الفصل الحادي والعشرون

شيكو ينصح باسي بالهروب من باريس

وَلْنَعُدِ الآن إلى باسي، وهو أهم مَن تتطلع إليه أفكار القراء في هذه الرواية.

فإنه بعد أن خرج من منزل مونسورو، وأظهر لها حبوطَ مسعاه، وأنه غير قادر على إنقاذها من قبضة زوجها، ذهب إلى منزله واليأس ملء قلبه.

فُحِمَ لهول ما لقيه من خيانة الدوق.

وأقام ثلاثة أيام على فراش الحمى تتنازعه عوامل الموت والحياة.

ثم تغلَّبَ الصبي على فتكات الحمى، فشُفِيَ من دائه وعاد يفكِّر تفكيرَ المهموم بتلك الفتاة التي خلبَتْ قلبه، وهو لا يهدأ له بالٌ، ولا يقرُّ له جفنٌ، ولا يعلم بأية وسيلة يلقاها.

وبينما هو يتقلب على أحر من نار الغضا، إذ دخل عليه الدوق دانجو بحجة العيادة.

فارتاع باسي لمرآه، وتظاهَرَ بالتوجُّع كي لا يضطر إلى تكلُّف البشاشة.

غير أن الدوق لم تَخْفَ عنه هذه المظاهرات، فكظم الغيظ وأخبره أنه في حاجة إليه في المساء.

فامتنع باسي عن إجابته متذرِّعًا بحجة الداء، فخرج الدوق يتعثر بأذيال الخيبة، وهو حانق عليه أشد الحنق.

•••

وبعد خروج الدوق، دخل على باسي طبيبه الخاص رامي، وابتدره بالكلام فقال: ينبغي يا مولاي أن تسير معي لقضاء أمر هام.

– وماذا عسى أن يكون ذاك يا رامي؟ وأنت تعلم ما أنا فيه من النكد والهموم.

– أعلم جميع ذلك يا مولاي، ولم أَدْعُكَ إلى المسير معي إلا بغية تفريج هذا الهم …

وقد خشيتُ من أن تجيب الدوق إلى ما طلب … فتحبط جميع مساعينا …

فأسرِعْ يا مولاي واتبعني قبل أن يفوت الأوان.

وكان باسي يثق بهذا الطبيب ثقة عمياء، وقد رآه يكلمه وملامح الارتياح والبشاشة تلوح بين ثنايا وجهه، فعلم أنه لا بد من المسير معه.

فأسرَعَ إلى لبس ثيابه، وخرج في إثر طبيبه وهو لا يعلم أين يسير.

وما زالَا يسيران إلى أن بلغَا إلى منزل منفرد قفر، تحيط به حديقة كبيرة، فأخذ الطبيب مفتاحًا من جيبه وفتح به باب الحديقة، ثم دخل بسيده وقال: لقد انتهَتْ مهمتي الآن يا مولاي، فأنا سأقيم تحت هذه الشجرة، أما أنت فعليك أن تطوف في هذه الحديقة، فأنت ستجد من ريحانها ترويحًا للنفس وتفريجًا للكربة.

فتركه باسي وسار في الحديقة حتى رأى منزلًا صغيرًا مستترًا بين أشجارها الغضة.

فهرع إليه …

فلما دَنَا منه رأى فتاة جالسة على مقعد تحت شجرة ملتفة الأغصان، وهي واضعةٌ رأسَها بين يدَيْها ومطرقة بنظرها إلى الأرض، لا تكترث بما حواليها من مناظر الطبيعة.

لكنها لم تلبث أن سمعَتْ وَقْعَ أقدام قريبة منها حتى أفاقَتْ من غفلتها، ولفتت لفتة الغزال الشارد تنظر مَنِ القادم.

فصاح باسي صيحة الدهشة والسرور، وأسرع إليها وهو يختلج فرحًا بهذه اللقيا … لأنه لم يخطر له في بالٍ أنه سيلاقي في هذه الحديقة مَن يحب.

أما ديانا فإنها هشَّتْ إليه وأجلسته بالقرب منها.

فجعلَا يتناجيان ويتشاكيان الغرام، إلى أن بلغ بهما الحديث إلى ذكر زوجها، فقالت: إنه شديد الغيرة عليَّ، ولا سيما في هذه الأيام، حيث كنتَ تمر في كل ليلة من تحت المنزل … حتى إنه اضطرني إلى السفر إلى ماريدور.

فدهش باسي مما سمع وقال: أما مروري بالمنزل، فإني من يوم أخبرتكم بخيانة الدوق إلى اليوم لم أخرج من المنزل ساعةً لما أُصِبتُ به من الحمى.

ولعل الذي كان يراه زوجك هو الدوق، ثم كيف يضطرك إلى السفر؟ ومتى يكون هذا؟

– إنه اضطرني إلى السفر خفيةً كي يُبِعَدني عن باريس، وإذ لم أجد وسيلةً لإرجاعه عن عزمه، فقد بالغتُ في الحيلة كي أجد طريقةً تجمعنا قبل هذا الرحيل …

واستعنتُ على ذلك بخادمتي وبطبيبك الخاص، حتى ظفرتُ بالمراد ونعمتُ بلقياك.

فاجهد الآن أنت في طريقةٍ تجمعني وإياك في ماريدور؛ لأني أخشى أن نقيم فيها مدى العمر.

فأكَبَّ باسي على يدَيْها يلهبها بقبلات الغرام، وقال: طِيبي نفسًا أيتها الحبيبة، فسألحق بك وهناك لا نعدم وسيلة تحجبنا عن أعين الرقباء.

فبعد أن أقام العاشقان في تلك الحديقة ما شاء الهناء، افترقَا على أمل اللقاء.

وكلاهما ينشد بلسان الغرام:

ودَّعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه

ثم خرج باسي، فلقي الطبيب حيثما تركه … فذهب الاثنان إلى المنزل.

وعندما دخل باسي إلى غرفته وجد فيها كتابًا باسمه، ففَضَّه وقرأ فيه ما يأتي:

لا تَقُمْ بعدَ أن تقرأ رسالتي ساعةً في باريس … بل فأسرع بالرحيل إلى مكان يحجبك عن العيون … ريثما يهدأ ثائر الملك، فتعود …

ثم ألْقِ هذه الرسالة في النار؛ لأني إذا قد نصحتُ صديقي، فقد خنتُ ملكي …

شيكو

فبهت باسي هنيهة، ثم علم أن الملك قد أخذ أخاه بالخيانة، وأنه سينتقم من جميع أعوانه.

فدَعَا للحال بالطبيب وقال: أسرع بتهييء معدات الرحيل؛ لأننا مسافران في الحال إلى ماريدور.

ثم ألقى الرسالة في النار وهو يشكر شيكو.

وبعد ساعة خرج مع الطبيب من أبواب باريس في طريق ماريدور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤