩٤١). ومن سبتمبر وحتى ديسمبر ١٨٨٣، عمل كبديل للأستاذ فرانشيسكوس يوهانز فان دين برج (١٨٣٣–١٨٩٢) بكلية الهندسة بدلفت (التي لم يستطع الحصول على شهادة منها) ملقيًا محاضرات الهندسة التحليلية والوصفية. وفي مايو من نفس العام، تزوج من إليزابيث (لِيلِي) إينتفلد. وفي الأول من ديسمبر ١٨٨٣، قرر مغادرة لييد لتلقيه عرضًا للحصول على كرسي الأستاذية في حساب التفاضل والتكامل بجامعة جرونينج. لكن، عندما أتت ساعة الاختيار الحاسمة، فضلوا مرشحًا آخر عليه. وفي الثالث عشر من مارس ١٨٨٤، كتب إلى إرميت يقول:

لقد وضعتني كلية جرونينج في مقدمة الاختيارات للمنصب الشاغر، إلا أن السيد الوزير وضع أسماء أخرى. ربما يرجع السبب إلى أنني — لم تُتَحْ لي الفرصة لاتباع الطريق المعتاد — لم أحصل على درجة جامعية.

كان الأمر فيه مفارقة، خاصة عندما نعرف مدى إسهام ستايلتج في نظرية التكامل! بنهاية مارس ١٨٨٤، حضر ستايلتج — أثناء رحلة له إلى باريس — أول محاضرة من الفصل الدراسي الثاني يلقيها إرميت. ثم شرع في العمل حول الطرق التي تؤدي إلى قيمة رقمية تقريبية لمعادلة تكاملية محددة. واستطاع ستايلتج من ثم أن يتوصل إلى نتائج قريبة من طريقة توصل إليها كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) في عام ١٨١٤ ولا تزال تستخدم إلى الآن. وهو العمل الذي وصفه إرميت بالعمل بالغ الأهمية.

في مايو ١٨٨٤، نال الأستاذ الهولندي ديفيد بيرنز دي هان (١٨٢٢–١٨٩٥) درجة الدكتوراه الشرفية بمناسبة المئوية الخامسة لجامعة إدنبرة. عندما قابله شارل إرميت وصهره إيميل بيكارد (١٨٥٦–١٩٤١) استغرقَا في مدح أعمال ستايلتج. ولا بد من أن توصياتهم كان لها أثر، ففي يونيو ١٨٨٤، منحت جامعة لييد لستايلتج الدكتوراه الشرفية. وواصل حساباته لصالح مرصد لييد: تحديد الزمن وسمت الشمس والملاحظات اللازمة لتحديد الانحراف المغناطيسي … إلخ. وفي سبتمبر، كان ميلاد ابنه الأول (توفي عام ١٨٨٧، وأنجب ستايلتج بعده ولدًا وبنتين). وفي أبريل ١٨٨٥، جاء ليقيم في باريس. كان يريد البقاء في فرنسا والحصول على الجنسية الفرنسية (وحصل عليها في يوليو من عام ١٨٨٦). وفي السادس من مايو، تم انتخابه عضوًا بالأكاديمية الملكية للعلوم بهولندا. وعُرض عليه أيضًا العودة إلى بلاده ليتولى هناك منصبًا جامعيًّا من اختياره، لكنه رفض. ولكي يتمكن من الوفاء باحتياجات أسرته، ساعده إرميت في تقديمه إلى مدير الدراسات بمدرسة سانت بارب، وأيضًا إلى أنطوان ديزيريه أندريه (المولود في ١٨٤٠) الذي كان أستاذًا في الرياضيات الخاصة.

وفي سبيل حصوله بسهولة على منصب في فرنسا، اقترح عليه إرميت وجاستون داربو (١٨٤٢–١٩١٧) إعداد رسالة. وبالفعل، بدأ بالعمل على دالة ريمان الشهيرة. لكنه قرر فجأة — لعدم رضاه عن النتائج الأخيرة — تغيير موضوع رسالته، كما أوضح لإرميت في الثالث عشر من فبراير ١٨٨٦:

… لقد تركت فكرتي الأولى. في الواقع، لم أكن راضيًا تمامًا عن بعض أجزائها من ناحية، وأيضًا رأيت أن الموضوع يتضمن تطورات كبيرة ليست واضحة لي وتستدعي الكثير من العمل.

يمكننا إبداء إعجابنا ببصيرة ستايلتج عندما نعرف أن هناك بعض المسائل حول هذه الدالة لم يتوصل أحد إلى حل لها حتى ساعتنا هذه. وفي الثلاثين من يونيو ١٨٨٦، ناقش بجامعة السوربون رسالة بعنوان «دراسة بعض المتواليات شبه المتقاربة». وكانت لجنة المناقشة تضم إرميت وداربو وعالم الفلك فرانسوا فليكس تيسراند (١٨٤٥–١٨٩٦). ولقد عالج في رسالته الثانية النظريات الحديثة حول قانون تغير الكثافة داخل الأرض. وفي تقريره، كتب إرميت:

إن إعطاء الجامعة درجة الدكتوراه للسيد ستايلتج هي شهادة تعبر عن أكبر درجة من التقدير لرسالته وهي على نفس مستوى أعماله السابقة.

لقد وضع عالم الهندسة الشاب نفسه بين صفوف المخترعين في مجال التحليل بأعمال عدة … ونحن نعبر بالإجماع عن رغبتنا في أن يفتح السيد وزير التعليم العام الباب أمام السيد ستايلتج للتدريس في جامعاتنا؛ لأن الموهبة اللامعة التي أظهرها هي الضمان لقدرته على القيام بالواجبات التي ستُعهد إليه.

وفي يوم المناقشة ذاته، التقى ستايلتج بالوزير بهدف إيجاد منصب له. كان هناك منصبان شاغران؛ أحدهما في جامعة تولوز والآخر بليل. كان العميد في تولوز هو عالم الفلك إدوارد بنجامين بايو (١٨٤٨–١٩٣٤) أحد تلاميذ إرميت. أما في ليل، ﻓ «كانت تكاليف الحياة باهظة، بالإضافة إلى أنه كان من المحتمل أن يجعلوه يدرس في المعهد الصناعي.» وفي مطلع سبتمبر ١٨٨٦، أصبح ستايلتج مدرسًا بكلية العلوم بتولوز؛ حيث أقام مع أسرته ابتداءً من شهر نوفمبر. وكانت الفترة الأكثر خصوبة في مسيرته المهنية على وشك البدء.

كانت محاضراته تقوم على دراسة نظرية الدوال لمتغير مُركب والدوال المحذوفة، موضوع إرميت المفضل. ثم خلف ستايلتج بيكارد وإدوارد جورسا (١٨٥٨–١٩٣٦) وجابريل كونيجز (١٨٥٨–١٩٣١). لكنه اشتكى من عدم وجود الفضول الفكري الكافي لدى طلابه الذين انشغلوا بالإعداد للاختبار أكثر من السعي وراء تحصيل المعرفة الرياضية. ومن بين طلابه القدامى، كان هنري بورجيه (١٨٦٤–١٩٢١) الذي قام لاحقًا بالتعاون مع بايو بإعداد رسائل ستايلتج وإرميت للنشر، والذي قال عنه:

على الرغم من مواجهته صعوبات في البداية بسبب اللغة، فإن ستايلتج استطاع أن يثبت نفسه كأستاذ لامع. كانت محاضراته تمتلك نفس مميزات أبحاثه؛ أي الوضوح الشديد وانعكاس صفاء الذهن، مما أتاح له عرض أصعب النظريات بطريقة بسيطة. هذا إلى جانب الأمثلة العديدة والمتنوعة ذات المغزى دائمًا التي تُدخِل مباشرة إلى ذهن مستمعيه أكثر المفاهيم صعوبة حتى دون أن يلحظوا. كنا نخرج من محاضراته مذهولين من سهولة تحصيلنا للطرق العامة ومتعجبين من ثرائها، ويملؤنا شعور بأن فن تطبيق تلك الطرق أهم من فهمها. لم أعرف قط أستاذًا غيره ينمي في تلاميذه الإدراك بقدرة الأدوات التي يضعها بين أيديهم. كان هذا الميل إلى شرح النظريات عن طريق استخداماتها لا يفلت منه النظام الذي كان يحرص عليه بأشد تدقيق. وكان يدرك كيف يميز ببراعة بين ما يجب تدريسه وما يجب الإشارة إليه سريعًا.

في عام ١٨٨٧، كان واحدًا من مؤسسي جريدة «سجل كلية العلوم بتولوز» التي لا تزال تُنشر حتى اليوم. في عام ١٨٨٩، تم تعيينه أستاذًا لحساب التفاضل والتكامل بتولوز، إلا أن صحته بدأت في التدهور. وفي ديسمبر ١٨٨٨، أُصيب ببثرة في أذنه كانت تسبب له صداعًا شديدًا وتمنعه من النوم. وخلال شتاء عام ١٨٩٠، انتشر وباء الحصبة في باريس وتولوز، وبالتأكيد أُصيب ستايلتج به. ومنذ ذلك الوقت، وصحته تترنح بسبب فترات من الإرهاق البدني الشديد والملل المعنوي. في ذلك الوقت، كان أكثر ما يثير اهتمامه هو نظريات الكسور المتصلة. وبالفعل، منذ عام ١٨٨٤، ازداد شغف ستايلتج — كما رأينا — بطريقة التربيع لجاوس، وخاصة «بماهية الدالة التكاملية المحددة الغريبة والنوع الخاص من الكسور المتصلة». وقضى صيف عام ١٨٨٩ في هولندا، التي لم يكن قد زارها منذ أربعة أعوام. وساعد إرميت على نشر خاتمة بحث حول الدوال المحذوفة بعد أن منعت الوفاة جورج هنري هالفن (١٨٤٤–١٨٨٩) من إنهائها. ولقد تطلب منه هذا الأمر الكثير من العمل، إلا أن همه الأكبر كان إنهاء عمله حول الكسور المتصلة على النحو الأكمل. وفي ديسمبر ١٨٩٠، طلب منه إرميت أن يدخل المسابقة لنيل الجائزة الكبرى في علوم الرياضيات التي تقدمها الأكاديمية. إلا أنه رفض لكونه متعبًا للغاية ومنشغلًا بالعمل على تأليف كتاب حول نظرية الأعداد. وفي يناير ١٨٩١، اشتكى من مصاعب في التنفس، وقضى من جديد الصيف في هولندا. كما عُين عضوًا بالمراسلة في أكاديمية العلوم بأمستردام. وفي مايو ١٨٩٢، أُصيب بالتهاب الشعب الهوائية المزمن. وفي يونيو ١٨٩٢، نال جائزة دورموي من أكاديمية العلوم بباريس.

وفي يوليو ١٨٩٢، عاد إلى هولندا ليطمئن على والدته التي كانت تحتضر، لكنه وصل متأخرًا بضع ساعات، ولم يستطع أن يزف لها نبأ حصوله على جائزة لوكونت من الأكاديمية. ثم قضى عطلته في آركاشون لكي يتعافى. وكانت أعراض الدرن الرئوي — الذي سيودي بحياته بعد عامين — قد بدأت تظهر عليه. وضعت أكاديمية العلوم بباريس اسمه في السطر الثاني — على قدم المساواة مع هنري بوانكاريه (١٨٤٥–١٩١٢) كمرشح خلفًا لبيير أوسيان بونيه (١٨١٩–١٨٩٢). لكن تم اختيار بول آبل (١٨٥٥–١٩٣٠). في ديسمبر، اضطر إلى التخلي عن رحلة إلى باريس (ليحضر دون شك احتفال السوربون بعيد ميلاد إرميت السبعين) بسبب إرهاقه الشديد الذي جعله يلازم الفراش معظم الوقت. ولقد تدخل إرميت في سبيل منح ستايلتج إجازة لمدة ثلاثة أشهر (من يناير حتى مارس ١٨٩٣). ولقد قضاها في فندق داريو بمنطقة مصطفى بضواحي العاصمة الجزائرية، يعمل قليلًا ويتنزه منشغلًا بالتفكير. وتوصل بالفعل إلى حل لمشكلة كانت تعترضه منذ فترة طويلة في عمله حول الكسور المتصلة. ثم قام برحلة إلى باريس في يونيو ١٨٩٣ وقضى عطلته الصيفية في بانيريس دي بيجور؛ حيث كان يأمل في اكتساب مزيد من الوزن بفضل «نوع معين من بودرة اللحم». وخلال شتاء ١٨٩٣، عاد إلى العاصمة الجزائرية، لكنه لم يجد سوى الأمطار والطقس السيئ. كان ستايلتج يبصق دمًا ويفقد الوزن. لكنه استمر في العمل، وقاده هذا التفكير إلى أكثر أعماله أهمية. وهكذا، في عام ١٨٩٤، نشر في دفاتر أكاديمية العلوم بباريس ملخص عمله الأكثر أهمية «أبحاث حول الكسور المتصلة»، الذي سيتم نشره بالكامل في نهاية عام ١٨٩٤ في سجل تولوز قُبيل أشهر من وفاته. كان هذا البحث — المكون من مائة وتسع وستين صفحة الذي استغرق العمل فيه من أبريل ١٨٩٤ وحتى نهاية مايو — درة أعماله. ولقد عانى كثيرًا في كتابته، وبعد أن انتهى منه كان في حالة من الإنهاك التام. وبعد قضاء عطلة في سادياك في منطقة بيرينييه، بلغته أنباء عن التقرير الذي كتبه هنري بوانكاريه بخصوص بحثه (الذي حصل على جائزة أكاديمية العلوم):

يعد عمل السيد ستايلتج أحد أكثر أبحاث التحليل نبوغًا في الأعوام الأخيرة. وهو بذلك ينضم إلى أعماله السابقة التي وضعت مؤلفها في مصاف أبرز العلماء في عصرنا. ويُضاف إلى وضوح وأناقة الشكل التحليلي — الذي نلحظه في بحثه موضع الحديث — موهبة الابتكار التي هي سمة كافة الأبحاث التي تدور حول مسائل هامة وصعبة …

أراد ستايلتج استئناف محاضراته، لكن لم تواته القوة. وتدخل إرميت — كما هو الحال دائمًا — لدى الوزير ليتم تغيير مسئولية إلقاء المحاضرات بعمل آخر. وهكذا، عُرض على ستايلتج شغل منصب مدير قسم الحسابات الخاصة بالكويكبات التي تم اكتشافها حديثًا في فرنسا. وكأنه عاد مرة أخرى إلى نقطة البداية، وبالفعل وضع برنامجًا ليتم إجراء هذه الحسابات بواسطة عوامل مساعدة.

في الثالث من ديسمبر ١٨٩٤، تم انتخابه عضوًا بالمراسلة بأكاديمية العلوم بسان بطرسبرج. وتوفي في الحادي والثلاثين من نفس الشهر بتولوز عن ثمانية وثلاثين عامًا. وتمت مراسم الجنازة في الثاني من يناير ١٨٩٥، ودُفن بمدافن تيركاباد.

قليل من علماء الرياضيات مَن أعمالهم بنفس قدر وأهمية أعمال ستايلتج؛ فتأثيره لا يزال محسوسًا حتى يومنا هذا.

(٥٤) ألبرت زينت جورجي

ولد ألبرت زينت جورجي فون ناجيرابوت في بودابست في السادس عشر من سبتمبر ١٨٩٣. ويرجع الفضل إلى خاله في توجيهه إلى مسيرة البحث العلمي. بدأ دراسته للتشريح في جامعة بودابست وحصل على شهادته في الطب عام ١٩١٧.

وبعد الحرب العالمية الأولى، تم تعيينه مساعدًا للأستاذ جي مانسفيلد بقسم علم الأدوية بجامعة براتيسلافا، حديثة الإنشاء في ذلك الوقت. ثم سافر إلى براغ ليدرس الكهرباء الفسيولوجية على يد الأستاذ آرمين تشيرماك سيسينيج (١٨٧٠–١٩٥٢). ثم عمل في مجال علم الأدوية في جرونينج بهولندا. وفي عام ١٩٢٧، ناقش رسالته للدكتوراه في الكيمياء بجامعة كامبريدج.

في عام ١٩٢٨، دعاه إدوارد كالفن كندال (١٨٨٦–١٩٧٣) — الحائز جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام ١٩٥٠ لاكتشافه تركيب الهرمونات الكظرية — إلى معمل مايو كلينيك بروتشستر بالولايات المتحدة الأمريكية. وهناك، استطاع زينت جورجي فصل حمض الهيكورنيك، الذي أثبت باحث مجري آخر يقيم في سفيبرلي بالولايات المتحدة أنه مماثل للفيتامين (ج)؛ أي حمض الأسكوربيك.

وعند عودته إلى المجر في عام ١٩٣١، حصل على منصب أستاذ بجامعة سيزجيد، وأصبح بعد قليل رئيس قسم. كما افتتح معملًا للأبحاث البيولوجية. وأخيرًا، تم تعيينه عميدًا.

في عام ١٩٣٧، أهلته أعماله للحصول على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب. وبعد الحرب، اتسع نشاطه في مجال الحياة العلمية وتنظيم الأكاديمية في بلاده. لكن — بسبب الوضع السياسي — قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩٤٧، وعاش هناك حتى وفاته. كانت أعماله تتعلق بمشاكل تنظيم حركة العضلات والخلايا. كما كانت له أبحاث حول مرض السرطان.

توفي ألبرت زينت جورجي في عام ١٩٨٦.

(٥٥) ستانيسلو أولام

ولد ستانيسلو مارسين أولام في الثالث من أبريل ١٩٠٩ بليمبرج ببولندا — التي كانت تتبع في ذلك الوقت الإمبراطورية النمساوية — وتدعى لفيف بأوكرانيا.

في سن العاشرة، التحق بمدرسة لفيف، ومنذ تلك اللحظة جذبته دراسة علم الفلك والفيزياء. ولقد أهداه عم له تليسكوبًا. وهو في الثانية عشرة من عمره، حاول أن يفهم نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥)، إلا أن هذا الأمر كان يستدعي حصيلة كبير من المعرفة الرياضية. ومن ثم بدأ يدرسها بنفسه اعتمادًا على مختلف الكتب وهو لا يزال في الرابعة عشرة من عمره. واستطاع أن يمضي إلى أبعد من منهجه في المدرسة.

في سن السادسة عشرة، كان قد درس التحليل الرياضي من كتاب جيرهارد كوالسكي (١٨٧٦–١٩٥٠)، ثم تطرق إلى نظرية المجموعات الموجودة في كتاب عالم الرياضيات البولندي الكبير واكلو سيربينسكي (١٨٨٢–١٩٦٩). كان علماء الرياضيات البولنديون هم من توصلوا إلى أحدث الأبحاث في مجال نظرية المجموعات وكل ما يتصل بها في ذلك الوقت.

في عام ١٩٢٧، التحق أولام بالمعهد الهندسي. وكانت إحدى المحاضرات هناك يلقيها كازيميريز كوراتويسكي (١٨٩٦–١٩٨٠) الذي تم تعيينه حديثًا في لفيف. كانا يتناقشان معًا بعد المحاضرات. كما اكتشف أولام حلًّا لمسألة مستعصية كان قد أعطاهم إياها. في عام ١٩٣٣، حصل على الدكتوراه تحت إشراف ستيفان باناش (١٨٩٢–١٩٤٥)، أحد أكبر الشخصيات في مجال الرياضيات، وكان موضوعها يدور حول نظرية القياس لهنري ليبيج (١٨٧٥–١٩٤١).

في عام ١٩٣٥، دعا جون فون نيومان (١٩٠٣–١٩٥٧) — عالم الرياضيات المجري الأصل المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية — أولام للحضور إلى معهد الدراسات العليا في برنستون. وهناك التقى جاريت دي بيرخوف (١٩١١–١٩٩٦) الذي دعاه إلى هارفارد. وبعد عودته إلى بولندا، عاد وقضى الخريف التالي في هارفارد لإلقاء محاضرات، ثم حصل هناك على منصب دائم. إلا أنه كان يعود عادة إلى لفيف ليري أسرته وأصدقاءه.

في بولندا، اتسمت الحياة في مجال الرياضيات بالحراك الشديد، واعتاد علماء الرياضيات على اللقاء في المقاهي — مثل المقهى الاسكتلندي ومقهى روما — ليتبادلوا طرح الأسئلة وعرض المسائل. ولقد صدر كتاب شهير عنهم. في عام ١٩٣٩، غادر أولام بولندا، قبل شهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية.

في عام ١٩٤٠، حصل على منصب أستاذ مساعد بجامعة ويسكنسن، ثم نال الجنسية الأمريكية في عام ١٩٤٣. وفي العام ذاته، طلب منه جون فون نيومان الانضمام إلى فريق مشروع إنشاء القنبلة النووية بمركز لوس آلاموس في صحراء نيو مكسيكو. وبالفعل، عمل مع الفيزيائي إدوارد تيلر (١٩٠٨–٢٠٠٣) وتوصلا إلى حل مشكلة أساسية باقتراحه أن الضغط هو عنصر رئيسي لتفجير القنبلة، وأن موجات الصدمة للقنبلة الانشطارية يمكن أن تحدث الضغط المطلوب. وخطرت له فكرة أنه يمكن توليد احتراق سريع لمادة الاندماج من موجات الصدمة. كان تيلر ميالًا لفكرة الانفجار. ويعد هذا الشكل الذي توصل إليه تيلر وأولام هو أصل اختراع الأسلحة النووية الحرارية. كما اقترح — بالتعاون مع جوزيف كورنيليوس إيفريت — استخدام الدفع النووي للمركبات الفضائية. وبالفعل، أثناء إقامته بلوس آلاموس قام بتطوير طريقة مونت كارلو.

طرأ التغيير الأهم في شخصية أولام في عام ١٩٤٦. كان قد تم تعيينه أستاذًا بجامعة جنوب كاليفورنيا بلوس أنجلوس. وذات صباح، وجد نفسه عاجزًا عن النطق بكلمة واحدة. وبعد عدة ساعات، خضع لعملية جراحية خطيرة بعد أن تم تشخيص مرضه بالتهاب في الدماغ. كان لديه دائمًا أفكار لامعة، لكن بدا وكأنه يقصد تجنب التفاصيل تاركًا العمل الشاق لآخرين. ويبدو أن مأساة أولام كانت تكمن في امتلاكه نوعًا من الضعف التقني ممزوجًا بخيال خصب ومبدع غير مألوف. كان يعرف آلاف القصص وألعاب الكلمات والفوازير والشعارات والصيغ والأشكال والاستشهادات والملخصات … إلخ. وكان يثري بها محادثاته، ولا سيما أن ذاكرته كانت تساعده على ألا يكرر نفس القصة أمام نفس المستمعين. لكن كما روت زوجته فرانسواز، فإن الكتابة نفسها كانت أمرًا شاقًّا بالنسبة له. كان ذهنه وعيناه عقبتين أمامه، فكان لديه عين مصابة بقصر النظر والأخرى بطول النظر. وكان ذهنه يعمل بسرعة تفوق بشدة سرعة يديه. ومن ثم كان يعاني بشدة في كتابة مقالاته العلمية.

ظل أولام في لوس آلاموس حتى عام ١٩٦٥، وهو العام الذي تم تعيينه فيه أستاذًا للرياضيات بجامعة كولورادو. ووقت وفاته، كان هناك يدرس الرياضيات الحيوية.

وتوفي أولام في الثالث عشر من مايو ١٩٨٤ بسانتا في ولاية نيو مكسيكو بالولايات المتحدة الأمريكية.

(٥٦) أليساندرو فولتا

ولد أليساندرو جيوسيبي أنتونيو آناستاسيو فولتا في كوم في الثامن عشر من فبراير ١٧٤٥. كان والداه فيليبو وماريا ماديلينا دي كونتي إنزاجي من عائلة من النبلاء. لم يبدأ فولتا بالكلام إلا في الرابعة من عمره، واعتقد والداه أنه يعاني من تأخر ذهني. توفي والده وهو في السابعة من عمره، وكان حينها متفوقًا على كل زملائه في المدرسة بسبب ذكائه. ثم تولى عمه مسئولية تعليمه منذ ذلك الحين. حتى سن الثالثة عشرة، كان يدرس في مدرسة الجيزويت (اليسوعيين). وفي السادسة عشرة، التحق بالكلية الإكليريكية ببنزي في كوم. وعلى الرغم من الجهود المستمرة للأب جيرولامو بونيسي، رفض فولتا كل الضغوط ليصبح كاهنًا. وأيضًا دون فائدة، حاول عمه إقناعه بدراسة الحقوق.

وبعد المرحلة الثانوية، ترك فولتا الدراسة، وعكف على دراسة الظواهر الكهربائية. في الثامنة عشرة، أدرك أنه يريد أن يصبح عالمًا فيزيائيًّا. وقرأ مؤلفات بيتر فان موستشينبروك (١٦٩٢–١٧٩١) والأب جان أنطوان نوليه (١٧٠٠–١٧٧٠) وجمباتيستا بيكاريا (١٧١٦–١٧٨١)، وكانوا المتخصصين الثلاثة في مجال الكهرباء في ذلك العصر. كما تراسل مع الأب جان أنطوان نوليه، المعروف بتجاربه العامة حول الكهرباء الاستاتيكية. كان فولتا مبهورًا بالكهرباء حتى إنه كتب فيها قصيدة باللاتينية! ولقد قادت أعماله إلى اختراع الإلكتروفور (مولد الكهرباء الساكنة أو الاستاتيكية بطريقة الحث) في عام ١٧٧٥، وهو عبارة عن مركم يقوم بتحويل الجهد الميكانيكي المعتمد على مصدر للكهرباء إلى شحنة كهروستاتيكية. كان ذلك نموذجًا للآلات الدوارة. واشتهر فولتا وحصل على منصب أستاذ الفيزياء بثانوية كوم.

في عام ١٧٧٧، اقترح عمل نظام للتلغراف تنتقل فيه الإشارات بواسطة آلته من كوم إلى ميلان. وبعد عام، أثناء قيامه بجولة في قارب ببحيرة ماجور، رأى فقاعات غازية تخرج من الطمي. وقرر دراسة هذا الغاز الذي يختلف عن كل الغازات المعروفة من قبل، وأسماه «هواء المستنقعات البدائي». كان ذلك هو الميثان الذي تمكن من فصله. في عام ١٧٧٩، تم تعيينه أستاذًا بجامعة بافي، وهناك استكمل أبحاثه حول الكهرباء الاستاتيكية.

في عام ١٧٨٠، قام بعدة رحلات، بدأها بفلورنسا لزيارة المتحف الملكي للفيزياء والعلوم الطبيعية. ثم مر بسويسرا وغرب ألمانيا وهولندا وبلجيكا، ووصل أخيرًا إلى باريس في ديسمبر ١٧٨١. كانت أنشطته العلمية متعددة. واكتشف فولتا العلاقة الكمية التي تربط بين الشحنة الكهربائية والقدرة والطاقة الكامنة داخل موصل معزول. ثم درس علم القياس الكهربائي، واقترح وضع تنظيم موحد للقياسات الكهربائية. كما دعا إلى تحديد وحدة لقياس الفروق في الجهد الكهربي، وابتكر طريقة لقياسها. وكان له دور كبير في تحسين نظام القياسات الكهربائية واخترع مُكثفًا كهربائيًّا.

في عام ١٧٩٣، اكتشف فولتا أن التمدد يكون متساويًا في حالة ثبات ضغط الهواء لكل درجات الحرارة بالمقياس الزئبقي لرينيه فيرشو دي ريومير (١٦٨٣–١٧٥٧) ما بين درجة حرارة ذوبان الثلج ودرجة غليان الماء.

في عام ١٧٩٤، تزوج فولتا من ماريا تريسا بيريجريني وأنجبا ثلاثة أطفال، لكن توفي أحد أبنائهما في سن الثامنة عشرة. وفي نحو هذا التوقيت، اندلع خلافه مع لويجي جالفاني (١٧٣٧–١٧٩٨) حول الكهرباء الحيوانية.

في العشرين من مارس ١٨٠٠، تقدم فولتا ببيان لسير جوزيف بانكز (١٧٤٣–١٨٢٠) — رئيس الجمعية الملكية بلندن — يصف فيه اختراعه، العمود الكهربائي. صحيح أن فولتا لم يقدم أي عمل آخر في هذا الموضوع، إلا أنه حظي بفضله بمجد عظيم. في السادس من نوفمبر ١٨٠١، استقبله نابليون — واقفًا — في قصر التويلوري ومنحه لقب كونت. كما تم تعيينه عضوًا مشاركًا في المعهد. وفي اليوم التالي، كتب إلى زوجته أنه لا يصدق ما هو فيه، وأنه يفضل حياة السلام والسكينة مع أسرته عن هذه الأمجاد الباطلة. وبعد فترة من الزمن، عُين سيناتورًا لمملكة إيطاليا. وفي عام ١٨١٥، عينه إمبراطور النمسا مديرًا لكلية الفلسفة بجامعة بادو. لكنه استقال منها بعد أربعة أعوام ليعود إلى حياته الخاصة. وقرر فولتا التقاعد في عام ١٨١٩ وأقام في منزل بكاماجو، بالقرب من كوم. وتوفي هناك بعد فترة وجيزة من المرض في الخامس من مارس ١٨٢٧.

وأُقيم معرض في كوم أثناء صيف ١٨٩٩ للاحتفال بمئوية اختراع البطارية الكهربائية. وعُرض فيه الأجهزة التي اخترعها واستخدمها فولتا للتوصل إلى اختراعه، لكنها ضاعت جميعها على إثر نشوب حريق. سيظل فولتا خالدًا؛ حيث تم استخدام اسمه وحدة لقياس فرق الجهد للتيار الكهربائي؛ نوعًا من الاعتراف بفضله وتكريمًا لاهتمامه بعلم القياسات.

(٥٧) ألفريد راسل والاس

ولد ألفريد راسل والاس في الثامن من يناير ١٨٢٣ بأوسك في مقاطعة مونماوثشاير بإنجلترا. كان ترتيبه الثالث بين أشقائه الأربعة، والتاسع بين أبناء عائلة توماس فير والاس وماري آن جرينيل من أبناء الطبقة المتوسطة والدخل المتواضع. التحق ألفريد الصغير بالمدرسة بهرتفورد، لكنه اضطر إلى قطع دراسته قرب عيد الميلاد عام ١٨٣٦ — بسبب مشاكل عائلية — ومضى إلى لندن ليقيم مع أشقائه. ثم عاد إلى بدفوردشاير ليعمل في التجارة مع شقيقه، وعمل أيضًا مساعدًا لصانع ساعات. وخلال الأعوام التالية، تعرض لمواقف مختلفة زودته بالكثير من المعارف المتنوعة في التجارة والخرائط الجغرافية والبناء والميكانيكا والكيمياء والزراعة والهندسة وحساب المثلثات. كما تعلق أيضًا بدراسة علم النبات والجيولوجيا وعلم الفلك. وأثناء عمله بكينجتون، التحق في عام ١٨٤١ بمعهد الميكانيكا الذي أُنشئ حديثًا. ومن ثم، انتقل للإقامة في نيث، وكان يتابع المحاضرات التي يلقيها أعضاء الجمعيات العلمية المختلفة. وبصفته ملحقًا بمعهد نيث للميكانيكا، كان يعقد مؤتمرات حول مختلف موضوعات التاريخ الطبيعي. وبنهاية عام ١٨٤٣، حصل على منصب بمدرسة ليسيستر، واستمر يعلم نفسه بنفسه. والتقى بالعالم الطبيعي الهاوي هنري والتر بيتس (١٨٢٥–١٨٩٢). لكن لوفاة أخيه اضطر والاس إلى العودة ليحل محله في التجارة. ذهب بيتس في بعثة استكشافية إلى أمريكا الجنوبية ومعه والاس، بعد أن قرأ كتاب ويليام هنري إدواردز (١٨٢٢–١٩٠٩) «رحلة إلى أعلى نهر الأمازون». وأبحرَا إلى مدينة بارا (تسمى الآن بيليم) عند مصب نهر الأمازون في الخامس والعشرين من أبريل ١٨٤٨ ووصلا في الثامن والعشرين من مايو. وبعد مدة، انفصلا لأسباب غير معلومة. وعاد والاس إلى ريو نيجرو، وهي منطقة لم يذهب إليها أحد قبله ورسم خريطة لها. كما جذبته نظرية التطور. لكنه سقط مريضًا ولم يستطع المضي قدمًا، فغادر أمريكا الجنوبية في مطلع عام ١٨٥٢. ونشب حريق في سفينته احترقت على إثره جميع المجموعات التي كان قد جمعها بحرص. وبعد عشرة أيام — أمضاها على قوارب الإنقاذ — انتشلت سفينة شحن في طريقها إلى إنجلترا والاس ومن معه. واستغرقت رحلة العودة المحفوفة بالعواصف ثمانين يومًا. وأخيرًا عاد في الأول من أكتوبر ١٨٥٢.

كانت بعض من مجموعاته قد نجت، وكان يمتلك القليل من المال الذي يكفيه بعض الوقت. وذاعت شهرته كعالم طبيعة رحالة، لكنه لم يستطع كشف أسرار التطور، وحتى مجموعاته التي كان يعتمد عليها في عمله ضاعت. فسافر إلى سويسرا واشترك في العديد من المؤتمرات وكتب بضعة مقالات وكتابين حول رحلاته في الأمازون تركت جميعها انطباعًا إيجابيًّا.

ثم قرر والاس استئناف أنشطته كجامع هاوٍ. وحصل على منحة من الجمعية الجغرافية الملكية ليسافر إلى أرخبيل المالايو. وفي العشرين من أبريل ١٨٥٤، وصل إلى سنغافورة. وقضى هناك ثمانية أعوام متنقلًا فيها لأكثر من ثلاثة وعشرين ألف كيلومتر. وزادت مجموعاته حتى وصلت إلى مائة وخمسة وعشرين ألفًا وستمائة وستين عينة شملت أكثر من ألف عينة لأنواع جديدة! وفي عام ١٨٥٨، جاءته فكرة الانتخاب الطبيعي التي تحكم تطور الأنواع.

عاد والاس إلى إنجلترا في الأول من أبريل ١٨٦٢. وكانت الفترة من ١٨٦٢ وحتى ١٨٦٥ صعبة بالنسبة له. أراد أن يتزوج ويستقر لكنه لم يتمكن من هذا الأمر على الفور. وفي عام ١٨٦٦، تزوج من ابنة أحد أصدقائه من علماء النبات — تدعى آني وتبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا — وأنجبا ثلاثة أطفال، لكن توفي أحدهم وهو في سن صغيرة.

كان يُعتقد أنه مؤيد متحمس لنظريات تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢)، إلا أنه قدم مقالًا في عام ١٨٦٤ إلى الجمعية الأنثروبولوجية بعنوان «أصل الجنس البشري وتاريخ الإنسان، استنتاجًا من نظرية الانتخاب الطبيعي»، سعى فيه إلى التوفيق بين المواقف المدافعة عن وحدة السلالة وتلك المؤيدة لنظرية تعدد السلالة حول أصل البشرية. منذ بضعة أعوام، بدأ يشك في أن مذهب داروين قادر على إدراك الخواص الأكثر سموًّا للبشر. وتعلق بالفلسفة وبالمذهب الروحاني وانتهى باعتناقه في عام ١٨٦٦. كان يريد التوفيق بين التطورات المادية والروحية للإنسان. وقام بنشر نصوص حول السياسة وعلم الجيوديسية وعلم الجلادات وتنظيم المتاحف. وفي العقد التالي، كان قد نشر أكثر من مائة وخمسين عملًا في العديد من المجالات. في عام ١٨٨١، بدأ وضعه المالي يتدهور، وحصل — بمساعدة داروين — على منحة مدنية سنوية قيمتها مائتا جنيه استرليني. وفي عامَي ١٨٨٦-١٨٨٧، قام بجولة استغرقت عشرة أشهر حول الولايات المتحدة الأمريكية وكندا لحضور سلسلة من المؤتمرات. ونظرًا لاهتمامه بموضوع ملكية الأراضي ونشره للعديد من الأعمال في هذا المجال، تم تعيينه — منذ عام ١٨٩٥ وحتى وفاته — رئيسًا لجمعية تأميم الأراضي. كانت آراؤه اشتراكية، وظل مدافعًا عن العدالة الاجتماعية. ونشر أيضًا الكثير من المؤلفات حول العملة النقدية والميراث وإعادة الثقة في غرفة اللوردات وإعادة إحياء الكنيسة. وسافر إلى إنجلترا ليلقي مؤتمرات ويحضر اجتماعات وينظم رحلات استكشافية للنباتات. وظل ينشر بكثرة في العديد من المجالات.

وتوفي والاس أثناء نومه في برودستون في السابع من نوفمبر ١٩١٣. وفي الأول من نوفمبر ١٩١٥، تم وضع ميدالية تحمل اسمه فوق قبره بدير وستمنستر.

(٥٨) ألفريد فيجنر

ولد ألفريد لوثر فيجنر في برلين في الأول من نوفمبر ١٨٨٠. كان والده راعيًا بروتستانتيًّا. درس فيجنر في جامعتي هيدلبرج وإينسبروك، وحصل في عام ١٩٠٤ على درجة الدكتوراه في علم الفلك من جامعة برلين. لكن كان دائم الاهتمام بالعلوم الحديثة مثل الجيولوجيا الفيزيائية وعلم المناخ. كما درس طرق التحكم في الطائرات الورقية، وكان رائدًا في استخدام البالونات لرصد الأحوال الجوية. وفي هذا الموضوع ألف كتابًا أصبح من الكلاسيكيات في ألمانيا. كان يهتم أيضًا بالتدريبات البدنية مثل السير لمسافات طويلة والتزلج. في عام ١٩٠٦، حطم الرقم القياسي بالطيران لمدة اثنتين وخمسين ساعة في المنطاد. وفي العام ذاته، شارك في رحلة استكشافية دنماركية للأرصاد الجوية في شمال شرق جرينلاند. وعند عودته، حصل على منصب معيد بجامعة ماربورج. ونشر بحثًا حول الديناميكا الحرارية في الهواء. وفي عام ١٩١٢، قام برحلة استكشافية أخرى لجرينلاند. وبالتعاون مع الدنماركي يوهان بيتر كوخ (١٨٧٠–١٩٢٨)، نجح في استكمال رحلة العبور الطويلة للكتلة الجليدية. وعند عودته، أصبح مديرًا لقسم أبحاث الأرصاد الجوية في مرصد البحرية بهامبورج. في عام ١٩١٤، أُصيب بجراح وهو في الجيش الألماني. وفي عام ١٩١٥، ظهر كتابه حول الانجراف القاري. إلا أن نظرياته لم تُقبل بسهولة. انتهت الحرب وفيجنر في خدمة التنبؤ بالأرصاد الجوية بالجيش. وبعد الحرب، عاد إلى ماربورج، وأصابه الإحباط من كثرة العقبات التي توضع أمام تقدمه. في عام ١٩٢٤، عُرض عليه كرسي الأستاذية — الذي أُنشئَ خصوصًا له — في علم الأرصاد الجوية والجيولوجيا الفيزيائية بجامعة جراتز بالنمسا.

توفي فيجنر أثناء رحلته الاستكشافية الثالثة بجرينلاند عام ١٩٣٠ بمجرد انتهائه من إحضار الإمدادات لزملائه.

(٥٩) فرانسيس وينهام

ولد فرانسيس هربرت وينهام في كينسينجتون عام ١٨٢٤. وكان والده جراحًا في الجيش. ومنذ صباه، أظهر وينهام ولعًا بالأمور العلمية والتقنية. في سن الرابعة عشرة، حالفه الحظ بحضور تجربة إبحار مركب يدعى أرشيميد في نهر التايمز بهدف إثبات مزايا تسيير السفينة بالمروحة عن تسييرها بالعجلات. ويبدو أن هذا الاستعراض كان دافعًا له ليصبح مهندسًا للبحرية ومتخصصًا في محركات الدفع. في سن السابعة عشرة، أصبح مساعدًا في مكتب الدراسات بشركة بيسترول التابعة لشركة وسترن الكبرى للسكك الحديدية، التي كانت تعمل على إنشاء سفينتها الثانية العابرة للمحيط الأطلنطي «بريطانيا العظمى». وهناك التقى بإيزامبارد كينجدوم برونل (١٨٠٦–١٨٥٩)، وهو من بنى السفينة، وأيضًا جيمس ناسميث (١٨٠٢–١٨٩٠)، صاحب اختراع المطرقة التي تعمل بضغط الغاز، الذي سيصبح صديقًا له لأكثر من أربعين عامًا.

بدأ وينهام مسيرته المهنية النشطة والمليئة بالنجاحات كمصمم لمحركات السفن وللأجهزة التي تعمل بالغاز والهواء الساخن وللدفايات ذات الضغط العالي والعربات البرية وغيرها من الماكينات. ولأكثر من مرة حرص على أن يصنع اختراعه بنفسه.

وعند إتمامه عامه الثلاثين، كان قد صمم وأنشأ سفينة تعمل بالبخار وعبر بها نهر النيل مع فرانسيس فيرث (١٨٢٢–١٨٩٨) ليلتقطَا صورًا للأهرامات والمقابر والمعابد وتماثيل أبي سمبل. ولقد تركت فيه هذه الرحلة أثرًا كبيرًا، وكثيرًا ما كان يشير إليها في كتاباته حول علم الطيران. ولقد علمه فيرث العديد من الأشياء حول التصوير الفوتوغرافي، كما كانت تلك الحملة هي بداية تكوين فيرث لثروته من بيع صور رحلتهما. وفي نهاية الرحلة، باع وينهام سفينته لولي العهد المصري.

كان علم الطيران هو ما يشغل وينهام وقت فراغه، وكان هو صاحب اختراع كلمة طائرة aéroplane، وله تأثير عميق في محاولات التطوير الأولى للطيران.

كما انجذب للعديد من المسائل، مثل حركة الخلايا المنقسمة وتكوين وتطور الخلايا النباتية وغيرها من الموضوعات. ومنذ عام ١٨٥٠، بدأ اهتمامه يزيد بالتصوير الفوتوغرافي، ولا سيما مع ظهور طريقة الكولوديون. ثم بدأ في صنع الصور المجهرية الصغيرة. وأثبت كيفية ضبط الرؤية عن طريق الإشعاع. وهي مسألة هامة لأن الألواح الفوتوغرافية لم تكن حساسة إلا للون الأزرق. كما يرجع إليه الفضل في العديد من التحسينات والاختراعات المتعلقة بالتصوير الفوتوغرافي، خاصة فكرته لتكبير الصور في عام ١٨٥٣؛ أي قبل أن تخطر لويليام هنري فوكس تالبوت (١٨٠٠–١٨٧٧).

وبعد وفاة توماس روس في عام ١٨٧٠، عُرض عليه منصب مستشار بشركة روس وشركاه. وقام بتطوير العديد من مساند المجاهر. في عام ١٨٧٥، كتب مقالًا حول فوائد — قد تكون وهمية — للرؤية المائلة. وقام بتصنيع مجهر مزود بمسند يمكنه الميل بحسب المحور البصري. في عام ١٨٨٢، قبل أن يترك شركة روس، أنتج مجهر روس-وينهام الإشعاعي. ولقد نال هذا الجهاز إعجابًا هائلًا وإن كان متأخرًا، وهو الآن من أهم الأغراض التي يهوى الناس تجميعها.

ولقد روى وينهام أنه نظر داخل مجهر لأول مرة وهو في الثالثة عشرة من عمره. إلا أن اختراعاته في هذا المجال جاءت متأخرة. في عام ١٨٣٨، اخترع السير تشارلز ويتستون (١٨٠٢–١٨٧٥) المنظار المجسم. لكن يبدو أنه لم تكن هناك أي تجارب جدية لتطبيق نفس المبدأ على المجهر الثنائي بالتأكيد قبل تلك التي أجراها الأمريكي جون ليونارد ريدل (١٨٠٧–١٨٦٥). لكن لم تُعرف أعماله في إنجلترا إلا في عام ١٨٥٣، حينما نشر وينهام مقالًا في ذات الموضوع وصف فيه مبدأ المجهر الثنائي المجسم، مقترحًا حلولًا مختلفة لتصنيعه. كانت النقطة الأكثر حساسية هي كيفية إحداث تشابك بين الأشعة المضيئة بهدف وضع الصورة في الاتجاه الصحيح. كان من اللازم استخدام منشور، لكن لم يكن تصنيعه بالأمر السهل. وترك وينهام هذا الأمر جانبًا حتى عام ١٨٦٠، حينما كشف أخيرًا عن اختراعه. يمكن القول إنه صمم أو اقترح ما لا يقل عن سبعة عشر ترتيبًا ثنائيًّا للمجهر.

لاحقًا، اهتم وينهام بالإضاءة باستخدام الغاز، ونال عدة براءات اختراع استغلها داخل شركته التي أنشأها. ثم تقاعد عن العمل في سن الستين، لكنه لم يتوقف عن أنشطته الأخرى؛ حيث نال بعد ذلك براءة اختراع عن البيانو الميكانيكي وأخرى عن طرق تحريك السيارات. وظل شغفه بالطائرات حتى موته في عمر الرابعة والثمانين في عام ١٩٠٨.

(٦٠) روبرت ويلسون

ولد روبرت وودرو ويلسون في هيوستن بتكساس في العاشر من يناير ١٩٣٦. بعد دراسته للفيزياء بجامعة ريس بهيوستن، ذهب إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بباسادينا للإعداد لرسالته دون أن تكون لديه فكرة واضحة عن الموضوع الذي يرغب في دراسته. كان جون جاتنبي بولتون (١٩٢٢–١٩٩٣) قد وصل مؤخرًا لإنشاء مرصد فلكي لا سلكي. وقد وضع ويلسون وبولتون معًا خريطة إشعاعية لا سلكية كاملة لمجرة درب التبانة. وكان هذا هو موضوع رسالته التي أتمها تحت إشراف مارتن شميد (المولود في ١٩٢٩) بعد عودة بولتون إلى أستراليا. وانضم ويلسون لمعامل شركة بل بكراوفورد هيل في عام ١٩٦٣. وبدأ العمل مع أرنو بنزياس. وأخيرًا، نال جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٧٨ عن اكتشافه لإشعاع الخلفية الكوني.

(٦١) فريدريش فوهلر

ولد فريدريش فوهلر في إشيرشايم بالقرب من فرانكفورت على نهر الماين في عام ١٨٠٠. ودرس الطب في جامعة كاربورج في عام ١٨٢٠، ثم التحق بجامعة هيدلبرج. وهناك أقنعه ليوبولد جميلين بالتخصص في الكيمياء. سافر لمدة عام إلى ستوكهولم للعمل في معمل جونز جاكوب برزيليوس (١٧٧٩–١٨٤٨). ويرجع إليه الفضل في وضع تعريفات لبعض المفاهيم الأساسية مثل التماثل البصري وتعددية خواص الجينات والتأصل. كما درس التحفيز. وحصل على العديد من المكونات النقية مثل الكالسيوم والسيليسيوم والسيلينيوم واكتشف الثوريوم. في عام ١٨٢٣، ناقش رسالته للدكتوراه في الطب. ثم بدأ في تدريس الكيمياء في برلين وكاسل. وعُين أستاذًا للكيمياء بكليات الطب ومديرًا لمعهد الكيمياء بجوتنجن في عام ١٨٣٦. ولقد قام بتجارب التركيب الأولي للمواد العضوية مثل حمض الأكساليك (١٨٢٤) والبول (١٨٢٨). قبل اكتشاف فوهلر بقليل، أعلن برزيليوس أنه لا يمكن على الإطلاق تركيب مكونات تنتجها الكائنات الحية؛ لأنه في تلك الحالة نكون في حاجة إلى «قوة حيوية». إلا أن فوهلر تمكن — ولأول مرة — من تصنيع مكون عضوي في المعمل. ومن ثم فهو يعد رائد التركيب العضوي. وله أيضًا أعمال حول مادة الكينين (مادة شبه قلوية) ومشتقاتها والقلويدات (الكوكايين والناركوتين …) كما نجح في إجراء تفاعلات في درجات حرارة عالية وتحت ضغط. وانطلاقًا من أعماله تطورت طرق إعداد القدور الضاغطة. وتوفي في جوتنجن في عام ١٨٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤