الباب الحادي عشر

الأدب وأجياله

الأجيال تتماسك في الأمم؛ كما تتماسك حلقاتُ السلسلة الفقريَّة في الأجسام.

***

حلقات الأجيال

الدنيا حلقات! … كلُّ جيلٍ يجب أن يمدَّ يده إلى الجيل الذي يليه! … إذا تمَّ ذلك في أمَّة فقَدْ صحَّ كيانها واستقام، شأن الجسم السليم بسلسلته الفقرية المُتماسِكة، وإذا لم يتمَّ ذلك فنحن أمام كائنٍ سقيم، انفصلتْ حلقاتُ وجوده وانفصم عمودُ ظَهره، ولم يعُد يصلح للبقاء! … وإذا كان من واجب القادة أن يرسلوا البصر إلى خمس سنوات أو عشر إلى الأمام، يعدُّون خلالها برامج الإنتاج؛ فإنَّ من واجبهم أيضًا أن يعدُّوا الرجال الذين يَخلُفونهم في مراكز القيادة! … بهذا لن تكفَّ عجلة التقدُّم عن المسير!

والإنتاج الفكري ككلٍّ إنتاجٌ يجب ألَّا يشذَّ عن هذا المبدأ، وعلى المفكِّرين أن يرسلوا، هُم قبل غيرهم، ذلك النظرَ البعيد إلى حياة الفكر في خلال ما يستقبل من أعوام، وأن يعدُّوا الأمر، ليحتلَّ غيرُهم ما احتلُّوا من مقاعد، وأن يمهِّدوا الطريق أمام المواهب الجديدة، لتظهر وتُزهر وتُؤتي ثمراتها! … فإنَّ السؤال الذي يجول دائمًا في الخواطر هو: ما الذي سيحدُث في العشرة أو العشرين عامًا المقبلة؟ … هل الأمل معقودٌ على طائفةٍ من الأدباء يمكن أن تبرز بنوبتها في الصفِّ الأول؛ لتَمضي في رفع مِشعل الأدب والفكر في هذا البلد؟! أو أنَّه كما يقال: «ليس في الإمكان أبدع ممَّا كان؟!»

رأيي أنَّ إمكان الإبداع ممتدٌّ في كلِّ أوان! … فالإبداع شيءٌ حيٌّ متحرِّك في الزمان والمكان، لا يتعلَّق بالماضي وحده، ولكنَّه كالشجرة يمتدُّ ويتطوَّر في مختلف الفصول، يبدِّل ويغيِّر في أوراقه وفي مظاهر إيناعه وإثماره، ماضيه متصلٌ بحاضره، وحاضره مرتبطٌ بحبل مستقبله! … إنَّ المجهودات تُبنى فوق المجهودات … والمواهب تنبع من المواهب، والإبداع يؤدِّي إلى إبداع … والثمرة تخرج منها الثمرة، وكلُّ هذا في فلك يدور، ولا ينفكُّ عن الدوران إلى آخِر الأزمان!

ونحن — إذا جُلْنا اليومَ في حديقة الأدب العربي الحديث — وجَدنَا أشجارًا مملوءةً بعصير الحياة، يانعةً بأزهار الفنِّ، لا ينقُصها إلَّا أن ننظُر إليها بعين الرضا، وأن نتخيَّل ما ستكون عليه غدًا من سُموقٍ وارتفاع؛ فلا شيءَ يُفسد الحديقة ويُقْفِرها ويُفْقِرها، مثل أن نرى دائمًا أشجارها شُجيرات، لن تكون يومًا ضخمةَ الجذوع وارفةَ الظِّلال! … يجب أن نروِّض عيوننا على أن ترى الأشياء والأشخاص في غَدِها — لا في حاضرها وحده — وأن نعرف كيف نقرأ المستقبل من خلال سطور الحاضر! … إذا استطعنا ذلك، فما من شكٍّ أننا واجدون في مختلف فروع الأدب أقلامًا، سيكون لها من الصَّدارة والقيادة في الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة، مثلما كان لأصحاب الصَّدارة والبُروز في العشرة أو العشرين عامًا الماضية!

فحديقة الشباب تزخر بأزهارٍ طيِّبة الأريج، لا سبيلَ هنا إلى تَعداد صنوفها وألوانها! … وكلُّ ما أردناه هنا هو أن ندعم الأمل في غدنا الأدبي، وأن نتساءل عن واجبنا إزاءَ هذه النُّخبة من أعلام الغد — أولئك الذين يُمسكون بطرَف الخيط من وجودنا ليصبحوا غدًا امتدادنا — وأن نحاسب أنفسنا، نحن الذين تقدَّمناهم في حلقة الزمن، عمَّا صنعناه من أجلهم، وعمَّا يجب أن نصنع بالوارثين لنتائج جهودنا! … قبل كلِّ شيء يجب أن نعلم: أهُمْ حقًّا في حاجة إلينا؟ … وأيَّ نوعٍ من المعونة هُم مفتقرون إليه؟ … أهو مجرَّد اهتمامٍ بأعمالهم؟ … ما من شك في أنَّ الاهتمام خيرُ نافخٍ في همَّة الفنَّان؛ فإن الفنان لا يصبر طويلًا على الإنتاج لنفسه! … إنه يعمل كي يسمع لعمله صدًى … إنه زهرةٌ تعيش بأشعةٍ من نظرات الناس! … أخيرًا كانت تحمل تلك النظرات أم شرًّا؟ إنَّ الفنان لا يهدمه الذمُّ ولا القدح بل يدعمان وجوده. إنما الذي يهدمه حقًّا «الإهمال»! … كفنه منسوج من العنكبوت، ومدفنه تحت غبار النسيان، ومن خيرة الفنانين من توهَّم أنَّه مُهمَل فدفن فنَّه حيًّا، وانطلق يجِدُّ في عملٍ آخَر من أعمال الدنيا، لا صلة له بأدبٍ، ولا بفنٍّ؛ فخسره الفنُّ والأدب!

•••

لا بد إذن من التنويه بأعمال الفنانين والأدباء، وإشعارهم، من حينٍ إلى حين، أنَّ رسالاتهم إلى قلوبنا وعقولنا قد وصلتْ، وأننا لجهودهم شاكرون، ولمزاياهم عارفون! … ولكنْ ما هي الطريقة؟ … ما من شكٍّ في أنَّ علينا نحن أن نصنع شيئًا من أجل الذين جاءُوا بعدنا! … لطالما اتُّهمنا بالأثَرة والانصراف عن مساعدة الآخَرين، وربما كان في هذا الاتِّهام بعضُ الصواب؛ فقد شُغلنا عن ذلك زمنًا … لا عن أثَرةٍ وحُب ذات، بل لتوهُّمٍ طبيعي أننا نستطيع أن نحمل في الأدب كلَّ الأعباء!

ولعل هذا من دوافع العمل المشروعة؛ أن نتصوَّر أنه لن يتمَّ شيءٌ إلا بأيدينا نحن! … فلقَدْ جاهدنا كثيرًا، وأنفقنا أغلب العمر في التكوين والإعداد واستكمال الأداة الفنية؛ كما لو كنَّا نحن وحدنا المنوط بهم فتْحُ الحصون وبناء القصور!

ولكنَّ الحياة علمتْنا أننا لن نستطيع أن نفعل أكثر من شقِّ طُرق ووضْعِ أُسس، وعلى غيرنا أن يبني! … شُعورنا اليوم شعور مَن يولد له الولد على كِبَر! … إنَّه يُفيق فجأةً على نظرةٍ أخرى إلى الأشياء؛ إنه لن يرى نفسه مركزَ دنياه، المسئُول وحده عن الرسالة … ولكنه يرى دنياه حلقاتٍ يكمِّل بعضها البعض، ويرى أن صغيره لم يُولدْ عِبئًا، بل خُلِق ليُكمل شيئًا لن يستطيع هو إتمامه، وأنَّ عليه منذ اليوم واجبًا آخر غير مجرَّد الإنتاج؛ عليه أن يُعِين خَلَفه على الوقوف على قدمَيه، ليحمل «بدوره» رسالته على منكبَيه!

غير أنَّ المشكلة التي تحيِّرنا دائمًا هي: وسيلة المعونة! … أهي في تجنيب الجيل الجديد أخطاءنا؟ … أم هي في إشعاره بأخطائه؟ … أهي في إعداده قبل الظهور؟ … أم في إظهاره قبل الإعداد؟! … ثم أولئك الذين قطعوا في فنِّهم شوطًا، وظهروا بعض الظهور، وبدتْ مواهبهم متألِّقة كقِطَع النور، أعلينا إزاءَهم واجب؟ … ما هو؟ … وما السبيل إلى الوفاء به؟ … إنَّا جميعًا لعلى استعدادٍ أن نؤدِّي واجبنا، ولن نُحجم عنه أبدًا إذا عرفنا الوسائل وملكنا الأسباب!

تبعات الأجيال

كلُّ جيلٍ مسئولٌ عن أفكاره التي قد تتسرَّب — بعلمه أو بغير علمه — إلى نفوس الأجيال الجديدة … لذلك يحسُن تفسير تلك الأفكار من حينٍ إلى حين، حتى لا يُساء فَهْمها!

من ذلك أنَّي رأيتُ بعض الشبَّان ينزحون اليوم إلى بلاد الغرب في طلب العلم، فيصطدمون بحياةٍ أخرى وحضارةٍ أجنبية … فإذا هم أحيانًا، يفكِّرون ويشعُرون شعورَ «محسن» وتفكيره في كتاب «عصفورٌ من الشَّرق» يومَ ذهَبَ بعد الحرب العالمية الأُولى إلى الغرب … فهُمْ يَهيمون مثلَه باحثِين هناك عن «الرُّوح» … وتسيطر على تفكيرهم مثله فكرةٌ واحدة؛ هي روحانيةُ الشرق وعَظَمتها ومواضعها ومنابعها! … ثم يسيرون خلْفَ «محسن» الآخَر في كتابِ «عودة الرُّوح» ينقِّبون كما نقَّب عن منبع ميراثهم الثقافي والروحي، في «رواسب» الآلاف من السنين الكامنة في ضمير مصر. ريفها وأهلها الصادقين! … ويعتزُّون مثلَه بأصالة الشعب المصري، ويردِّدون ألفاظه المباهية بعراقة حضارته! … إلخ.

من الخير بالطبع، أن ندَعَ هذا الشباب يعيش في مثل هذه المشاعر والأفكار! … لكنْ من الخير أيضًا أن نقول له: قدِّسْ ماضيك دون أن تذهب في ذلك التقديس إلى الحدِّ الذي يجعلك تُوصد رُوحك دون تلقِّي كلِّ جديدٍ ينفعك، ولو كان ذرَّةً من أشعة! … اغترفْ بشجاعة من كلِّ منبع، وخذْ من كلِّ ميراثٍ لتُثري نفسك، ويتَّسع أفقك!

هذا قولٌ من واجبي أن أكرِّره دائمًا!

فالخطر على غَدِنا، كلُّ الخطر، من ذلك الفهم المحدود لكلمة «طابعنا»، ومن تلك الفكرة التي تجعل الشباب يتَّخذ من روحانيته الشرقية، ورواسب حضارته المصرية سُجونًا وحصونًا تعزله عن تفكير العالم، وتمنعه من المساهمة في النشاط الفكري الإنساني العام بقوةٍ وشجاعة، دون أن يرى بهَلَعٍ في الثقافة الغربية أو الحضارة الأجنبية غيلانًا تستطيع أن تخطف بسهولة روحه من بين جنبَيه! … إنَّ روحنا أقوى وأعمق من أن تطغى عليه حضارةٌ من الحضارات … فلماذا كلُّ هذا الخوف من مواجهة الحضارات الأخرى؟!

كلُّ مَن أراد أن يكتب عندنا قصةً، حَرصَ على أن يكتب تحتها بخطٍّ واضح: «قصةٌ مصريَّة»! … وعُني بأنْ يُجري حوادثها في الأحياء الوطنية، ويصبغها صبغًا عنيفًا بالألوان المحلية! … كلُّ ذلك ليُقنع نفسه بأنَّه يصنع فنًّا قوميًّا ذا رُوح مصرية أصيلة.

كلُّ هذا نوعٌ من مركب النقص، أو من الخوف، لا مبرِّر له … إنَّ الرُّوح المصري الأصيل يستطيع أن يطبع أيَّ موضوعٍ يمسُّه، ولو كان في محيطٍ أجنبي، كما استطاع الرُّوح الإسلامي أن يطبع فنَّ العمارة، الذي استنبطه من الوثنيين والبيزنطيين! … وكما استطاع «شكسبير» أن يطبع بشخصيته الأساطير التي نقلها عن الإيطاليين، والدنماركيين، والشرقيين!

بل إنَّ جانبًا كبيرًا من الآداب الكُبرى يتعمَّد أن يتَّخذ موضوعه بلادًا وأشخاصًا أجنبية عنه؟ … وهو مُمْتلِئُ الثقة بأنَّ الموضوع الأجنبي لا يؤثِّر مقدارَ شَعرةٍ في لون الطابع الشخصي لهذا الأدب! … هذا هو الأدب القوي الواثق بنفسه، يطبع بخاتَمه ما شاء من موضوعات، ويدَعُ عَلَمه يرفرف على ما شاء من بلاد!

فكرةٌ أخرى تحتاج إلى تفسير، نُشرت منذ أعوامٍ في صفحة ١٠٥ من كتاب «تحت المصباح الأخضر» هذه السطور:

«إنَّ سُفور المرأة في مصر قد سبَقَ سُفور الأدب! … من أجل هذا نرى أن جانبًا كبيرًا من أدبنا الحديث، ما زال أدبًا «حبيسًا» تفوح منه رائحة الحُجرة المغلَقة! … أدب صناعة، وأدب «عُلَب محفوظة» من التعبيرات المستعارة، والأساليب والدراسات المستخرجة من خزائن الأقدمين!

أمَّا أدب الهواء الطلق، أدب التعبير عما في أعماق النفس في حرية وأمانة وإخلاص، أدب الحياة النابضة بتفاصيل المشاعر الآدمية. هذا الأدب الخارج من القلب؛ ليخاطب كلَّ قلب على وجه البسيطة، هذا الأدب العالمي الذي يؤثِّر في نفس كلِّ أمَّة وكلِّ جنس وكلِّ آدمي؛ لأنه نبَعَ صافيًا خالصًا حارًّا من قلبٍ آدمي، هذا الأدب حظُّنا منه قليل؛ لأنَّ حظَّنا من الصراحة والصدق قليل!» … إلخ.

هذا كلامٌ جرَتْ به الأقلام اليومَ كثيرًا … كما ردَّدَت الألسُن عباراتِ «الفن والحياة» و«الفن والشعور» و«الفن والصدق» … إلخ؛ مما يدلُّ على أنَّ معنى الأدب أخذ يتحوَّل إلى الاتجاه المثمر، في مجتمعنا المعاصر … لكنْ هل معنى ذلك أن نكفَّ عن النظر في كتب الأقدمين؟

أرى من واجبي أيضًا أن أوضِّح … لقد أحيَتْ وزارة المعارف ذكرى أبي العلاء المعرِّي، وأخرجتْ كتاب «سِقطُ الزَّند» فعكفتُ على مطالعته من جديد! … وخرجتُ من ذلك أقول: «فنُّ هذا العبقري «رهين المَحبَسَين» … أهو فنُّ هواءٍ طلْقٍ وقلبٍ وشعور وحياة؟! أم هو فنُّ رجلٍ ضرير حبيس حُجرة مغلقة يمتعنا حقًّا؟! … ولكنه إمتاعٌ لا يُثير عواطفنا، بقَدْر ما يُثير تفكيرنا، ولا يهزُّ قلوبنا بقَدْر ما يهزُّ رءُوسنا، ولا نجِد فيه اللذة سهلةً ميسَّرة، ولكننا نبلُغها بذهننا بعد كدٍّ وجدٍّ وغوص؟!»

إذن يجب أن أوضِّح للشباب كلامي المطلق الذي نشرتُه منذ أعوام، وأن أقول لهم إنَّ الشعور الحارَّ وحده، بما يثيره من انفعال، ليس هو كلَّ الفنِّ، ولا هو خيرُ الفنِّ في بعض الأحيان؛ لأنَّ المتعة التي تأتي من غير غوص، هي في أكثر الأحوال رخيصة! … وآلام «فرتر» العاطفية أقلُّ رُتبة في نظر «جوته» نفسه، وتاريخ الأدب من «فاوست» الذهنية!

غموضُ قولي السابق، أتى من أنِّي لم أحدِّد معنى «القلب»! … القلب في الفنِّ هو الصدق — لا الصدق بمعناه الضيِّق، المقصور على الشعور العاطفي أو الوجداني — بل أيضًا صدق الشعور بحقيقة فكرة من الأفكار!

على هذا النحو يجب كذلك تحديد معنى «الحياة» في الفن! … ما من شكٍّ أنَّ الفنَّ هو تعبيرٌ عن الحياة … وليس من السهل تصوُّر فنٍّ منفصلٍ عن الحياة، إلا أن نتمثَّل فنَّ الزخرف الإسلامي الذي لا يصوِّر زهورًا، ولا طيورًا، ولا حيوانًا! … ويقوم على تخطيطٍ هندسي! … فنٌّ عريقٌ بديعٌ لا شكَّ فيه، ولكنَّ نسبته إلى الحياة التي نعرفها تحتاج إلى مشقَّة في التخريج! … هذا التجريد الذهني في الزخرف الإسلامي، يماثله التجريد الذهني في الفنِّ المصري القديم، بخطوطه الرئيسية العارية من اللحم والدم! … لقد كان همُّه أن يُحيي الفكرة في الحجر، لا أن يقلب الحجر حياةً كما فعَلَ الإغريق.

مهما يكُن من أمرِ تفضيلنا هذا النوع أو ذاك؛ فإنَّ اختلاف العقليات والاتجاهات والأنواع في الأدب والفن، يحملنا على أنْ نوسِّع معنى «الحياة» حتى تشمل كلَّ هذه الألوان من الآداب والفنون.

لا بد أن تكون «الحياة» في الفنِّ، ليست بعض ما يقع في العالم الخارجي ويضطرب فيه الإنسان بحسِّه ومشاعره فقط، بل أيضًا كل ما يقع في العالم الداخلي ويستخرجه الإنسان بفكره وذهنه وتأمُّلاته! … إنَّ الحياة في الأدب والفن هي الحياة كلُّها — الحياة الكاملة، بمعناها الواسع العميق — تلك «الحياة» التي تسكن في كلِّ جزء من أجزاء الإنسان الحي في قلبه، وفي غريزته، وفي حسِّه، وفي رأسه!

•••

ذلك بعضٌ من تلك الأفكار التي تركناها تسعى من جحور الكتب إلى وعي الشباب دون انتباه! … حبَّذا لو عُدنا من حينٍ إلى حين؛ بأيدينا أو بأيدي غيرنا من النقَّاد والباحثين، نراجع ما نشرنا، ونسترجع ما أصدرنا؛ لنعيده مفسَّرًا مجدَّدًا، كما تفعل المصارف المالية عندما تسترجع من أيدي الناس أوراقَ العُملة القديمة لتردَّها في حُلةٍ جديدة!

انفصال الأجيال

العلاقة بين الأجيال ظاهرةٌ طبيعية، تسترعي دائمًا النظر، وتستوجب الدراسة والبحث، ولكنها في «مصر» اتَّخذت من الصُّور ما يُثير العَجَب ويحيِّر الفِكر؛ فلقَدْ شاهدتُ بنفسي صورتَين متناقضتَين كلَّ التناقض، أمَّا الصورة الأُولى فهي التي عاش في إطارها جيلنا والأجيال التي سبقتْه ولا حاجة بي أن أصِفَها بالقول! … يكفي أن أُورد واقعةً واحدة، فيها كلُّ الدلالة والمغزى:

سمعتُ المرحوم والدي يتحدَّث عن أبيه باحترامٍ عميق في كلِّ مقام، وكان أبوه ممَّن تعلَّموا في الأزهر، ثم أقاموا بعدئذٍ في الريف، يزرعون ما يملكون من أطيان! … وكان والدي قد أوغل في الحلقة الرابعة ورُقِّي إلى منصب القضاء … وطفق أبوه في ذلك الحين يتصرَّف في أطيانه بالرَّهن والبيع، ثم يعود إلى الشراء والاقتناء، ثم يقترض ويتعهَّد ويتعاقد! … فقال بعض أصدقائه: هذه تصرُّفات قانونية، وابنك قاضٍ من خيرة القضاة، ألَمْ تستشره؟

فما كان من الأب إلَّا أن صاح: ابني؟! … أستشير العيال؟!

ولم يكُن والدي يجِدُ غضاضةً في ذلك القول … وكان يتلقَّاه بابتسامةِ التسامح، وشُعور التوقير، ولو أنَّه في دخيلةِ نفسه ما أراه اعتقد أنَّ أباه كان على صواب! … إنِّي ما سمعتُ قَط منه نقدًا لأبيه، فقَدْ كان ينحني على يده يقبِّلها أينما الْتقى به! … وكان يلتمس له المعاذير، ويبرِّر كثرةَ زواجه بأنَّه كلَّما تزوَّج واحدةً وجَدَها أجهلَ من سابقتها … غير أنِّي، على قَدرِ ما تُسعفني ذاكرتي، قد خيِّل إليَّ وقتئذٍ أنَّ والدي كانت له نظرةٌ أخرى في الصلة التي يجب أن تقوم بين الآباء والأبناء، ولكنْ حدَثَ بعدئذٍ ما جعلني أضرب كفًّا بكفٍّ من الدَّهشة والعجَب؛ فقَدْ صِرتُ — أنا بدوري — في الحلقة الرابعة وانخرطتُ في سلك القضاء، وشاهدتُ المرحوم والدي يتصرَّف بالرَّهن تلوَ الرهن في بيتٍ كنَّا نعتزُّ به، ويقابل أمامي كلَّ مَن هبَّ ودبَّ من السماسرة والمُرابين، يُسرُّ إليهم الحديث ويهمس لهم في الآذان، ولا يخطر بباله قَط أن يكشف لي عن جليَّةِ الأمر وبواعث التصرُّف، أو يسألني رأيي المتواضع، فيما هو مقبلٌ عليه، وأنا الذي أحقِّق كلَّ يوم في تصرُّفات الناس، وأفحص وأزِنُ ما لهم وما عليهم من حُججٍ وبيِّنات، وأتحمَّل في أرواحهم وحرياتهم وأموالهم، أخطرَ التَّبِعات!

ومع ذلك قامت في نفسي ثورة، وما ارتفع لي في حضرته صوتٌ، وما كنتُ ألقاه وأنا في ذروة العمر إلا بتقبيل يده والإصغاء إلى نصائحه.

•••

تلك صورةٌ طواها الزمن — فيما أعتقد — ونشَرَ صورةً أخرى لجيلٍ جديد، يرى الأمور على وضعٍ آخر؛ فهو يصرُّ على أن يكون له رأيٌ في محيط البيت والمدرسة والمجتمع! … وقد جاء هذا الجيل في ظروفٍ عالمية تبرِّر الانقلابات، وفي ظروفٍ قومية تنادي بالحرية، واجدًا من الجيل السابق الذي يحتضنه مؤازِرًا لنزعته ومشجِّعًا؛ لأنَّ هذا الجيل السابق لم يكُن إلا جيلُ الثورة المصرية! … على أنَّ أبناءنا وقد ظفروا بحقِّ إبداء الرأي في كلِّ شيء، لم يقِفُوا عند هذا الحدِّ، ما من شابٍّ يَقبَل منك الآن نُصحًا، أو يلقاك اليوم فتأنس منه توقيرًا لسنِّك، أو احترامًا لجيلك! … إنه يخاطبك مخاطبةَ القرينِ للقرين، مهما يكُن الفارقُ بينكما في المكانة والسنِّ، وما من شابٍّ يقنع اليوم بأن يكون له في شئُون أُسرته رأيٌ، وفي مذاهب السياسة رأيٌ، وفي برامج دراسته رأيٌ، وفي أساتذته رأيٌ! … إنَّ مجرَّد إبداء الرأي أصبح لا يكفيه!

جُموح الشباب، وبلبلةُ الأفكار، وزلزلةُ القيم، وهزَّات الأحداث العالمية، وسرعة التطورات الاجتماعية؛ كلُّ هذا جعل الجيل الحديث يشبُّ على عدم احترام القديم الثابت المستقرِّ من النُّظم والأفكار والقِيَم والأشخاص! … وبانهيار هذا الجدار انطلق الشباب يهيم في كلِّ وادٍ بلا ضابطٍ ولا رابط! … وتولَّدت عنده بذلك عقيدةٌ راسخةٌ هي أنَّه ليس في البلاد رأيٌ غير رأيه هو الذي تستقيم به الأمور … وأنَّ من حقِّه أن يفرض هذا الرأي فرضًا على آبائه وأساتذته وَقَادَتِه، كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا!

•••

في الصورتَين إذن انفصالٌ بين الأجيال! … في الماضي كان آباؤنا يفرضون علينا إرادتهم. وفي الحاضر، نرى أبناءنا يريدون فرض إرادتهم علينا! … أتُرانا نحن الجيل الذي بلا إرادة … أعطيناها لآبائنا تبجيلًا، ولأبنائنا تشجيعًا؟!

تصادُم الأجيال

كلما حدَثَ في مجتمع انفصالٌ بين الأجيال، رأى كلُّ جيلٍ أنَّ هذا المجتمع غريبٌ عليه، وأنه بريء منه، لا يدري كيف جاء، ولا كيف تكوَّن، ولا يعرف مَن المسئُول عنه؟

جاءتْني رسالتان تُصوِّران هذه النظرة إلى المجتمع:

الأُولى، تمثِّل رأي الجيل السابق، هذا نصها:

«إنَّ جيلنا كان له من الملاهي «كازينو دي باري»، وفتيات «أوركسترا كافيه إجبسيان» للطبقة المتفرنجة. وقهوتان للرقص والغناء في «وجه البركة» … أمَّا اليوم فقَدْ أصبح من مستلزمات الطبقة المتوسطة وجود «البار» الأمريكاني في المساكن الخاصة … وأصبح من حقِّ جاري أن يُثير أعصابي بمكرفون … وأصبح المخنَّثون يمشون متشابكين خمسةً خمسةً على الأفاريز! … وأصبحت الأوضاع مقلوبة! … القانون يَهاب الإجرام، والأبُ يخشى ثورةَ الابن، الذي رضَعَ من ثدي الحريَّة الفاجرة! … أمَّا في غير مصر فإنَّ القانون الرقيب على المجتمع، قد أجبر يومًا ممثِّلةً مصريةً كبيرة، كانت تضع ساقًا على ساق في ترام «جنوا» أن تُنزل ساقها، فثارتْ واعتبرتْ هذا الإجبار اعتداءً على الحرية، ولكنَّها اضطرتْ آخرَ الأمر أن تلتزم حدودَ المجتمع الذي تعيش فيه، فأنزلتْ ساقها على مَضض.»

أمَّا الجيل الجديد فتمثِّله رسالةٌ، هذا نصُّها:

«إنني — كأحد أبناء الجيل الجديد — أقول: إنَّه جيلٌ يريد أن يصِلَ إلى إدراك معنى الحياة، وإلى بلوغ أقصى ما يمكن من المعرفة والتقدُّم والرُّقي! … على الرغم ممَّا يرى في تصرُّفاته من تهوُّر واندفاع، لا يقِفُهما عقلٌ، ولا يحدُّ منهما إدراك، حتى صار الناس يُوجسون خِيفة من أعماله، ويَرَون فيه خطرًا عليه وعلى المجتمع! … وما من شكٍّ في أنَّ للجيل الجديد أخطاءً، ولكنْ على مَن تقع التَّبِعة؟ … أليس المسئُول هو الجيل الذي سبقنا؟ … إنه لم يعرف كيف يقود الجيل إلى الشاطئ الأمين … لقد أخافه وأرهبه هذا التطوُّر المفاجِئ في التفكير الإنساني! … فترك له الحبل على الغارب؟ … أهو قد حَارَ بين أن يُقدِم معه، أو يُحجِم عن مجاراته؟! … ومن هنا ظهَرَ تردُّده وضَعفه وتخاذُله … أو أنه قد تجاهل، أو تغافل عمَّا تطوَّرت إليه الحياة العامة؛ فأراد أن يعود به القهقرى، وكانت النتيجة في كلِّ الأحوال أنْ عَصَى؛ لأنَّ الحياة التي نعيشها في هذا العالم الحاضر لا تسمح لحيٍّ أن يمشي إلى وراء، وإلَّا داستْه العجلات السائرة في موكب الحضارة! … إنما الخلاف هو في اختلاف طبيعة الجيلَين: أحدهما يريد التمهل، والآخَر يريد القفز! … وليس هذا بجديد! … هكذا كان الآباء والأبناء في كلِّ زمانٍ ومكان، ولكنَّ الجديد في عصرنا الحاضر — عصر الثورات والانقلابات — هو أنَّ الخلاف في الطبيعة والنظرة قد انقلب هو الآخَر إلى ثورة، ثورة اتخذتْ لها شتَّى المظاهر: في البيت، والمدرسة والعمل والمجتمع! … ولم يعُد من السهل أن نفرِّق في دُخانها بين حدود النظام والحرية، والحقِّ والواجب! … وبهذا اختلطَت الأقدار، وضاعت معالمُ القِيم، وفسدَت العلاقة بين الأجيال، وانفصلتْ حلقاتها! … وانعدم التعاون بينها، وانتهى الأمر إلى ما نرى، من وقوفِ كلِّ جيل موقفَ المُرتاب من الجيلِ الآخَر!»

كلُّ الأزمة إذن هي في هذا الانفصال بين الأجيال!

خرج البنون على آبائهم، وخرج التابعون على قادتهم!

في النظرتَين إذن إنكارٌ لحالة المجتمع، واعترافٌ بأنه قائم على فساد … وليس المهم إلقاء التَّبِعات، وقذْف الاتهامات؛ إنما المهم هو البحث في العلة، وعلاج الداء! … وما من شكٍّ في أن الأفكار تتطور اليوم بسرعةٍ ظاهرة، والحياة تتجدَّد، والمجتمع يتابع كلَّ ذلك على الرغم منه كورقةٍ فوق تيارٍ جارٍ! … وما أظنُّ كثيرين من الجيل السابق يخطر لهم أن يوقفوا عجلة الزمان، أو يُرجعوا عقارب الساعات إلى الوراء؛ فهُمْ متهمُّون أحيانًا بأنهم قد جرفوا في التيار جرفًا، دون أن ينظموا له الجسور والسدود. فالتجديد الشامل في نواحي المجتمع، لم يتمَّ شيءٌ منه في واقع الأمر إلا بإيحاءٍ، أو رضًا، أو تساهُل من الجيل السابق! … ولكنَّ الجيل الجديد يعيش في عصر التغيُّرات الخاطفة، والتطوُّرات السريعة، والاختراعات المفاجِئة، فأصبح لذلك أقلَّ من الجيل الذي سبقه صبرًا وجلَدًا، وأقوى منه رغبةً في كلِّ تغيير، وأعنفَ منه ثورةً على كلِّ ثابتٍ مستقر!

ليس الخلاف بين الجيلين في الحقيقة على مبدأ التطور والتجديد، فالكلُّ مسلِّم بضرورة الانحناء لدواعي التجديد والتطور، ولكنَّ الخلاف الحقيقي في ذلك التصادم — في ضياع الاحترام والثقة — في السير، لا بروح التعاون، بل بروح التحدِّي!

تجاهُل الأجيال

إنَّ انقطاع الصلة بين الأجيال يحدُث أيضًا من ذلك الجهل بطبيعة كلِّ جيل، أو التجاهل لمَا تتطلَّبه تلك الطبيعة! … وها هي ذي رسالةٌ، تصوِّر هذا الجهل، أو التجاهل بين جيلَين:

«يمنعني والدي من قراءة المجلات والجرائد، على اختلاف أنواعها، ولا يقبل مناقشةً في فائدةِ القراءة والاطِّلاع، وكلما أبصر في يدي مجلةٍ مزَّقها! … وهو ينهاني عن مصادقة أيِّ شاب، حتى إن كان مثقفًا، وهو يرتاب في حركاتي وسكناتي، ويخاف عليَّ! … وهو يريد أن أعيش كعابدٍ في صومعة؛ لا يراني الناس ولا أراهم! … إني مشغوفٌ بالقراءة، فماذا أصنع لأُرضي هوايتي وأُرضي في عين الوقت والدي الذي أكِنُّ له كلَّ احترام؟»

هذا والدٌ يريد أن يربِّي ولده كما يربي ذلك النوع من الزهر في بيوت الزجاج! … وأنا لست من علماء التربية للبشر، أو للزهر حتى أبتُّ في هذا الأمر … ولكنِّي أعتقد أنَّ كلَّ كائن إنساني أو نباتي لا يتعرَّض للشمس والهواء والريح والغبار ينشأ رقيقَ التكوين، ضعيفَ البنيان، يحتاج إلى دثارٍ من العناية ليحيا، وإلى جدران من الحيطة ليعيش، ويكفي أن تُحدِث المصادفة في تلك الدروع ثغرةً ذاتَ يوم، لينهار ذلك الكيان عند اللمسة الأُولى! … كلَّا أيها الوالد الخائف! … ليس هذا هو السبيل، حطِّم بيت الزجاج وأخرجْ زهرتك وعرِّضها برفقٍ للشمس والهواء! … دعْ ولدكَ يقرأ ودعْهُ يُصادِق ودعْه يعيش ربيعه!

لا تخشَ لونَ القراءة التي يشغف به ابنك في هذه السنِّ المبكِّرة. إنَّ الطبيعة أعقل منك أيها الوالد، إنها هي التي تغرس الميول في النفوس، وتلوِّنها على حسب الأسنان والأعمار، كما تلوِّن أوراقَ الأشجار!

ففي الشباب يُورق الخيال والشعور والعاطفة! … وفي الكهولة يورق العقل والحكمة والتجارب! … ومن الخطأ أن يتحدَّى والدٌ الطبيعةَ، وأنْ يتغلَّب بغرسه على غرسها، وأن يتطلَّب في ربيع العمر شجرًا قائمَ الجذع، صُلبَ العُود، تحت عَصْف الريح! … ولكنها فيما يظهر قصةُ كلِّ والد؛ إنَّه يحكم على ولده بمزاجه، ويقيس درجة حرارته «بترمومتره»، وكأنَّه لا يستطيع له فهمًا — كما لا يستطيع الشتاء أن يفهم الربيع، فهو يسخر من زهره الأبيض الطاهر، فوق الغصون اللينة المخضرَّة، ويهزأ من طيره الصادح ومن ليله المقمر، ومن نسيمه المعطر، ومن كل تلك الرِّقة التي تُملأ بها الدنيا — ذلك الفصل الربيعي الرقيق! … إنها في نظر الشتاء الصارم ضعف؛ لأنه فصل العنف تتصارع فيه العناصر، وتتعارك القوى! … إنه الحياة في كفاحها الأكبر.

أنا أيضًا وقفتُ هذا الموقف من والدي — رحمه الله — وأنا في الثانية عشرة من عمري! … كنتُ أرهب أيام الجُمَع؛ لأنها الأيام التي يفرغ فيها لي، يناقشني فيما أقرأ، وكان يتخير لي هو نوع الكتب التي يجب في عُرفه أن أقرأها! … وكان أخفَّها وطأةً كتابٌ يحوي «المعلقات السبع»، ضُربت بسببه أوجعَ الضرب؛ فقد كان والدي لا يكتفي مني بالحفظ عن ظَهْر قَلْب، بل يريد منِّي أن أشرح له أبيات ذلك الشعر الجاهلي في تلك السنِّ! … وكنت إذا عجزتُ عجب لجهلي وحمقي، ثم استشاط غيظًا منِّي — مدفوعًا ولا ريب بالخشية على مستقبلي الضائع — وإذا يده تتناول وجهي بالصفع الثقيل، فلا تتركني حتى يسيل الدم من أنفي، وهو يصيح بي: يا جاهل! يا غبي! … أيوجد أسهلُ من هذا البيت لزُهير بن أبي سُلمى! … هذا السهل الممتنع يا أحمق!

ومَن لم يُصانعْ في أمورٍ كثيرةٍ
يُضرَّسْ بأنيابٍ … ويُوطَأ بمنسِمِ

ثم يهزُّ رأسه إعجابًا بالحكمة التي ينطوي عليها هذا الشِّعر! … حقًّا هذا شِعرٌ خليقٌ أن يقدِّره والدي الذي حنَّكه الدهر، وعرف من تجاريبه حقيقةَ كلِّ كلمةٍ في هذا البيت، ولكنَّ الذي يُدهشني الآن هو: كيف غاب عن والدي وقتئذٍ أنَّ مثل هذا البيت لا يمكن أن يتصوَّر حقيقته ذهنُ غلامٍ في الثانية عشرة؟

أتُرى كان المقصود أن أشرح البيت شرحًا محفوظًا، كما أُلقيه إلقاءً محفوظًا؟! … وما قيمةُ ذلك؟ … إنَّ هذا لا يرفعني عن الببغاء إلا مرتبةً بسيطة! … ولكنَّ المقصود — فيما أعتقد — أن يشرح الإنسان المعاني شرحًا محسوسًا، بكلِّ شعوره، وكلِّ إدراكه، وكلِّ إحاطته الشخصية لمَا يشرح ويفسِّر! … في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يُطلب إلى غلامٍ أو شابٍّ أن يفسِّر إلا ما تستطيع تجاريبُ سنِّه أن تُلمَّ به من مدارك وإحساسات!

من أجل ذلك يجب على الوالد والمدرسة تجنيب الغلام أو الشاب ذلك النوع من الكذب على نفسه وعلى غيره؛ بتلقينه تفسيرات «موضوعة» لأشياءَ لا تُدركها سنُّه!

لهذا أيضًا يحسُن بالوالد والمدرسة تمكين الصبيِّ أو الشابِّ من قراءة ما يُناسب سنَّه من ألوان القراءات!

ولا تقلق أيها الوالد، ولا تظنَّ ابنك — وهو اليوم غارقٌ في هذه المطالعات التافهة اليسيرة — سيظلُّ سائرًا منساقًا في تيارها إلى آخر العمر! … إنَّ تيار الحياة هو الذي يغيِّر لون المطالعات، وأنت نفسك أيها الوالد الذي تقرأ اليوم كتب الفلسفة أو مقالات السياسة والاقتصاد، أو تتغنى بالتاريخ أو بالأدب الرفيع أو بعلم النفس أو بعلم الرياضة، كنت في صباك مشغوفًا بقصص «روكامبول» أو «أبي زيد الهلالي»! … ولكنَّك لا تذكُر ذلك العهد؛ كأغلب الآباء! … ويخيَّل إليك أنك لم تقرأ قصةً قَط؛ لأنَّ حياتك اليوم تدفعك في مجرًى بعيدٍ عن حياة الخيال، وبدا لك عقلك، وكأنه لم يعُد يُطيق هضْمَ القصص!

أيها الوالد! … اترك ولدك لسنِّه! وافهمْ طبيعة جيله!

حرمان الأبناء

كمْ سعدنا في طفولتنا الجميلة بشهر «رمضان»، وكَمْ شقينا أيضًا! … مَن ذا الذي لا يذكُر خفقةَ قلبه الصغير، في صباه، وهو أمام حانوت «السمكري»، يقلِّب أنظاره الشائعة، وأبصاره الزائغة، في مختلف «الفوانيس» بزجاجها ذي الألوان؟ … ما أبهجَ ذلك الفانوس الأصفر الأخضر الأحمر المعلَّق في القمَّة! … ولكنَّ ثَمَنه، ولا شك، باهظ! … تُرى هل يرضى الأهل ببذل هذه التضحية من أجله؟ إنه على كلِّ حال لن يُكلِّفهم شططًا، ولكنه سيُفعِم قلبه بسرورٍ لن يقدِّر الكبار مداه أبدًا! … ما أقسى الكبار أحيانًا! … إنهم قد يضِنُّون ببضعة دراهمَ لن تُغنيهم، هي الفرق بين لعبةٍ ولعبة! … ولكنَّها — في الواقع — هي الفرق بين سعادةٍ وسعادة! … ما أشدَّ نسيان الكبار! … لقد كانوا كلُّهم صغارًا في يومٍ من الأيام! … لماذا لا يذكُرون في ذلك العالم السحري العجيب، الذي تتفتَّح للأطفال أبوابه الذهبية فجأةً كلما أرادوا الحصول على شيءٍ من تلك الأشياء التي يحلمون بها؟! … عالم من هناءٍ سماوي، لن يُتاح لأحدٍ غيرهم أن يعيش فيه بهذا الثَّمَن الزهيد بعد أن يُجاوز أعمارهم! … لو تذكَّر الكبارُ ذلك العالم الذي أُغلقتْ دونهم أبوابه بخروجهم من طور الطفولة لمَّا ضنُّوا على أولادهم بشيء! … فهم الآن وفي أيديهم القدرة، وفي جيوبهم المال، لن يستطيعوا فتْحَ كوَّة في ذلك العالم مهما يشتروها بثروة الدهر وذخر العمر … ما أعجبَ تلك المعجزةَ التي يسمُّونها الطفولة! … فيها تستطيع أن تدخل الفردوس الذي لن تدخله بعد ذلك أبدًا بقُروش معدودات! … سلْ كلَّ صاحب ملايين في أمَّة من الأمم: هل في مقدورك أن تشتري اليوم بملايينك لحظةَ سعادة؛ كتلك التي تشتريها في صِباك بدِرهَم أو درهمَين؟

أرأيتم يا ملوك المال؟ … تلك ملايينكم قد تضاءلت أمام ثروة طفل! … وذلك ذهبكم قد تحوَّل إلى تراب أمام كنوز الطفولة!

هنالك، مع ذلك، مشكلةٌ تحتاج إلى تفكيرٍ وتدبُّر:

إذا كانت لك القدرة على إشباع رغبات طفلك وتحقيق أحلامه فهل تفعل أو تتمهَّل؟ … هل من مصلحة الطفل أن تَروي كلَّ رغبته، أو أن تُبقي فيه بعضَ ظمأٍ لم ينطفِئ؟

أقول ذلك لأني لم أظفر في طفولتي بكلِّ ما كنتُ أتوق إليه من لعبٍ، وأصبو إليه من أشياء … فكنتُ أخلقها لنفسي بخيال مشبوب، وكان من أقراني وجيراني من يملك لعبًا نفيسةً عجيبةً تملأ حُجرته، وتملؤني دهشةٌ، أقف بينها مشدوها، وأحملق فيها معجبًا، وألمسها مكبرًا! … وصاحبها الصغير يعبث فيها بيده الصغيرة محطمًا ومحقرًا! … كنت ولا ريب أُدرك قيمتها أكثر منه، وأرى فيها أشياءَ باهرةً لا تراها عيناه؛ وكأنَّ كلَّ لولب فيها، أو لغز أو مفتاح؛ يحرِّك كلَّ مخيِّلتي، ويهزُّ كلَّ واعيتي! … كلُّ ذلك؛ لأني لا أملكها، ولا أستطيع أن أحصل عليها!

تُرى، يا علماءَ التربية، ما الواجب أن يُتبع في تنشئة الطفل؟ … تلبية ندائه أو صمُّ الأذن أحيانًا عن مطالبه؟ الأذن أحيانًا عن مطالبه؟ … منحه لذة الامتلاك، أو تعريفه بمرارة الحرمان؟

إذا جاء «رمضان»، وتطلَّع إلى الفانوس المُزركَش المُبرقَش في قمَّة الدُّكان، فهل تترك خياله معلقًا به، وأحلامه تهتزُّ معه، وتبتاع له الفانوس الآخر، أو تأتي له بالأول، تُضيء زجاجه وشمعته، وتُطفئ خيال الطفل ولوعته؟!

صُنع الأجيال

يؤكِّد عالِمٌ «بيولوجي» أمريكي أنه — في خلال خمسة أعوام — سيصبح في مقدور كلِّ زوجين أن يختارا نوع المولود الذي يريدانه … فمَن شاء مولودًا ذكَرًا جاء له ذكر، ومن شاء الأنثى جاءت له الأنثى!

إنَّ العلم يريد أن يضع في يد الإنسان مفتاحًا رهيبًا، من مفاتيح الطبيعة الحكيمة! … العلم! … هذا النهم الذي يسكن رأس الإنسان، ويدفعه إلى نَيل ما لا ينبغي له أن يُنال! … لكأنِّي بالطبيعة — هذه الأم الرحيمة — وقد لمحتْ يدَ طفلها الإنسان، تمتدُّ خلسةً إلى وسائدها؛ لتجذب من تحتها المفتاح، تهبُّ قائلةً لنفسها مرتابةً قلِقة: أيها الأحمق! … تريد أن تصرف كلَّ أمورك بيدك؟ … أخشى ألَّا تكون على ذلك قديرًا، ولا به جديرًا! … إني أدبِّر لك شأنك، متحلِّلةً من كلِّ نزواتك، مرتفعةً عن كل صغائرك … أرى مصيرك لا في نطاقه الفردي المحدود، بل في علاقته بمصاير غيرك من الأحياء! … إنك ستندم على هذا النَّزق يومًا!

وكأني بالإنسان يقول للطبيعة بلسان العلم: لم أعُد طفلًا، ما دمتُ قد عثرت على مفتاحكِ؛ فإني أهلٌ لأخذه واستخدامه!

فتهمس الطبيعة: كلُّ الأطفال يقولون ذلك! … ويمضون بالمفاتيح إلى الخزائن الممنوعة؛ بحثًا عن الحلوى أو المتعة فيُبعثرون ما فيها، ويُلقون الاضطراب في نظامها! … افعل ما شئتَ، وسنري منك ما يكون!

•••

ولن يكون غيرُ أمرٍ واحد: ما إنْ يعلم الناسُ أن في الإمكان اختيار نوعِ الولد، دون أن يتكلَّفوا أكثر من جرعة دواء، بقليل من المال، حتى يندفعوا كلُّهم أفواجًا إلى الصيدليات، يطلبون الدواء الذي يُنجب لهم المولود الذَّكر! فما يمضي جيلٌ حتى نرى الدنيا قد زخرت بالذُّكور!

وتظهر عند ذاك مشكلةٌ عالمية: هي البحث عن الأنثى!

وقد تقع المعارك والحروب بين الرجال من أجل المرأة؛ كما وقعت حروب «طروادة» من أجل «هيلينا».

عندئذٍ تنقلب الكفَّة فجأةً، ويندفع الناس من جديد إلى مخازن الأدوية، يطلبون الدواء الآخر الذي ينجب الإناث! … فلا يمضي جيل، حتى نرى الدنيا قد زخرت بالنساء!

وتظهر مشكلة البحث عن الرَّجُل — فيعود الاندفاع إلى المخازن والصيدليات طلبًا له … وهكذا دَوالَيك — حتى يحدُث نوعٌ من التوازُن بعد أجيال!

ذلك أنَّ هذا الطفل الإنساني الكبير غيرُ قديرٍ على أن يقرَّ التوازن في شئُونه إلا بثَمنٍ باهظ من الجهد، وبعد زمنٍ طويل ينقضي في الاضطراب بين النقائض، والترنُّح بين الأضداد!

•••

هذا فرضٌ قائم على حُسن الظنِّ بالإنسان، وعلى أنه يستطيع بنفسه — آخِر الأمر — أن يسيطر على نزعاته ونزواته … وأنه في إمكانه أن يحلَّ محلَّ «الطبيعة» في تنظيم ملكاته … ولكنَّ هنالك فرضًا آخر يقوم على عجزه وإخفاقه! … هنا لا نرى مناصًا من تدخُّل «الطبيعة»! … هذه الأم اليقِظة الصابرة، لا يمكن أن يبلغ بها التغاضي والتسامح حدَّ الإهمال! فهي ما تكاد تلمح العبث من طفلها، قد انتهى إلى الحدِّ الذي يُفسد النواميس، حتى تنهض مسرعةً إليه، تُمسك بزمام الأمر بيدَيها؛ لتقرَّ النظام في نصابه بطرائقها، وتعيد التوازُن إلى حاله بأساليبها!

فإذا كان عدد الذكور قد طغى طغيانًا لا سبيل إلى كسر شِرَّته؛ أيقظَت «الطبيعة» الفتن، وأقامت الحروب، فحصدتْ بنيرانها ما لا بد أن يُحصد من هذا المحصول الفائض! وإذا كان تعدادُ الإناث هو الغالب، أشاعت الإباحية، والأوبئة، والثورات الاجتماعية؛ فأخمدت بموجاتها ما لا بد أن يُخمد من هذا الفوران الزائد!

وعند ذلك يتمُّ لها النصر، وتقنع من الإنسان بهذا الدرس، فلا تريد منه إلا أن يشعُر بغروره، ويعترف بنَزَقه، ويسمع همْسَها وهي تحنو عليه باسمةً، غافرةً، مُشفِقة: أشبعتَ لعبًا؟! … ألَا يحسُن بك الآن يا بنيَّ أن تدَعَني أتولَّى أمرك؟!

أجيال الطبيعة

يقول المفكِّر الصيني «يوتانج»: إنَّ من الناس مَن يرفض أن ينتج ذريَّة! فهل تستطيع الأشجار أو الأزهار أن ترفض إنتاج البذور التي تكفُل استمرار البقاءِ لنوعها؟ … إنَّ مشكلة العصر الحاضر هي أنَّ كثيرًا من الناس لا يتزوَّجون، وأنَّ كثيرًا ممَّن تزوَّجوا يرفضون إنتاج الذريَّة لأسبابٍ شتَّى: كارتفاع مستوى المعيشة، وازدياد تكاليف الحياة، ومشقة الكدح في سبيل الرزق! … لكنْ ما من سببٍ من الأسباب، ينبغي — في نَظَره — أن يحول دون قيامِ البشرية بواجبها الطبيعي الذي تقوم به الشجرة والزهرة!

هذا قولٌ حقٌّ! … لكنَّ هنالك فرقًا، في رأيي، بين الشجرة أو الزهرة، وبين الإنسان! … إنَّ الشجرة لا تفكِّر في معارضة القوانين الطبيعية … إنَّها لا تنسى أبدًا أنَّها جزءٌ من الطبيعة ذاتها، وأنَّها عندما تُنتج البذور تترك للحياة مهمَّة فرزِ الصالح من الطالح ولا تتعجَّل النتائج، وتَدَع للزمن حرية العمل، يُنضج من الأنواع ما يُنضج، ويُميت منها ما يُميت، ويُضحِّي بمئات الآلاف، أو آلاف الملايين؛ ليُخرج فصيلةً ممتازة رائعة كاملة بعد حين!

أمَّا الإنسان فأمره مختلِفٌ … إنَّه حيوانٌ يفكِّر أو نباتٌ يعقل … وعملُ العقل والتفكير هو استخراج مبادئ واستنباط قوانين … وهذه القوانين والمبادئ كثيرًا ما تُعارض قوانين الطبيعة … ذلك أنَّ الإنسان العاقل يضع مبادئه في نطاق زمنه المحدود … ولكنَّ الطبيعة تضع مبادئها في نطاق زمنها غير المحدود … ومن هنا ينبع سوء التفاهم بين الطبيعة والإنسان في أغلب الأحيان؛ فأكثر الذين لا يتزوَّجون قد اتَّخذوا هذا القرار، بناءً على مبدأ من مبادئ العقل الذي يُزيِّن لهم الحرية الفردية، ويجعلها في صورةٍ مغرية من صُور السعادة الإنسانية! … هذا الرَّجلُ الفردُ المحلِّق كالعصفور — بغير عشٍّ في كلِّ الأجواء — لا يخشى الغد، ويتحدَّى الأنواء! … ما أسعده في وحدته وراحة باله وعدم مسئوليته! ويظلُّ هذا الرَّجُل في الحياة يصفق بجناحَيه لا يُظلُّ بهما أحدًا … إلى أن يموت بردًا بغير عشٍّ، أو يمضي راضيًا بغير ندم! … وهكذا ينتصر العقل على الطبيعة!

وإمَّا أن يشعُر العصفور أنَّ التحليق في الهواء لا يمنحه الحرية؛ بل يمنحه التَّيَهان، وأنَّ سعادته ليست في نشر الجناح على الهواء بل على بيتٍ وقرين! … عندئذٍ تنتصر الطبيعة على العقل، ويتزوج الرَّجُل، غير أنَّ العقل لا يتركه وشأنه؛ بل يعود إليه ليضع له المبادئ، ويسنَّ له القوانين، ويقول له: إيرادك صغير، فلا تُنجب أو أنجبْ طفلًا! … أو إيرادك متوسط؛ فأنجبْ طفلَين! … ويُصغي الرَّجُل إلى قوانين عقله، ولا يُصغي إلى قوانين الطبيعة!

قانون عقله يريد وصْلَ الإيراد بالذريَّة، وقانون الطبيعة لا يرى صلةً بين الإيراد وبين الذريَّة … العقل الإنساني المحدود يريد أن يحبس نتائجَ النسل الآدمي في نطاق الزمن الآدمي القصير، وفي حدود التكاليف المالية والمعاشية!

وعقل الطبيعة — غير المحدود — لا ينتظر نتائج هذا النسل إلا بعد أجيالٍ تتعاقب فيها الدول وتتغيَّر النُّظم!

وهنا السرُّ في أنَّ الإنسان الفطري يُنتج من الذريَّة كثيرًا! … والإنسان المتعلِّم يُنتج منها قليلًا! … ذلك أنَّ الإنسان الفطري أكثر مقاومة لعقله واندماجًا في الطبيعة وخضوعًا لقوانينها، ولكنَّ الإنسان المتعلِّم أكثر مقاومةً للطبيعة وخضوعًا لعقله!

الإنسان الفطري هو وحده الذي ينطبق عليه قول المفكِّر الصيني! … وهو وحده الذي مثله مثل الشجرة والزهرة، يُنتج وينسل بلا تفكير، وعلى الطبيعة أن تفرز إنتاجه الصالح من الطالح، وتُبقي القوي وتُميت الضعيف، وهو يتقبَّل حُكْمها باستسلامٍ وإذعان!

أمَّا الإنسان المتعلِّم فلا يقبل حُكْم الطبيعة في ذريَّته! … إنه هو الذي يريد أن يقرِّر بنفسه مصايرها، ويوجِّهها في الحياة تبعًا لبرنامج يضعه بعِلمه، ويرسمه بعقله!

إنَّها الحرب إذن بين الإنسان المتعلِّم المفكِّر، وبين الطبيعة!

وما دامت الحضارة تقلب كلَّ إنسان إلى متعلِّم مفكِّر؛ فلا بد أن تتَّسع هُوة الخلاف بين الطبيعة والإنسان إلى حدٍّ نرى فيه النسل يومًا يكثُر أو يقلُّ تبعًا لبرنامج رسمي تضعه الدولة وتطبقه على الأفراد!

على أنَّ الحضارة الحقيقية في نظري ليست تلك التي تُخالف الطبيعة؛ بل تلك التي تصاحبها وتهذِّبها، تلك التي تُتيح للدولة أنْ تقول لأفرادها: «تناسلوا كما تشاءون، ولا تخشوا شيئًا؛ فكلُّ نِتاجكم هو خيرٌ لي وللبشرية، وسأكفل له التعليم، والتمريض، والتنشئة، والإعداد، وتوجيه المواهب، وتوفير، العمل …!»

إذا تمَّ هذا؛ فإنَّ الحضارة عندئذٍ تسير في اتِّجاه الطبيعة وتعمل معها، وتصبح منها في موضع البستاني تجاه الشجرة أو الزَّهرة … ذلك البستاني الذي يقول للشجرة: «أنْتِجي وأثْمِري، وأنا أتعهَّد …!»

تنوُّع الأجيال

في سورة «هود» من القرآن الكريم آيةٌ، قلَّ مَن فَطنَ إلى مراميها البعيدة، تلك هي:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.

مهما يكُن من أمر التفسيرات التي شُرحت بها هذه الآية، فإنه يبدو لي أنَّ في جوفها وميضًا ينمُّ أحيانًا عن أسلوب الله في خلق الكون … فذلك الاختلاف بين الأجرام في الأحجام هو سرُّ تجاذُبها وتماسُكها وتعاونها. ولو أنَّ الله جعَلَ الأجرام حجمًا واحدًا، وشبهًا واحدًا في كلِّ العناصر والأوزان والصفات؛ لانفرط عِقدها، وانحلَّ رباطها … أمَّا في مجال أرضنا وسكَّانها من الآدميين؛ فإن قانون الاختلاف له مثل هذه الضرورة واللزوم! … ولقد قرأتُ أخيرًا للمفكِّر الإنجليزي «جون هادهام» فخيِّل إليَّ أنَّه يُكتب بوحي من تلك الآية القرآنية هذه السطور: «لو أنَّ كلَّ بلدٍ كان له من الهيئة ومن الموادِّ الخام ما لسائر البلاد؛ لكان كلُّ بلدٍ يستطيع الحياة مستقلًّا تمام الاستقلال عن جيرانه، ولكنَّ الله نَظمَ خريطة الدنيا على نحوٍ يجعل كلَّ بلدٍ في حاجة كبيرةٍ أو صغيرةٍ إلى كلِّ بلد!» … وهذا القول يصدق أيضًا على الشعوب، فكلُّ شعب قد جعلت فيه مزيَّة يستطيع بها أن يُضيف شيئًا إلى مجموع الشعوب، وكلُّ شعب مدين للشعوب الأخرى بشيء يعوزه في إنتاجه أو ينقصه في تركيبه!

وما يُقال في شعبٍ يُقال في الأفراد الذين يتكوَّن منهم؛ فما من مجتمعٍ صحيحِ البنيان إلا كانت صحَّةُ بنيته ناتجةً من أفراد لا يتشابهون في نوع العمل واتجاه التفكير؛ لأنَّ تلك الصحة إنما قِوامها تلك المساهمة التي يؤدِّيها إلى المجموع كلُّ فردٍ بعمله الخاص، وتجاربه الشخصية، ومزاجه المختلف عن سواه، وطبيعته ونظرته! … وهل نستطيع أن نتصوَّر قيامَ مجتمع، يتكوَّن من أفرادٍ كلُّهم متشائمون في النظرة، أو كلُّهم متفائلون، وكلُّهم ذوو حرصٍ، أو كلُّهم مهملون؟ … وكلُّهم شعراء، أو كلُّهم مهندسون، أو كلُّهم خطباء؟!

•••

وإذا أردنا أن نكمل الصورة، فلْنهبط إلى الأعضاء في جسم الفرد! فالصحة في جسم الفرد قِوامها أيضًا ذلك الاختلاف في وظائف الأعضاء! … فالرأس يفكِّر، والقلب يشعُر، واللسان ينطق، والأذن تسمع، والقَدَم تسير! … وإنَّ هذه الصحة لتنهار يوم نرى كلَّ هذه الأعضاء تترك وظائفها المختلفة، وتتَّجه كلُّها إلى وظيفةٍ واحدةٍ متشابهةٍ للجميع، وهي التفكير! … نعم، ماذا يكون حال الجسم لو تمرَّد القلب، واللسان، والأذن، والقَدَم وقالت كلُّها: لن نشعُر، ولن ننطق، ولن نسمع، ولن نسير! … نريد كلُّنا أن نكون مثل الرأس، فلا نصنع شيئًا سوى أن نفكِّر؟! … معنى ذلك ولا ريب هو شللُ الجسم كلِّه وسقوطه في مكانه، لا يتحرك، ولا ينطق ولا يشعُر، ولن يُغنيه تفكيره شيئًا!

أسلوب الله في خلقه، يبدو إذن من ذلك الاختلاف: في الصفات، والهيئات، والسمات! … هنا سِر التناسُق في الخليقة؛ أيْ سِر تضامنها: فأعضاء الجسم متضامِنة في العمل؛ لأنها مختلفة في الوظيفة، ولو أنها تشابهتْ في الوظيفة لمَا تضامنتْ فيما بينها، ولاستقلَّ في الحال كلُّ عضوٍ عن كلِّ عضو، وبهذا الاستقلال يتفكَّك الجسم ويتفتَّت الفرد!

•••

فإذا انتقلنا إلى مجالِ الرأي، وَجَدنا أنَّ اختلاف الآراء في المجتمع البشري ضرورةٌ من ضرورات الطبيعة، أيْ مَظهَر لإرادة الله! … وهنالك فرقٌ بين الاختلاف في الرأي، والاختلاف في العقلية؛ فقَدْ تتشابه العقلية في شخصَين، ويختلف الرأي بينهما!

والمجتمع السليم يجب أن يقوم على قَدْر من الوحدة والانسجام في عقلية الأمة، وأجيالها ومقوِّمات شخصيتها العامة؛ دون أن يؤثِّر ذلك في اختلاف الآراء فيها! … فلا ينبغي أن يشطَّ بنا غرورنا الإنساني؛ فنعتقد أنَّ ما يجول في رأسنا من رأي، يجب أن يسود الناس أجمعين! … ما من رأيٍ واحد يمكن أن يسود هذه الأرض!

إنَّ العالم اليوم منقسمٌ إلى معسكرَين ورأيَين، كلٌّ منهما يريد أن يمحو الآخر من الوجود محوًا: الرأسمالية في جانب، والشيوعية في جانب. وكلٌّ منها يعدُّ من الذرَّة قنبلةً، يُزيل بها خصمه من خريطة الدنيا! … وقد تقع الحرب الفاصلة بينهما، في يومٍ قريب أو بعيد!

ولكن الذي لن يقع، هو وحدة الرأي في هذا العالم، حتى وإنْ ظَفرَ أحدُ الجانبَين بالانتصار الساحق الماحق! … ذلك أنَّه — في تلك اللحظة عينِها — لا يلبث أن ينقسم هذا الرأي الواحد المُنتصِر إلى آراء تختلف وتشتجر! … وهكذا دَوالَيك! … لأنَّ هذا ناموسُ الخالق الأزلي:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.

مبدأ الأجيال القادمة

الدنيا مركبةٌ زاهيةُ الألوان، مذهَّبةُ الحواشي، مُطهَّمة الخيول، سائقها الشيطان!

هذا السائق اللَّبِق يعرف دائمًا كيف يخاطب الرَّكب! … إنه لا يجهل حُب الناس للخير، أو التظاهر بحُب الخير … فهو يتحاشى أن يخاطبهم بلسانه الحقيقي! … لقد ابتدع لهم لغةً بارعةً برَّاقة، يقطر منها النُّبل والسموُّ!

فهو ينحني بجوار باب مركبته، حتى تكاد جبهته تمسُّ الأرض تواضعًا، ثم يفتح الباب، ويقول للناس: هلمُّوا اصعدوا، أوصلكم إلى أنبل الغايات!

فيصعدون: بعضهم عن إيمان، وبعضهم عن غرض، وبعضهم عن تورُّط! … أمَّا صاحبُ الإيمان فيقول في نفسه: الدنيا بخير! … وأحمَدُ الله أن أتاح لنا هذا السائق الطيِّب، يذهب بنا إلى ما نؤمن به من غايةٍ شريفة!

وأمَّا صاحبُ الغرض فيقول: ليس يعنيني الجهة التي يذهب بي إليها هذا السائق، ولكنَّ الذي يهمُّني هو أن أصعد إلى جوار هؤلاء الناس المؤمنين الشرفاء!

أمَّا المتورِّط فيقول: لم يكُن في نيتي الركوب، ولكنْ ما دام الناس من حولي يصعدون كلُّهم مع هذا السائق، فما الذي يُبقيني أنا من دون الناس؟!

ويُغلق السائق على الجميع باب المركبة وهو يبتسم ويقفز إلى مكان القيادة، ويُمسك بالأعنَّة، ويُلهب بالسوط ظهور الجياد! … فإذا المركبة تنطلق كالمجنونة تُسابق الرياح!

•••

ولا يمضي قليلٌ حتى يشعُر الرَّكب برجَّاتٍ عنيفة، تكاد تحطم المركبة، وتُصيبهم بالدُّوار، وتُلقي بعضَهم على بعض! … عند ذاك ينظُرون من النافذة؛ فإذا هم يتبيَّنون أنَّ السائق قد ترك الطُّرق السويَّة، وانحرف عن السُّبل المستقيمة، ونزل بالمركبة يخبُّ في السكك الوعِرة، ويخوض في المسالك المُوحِلة!

فيصيح به أصحاب الإيمان مُرتاعين: ويلك! … مهلًا … ما هذا الطريق الذي تخوض بنا فيه؟!

فيلتفت إليهم السائق، قائلًا بخبثٍ مستتر: هو أقصر الطُّرق!

فيقول المؤمنون: ولكنه ليس نظيفًا!

فيجيب السائق: المهمُّ الغاية التي تقصدون إليها! … ما دامت الغاية نبيلة؛ فلا تنظُروا إلى الطريق!

ويعود إلى سوطه يُلهب به خُيوله؛ فتندفع المركبة في وِجهتها، تاركةً الرَّكب المؤمن في داخلها، ينظُر بعضهم إلى بعض متسائلين: أحقًّا يجدُر بنا أن نسير في هذا الوحل والطين من أجل الوصول إلى غايتنا الشريفة؟!

ويشترك في الحديث غير المؤمنين، من هواةِ التظاهر والمتورِّطين، فيقولون: ما دام هذا هو أقصر الطُّرق للوصول، فما الضَّرر؟

فيصمت أصحاب الإيمان، وقد أسلموا أمرَهم إلى الله، وهم ما أسلموه في حقيقة حالهم إلا إلى الشيطان!

•••

تلك هي مركبة الدنيا من قديم منذ سلَّم فيها الجميع بمبدأ «الغاية تبرِّر الطريقة!»

أخطر مبدأ عرفتْه أجيال البشرية المتعاقبة! … هذا المبدأ وحده هو المسئول عن كلِّ هذه الكوارث التي حاقتْ بالعالم حتى عامنا هذا جيلًا بعد جيل!

كلُّ ساسةِ العالَم وقادة الشعوب، في الأمس واليوم، وفي الغد أيضًا، ولا ريب، يسيرون على هذا المبدأ. مخدوعين بالوهم أنَّه أقصرُ طريق؛ للوصول إلى غاياتهم التي قد تكون في بعض الأحيان نبيلة، ولكن الذي يحدُث دائمًا هو ما يحدُث لرَكبِ المركبة التي يقودها الشيطان! … إنهم لا يظفرون إلا بالطريق الموحِل، أمَّا الغاية فلا تظهر لهم أبدًا في الآفاق!

ذلك أنَّ الطريق المُلتوي القذِر، لا يُوصل أبدًا إلى الخير ولا إلى الشرف! … إنَّ الغاية النبيلة ليست من الضَّعة حتى تقبل أن يوصَل إليها بطريقٍ غير نبيل! … إنَّ الطريق إلى الشَّرف هو الشَّرف نفسُه، ولا شيء غير ذلك!

والخير هو في ذاته الطريقة والغاية؛ لأنَّه شعاعٌ من أشعة الله، والله تعالى غاية، لا بد أن يكون طريقها نورًا وخيرًا!

فلو اتَّفق قادة العالم المجتمعون حول موائد السلام، وقادة الشعوب والمجتمع والفكر الباحثون في مستقبل الإنسانية على أن يحطِّموا أولًا مبدأ «الغاية تبرِّر الوسيلة.» لجاءت النتائجُ باهرة! … فإنَّ مناورات الساسة ستختفي، وأساليب الكذب والمُداراة والنِّفاق والخداع ستزول، ولن يبقى أمام الجميع غير طريقٍ واضحٍ نظيف! … إذا أوصلنا إلى الخير العام؛ فهو الهدف. وإن لم يوصلْنا إلى إصلاحٍ سريع؛ فحسب العالم أنَّه سار في طريقٍ خالٍ من الشَّر والقذَر! وإذا لم يكُن هذا الطريق النظيف هو في ذاته إصلاحًا وخيرًا، فلن يعرف العالم الإصلاح والخير عن طريق التدمير والشر!

هل لنا أن نأمل، في الأجيال الجديدة، ظهور مبدأٍ جديد، يتَّخذه العالم كلُّه دينًا وعقيدةً ويكون شعاره:

«الغاية النبيلة في الطريق النبيل!»

شبَحُ جيل

ذهبتُ إلى شارع «بلبور»، ذلك الحي النائي من أحياء «باريس» — حيث كنتُ أُقيم بعد الحرب العالمية الأُولى — فماذا وجدتُ؟ … وجدتُ الشارع الضيِّق كما كان، ووجدتُ حُجرتي، كما كانت، مفتوحةَ النافذة على الفضاء الواسع، وأعترف أنِّي تأثرتُ، وشعرتُ برجفة؛ فقد خُيِّل إليَّ أنِّي أرى شخصًا في النافذة، شخصًا أعرفه، شابًّا نحيلَ الجسم، أسودَ الشَّعر، يُرسل البصر إلى الأفق البعيد، كأنما يريد أن يهتك حُجب الغيب؛ ليطالع ما خُط في لوح قدَرِه! … ولكنَّ القدَر — فيما يبدو — ما كان قد خطَّ حرفًا واحدًا في اللوح! … إنما وقَفَ مُمسِكًا به ينتظر — ينتظر الرسم الذي خطَّه الشابُّ لحياته! … نعم، لقد كان ذلك الشابُّ قد وضَعَ لحياته شِبه «خريطة» واضحة المعالم، دقيقةِ التفاصيل! … كان قد طرَحَ في مصر مهنة المحاماة والقانون؛ ليَمضي في حَمْل القلم، ويقول للناس أشياءَ، يعتقد أنَّها قد تنفعهم! … وما كان يريد غير ذلك، ولا يطمع من حياته في غير ذلك — فلا الجاه العريض كان يُغريه، ولا مفاتن الحياة كانت تستهويه، ولا الثراء كان يجذبه أو يقنعه أو يُرضيه!

وعندما يضع «إنسان» لحياته خطة، فإنَّ «القدَر» أحيانًا يأخذ وينفذ!

لذلك تقدَّم «القدَر» فيما يظهر، إلى الشابِّ وتسلَّم منه الرَّسم، ونقله إلى لوحه وهو يهمس باسمًا: ما دمتَ أنت «المهندس» الدقيق لبناء حياتك، فلن أكون أنا غير «المقاول» المنفِّذ الأمين!

ولقد برَّ «المقاول» فعلًا بالوعد … وأتمَّ العمل … وأقام البناء طبقًا للرسم … لا أكثر ولا أقلَّ.

•••

وددتُ لو أستطيع أن أسأل ذلك الشاب الذي تخيَّلتُه في النافذة: أيُعجبك هذا البناء؟!

لم أتلقَّ بالطبع جوابَ ذلك الشابِّ! … ولستُ أدري بماذا كان يُجيب في مثل سنِّه؟ … ولكنِّي سمعتُ الجواب من أعماق نفسي أنا: لا … لا يُعجبني.

وهنا … خيِّل إليَّ أنِّي أسمع «القدَر» يقول بنبرةِ تهكُّم: الذنب ليس ذنبي … لقد نفَّذتُ ما تسلَّمتُ … إن كان هناك عيبٌ؛ فهو عيب الرسم!

فقلتُ له في الحال: اطمئنَّ … ما من أحد يتَّهمك أنت … ما من شكٍّ في أنَّ المسئُول هو ذلك المهندس «الغشيم»!

فقال مزهوًّا: عندما يترك لي، أنا القدَر، مهمَّة الرَّسم، فإنِّي أفعل المعجزات؟

فقلتُ له: بالتأكيد … ولكنْ ماذا تقول في أولئك الأغرار الذين يتصدَّون للهندسة ووضع الخرائط، فيحبسون حياتهم داخل رسمٍ خيالي … لا يستطيعون منه خروجًا أبَدَ الدَّهر؟!

فقال: مهما يكُن خيال الإنسان فهو لن يُطاول خيالي! … أستطيع أن أدُلَّك على عشرة تعرفهم، ولا شكَّ أنَّهم اليوم من أصحاب الملايين. أحدهم كان حُوذيًّا في عرَبَّة نَقْل، والآخر بائعًا جائلًا من باعة «الخردوات»، والثالث عاملًا في حانوت فواكه … وهلمَّ جرًّا … ما من واحدٍ منهم وضَعَ لحياته خطة، أو تخيَّل لمصيره رسمًا! … تركوا كلُّهم لي أنا مهمَّة الرَّسم، وعهدوا إليَّ بهندسة بناء حياتهم فصنعتُ لهم ما لم يخطر لأحدٍ منهم على بال!

فقلت له: ماذا صنعتَ لهم؟

– أقمتُ بناء حياتهم، على أعمدةٍ من الذَّهب!

– أعطيتَهم المال؟!

– نعم … أغرقتُهم في المال!

– نعم! … أغرقتَهم!

قلتُها هامسًا، وأنا أهزُّ رأسي، تلك الهزَّة الطويلة التي تطوي التهكُّم المستتر! … فقال «القدر»: ماذا تقصد؟ … ألَمْ أُعطِهم أكثرَ ممَّا كانوا ينتظرون؟

فقلت على الفور: هذا صحيح؛ لأنَّهم ما كانوا ينتظرون من الحياة أكثر من ذلك.

فقال متخابِثًا: وماذا في الحياة أكثر من ذلك؟!

فقلتُ باسمًا: ألا تعرف أنت؟!

فقال: أتعرف أنت ضوءًا أشدَّ من وهج الذَّهب؟!

فقلتُ في الحال: القلوب الصغيرة هي التي تُضاء بالذهب، أمَّا القلوب الكبيرة فلا تستطيع جبال الذهب أن تُضيء أرجاءها وأعماقها!

فقال: أنا الآن إذن في نظَرِك مهندسٌ ومقاوِل من نوعٍ رخيص.

فقلتُ: أنت مهندسٌ ومقاوِل، اعتاد أن يرسم ويُقيم البيوت الصغيرة!

لقد تبيَّن لي الآن أنَّ البيوت الكبيرة لا يرسمها غير أصحابها!

فقال بخبث: ولماذا شكوتَ الساعةَ إذن من بناء حياتك؟!

فقلتُ مُطرِقًا: لأنَّ الشابَّ الذي وضع الرسم، كان حسَنَ الظنِّ، واسعَ الخيال، لقد خطَّ على صفحة ذهنه بيتًا كبيرًا … كبيرًا جدًّا، لم أستطع أنا أن أملأه أو أتَّخذ مكاني فيه! … إني حبيسُ قصرٍ رحب. لم يستطع إيماني، ولا جهدي، ولا قدرتي، أن تَشغَل كلَّ قاعاته وأبهائه.

•••

قلتُ ذلك وانصرفتُ خارجًا من شارع «بلبور» بعد أن ألقيتُ نظرةً أخيرة على شبَحِ الشابِّ الواقف في النافذة، وهمستُ: وداعًا! … عفوًا … لم أستطع أن أفعل أكثر من ذلك! … لعلَّك أنت الذي بالغتَ في التفاؤل!

ومشيتُ في الطريق الذي كانت تُقام فيه السُّوق كلَّ أسبوع، ويذهب إليها الشابُّ ليحمل مُؤْنته من الأرز والبيض، ويُنفق «الفرنكات» القليلة، التي لا يملك غيرها على مدى الشهر الطويل، ولكنَّه كان سعيدًا؛ لأنَّه ما بالطعام وحده يعيش الإنسان! … نعم، كان سعيدًا، بالأمل الذي يلمع في الأفق كأنَّه نجم!

ما تغيَّر شيءٌ في ذلك الحيِّ القصيِّ، إلا ذلك النجم الذي اختفى والأفق الذي غشَّاه الضباب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤