الباب الأول

الأدب ويداه

يُمناه الخَلق الذي يُنتج ويبتكر،

ويسراه النقد الذي ينظِّم ويفسِّر.

***

الخَلق الذي يبتكر

ما هو الخلق في الأدب؟ … ما هو الابتكار الأدبي؟

سؤالٌ ليس من السهل الجواب عنه في عِبارة … فالخَلق ليس معناه أن تُخرج من العدم وجودًا. إنَّما الخَلق في الأدب والفن — وربما في كلِّ شيء — هو أنْ تنفُخ رُوحًا في مادةٍ موجودة … كذلك صنَعَ أعظم الخالقين يوم أوجَدَ آدم؛ فهو تعالى لم يمدَّ يده العُلوية إلى الفضاء قائلًا: «كُن.» فكان، ولكنه مدَّ يده أولًا إلى الطين — مادة أُوجدتْ قبل آدم — فسوَّى منه ذلك المخلوق الحيَّ.

لا شيء إذن يخرُج من لا شيء … كلُّ شيء يخرُج من كلِّ شيء … ذلك هو الدرس الأول في الخَلق … أُريد لنا أن نتلقاه عن الخالق الأكبر.

كذلك ليس الابتكار في الأدب والفن أن تطرَّق موضوعًا لم يسبقْك إليه سابقٌ، ولا أن تعثُر على فكرةٍ لم تخطر على بالِ غيرك … إنما الابتكار الأدبي والفني، هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفةً للناس، فتسكب فيها من أدبك وفنِّك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا يُبهر العين ويُدهش العقل … أو أن تعالج الموضوع الذي كاد يبلى بين أصابع السابقين؛ فإذا هو يُضيء بين يدَيك، برُوحٍ من عندك.

وإذا تأمَّلنا أغلبَ آيات الفنِّ، فإننا نجِدُ موضوعاتها منقولةً عن موضوعاتٍ سابقةٍ موجودة؛ فالكثير من موضوعات «شكسبير» نُقل عن «بوكاشيو»، وبعض «موليير» عن «سكارون» و«لوب دي فيجا»، و«جوته» في قصة «فاوست» عن «مارلو»، ومآسي راسين عن مآسي «إيروبيدس» و«إيروبيد» و«سوفوكل»، و«إشيل» عن «هوميروس»، وشعراء الشعب المجهولين المتنقِّلين بالأساطير … فإذا عرَّجنا على الأدب العربي القديم؛ فإننا نجد في الشعر معنى البيت الواحد وموضوعه، يتنقَّلان من شاعرٍ إلى شاعر، ويلبسان في كلِّ زمن حلَّة وصياغة، حتى اختلف النقاد والباحثون والأدباء فيمَن يفضِّلون: أهو أول مَن طرَقَ الفكرة والموضوع أم مَن صاغهما وأجراهما على الألسن وأتاح لهما الذيوع؟ … على أنَّ أرجَحَ الرأي هو أن الموضوع في الفن ليس بذي خطَر. وليست الحوادث والوقائع في القصص والشعر والتمثيل بذات قيمة، ولكنَّ القيمة والخطر في تلك الأشعة الجديدة التي يستطيع الفنان أن يستخرجها من هيكل تلك الموضوعات والحوادث والوقائع

إنَّ الفن ليس في الهيكل، إنه في الثوب. والفن هو الثوب الجديد الذي يُلبسه الفنان للهيكل القديم. إنه الكسوة المتجدِّدة لكعبة لا تتغيَّر.

وليس هذا بالمطلب اليسير. فما أشقَّ الإتيان بجديد في موضوع غير جديد! … وما أعسرَ الكشف عمَّا لم يُكشف في بناء تقتحمه العيون وتنقِّب فيه العقول، في كل الشعوب وكل الأزمان! ومن أجل هذا كان عمل «راسين» في قصة «أندروماك» — تلك الشخصية التي تناولها من قبله كثيرٌ من المواهب والأذهان — أعظم في تاريخ الأدب من عمل «بونسون دي تيراي» في روايته «روكامبول»، تلك الشخصية المفتعَلة التي اخترعها من رأسه اختراعًا، ونسَجَ حوادثها العجيبة من مخيلته نسجًا.

قال «شسترتون» فيما أذكُر، مقدِّمًا لكتابٍ من كتب «ديكنز»: «إنَّه ما من علامة أفصح في الدلالة على انعدام الابتكار عند بعض الشعراء، من نزوعهم إلى البحث عن الموضوعات الغريبة. إنَّ أرفع مراتب الابتكار قد يتسنمها شاعر يتغنى في «الربيع»، فغناؤه يقطر دائمًا جِدَّة ونضارة، شأنه شأن الربيع ذاته، ذلك الجديد النَّضِر دائمًا، مهما تتعاقب عليه القرون والحقب …»

فالابتكار إذن لا شأن له بفكرة جديدة أو قديمة، غريبة أو مألوفة، ولا بالموضوع الطريف أو المطروق … وقد تسألني بعدئذٍ: ما هو الابتكار الفني؟ فأقول لك بسرعةٍ وبساطة: هو أن تكون أنت … هو أن تحقِّق نفسك، هو أن تُسمعنا صوتك أنت، ونبرتك أنت … إنَّ أعظم معجزة في الكون للخالق الأعظم جلَّ شأنه، هو «شخصية الإنسان» … ملايين الملايين من البشر تتوالد وتتعاقب؛ فلا تطابق شخصيةٌ منها شخصيةً أخرى تمام الانطباق، في الأجسام والمشاعر والعقلية والروح والذوق والطبع … كلُّ شخص يُظهر في الأرض جديدَ جِدة، تنبثق معه وتختفي معه إلى أبد الآبدين. فالإنسان هو الإنسان، ولكنَّه في كل مرة يُولد، إنما يولد جديدًا … لا يكرِّر بالضبط إنسانًا غيره، ولا يشابه بالضبط شخصًا سواه … فملايين الملايين من الناس في كلِّ زمان مثَلُهم كمَثَلِ بصمات الأصابع؛ لا يمكن أن تتطابق كلَّ التطابق … يا له من مَعين لا ينضب من الخَلق الإلهي! … على أنَّ هذه الجِدة التي تُخلق مع الناس — هذه الجدة في المشاعر والعقل والروح والإحساس — لو لازمتْنا طويلًا لرأينا بها العجب، ولكنَّ أوضاع الحياة الاجتماعية، وناموس القُوى والضَّعف، وجاذبية الأجسام الكبرى للصغرى التي تسري على الآدميين كذلك؛ كلُّ هذا يفعل فعله، فما نكاد نُولد ونفتح أعيننا الصغيرة، حتى يتلقَّفنا الكِبارُ من حولنا، ويقودونا ويلقِّنونا؛ فلا نُبصر الأشياء إلا بأعينهم ولا نسمِّيها إلا بما وضعوا لها من أسماء وما أضفوا عليها من صفات وسمات.

لقد كُتب علينا هذا المصير: أن نفقد جدتنا ونحن في المهد، وأن نُلفَّ في أردية القِدم منذ الطفولة، وأن يفقأ آباؤنا عيوننا الجديدة باللمسة الأولى، وأن يُصمُّوا آذاننا بالصيحة الأولى. ومَن فرَّ منَّا ببعض البصر، وواجه الدنيا بعينيه هو فانبهر؛ فهو ذلك الذي نُطلق عليه فيما بعد اسم «الشاعر المُبتكِر» … بل ليت الطفولة أيضًا تبقى طويلًا؛ فهي — على ما فيها من توجيه الكِبار — تحتفظ بعالمٍ خفيٍّ خاصٍّ يتَّصل مباشرة بأسرار الطبيعة المتحرِّرة من منطق الناس.

هذه الطفولة — بعالمها المشيَّد في أحضان الطبيعة الطليقة — تستطيع أن ترى الأشياء في جِدتها السحرية … وصدَقَ ذلك الذي قال: مَن استطاع أن يبقى طفلًا، فقد استطاع أن يصير شاعرًا! … على أنَّ الخطر رابضٌ بعد ذلك في محيط الأدب والفن أيضًا؛ فهنالك الشخصية القوية، كالنواة في الذرَّة، شدَّتْ إليها الشخصيات الصغرى فأعمتْ أبصارها؛ فلا ترى إلا ما ترى الكُبرى، ولا تقول إلا ما تقول.

فإذا سُئلت عن «الربيع» قالت، لا ما تحسُّ هي وترى؛ بل ما سمعتْ ورأتْ من خلال أسطر نَفسٍ كبيرة مشرِقة في عصرها أو في عصور الغابرين، إلى أن تتحطَّم الذرَّة، وينفرط عِقد النواة، ويتحرَّر مَن تتكشف له نفسه … فيقول قولًا نُدرك من ساعتنا أنه له؛ فالصوت صوتُه، والنبرة نبرتُه، والفرحة فرحتُه، والدمعة دمعتُه. فنصيح معجَبين: هذا قولٌ مبتكَر، وهو ما زاد في حقيقة الأمر على أن حقَّق نفسه.

لكنْ … ما أصعبَ ذلك على الأديب والفنان! … ما أصعبَ إظهارَ الفنان شخصيته هو لا شخصية سواه، وإسماع صوته هو لا صوت غيره! … قد يبدو ذلك سهلًا لأول وهلة، وقد يعتقد الفنان أو الأديب اعتقادًا جازمًا أنَّه ينطق بلسانه هو، دون أن يدري أو يفطن إلى أنه يردِّد لغةَ مَن سبقوه، ويدور في فلكِ عظيمٍ من عباقرة الأدب والفن، وهو لا يشعُر أو يريد.

نعم … ما أصعبَ تحطيم الذرَّة في الأدب والفن أيضًا! وأيُّ دويٍّ وانفجار أيضًا لهذا الحدَثِ في تاريخ الآداب والفنون؟! … إنَّ بروز الشخصية مفروزةً جليَّة هو معجزةُ الفنان … كَم من الجهد بَذَل «بيتهوفن» لينطلق من نواة «موزارت»؟! … إنَّ آثار الجهد لم تزَل باقيةً في سانفونيته الأولى، وما أروعَ كفاحَ «جوته» في شبابه مع أقرانه الشعراء في سبيل التحرُّر من تأثير «فولتير» والخروج عن نطاق جاذبيته! … إنها لمُضنية مؤلِمة، تلك الجهود التي تبذلها النجوم لتُضيء في حضرة الشموس! … وإنها لتعيشُ في انتظار الساعة التي تصبح فيها شموسًا بدَورِها تجري من حولها النجوم.

إنَّ مجال الخَلق الأدبي والفني لمفعمٌ بالعجائب، وقد يُدرك المتأمِّل له أنه تابعٌ لنظام الذرَّات والكواكب، فأسلوب الخالق الأعظم واحد، في أصاغر المخلوقات وفي أكابرها، في طاقتها المادية وفي نشاطها المعنوي.

إنَّ الفنان أو الأديب يظلُّ يبحث عن ذاته وشخصيته إلى أن يجِدَها، فإذا هي تملكه بعد ذلك إلى الأبد، وتطبع كلَّ ما يلمسه بذلك الطابعِ، الذي لا يزول ولا يتحوَّل. وإذا هو يُعرف بطابعه، لا فيما يُنشئ فقط بل فيما يحاكي أيضًا. ولو تأمَّلنا الأدب العربي لوجدنا من شعرائه الأكابر مَن تعمَّد محاكاة غيره؛ أو تقليده، أو معارضته في بعض قصائده، فإذا هو على الرغم من إرادة المحاكاة؛ يُخرج فنًّا مبتكَرًا مختومًا بطابعه هو لا طابع مَن حاكاه … ذلك أنَّ الشخصية الفنية بعد أن تتكوَّن يُصبح لها من القوة ما يجذب إليها كلَّ شيء، ويُخضع إلى أشعَّتها كلَّ فكرة أو صورة أو موضوع؛ فكلُّ ما تتناوله يُصبغ في الحال بلونها. فالفنان أو الأديب ذو الشخصية يبتكر، حتى وهو يريد أن يقلِّد، والفنان الذي لم يستقلَّ بعدُ بشخصيته يقلِّد، وهو يريد أن يبتكر.

ولكنَّ طغيان الشخصية شديد … فالفنان يظلُّ يدور حول «نواةِ» غيره، طالبًا الانفصال عنها والاستقلال بذاته. فإذا انفصل واستقلَّ؛ دار حول ذاته وسيطرتْ عليه شخصيتُه. كلُّ فنان ذي طابع هو حبيس طابعه … انقطعْ شهورًا لدراسة فنَّان بارزِ الشخصية … هبْ نفسك لشيطان أعماله كلِّها مجتمعة؛ فلن يمضي بك الوقت حتى تكون قد عرفتَه وأحببتَه، وسئمتَه وألِفتَه، في كلِّ إشاراته ولفتاته، وارتفاعه وانحطاطه، وقدرته وعجزه … إنَّ تأمُّل آثار الفنان كاملةً، تكشف لك عن شخصيته الكاملة؛ فتعرف أسلوبه في التفكير والتعبير، وطريقته في تناول الأشياء. ولكنَّك — وقد أحطتَ به ونفذتَ إلى لبِّه — لا بدَّ صائحٌ يومًا بلهجةِ المحبَّة والأُلفة: «دائمًا هذه الطريقة! … دائمًا هذا الأسلوب! … لو يخرج عن ذلك قليلًا؟!»

يخرج عن ذلك إلى أين؟ … وكيف يخرج عن طريقته وأسلوبه؟ … إنَّها ذاته … تلك مأساة الطابع والشخصية؛ ما دام قد صار له طابع فلن يُخلع عنه أبدًا … ولا بالموت. كلُّ خالقٍ ذو أسلوب … إنَّ أسلوب الفنان ذي الشخصية كملامحه، لا يمكن أن يغيِّرها أو يبدِّلها أو يتخلَّص منها … ذلك هو ما يسمَّى بالابتكار في الفن والأدب.

النقد الذي يفسِّر

ما من شيء كثُر فيه الخلاف مثل النقد، وقواعده ومذاهبه.

ما هو النقد؟ … يقولون إنَّه الحَكَم الفصل، وهو الميزان الدقيق.

إذا كان «النقد» هو حَكَم وميزان؛ فلا بد له إذن من دستورٍ وقانون. ما هو الدستور أو القانون الذي يمكن أن يوضع أو يسنَّ؛ لنعلن بمقتضاه أنَّ هذا الأثر الفني جيدٌ أو غير جيد؟

اجتهد أعلام النقد وأئمة البلاغة في التقنين والاستنباط، وخرَجُوا بأصول، قالوا إنَّ في المقدور أن نقيس بها الخَلق الفني؛ فنعرف جيده من رديئه، ونميِّز معدنه الطيِّب من معدنه الخبيث. ولو صدق هذا الاختراع في الفن كما صدَقَ في التعدين، وكانت لهذه الأصول التي تُقاس بها أعمال الفن والأدب، دقَّة ذلك الجهاز الحسَّاس الذي يَعرف مَنجَم الذهب من مَنجَم النحاس؛ لهان الأمر على النقد والنقَّاد والأدباء والفنَّانين.

ولكن هذه الأصول — أو هذا الجهاز — إذا طُبِّقتْ على كثير من آيات الفن والأدب؛ فإننا نجِدُ اضطرابًا، ونلحظ اختلالًا، ونقِفُ موقفَ الحائر المتسائل: هل نصدِّق الآية الفنية، أو نصدِّق الجهاز؟!

ذلك أنَّ كثيرًا من بدائع الفنِّ الخالدة يخرُج على تلك الأصول؛ فتراه أحيانًا لا يخلو من نقصٍ في البلاغة، أو ركاكةٍ في العبارة، أو أخطاءٍ في النحو، أو وقوعٍ في اللغو … ولكن إلى جانب تلك المآخذ روعةً أيَّ روعة؟! … ثم هنالك أثرٌ فني آخر انطبقتْ عليه الأصول تمامَ الانطباق. فلا لحنة ولا غلطة … فصاحة ما بعدها من فصاحة، ومنطق كحدِّ السيف يُصيب المفصل. وقد يكلُّ الطرف وتكدُّ الفطنة؛ فلا تعثر فيه على هنَة من أضأل الهنات … كلُّ شيء فيه صحيحٌ، سليمٌ، متينٌ، ولكنَّا نحسُّ — مع ذلك — أن لا شيء فيه يحرِّكنا أو يهزُّ نفوسنا.

الجمال في الفن كالجمال في المرأة! … «كليوباترا» — على الرغم من أنفها غير الدقيق — آيةٌ خالدة في تاريخ الحُسن النسوي! … وكَم من نساء نُبصرهن كلَّ يومٍ لهنَّ من الأنوف الدقيقة والعيون النُّجل والخصور النحيلة ما لم تظفر «كليوباترا» بالقليل منه، وبرغم هذا لا نراهن رائعاتٍ ولا فاتنات.

ما السرُّ في أنَّ امرأة قد استكملت شروط الحُسن وليست بحسناء، وأخرى شابتْها عيوبٌ وهي السِّحر والفتنة؟!

في المرأة وفي الفنِّ، هنالك شيءٌ لا ندري ما هو، يخرج على كلِّ قاعدة، ويهزأ بكلِّ أصل؛ هو الذي يجعل الجميل جميلًا … من أجل هذا، انحرف النقد عن المذهب الموضوعي إلى المذهب الشخصي، وطَلعَ نفرٌ من النقَّاد يقولون: إنَّ الذوق هو الحَكَم والميزان، ولكن ما هو الذَّوق؟ … هو أيضًا مشكلةٌ تبرز على الفور: لو عرفنا الذَّوق وحدَّدناه؛ لأصبح هو الآخر أصلًا من الأصول، ومقياسًا ثابتًا جامدًا، يتحطَّم عند أول اختبار، وننزلق إلى المذهب الموضوعي مرة أخرى دون أن نشعُر. فلنكتفِ إذن بالقول بأنَّ الذَّوق ملكةٌ شخصية، تَفرز الزائفَ من الصحيح، والحسن من القبيح! … ولكن ما دامتْ ملكةً شخصية؛ كيف نفرز أيضًا الشخص الذي رُكِّبتْ فيه هذه الملكة، وكلُّ الناس لا شكَّ قائلون إنَّ الذوق نابت فيهم مع أظفارهم؟ … ونحن لو استطعنا أن نتصيَّد من غمرة الناس تلك اللؤلؤة الفريدة، وهي الناقد صاحبُ الذوق الذي لا يُنازَع ولا يُدافَع؛ لكانت فرحتُنا به أضعافَ فرحتنا بمَن سينقد من الأدباء والفنانين. لكنَّ العثور على هذا الناقد ذي الذوق، يحتاج — هو الآخر — إلى ناقد ذي ذوق يستكشفه، وهلُمَّ جرًّا … لا، ليس للذوق الشخصي ضابط، وإذا تُرك الحكم في الآثار الفنية والأدبية للذوق وحده؛ فقد تُرك إذن للفوضى أو للمصادفة، وهذا هو المطعن الذي يُرمى به المذهب الشخصي في النقد.

ولعلَّ خيرَ منهج للناقد أن يجمع في نقده بين شتى الاعتبارات، ويؤلف بين مختلف النظرات، فيختار الأثر من بين مختلف الآثار بذوقه، كاشفًا عن نواحي جمال، ثم يحلِّله بغربال علمه، ليُخرج لنا ما انطبق منه على الأصول وما لم ينطبق. وذلك لمجرَّد التحليل والبحث والدرس، لا لإصدار الأحكام بناءً على هذا الاعتبار وحده. فإذا فرغ من ذلك، بقي أمامه الشطر الأجَلُّ من عمله النقدي، وهو تقييم الأثر بقيمته في المحيط الأدبي القومي أو الإنساني، ووضعه في مكانه من «خانة» النوع، ومقارنته بالسابقين له في ذلك السجل؛ مبينا مدى تأثره إياهم، ومبلغ اتفاقه معهم في المذهب، أو اختلافه عنهم في المسلك، أمُكرِّر هو أم مؤكِّد أم مُجتهِد في بابٍ معروف؟ … أم هو فاتح أو ضارب في طريقٍ غير مألوف؟ … مع مراعاة الحقيقة لا الإسراف، والدقَّة لا الإغراق. ذلك بأنَّ النقد عندنا في الأدب العربي الحديث سار طويلًا في دربٍ مقتضب، هو أن ينقد الأثر، كما لو كان قد وجد ملقًى على الأرض، كاللقيط لا يُعرف له أبٌ ينتمي إليه، فهو فريدُ عصره ونسيج وَحدِه … إنَّ الأدب أو الفن في أيِّ أمَّةٍ وعصر، أسرةٌ متَّحِدة فيها الأدباء، وفيها الأبناء … فيها مَن تكونتْ شخصيته فأثَّر، وفيها الناشئ الذي يتأثَّر. ولكلٍّ منهما عند الناقد عُملةٌ بها يحاسَب … فالفنان أو الأديب الذي تكونتْ شخصيته فأثَّر، ينبغي لفهمه درسُ شخصيته الفنية أولًا. وشخصية الفنان أو الأديب لا تتكوَّن إلا من كتلةِ أعمال.

إنَّ العمود الفقري للشخصية الفنية هو سلسلة آثار، يستطيع الباحث أن يتتبَّع في حلقاتها صفاته وعيوبه ولوازمه وعاداته، ومزاجه واتجاهاته، لهذا كان على النقد الفني أن يفرِّق دائمًا بين فنانٍ في أعماله الأولى، يتلمَّس خطاه نحو شخصيته، وفنان عُرفَ له طريقٌ واتجاه. فقضية النقد للمبتدئ تتلخَّص في: «كيف صنع هذا؟» وقضية النقد للناضج هي: «لماذا صنَعَ هذا؟» الأول لم نعرف له شخصية بعد، فعلينا أن نُعينَه على معرفة طريقه إليها، فنناقشه؛ كيف أنتج ذلك الأثر؟ ما هي حياته؟ وما أدواته؟ وأيَّ خُطًى يتأثر؟ وفي أيِّ طريق يسير؟ وبأسلوب مَن تشبع؟ ولأفكار مَن تشيَّع؟ أمَّا الثاني، وقد عرفنا شخصيته ووجهته، فواجبنا أن نبحث: لماذا أخرج هذا الأثر الأخير، ليحقق به أيَّ جانب من جوانب شخصيته التي نعرف عنها الكثير؟ … لماذا صنَعَ هذا؟ … أترى الغرض منه تأكيد فكرة من أفكاره السابقة؟ … أو الرجوع عن بعض هذه الأفكار؟ أو الانحراف إلى اتجاه جديدٍ لا نعرفه له؟ … أو الخضوع لإحساسٍ بعينه يلاحقه في كلِّ أثرٍ من آثاره؟ … فالنقد للأديب الجديد موجِّه، وللأديب القديم مفسِّر … ينبغي للنقد الفني أن يوجِّه الجديد إلى شخصيته التي لم تظهر، وأن يفسِّر للقديم شخصيته التي ظهرت.

الأديب القديم يفاضَل بنفسه، ويُنقَد الأخير من آثاره على ضوء السابق من أعماله. والأديب الجديد يُقارَن بالأديب القديم، ويُنقَد عمله على ضوء أعمال مَن فتحوا له باب النوع الذي يعالجه، والفرع الذي يُثمر فيه … وكلُّ أديبٍ قديم كان يومًا جديدًا. وكلُّ أديبٍ جديد سيكون يومًا قديمًا؛ فتعدُّد النظرة في الأمس والغد فيه تعدُّد للجوانب. وبهذا يعرف الأديب إذا اكتمل كلَّ وجوه القول فيه، وكلَّ ما يربط إلى سابقيه ولاحقيه … فالأدب أو الفن أو العلم في كلِّ زمان ومكان، سلسلةٌ طويلة، تتسلَّم فيه كلُّ حلقةٍ من الأخرى، ثم تُسلِّم … ومهمَّة النقد هي أن يربط هذه الحلقات بعضها ببعض؛ ليجعل منها هذه السلسلة الذهبية التي يزدان بها صدْرُ البشرية. والنقد في عملية الربط بين الحلقات إنما يقوم في حقيقة الأمر بعملٍ إنشائي ضخم. ولسنا بمبالِغين لو قلنا: إنَّ الآثار الأدبية بغير نقدٍ بنائي يربط بين أجزائها واتجاهاتها، لا يمكن أن تصنع أدبًا بالمعنى المعروف في الآداب الكبرى؛ فمن الجائز أن تنبت قصيدةٌ شعرية رائعة بين الزنوج بلغتهم في غابة من الغابات؛ لأنَّ الإحساس الفني يمكن أن ينبت في أيِّ مكان، ولكنَّا لا نستطيع أن نتحدَّث عن أدب الزنوج، إلا إذا وُجد النقد الذي ينظِّم آثار هؤلاء القوم، ويكشف عن مصادرها وأهدافها واتجاهاتها … شأن النقد في الأدب كشأن الفقه في القضاء … فليس الحُكم العادل وحده هو الذي يصنع علم القانون، كما يُعرف في الأمم الكبرى … فما أكثرَ الأحكامَ العادلة التي تُصدرها مجالس التحكيم عند البدو أو عند كثير من القبائل الفطرية! … فهل نستطيع أن نسمِّي الأحكام قضاءً بالمعنى القانوني؟ … لا … لماذا؟ … لأنَّه ينقُصها الفقه، الذي يجمعها ويمحِّصها ويرتِّبها ويستخرج منها الاتجاهات والنظريات والمذاهب والمبادئ. فالفقهاء في الشريعة الإسلامية والقوانين الرومانية والأوروبية، قديمًا وحديثًا، هم الذين بغَوصهم في أعماق النصوص، وتفسيراتهم للأحكام، قد شيَّدوا هذا البناء الضخم المتناسِق المتماسك لهذه الشرائع والقوانين. كذلك النقاد، أي فقهاء الأدب والفن، بانكبابهم على الآثار الأدبية والفنية، يستخلصون منها التفسيرات والمقارنات، والمذاهب والاتجاهات؛ قد أقاموا بجهودهم المتصلة صُروحَ الآداب والفنون. فالأدب العربي القديم، ما عاش حتى اليوم أدبًا خصبًا، وما بقي لنا تراثًا غنيًّا، إلا بفضل رُواته ونقَّاده وباحثيه الذين تفقَّهوا في درسه، ووازنوا بين شعرائه وأدبائه، وأظهروا لنا أسرار أساليبه وآيات بلاغته، وكشفوا عن مؤثراته ومراميه، ومدارسه واتجاهاته، في مختلف العصور والأزمان … فالأدب الفني لا بد له من نقدٍ إنشائي، كما أنَّ القضاء العظيم لا بد له من فقهٍ عميق. ولعلَّ ما يبدو على الأدب العربي الحديث من فقر — بالنسبة إلى الأدب العربي القديم — راجعٌ، لا إلى ضعف الإنتاج الأدبي الحديث في ذاته؛ بل إلى ظهوره وحيدًا غير مستند إلى نقد إنشائي في مستواه يقوم بمهمة التنظيم والتفسير والربط والتبويب … فكان من أثر ذلك الإهمال أن بدأ الأدب العربي الحديث في صورةِ جهودٍ فردية غير جديَّة … وسيظلُّ كذلك إلى أن يُظهر النقَّاد العِظام الذين يتوفرون على درسه ويُخرجونه للناس والأجيال، بناءً متَّسقًا، مرتبطًا حاضره بماضيه … على أنَّ ظهور الناقد العظيم ليس بالأمر السهل؛ فللناقد صفاتٌ يجب أن تتوافر فيه، أهمُّها: أن يكون كفقيه القانون، بحرًا عميقَ الاطلاع في الأدب الذي يدرسه، والآداب الأخرى القائمة، ماضيها وحاضرها، حتى يتيسر له التقدير للقيم والموازنة بين الأنواع، والتشريع للمذاهب. وأن يكون واسع الأفق، ليفهم كلَّ الأغراض، قويَّ المعدة، ليهضم كلَّ الألوان.

فذلك الذي لا يستسيغ نوعًا من الشِّعر، أو لونًا من النثر، أو فرعًا من القصص، أو ضربًا من التمثيل، لا يجوز له أن يُقدِّم على نقده، وإبداء الرأي فيه. وعليه أن يتنحَّى ويردَّ نفسه عن الحكم، شأن القاضي الذي كوَّن في القضية رأيًا قبل البحث أو اتصلت ظروفها بعلمه قبل النظر … ففي لغة القانون يقولون: «ليس للقاضي أن يحكُم بعلمه.» ذلك أنَّ القاضي يجب أن يحكُم بناءً على ما بين يدَيه من مستندات … لا بما يتصل بعِلمه الشخصي … كذلك في لغة الفن، يجب أن نقول: «ليس للناقد أن يحكُم بمَيله.» ذلك أنَّ الناقد يجب أن يحكُم على الأثر الأدبي أو الفني، بناءً على قيمته الذاتية، لا بما يُمليه عليه مزاجه الخاص … فالناقد الذي يكره مثلًا شعر المديح، إمَّا أن يمتنع عن نقد قصيدة في المديح، وإمَّا أن يتجرَّد من بُغضه للنوع، ويزنها بميزانها في نوعها … ولكن ليس له أن يسبَّها لمجرد أنها في المديح، وهو يكره هذا النوع من أنواع الشعر.

هذه الصفات والملَكات لو توفرتْ في بضعة نقَّاد، فإنَّهم يستطيعون أن يُقيموا ميزان النقد الفني على نحوٍ منتج. وبقيام هذا الميزان في أدبٍ من الآداب، يقوم صرحُه شامخًا على أعمدة الزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤