الفصل الخامس عشر

الأب والابنة

وفي اليوم الثاني ذهب البارون مع باسي في طريق باريس، بعد أن استأذنَا من سانت ليك وامرأته اللذين بقيَا في منزل البارون بعد إلحاحه عليهما بالبقاء.

وسار الفارسان يقطعان تلك المسافة الشاسعة وباسي يسكن من جأش ذلك الكهل العجوز ويطيِّب خاطره، وينفذ إلى قلبه أشعةً من الآمال كانت تعين ذاك المسكين وتسليه بعض السلوى، حتى وصلَا إلى باريس، فذهب به الكونت توًّا إلى قصره، وامتنَعَ البارون عن الدخول؛ لأنه حسبه قصر الدوق، فأعلمه أنه في منزله، فدخل وأعَدَّ له فيه أحسنَ الغرف.

ثم غادره وحده ريثما يستريح من عناء السفر، وذهب فخلا بالطبيب الذي كان قد جعله قبل أن يسافر رقيبًا على منزل ديانا، وأخبره الطبيب بأنه قد اكترى غرفةً تجاه ذاك المنزل وأقام فيها يراقب كلَّ شيء في مدة تغيُّبه …

سأله: ماذا رأيت؟ هل عاد المسيو دي مونسورو؟

– نعم، لكنه خرج كما دخل، أي لم يستفِدْ شيئًا.

– كيف عرفْتَ ذلك؟

واحمرَّ وجه الطبيب وتلعثم حينًا.

ثم اندفع يقول: عرفتُ هذا من جرتريدة يا مولاي، فهي تحبني بغيرة وإخلاص، كما أن مولاتها تحبك ولا صبر لها عنك …

واختلج فؤاد باسي وقال: أهذا ما علمتَه أيضًا من جرتريدة؟

– نعم يا مولاي، وقد علمتُه منها أيضًا بالنظر؛ لأني قد دخلت إلى منزلها ورأتني فيه، وأخبرتها بأني ذاك الطبيب الذي جئتُ إلى منزلها معصوبَ العينَيْن لمداواتكَ.

وكانت أشعة الفرح تسطعُ عند ذِكْركَ بين عينيها، وكانت كلما رأتني تجعل حديثها معي عنك.

ولا تنقطع عن ذِكْرك، وعلائمُ الحب لا تخفى على أحد، ولا سيما على العشَّاق.

فامتلأ فؤاد باسي سرورًا مما سمع وسأله: كم مرة جاء دي مونسورو إلى المنزل؟

– مرة واحدة فقط.

– والدوق؟

– لم يحضر على الإطلاق، ولم يدخل المنزل أحد في غيابك غير مونسورو.

وتركه باسي وقد لقي بكلامه سرورَيْن؛ أحدهما: أن ديانا لا تزال تحتقر زوجها وتبغضه، والثاني: تيقُّنه من أنه محبوب من تلك الفتاة التي هي أول مَن عرف بها الهوى، وهي أول مَن بعث أشعة الحب إلى قلبه الذي لم يعرف الغرام قبل أن يتولَّهَ بها.

ثم ذهب إلى البارون وهو مشفق عليه أشد الإشفاق؛ لأنه كان لا يزال معتقدًا بموت بنته.

وسار به إلى الشارع المقيمة فيه ديانا.

ولما وصلَا إلى المنزل، ترجَّلَ باسي عن جواده ولبث البارون ممتطيًا جواده، وهو يحسب أن هذا المنزل هو للدوق.

لكنه ما لبث أن أحاط بصره بذاك البيت الصغير حتى احتدم غيظًا، واتقدت عيناه بشرر الغضب فنظر إلى باسي وقال: عفوًا أيها الصديق، فإني لم أتعود العيش في باريس، وما أنا بواقف على شيء من أسرارها، لكن الذي أراه أنَّ مثل هذا المنزل الحقير غيرُ جديرٍ بسكنى رجل عظيم كالدوق، ولا أظنه إلا منزل خليلة له أو حظية من حظاياه، فإذا كان ذلك فَلْيعلم هذا البرنس السافل وَلْتعلم أنت أيضًا أن البارون دي ماريدور هو أرفع من أن يقابله الدوق في منازل حظاياه، وفوق ذلك فإني أعجب منك بعدَ ما رأيتُه من نبلك كيف تقودني إلى مثل هذا المكان، ألعلك تريد أن تُظهِر لي أن ابنتي كانت تعيش في مثل هذه البيوت، لو لم تؤثر الموت على العار وتنتحر فرارًا من هذا العيش الدنيِّ؟

فابتسم باسي ابتسامًا صادقًا اطمأنَّ له الشيخ، ثم قال له: لا تخشَ أيها البارون النبيل أمرًا، فإنك مخطئ في جميع ما تراءى لك من التصورات، وإن هذه الفتاة التي سندخل إليها من أكمل النساء، وأطهر الفتيات.

– ومَن عسى أن تكون هذه الفتاة؟

– هي امرأة نبيلٍ من أصحابك قد أحَبَّها الدوق.

– كيف تقول إنها امرأة نبيل من أصحابي، ثم تقول إن الدوق قد أحَبَّها؟

– ذلك لأني تعوَّدْتُ أن لا أنطق إلا بالحق في كل ما أقول، فادخل معي وسيتبيَّن لكَ صِدْقُ مقالي.

– إذًا احذر، فإني عندما كنت أبكي ابنتي كنتَ تمسح دموعي وتقول لي تعزَّ فإن مراحم الله كثيرة، فكأنك تعدني بأن أرى أعجوبة من السماء بما تمهِّده لي من العزاء.

فقال له باسي وهو يبسم دائمًا: ادخل يا سيدي وسترى!

وترجَّلَ البارون ودخل مع باسي.

حتى إذا وصلَا إلى صحن الدار برزت لهما جرتريدة، فانذهلت انذهالًا شديدًا لرؤيتهما، ووقفَتْ واجمةً لا تعلم ماذا تقول.

وأخرجَها باسي من هذا الموقف وقال لها: اذهبي إلى مدام دي مونسورو، وقولي لها بأن الكونت دي باسي يريد أن يكلِّمَها في الحال.

ثم عقَّبَ فقال لها بصوت منخفض: إيَّاكِ أن تذكري لها شيئًا عن البارون.

أما البارون فإنه اختلج فؤاده عندما سمع باسي يلفظ اسم مدام دي مونسورو.

فكرَّرَ هذا اللفظ بعجب شديد وهو يقول: ماذا أسمع؟

فأخذه باسي بيده ودخل به إلى قاعة الاجتماع، وفيما هما يدخلان إذ سمع البارون صوت ديانا تقول لجرتريدة: قولي للكونت دي باسي أن يدخل، فإني آتية إليه في الحال.

فارتجف البارون عند سماعه هذا الصوت وقال: إلهي! ماذا أسمع؟!

ثم فُتِح الباب ودخلت ديانا باسمة وهي لا تتوقَّع أن ترى أباها، فلما رأته ورآها صاح الاثنان صيحةً منكرة، وأكَبَّتْ ديانا على عنق أبيها ودموع الفرح منهملة من عينَيْها، فسقط البارون على مقعد واهيَ القوى، وقد كاد يقتله الفرح.

وصرخت ديانا تقول: ويلاه! … ماذا أصاب أبي؟ وما هذا الاصفرار الذي أراه في وجهه؟ … إليَّ أيها الكونت، فإني أراه مغمًى عليه.

– لا بأس أيتها السيدة، فهو سيفيق من إغمائه الذي لم يكن إلا لفرط سروره؛ فإنه كان يحسبكِ ميتة.

– ويلٌ للظالمين، ألَمْ يكن بينهم مَن يشفق على قلب والد عجوز!

ثم أفاق البارون من إغمائه، فضمَّ ابنته إلى صدره، وقد غسل وجهها بدموع الفرح.

وبعد ذلك نظر إلى باسي وقال: لقد أخبرتني أننا في منزل مدام دي مونسورو، فأين هي تلك السيدة؟

فتنهَّدَتْ ديانا وقالت: وا أسفاه! أنا هي تلك الشقية يا أبي، وإن دي مونسورو هو صهرك.

– عجبًا! … كيف يكون هذا الرجل صهري وأنا لا أعلم بهذا الزواج؟

– ذاك لأني لم أكن قادرةً على أن أكتب إليكَ حذرًا من أن تقع رسائلي بيد الدوق، وفوق هذا فقد كنتُ أحسب أنك عالم بكل شيء.

– إذا كان هذا، فما الذي منع زوجك عن إخباري؟ وما علة هذا الكتمان؟

– إنه لم يكتم عنك هذا الزواج فقط، بل كتَمَ عنك أيضًا كوني حية …

– أيصبح مونسورو صهري وأنا لا أعلم؟ إن هذا عجيب.

فقالت له ديانا بصوت المؤنب: ألسْتَ أنت الذي أمرتني بزواجه يا أبي؟

– نعم، بشرط أن ينقذك مما كنتِ فيه.

فسقطَتْ ديانا على كرسيٍّ، وهي تكاد أن يغمى عليها من الأسف وقالت: نعم، فلقد أنقذني من العار، لكنه لم ينقذني من الشقاء.

– إذًا فما الذي دفعه إلى أن يجعلني أعتقد بموتك وأبكيك البكاء المر وأنت حية؟

فتأوَّهَتْ وقالت: هذا ما لا أعلمه، ولكن يخال لي بأنه لم يفعل ذلك إلا تجنُّبًا لمكيدة يكيدها لي الدوق، وسيبقى الكونت معنا فيحمينا من شر هذا الدوق، أليس كذلك يا كونت؟

فاحمرَّ وجه باسي وقال: لا يحقُّ لي يا سيدتي أن أتداخل في شئونكم العائلية، وقد فعلتُ ما يجب عليَّ فعله، فجئتُكِ بأبيكِ الذي سيكون لك خير نصير، فلم يَبْقَ عليَّ غير الاستئذان بالانصراف.

فقال البارون: إن دي مونسورو لم يفعل ما فعل إلا خوفًا من غضب الدوق، ولا أرى الكونت إلا مصيبًا في خوفه مثل هذا الخوف أيضًا.

فرشقت ديانا الكونت دي باسي بنظرة ملؤها الحنان والاستعطاف، كأنها تقول له: أنتَ … أيها البطل الشهير، يخلق بك أن تخاف الدوقَ كما خافه مونسورو!

ففهم الكونت معنى هذه اللحظة الناطقة، فتبسَّمَ ثم نظر إلى البارون فقال: أرجو مولاي البارون أن يسأل ابنته إذا كانت راضيةً عن هذا الزواج الذي صادقَتْ عليه؟

فتأوَّهَتْ ديانا تأوُّهًا طويلًا دلَّ على شدة شقائها، وكان خيرَ جوابٍ.

فقال باسي: والآن يا سيدي البارون، ألستَ أنت الذي أمرتَ ابنتك أن تقترن بالبارون؟

– نعم، بشرط أن ينقذها، وإذ قد أنقذها ووفَّى بوعده كشريفٍ؛ فقد وجَبَ عليَّ أيضًا أن أَفِي بعهودي وأسلك مسلك الأشراف، فهي إذًا له وهو لها، ولا سبيل إلى الإخلاف.

فتنهَّدَتْ ديانا وقالت: أواه! يا ليتني متُّ قبل هذا!

أما باسي فإنه نظر إلى ديانا نظرةَ حزن وجزع وقال: أرأيتِ يا سيدتي، إني كنتُ مصيبًا حين قلتُ بأنه لم يَبْقَ عليَّ غير أن أستأذن بالانصراف؛ لأن أباكِ يحب الوفاء بما وعد.

ودنَتْ ديانا من باسي وقالت: لا تطعن قلبي أيها الكونت الطعنة الأخيرة، فإن أبي لا يعلم بعدُ أني أخاف هذا الرجل وأكره هذا الزوج، وأنظر إليه كما ينظر المحكوم عليه بالقتل إلى الجلاد …

فقال البارون: ولكنه أنقذكِ يا ديانا مما هو أشد من الموت، وعرَّضَ نفسه لأشد الأخطار كي ينقذ شرفك من العار، فما هذا الكره الشديد؟ وما علة هذه الشكوى؟

فقال باسي: نعم، إنه أنقذها أيها البارون من يد رجل أثيم، لكنه لم ينقذها صيانةً للشرف، بل هو قد سلك في ذلك سبيل المآرب الذاتية، ولا أحد يعلم ما هي غايته؛ لأن كل أعماله خفية مغلقة، ولا يبعد أن يكون وراء هذا الحجاب سر هائل ستكشفه لنا الأيام، غير أني أقول بأني لو كنتُ في مكان مونسورو وأنقذتُ ابنتكَ كما أنقذها، لما طلبتُ تعويضًا عن هذه الخدمة التي يقبح فيها كل عوض.

– ولكن فاتك أيها الكونت أنه يحبها، وذنوب الحب قريبة منال الغفران.

فبدرَتْ كلمة من باسي وقال: وأنا ألا …

ثم ألجمه الحياء عن أن يتم عبارته، فوجم عن الكلام.

ولكن ديانا فهمت كل ما كان يريد أن يقول، فدَنَتْ منه وقد صبغ الحب وجنتَيْها بحمرةِ الخجل، ثم قالت: إنكَ وقفتَ على دخائل قلبي، وطلبت إليَّ أن أقبل مساعدتك كأخٍ وصديق، وتذكر أني قد قبلتُ منك هذا الإخلاص، والآن أسألك أيها الصديق، وأيها الأخ، هل تستطيع أن تساعدني في شيء؟

فقال البارون: ولكن الدوق دانجو، كيف لنا بمقاومة هذه الصاعقة التي أرسلها الله على الأرض لعقاب البشر؟

فقال باسي: طِبْ نفسًا أيها البارون، فلستُ من الذين يرهبون غضب الأمراء، ومع ذلك فليس الدوق الذي يجب أن نحذر منه، بل ينبغي الحذر من مونسورو، فإني سأدع هذا الدوق يرجع عن غروره ويكون لك عونًا على صهرك.

فلم يحفل البارون بهذا الكلام، وتجسم في قلبه الخوف من الدوق، فقال: لكن إذا علم الدوق بأن ديانا في قيد الحياة …

فاستاء باسي مما سمع وقال: إن مغزى كلامك يدل على الريبة، وربما خطر لك أن مونسورو هو أقدم مني في صحبة الأمراء، وأنه أرفع مني مقامًا وأسمى منزلةً في عيونهم، فإذا كان ذلك فَلْنَدَع الكلام في هذا الشأن، وارفضْ كلَّ ما عرضتُه عليكَ من الخدمة … ولا تأبه بمساعدة الدوق التي عرضتُها عليك، وألقِ معظم اتكالك على ذاك الرجل الذي جعلتَه موضعَ ثقتكَ …

أما أنا فقد انتهيتُ من عملي، وقد قمتُ بما تفرضه عليَّ واجبات النبل من الخدمة، فلم يَبْقَ عليَّ سوى أن أودِّعَكم، وأدعو لكم بالهناء الدائم.

ثم قفل يريد الانصراف … فتمسَّكَتْ ديانا به وجثَتْ أمامه على ركبتَيْها وهي تقول: بالله لا تذهب ولا تدعنا وحدنا، فإني أتوسَّل إليك أن تبقى بقربنا وأن تساعدني على ما أنا فيه.

فضمَّ باسي يد ديانا بين يدَيْه وهو يرتعش من تأثير الغرام … وقد سقط غضبه عند توسُّلِها كما تسقط الثلوج المتراكمة لابتسام الشمس … ثم أوقفها ونظر إليها نظرة ملؤها الحب والحنان وقال: إذا كان ذلك فإني أقبل هذه الخدمة التي اعتبرها خدمة شريفة مقدسة، وثِقِي بأني سأخدمك خير خدمة، وسأجتمع بالدوق وأنقذك مما أنتِ فيه قبل مرور ثلاثة أيام، وإلا فلستُ الكونت دي باسي.

ثم اقترب منها أيضًا، وقال لها همسًا: نحن الآن خصمان لدودان للمسيو دي مونسورو، فاذكري أنني أنا الذي أتيتُ إليكِ بأبيكِ، وكوني لي كما أنا لكِ.

فشددت ديانا على يده، وقالت: إني لا أنسى حنوك إلى الأبد.

فودَّعها الكونت وانصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤