الباب العاشر

الأدب ومشكلاته

«رسالة الأدب كغيرها من الرسالات الكبرى، التي تبغي السموَّ بالبشرية، لا تبلغ الأسماع إلا بعد جهدٍ وصراع.»

***

نهر الحياة الكبرى

من العلل الشائعة في بلادنا، ضعفُ الإقبال على المطالعة الجيدة، ولقد سرى الداءُ في طائفةِ شبابِ الجيل الجديد؛ أخَذَهم دُوار العَجَلة الذي ابتُلي به هذا العصر، وأغراهم حُب الوصول بغير مجهود؛ فوقَعَ في وَهْمِهم أنَّ القراءة عبثٌ، وأنَّ بُطون الكتب ليست إلا مقابر، وأنَّ الذي يعنيهم الحياة … ولا شيء غير الحياة!

وإنَّه لمن المُفرِح والمُضحِك معًا أن نسمع شابًّا يحدِّثنا عن «الحياة»، كما لو كان حقًّا يعرفها، وكما لو كنَّا — نحن الذين تقدَّمناه في الزَّمن — قد وُلدنا في كوكبِ المريخ؛ فلم نهبط الأرض، ولم نكدح في الحياة قبله، ولم نعِشْها ولم نرَها!

يحسُن — قبل كلِّ شيء — أن نبدِّد وَهْم هذا النَّفر الساذج من الشباب؛ فنقول له: إننا عِشنا في أحداث حربَين عالميتَين، وعرفنا مصر وأوروبا في أزمتَين وثورتَين، وإنَّ كثيرين منَّا — ومنهم كاتب هذه السطور — لم يقضِ شبابه كلَّه في مقاعد الدروس أو التدريس، ولم تكُن حياته كلُّها غارقةً في النظريات، أو في التحرير والتخيُّر؛ ولكنَّه غرق زمنًا في الحياة من حيث هي حياة، بواقعها وحلوها ومرِّها، وطيِّبها وخبيثها. ومن ذلك، يومَ كان يعمل في القضاء، يجوس خلال الرِّيف والمُدن، ويتَّصل بالحاكمين والمحكومين، ويطَّلع على خبايا المجتمع، وخفايا الصُّدور والأُسر والأكواخ والقصور، وأنَّه عرَفَ حريَّة الوحدة، ومسئولية الأُسرة، ولحظة التأمُّل، وزحمة الاجتماع، ومرارة الإخفاق، ومشقَّة الكفاح من أجل العيش، وتبعاتِ الرأي الحرِّ في المسائل السياسية أو الاجتماعية، ولم يفقد في أيِّ وقتٍ اتصالَه بالبيئات التي يرى فيها، ويعرف ما يجري في البلد، وما يحرِّكه ويتحرك فيه من أشخاصٍ ودوافع!

كما عرفنا كلُّنا — ولا شك — تلك الحياة الأخرى الصغيرة التي عرفها كلُّ شابٍّ؛ ذلك أنَّك لو حادثتَ شابًّا عمَّا يعنيه بكلمة «الحياة»، لفهمتَ منه أن الحياة عنده هي وجوده المحدود الذي يعرفه، وظروفه التي تحيط به، هي الرغبات التي يحلُم بها وينالها، أو لا ينالها! … هي الفتاة التي يحبُّها، ويريد أن يجعل من حبِّه لها مشكلةَ المجتمع أو مُعضِلةَ الكون! في الحانات أو الامتحانات أو المرتَّبات أو السهرات الحمراء أو الليالي الظلماء، أو ما يقع تحت بصره في الطريق العام، أو في الترام، أو في القهوة، أو في المكتب، أو في الحيِّ. أمَّا ما يقرؤه سريعًا في صحيفةٍ أو مجلة أو كتابٍ خفيف، أو ما يصِلُ إلى علمه بالتواتر والإشاعة من أزمات العالَم، ومشاغل العصر! … هذه كلُّ الحياة التي يمكن أن يُحيط بها شابٌّ من شباب اليوم!

ولكنَّ الحياة شيءٌ أعمق من ذلك، وأطول وأرحب! … إنَّها مثلُ نهرٍ لا نعرف منه المنبع ولا المصبَّ! … البعض يكتفي منه باللعب عند الشطِّ، والبعض يسبح بالقُرب من شطِّ النهر، أو ينغمر فيه، والبعض يفعل كلَّ ذلك، ولا يكفيه؛ بل يحاول أن يصعد في منابعه باحثًا مرتادًا!

•••

آثارُ الأقدمِين الخالدة: من كُتبٍ ومعارفَ وفنونٍ؛ هي القوارب، والمراكب التي نصعد بها مُستكشِفين منقِّبِين في منابع نهرِ الحياة الكبيرة!

•••

وهنا تبدو صعوبة: ليس كلُّ الناس يستطيع أن يكون مرتادًا، ومُستكشِفًا … فلا بدَّ لمَن أراد التنقيب في هذا النهر، ومعرفة خباياه، وفهْمَ أسراره، من خبرةٍ وتجربة … فنحن لا ننتفع كثيرًا بمطالعة الأقدمين إلَّا إذا تسلَّحنا بتجاربِ السنين.

إن الخطأ الذي يقع فيه أكثرُ الناس، هو ظنُّهم أنَّ القراءة أخذُ صرف! … وأنَّ القارئ ليس إلا جَعبةٌ فارغةٌ يملؤها الشيءُ المقروء! … وأنَّ المؤلِّفَ مانحٌ، والمطالِعَ ممنوحٌ، وأنَّ الكِتابَ عائلٌ، والقارئَ عالة!

•••

والواقع — كما دلَّنا علمُ النفس الحديث — أننا لن نستطيع أن نصِلَ إلى ما نجهل إلا عن طريق ما نعلم! عِلْمُنا السابق هو مِفتاحنا لبابِ المجهول؛ فليس للألفاظ التي نقرؤها معنًى ثابت محدَّد، ولكنَّها تتغيَّر ويضيق مدلولها ويتَّسع تبعًا لدرجة عِلمنا وخبرتنا! … فلفظُ «الإسكندرية»، مثلًا، عند مَن لم يرَها ولم يعرفْها؛ لا يدلُّ على شيءٍ كثير. ولكنَّه عند مَن رآها وعاش فيها؛ يدلُّ على صورةٍ ومعانٍ لا حصرَ لها ولا عدَّ … فنحن، في حقيقة الأمر، لا نطالع بأذهاننا وحدها، ولكننا نطالع بتجاريبنا وخبرتنا!

وإنَّ من الكتب ما يقلُّ محصوله أو يكثُر، ويجدب أو يخصب؛ تبعًا للشخص الذي يقرأ هذه الكتب، أو الجيل الذي يطالعها!

ومَن من الكهول والشيوخ؛ لم يهزَّ رأسه عجبًا وهو يُعيد قراءة «كليلة ودمنة» أو «العقد الفريد» أو «الإلياذة» أو «هاملت» ولم يقُل في نفسه: «كيف لم أفطن إلى هذه المعاني في شبابي؟!»

وهل كان من الممكن أن يُدرك الإنسانُ في شبابه من معاني الحياة أكثرَ ممَّا تُتيح له سنُّه من خبرةٍ وتجربة؟!

هنا سرُّ عزوف أكثرِ الشباب عن الكتب القديمة النفيسة! … جهلُهم بالحياة العميقة الرحبة، وهو الذي يُخيفهم من تلك الكتب! … إنهم يضجرون منها سريعًا ضجرَهم من مصاحبةِ مَن هُم أكبرُ منهم سنًّا … وهم يكتفون بالكلام عن الحياة؛ ليُوهِموا أنفسهم أنَّهم قد عرفوها!

هذه المشكلة، ليست إذن مشكلةَ الشباب في عصرنا وحده! إنَّها مشكلة الشباب دائمًا — في كلِّ العصور — إلا أنَّها في العصور الخوالي، كانت أخفَّ وطأةً، وأقلَّ خطرًا؛ ذلك أنَّ الشباب ما كان يقع في أيديهم غيرُ قيِّم الكُتب؛ فكانوا مضطرِّين اضطرارًا إلى احترامها والعكوف عليها يُسيغون، ويتركون للأيام ما يتركون! … إلى أن تتقدَّم بهم السنُّ، ويختزنوا من تجاريب الحياة ما يمكِّنهم من فَهْم ما تركوا وما يؤهِّلهم لبعث ما ظنُّوه مدفونًا في بطون الكتب، من حياةٍ ما ماتت، ولا يمكن أن تموت؛ لأنَّها قطعةٌ من الحياة الكبرى التي لا تفنى، وبضعةٌ من أنفُسنا التي لا تُهزم!

أمَّا اليوم فإنَّ وسائل اللهو قد تنوَّعتْ، وألوانَ القراءات الخفيفة السائغة قد تعدَّدت؛ وكلُّها ممَّا يناسب مزاج الشباب، ويَطيب لسنِّه ويتَّفق مع محيطه؛ فما الذي يضطره إذن إلى بذلِ الجهد وتجشُّم المشقَّة في اتخاذ القوارب والمراكب، يصعد بها إلى «حياةٍ» هي بالنسبة إلى مداركه وتجاربه «مجاهلُ» لا يمكن أن ينفذ إلى جوفها وهو في ربيع العمر!

مع الشباب شيءٌ من الحقِّ، فما من أحدٍ يحبُّ لهم هذا الكفاحَ المؤلِم على الدوام، وإنَّ لسنِّهم عليهم حقًّا، ولكنْ إذا استطعنا أن نُغريهم بعضَ الشيء بهذه المحاولة الشاقَّة، ونسألهم أن يمنحوا المطالعة المُجهِدة وقتًا يسيرًا إلى جانب المطالعة المسلِّية؛ فإنَّهم، ولا ريب، لن يندموا على هذا الوقت في مستقبل الأيام؛ لأنهم سيجدون لذةً في أن يقولوا همْ أيضًا — وقد وخَطَ رُءُوسَهم الشَّيبُ — مثلَ ما قال كلُّ جيلٍ سابق: «كيف لم نفطن إلى هذه المعاني في شبابنا؟!»

وعندما تنبض الكتب القديمة بحياةٍ جديدة، تحت نور تجاربهم، سوف يصيحون زهوًا: «نحن أيضًا لم نقنع بالشطِّ، وارتَدْنَا النهر الكبير … نهرَ الحياةِ الكُبرى!»

الشِّعر وأشعَّته

هل الشِّعر تصويرٌ للحياة؟

ما من ريبٍ في أنَّ للشعر صلةً بالحياة، لأنَّه ينبع من كائنٍ حيٍّ، هو الشاعر … غيرَ أنَّ الذي أرتاب فيه قليلًا، هو أنَّ الشعر تصويرٌ مباشِرٌ للحياة؛ فإنَّ الحضارة تملك من الأدوات ما هو أدقُّ في التصوير من الشِّعر، فضلًا عن النثر المنوط به دائمًا من القِدَم تصوير الحياة في جملتها وتفصيلها، وجوهرها وتفكيرها تصويرًا حقيقيًّا واقعيًّا؛ فإنَّ لدينا اليوم أيضًا «السينما» … تستطيع أن تسجِّل في شريطٍ كلَّ تفصيلاتِ الحياة في بلدٍ وزمن وطبقة وبيئة، بالألوان واللسان واللهجات! … على صورةٍ يعجز عن وصفها للعين والأذن أيُّ كاتب في أيِّ لغة من اللغات! … ولدينا الصحافة الإخبارية والتصويرية والتحليلية — فيما يسمى اﻟ «ربورتاج» — تستطيع أن تتغلغل في طبقات الحياة المختلفة، فتسجِّل الأحداث، والأخبار، وتصوِّر باﻟ «روتوغرافور»، وترسل محرِّريها يختلطون ويندمجون، ويتحرَّون ويتقصَّون ويرجعون إليها بأدقِّ المعلومات والإحصاءات والوصف والسَّرد عن حدَثٍ من أحداث المجتمع، أو حالةِ بيئة من بيئات الشعب!

وإنَّه ليكفي في الغد أن يطلع الإنسان على مجموعةٍ صحفية لعامٍ من الأعوام في بلدٍ من البلاد، ليخرُج في الحالِ بصورةٍ دقيقة، عن حياةِ ذلك البلد في تلك الفترة من تاريخه … ويكفي أن يشاهد شريطًا سينمائيًّا محفوظًا — سجَّلَ حياةَ مجتمعٍ في زمنٍ من الأزمان — ليرى تلك الحياةَ بذاتها، قد بُعثتْ ماثلةً للعِيان! … فما مهمَّة الشِّعر إذن عندئذٍ، وقد ملكنا أدواتٍ أُخرى غيره، تمثِّل لنا الحياةَ خيرَ تمثيل؟! … لا بدَّ أن يكون للشِّعر مهمَّة أخرى، غير مجرَّد تصوير الحياة الجارية وتمثيل الأمم والشعوب والأجيال، ذلك التمثيل الظاهريَّ الماديَّ المباشِر!

•••

ما هي هذه المهمَّة الأخرى للشِّعر؟ … هذه المهمَّة التي يستطيع القيامَ بها وحده، دون غيره من تلك الأدوات التي وُجدت، والتي قد توجد في مستقبل الأحقاب؟! … لا بد أن تكون المهمَّة الخالدة شيئًا يتَّصل بالشاعر نفسه … ما هي بطبيعته هو وبمزاجه، وبنظرته الخاصَّة إلى ما يُحيط به من كائنات!

على هذا النحو، يجب تعريف الشعر، لا بأنَّه تصويرٌ للحياة، بل بأنَّه انعكاسُ الحياة على نَفْس الشاعر! … فالشاعر مثل القمر؛ لا يُعطينا الحياةَ في أشعَّتها المُحرِقة ووَهَجها الذي يُعمي البصر، ولكنَّه يتلقَّى بعض أشعَّتها، ويصفِّيها خلال نفسه ويعرضها علينا بعد ذلك ضوءًا جميلًا منظَّمًا مهذَّبًا، ترتاح له العين ويسبح فيه الذِّهن ويأنس له القلب!

من أجل ذلك، كان الشِّعر غيرَ دقيقٍ في تصوير الحياة لنا، كما أنَّ القمر غيرُ دقيقٍ في نقل أشعَّة الشمس إلينا! … كلاهما يُعطينا شيئًا ممزوجًا بطبيعته، مخلوطًا بخصائصه! وكلاهما أيضًا، فيما أرى، يرمي إلى الهدَفِ عينه؛ فالسؤال الذي يُلقَى على الشِّعر هو السؤال عينه الذي يطرح على القمر: ما الذي تقصد إليه من إعطائنا هذا الضوء المهذَّب الجميل؟

أمَّا القمر فيُجيب: لستُ أقصد بهذا الضوء أن أُريكم واقعَ الأشياء؛ فإنَّكم ترون هذا الواقع مثلًا واضحًا في وهَجِ النهار، ولكني أُريد أن أدثِّر لكم الأشياءَ في رداءٍ جديد من نورٍ وظِلال؛ لأوقِظَ فيكم رُوح الوجود، وجوهرَ الكائنات «وأُثير في أذهانكم عوالمَ أُخرى أجملَ وأكملَ من العالم الموجود، وأجعلكم ترون في ضوئي شيئًا آخر غير الذي ترون في ضوء الشمس؛ فتحيون بذلك حياتَين، فيزداد وجودكم بذلك اتِّساعًا!»

ويُجيب الشِّعر بمثل ذلك قائلًا: أنا أيضًا لست أقصد أن أُريكم واقعَ الأشياء في حقيقتها المادية؛ فهذا من شأنِ العِلم، وما يجري مجرى العِلم من تاريخ وبحوث وتحقيق وإحصاء وتسجيل! … ولكنِّي أريد بضوئي أن أطرُق أبوابَ تفكيركم، ومشاعركم، وأنمِّي فيكم ملَكةَ التخيُّل والتأمُّل، وأجعلكم أنا أيضًا تحيَونَ حياتَين: حياة الواقع الأرضي، وحياة الفكر العلوي!

ولكأنَّ الشِّعر أدرَكَ خطَرَ السينما والصحافة الذي يهدِّده في الغد؛ فأردف يقول: لا تنتظروا من عدستي أن تلتقط ظاهرَ الحياة؛ فإنَّ «الكاميرا» والمصوِّر الصحفي سيكون لهما غدًا في ذلك فنٌّ دقيق رائع، ولكنَّ عدستي هي التي تلتقط وتسجِّل حياةَ القلب … وهي حياةٌ لا تستطيع أن تصوِّرها «الكاميرا» ولن تستطيع! … وسيكون الشاعر الذي يمثِّل عصره هو ذلك الذي يصوِّر، لا مجرَّد الحياة العادية الجارية، ولا الأوضاع والأحداث المحليَّة بل هو ذلك الذي يمثِّل حياة الفكر والرُّوح في عصره! … هو «أبو العلاء» بالنسبة إلى الدولة العباسية! … وهو «دانتي» بالنسبة إلى القرون الوسطى … و«طاغور» بالنسبة إلى الهند اليوم … و… و«فاليري»، بالنسبة إلى أوروبا الحديثة … إلخ.

وأخيرًا يُجيب القمرُ قائلًا: عدستي أنا أيضًا؛ ليست مثل عدسةِ الشَّمس؛ فهي لا تُلقي أشعَّةً كاشفة ولكن تُلقي أشعَّة مُوحية! … أشعة الشمس تقول للناس: انظروا، وأبصروا! … وأشعَّتي تقول للناس: اشعُروا، وفكِّروا.

مستقبل الشعر

هل دولة الشعر مُوشِكة على الزَّوال؟ … هل قرضُ الشِّعر سينقرض في مستقبلٍ غير بعيد؟

ما من ريبٍ في أنَّ هنالك أخطارًا تهدِّد حياةَ الشِّعر، وهذه الأخطار ليست وليدةَ اليوم؛ فقَدْ ظهرتْ كلَّما ظهَرَ في الإنسانية حدَثٌ أو تحوُّل؛ فالشاعر الذي كان يرفع القبيلة ويخفض القبيلة، قد أحسَّ الخطر على سُلطانه، يوم تحوَّلت القبيلةُ إلى دولة؛ فلَمْ يعُد الشاعر عندئذٍ يتكلَّم باسم جماعة، ولكنَّه يتكلَّم باسم فردٍ هو ملكٌ أو عظيم، ثم تحوَّلت الدولة من الأرستقراطية إلى الديمقراطية، فما عاد الشاعر يتكلَّم باسم ملكٍ أو عظيم، ولكنَّه أصبح يتكلَّم باسمه هو، للتعبير عمَّا في نفسه! … وإلى هنا، لم يمسَّ الخطرُ كِيان الشِّعر في ذاته، وإنْ كان قد انتقَصَ من سلطانه السياسي، وحدَّ من نفوذه العام.

أمَّا الخطر الذي توجَّس الشعراءُ خِيفةً منه على كِيان الشِّعر، فهو ظهور «العلم» في القرن التاسع عشر، على نحوٍ عاصف بمصير البشرية، مغيِّر لنظرتها إلى الأشياء!

فقَدْ رُوي أنَّ الشاعر «كيتس» نهَضَ ذاتَ ليلة، في إحدى الولائم، رافعًا كأسه بهذا النَّخب الغريب: اللعنة على ذكرى «نيوتن»! … فلمَّا سأله الحاضرون عمَّا قصَدَ؛ قال: لأنَّ نيوتن حطَّم نظرتَنَا الشِّعرية إلى قوس قُزح، حين فسَّره لنا ذلك التفسير الماديَّ! … فشرِبَ الحاضرون عندئذٍ — وكانوا من الشُّعراء — على لعنة نيوتن!

على أنَّ الأيام أثبتتْ لنا بعدئذٍ أنَّ «العلم» لم يستطِعْ هدْمَ «الشِّعر»، كما أنَّه لم يستطِعْ هدْمَ «الدِّين»! … فالحقيقة الفنية والحقيقة الدينية تستطيعان الحياةَ على الرغم من ظهور الحقيقة العلمية.

فقوس قُزح، يمكن أن يكونَ موضوعًا لقصيدةٍ مبتَكَرة اليوم، وفي الغد! … يتغنَّى فيه الشاعرُ بالجمال الذي يبعثُه في النَّفْس في أوقاتِ الصَّحو، أو في أوقات الغَيْم، دون أن يحفل بتكوينه العلميِّ، أو بنظريات التحقيق الضوئي!

والسيفُ يمكن أن يظلَّ رمزًا للقوة والحرب، يبرُق نصله في أبياتِ الشِّعر على مدى الدهور، دون أن تنال من جماله الشِّعري حقائقُ القنبلة الصاروخية والذريَّة!

والقمر سيمضي طول الليالي يدثِّر الدنيا بغِلالة أشعَّته الفضيَّة، مَهمَا يكُن من أمرِ تبحُّرنا في حقائقه الفلكية والجيولوجية! … ولن نستطيع أن نقول للهائمين بحُسنه، من شعراءَ وعشَّاق: «أفيقوا! … إنَّكم تهيمون بحبِّ جِرمٍ ميِّت، لا ماء فيه، مظلِمٍ مشوَّه بالبراكين المنطفئة!»

إنَّ عِلمَنا بحقيقة القمر؛ لن يمنعنا من حُب ضوئه الشاحب، ولن يمنعه من التأثير في نفوسنا الشاعرة!

ما دامتْ هناك نفسٌ، مستقلَّةٌ عن الرأس … فلا خوفٌ على الشِّعر من العِلم!

•••

لكنْ … على الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ الشِّعر في عصرنا الحديث آخذٌ في الضَّعف، سائرٌ إلى الفَناء أو إلى ما يُشبه الفَناء! … إنَّ كلَّ شاعرٍ يمضي؛ يتركُ مكانه فراغًا! … وكلَّ ذوَّاقةٍ للشِّعر يذهب، لا يترك خلَفًا! … وكلَّ راويةٍ للشِّعر مُنقرِضٌ! … وكلَّ ناشرٍ لدواوينه مُبتعِد! … نرى هذا اليوم في كلِّ بلد؛ فإنَّ دُور النَّشر في أنحاء العالم لا تطبع ديوانَ الشِّعر إلا وهي مؤمنةٌ بالخسارة، مُدرِكةٌ لفداحة التضحية!

لماذا؟ … هنا الخطر! … الخطر الحقيقيُّ على الشِّعر؟

العلةُ — فيما أعتقد — هي ضَعف الثقافة في الشعوب! … إنَّ شعوب الأرض اليوم تتعلَّم على نطاقٍ واسع تعليمًا سطحيًّا! … إنَّ تلك الطبقة الممتازة من المتذوِّقين للفنون العليا؛ تكاد تغرق اليوم في محيط هذه الملايين، من أشباه المتعلِّمين! … هذا المحيط الطامي، لم تنتشر فيه الثقافة؛ ولكنَّ الذي انتشر فيه هو ضَعف الثقافة! … وهذا المحيط الذي يمتدُّ في كلِّ بقاع الأرض — من المشارق للمغارب — هو الذي يفرض ذوقه على الإنتاج الذهني وعلى دُور النشر! … والشِّعر هو خلاصةُ الثقافة، وعُصارة الذَّوق؛ فهو لذلك فنٌّ مركَّز، يضغط في أبياته القليلة، ما يوحي بالكثير إلى أصحاب الأفهام!

إنه ليس كالنثر؛ فنُّ إسهابٍ وإيضاح، يفرِّغ في رُءُوس الناس ما يريد من كلامٍ وثرثرةٍ ومعلوماتٍ يزدردونها هيِّنةً ليِّنة، بلا جهدٍ ولا اجتهاد!

إنَّ الشِّعر فنُّ إيجازٍ وإيحاء، يفترض في السامع قدرًا من الثقافة وحظًّا من الذَّوق! … إنَّه ليس طعامًا، يُقذف به في الفم، ولكنَّه مفتاحٌ تُحرَّك به موسيقى النَّفس؛ فلا بد إذن أن تكون النَّفْس مستعدَّة له، وأنْ تكون قد هذَّبتْ أوتارها، قبل أن تتهيَّأ للمفتاح!

هذا التهذيب أو الإعداد، لم يُتَح بعدُ لكلِّ ذرَّات هذا المحيط الطامي من الشعوب! … وما دامَت الغَلَبة للعدد، فلا مفرَّ من أن يلبِّي المجتمعُ نداءَ غالبيته الطاغية الساحقة! … وما هو هذا النداء؟ … إنه الرغبة في الْتقام السهل، أي النثر!

وليس كلُّ النثر أيضًا، ففي النثر ما يسمو إلى مرتبة الشعر، إيجازًا وتفكيرًا وفنًّا! … هذا أيضًا يجب أن يبعُد، أو يُحصر في أضيق نطاقٍ، إلى أن يختنق!

لن يبقى إذن حرًّا طليقًا رائجًا مزدهرًا غيرُ الغذاء الذي تستطيع الملايين إساغته واقتناءه!

وهو بالطبع لن يكون الشِّعر الممتاز!

فهل يتغيَّر يومًا هذا الحال؟ … أو يصير الشِّعر آخرَ الأمر إلى زوال؟!

•••

وإذا استطاع الشِّعر أن يزول يومًا، فهل يزول «الشاعر»؟

هذا الكائن العجيب، الذي أوجدتْه الطبيعة، من بين الخَلق على نسقٍ غريب!

هذا الذي قال فيه «مورياك» متسائلًا: «مَن هذا الرَّجُل الذي يتكلَّم بخُيلاء، ويمشي بكبرياء؟ … لا شكَّ أنَّه رجُل من أصحاب الملايين، أو أرباب البيوت المالية.»

لا … لم يكن هذا الرَّجُل سوى «شاعر» من أصحاب الأبيات الشعرية!

أمَّا كبرياؤه فليست سوى نوعٍ من الدِّفاع عن النَّفْس!

إنَّ الشكَّ في أعماق الشُّعراء يعيث كالسوس! … إنَّهم في حاجةٍ إلى الْتفاتنا، حتى لا يغمرهم اليأس! … إنَّ هذا البلبل الذي يشدو في الربيع … هذا الكروان الذي يشدو والناس نيام، هذا الذي يسمُّونه الشاعر، ما استوثق يومًا كل الوثوق أنَّ أذنًا قد سمعتْه! … إنَّ أغانيه تصعد ضائعةً بين النجوم لتهبط عائدةً إلى قلبه! … وإنَّ صمتَنَا ليبدو له كأنَّه خيانة، أو كأنَّه نذالة! … إذا خرَجَ الشاعر يومًا عن طوره، ورمانا بالتُّهَم، وغضب علينا وقذفنا بالحمم؛ فلْنحتمل منه! … فإنَّ أغلبَ الناس على هذه الأرض، قد أُصيبوا بالصَّمم! … إنَّهم لا يسمعون أهازيجه!

ولكنْ هل من اليسير أن يسمع كلُّ الناس أهازيج الشاعر، وأن يرتفعوا إلى سماء معانيه؟ … حسبه، فيما أعتقد، أن يكون هناك اهتمامٌ؛ فهو لا يطلُب في حقيقة الأمر أكثرَ من إشهادٍ بأنَّه موجود، وأنَّ الأمَّة في حاجةٍ إلى وجوده! … ولقد نال في غابر الأزمان هذا «الإشهاد» الرسميَّ بوجوده، فمَن ذا ينكر أنَّ «المتنبي» كان له في دولته شأنٌ، وأيُّ شأن؟! … ومَن ذا ينكر أنَّ «أوروبا» تعترف بفضل شعرائها وأدبائها، حتى الآن، اعترافًا معنويًّا أدبيًّا يعوِّضهم بعضَ الشيء عمَّا فقدوه من تقدير ماديٍّ ماليٍّ في العصور الحديثة؟ … فحكوماتُ الغرب وشعوبها إن لم تستطِع أن تمنح الشاعرَ أو الأديب مالًا وإقبالًا؛ فإنَّها تمنحه تعظيمًا وإكبارًا … فتُقيم له التماثيل، واحتفالات الذِّكرى، وتحفل بآثاره وتُفاخِر بأعماله!

ولكن الشرق؟ … ولكنْ، «مصر»؟ … إنَّ بعض السطحيين يتساءلون أحيانًا: كيف لا يُنتج أُدباؤنا وشعراؤنا إنتاجَ زملائهم في بلاد الغرب؟ … أمَّا أنا فأتساءل: كيف استطاع أُدباؤنا وشعراؤنا أن يُنتجوا إطلاقًا؟ … ولماذا هم يُنتجون؟ … إنَّ موقف أدبائنا وشعرائنا اليوم ليدعو إلى العَجَب؛ إنَّهم في موقفٍ لم يَقفُه أدبٌ ولا شِعر في عصرٍ من العصور؛ فالمعروف أنَّ الأدب يعيش دائمًا بتشجيع طبقةٍ من المجتمع؛ ففي العهود الماضية، كان في كنف العظماء والأغنياء … يتبارون في حمايته، ويتسابقون في إعلاء كلمته! … وفي العهود الحديثة، وزوال الأميَّة انتقَلَ أمره إلى يد الشعب المتعلِّم؛ فهو الذي يُثيب الأديب بالتَّهافُت على اقتناء كُتُبه، وهو الذي يُحيطه بمظاهر الاحتفال والتقدير! … أمَّا أدبنا اليوم، فهو حائرٌ كاليتيم بين أغنياءَ لا شأنَ لهم بأدباءَ ولا شعراء، وبين شعوبٍ لم يتمَّ تعليمُها؛ فهي لا تستطيع أن تُعنى بأدبٍ أو شعر! … فأُدباؤنا وشعراؤنا يُنتجون، وهُمْ يعرفون أنَّ إنتاجهم لا يهمُّ الأغنياء ولا الفقراء!

لقد أحسَّت الحكومة البريطانية أنَّ الكتاب الإنجليزي في أزمة، وأنَّ الفكر الإنجليزي، من أدبٍ وشعرٍ وفنٍّ وعِلمٍ، يجتازُ مرحلةً دقيقة؛ فسارَعَ الوزير المختصُّ بطلَبِ اعتمادٍ — يقدَّر بمئات الآلاف من الجنيهات — يُنفق في سبيل الفكر الإنجليزي في الخارج؛ حتى يظلَّ الإنتاج الفكري في إنجلترا محتفِظًا بمستواه، فلا يقنط المؤلِّفون، ولا ينصرفون عن التأليف والإنتاج!

أمَّا في «مصر»؛ فإنَّ الحكومات تَدَع المؤلفات الأدبية، تُعامل معاملةَ الأُرز والقُطن والسُّكر؛ فتُكبَّل بقيودِ التصدير وأغلال العُملة، وتُحبَس في أيدي مؤلِّفيها، لا يدرون ما يصنعون بها، ولا لمَن صنعوها!

هناك … الحكومات تغارُ على نشر الفكر القومي «وهنا تنام الحكومات، أو تهبُّ لتقصَّ أجنحةَ الفكر العربي!»

وبعد ذلك يقال لأُدبائنا: ألِّفوا كما يؤلِّف أدباء أوروبا … ولشعرائنا: غنُّوا وأنشِدوا كما يغنِّي ويُنشد الشعراء العالميون!

أدب القصة

إنَّ الإنسان ليس مجرَّد جسمٍ يتحرك في محيط البيئة المادية؛ من ريفٍ، أو حضَر، أو منزل، أو نادٍ، أو مكانِ عمل، ممَّا درج بعض القصَّاصين عندنا على تسميته بالحياة الواقعية! … ولكنَّ الإنسان أيضًا — فوق ذلك، وأكثر من ذلك — «عقل» يتحرك في عوالم فكريَّة! … وهو «روح» يسبح في معانٍ شعرية! … وهو مبادئ فلسفية، ودينية، واجتماعية، تصطرع وتتطوَّر! … فالعناية بحياة هذا الجزء الأعلى من الإنسان هي التي تجعل من القصة أدبًا رفيعًا! … لولا ذلك لمَا كان لمِثل: «سوفوكلس» أو «تولستوي» أو «شكسبير» أو «جوته»، ذلك المكان السامق في الآداب الخالدة؛ فهُمْ ما أرادوا أن يحكوا للناس مجرَّد قِصَص، ولكنَّهم أرادوا أن يُبرزوا لنا أعمقَ ما في الإنسان!

فما من واحدٍ من هؤلاء قنَعَ بتصوير بيئته أو لونه المحليِّ لمجرَّد التصوير! … فإنَّ «فولتير» لم يرسم لنا الفرنسيين فقط، و«شكسبير» لم يرسم لنا الإنجليز فقط، و«تولستوي» لم يرسم لنا الرُّوس فقط، و«جوته» لم يرسم لنا الألمان فقط؛ فهم جميعًا ما رسموا حقًّا، وما صوَّروا غيرَ الإنسان!

وما من واحدٍ منهم أراد أن يصوِّر الإنسانَ في حياته القومية المحدودة ذات الألوان الصارخة العابرة! … ولكنَّهم جميعًا قصدوا أن يصوِّروا فيه شيئًا ثابتًا خالدًا! … لمحنا منه في ومضاتِ تفكيرهم، وقبساتِ عبقريتهم … شيئًا هو فوق الإنسان ذاته! … وهذا هو الذي جعلهم يقرَءُون في كلِّ بلد، وكلِّ لغة، وكلِّ زمن!

•••

ذلك لأنَّه ما من واحدٍ من أولئك الخالدين، جرُؤَ على حملِ القلم قبل أن ترسُخ قَدَمه في أعماق الثقافة المعروفة في عصره، فقد كانوا يُدركون أنَّهم ينشِئُون «أدبًا» أيْ ذلك الشيء الذي يتَّصل اتصالًا مباشِرًا بالجوهر الثابت في كِيان الإنسان! … ولكنَّ انتشارَ القصة — باعتبارها مطالعةً سهلة — قد دفَعَ الكثيرين إلى اختصار الطريق، والهرب من الجهد، واتخاذ القصة مركبًا هيِّنًا، لا يكلِّف أكثرَ من سردِ حوادثَ محليَّة، وحبْكِ مواقفَ مسلِّية، ووصفِ أشخاص، ورسمِ مناظرَ من الحياة الجارية، بأيِّ أسلوب اتَّفق؛ ليطلق على هذا العمل الزهيد، بعدئذٍ، اسم الأدب المُبتكَر والخَلق الأصيل!

وما دامت هناك جماهيرُ ينتشر بينها التعليم البسيط، عامًا بعد عام، وتنجذب بطبيعتها إلى اللون اليسير الخفيف الشائق، وما دام هناك ناشرون يريدون الربح، فيمدُّون الناس بما يشتهون؛ فلا بد أن تنبُت القصة وأن يُكتب الذيوع!

ومَهمَا يكثُر عددُ القصَّاصين، فلن يستطيعوا أن يَكْفُوا في المستقبل تلك الأسواق التي ستُفتح للقصة؛ فليست دُور النشر وحدها هي التي تحتاج إلى القصص، ولكنَّ الصحافة اليومية والأسبوعية بأنهارها الواسعة لن تكفَّ عن طلَبِ فيضٍ من القصص لا ينتهي … فالقصة إذن مقضيٌّ عليها بأن تكون صناعةً رائجةً يزدحم عليها الطَّلَب! … وبهذا وحده، يُقضى عليها في الوقت عينه بأن تبتعد نهائيًّا عن منطقة الأدب!

•••

والأدب من ناحيته، سوف يرى أنَّه غيرُ مستطيع أن يعمل طليقًا، في أجوائه العُليا وهو مرتبطٌ بالقصة! … لقد أراد أن يستعين ببريقها وتشويقها في اجتذاب الناس، ولكنَّ الناس ما إن يروا قصةً تافهةَ القِيمة، محبوكةَ الصَّنعة؛ حتى يندفعوا إليها متحمِّسين صائحين: «هذه هي الحياة!»، وينصرفوا بجُموعهم عن القصة الأخرى التي تطوي في أعماقها الحياةَ الحقيقية، تلك التي غاص الأدبُ والفِكر، ضَجِرين قائلين: «ليست فيها حياة!». ذلك أنَّ الحياة عندهم هي التي يرَونَها فقط بعواطفهم السطحية، جاهلين أنَّ الحياة في الأدب والفن ليس معناها السطحيَّة في النَّظر إلى الحياة! … فهل يأتي يومٌ ينفصل فيه الأدب عن القصة؟ … فلا يحتفظ منها إلا بالقَدْر الصغير الذي قد يخدم أهدافه؟ … وبذلك يمضي مُستقبلًا باحثًا كاشفًا عن الحقائق في جوهرها، لا يحسب لأحدٍ حسابًا، ولا ينظُر خلفَه، ليرى مَن تبِعَه ومَن لم يتبعه؟ … تاركًا «القصة» لشأنها، ولأسواقها، ولجماهيرها؛ لها صفتها الخاصة، شأنها — في ذلك — شأن الصحافة، والإذاعة، والسينما! … غير مُجترِئة على أن تتمسَّح بأعتاب الأدب، أو طامعة في أن يُسبغ عليها جلاله!

هذا الاتجاه في الأدب، ظهرت بوادره منذ الآن في أدباءَ عِظام، منهم: «أندريه جيد الفرنسي»، و«ألدس هكسلي» الإنجليزي، و«ستيفان زفايج» النمسوي، و«إيليا أهرنبرج» الروسي؛ فقَد استخدموا القصة — فيما مضى — استخدامَ الجرَّاح للقُفاز؛ كي يصلوا بها إلى شيءٍ عميق دقيق في كِيان الإنسان! … ولم يجعلوها قُفازًا للمتعة أو الزينة، يجذب النفس ويخلب اللبَّ! … ومع ذلك، فقد انتهوا إلى التجرُّد بعضَ الشيء من العنصر القصصي، ليعرضوا حقيقة الإنسان ومشكلات الزمان في قالبٍ أدبي طليق، هو أحيانًا قالب المذكِّرات، أو اليوميات الحقيقية التي لا خيالَ فيها، وأحيانًا قالب التاريخ أو المقالة أو البحث الذي لا اختراع فيه. كما جرَتْ أخيرًا في الصحف الأوروبية مناقشةٌ بين بعض الأدباء البارزين، موضوعها هذا التساؤل: هل ماتت القصَّةُ باعتبارها من فروع الأدب؟ … هل هي في طريق الموت؟ … وكان المؤيِّدون لفكرة موتها، يقولون: إنَّ الأدب ليس في حاجةٍ إليها؛ لأنها بطبيعتها الخاصة لا تستطيع أن تقول كلَّ شيء! … والأداة التي لا تستطيع في الأدب أن تقول كلَّ الحقيقة، سيقضي عليها الأدبُ بالخروج من دولته … والمقصود بذلك أنَّ القصة لها حدودها الضيِّقة الحبيسة في إطار «حدوتة» ممتعة؛ فهي لا يمكنها في كلِّ الأحوال الاضطلاع بمهمَّة التعمُّق في بحث قضايا الإنسان الكبرى … تلك المهمَّة التي تميِّز الأدبَ الكبير!

•••

تقابل ذلك بوادرُ اتِّجاهٍ آخر في محيط القصة؛ ذلك أنَّها — وقد أيقنتْ أنَّ الأدب هو التعبير الأعلى للقيم الخالدة في الحياة والإنسان — ممَّا يحتاج إلى ثقافةٍ بعيدة الأُفُق، ودراسةٍ للإنسانية رحيبة المحيط، عميقة الجذور! … في حين أنَّ القصة المجرَّدة لا تحتاج إلى كلِّ هذه الأسباب لتصِلَ مباشرةً إلى هدفها من إمتاع؛ فقد أصبحت القصةُ اليوم بمعناها الشائع وهدفها المُقتصِر على الإمتاع العابر هي الميدان الأعظم لنبوغ النساء! … فما من أحدٍ رأى نجاحًا كنجاح «ذهَبَ مع الرِّيح»، أو «عنبرٌ إلى الأبد»، أو قصص «فيكي باوم»! … ومَن يدري ربما أثبت لنا الغد أنَّ القصة لن تكون إلا «أدب» النساء! … لأنَّهن بطبعهنَّ يحذقن ملاحظةَ التفاصيل الدقيقة لشئون الحياة اليومية، ويُجيدون تحليلَ العواطف الداخلية، ولديهنَّ ولَعٌ فطريٌّ بالاسترسال في الوصف، وسليقةٌ غريزيَّةٌ للإسهاب في القصِّ، ولهُنَّ براعةٌ في الإمساك بالقلم ينسجن به قصةً من حكاياتِ بعض الناس، كما يُمسِكنَ بالإبرة ينسجنَ بها ثوبًا من «التريكو»، إلَّا أنَّه قلَّما تستطيع المرأة أن تكون «أديبة»، أيْ كاتبة عميقة الثقافة، قويَّة الذِّهن، تتناول الإنسانية كلَّها بنظرةٍ ناقدة، وتحيط بمشكلات عصرها، وتؤثِّر في تفكير زمنها!

•••

لكنْ … أليس من الجائز أن يتمَّ زواجٌ بين الأدب والقصة؟ … ما من ريبٍ في أنَّ هذا شائعُ الحدوث. غيرَ أنَّ هذا الزواج أيضًا شأنه شأن كل زواج! … كثيرًا ما يسيطر فيه طرَفٌ على طرَف، ويتغلَّبُ طبعٌ على طبع. فإذا تغلَّبَ الأدبُ؛ فنحن أمام فنٍّ ناقص. وإذا تغلَّبَت القصة؛ فنحن أمام فنٍّ رخيص! … أمَّا إذا حدَثَت المعجزة — وهي في الواقع معجزةُ كلِّ أُسرة — وتمَّ التوازُن التامُّ في هذه الزوجيَّة الموفَّقة! … وتمشَّى الأدب في القصة، كما يتمشَّى الرُّوح العميق في التكوين البديع، فنحن إذن أمام معجزةٍ في الفن! … ولكن هذا الزواج السعيد، لا يحدُث أكثرَ من مرَّاتٍ قلائل في كلِّ قرن؛ لهذا كانت الآثار الخالدة في الأدب القصصي أندرَ ما تكون مناطَ حُكمٍ أو مجالَ قياس … لكأنَّ الطبيعة تغار من كمال تلك الآثار! … فهي تولَدُ كاملةً، في لحظاتِ وئامٍ غفلتْ عنها عينُ الطبيعة التي لا تنام!

حياة الشخصية القصصية

قوة الخَلق الفنِّي لشخصيةٍ قصصية، لا تكون فقط في حياتها المتدفِّقة النابضة داخل القصة نفسها، بل في حياتها خارج القصة، في حياتها الممكن استمرارها على وجوهٍ أخرى في رُءُوس الناس! … فقصة «روميو وجولييت» مثلًا، قد بلَغَ خَلقُ أشخاصها من القوة حدًّا يمكن أن يمنحهم حياةً جديدة في نفس القارئ، غير الحياة التي رسَمَها «شكسبير»! … تأمَّلتُ أخيرًا شخصيةَ «جولييت» طويلًا، وقلتُ في نفسي: إنَّها لم تكُن أولَ امرأة أحبَّها «روميو»؛ فقد أومأ إلينا «شكسبير» في مطلع روايته أنَّ «روزالين» كانت هي معبودة «روميو» الأُولى. وهَاكُم حوارًا وجيزًا بين «بنفوليو» وصديقه العاشق المشهور، يُنبِئُنا بحقيقة مشاعره، في ذلك الحين!

قال «بنفوليو» ﻟ «روميو»: في ذلك الحفل المُقام في دار آل «كابوليت»، سوف تجِدُ «روزالين» تلك التي تهيم بها حبًّا! … وستجد أيضًا كلَّ جميلات «فيرونا»؛ فاذهبْ إلى هناك، وصُن عينَيكَ من المحاباة والتحيُّز، وتأمَّل مليًّا مَن أدلُّك عليهنَّ، ولسوف تُرغم على الاعتراف بأنَّ بجعتك ليست سوى غراب!

فقال «روميو» ﻟ «بنفوليو»: لو كفرتْ عيني بمَن تعبد، وصرَّحتْ بهذا البُهتان، لكان أولى بدموعي أن تنقلب نيرانًا مستعِرة، وبعيني أن تُحرق هي ذاتها كما يُحرق الكذَّابون والسَّحَرة! … امرأة أجمل من محبوبتي منذ أن وُلدَت الدنيا؟! … فإنَّ الشمس التي ترى كلَّ شيء، ما رأتْ لحبيبتي «روزالين» نظيرًا!

وذهَبَ «روميو» إلى حفل آل «كابوليت» متخفِّيًا … وهناك وقَعَ بصره، لأول مرَّة، على «جولييت» وسأل: عمَّن تكون؟ … فلَمْ يُجِبه أحدٌ … فوقف مشدوهًا، يتأمَّلها، ويصيح في أعماق نفسه: يا لهذه الروعة! … إنَّ ضياءها ليكسف أضواء المشاعل! … يا لهذا الجمال! … إنَّ حُسنها ليتألَّق في جبين الليل كما تتألَّق الجوهرة في أذن غادة حبشية! … جمالٌ أنفَسُ من أن يناله بشَرٌ … وأرقُّ من أن تحويه أرضٌ! … إنها لتُنير هذا الجمع، كأنَّها حمامةٌ بيضاءُ بين غِربان! … أعرفتُ الحُب أنا حتى الساعة؟! … عيني تقول: «لا.» … إنها أولُ مرَّة أُبصر فيها الجمالَ الحقَّ!

ووقَعَ في قلبه منذ تلك اللحظة، ذلك الحُب العنيف الذي سجَّلتْه الأساطير وخلَّدته عبقرية «شكسبير»، وأصبح اسمُ «جولييت» على شفتَيه، وعلى لسان الدهر، وشِفاه المحبِّين، رمزَ الغرام الذي يُجرِّع كأسَ المنون للعاشقين! … أمَّا «روزالين» فقد تلاشى رسمها من رأسه، وذهَبَ اسمها في النسيان! … ولم يعُد لها مكانٌ في ذاكرته، ولا ذاكرة الزمان!

وقاد الحُب «روميو» و«جولييت، إلى النهاية المحتومة، وتزوَّجا خفيةً عن عيون أهلهما المُتعادِين، ولعِبَ القدَرُ للتفريق بينهما لُعبته المرسومة؛ فكانت المأساة المعروفة! … لقد أراد الراهب الذي عقَدَ قِرَانهما سرًّا أن يجمع بينهما، فأعطى «جولييت» المنوِّم الذي يُظهرها بمظهر الموت، فلمَّا تجرَّعتْه دفَنَها أهلُها في قبرِ الأُسرة الفخم … وأقبل «روميو» وقد ظنَّها ميتة، وجهل أنَّها منوَّمة، فأعدَّ لنفسه هو الآخر سمًّا يُذيقه نومَ الأبد، ودخَلَ عليها القبرَ قائلًا لجسدها المسجَّى: يا حبيبتي … يا زوجتي … ما استطاع الموت أن ينال من جمالك شيئًا … ها هو ذا الحُسن لم يزَل نابضًا بتاج سُلطانه فوق مرجان ثغرك وورد خدِّك … وإن لواءك الأسود أيها الموت ليقِفُ دونها مخذولًا، لا يستطيع حراكًا … آه يا «جولييت» المعبودة، لماذا أنتِ هكذا جميلة؟ … إنِّي لأكاد أعتقد أنَّ الموت نفسه هائمٌ بمفاتن سِحركِ … إنَّ شبَحَه حائمٌ حولكِ في هذا الظَّلام؛ لينالكِ، ولكنِّي سأبقى إلى جانبكِ دائمًا.

وأخرج من جرابه قارورةَ السُّم وأفرغها في جوفه، وهو يقول: «لقد صَدَقتَني القولَ أيها الكيميائي … سمُّك يسري في جسدي … سريعًا، قُبلة أخيرة!»

ولثَمَ ثغرَ «جولييت»، وسقط غائبًا عن الوعي، ولم يمضِ قليلٌ حتى انتهى فعل المنوِّم، واستيقظتْ «جولييت»، وأبصرتْ «روميو» ممدَّدًا تحت قدمَيها، فأدركتْ ما حدَثَ … لقد حسبَهَا ميتةً حقًّا، فلحق بها إلى السماء؛ فنظرت إليه وقالت: ماذا أرى؟! … كأسًا لم تزل يدُ حبيبي قابضةً عليها؟! … إنَّه السُّم الذي قاده سريعًا إلى حتفه! … أهكذا شربتَ كلَّ ما فيها أيها الأناني! … هلَّا تركتَ لحبيبتك «جولييت» قطرةً منها؟! … سأعتصر شفتيك بقُبُلاتي، عسى أرتشف من بينهما قليلًا من سُمٍّ يمنحني الموت، الذي يجمع بيني وبينك دائمًا! … وأخذتْ تلثم فمه، وهي تقول: «شفتاك حارَّتان»! … إلى أن سمعتْ ضجيجًا خارج القبر، فخافت أن تُفلت منها فرصةَ الموت، وأن يحول الناسُ بينها وبين اللَّحاق بحبيبها إلى السماء! … فاستلَّتْ خنجر «روميو» وطعنتْ به قلبها طعنةً أردتْها قتيلًا، وسقطتْ فوق صدره جثَّة هامدة!

تلك هي القصة كما سجَّلتْها الأساطير، وخلَّدتْها عبقريةُ «شكسبير»! … ولكني أفترض أنَّ الكيميائي الذي أعطى «روميو» قارورة السُّم لم يَصدُقه القول، وما فعَلَ إلا ما فعَلَه الراهب، وأعطاه منوِّمًا هو الآخر ينتهي أثرُه بعد حين!

واستيقظ «روميو» فألفى الناس محيطين به، يذودون عن حياته، ويمنعونه التفكيرَ في الموت، وقد جرَّدوه من سلاحه وحرسوه، وعهدوا به إلى الراهب يُلازمه ملازمةَ ظِلِّه، ويغسل بالنُّصح الطويل أحزانَ قلبه … حتى مرَّت الأيام السُّود، وعاد إليه بعضُ صوابه، وخضَعَ للمحنة واستسلم للقَدَر، وبعُدَ عنه شبَحُ الموت، وتسرَّبَ إلى نفسه بصيصُ العزاء، وليس أقوى من الزَّمن سُلطانًا؛ إذا اجتزنا عتبةَ قصره المسحور، نسينا من أمرنا ما لا يُنسى!

وكانت هناك امرأةٌ، سحرتْها قصةُ هذا الغرام، كما سحرتْ كلَّ نساء «فيرونا».

فتمنَّتْ — كما تمنَّينَ — أن تدنو من ذلك العاشق، الذي وقفَت المدينةُ كلُّها سدًّا يحول بينه وبين الموت لحاقًا بمحبوبته! … إنَّها تعضُّ الآن بنانَ النَّدم على ما كان من صدِّها له، وفتورها نحوه فيما سلف! … أتراه يحفظ لها في طيَّاتِ قلبه شيئًا من شغَفِه الماضي، دون أن يَعِي؟! … ذلك كلُّ أملِها الآن … إذا نفختْ في ذلك الرَّماد … فمَن يدري؟ … لعلَّ تحته جمرةً تلتهب من أنفاسها! … وإذا الْتهبتْ من جديدٍ نيران حبِّه الغابرِ لها؛ فأيُّ فخر، بل أيُّ سعادةٍ كُتب لها أن تراها؟ … «روميو» الذي ماتتْ من أجله «جولييت» … يُصبح لها، ومِلكها، والهائمَ بها؟!

كان هذا حُلم «روزالين»!

وإذا تمكَّن حُلمٌ من امرأة، وتمكَّنتْ هي منه؛ فلن تتركه حتى يغدو حقيقة!

وسَعَت «روزالين» إلى «روميو»، وأدنتْ أناملَ عطفها من خدِّه لابسةً له ثيابَ الصديقة الوفيَّة، التي يحتاج إلى حنانها في ساعاتِ حُزنه، ولبثتْ بجواره الأيام والليالي تُبدي له إخلاصًا بلا غاية، وتُظهر له حبًّا بلا أمل، حتى استطاعتْ أن تظفر منه مع الزمن بعاطفةٍ من المودَّة، أخذتْ تنمو في كلِّ يوم وتكبُر وتتَّقد، حتى كادتْ تُلامِس المَحبَّة والمَيل … وأخيرًا … تزوَّج «روميو» من «روزالين»!

•••

مضى عامٌ على عقد القِران … وأنجَبَ «روميو» طفلًا … وبدأ يحسُّ كأنَّه يتخبَّط في خيوط الحياة الزوجية، وأنَّه ليس أكثرَ من ثَورٍ يدور في ساقيةِ الأيام المتشابِهة في أنينها، وصياحها، وبُكائها، وصمتها وصخبها … وبدأتْ «روزالين» ترى «روميو» زوجًا ككلِّ الأزواج، لا هو عاشقٌ في قصة، ولا بطلٌ في أُسطورة! … وجعلتْ ذات صباحٍ تتأمَّله وهو يرتدي على عجَلٍ ثيابَ الخروج، مُهمَلَ الهِندام، أشعثَ الشَّعر! … فقالت له متهكِّمةً، وكأنَّها تخاطب نفسها: أهذا «روميو» الذي ماتت من أجله «جولييت»؟!

فالْتفتَ إليها ضجِرًا: دعي «جولييت» في قبرها نائمة!

– ولماذا تنظُر إليَّ بهذا الوجه المتبرِّم؟!

– لأنِّي ضِقتُ ذرعًا بهذا الكلام … ما من شيءٍ عندكِ غير «جولييت» … «جولييت» … إني أسمع منكِ مائةَ مرَّة في اليوم اسم «جولييت».

– وماذا يُغضبك في هذا … إلَّا أن يكون في ذلك فتحٌ لجراح قلبِك!

– لا شأنَ لكِ بقلبي!

– ومَن قال لك إنِّي أريد أن يكون لي شأنٌ بقلبك؟! … وهل هو موجود؟ … إنِّي أعلم أنَّه لم يعُد لك قلبٌ منذ أن ماتت «جولييت»؟

– لا تتحدثي عنه إذن!

– إنِّي لا أفعل سوى شيءٍ واحد، أُسائل نفسي دائمًا: لماذا أنت حيٌّ؟ … ما فائدة حياتك؟ … إنَّ أكبر غلطة ارتكبتَها هي أنَّك لم تمُت مع «جولييت» … كلُّ قيمتك هي أنَّك كنتَ عاشقَ «جولييت» … أمَّا فيما عدا ذلك فأنت لا تُساوي شيئًا في الرجال! … إنما أنت التَّفاهة بعينها، والحُمق، والخمول، والغباوة.

– وصلنا إلى السِّباب وسلاطةِ اللسان!

– لا أُريد شتمك! … فالذنبُ ذنبي، غلطتي هي أنِّي تزوجتُك! … نظرتي الأُولى إليك يومَ صددتُك كانت هي الصائبة، ولكنَّ «جولييت» خدعتْني، سامحها الله، وجعلتْني أراك من خلالِ عينَيها! … لقد كانت قصيرةَ النَّظر! … لقد كانت ضعيفةَ الإدراك، بلهاء!

– اشتميني أنا ما شئتِ، ولكنْ لا تشتمي ميتةً تحت التراب!

– تدافع عنها؟! … ألَمْ أقُل إنَّك لم تزَل تحبُّها؟!

– إنِّي لا أُدافع عنها، بل أدافع عمَّا يليق وما ينبغي للموتى من احترام!

– يا لحرارة صوتك كلَّما تعلَّق الأمرُ ﺑ «جولييت»! … قلبك هذا البركان الخامد بين يدي أنظر في فوهته؛ فلا أجد فيه غير فراغ، وصقيع! … هذا الجِراب الذي لا يصلُح إلا لأنْ أُلقي فيه بكلِّ قاذورات بيتي … أرى الدُّخان يتصاعد منه فجأةً عندما يمرُّ بيننا شبَحُ «جولييت»!

– إنَّ هذا الدُّخان الذي تقولين عنه، لا يتصاعد من قلبي، ولكنَّه يتصاعد من حياتي معكِ … تلك التي أصبحتْ جحيمًا!

– خسِئتَ وخرستَ! … اذهبْ عنِّي! … اذهبْ عنِّي أيها الوقِح، بل أيها الأثيم الذي يرضى أن يعيش مع امرأةٍ لا يحبُّها!

– لقد أكَّدتُ لكِ مِرارًا أنكِ مُخطِئةٌ واهمة؛ إذ تظنِّينَ أنِّي لا أحبُّكِ.

– إنك كاذب … أنت لم تحبَّني يومًا.

– لقد أحببتُكِ يومًا حبًّا عنيفًا!

– يومًا … فيما مضى … في الغابر من الأيام! … قبل أن تراها بالطبع! … قبل أن تعرف «جولييت». نعم هي دائمًا «جولييت»! … أرأيت؟! … إنك لا تريد أن تنساها.

– لماذا تعذِّبين نفسكِ هكذا يا «روزالين»؟! … أنتِ التي لا تريدين أبدًا أن تنسيها … خُذي هذا المنديل، وكَفكِفي دموعكِ … ودعيني أكشف لكِ عن دخيلة قلبي!

– أنت كاذب! … لا أصدِّق حرفًا ممَّا تقول! … لن أصدِّق حرفًا من كلامك! … ستزعم لي أنَّك تحبُّني؛ كما قلتَ لي كثيرًا هذا العام، وأنَّ الماضي قد دُفن، وأنَّ حبِّي قد نبَتَ في قلبك! … نعم، وأيُّ نبات؟ … كالزهرة التي تنبت في ترابِ المقبرة! … ولكنَّ هذا هُراء! … ما أنت إلا زوجٌ يريد السَّلام في بيته بأيِّ ثَمَن، ولو كان الثَّمَن هذه الكذبة الكبرى! … لا، لا أستطيع أن أصدِّق أنَّك تحبُّني، وأنَّ بك قلبًا حيًّا يتَّسع لي! … إنما الحبُّ كلُّه ﻟ «جولييت»! … «جولييت» هي حبُّك الخالد! … «جولييت»! … هذه المرأة التي انتزعتْك منِّي، تلك السارقة التي سرقتْك منِّي — حيَّةً وميِّتةً — لا تكفُّ عن تطويقك بذراعَيها! … إنَّها دائمًا هنا في بيتي! … لكأنَّه بيتها! … وفِراشُنا، لكأنَّه فراشُ عُرسها! … لا أستطيع لها طردًا … هذه اللصَّة الملعونة … هذه الدخيلة الملعونة … هذه الملعونة! … هذه الملعونة!

– وا أسفاه! … زوجتي! … زوجتي، قد جُنَّت!

•••

وترك «روميو» منزله، وخرج هائمًا على وجهه في الطُّرقات يقول لنفسه: نعم، كان يجب أن أموت بموت «جولييت»! … لا من أجل الحُب؛ بل من أجل راحةِ دماغي بعد ذلك!

فقد كان هذا الحوار مع «روزالين» يُكرَّر ويُعاد في الأسبوع مرَّات … وعبثًا حاول هو أن يُقنعها بالحقيقة، وهي أنَّه يحبُّها حبًّا لا هو بالصاخب، ولا هو بالثائر، حبًّا لا علاقة له بحبِّه الأول العنيف … ولا صلةَ له بحبِّه ﻟ «جولييت» المُلتهِب! … إنَّه الحُب الزوجيُّ الهادئ الدائم! … إنَّه ليس الحُمَّى الطارئة على الأجسام، وهي مريضة! … ولكنَّها الحرارةُ الطبيعية المُقيمة في الأجسام وهي صحيحة!

ما كان في إمكان «روزالين» أن ترى هذه الحقيقة؛ لأنَّ بصرها لم يكُن يرى غيرَ تلك الصفحة الواحدة في ماضي زوجها؛ صفحة «جولييت» الرائعة! … إنه لمن العسير على امرأة أن تدرك أنَّ هذه الصفحة لن تبقى خالدةً في تاريخ رجُل! … لقد جلبتْ «روزالين» على نفسها وعلى زوجها الشَّقاء؛ لأنَّها لم تصدِّق أنَّ «جولييت» كانت حُلمًا في شباب «روميو»، وأنَّه ليس في مقدور الإنسان أن يعيش في الحُلم إلى ما بعد طلوع النهار!

القدَرُ في الخَلق القصصي

ما من قصةٍ من واقع الحياة، يُمكن أن تَسلَم من عنصر «المصادفة»؛ ذلك أنَّ الحياة لا يمكن أن تسمَّى حياة، بدون أن يسيطر عليها «القدَرُ». فإذا لم يكُن هنالك قدَرٌ؛ فمعنى ذلك أنَّ هنالك فقط عقلًا بشريًّا … والعقل البشري وحده إذا صنَعَ قصةً؛ فإنَّه يُخرجها مخلوقًا خياليًّا، لا يتَّصل بالحياة، فلا بد إذن من المصادفة ليُوجد القدَرُ؛ لأنَّهما زوجان لا ينفصلان.

فما من زوجين خُلِق أحدهما للآخر، مثل هذَين الزوجَين! … لكأنَّهما الطَّبق وغطاؤه، والكفُّ وأصابعها، والقلم ومحبرته، والجلَّاد وسيفه، والجواد وفارسه؛ عمَلُ أحدهما مرتبطٌ بعمَلِ صاحبه، ولا يُبرم أحدهما أمرًا إلا بمعونة الآخر!

وإنِّي لأتمثَّل الزَّوج — وهو «القدَرُ» — قد جلس ذات ليلة إلى زوجته «المصادفة» يتسامران … فقال الزوج: إنِّي أعجبُ لحياتنا معًا؟! … أنا مثالُ الصرامة والدِّقة والحزم، أعيش معكِ أنتِ يا مثالَ الهوى، والطَّيش، والجنون؟!

فقالت الزوجة: صِف نفسك وصِفْني بما تشاء! لا تهمُّني الأوصاف والنعوت! … ولكنْ، هل نسيتَ أنِّي أنا التي أخرجك دائمًا من المآزق، وأنقذَكَ من الورطات!

– متى ذلك؟ … إنِّي ضعيفُ الذاكرة!

– نعم؛ ككلِّ الأزواج عند اللزوم، ولكنِّي أذكِّرك على الأقلِّ بحادثٍ واحدٍ لا يُنسى، وواقعةٍ لا تُنكر؛ لأنَّها مسجَّلة في الأساطير، يتناولها الشُّعراء، ويتناقلها القانون، من جيلٍ إلى جيل: حادثة «أوديب»! … ألَا تذكُر؟ … «أوديب» الملك؟ أنسيتَ يوم جئتَني يائسًا، عاجزًا، متوسِّلًا، تقول لي: «ماذا أصنع؟ أمامي مخلوقٌ يُدعى «أوديب»، مكتوبٌ في «لوحي» أنَّه يجب أن يقتل أباه، ويتزوج أمَّه! … كيف يتمُّ هذا الحُكم العجيب عليه؟ … ماذا أصنع، حتى ينزل به القضاء المكتوب؟!» … عند ذاك، هدَّأتُ أنا من رَوعك، وقلتُ لك: «يا عزيزي … القَدَر! … لا تصنعْ أنت الآن شيئًا … دعْني أنا أحُوكُ لك الحوادث، وأنسج لك الظروف … أنسيتَ كلَّ هذا؟!»

فقال الزوج: أمَا أنَّكِ خيَّاطةٌ بارعة؛ فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، وهل كنتِ تريدين أن أُعطى زوجةً، لا تُجيد على الأقلِّ الخياطةَ والنسيج؟ … ولكنَّ الذي آخذه عليكِ هو ذلك المقصُّ الطائش في يدكِ! … بعضَ التأنِّي! … بعضَ التعقُّل! … لا تكوني هكذا عصبيَّة المزاج! … إنكِ تُلبسين أعمالي أحيانًا أرديةً سخيفةَ التفصيل، سريعةَ التطريز! … لطالما سمعتُ مَن ينتقدني من الناس بقوله: يا لهذا القَدَر، الذي يبدو في صورةٍ بعيدةٍ عن العقل والمنطق! … ولو علِمَ الناس أنَّ العقل والمنطق، لا يمكن أن يكونا من صُنع امرأة؛ لمَا اتَّهموني ظُلمًا … ولكنْ أين لهم أن يعلموا أنني متزوِّج؟! … منكِ أنتِ يا عزيزتي «مُصادَفة»؟!

فقالت الزوجة بهدوءٍ ورِفق: أتستطيع أن تدلَّني على رداءٍ واحد لم أُتقن نسجه! … هل انتقد أحدٌ على مرِّ الأحقاب ما صنعتُ في «أوديب»! … قلتَ لي: إنَّه يجب أن يقتُل أباه، ويتزوَّج أمَّه! … فانظُرْ ماذا فعلتُ أنا لأمكِّنك من ذلك: جعلتُ والديه يعرفانِ هذا المصير من أحد العرَّافين؛ فيدفعانِ به، وهو في المهدِ، إلى راعٍ؛ ليسلِّمه إلى الفِناء … ولكنَّ الراعي أسلمه إلى ملكةٍ عاقر، في مملكةٍ بعيدة، حتى شبَّ وهو يعتقد أنَّه ابنُ هذه الملكة وزوجها، ثم جعلتُه — وهو فتًى — يعلم بنبوءة العرَّاف؛ فيهرب ممَّن يعتقد أنَّهما والداه! … وعندئذٍ، جعلتُ أباه الحقيقي يسافر من مملكته — مع حاشيةٍ قليلة العدد — فيتقابل مع ابنه، وهو لا يعرفه عند مُفترَق طُرق، ويحدُث بينهما نزاعٌ على مَن يمرُّ قبل الآخر، ويشتدُّ الشِّجار إلى حدِّ الضَّرب، وهنا جعلتُ ضربةً من يد الابن تنحرف فتُصيب أباه، فيقع جثَّةً هامدة، ويخلو عرشُ المملكة، وتظلُّ أم «أوديب» الحقيقية بلا زوج! … عند ذاك، جعلتُ وحشًا غريبًا، يهدِّد أهلَ تلك المملكة، ويفتك بشبابها! … وجعلتُ الملكة الأرملة، تُعلن إلى الناس أنَّها تقدِّم نفسها عروسًا لمَن يقتل الوحش، ويُنجي المدينةَ من شرِّه … وهنا جعلتُ «أوديب» هو الذي يقتل الوحش وينال العروس التي هي أمُّه … ماذا في ذلك يخالف العقل أو المنطق؟

فقال الزوج متجنِّبًا الردَّ على سؤالها: لا فائدة! … أهنالك امرأةٌ تعترف بأنَّ تصرفاتها غيرُ معقولة؟! … إنكِ في كلِّ يومٍ تفرِّقين بين ما ينبغي أن يتلاقى، وتجمعين بين ما يجب أن يفترق! … لشدَّ ما يغيظني أن أرى رجلًا وامرأة، كلُّ شيء في أحدهما يُناسب الآخر، كلُّ شيء في أحدهما ينادي الآخر، وهما يعيشان الأعوام — أجِدُهما على مقرُبة من الآخر — فما تتدخَّلين أنتِ بحركةٍ، أو بهمسة، أو بوخزة؛ لتنبِّهي أحدهما إلى صاحبه … وإذا كلٌّ منهما يسير بعد ذلك في طريق، فتتدخلين أنتِ، وتُقحمين على كلٍّ منهما إقحامًا شخصًا غريبًا، ذا طِباعٍ مختلفةٍ مُتنافِرة، ولا تزالين بهما حتى يجتمعا، وكلُّ شيءٍ فيهما يصرخ مستغيثًا، طالبًا أن يبتعدا بُعدَ السماء عن الأرض!

– أنسيت أنني إنَّما أسير وفقًا لأوامرك!

– هذا صحيح! … أنا أُصدر الأمر، وأنتِ تدبِّرين! … أنا آمر بالطعام، ولكنكِ أنتِ المسئولة عن الألوان إذا تنافرتْ، والطَّهو إذا لم يحسُن سبكُه!

– كيف تريد أن يكون حُسن السَّبك، وأنت الذي قلتَ لي في الحالة التي ذكرتَها: مكتوبٌ في لوحي، أنَّ هذَين الزوجين يجب أن يكونا في زواجهما شقيَّين؟!

فأطرَقَ الزوجُ ولم يُجِب؛ كأنَّ أمرًا هامًّا يشغل باله، وفجأةً رفَعَ رأسه، والْتفتَ إلى زوجته قائلًا: ما علينا … اسمعي يا عزيزتي «مصادفة»! … أمامي حالة، أريد أن أختَبِر في علاجها براعتكِ! … رجلٌ في تمام صحته، قد حجَزَ محلَّه في القطار المتحرِّك بعد ساعة، ولكنَّ المكتوبَ في لوحي، أنَّه سيموت في الجوِّ، ذلك اليومَ نفسه، ماذا نصنع؟

– ليس أبسط منها حالة! … انظُر! … سأجعله يقابل صديقًا، يحدِّثه عن وقوع تصادُمٍ لقطارٍ؛ فيتشاءم وينوي السَّفر بالطائرة التي علِمَ أنَّ صديقه مسافرٌ بها، وإذا لم يكُن موتُ الصديق أيضًا مقرَّرًا — في لوحك ذلك اليوم — فإنِّي أجعلُه يؤجِّل سفره، وينزل لصاحبك عن محلِّه، وترتفع الطائرة بالرَّجُل، وتحترق في الجوِّ بمَن فيها! … ما رأيك؟

فهزَّ الزوج رأسه، وقال متنهِّدًا: دائمًا أسلوبكِ المُلتوي كخيوط العنكبوت! … لماذا لا تنزلين صريحةً صارمةً كالصاعقة! … ولكنكِ امرأة، لا تُجيدين غير «شُغلِ الإبرة»!

فانتفضَت الزوجةُ غاضبةً، ونهضتْ صائحةً: يا لظلمِ الأزواج! … إنَّ طول العِشرة يُضجركم ويبطركم! … ولكنِّي أُقسم لك لو استمرَّ نقدُك لي، على هذه الصورة؛ لكففتُ عن معونتك، وامتنعتُ عن هذا العمل الذي تسمِّيه «شُغل الإبرة» لأرى ماذا تصنع بمفردك؛ أنت الصارم الحازم؟!

فتراجع الزوج، وأجلس زوجته إلى جانبه، وقال لها برفق: مهلًا يا عزيزتي «مصادفة»! … مهلًا! … ترفَّقي بصحتكِ … لا تكوني هكذا عصبيةَ المزاج!

. فقالت الزوجة مُتدلِّلةً: لستُ عصبيةَ المزاج! … إنَّ نسيجي الذي تنتقده، ليس سوى خيال … أمَّا أنت — بحزمك وعزمك — فضعيفُ الحيلة، فقير المُخيِّلة … تريد أن تنزل بأحكامك كالسيف الأصمِّ، بلا تمهيدٍ ولا تدبير!

– أحمد الله أنكِ معي؛ تُمهِّدي وتدبِّري. أمَا من قُبلة للصُّلح؟!

– على شرط ألَّا تعود؛ فترميني بقلَّة العقل والمنطق!

– وألَّا تعودي أنتِ فترميني بضعفِ الحيلة والخيال!

وتعانقا وتصالحا، وباتا ليلتهما متصافيَين هانئَين إلى أن طلع النهار. وتوالَت الليالي، ونسيا الشرط والوعد، وعاد كلٌّ منهما إلى سابق عهده، يُبدي رأيه في صاحبه، ويعقد في جوِّ الزوجية سحابةً تُبرِق وتُرعِد، ثم تنقشع. وهكذا دَوَالَيك؛ لأنَّ تلك هي الحياة التي اصطُلح على تسميتها «الحياة الزوجية الموفقة السعيدة» حتى إن كان الزوج اسمه «القَدَر»، والزوجة اسمها «المصادفة»!

الفنَّان والجمهور

هل يجب على الفنان أن يهبط إلى الجمهور، أو أن يصعد إليه الجمهور؟ … سؤالٌ كثيرُ التردُّد على شفاه الناس، والإجابة عنه تقتضي شيئًا من التأنِّي؛ فلا بدَّ — قبل كلِّ شيء — أن يكون هنالك «فنَّان»! … أيْ إنسان أقوى في الإدراك، وأسْلَم في الذَّوق؛ من سواد الجماهير! … فإذا انعدم هذا الشرط لم يعُد هنالك محلٌّ لهبوطٍ، أو صعود! … ولم يبقَ إذن معنًى للسؤال! … فإذا استوثقْنَا من أنَّ الفنَّان موجودٌ، وأنَّه قائمٌ، بإدراكه وذوقه، وأسلوبه، فوق قمَّة يُشرف منها على الجموع؛ فقد حقَّ علينا أن نبحث: أيهما يخطو نحو الآخر حتى يتمَّ اللقاء؟ … أَهُم الذين يتسلَّقون إليه الجبل؟ … أم هو الذي ينزل إليهم السفح؟

قد يكون من الخير أن نلتمس الهداية عند المُبدِع الأعظمِ لهذا الكون! … لقد أراد — وهو في عليائه — أن يبلِّغ الناسَ رسالةً؛ فماذا فعَلَ؟ … إنَّه تعالى، لم ينتظر من الناس، بمفردهم، صعودًا إليه؛ لأنَّ هذا شاقٌّ عليهم، ولأنَّهم في ظلامهم وجهلهم، لا يعرفون مسالكَ الطريق إلى نوره! … إنَّهم في حاجةٍ إلى مَن يُمسك بأيديهم، ويقودهم ويصعد بهم! … لا بد إذن من النُّزول بينهم، ولكنْ مَن الذي ينزل؟ … الدِّين الإسلامي يعلِّمنا أنَّ الذي نزل هو محمَّدٌ رسولًا من عند الله! … أما الدِّين المسيحيُّ؛ فيقول لنا: إنَّ الذي نزل هو الله نفسه، متجسِّدًا في المسيح!

مَهمَا يكُن من اختلاف في الدِّينَين؛ فَهُمَا متَّفقان في الغاية: أنَّ الله رأى أن يدنو هو من الناس برسالته، لا أن يتركهم، يصعدون إليها من أرضهم! … لا جدالَ إذن في أنَّ الفنَّان لا يستطيع أن يبقى في القمَّة، حبيس فنِّه؛ منتظرًا أن يصعد إليه الجماهير في جبله الوَعِر، يحملون المصابيح في أيديهم، ويتصبَّب العَرَق من أبدانهم وهم يصيحون به: «أين أنت أيها الفنَّان المعلَّق في السحب؟! … جئنا نبحث عنك؛ فقد أدركنا بالفراسة، أو بالحدس والتخمين، أنَّك في ذلك المكان؛ فهل عندك رسالةٌ تبلِّغنا إيَّاها؟!»

لا يمكن بالطبع أن يقع شيء من ذلك، ولكنَّ المعقول هو أن ينزل ذلك الفنَّان، حاملًا رسالته تحت إبِطه ليلتمس الناس، في مسارحهم ومشاربهم وأسواقهم، ومتاجرهم وملاهيهم، ليقول لهم: «أيها الناس! … أصغُوا إليَّ لحظة! … إنِّي لم آتِ لأثقل عليكم، ولا لأضيع وقتكم عبثًا، ولكنَّ معي شيئًا أعرضه، فيه متعةٌ لكم! … ولكنْ فيه أيضًا تهذيبًا لنفوسكم، ورفعًا لمدارككم!»

وهنا تقوم — في وجه الفنان — مثلُ الصعوبة التي قامت في وجه الأنبياء؛ فالجماهير — أمام النبيِّ أو الفنَّان — تتفرَّع عندئذٍ إلى طائفتَين: طائفةٍ تُحسِن الإصغاءَ إلى لبِّ الرسالة، ولا يشغلها الغثُّ عن السمين، ولا الغِلاف المزوَّق عن العُرض المكنون، ولا الظاهر الشائق عن الباطن المقصود، فتتبع الفنان في كل طريق، وتُسلمه قِيادها؛ فيصعد بها الجبل خطوةً خطوة، متحاملةً على نفسها، متمسِّكةً بالصبر، ماسحةً عن وجهها غبارَ الكدِّ وآثار الضَّجر، مؤمنةً بقائدها وبالهدف الذي يسير بها إليه، حتى تجِدَ نفسها — آخر الأمر — قد استوتْ معه فوق القمَّة! … وطائفةٍ عاميَّة عابثة، ما إن ينتهي بها الإصغاء إلى معانٍ أعمقَ ممَّا تصوَّرت؛ حتى يطيش حِلمها، ويذهب صبرها، وتُسرع منفضَّة من حول الفنَّان، ضاحكةً ساخرة، ما وعتْ من رسالته غيرَ السطح المموَّه، والقشرة الملوَّنة، والجانبَ السَّهل الخفيف، والشكل البرَّاق السخيف، الذي ما قصَدَ به إلا اجتذابها، وإثارةَ استطلاعها، واستدراجها إلى ما في داخله جوهرٌ مفيد!

هذه الطائفة الأخيرة — من غوغاء الفِكر، وكفَرَة الدِّين — هي التي تُتعِب الأنبياءَ والفنَّانين! … وهي في الفنِّ تتظاهر بمتابعة الفنَّان، إلى أن يبدو عليه ميلٌ للجِد والصعود؛ فتحزن وتقِفُ وتقول له هازلةً: «إلى هنا، واتركْ يدَنا، واصعدْ وحدك!» وهي في الدِّين تساير النبي حتى ينهاها عن مُنكَرٍ تريده؛ فتهزأ به، وتقول: «اذهبْ عنَّا، واتركْنا في لذائذنا!» … تلك هي الطائفة التي كُتِب عليها الضَّلال في العقيدة، والظَّلام في الفِكر، وهي التي لن تَرقَى إلى قمَّة أبدًا!

الشُّهرة الأدبية

من رأي «كارليل» أنَّ «جان جاك روسو» رجُلٌ مريض، وأنَّ رغبته المُحرِقة — في مدح الناس له — قد بلغتْ حدَّ الجوع، الذي لا يُعرف له شبع! … ولقد رُوي عنه أنَّه دُعيَ ذاتَ مساء إلى حضور روايةٍ تمثَّل على المسرح؛ فاشترط على مَن دعاه أن يذهب متنكِّرًا، كما يفعل الملوك، أي يُخفِي وجودَه عن الناس، حتى يكون في زعمه، على شيءٍ من الراحة والتحرُّر والطمأنينة، ولكنَّ الجمهور ما لبث أن لمَحَ «جان جاك روسو» في مقعده، ولم يُلقِ بالًا إليه، ولم يحفل بأمره، فثارتْ ثائرةُ «روسو»، وضاق صدرُه طولَ المساء، وساء خُلُقه وغضِبَ؛ إذ خاب تدبيره، وأخطأ حسابُه، وعرَفَه الناس … على أنَّ الذي دعاه ورأى منه هذا الحال؛ أيقن كلَّ اليقين أنَّ العلَّة الحقيقية في غضب «روسو» وثورته؛ ليست في معرفة الناس له … بل في أنَّهم عرفوه وتبيَّنوه، ولم يُبدوا له الحفاوةَ، ولم يستقبلوه بالترحيب! … ويعلِّق «كارليل» على ذلك بأنَّ طبيعة «روسو» كلَّها قد تمكَّنتْ منها هذه الفكرة المسيطِرة: فكرة الشُّهرة عند الجماهير، وما يقترن بها من مساسٍ بشخصه، وإعلاءٍ أو حطٍّ من قَدْره! … وإذا تركنا «روسو»، وصدَّقنا ما قيلَ في «جوته» و«بيتهوفن» من أنهما كانا يُضمران الغيظ، كلَّما مرَّا في الطريق معًا على جماعةٍ من الناس، تعرفهما وتحيِّيهما؛ فقد كان كلٌّ منهما — فيما رُوي — يعتقد أنَّ التحيَّة موجَّهةٌ إليه، وأنَّه هو المقصودُ بإيماءة الرَّأس، وإشارةِ البَنَان!

وإذا تركنا كلَّ هؤلاء، ورجعنا إلى أدباء العرب وشعرائهم؛ وجدنا كثيرًا من أعاظمهم يحبُّون الشُّهرة، ويفاخرون بذيوع الصِّيت في جموع الناس! … وهذا هو «المتنبي»، الذي يقول مُباهيًا:

أنامُ ملءَ جُفُوني عن شوارِدِها
ويَسهَر الخَلقُ جَرَّاها ويختَصِمُ

ما هذه الشُّهرة التي يحبُّها أكثرُ العظماء؟! … أهي شيءٌ غير أن تكون معروفًا لأناسٍ لا تعرفهم؟! … وما قيمة ذلك عند رجُلٍ عاقل؟ … ما الذي يحبِّب إليك هذا الوضع الغريب؛ أن يكون سترُك مهتوكًا، وأمرُك مكشوفًا، لقومٍ مجهولين لك، يُحملِقون في وجهك إذا سِرتَ، ويتهامسون عليك إذا أقبلتَ، وينبشون في أسرارك، ويُبدون رأيهم في حياتك، ويجعلون منك موضوعًا للحديث الفارغ أو الساخر، ويرون من حقِّهم أن يشرِّحوك حيًّا أمام الملأ، وأن يجرِّدوك من ملابسك في الطريق العام؛ لأنَّك كما يقولون: رجُلٌ عام! … ليس من حقِّك السَّتر، ولا بد أن تعرض للناس حقيقتك العارية! … أليس هذا الذي يحبُّ لنفسه هذا الوضع غيرَ مريضٍ أو مجنون؟!

ما من شكٍّ أنَّه مريضٌ أو مجنون، ذلك الذي يحبُّ راضيًا مباهيًا أن ينزل عن ملكيَّته لنفسه، ويُصبح مملوكًا لأُناسٍ لا يمتُّون إليه بِصِلة، يتصرَّفون في أمره كما يريدون. ويصوِّرونه لأنفسهم وللمجتمع، على النحو الذي يحلو لخيالهم السقيم أو السليم!

إنَّ المشهور شخصٌ باع الحريَّة واشترى العبودية، باع حريته في أن يذهب حيثما يريد؛ فلا يجِدُ مَن يفسِّر تنقُّلاته تفسيراتٍ مختلفة، وباع حريَّته في أن يتصرَّف كما يشاء؛ فلا يجِدُ على تصرُّفاته مُعقِّبًا، وباع حريته في أن يراقب الناس ولا يراقبه أحدٌ، ويُطلق لسانه في كلِّ شيء؛ فلا يحاسَب على ما يقول، ويكون هو السائل، ولا يكون هو المسئول!

لماذا تُباع هذه الحرية إذن، في سبيل هذه العبودية؟

لا يوجد غير سببَين: إمَّا أنَّ الشخص يتعرَّض للشُّهرة، أو يسعى إليها وهو عالِمٌ بعواقبها السيئة، وأعبائها الثقيلة، ولكنَّه لا يجِدُ منها بدًّا في سبيل غايةٍ أسمَى، كتبليغِ رسالةٍ إلى النَّاس، أو نشْرِ أفكارٍ في المجتمع، فمِثلُه مِثلُ الذي يسعى إلى هدفٍ دونه بَحْر؛ فلا يجد مفرًّا من أن يرضى بخلع ملابسه، ليخوض الماء!

وإمَّا أنَّ الشخص يحبُّ الشُّهرة لذاتها، ويجعلها هي الهدف، ولا يهمُّه أن يصِلَ بعدها إلى شيء؛ فمِثلُه هنا مِثلُ الذي يتجرَّد ويقذف بنفسه في البحر، لا ليعبُره إلى غايةٍ أخرى، بل ليظلَّ فيه سابحًا أو غارقًا، وهو بذلك وحده ناعمٌ راضٍ مسرور … لا يريد من هذا البحر خروجًا، ولا يريد من هذه العبودية انطلاقًا، يتأذَّى إذا صدَفَ عنه بحرُ المجتمع، فلَمْ يصفِّق لمجيئه، ولم يهتزَّ لذهابه!

حُب الشُّهرة على هذا النحو مرضٌ من غيرِ ريب، وهو يسبِّب آلامًا نفسيَّة لصاحبه، وهو أشدُّ فتكًا في العظماء والأقوياء من البَشَر. ليت العِلم الحديث يكشف له علاجًا!

شخصُ الفنَّان

جلسنا أمام البحر، تهبُّ علينا أنسامُ سبتمبرَ الباردة اللطيفة؛ كأنَّها الطيور المهاجرة، هاربة من طلائع الزمهرير إلى الجنوب! … هذا أوانُ السمَّان، بدأ موسمه وكثُر باعته، يحملون الأقفاصَ، ويصيحون من حولنا مُنادِين.

قال صاحبي: يا لهذا السمَّان القوي! … إنَّه يقطع هذا البحر العظيم طائرًا في الفضاء، لا يستريح على أرضٍ، ولا يتنفَّس فوق شجرة! … أذكُر أنِّي في مستهلِّ العمر تمنيتُ لو أنْ خلقني اللهُ طائرًا من الطيور، أمَا وقد خُلقتُ إنسانًا؛ فقد كان الأولى بي أن أكون على الأقلِّ فنَّانًا، ولكنَّ الحياة جرفتْني في نهرها الضيِّق!

– وما الذي كان يُغريك بتلك الأمنية؟

– أمرٌ واحد كان يجذبني ويُغريني: حريَّة الفنَّان! … إنَّ الحرية لقوة! … تلك الحرية التي هي أثمَنُ امتيازٍ منَحَه المجتمعُ لرجُلِ الفنِّ! … أو قُل إنَّه هو الذي استخلص هذه الحريَّة بيده!

فالمجتمع لا يستطيع أن يمنح الفنَّان شيئًا؛ إنَّما الفنَّان هو الذي هرب من قيود الناس الأرضيَّة، وخرَجَ على أوضاعهم السطحيَّة، وزهد في قيمتهم المادية، وارتفع إلى قيمٍ أُخرى أسمى وأبقى، وبذلك استطاع أن يطير إلى الأعالي؛ لأنَّ وظيفته التحليق فوق رُءوس الناس؛ ليرى ما لا تراه عيونهم!

•••

قالها الصديقُ بحرارةٍ وإيمان، وسكَتَ مُنتظِرًا منِّي الكلام! … ولكنِّي رفعتُ بصري إلى سربٍ من طير النورس الأبيض، يبسط أجنحته على صدر الماء … وقلتُ: هذا «النورس» يرى الأسماك تسبح في الأعماق، وهي لا تراه! … تلك هي الحرية حقًّا … ولكنَّ الأسماك الآدمية لا تلبث أن تلمح وهي في غمرتها، الفنَّان في ارتفاعه؛ فتصوِّب إليه نظراتِ الأفاعي حتى يسقط في أفواهها! … كَم من الفنانين استطاع أن يحتفظ بقِيَمه العليا طويلًا!

– الفنان الذي يسقط، ليس هو الفنَّان الحقَّ!

– هذا صحيح! … ولكنَّ المؤلِم أن ترى فنَّانًا، يجاهد في سبيل المحافظة على قِيَمه العليا؛ كما يجاهد الطير ليبقى في علوِّه، ولكنَّ الناس لا يتركونه يُجاهد ضدَّ نفسه، وضدَّ جاذبية الأرض، بل يُسرعون إليه مدفوعين بالفُضول يتناولونه بالنَّبْش في ريشِ حياته، والتفتيش في حنايا وجوده وشخصه؛ يفسِّرون كلَّ شيء فيه بمقاييسهم، ويُخضعون كلَّ بادرةٍ منه إلى أوضاعهم، ولا يَدَعُونه حتى يربطوا رِجلَه بخيطٍ يلهُون به، ويشدُّونه إليهم كلَّما أنِسُوا فيه مَيلًا للهرب … لا يا صاحبي! … لا تتحدَّث كثيرًا عن حريَّة الفنَّان!

•••

وسكتُّ لحظةً أتأمَّل موجَ البحر، ثم مضيتُ أقول: قرأتُ يومًا لأحد الأدباء الغابرين هذه العبارة: حبَّذا لو قرأ الناس مؤلَّفاتي كما لو كانت وُجِدتْ داخل زجاجةٍ مختومة مُلقاة بين أمواج اليمِّ … هذا أديب يتمنَّى أن يُلقِي إلى الناس بإنتاجه، ولا يُلقي إليهم بشخصه! … لقد كانت هذه خُطتي دائمًا في مطالعة آثار الفنِّ! … ما أذكُر أنِّي قرأتُ مرةً مقدِّمة عملٍ فنِّي! … بل كنتُ أنصرف قُدمًا إلى العمل ذاته، إنِّي لا أعرف شيئًا كثيرًا عن حياة «شكسبير»، ولم أُعنَ بالنظر في حياة «الفردوسي» أو «الجاحظ» … ولم أحاول أن أقرأ حياةَ «جوته» أو «موليير»! … كلُّ هؤلاء تغذَّيت بكثيرٍ من إنتاجهم — قبل أن أعرف مَن هُم — بل لقد منعتُ نفسي منعًا صارمًا عن قراءةِ حياة «فاجنر» بقلمه، وهي في ثلاثة أجزاءٍ ملأى بالطريف الغريب، ولم تهزَّني حياة «بيتهوفن» ولا حياة «موزار» ولكنِّي حفظتُ الكثير من موسيقاهم عن ظَهْر قلب! … إنِّي أريد أن أكتشف الكنوز بنفسي، ولا أريد غوَّاصًا معي يخنق أنفاسي بثرثرته، أو دليلًا يقودني حسب هواه!

•••

وغرقتُ في الصمت … وأطرَقَ الصديقُ لحظةً … ولكنه ما لبث أن الْتفتَ إليَّ قائلًا بنبرةِ شكٍّ: لا … لستُ من رأيك في هذا! … وهل يستطيع الناس أن يقدِّروا الأثرَ الفني دون أن يعرفوا صانعه؟! … لو لم ندرُس حياةَ الكثير من الفنانين ونُلمَّ بظروف إنتاجهم، ونعرفْ تفكيرهم وفلسفتهم وبيئتهم واتجاهاتهم … أكان من الممكن أن نفهم مرامي أعمالهم؟! … إليك مثَلًا بسيطًا: الفنُّ الإغريقي، ما سرُّ تقدير العالم له؟! … أليس لمَا يعرِّفه للناس عن حياة أكثر خالقيه؟ … ماذا يحدُث لو جهلنا كلَّ شيء عن شخصية فنَّانين، من أمثال «فيدياس» أو «براكسيتيل»؟!

– لا يحدُث شيء … وأُبادر فأطرح عليك هذا السؤال: ألَا تقدِّر أنت — ويقدِّر العالَمُ كلُّه معك — ذلك التمثال المصري البديع رأس «نفرتيتي»؟ … أتستطيع أن تخبرني مَن صانعه؟ … و«أبو الهول» الرهيب، أتعرف مَن ناحِتُه؟!

– إذا عرفنا ذلك؛ كان أدعى إلى زيادة مُتعتنا الفنية!

– أتظنُّ ذلك؟ … أمَّا أنا فأرتاب فيما تقول … ماذا يحدُث لو عرفنا كلَّ شيء عن الخالق الأعظم الذي أبدع الكون المنسَّق العظيم؟!

– إن الخالق الأعظم هو نفسه الذي يبعث إلينا برُسله؛ ليعرِّفونا به تعالى، ويصِفُوه لنا، ولم يقتصر على ذكائنا وحدَه في معرفته، ولم يكتفِ بقُدرتنا المحدودة على فَهْم آثاره وأعماله ومراميه!

وهل استطاع الرُّسل أن يصِفُوه لنا على حقيقته، أو أنَّهم وصَفُوه لنا على تلك الصورة التي تُوافِق عقولنا، ولا تعلو على إدراكنا! … إنَّه لأمرٌ عسير على الرسل أنفُسِهم، قبل أن يكون عسيرًا على الناس! … وإنَّ قليلًا من بينهم مَن أمكنه التحليق إلى حيث يقتبس شعاعًا من نور الله، وأقلُّ من هؤلاء مَن تمكَّن من شرح هذا الشعاع للناس على نحوٍ يفهمونه، ولم يكُن في مقدور الناس أن يعرفوا عن الله أكثر من أنَّه جبارٌ قهَّار، لطيفٌ غفور، كريمٌ رحيم! … إلخ. صفات إنسانية تُدركها مشاعرُهم الآدمية! … لا يا صاحبي … إنَّ الناس لا يمكن أن يتصوَّروا إلا ما كان على صورتهم! … وإنهم هم الذين يفرضون عليك الصورة التي يعرفونها، كما لو كانت ثوبًا من صُنع أيديهم يُلبسونك إيَّاه قهرًا. هذا ما دفَعَ الخالق الأعظم أيضًا إلى تحذير الناس من الخوض في شخصه … وحمَلَ رُسُله على منع الناس من الاسترسال في أسئلةٍ خاصَّة بذاته تعالى — وإذا كان الناس قديرين على تناول الذات العليَّة بالتشويه، فما بالك بشخصِ الفنَّان — وما هو إلا فردٌ من بينهم، يستطيعون أن يقولوا فيه ما يشاءون — حتى مَن يزعُم أنه شارح لشخصه، ومفسِّر أو مدوِّن لحياته، أو مؤرِّخ — قلَّما يوفَّق إلى تقصِّي الحقيقة فيه … إنما هو يجمع نِتفًا من تقوُّلات الناس، إذا لم يكُن قد رآه، فإذا كان من معارفه رسَمَ له صورةً من وحي رأيه الشخصي فيه، قد يُخطِئ فيها أكثرَ ممَّا يُصيب! … لو علمتَ كيف يُكتَب التاريخ لألقيتَ في هذا البحر بكلِّ كُتُب التراجم! … ثِق أنَّه ليس أصدق من «الأثر الفني» وحده. هو صورة الفنَّان التي لا تُشوَّه … هو رُوحه المنطلِق من جوفِ ردائه الدنيوي … هذا الرداء الذي لا يستطيع الناس أن يتقوَّلوا في تفصيله، بما شاء لهم جهلهم أو زيفهم، أو تحمُّسهم، أو إغراقهم! … «العمل الفني» هو وحده الذي يحلِّق فوق الأجيال حرًّا سليمًا، بعيدًا عن أيدي العابثين وأفواه الناهشين. هنا حريَّة الفنَّان التي ليس له حريَّة سواها!

•••

ومرَّ بنا في تلك اللحظة بائعُ «سمَّان» يحمل قفصه وينادي … فقلتُ لصاحبي: حريَّة الفنان، مثل حرية «السمَّان» … إنَّها في الفترة التي يحلِّق فيها فوق البحر … بحر الفنِّ … مهاجِرًا من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال! … أمَّا فيما عدا ذلك فإنَّه يهرب من أطباقِ الثرى أو الثلوج، ليسقط في أطباقِ الأُرز أو الثريد!

منطق الفنَّان

المجتمع — هذا الكائن الضخم — كالبحر يُحيط بمنارة الفنَّان، ويعلو بسَوادِ أمواجه على صخرتها؛ يريد أن يضمَّه بين أحضانه … متوهِّمًا أنَّه يغمُره بعطفه وحنانه، ومحاوِلًا أن يُخضعه لمنطقه وقوانينه، فإذا أقصى الفنان رأسه عن مستوى الغمر، وأبعد مِصباحه عن لفحةِ الموج، وتصرَّف في أمرٍ بوَحيٍ من ضوئه الداخلي؛ حكَمَ عليه المجتمعُ من الفور بالشُّذوذ!

ما من أحدٍ أشدُّ الْتصاقًا بالمنطق كالفنَّان؛ لأنَّ الفنَّ ذاته منطق! … ما الفنُّ إلا منطقٌ في رِداءٍ جميل! … «بيتهوفن» في عالَم الأصوات هو سيِّد المنطقيين بلا مِراء! … إنَّه «أرسطو» الموسيقى! … أنغامه تنساب في منطقٍ عجيب خلَّاب، مقدماتها تُفضي إلى نتائجها الحتميَّة، وتتسلَّل مثلَ أبرعِ الأفكار الفلسفية إحكامًا! … وإذا كان الخَلْق صورةً من الخالق، فلا بد أن يكون المنطق — وهو رُوح الفنِّ — من خصائص الفنَّان!

كلُّ فنانٍ منطقيٌّ مع نفسه، وحياته، وشخصيته، والظروف التي فيها يعمل، ويُنتج ويخلُق! … ولا أستطيع أن أصدِّق شيئًا غيرَ ذلك، ولكنَّه نوعٌ من المنطق خاصٌّ به، ملائِمٌ لحياته، وظروفه الخاصة؛ لا علاقة له بالمنطق العام الذي اصطلح عليه المجتمعُ، وسنَّه شريعةً للناس، بغيرِ تفريقٍ ولا تمييز!

إنَّ الفنَّان لا يتقيَّد بنظرة الناس إلى الأشياء … لأنَّ الناس تصنع نظاراتٍ مصنوعةً سلَفًا لكلِّ أمرٍ من أمور الدنيا! … أمَّا هو فينظُر إلى الأشياء بعينه هو المجرَّدة عن كلِّ مِنظار صُنِع بيَدِ غيره؛ فيرى بالضرورة غيرَ الذي يراه الآخرون … إنَّه يبتدع منطقه بنفسه، كما يبتدع فنَّه، فإذا أدهشَت الناس تصرُّفاتُه؛ رَمَوه بالشُّذوذ!

قليلٌ من المفكِّرين أو المُنصِفين مَن يفهم الفنَّانين! … إنَّ مَن أراد أن يفهم فنَّانًا؛ وجَبَ عليه أن يضع نفسه في مكانه، ويحسَّ إحساسه، ويعرفَ لونَ حياته ونشأته وماضيه، وعراكه وجهوده، وميوله ونزعاته. فإذا تعمَّق في درسه؛ خرَجَ منه يقول: معقول … ليس هنالك شذوذ! إنما هو منطقٌ مقبول!

إنَّ المجتمع يُخطئ دائمًا فهَمَ الفنَّان كلَّما أراد أن يطبِّق عليه قانونًا ثابتًا … لطالما سمعنا مَن يزعُم — عن تخبُّطٍ وجهل — أنَّ الفنَّان ينبغي له أن يتزوَّج ليُنتج، أو أن يعيش مترهِّبًا ليُبدع، أو أن يشقى في الحُب ليخلق، أو أن يذوق الفقر أو أن ينعم بالثراء … إلخ، كلُّ هذه الأقوال هراء!

لقد أشبع التاريخ أولئك المتحذلقين تكذيبًا، وخلَّد في سِجله عباقرةً في الفنِّ أنتجوا آيات! … بعضهم وهو عزَبٌ، وبعضهم وهو متزوج! … بعضهم وهو في ذِلَّة الفاقة، وبعضهم في نعمة الرخاء! … بعضهم وهو غارقٌ في الحُب، وبعضهم وهو محرومٌ من الحب!

ولطالما توهَّم الناس أنَّ الفنَّان الذي يُنتج من أجل المال؛ يسفُّ، وأنَّ من يعمل — بناءً على طلب — يهبط ويسخف! … وها هو ذا «بيتهوفن» يخلُق السانفونية التاسعة العظيمة، من أجل خمسين جنيهًا بناءً على طلَبِ دارٍ من دُور النَّشر الموسيقي! … وها هو ذا «شكسبير» كان يحشُر أحيانًا في بعضِ مسرحياته الفكاهية ما يُعجِب جماهيرَ الملاعب، ويربح ما يُقيم أوَده ويكفل معاشه … فلا الإنتاج من أجل المال، ولا العمل على إرضاء الجماهير؛ منَعَ الفنَّان الحقَّ من أن يُخرج في الفنِّ روائع؛ لأنَّ العبقرية إذ انفجرتْ، فإنها تستمدُّ وحيها من السماء ومن الأرض، من الرُّوح ومن المال، من السُّحب ومن الوَحل! … كلُّ شيءٍ لها منبعُ وحيٍ ومصدرُ غِذاء!

ليس في الوجود قانونٌ يطبَّق على الطبيعة الفنيَّة!

إنها قادرةٌ على الإبداع في أيِّ ظرف. وفي كلِّ حال؛ لا شيءَ يقتلها! … كلُّ شيء يغذِّيها، ويقوِّيها، وينفعها … إنَّها لا تقتل أبدًا من الخارج … ما من شيءٍ في الكون يهدم الفنان، حتى يده! … حتى أخطاؤه؛ لأنَّ فنَّه يأكل ويطعم ويستفيد من كلِّ ما يصادفه من العلوِّ ومن الهبوط، ومن الفوز ومن الإخفاق، من الفضائل ومن الرذائل! … من الاعتصام بالشواهق، ومن التردِّي في المساقط والمهاوي!

شيءٌ واحد يقتل الفنَّان … ولا يُصيبه إلا من الداخل، هو نضوبُ الزيت من مِصباحه … وانطفاء جذوته، وانتهاء رسالته! … وهو نفسه لا يعرف ذلك الموعد، ولا يتنبَّأ بذلك الحين! … وربما سكت دهرًا، فإذا الفتيلةُ تتوهَّج بلمعةٍ أخيرةٍ رائعة، قبل أن تخبو طبيعته الفنيَّة، وترقُد رقدةَ الأبد!

ليس أثقل — في نظري — من أولئك الذين يسألون الفنان: لماذا كفَّ عن إنتاج الآثار القيِّمة؟ … لو أنَّهم أُعطوا قدرًا من الفَهم والعِلم؛ لأدركوا أنَّ الفنان لا يخلُق بإرادتهم ولا بإرادته! … فليسألوا ذلك الجبل الشامخ فوق البحر «بركان فيزوف» الأشمَّ: متى تضطرم أحشاؤه؟! … ومتى يُخرج رأسه النورَ، وصدرُه الحمَمَ؟!

الفنَّان لا يشيخ

لا أنسى تلك المذكِّرات التي قرأتُها منذ سنوات، عن «تولستوي» بقلَمِ سكرتيره الذي لازمه في كهولته وشيخوخته! … كان ذلك السكرتير شابًّا لم يتخطَّ الثلاثين، وكان حديث عهدٍ بالتخرُّج في الجامعات، يوم دُعي إلى خدمة «تولستوي»! … كتَبَ يصِفُ أولَ لقاءٍ له بالكاتب العظيم؛ فقال إنَّه ذهَبَ إليه في قريته «ياسنايا بوليانا»؛ حيث مزرعته الواسعة، وهو يرتعد فرَقًا من رهبةِ المقابلة! … ويحسب حسابًا لمَا يقول وما لا يقول، ويرتِّب الكلام بمقدار، والصمت بمقدار؛ فهو أمامَ عقلٍ من أكبر عقول «أوروبا» في ذلك الوقت! … ومشى متَّئدًا مضطربًا في طريقه إلى البيت الكبير، فرأى رجلًا أشيبَ الرأس واللحية في ثياب الفلاحين، يجلس تحت شجرة، فسأله عن «تولستوي» وأين يكون الساعة؟ في البيت أو في الحقل؟ … فابتسم له الكهل، وأجلسه إلى جواره، وجعَلَ يُلاطِفه ويحاوره حتى أنِسَ له الشابُّ، واطمأن إليه، فمال الكهل على أُذن الشابِّ هامسًا: أنا «تولستوي»!

وطفق السكرتير الشابُّ، يسرد بعدئذٍ مفصَّلًا في صفحاتٍ طِوال: كيف نشأت بينه وبين «تولستوي» صداقة وأُلفة، واتفاقٌ واتِّساق في كلِّ قول وشعور، إلى حدٍّ نسِيَ معه الفارق الذي يفصل بينهما في السنِّ والفِكر والمقام. وكلَّما مرَّت الأيام بهما، تأكَّد إحساس الشابِّ بأنَّ «تولستوي» ليس أكبر منه سنًّا، وأنَّه مثلُه في نحو الثلاثين! … شيءٌ واحد يُضحكهما معًا، ويبكيهما معًا، ويُثير اهتمامهما معًا!

إلى أن كان يومٌ هبَطَ فيه القرية أنجالُ الكاتب العظيم، جاءوا من المدينة ونزلوا ضيوفًا على أبيهم … وكانوا في سنِّ الشابِّ السكرتير؛ فإذا شعورٌ مفاجئ صدمه على الفور! لكأنَّ أولئك الأنجال هم الكُهول، وكأنَّ أباهم هو الشابُّ الخجول!

فقد كان في كلام أولئك الأبناء، وفي حركاتهم وضحكاتهم؛ ذلك الوقار المتكلَّف والجِدُّ المصنوع، والبُعد عن البساطة والطبيعة، ممَّا حمَلَ السكرتير على الصَّمت رهبةً منهم، واكتفى بأنْ نظَرَ إلى «تولستوي» بعينه وكأنَّه يقول له: فلْنصبر عليهم حتى يرحلوا؛ إنَّهم أكبرُ منَّا سنًّا! … فيتلقَّى الجواب نظرةً باسمةً متواضعةً من الكهل، وكأنَّه يُجيبه موافقًا: «أصبتَ يا صديقي! … ما لنا ولهؤلاء المُسِنين؟!»

•••

مثل هذا القلب نجِدُه عند «جوته»؛ فقد بلَغَ جوته الثمانين، وما شَعَر بأنَّ قلبه قد شاخ، وإذا هو يقع في غرامِ فتاةٍ في الثامنة عشرة، نَضِرة كالزهرة … وحاول أصدقاؤه عبثًا أن يُفهِموه الموقف؛ فما ازداد إلا تشبُّثًا برغبته في الزواج منها! … إنَّهم هُم الذين لم يفهموه؛ ولم يُدركوا أنَّ هذا الشاعر الشيخ كان له دائمًا قلبُ شاب! … إنَّه ليُدهشني كيف وقَفَ «جوته» ذلك الموقفَ الصارم من «هايني»! … فقَدْ روى «هايني» أنَّه كان شاعرًا شابًّا طلَبَ مقابلة «جوته» شاعرِ «ألمانيا» العظيم … فلمَّا أذِنَ له ودخَلَ عليه، وجَدَه صامتًا صارمًا؛ كتمثالِ إله، ولم يرضَ أن يُلقي من عليائه بكلمةٍ رقيقة، إلى الشاعر الشابِّ! … وخرَجَ «هايني» من ذلك المكان الرهيب، يسخط ويقول: «ما جوته هذا سوى معبدٍ أجوف!» في يقيني أنَّ ما بدا من «جوته» يومئذٍ؛ لم يكُن سوى الرداءِ التمثيلي المُزركَش، الذي يحلو للعبقرية أحيانًا أن تُدثِّر فيه دلالها وفخرها! … ولو صبَرَ «هايني» الشابُّ حتى تتوثق الأُلفة بينه وبين الشاعر الكبير؛ لرأى العبقريةَ قد خرجتْ عاريةً من ردائها الرسمي … فإذا في جوفها قلبٌ بسيطٌ، طيِّب، صافٍ، فيَّاض بالرحمة، نابضٌ بالشباب.

ذلك أنَّ الممتازين من الرجال، لهم دائمًا هذه الصفة؛ إنَّهم يخلُقون وبين ضُلوعهم قلوبٌ لا تشيخ!

أدركتْه حِرفةُ الأدب

كتب «فولتير» إلى شابٍّ، يريد الاشتغال بالشِّعر والأدب رسالةً، يبصِّره فيها بمتاعب هذه الحرفة … جاء فيها هذا القول: «استعدادُك الأدبيُّ قوي، ما من سبيلٍ إلى مقاومته أو إلى الشكِّ فيه؛ فالنحلة يجب أن تُفرز شهدًا، والدودة يجب أن تنسج حريرًا، ومسيو «ريومير» العالِم الطبيعي يجب أن يشرحهما، وأنت يجب أن تُنشد فيهما شعرًا! … ستكون شاعرًا وأديبًا، لا لأنَّك تريد هذا، بل لأنَّ الطبيعة أرادته! … ولكنَّك تخدع نفسك، إذا حسبتَ راحة البال ستكون من نصيبك؛ فحرفةُ الأدب — وخصوصًا لمَن ابتُلي بالعبقرية — ذات طريقٍ أَفعَم بالأشواك من طريق الثراء … فإذا شاء الحظُّ العاثر أن تكون محدودَ الموهبة، قليلَ الحظِّ من التفوُّق — وهو ما لا أعتقده فيك — فأمامك ندمٌ سيُلازمك طولَ العمر! … وإذا كنتَ ممتازًا فائزًا، فأمامك خصومٌ وأعداءٌ سينبُتون من حولك! … إنَّك ستسير على حافة الهاوية، بين الحقد والاحتقار!

قد تسألني: ولماذا أتعرَّض للحقد؟ … ألأنِّي صنعتُ قصيدةً بليغة أو مسرحيةً رفيعة، أو كتابًا في التاريخ نفيسًا، أو حاولتُ أن أستنير وأنير الآخرين؟! … نعم، يا صديقي! … من أجل هذا، ولهذا ستَجلب على نَفْسك الشَّقاء إلى آخر الدهر. ولْنفرض أنَّك أنشأتَ مؤلَّفًا رائعًا؛ فإنَّك لا بد لك من أن تهجُر الراحة التي تعرِّش على بيتك؛ لتبحث عمَّن يفحص لك عملك، ويُعينك على نشره بين الناس! … فإذا كان ذا أفكارٍ تُخالف أفكارك، أو لم يكُن صديقًا لأصدقائك، أو كان بالمُصادَفة في جانبِ منافسيك وحسَّادك؛ فإنَّك لن تظفَر منه بمعونة، ولن يكون حالُك معه خيرًا من حالِ رجُلٍ يبحث عن وظيفةٍ في دوائر المال. وهو متجرِّد من وساطة النساء! … ولْنفرض أنَّك بعد عامٍ قضيتَه بين رفضٍ ومفاوضة؛ نجحتَ آخرَ الأمر في طبْعِ كتابك، فما الذي سيكون؟ … لا مفرَّ لك من أحد أمرَين: إمَّا أن تنجح في كمِّ أفواه تلك الكلاب الحارسة لباب الأدب. وإمَّا أن تجعلها تنبح في جانبك وتروِّج لبضاعتك! … وفي «فرنسا» ثلاثُ مجلات أدبية أو أربع، ومثل هذا العدد في «هولندا»، وهي تختلف في اتجاهاتها، ومواقفها، وتحزُّبها … ولأصحاب هذه الصحف مصلحةٌ في أن يجعلوها ساخرة … وللمحرِّرين فيها رغبةٌ في أن يتملَّقوا طبيعة البُخل والخُبث، التي فُطر عليها الجمهور!

وأنت تريد أن تُقرع لك طُبول الشُّهرة، فلا محيصَ لك من مداهنةِ الكتَّاب ومُصانعة الحُماة وممالأة رجالِ الدِّين وأهل العلم؛ بل أهل التجارة، حتى الباعة الجوَّالين! … وبرغم كلِّ هذا الحرص منك «فلن يمنع ذلك صحفيًّا من الصحفيين أن يتناولك بالنهش والتمزيق»!»

ومضى «فولتير» مسترسلًا في هذا القول، حتى ختَمَ رسالته بقوله: ما هدفي من كلِّ هذا النُّصح الطويل؟ … أهو صرفك عن طريق الأدب؟ … كلَّا فليس لي أن أقِفَ في وجه القَدَر، ولكنِّي أردتُ فقط أن أحملك على التريُّث والصبر!

•••

ليس من الضروري أن يكون الإنسان «فولتير»؛ حتى يصادف مثل هذه المشاهد من حينٍ إلى حين! … فلقد قال لي شابٌّ ذات يوم: «الأدب يا سيدي في دمي! … وأنا دائمًا تائهُ النفس، موزَّع الفِكر، هائم الخيال، لا أتحكَّم في وقتي، فهو يتمزَّق بفتراتٍ طويلة من السُّبُحات والسَّرحات، والتحليق في الفضاء.»

ما من شكٍّ في أنَّ هذا الشابَّ وأمثاله ضحيَّةٌ من ضحايا الصُّحف، التي تصوِّر «الأديب»، في تلك الرسوم الكاريكاتورية، شخصًا مذهولًا مخبولًا، لا يعرف الفرق بين رأسه وقدمَيه! … فيُؤخذ هذا الهذر على أنَّه حقيقةٌ، ويقع في وَهْم الشُّبان أنَّ تلك هي علامةُ الأديب الذي خُلِق الأدب في دمه! … ومتى شاع هذا الوَهْم فيهم؛ صعُبَ إقناعهم بأنَّ الفِكر صحوٌ لا نوم، وأنَّ المفكِّر هو أشدُّ الناس يقظةً؛ لأنَّه يجب أن يُري للناس ما لم يروا، وأن يُبصِرهم بما لم يَبصُروا، وأن ينبِّههم ويهديهم وهو مكتملُ العقل متفتِّق الذِّهن متَّسع الأفق والحيلة والمعرفة والتجارب!

لمثل هذا الشابِّ أقول: عشْ أولًا إنسانًا صحيحًا؛ لتستطيع بعدئذٍ أن تفكِّر للناس تفكيرًا صحيحًا!

ثم هنالك سؤالٌ يجب أن يُطرح على مثل هذا الشابِّ: وما الذي يُغريك بحرفة الأدب أو مِهنة الفِكر؟

إذا كان الجواب: بريقُ الشُّهرة! … فلْيعلم أنَّ الشُّهرة تصاحب الامتياز في كلِّ مهنةٍ أُخرى! … على أنَّ الشُّهرة في كلِّ مهنة تقترن بها الثروة، إلا شُهرة الأديب أو المفكِّر؛ فالطبيب المشهور أو المهندس المشهور أو حتى المطرب والحاوي والمهرِّج، إذا ذاع لهم صِيت؛ جاءهم الصِّيت بالمال الوافر! … أمَّا المفكِّر الشهير؛ فقلَّما يستطيع أن يجمع من تفكيره مالًا!

الهدف للأديب أو العالِم أو الفنَّان الحقِّ؛ هو أن يعيش ليُنتج ثروةً فكرية! … أمَّا الهدف للآخرين؛ فهو أن يُنتجوا ليعيشوا في ثروةٍ مادية!

يجب أن يكون ذلك مفهومًا لكلِّ شابٍّ، قبل أن يُقدِم على الانقطاع لهذه الحرفة! … وإنَّ أكثرَ رجال الأدب — حتى في بلادنا — لم يظفروا بمالٍ يُذكر، وحادوا عن طُرُق جمْعِ الثروة، وقد يسَّرتْها الحرب الأخيرة لكلِّ مَن سعى إليها، حتى من الغوغاء والجهَّال والحَمقَى … وكرَّسوا جهودهم للواجب المفروض عليهم، أو الذي فرضوه هُم على أنفُسهم؛ طمعًا في ماذا؟ … لستُ أدري! … ربما كان الجزاءُ الحقيقي للمفكِّر هو لذَّةَ التفكير ذاتها! … ولذَّة الكشف عن تلك الأسرار التي تزخر بها نفْسُه ونفس الإنسانية!

•••

إنَّ حقيقة رجُلِ الفِكر تتمثَّل لي في هذه الصورة البسيطة: صورة قاعة متَّسعة، معلَّق بحيطانها عديدٌ من الساعات الدقَّاقة! … تلك هي الدنيا وقد تعلَّق بها جموع الناس! … هكذا تمضي الحياة بناسها فوقَ حائطها؛ يسيرون في مجراهم، ويدقُّون دقاتِ الحظِّ أو المصير في أوقاتهم، ثم يقِفُون وقفتهم الأخيرة، وقد سكَنَ محرِّكُهم، وانتهى أجَلُهم!

ساعةٌ واحدة من بين ساعات الحائط، تركتْ مكانها من الجدار، وكُشِف عنها الغِطاء، ولم تحفل بالسَّير كما يسير غيرُها، ولا طربَت لرنينِ الدَّقات كما طربَت البقيَّة، بل جعلَتْ همَّها وشاغلها فحصَ نفسها من الداخل! … فنثرَت التُّروس وطرحَت الأجراس، وفكَّت الأجزاء، وحلَّت المحرِّكات، وطفقَت — بدافع أو بباعثِ الرغبة في المعرفة والنور — تدرُس عملَ كلِّ تُرسٍ وجزء وآلة وعقرب؛ لتقول بعد ذلك لبقيَّة الساعات المعلَّقة السائرة في طريقها مُغلِقةَ البصر، محجَّبة الوجه بغطاءِ الزجاج: هل عرفتم مَن أنتم؟ … وما نبضاتكم؟ … وما دقَّات قلوبكم؟ … وكيف تسيرون؟!

الأدب والسعادة

يقال أحيانًا: إنَّ مهمَّة الأدب هي إسعاد الناس، أو معاونتهم على بلوغ السعادة! … ربما كان هذا صحيحًا لو عرفنا أولًا ما هي السعادة؟

أريد أن أتصوَّر هذه الفكرة الخيالية: البشر يضِجُّون على هذه الأرض ويصيحون طالبين السعادة، وقد انقسموا فريقَين: فريقٌ يراها في العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية، وفريقٌ يراها في الثراء الفردي والإنتاج الواسع! … واشتدَّ الخِلاف بين الفريقَين، وأيقَنَ كلٌّ منهما أنَّ الآخر هو الذي يحول بينه وبين السعادة التي يحلُم بها البَشَر؛ فأخذا يهيِّئان معدَّات الحرب غيرَ حافلين بتدمير الأرض في سبيل الهدف!

وعلا صخَبُهما حتى بلَغَ السماء؛ فقالت الملائكة: سيدمِّرون الأرضَ من أجل السعادة!

فنزل عليهم صوتٌ من عِلِّيين: أعطوهم ما يريدون!

وعندئذٍ حدثتْ في الأرض معجزة؛ فقد انقلبت الصحاري جناتٍ واسعة جاريةِ الأنهار، دانيةِ القطوف، شهيَّةِ الثمار … وزالَت الفوارقُ بين الناس؛ فإذا كلُّ فردٍ غنيٌّ ثري، ولم يعُد هنالك ظالمٌ ولا مظلوم، ولا سليم ولا سقيم؛ فالجميع في صحةٍ ورفاهية وسلامة وعافية … والمستوى الاجتماعي والعقلي والرُّوحي مرتفعٌ للجميع؛ الكلُّ سادة، والكلُّ أحرار! … إنَّه العالَم المثالي الذي كان ينشُده الفلاسفة والحكماء!

ومرَّت على الناس لحظةٌ، شمَلَهم فيها العجَبُ والذُّهول. وجعلوا ينظُرون إلى حياتهم الجديدة وكأنَّهم لا يصدِّقون! … كلُّ شيءٍ في متناول أيديهم: الرزق موفور، والصحة دائمة، والحرية قائمة! … ما من مطلبٍ إذن يسعون إليه، وما من أمرٍ يشْكُون منه … إنَّها السعادة! … نَعَم، هي السعادة!

وهكذا غرقوا لحظةً في سعادتهم فَرِحين مهلِّلين!

إلى أن استيقظوا بعد حينٍ وهم يقولون: وبعد؟!

وكشفتْ لهم هذه الكلمة فجأةً عن هولٍ مجهول! … فصاحوا في الأرض: وبعد؟! … وبعد؟ … وبعد؟

وقعَدُوا يتأمَّلون حالَهم قائلين: وبعد، ألَا يوجد غدٌ؟ … وما قيمةُ الغدِ إذا لم يحدُث فيه شيء؟

وما هو الشيء الذي يجب أن يحدُث؟ … كلُّ شيءٍ قد حدَثَ … الحريَّة الثروة … الصحَّة!

واستولتْ عليهم هذه الفكرة المروِّعة؛ فثاروا: لا يوجد غدٌ … لا يوجد أملٌ … لا يوجد كفاحٌ … لا يوجد عملٌ!

ومشوا في مسالك الأرض يردِّدون ذلك القول؛ كأنَّه نشيد. وقد أحسُّوا بعض الراحة الخفيَّة وهُمْ يثورون هذه الثورة؛ لقد وجدوا أخيرًا — منذ أن ابتُلوا ﺑ «السعادة» — شيئًا يَشْكُون منه! لقد عرفوا حلاوةَ الشكوى مرةً أُخرى!

نَعَم؛ لقد أدركوا أنَّهم سُجناء! … سجناء سعادتهم! … إنَّهم خُلقوا ليكون لهم غدٌ! … غد يعطيهم شيئًا، هو ثمرة عمل اليوم … غدٌ هو في نظرهم رمزُ التقدُّم، ولكنَّهم لا يتقدَّمون؛ لأنَّ كلَّ تقدُّم قد تمَّ؛ أيْ أنَّ كلَّ شيءٍ قد وقف! … وما دام كلُّ شيء قد وَقَف؛ فهو إذن الموت! … هم إذن أموات؛ هادئون في قُبُور سعادتهم!

أتُرى السماء قد أعطتْهم «الموت» بدلًا من السعادة … أم أن هذه السعادة الكاملة هي نوعٌ من الموت؟

ولكنَّ الموتى لا يشكُون ولا يثورون. وهم قد اكتشفوا في نفوسهم الخيطَ الضئيل من خيوط الحياة: الشكوى والثورة! فهناك إذن أمل! … لكن إلى مَن يتَّجهون بهذه الشكوى؟

وهنا رفعوا جميعًا رُءوسهم إلى السماء صائحين: أيتها السماء! … رحمةً بنا ولطفًا! … ارفعي عنَّا هذه السعادة!

فسمعوا صوتًا يأتي من عِلِّيين: تريدون الفقر؟

فقالوا جميعًا: نعم! لنكدح من أجْلِ الغنى.

فقال الصوت: تريدون المرض؟

فقالوا جميعًا: نعم! … لنقاوم من أجل الصحة.

فقال الصوت: تريدون العبودية؟

فقالوا جميعًا: نعم! … لنكافح من أجل الحريَّة!

فقال الصوت: وإذا عُدتم إلى الشكوى؟

فقالوا أجمعين: سنعود إلى الشكوى؛ لأنَّنا بها نطلُب ونأمُل ونعمل! … وبالطلب والأمل والعمل نسير ونتطوَّر! … وبالسَّير والتقدُّم والتطوُّر يكون لنا أمسٌ ويومٌ وغدٌ! … وبالأمس واليوم والغد نعيش! … نعيش!

فقال الصوت: والسعادة؟

فقالوا جميعهم: هي شيءٌ يأتينا من داخل أنفُسنا، لا من الخارج!

فقال الصوت، وهو يخفتُ، ويرتفع، وينقطع: لعلَّكم الآن قد فهمتُم حكمةَ الخالق!

•••

نعم! … هنا مهمَّة الأدب! … هي أن يُعين الناسَ على تفهُّم حكمةِ الخَلق ورُوح الوجود! … وإفهامُ البشر أنَّ السعادة عملٌ، وكفاحٌ، وتقدُّم، وتطوُّر!

الأدب ومصير العالم

عندما نشرتُ «سليمان الحكيم» عام ١٩٤٣م، لم يكُن قد وقع بعد ذلك الحدثُ العظيم الذي هزَّ البشرية، وهو انطلاق تلك القوة الهائلة من الذرَّة؛ كما انطلَقَ «الجني» من القُمقُم … ولم تكُن الحرب، القائمة الدائمة في أغوار الإنسان، قد أسفرتْ عن وجهها الحقيقي! … تلك الحرب بين غريزة السيطرة والطموح، التي تمتطي «القدرة» الجامحة، وبين الحكمة «العاقلة» التي تريد أن تُمسك بأعِنَّة المطيَّة الخطِرة!

اليوم يخيَّل إليَّ أنِّي تنبَّأتُ بذلك قبل حدوثه، وقصدتُ في القصة تصوُّر ذلك الصراع الدائر الآن على مسرح الدنيا، الذي كاد ميزانه يميل بنا إلى الهاوية! … فالجني المنطلِق من القُمقُم، هو المتسلِّط الساعة على النفوس. والقوة عمياء! … ما نالها أحدٌ، حتى اندفع يدوس بها الآخرين! … والقدرة مُغرِية … ما ملكها أحدٌ حتى بادر إلى استخدامها فيما ينبغي وما لا ينبغي!

إنَّ أزمة الإنسانية — الآن وفي كلِّ زمان — هي أنَّها تتقدَّم في وسائل قدرتها أسرع ممَّا تتقدَّم في وسائل حكمتها! … إنَّ المخالب في الإنسان الأول قد تطوَّرت إلى أسلحةٍ حجرية، ثم إلى سيف، ثم إلى مِدفع، ثم إلى قنبلةٍ ذرية! … ولكنَّ وسائل تحكُّمه في غرائزه، لم تتطوَّر إلى حدٍّ يمكِّنها، في كلِّ الأحيان، من كبْحِ جماح القدرة المطلقة! … لذلك كان لا بدَّ دائمًا من وقوع كارثة، أو حدوث إخفاق؛ حتى يفطن العالَمُ آخرَ الأمر إلى ضرورة الحكمة!

ولكن المشكلة هي أنَّه قلَّما يفطن. وإن فطِنَ فقلَّما يستطيع الوقوف في الوقت المناسب! … إنَّ منظر الإنسان في هذا القرن العشرين ليدعو إلى العجب! … فالصورةُ الحقيقية هي صورةُ مخلوقٍ له ذكاءُ العالم وضميرُ القُرصان وغريزة الحيوان!

لسنا نطمع طبعًا — وقد منحنا هذا الكيان الآدمي بخيره وشرِّه — في أن نقتُل «الجني» الذي فينا، بذكائه وعبقريته وطموحه وسُلطته، ولكنَّا نأمُل أبدًا في أن نُقيم من نفوسنا الخيرة سدًّا يقف في وجه إغرائه؛ كلَّما طغى وأراد أن يجمح بنا إلى الهلاك!

لكنْ، ما وسيلتنا اليوم في بناء هذا السدِّ؟ … ومَن الذي يتولَّى إقامته وتشييده؟ … أهُم رجال السياسة؟ … أم رجال الفِكر؟ … أم رجال الدِّين؟ … ليس رجالَ السياسة بالطبع! … فهُمْ، مَهمَا تخلُص نياتهم؛ عاجِزُون عن التحرُّر من مطامع دُولهم، وهم المتَّهمون، وهم المُخفِقون! … أمَّا رجال الدِّين؛ فخيرُ مَن يضطلع بهذه المهمَّة، لولا تلك القيود التي تمنعهم من الخوض في كلِّ ميدان!

بقي رجالُ الفِكر … ولهم من سعةِ الأُفق، وسموِّ النزعة الإنسانية، ومن التجرُّد عن الهوى، ومن الحريَّة في العمل؛ ما يمكِّنهم من أداء هذا الواجب العظيم.

فما الذي يُقعدهم؟

لقد قام منذ أعوامٍ قليلة نحو خمسمائة من رجال الفكر والأدب، على رأسهم «أندريه جيد» و«فرنسوا مورياك» يطلُبون إلى هيئة الأمم المتحدة العمل على إلغاء الحروب، باعتبارها وسيلةً من وسائل حلِّ المشكلات الدولية!

هذا عملٌ طيِّب، وصيحةٌ قيِّمة من رجال الفكر والأدب هناك! … ولكنْ مع الأسف! … مَن الذي سيصغي إليها؟ … ومَن الذي سيستجيب؟

أهُمْ ممثِّلو تلك الأمم التي اجتمعت كما يجتمع وحوش الغاب عند تقسيم الفريسة، لا يُسمع منها إلا زمجرةٌ من هنا، وتحفُّز من هناك؟!

إنَّ إطلاق الصيحات والاحتجاجات، من رجال الفكر ما عاد يجدي … لم يبقَ للإنسانية من طريقةٍ سوى إيفاد رجال الفكر أنفُسهم بدلًا من رجال السياسة، إلى حيث يبتُّون في مصير العالَم كلِّه! … يوفدون في هيئة دولية، لها السلطة المطلقة في توجيه هذا العالم … لا يمثِّلون في هذه الهيئة مصالح دولهم وحدها، بل يمثِّلون الإنسانية، باعتبارها وحدةً لا تتجزَّأ!

ولكنْ مَن الذي سيوفدهم بهذه الصفة؟!

هنا المسألة!

على أنَّ هذه الصعوبة الكُبرى لا يجب أن تدعونا إلى اليأس، فهذا حُلم لا يمكن أن يتحقَّق في مستقبلٍ قريب … حَسْب رجال الفكر أن يؤدُّوا واجبهم على قدْرِ ما يستطيعون! … وعلى الأيام أن تُنضج ما غرسوه من أفكار! … حبَّذا لو قام رجال الفكر والأدب، في مصر والشرق العربي أيضًا، يُرسلون إلى هيئة الأمم مثلَ هذه الصيحة، فإنَّ الشرق أولى أن تصدُر من مفكِّريه مثل هذه المشاعر الإنسانية!

إنِّي لواثقٌ أنَّ تضامُن المفكِّرين المؤمنين في أنحاء العالم بهذه الرسالة العليا — رسالة الحكمة التي تكبح القوة — كفيلٌ على مرِّ الزمن أن يُحدث في نفوس البشر فرقعةً، ربما استطاعت — في يومٍ من الأيام — أن تُسكت صوت القنبلة الذرِّية، فإنِّي أُومن بأنَّ للأدب والأدباء مهمَّةً كُبرى: هي صيانة المصير الإنساني من الدمار؛ كما أنَّ للأدب والأدباء رسالةً عُظمى: هي السَّير بالعالَم إلى مصيرٍ أكمل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤