النسبية

(١) من الوجهة العلمية

يقول العلَّامة داروين في الفصل السادس من كتابه «أصل الأنواع»: «لقد اهتزت أوتار العقل البشري من صميمها؛ إذ أُعلن لأول مرة في تاريخ الدنيا أن الشمس ثابتة وأن الأرض هي التي تدور حولها، ولم يسلِّم الناس بهذه الحقيقة الواقعة.» ولكن المثل القائل بأن «كل ذائع لا بد من أن يكون صحيحًا.» لا يمكن الأخذ به في مباحث العلوم كما اتفق كل الفلاسفة. ولا جدال في أن أوتار العقل البشري قد اهتزت واضطرب توازنها مرة أخرى عام ١٨٥٩ عندما أذاع داروين رأيه في الأنواع قائلًا: «إن ما كنت أقطع به — كما قطع الطبيعيون — من القول بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا بذاته خطأٌ محض، وإن الأنواع دائمة التغاير، وإن الأنواع التي نعتبرها من توابع الأجناس هي أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض.» كذلك اهتزت أوتار العقل البشري مرة ثالثة عام ١٩٠٥ عندما أعلن العلَّامة ألفرد أينشتَيِن الألماني رأيه في النسبية التي لم يمضِ على نشر الرأي فيها بضع سنين حتى أَرْبت المؤلفات التي كُتبت في إنجلترا باحثةً في حقائقها على الألف، محَّصت فيها وجوه هذه النظرية العلمية التي دكَّت معالم الرأي السائد في تطبيق هندسة إقليدس، بعد أن ظلت ثلاثة وعشرين قرنًا من الزمان المنارة الوضَّاءة بما كنا نعتقد أنه الحق، وغيَّرت الفكرة في جاذبية نيوتن تغييرًا تامًّا.

ظل العالم يعتقد — كما اعتقد القدماء — بأنه لا يوجد إلا ثلاثة أبعاد لا يخرج عنها شيء في العالم المادي، الطول والعرض والعمق، وظللنا نعتقد كما اعتقد الأقدمون بأن الزمان عبارة عن مقدار الحركة من جهة المتقدِّم والمتأخِّر، وأن المكان عبارة عن السطح الباطن من الجِرم الحاوي المُماس للسطح الظاهر من الجِرم المحويِّ، وتابع الناس هذه الآراء على أنها ثابتة في ذاتها، وأن التعاريف الموضوعة فيها تعاريف لا ينالها التبديل ولا الزوال، في حين أن هذه المسائل عامَّتُها مسائل اعتبارية كما قال البعض، وكما أثبتت النسبية في هذا الزمان.

•••

لنفرض أن بائعًا أراد أن يعلن عن صندوق يريد بيعه وأحبَّ أن يبين في إعلانه حجم الصندوق، فإنه لا يحتاج أن يُبين لذلك سوى ثلاثة مقاسات، بأن يعين ارتفاعه وطوله وعرضه، ومن ذلك يعرف الناس مقدار حجمه الطبيعي، فإذا ضربت طول الصندوق في عرضه في ارتفاعه عرفت مقدار سعته. غير أنك إذا تركت قياس هذه الأبعاد إلى أشخاص عديدين خرجت من عملهم بنتائج متناقضة مهوَّشة، خذ مثلًا شخصين أراد كلاهما أن يقيس ذلك الصندوق فقاسه كلاهما متوخيًا الدقة، فإنك تجد أن مقاساتهما مختلفة تمام الاختلاف، يقول أحدهما: إن ارتفاعه اثنتا عشرة قدمًا، ويقول الآخر: إن ارتفاعه ست أقدام فقط، وقد يقضي أولهما بأنه تسع أقدام طولًا ويقضي الثاني بأنه اثنتا عشرة قدمًا طولًا، ويقول أحدهما: إنه ست أقدام عرضًا، في حين يقول الآخر: إنه تسع أقدام عرضًا! فمن أين تأتي هذه الفروق؟ تأتي من أن أحدهما قاس الصندوق وهو قائم وقاسه الثاني وهو في وضع آخر، فكان الذي اعتبره الأول طولًا اعتبره الثاني ارتفاعًا، وهذه اصطلاحات اعتبارية عند الناس وهي في حقيقتها نسبية للناظر. والاختلافات التي تحدث في مثل هذه الحال قد تسوق الذين يريدون دراسة النسبية إلى كثير من الخلط والفوضى، فإننا في حياتنا العملية نعتبر أن الارتفاع هو البعد المقيس من فوق إلى أسفل، ولكن الخلاف طالما وقع بين الناس على الطول والعرض، أما في المكان فلست تجد بعدًا تقيسه من فوق إلى أسفل، والاتجاه الذي تقيس به الأبعاد في «المكان» اعتباري صرف. ولا نتخذ في قياساتنا من شيء ثابت إلا أننا نجعل الأبعاد الثلاثة متصلة بزوايا قائمة، فإذا وجدنا شخصين كلاهما يتوخى الدقة في قياساته قد وصلا إلى تقديرات مختلفة في قياسهما الأبعاد الثلاثة لشيء معين، نقضي غالبًا بأن كلًّا منهما قد اتخذ قياسه من اتجاه مختلف عن اتجاه الآخر. فإذا تحققنا هذا عرفنا بعد ذلك أن الكمية العامة محفوظة في مقاساتها، فما يفقده الأول فيما اعتبره طولًا يعوِّضه الثاني فيما اعتبره ارتفاعًا مثلًا، وإنه مهما اختلفت مقاساتهما فإن كمية الجِرم نفسه تبقى واحدة عندهما.

والآن إذا أردنا أن نطبق هذا البيان على الحالة التي يكون فيها جسم ذو ثلاثة أبعاد متحركًا بسرعة عظيمة مخترقًا فضاء، بحيث يظهر للرائي من بعيد كأنه منبعج قليلًا عند أعلاه وأسفله في حين أن الشخص الذي يحمله هذا الجسم لا يلحظ فيه أي انبعاج مطلقًا؛ فهنا نتساءل: ألا يوجد فرق آخر يعوض خطأ التقدير بين الشخصين في البعدين الآخرين؟ لا يوجد فرق كهذا بين تقديرهما في الارتفاع أو العرض؛ لأن هذين البعدين يظلان متماثلين عند كليهما، فهما لا يختلفان إلا من حيث تقدير الطول فقط.

غير اننا إذا قلنا بأن للأجسام أبعادًا أربعة بدلًا عن ثلاثة كما يُخيَّل إلينا، فهنالك في البعد الرابع نقع على المبدأ الذي يُحدث المعاوضة بين تقدير الشخصين، وذلك ما يقع في الطبيعة تمامًا، فإن البعد الرابع هو بعد الزمان؛ لأنك تجد أن تباطؤ السرعة في الجسم المتحرك تعوِّض تمامًا مقدار ما يلوح لك من القِصر في طول الجسم نفسه.

وقد تساءل البعض: لماذا لا نحس بوجود هذا البُعد الرابع الذي نسميه بُعد الزمان؟ السبب في ذلك يرجع إلى أن هذا البُعد لا يختلف مطلقًا في نظر كل المتطلعين إلى الفضاء من فوق كرة الأرض، إذ لا يوجد إلا مثال واحد لقياس الزمان يتفق عليه كل سكان هذا السَّيَّار، ولما كان هذا المثال واحدًا لا يختلف فيه اثنان أخرجناه بالطبيعة عن ملاحظاتنا الراجعة إلى حسن النظر، أضف إلى ذلك أننا لم نُهَيَّأْ بعضو خاص لإدراك ذلك البعد الخفي، وهذا البعد لا يظهر بصور مختلفة إلا في جِرم يتحرك بسرعة تختلف اختلافًا كبيرًا عن سرعة الجِرم الذي يحملنا، ولكنه إذا اختلف فكذلك تختلف لاختلافه المقاسات الخاصة بطريق المعاوضة. وبالجملة لا يوجد في الطبيعة شيئان مختلفان كما نظن يقال لأحدهما المكان وله ثلاثة أبعاد ويقال للآخر الزمان وله بعد واحد، بل هنالك شيء واحد يقال له «المكان الزماني» وهو ذو أربعة أبعاد.

•••

عرفنا أن القائسين مهما اختلفوا في الاتجاهات التي يقيسون بها جِرمًا معينًا فإن حجمه يبقى ثابتًا عندهم، إذن فالحكم حقيقة ثابتة في ذاتها، مستقلة تمام الاستقلال عن الاتجاه الذي نقيسها به، وهذه الحقيقة تنطبق تمامًا على المسافات فضلًا عن انطباقها على الأجرام.

افرض مثلًا أنك وجدت نقطة تبعد عنك ثلاثة أمتار شرقًا وأربعة أمتار شمالًا، فمسافتها الواقعة في الشمال الشرقي بشمال تكون خمسة أمتار، تحقق هذا القول بنظرية «إقليدس» التي تثبت أن المربع الذي يقام على وتر الزاوية القائمة في مثلث قائم الزاوية يساوي مربعي الضلعين الآخرين.

ولنفرض أيضًا أن بوصلتك قد تختلُّ بحيث يصبح الشمال عندها شمالًا غربيًّا، وإبرتها التي تشير إلى الشرق أصبحت كذلك تشير إلى الشمال الشرقي؛ فماذا تجد؟ تجد أن تلك المنطقة قد تبعد عنك إلى الشمال مترين وإلى الشرق أربعة أمتار ونصف، ولكنك تجد مع ذلك أن مربعاتها ٢٥ تقريبًا وأن بُعد النقطة لا يزال خمسة أمتار كما كانت من قبل. محصل ذلك أننا نستطيع أن نقيس طول أي شيء وعرضه بطرق تختلف باختلاف إرادتنا، في حين أن النتائج العامة تظل واحدة ما دامت قياساتنا صحيحة.

•••

كذلك في «المكان الزماني» ذي الأبعاد الأربعة تجد كمية خاصة لا يؤثر فيها اختلاف الطرق التي تتخذها سبيلًا إلى قياسها وتسمى علميًّا «الفترة Interval»، وهي المدة التي تفصل بين وقوع حادثتين معينتين. ولقد ثبت لدينا من قبل أن الرائي وهو في حركة سريعة لا بد من أن يختلف حكمه على طول الأجرام عن حكمنا اختلافَ حكمه عن حكمنا في مقاييس الزمان التي تلازم حركته، ولكنه مع ذلك يتفق معنا دائمًا على «الفترة» التي تفصل بين حادثتين تقاسان بمقتضى «المكان الزماني»، فالفترة التي يقضيها إنسان من يوم مولده إلى يوم موته قد يقدرها أحد الباحثين بألف ميل وخمسة وسبعين عامًا، في حين أن آخر قد يقدرها بعدة ملايين من الأميال وستة وسبعين عامًا، ذلك خلاف بين تقديريْهما. أما الكمية التي تبقى ثابتة عندهما فهي مربع المسافة التي قطعها ذلك الإنسان متنقلًا فوق الأرض منذ مولده حتى هُلْكِه، ناقص مربع المسافة التي قطعها الضوء في المسافة عينها، هذه الكمية لا يمكن أن تتغير مهما اختلفت نظراتنا إليها. إن كثيرًا من الكاتبين في النسبية يعتقدون أنه ليس من الضروري وضع فكرة طبيعية عن «الفترة»، ويكفي أن تعرف أنها عبارة عما يقال له في علم العدد «كمية فَرْضية» مثل المربع الجذري لناقص واحد، فإنك في المكان ذي الأبعاد الثلاثة يمكنك أن تمثل للمسافة الواقعة بين نقطتين بخط مستقيم يصل بينهما، أما في «المكان الزماني» ذي الأبعاد الأربعة فلا يمكننا أن نمثل ﻟ «الفترة» الواقعة بين حادثتين بخط مستقيم أو غير مستقيم؛ لأن «الفترة» لا يمكن إدراكها إلا بمعادلة حسابية، في أن إدراكها ليس ببعيد إلا إذا أردنا أن ندركها ببصرنا؛ لأننا لم نعطَ من الكفات ما نستطيع بها أن نحدَّها بقوة أبصارنا.

أما المعنى الحقيقي الذي يقصد من النسبية فيسهل علينا إدراكه إذا فرضنا مكانًا لا شيء فيه سوى كُرة واحدة من المادة، ثم فرضنا بعد ذلك أيضًا أننا حاولنا أن نعرف إن كانت تلك الكرة تتحرك أم هي ثابتة، فكيف نصل إلى ذلك؟ إن النظرية الخاصة التي تقول بها النسبية تقضي بأن ناظرًا ما من فوق تلك الكرة لن يستطيع أن يستكشف بأية طريقة من طرق الامتحان والتجربة إن كانت تتحرك في مكان معين أم ليست متحركة، إن كل شيء تحمله هذه الكرة يظل متحركًا فى اتجاهه المرسوم له سواء أكانت الكرة ذاتها ثابتة أم متحركة بسرعة ألف ميل في الساعة. والسبيل الوحيد الذي نحكم به على حركة جسم ما في حياتنا العملية هو أن نلاحظ إن كان يغير موضعه «بالنسبة» لأجسام أُخر أم أن موضعه لا يتغير، أما إذا «لم توجد» أجسام أخر في الكون فإنا لا محالة نُعْدَم هذه السبيل، من هنا نجد أنه لا سبيل مطلقًا إلى الحكم على تلك الكرة بالحركة أم بالسكون، وقد لا نبعد في هذه الحال عن الحقيقة أن قضينا بأن البحث في ذلك بحث عقيم لا نتاج له.

لنفرض بعد هذا أن تلك الكرة تتحرك بسرعة ألف ميل في الساعة، فماذا نعني بذلك؟ إنها لا تكون إذ ذاك قد اقتربت من «شيء» ما دام الفرض أن المكان الذي تخيلناه لا يحوي شيئًا تقترب منه أو تبعد عنه في حركتها. كذلك الحوادث التي تقع فوق تلك الكرة تقع على خط واحد وبطريقة واحدة مهما فرضنا لها من السرعة، فكل معرفتنا إذ ذاك تكون مقصورة على أن هنالك كرة موجودة، أما إذا قلنا بأنها متحركة فإنما نحن نتفوَّه بما لا ينقل إلينا أية فكرة، بل بما لا نفقه له معنى البتَّةَ، وليس معنى ذلك أننا لا نعرف مقدار حركتها لا غير، بل معناه أيضًا أن الحركة تصبح لدينا محض اعتبار تصوري ما دام لا يوجد إلا جِرم واحد في فضاء بعينه. ومن هنا نجد أن المكان متابعة لذلك وتحت تأثير هذه الحالات ليس إلا اعتبارًا تصوريًّا أيضًا، ففكرتنا في المكان هي نفس فكرتنا في شيء يمكن لجسم أن يتحرك فيه، ولا جَرَمَ أننا إذا عَدِمْنا فكرة الحركة فعندها نفقد أيضًا فكرة المكان.

ثم لنفرض أن في الكون كرتين بدلًا من كرة واحدة تتحركان متقابلتين بنسبة واحدة من السرعة، ولكنهما لا تدوران حول محورهما، بل إن كلًّا منهما تظل حافظة لجهة واحدة في اتجاهها نحو الأخرى، ومن الجليِّ أن سرعتهما مهما كان مقدارها فهما إما أن تظهرا ثابتتين وإما أن تظهرا متحركتين في خط مستقيم متقابلتين أو متباعدتين، وكل ما نستطيع إذ ذاك أن نميز من تغيُّر موضعهما ينحصر في تزايد المسافة التي تفصل بينهما أو تناقصها، أما إدراكنا لأية صورة من صور الحركة الأخر فلا نستطيعه إلا بوجود جسم ثالث نتخذه معدَّلًا للقياس، وكلُّ شخص يكون فوق الجِرم الثالث قد يُحتمل أن يرى إحدى الكُرتين تنقلب على عقبها في الفضاء أو يراها متَّخِذة أية حركة أخرى، أما إذا ظلت الكُرتان غير مدرِكتين وجود جِرم ثالث، فهذه الحركات تظل غامضة على كلتيهما، وكلُّ ما يستطيع شخص أن يَعرف فهو إن كانت المسافة التي تفصل بينهما قد زادت أو نقصت بنسبة خاصة من السرعة. فإذا أدرك شخصان فوق هاتين الكرتين وجود الجرم الثالث، فربما عزا كل منهما تغير المسافات الذي يلحظانه إلى حركة الجرم الذي يحمله لا إلى حركتهما معًا. ومحصَّل القول أن تغير المسافة هو كل ما يستطاع إدراكه، أما الحركة المطلقة فإنها ليست فقط مما لا يمكن معرفته، بل إنها فاقدة لكل معنى البتَّةَ، ويترتب على ذلك أن المكان المطلق لا معنًى له بالتبعية، لِمَا تقدم.

من هنا نجد أن إدراك المكان كإدراك الزمان، كلاهما يتبع وجود أجسام مادية، وليس المكان إلا أثرًا من آثار المادة، أما إذا فصلتَ بين المكان والمادة فإنه يصبح مفقود المعنى.

إننا لا نستطيع أن نرى المكان بأعيننا؛ لأن المكان ليس بشيء مادي، وما هو إلا فكرة تأتي من إدراكنا للمادة. وما دام المكان أثرًا من آثار المادة، فإنا بذلك ننتظر دائمًا أن يقال لنا إن قدر المكان يرجع دائمًا إلى الثِّقَل النوعي، فكُرةٌ من الماء قطرها ٣٥٠ مليونًا من الأميال يمكن أن تملأ كل مكان مستطاع تصوُّرُه، ولكن الواقع أن المادة التي تملأ أطراف الكون يقل ثِقَلها النوعي كثيرًا عن ثقل الماء، ومن هنا حسب الباحثون أن مقدار المكان المحيط بهذا الكون عبارة عن كرة مقدارها ٤٠٠ تريليون من الأميال، وكل الأشياء لا بد من أن توجد داخل هذه الدائرة، أما تصور شيء خارج عنها فلا يمكن أن يكون له معنى عندنا. افرض أن جسمًا يبدأ في الحركة متخذًا اتجاهًا مستقيمًا في الظاهر إلى ما لا نهاية، فإنه يظل داخل هذه الكرة ولن يخرج عن حدودها، والضوء يتحرك أو ينتشر في الواقع بسرعة هائلة، وقد عُرف حديثًا أنه ينتشر في الفراغ بسرعة ٨٢٠–٢٩٩ كيلو مترًا في الثانية الواحدة، غير أنه على سرعته هذه لا يستطيع أن يتحرك في حيز خارج عن دائرة المكان، فهو يسبح فقط حول هذه الدائرة ويحتاج إلى ١٠٠٠ مليون من السنين ليتم سياحته، حسب تقدير سرعته قبل الاكتشاف الحديث، من نقطة مفروضة يبدأ منها إلى أن يعود إليها، ولذلك يقول البعض إننا قد نشاهد أشياء حدثت منذ ١٠٠٠ مليون من السنين؛ إذ يكون الضوء الصادر عنها قد طاف حول الكون ورجع إلينا ثانية، حتى قال الأستاذ «رادنجتون»: إن بعض السُّدُم الحلزونية ليست سوى طيوف حقيقية من نظامنا النجمي، أي أجرام رجعت إلى مآويها ومرابضها التي خلَّفتها منذ ١٠٠٠ مليون خلت من الأعوام.

•••

إن الناموس الذي شرحناه قد يزعزع كثيرًا من يقين عامة الناس؛ إذ يتساءلون: كيف يكون للمكان كمية محدودة في حين أنه لا حدود له؟ وكيف أن مقدارًا يكون محدودًا في حين أنه لا يكون مَحْوِيًّا داخل حدود ما؟ إن المشبهات التي نستخلصها من مكان ذي بعد واحد أو بعدين قد تساعدنا على فهم ذلك وما يعني به: فمكان ذو بعد واحد يكون خطًّا، فإذا اتَّحد طرفا هذا الخط فإنه يصبح لا أطراف له، في حين أن طوله يكون محدودًا، والمكان ذو البعدين يكون سطحًا، فإذا أصبح هذا السطح سطح دائرة، حدث إذ ذاك أنه يكون بغير حدود، في حين أن هذا السطح يمكن معرفة مقداره بالقياس، فهو بذلك كمية محدودة. فحشرة من الحشرات الدنيا مثلًا في مستطاعها أن تجوب أنحاء هذا السطح إلى ما لا نهاية، من غير أن نصبح في زمن من الأزمان أقرب إلى نهاية السطح أو أبعد عنه، وإذا لم يوجد في العالم شيء سوى هذا السطح، فحينذاك يصبح المكان عبارة عن هذا السطح، لا أقل ولا أكثر، فالمكان غير متناهٍ باعتبار أنه لا يمكن أن يكون له آخر تصل إليه، ومتناهٍ باعتبار أن له مساحة محدودة وقدرًا محدودًا.

وفي كلتا الحالتين، حالة الخط وحالة السطح، إذا أريدَ أن يصبحا محدودين فإنه لا بد من أن ينحنيا، فإن خطًّا مستقيمًا إذا ذهب في امتداد واحد دائمًا فإن طوله يصبح متناهيًا، فإذا أردنا أن نَحُدَّ طوله ولا نحد أطرافه فلا بد من أن ينحني ليلتقي طرفاه في نقطة، وهذا الانحناء لا يحدث إلا في البعد الثاني، أي إنه لا بد من أن يحوز مساحة، والمساحة هي عبارة عما يكون له عرض كما يكون له طول، فالخط ذاته ولو لم يكن له إلا صفة الطول وليس له غير بعد واحد، فإنه إذا التحم طرفاه حَاطَ مكانًا ذا بعدين. وهذه هي الحال بعينها في السطوح، فإن السطح إذا كان منبسطًا تمام الانبساط فإنه يكون ذا مساحة غير متناهية، فإذا أردت أن تجعل مساحته محدودة في حين يكون غير ذي أطراف متناهية، فيلزم أن ينحنى في البعد الثالث، كما لو كنت تجعله يحوي داخله كمية محدودة، ككرة مثلًا أو أسطوانة أو غير ذلك.

كذلك المكان الخاص بهذا الكون الذي نعرفه قد يقال فيه ما يقال في غيره؛ لا حدود له، وهو في الوقت ذاته ذو كمية محدودة، ويرجع الكلام في هذا إلى الناموس ذاته، أي إلى القول بأن المكان ذا الأبعاد الثلاثة لا بد من أن يأخذ انحناءه في البعد الرابع، والأستاذ «أينشتَيِن» نفسه يعتقد أنه منحنٍ انحناءً أسطوانيًّا، ويقول غيره بانحنائه على أشكال أخر. غير أن كل هذا يتوقف على أنه مسألة معادلات رياضة لا يمكن أن تصبح في يوم ما مرئية رأي العين، فبمجرد ما يبدأ البعد الرابع في التأثير فإن مقدرتنا على تقدير الأبعاد بالنظر تُعْدَم بتاتًا. ومن السهل الهيِّن أن ترى بعينك كمية متناهية لا حدود لها في مكان ذي بُعْدٍ واحد أو بعدين، ومن طريق هذه المشابهة والقياس عليها نستطيع أن نكوِّن فكرة لما نعني من الكلام في انحناء المكان، وكيف أن مكاننا في مجموعه لا يمكن أن يكون كمية يستطاع قياسها، في حين أنه يكون في مقدورنا أن نتحرك إلى ما لا نهاية داخل ذلك الشيء الذي يُخيَّل إلينا أنه خط مستقيم، ومع ذلك فلا نبتعد عن المكان ذاته أكثر من عدد مخصوص في تريليونات الأميال تقاس من النقطة التي تبدأ منها.

•••

إن نظرية النسبية في حالتها الحاضرة لم تتخلص بعد من الأشياء المطلقة في ذاتها تخلصًا تامًّا، فإنه يوجد مثلًا كما يقول الأستاذ «إنجتون» مستقبل مطلق وماضٍ مطلق، أي أزل وأبد، ومن هنا نستطيع أن نعتبر الزمان امتدادًا لا نهائيًّا غير محدود، ليس له أول وليس له آخر، من هنا تذهب فكرة الحدوث المشترك ذهابًا تامًّا، ولماذا؟

افرض حادثتين — ألف وباء — وقعتا في مكان ما، فإنهما لا تكونان متشاركتي الحدوث إلا لراءٍ واحد، في حين أن رائيًا آخر قد يرى أن الأولى حدثت قبل الثانية، وقد يرى ثالث أن الثانية حدثت قبل الأولى. أما نظرية النسبية فتحول بيننا وبين الحكم بصحة نظر أحدهم وخطأ الآخرين، فكلهم عندها على الحق، ذلك لأن التشارك في الحدوث ليس مطلقًا بل هو نسبي، وهو يرجع إلى معيار الزمان الاعتباري الذي يركن إليه كل من الرائين، وكل معيار للزمان في النسبية صحيح، مهما اختلف اعتباره عند الناس.

كذلك تعترف النسبية بكميات مطلقة كسرعة الضوء التي تظل واحدة مهما اختلف الاعتبار في معيار المكان والزمان عند الناس، وكذلك «الفترة» التي تقع بين حادثتين معينتين.

•••

كان «نيوتن» يعتقد أن جسمًا متحركًا في مكان ما لا بد من أن يظل متحركًا في خط مستقيم ما دام أنه لم يتأثر بقوة أخرى خارجة عن قوته، أي إنه يتحرك من نقطة إلى أية نقطة أخرى تصادفه في طريقه، متخذًا أقصر طريق ممكن يصل بينهما. أما «أينشتَيِن» فيقول بأن جسمًا ما يتحرك لا في مكان، بل في مكان زماني، وأنه يتحرك متنقلًا من نقطة إلى أخرى يصادفها في طريقه متخذًا أقرب طريق ممكن، فالجسم في حركته لا بد من أن يصادف أجزاء من المكان يشتد انحناؤها، إذ المعتقد الآن أن المكان فيما يجاور المادة الكثيفة أكثر انحناءً منه بعيدًا عنها، حيث يقرب من التسطُّح والانبساط، فإذا قارب جسم جسمًا آخر فحينذاك يكون قد قارب حيزًا من المكان مشوَّهًا، أي أكثر انحناءً، غير أنه يظل متابعًا حركته في ذلك المكان كما كان من قبل، ولكن بالنسبة إلى الانحناء العام لا يلوح لنا أنه سائرٌ في خط مستقيم، بل يظهر كأنه سائر في فلك منحنٍ. من هنا نستطيع أن نعلل حقيقة الجاذبية من غير أن نحتاج إلى فرض القوة الجاذبة التي نقول بأنها تجذب الأجسام، فإن إدراك القوة أمر «أنثروبومورفي»، أي إنه يرجع إلى الصفات البشرية التي ننسبها إلى الله — عز وجل — وبمعنى أوسع أمر مستمد من تجاريبنا الذاتية التي يجريها الإنسان بحكم السر المُودَع فيه على الأجسام الخارجة عن حيزه. أما نظرية النسبية فإنها تسير بنا خطوة أخرى لتبعدنا عن القول بأثر القوى المشابهة لقوى الإنسان في الطبيعة، فهي تردنا إلى القول بإعادة كل الأشياء إلى نظام مادي صرف، غير ذي علاقة بأي وجه من الوجوه بشيء من النظامات أو القوى المشابهة للقوى البشرية.

•••

ولا تقف النسبية عند هذا الحد، فإنها تتناول تأملات فلسفية عميقة، فقد نتساءل مثلًا إلى أي حد يذهب نصيب شيء من الصحة والواقع، إذا كان هذا الشيء غير مستطاع أن يقع عليه حسنًا؟

يقول «هربرت سبنسر»: «كل ما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يكون صحيحًا»، على أنك كلما قلبت وجوه الرأي وقعت على أشياء لا يمكن أن تدركها الحواس، فكون القوة مثلًا في مستطاعها أن تؤثر عن بعد أمر لا يمكن إدراكه بالحواس، فقوة الجاذبية أمر لا يمكن إدراكه بالحواس، شأنها في ذلك شأن البعد الرابع في النسبية. غير أنها أحد الأشياء التي إن تعذر إدراكها حسيًّا، فإنها من الأشياء التي تنزل معرفتنا بها منزلة الضروريات، حتى إنها لا تحتاج إلا إلى قدر قليل من الجهد لتبث فينا إحساسًا بالعجب والحيرة معًا. وفضلًا عن هذا فإن البعد الرابع، كما أبنَّا عن ذلك قبلًا، من الممكن أن يصبح ظاهرًا بيِّنًا، إذا كانت الطبيعة قد وهبتنا عينًا تستطيع الحركة والتنقل بسرعة هائلة، لذلك لا يجب أن نحد من الطبيعة ونظامها لأنها لم تزودنا إلا بحواس خمس لا غير، وفي هذه الحالة يتسنى لنا أن نقرر أن طبيعة الحاسَّة السادسة هي التي يحتاج إليها الإنسان ليدرك ظاهرات الطبيعة بحواسه. ومجمل القول أن شيئًا قد يكون صحيحًا في ذاته، حتى ولو تعذر علينا أن نأتي من الطبيعة بما يفسر حقيقته؛ لأننا لا نعني بالتفسير الطبيعي سوى التعبير بلغة حواسنا، وهى حواس، فضلًا عن قلتها في العدد فإنها ضعيفة لا يعتدُّ بها إزاء الكون في مجموعه.

•••

يقول البحَّاثة مستر «هيو إليوت» إن هناك بضعة أسئلة لا يزال على القائلين بالنسبية أن يجيبوا عليها، فهم يقولون مثلًا: إن الأجسام تزيد تسطحًا كلما زادت سرعة اندفاعها، حتى إذا بلغت سرعتها سرعة انتشار الضوء لم يصبح لها عمق مطلقًا لدى النظر؛ لأن الأجسام عندما تبلغ من السرعة هذا المبلغ تلوح كصفائح رقيقة جهد ما يمكن سابحة في المكان. وهنا يطلب المشتغل بالعلوم الطبيعية أن يعرف على أي شكل تظهر الأجسام إذا اندفعت في الفضاء بقوة تفوق قوة انتشار الضوء، ولقد أجيب على هذا السؤال بأنه ليس في استطاعة جسم مادي أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء؛ لأن قوة استمراره تصبح غير متناهية. وينصح مستر «اليوت» للذين يريدون أن يقاوموا النسبية أن يزيدوا سؤالهم إيضاحًا، هم يقولون بأن دقيقة ما قد تتحرك بسرعة تقارب سرعة انتشار الضوء، والواقع أن نشاط دقائق (ب) التي يبعثها الراديوم تتحرك بسرعة مقاربة لذلك، فإذا فرضنا أن دقيقتين من هذه الدقائق قد اتفق أن تمر إحداهما من جانب الأخرى حيث تكونان مندفعتين في اتجاه المتناظرين، فعند ذلك تفوق سرعتهما النسبية بكثير سرعة الضوء، فكيف تلوح إحداهما إذا نظر إليها من الأخرى؟ إن الدقيقتين كلما زادت سرعتهما تصبحان أكثر رقة، حتى يأتي وقت لا تلوحان فيه إلا كسطح، فهل يمكن إذا ازداد مقدار السرعة النسبية في مجموع الكون أن يبدأا بالتضخم والكبر مرة أخرى بأن تضاف كمية خاصة نتصورها إلى البعد الثالث فيهما، أي في العمق؟ وهل يمكن أن تأتي حالة يلوح لنا فيها الزمان كأنه راجع القهقرى حيث يكون مثل الدقائق المادية كمثل دقائق وصلت آخر سياحتها قبل أن تبدأ بها، وأن سكانها قد فَنَوْا قبل أن يولدوا؟ هذا هو الإشكال الذي تتركنا فيه النسبية اليوم رغم ما قوبلت به هذه النظرية من التقبُّل والذُّيوع. وهل يمكن أن تصبح الأشياء الحقيقية خيالية إذا نظر فيها من تلك الوجهة الحقة؟ وهل يوجد هنالك أكوان نتوهمها وتظن أن كوننا وهميٌّ، أكوان خرجت عن كوننا هذا خروجًا كليًّا؟

لقد قامت في وجه النسبية معترضات كثيرة بنيت على أنها نظرية «ميتافيزيقية» — مما بعد الطبيعة — تنفر منها الروح العلمية المحضة، وليس من الغريب أن يحيط الشك زمانًا بنظرية فذة كهذه النظرية، لكثرة ما ذاع من المذاهب الخداعة فيما وراء الطبيعة. على أن نظرية النسبية تختلف عند ما بعد الطبيعة في موضعين معينين: الموضع الأول أنها قابلة للتحقيق بمجرد النظر العلمي، والموضع الثاني أنها مادية في أخص معانيها، فإنها مثلًا لا تعلل الظاهرات الطبيعية بمقتضى الشعور الإنساني أو من وجهة النظر الروحية، في حين أن نظريات ما بعد الطبيعة تجعل الطبيعة دائمًا مزودة بشيء من الخصائص الإنسانية، ونظرية النسبية فضلًا عن هذا تصف الطبيعة وتفسر مُغْمَضَاتها بتعبيرات تبعد عن العواطف الإنسانية بما لم تبلغ إليه غيرها من النظريات العلمية، ومن هذه النظرية دون غيرها نرى أننا قد بلغنا من البعد عن القول بأن الإنسان مركز العالم ومحوره حدًّا لم تبلغ إليه العقول من قبل، بل إنها آخر ما يحتاج إليه العلم ليبعد عنا القول بأن في الطبيعة تشابهًا من الأصول التي يدَّعيها الإنسان لنفسه.

وبنظرية النسبية دون غيرها يثبت لنا تفوق «السُّنَّة العامة» على غيرها بصورة لم نبلغ إليها في زمن من الأزمان الفارطة، كالشعور بأن الطبيعة ليست سوى آلة ميكانيكية عمياء، وأن آليتها قد عدمت كل أثر من المدركات التي نستخلصها من الحس الإنساني، فمن النسبية وحدها قد استطعنا أن نعرف أن هنالك أشياء قد تكون صحيحة في ذاتها وليس في مستطاع الحس البشري أن يصل إليها، وهي في ذلك تتفق مع آليات «نيوتن»، فالقوة والزمان والمكان وغير ذلك من المدرَكات المعقولة لا يمكن أن تُلمس أو تُنظر أو تُشمَّ مثلًا؛ لأنها عبارة عن مدرَكات عقلية يصح أن نتركها بتَّةً إذا كُشف لنا عن نسق أكثر منها انطباقًا على الحقائق المعروفة، ولا يمنعنا من معرفة أصل هذه المدركات في الطبيعة إلا الرأي السائد فيها، فالمادة نفسها ليست إلا مدرَكًا أو شيئًا عامًّا كوَّنته في نظرنا التجاريب، وليست كما كنا نظن من قبل حقيقةً مطلقة ثابتة في عقليتنا ثبوتًا مطلقًا.

على أن كل المتناقضات التي قد تقوم من القول بالنسبية قد نجد أشد منها تناقضًا إذا نظرنا في الأشياء نظرتنا القديمة، فالأثير مثلًا ليس إلا فرضًا ألزمتنا إياه فلسفة الإطلاق، وليس القول بالأثير مبنيًّا على النظر العلمي ولا التجربة لأن كليهما يضادُّ القول به، بل إننا فرضناه لنستطيع أن نعلل بعض الظاهرات الطبيعية بتعبيرات يقبلها النظر الإنساني. والقول بالأثير يقتضي وجود عدد من الصفات المستحيلة، فإنه يضع في ثنايا الطبيعة شيئًا مطلقًا مبهمًا يجرنا إلى القول بأن التناقض واقع في الطبيعة بالذات لا في النسبة التي يُنظر في الطبيعة من ناحيتها.

(٢) من الوجهة الفلسفية١

كثيرًا ما يخطئ الباحثون والفلاسفة في تطبيق اصطلاح ما بعد الطبيعة — الغيبيات — على نظرية النسبية الحديثة، فلقد مضى كثير من العلماء يعتقدون بأن مباحث الغيبيات على تباين نواحيها وتشعُّب مناحيها، هي العقبة الكَئُود التي تصد العلوم الطبيعية عن التقدم والارتقاء، أنزلها في هذه المنزلة فئة من الباحثين ظهروا في خلال ذلك العصر الذي تقدمت فيه العلوم الإثباتية اليقينية لتأخذ مكانتها الخليقة بها في سُلَّم المعارف الإنسانية. ولقد ماشى الباحثون أوغست كونت في طريقه هذه، حتى لقد اعتقدوا بأن مباحث الغيبيات هي الباعث على ذيوع الجمود الفلسفي Philosophical Obscurantism، ولا تزال هذه الآراء عالقة بهذه المباحث الفلسفية منذ ذلك العهد، غير أن مباحث العصور الأخيرة كانت كفيلة بأن تبرز فئة من العلماء يقولون اليوم بأن مباحث الغيبيات الفلسفية يجب أن تسدَّ فراغًا ما في ترتيب العلوم الإنسانية، قيل إن تعريف أرسطوطاليس لما بعد الطبيعة — الغيبيات — بأنها «البحث في الأشياء التي تقع وراء المحسوس»، لا يسوق بنا إلا إلى جهة مظلمة لم نعرف بعدُ شيئًا من طبيعتها، والاحتمال الغالب أننا لن نبلغ منها بشيء من العلم الصحيح. وكثيرًا ما تطلَّع الباحثون إلى تلك الجهة المبهمة الغامضة من الفلسفة، ولكنهم لم يدركوا من ماهية ما تناولته أبحاثهم شيئًا، لا بالحس النظري ولا بالاختبار العملي، وعلى ذلك تكون مباحث ما بعد الطبيعة في النفس وأصل الكون وعلة العلل وما إلى ذلك، تصورات مجردة، وليست بموضوعات يمكن أن نبلغ منها بمعرفة بالمعنى العلمي المحض، أو أنها — في اعتبارهم على الأقل — موضوعات لا تتناولها طرائق العلم الاختباري.

غير أن التسليم بصحة مثل هذه المزاعم لا محالة يؤدي بنا إلى اطِّراح كل التقاليد العلمية التي ورثناها عن الأقدمين حتى الآن، ذلك لأن العلوم الحديثة على ما هي عليه الآن نتاج لتحدي الطريقة الاختبارية في البحث وتطور وجوه النظر فيها على مدى الأزمان، في حين أن هذه الطريقة الاختبارية ذاتها، وهي الأصل الذي تقوم عليه العلوم الحديثة، ليست مسألة واضحة بذاتها، كما أنها ليست بمسألة نظرية عقلية تقوم في النفس بطبيعتها ومهيَّآتها الخاصة بها، ذلك لأنها تحتاج إلى فكرة مجردة، وإدراك العقول لها لا يمكن أن يتم بالرجوع إلى مبادئ المجردات الغيبية.

أما التفريق بين طريق العلم الاختباري وبين المبادئ التي تقوم عليها الغيبيات، ووصفك الأولى بأنها مبعث العلم ومُسْتَكَنُّه ووصفك الثانية بأنها منشأ الجهالات والتطوُّح وراء ما لا يمكن معرفته؛ فمسألة لا نستطيع على أي وجه من وجوه الرأي تقبلها، أن نتوخى للنظر فيها سبيلًا يبعدها عن التناقض واللبس، بل إننا لا نخطئ إذا قلنا بأنها مضادة لبديهة العقل.

أما السبب الذي أدى إلى القول بأن مباحث الغيبيات أشياء بعيدة عن العلم الصحيح أو أنها خطرات وهم وتصورات خيالية؛ فتلك المنزلة التي تنزلها علوم الطبيعة من الرياضيات الصرفة، في حين أن الرياضيات لا تلجأ إلى الطريقة الاختبارية مطلقًا، ومع هذا فإنها تقع في ترتيب العلوم وتبويبها وعلاقة بعضها ببعض موقعًا تقوم فيه بذاتها عن غيرها، فتعتبر دعامة وأساسًا يبنى عليه لتشييد العلوم العليا في المعارف الإنسانية، والرياضيات فوق ذلك علوم جامدة تتناول الكميات فقط، وبذلك تفقد الصفة الجوهرية التي يتطلبها العلم الاختباري، تفقد صفة الاشتقاق، وهذه فجوة لا يسد فراغها إلا الغيبيات.

في عصر الفلسفة الحديثة، منذ ديكارت حتى اليوم، زاد على العقول ضغط المسألة العلمية، وما نقصد بذلك إلا أننا إذا أردنا أن نحصل على الحقائق الثابتة لَزِمَنا أن نرجع إلى العلوم الطبيعية نستدرُّ وحيها من طريق الاختبار. ولقد حلَّت الفوائد التي أحس بها الناس من مزاولة العلم الطبيعي وحقائقه الملموسة، محل اللذة التي كان يتذوقها الناس في فلسفة القرون الوسطى، تلك التي حصرت همها وبذلت كل جهدها في البحث في أصل النفس الإنسانية ومُنْقَلَبِها خاصةً، وفي علاقة الإنسان بالله عامة. وإنا إذا قلنا اليوم بأن الفلسفة الحديثة تشارك الفلسفة اليونانية القديمة في أمر، فليس ذلك في النتائج العلمية؛ لأن الفلاسفة اليونانيين إن كانوا في الواقع رياضيين قبل كل شيء فلم يكن لهم من فكرة في الأسلوب العلمي كما نطبقه اليوم، وكذلك نشك فيما كان يمكن أن يكون من تقبلهم لهذه الطريقة على قواعد عقلية عملية صرفة، حتى إذا كانوا عرفوها.

إن مبدأ النسبية نتاج مباشر لتطبيق الطريقة الاختبارية، والواقع أن هذه الطريقة لا تستمد قوتها وتأثيرها في العقول إلا من طريق ثقتنا التامة بما ندرك من حقائق الغيبيات، التي هي أساس هذه الطريقة والمرجع الوحيد الذي يعود إليه السبب في وضعها. ولقد أحاطت الطريقة الاختبارية بالعقل الحديث إحاطة تامة فكأنها شيء يملك من العقول ما تملك الصفات الوراثية النظرية الثابتة فيها، فإذا أثبت الاختبار أن مقدارًا من السرعة يكون ثابتًا تحت تأثير حالات يُخيَّل إلينا معها أنها متغايرة غير ثابتة، أو إذا دلَّت التجاريب على أن الحركة المستمَدَّة من نبعٍ من الضوء لم تؤثر أثرها المنتظر في سرعة انتشاره، فهنالك نضطر إلى تعديل إدراكنا للصورة التي تتكيف بها الحقيقة عندنا بما يوافق نتيجة التجربة أو الاختبار.

مضى الناس يعتقدون بأن المكان والزمان شيئان ثابتان نرجع إليهما في الحكم والقياس، فلما نَقَضَتْ نتيجة الاختبار هذه الفكرة، إذ ثبت أن المكان والزمان ليسا إلا ظلالًا متنقلة ماضية في التغير والاختلاف؛ رجعنا إلى القول بأنه لا يبقى من شيء ثابت إلا نسبة سرعة الأجرام؛ لأنها وحدها تبقى ثابتة خلال تغير الحالات العامة، أي إننا عدَّلنا إدراكنا للصورة التي تحيزت بها الحقيقة في عقليتنا بما يوافق نتائج التجاريب.

والذين يعتقدون بأن النسبية مبدأ رياضي صرف، وينفون علاقتها بالغيبيات — ما بعد الطبيعة — يكرهون أو يستنكرون تدخل الغيب في بلاغة معادلاتها الجبرية، ويدركون تلك النظرية إدراك من يعتقد بأنها مسألة أسلوبية صرفة لا تختص بشيء إلا بالقياسات الكمية الجامدة، وأنها بذلك تستعيض بطائفة من المعادلات الاصطلاحية على ما فيها من الصعوبة أو الغموض الشديد عن أشياء أخر أسهل منالًا وأقرب استيعابًا، فتقصيها عن طريق البحث حبًّا في الضبط المطلق كما يقولون، واستماتة في إحكام أطراف البحث والاستقصاء. ولقد يلوح إليَّ أن الذين يعتقدون بهذا الاعتقاد لا يقدِّرون هذه النظرية قدرها، ولا ينزلونها من الخطر منزلتها الحقيقية، فإن هذه النظرية لا يمكن أن تُفهم تمام الفهم إلا إذا توبع بحثها من طريق علاقتها التاريخية بما دعَّم عظماء الفلاسفة وأقاموا من أركان الغيبيات.

لقد ظلت المذاهب الفلسفية منذ عهد ديكارت دائرةً حول نقطتين اثنتين: حول المادة وما أدرك العقل الإنساني منها، وحول العلة ونظرية النسبية بناحيتيها، ناحيتها الخاصة وناحيتها العامة، لا يخرج النظر فيها عن هاتين المسألتين: المادة والعلة، أما الناحية الأولى من النسبية، بما تسوق إليه من إنكار فرض الأثير، فهي تُعتبر بمثابة تعديل فيما كنا ندرك من المادة، والناحية الثانية بما في نظريتها الحديثة في الجاذبية من تأثير التعادل في قوة جاذبة مفروضة، عدَّلت فيما كنا ندرك من العلة.

ولقد جرت الفكرة في المادة والعلة إلى التناحر بين مبدأين ظلَّا يتجاذبان العقل الإنساني ليتغلب أحدهما على الآخر في العصور الحديثة، أخذ المبدأ الأول شكله وكيانه في الجهة الموضوعية Objective التي يمثلها الكون لعقل الباحث، وأخذ الثاني كيانه في الجهة الذاتية Subjective التي يمثلها العقل لذاته من قوة تفكيره وتصوراته ومقدار فهمه وإرادته وعمله.

أما المبدأ الأول فقد استقصيناه من فكرة ديكارت في المادة والأجسام المادية، حيث قضى بأنها لا توجد إلا في مكان أو امتداد، كما حكم بأن العلة تنحصر في الأثر الميكانيكي الصادر عن كمية محدودة من الحركة منبعثة عن المادة نفسها، فهي عنده عبارة عن مُدْرَك آلي — ميكانيكي — يتضمن الكون كله بما فيه مما تناوله النظام وما سادت فيه الفوضى، ولا يخرج عن تلك الآلية من شيء إلا الفكرات أو القوة المفكرة التي لا يمثلها إلا النوع الإنساني وحده، وتشكَّل هذا المبدأ من بعد ذلك في قالَب صبَّته فيه فكرة نيوتن، حيث قال بالزمان المطلق والمكان المطلق، فالزمان المطلق في ذاته وبحكم طبيعته الخاصة به يفيض بنسب متعادلة، إذا لم يكن لشيء من الأشياء الخارجة عنه أية صلة به، وكذلك المكان المطلق يظل في طبيعته وماهيته واحدًا لا يتغير ولا يتحرك ما لم يكن له اتصال بشيء خارج عنه.

وأما المبدأ الثاني فتمثله فكرة ليبنتز في الرأي الذري Monadology، إذ يقضي بأن المادة ليست منفعلة بل فاعلة، وأن الحركة ليست علة الكون، بل إن القوة هي العلة فيه، وأن ما لا ينتج شيئًا لا يمكن أن يكون بشيء، وأن الزمان والمكان اعتباريان، وأن الأشياء المادية مراكز تنبعث عنها قوة فاعلة مؤثرة.

من طريق هذه الفكرات التي ذاعت في المادة والعلة تأتي علاقة النسبية، وهذه الفكرات ليست إلا من أوضاع الغيبيات في أخص معانيها، والحقائق الآتية من طريق الاختبار وإن كانت السبب الذي ساق في الواقع إلى تكوين الفكرة النسبية تكوينًا علميًّا؛ إلا أن هذه الحقائق بذاتها لم يكن لها من أثر عملي في إبراز هذه الفكرة إلا قليلًا. أما النتائج النظرية المنتزَعة من هذه الحقائق فهي التي كَفَلَت تغيير أوجه النظر العلمي وطريقة التفكير العلمية، وإذا نظرت بتأمل أَلْفيت أنها حقائق ثبت أنها حاسمة من ناحية النظر في مشكلات ما بعد الطبيعة، فالعمليات التي تناولتها هذه الحقائق بتغيير لم تتجاوز أشياء تناهت في الضُّئُولَة وحقارة الشأن، كاختلاف التقدير في ٤٢ ثانية في القرن من الزمان، أو خطأ في ٢ وثلاثة أرباع بوصة من محيط كرة الأرض، إذن فليست الحقائق بذاتها هي التي يعظم عندنا خطرها، بل إن خطرها ينحصر في ما يترتب عليها من النتائج. ولقد أظهر العلَّامة ويلدون كار الذي نلخص عنه هذا المقال في كتابه «نظرية النسبية من وجهتيها الفلسفية والتاريخية» أن هذه النظرية قد أثبتت بما لا سبيل إلى إدحاضه طبيعة هذا الكون الذرية — نظرية الجوهر الفرد القديمة التي وضعها ديمقريطس — وقضت علينا بأن لا نجعل علومنا مرتكزة في أساسها المدعم المتين على حقيقة نتخيلها منفصلة عن الذرات المادية، بل على العكس من ذلك جعلتنا نستمد حقائقنا من قوة كامنة داخل الذرات نستطيع أن نعلل بها الظاهرات الطبيعية ونوفق من طريقها بين الآراء المختلفة التي ظلت حتى اليوم تتنازع البقاء في العقل الإنساني.

إن أخطر المسائل التي ترتكز عليها النسبية في علاقتها بما بعد الطبيعة، تنحصر في موقفها السلبي تلقاء ما كنا نعتقد في الزمان والمكان باعتبارهما شيئيْن مطلقيْن يتبع أحدهما الآخر بنسب مستمرة دائمة. ونظرية النسبية تتقبل النتائج الحاسمة التي تؤدي إليها الاختبارات التي تضاد الحقائق الطبيعية التي تثبت عدم وجود شيء من النسبة المستمرة بين الزمان والمكان، وترفض بحكم مبادئها أن تعترف بضرورة الاعتقاد بُدِّيًّا بشيء وهمي خيالي يقال له «الزمان المكاني» المطلق، باعتباره شيئًا لا يعتريه الاختلاف بنسبة الناظرين إليه. وهي فوق ذلك تزودنا بمعادلات اصطلاحية تبين لنا أن حقيقة حادثة من الحوادث التي تقع في الكون تبقى ثابتة في نظر رائييْن ولو نظر كل منهما إليها من جهة بعينها في النظام الكوني، من غير احتياج للقول بنظام ثابت مطلق نفرضه خارجًا عن نظام الجهة الكونية التي يكون فيها كل منهما.

١  اعتمدنا في هذا البحث على الأستاذ ويلدون كار الإنجليزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤