الباب الثاني عشر

الأدب والْتزاماته

الأديب يلتزم …

ولكنَّ الأدب لا يلتزم.

***

الأديب يلتزم

كثُر الكلام بين أدباء «أوروبا» — في العصر الحديث — حول الأدب الحرِّ، كاد المتتبِّع للجدل يحسب أنَّ الموضوع جديد، تمخضت عنه النظريات الجديدة في الدولة والمجتمع!

والحقيقة المسطورة في التاريخ، هي أنَّ الالتزام في الأدب والفنِّ قديم، بل ربما كان الأصل في الأدب والفنِّ أنَّهما وُلِدا مقيَّدَين، وأنَّهما لم يعرفا الحريَّة إلا فيما بعد! … فالشاعر في المجتمع البدائي، وُلد مُلتزمًا بالدِّفاع عن القبيلة، مُشيدًا بفضائلها، مَزريًّا بخصومها! … ولم ينسلخ تفكيره عن تفكير قبيلته، ويأخذ في التعبير عن أفكاره الفردية ومشاعره الشخصية إلا عندما بدأ المجتمع يتطور نحو التعقُّد! … على أنَّ المجتمع المتطوِّر، البالغ درجةً من الرُّقي، قد يظهر فيه الالتزام في الفكر والأدب والفنِّ؛ إذا ظهرتْ فيه فكرةٌ من الأفكار، أو عقيدةٌ من العقائد، ذات أثرٍ في نفوس الناس!

وهذا ما حدَثَ عند ظُهور الإسلام؛ فقد نهَضَ — من بين الشُّعراء — «حسان بن ثابت» يؤيِّد هذا الدِّين الجديد بشِعره، ويحارب أعداءه، ويجاهد بقصيده في سبيله!

كما أنَّ طريقة الحُكم في مجتمع، وعُمقَ الإيمان عند شَعبٍ؛ لهما أقوى الأثر في ظهور الالتزام! … وهذا ما حدَثَ في «مصر» القديمة! … ولْنرجع إلى ما قال العلَّامة «موريه» في كتابه «النيل والحضارة المصرية»؛ فقَدْ ذكَرَ أنَّ الفنَّ والأدب والعلم، أشياءُ كانت دائمًا في خدمة الدِّين والدولة، وأنَّ «مصر القديمة» ما عرفَت — إلا في النادر — ما يُسمَّى بالثقافة الخالصة، والفنُّ للفنِّ، والبحث العلمي المقصود لذاته، والتفكير النظري، والأدب الشخصي … وأنَّ آثارها الكُبرى برُوحها الجماعي؛ لا تحمل حتى اسمَ صانعٍ بعينه. وأنَّها كلَّها خاضعةٌ لمذهبٍ فنِّي واحد، يتَّجه بكلِّ دِقة إلى أهدافٍ اجتماعية دينية … هذا المذهب الفني المصري، كما يقول «موريه»، قد ضيَّقَ أحيانًا كثيرة مجالَ الابتكار عند أولئك الفنَّانين العِظام، ولكنَّه عبَّر على كلِّ حالٍ عمَّا يكِنُّ الشعبُ من تقديسٍ للسُّلطة والعقيدة … ذلك الالتزام المصري القديم، تِقابِله حريةٌ شِبهُ مطلَقة عند اليونان القديمة! … فطريقة الحُكم والإدارة فيها، والاتجاه إلى الديموقراطية، وضعف الإيمان الديني، وغلَبة النزعة العقلية؛ كلُّ ذلك سلَخَ الفكرَ والفنَّ عن سلطان الدولة والدِّين، فظهرتْ مذاهبُ الشكِّ والبحثُ العلمي والفلسفي المتحرِّر من كلِّ هدفٍ نفعي، والفنُ المتجرِّد من خدمة سلطانٍ ديني أو دنيوي!

هل لنا أن نستنتج من ذلك أنَّ أساس الحرية والالتزام واحدٌ لم يتغيَّر في الماضي والحاضر؟ … وأنَّ دوافع الالتزام والحرية هي بعينها في العصور القديمة والحديثة؟ … لو تتبَّعنا مواطن الفكر المُلتزِم في عصرنا الحاضر، لوجدناه في عنفوانه وتألُّقه في البلاد التي تقدِّس هي أيضًا الدولة والعقيدة. ولمَّا كانت العقيدة الدينية آخذةً في الضَّعف في بلاد الغرب؛ فقد حلَّ محلَّها في القوة والتمكُّن العقيدة الاجتماعية، أو المذهب السياسي! … فحيثما وجدنا اليوم شعوبًا تَدين كلُّها بدِينٍ اجتماعي جديد في كنف سلطان الدولة القاهر؛ نجِدُ الفكرَ فيها مُلتزِمًا بخدمة الدولة والدين، ونرى من النادر أن يتَّجه فيها مفكِّر أو أديب أو فنَّان، إلى خدمةِ فكرةٍ خاصَّة تُعارِض المذهبَ العامَّ الذي اعتنقه الشَّعبُ والدولة!

فإذا نظرنا إلى بلادِ الديمقراطية، حيث سلطان الدولة ضعيفٌ بالقياس إلى حريَّة الفرد، وَجَدنا الفكر فيها يكاد يُشبه ما كان عليه في بلاد اليونان القديمة، من حيث عدم الالتزام بخدمة سلطانٍ ديني أو دنيوي! … فالمفكِّر أو الأديب أو الفنَّان في تلك البلاد لا يستطيع أن يلتزم على الصورة السابق ذِكرها؛ لأنَّ سُلطة الدولة عنده، تتناوبها حكوماتٌ متغيِّرة. وعقيدةُ الشَّعب منتشرةٌ في مذاهبَ متناقضة متعددة، وهو — بينَ الشكِّ واليقين — يُؤثِر في أغلبِ الأحيان الاحتفاظَ بفنِّه لنَفْسه … وهو لو أراد أن يلتزم؛ لمَا وجَدَ أحدًا هناك يُلزمه غير نفسه! … وهذا هو المظهر الوحيد للالتزام، عندما يظهر من حينٍ إلى حين في البلاد الديمقراطية!

فالأدب المُلتزِم في البلاد الديمقراطية، لا يعدو اليوم أن يكون في صورةِ مذاهبَ شخصية، لأمثال «سارتر» و«كاموس»، في فرنسا، وأضرابهما في البلاد الأُخرى! … مذاهب أدبية يُنشِئها، أو يروِّج لها أفرادٌ من الأدباء، يُلزمون أنفُسهم بمبادئها فيما يكتبون ويُنتجون! فالالتزام عند «سارتر»، ليس دافعه «الدولة»، بل شخصه وحياته … ولقد سُئل عن مبدأ اعتناقه مذهبَ الأدب المُلتزِم، وهل هو ناشئٌ عن تجربةِ الحرب الأخيرة؟ … فقال: «نعم، إنَّ الأحداث الاجتماعية هي التي تأتي باحثةً عنَّا. ولكنَّ التجربة الحاسمة، كانت في أيام الأَسْر بين الأسلاك الشائكة، حيث تيقَّظَ الضميرُ متسائلًا عن حقيقة الحريَّة.» أمَّا «كاموس»، فقَدْ نبَعَ التزامه من أعماق تفكيره؛ فقد قال: «إنَّ فكرتي عن الفنِّ سامقةُ الارتفاع … وهذه الفكرة المرتفِعة، هي التي تجعلني أريد للفنِّ أن يخدم شيئًا. إنَّ غاية الفنَّان الخالق، هي أن يصوِّر عصرَه … ولقد كانت مشاعر العصر في القرن السابع عشر تدور في الغالب حول الحُب … أمَّا اليوم، فإنَّ مشاعر العصر هي مشاعر جماعية؛ لأنَّ المجتمع اليوم يسبح في الفوضى.» على أنَّ «كاموس» نفْسَه، لا يحلو له كثيرًا أن يوصف بأنَّه أديبٌ ملتزِم … فقَدْ علَّق على كُتيبٍ نُشر عنه بقوله: «إنِّي شاكرٌ لمؤلِّفه؛ إذ لم يصِفْني بأنِّي كاتبٌ مذهبي خاضع لمذهبٍ بعينه.»

إذا استثنينا هذَين الأديبَين، كان من الصعب أن نجِدَ في بلاد الديمقراطية قادةً للأدب الملتزِم من هذا الطراز … على أنَّهما وأتباعهما، لا يكادون يؤثِّرون في الصفة الغالبة على الأدب الفرنسي المعاصر! … فهذا الأدب في مجموعه، بعيدٌ عن كلِّ الْتزام، لا في أدب الكتاب وحده! … وهو بطبيعته أقربُ إلى الفردية، بل في أدب المسرح ذي الطبيعة الجماعية … ولْنُصغِ إلى الكاتبِ الناقد المسرحي المشهور «جبرييل مارسيل»، في محاضرةٍ أخيرة له، إذ قال: «إنَّه لمن الغريب أن نلاحظ إلى أيِّ مدًى يغيب عن المسرح الفرنسي المعاصر كلُّ مظهرٍ اجتماعي للواقع الحاضر، بمشكلاته الحقيقية التي تَعرِض لكلِّ واحدٍ منَّا!»

وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة لمَن يتتبَّع رواياتِ المسرح الفرنسي الآن روايةً روايةً … أغلبُها حقًّا بعيدٌ كلَّ البُعد عن معالجة المشكلات المباشِرة للمجتمع! … ومع ذلك، فإنَّ ذلك المجتمع يُقبِل عليها إقبالًا يُثير العجَب! … فلقَدْ لبثتْ روايةُ «الكوخ الصغير» ﻟ «أندريه روسان» تمثَّل بلا انقطاعٍ ثلاثَ سنواتٍ متتالية! … وهي مَلهَاةٌ تدور حول زوجٍ وزوجته وعشيق، كانوا على ظَهْر سفينةٍ غرقتْ بهم، فنَجَوا هُم الثلاثةُ، وعاشوا وحدَهم في جزيرةٍ نائية!

ولقد سئل مؤلِّفها هذا السؤال: «أليس من التناقض العجيب، أن ينجح مثلُ هذا المسرحِ هذا النجاحَ كلَّه في لحظةٍ مُؤلِمة من تاريخنا؟» فأجاب المؤلِّف: «هذا بالضبط هو السبب! … إننا نعيشُ في مَأسَاة، فما من نوعٍ يُلائم عصرنا غير المَلهَاة»!

فإذا تركنا «فرنسا» وذهبنا إلى «إنجلترا»، وجدنا الأمرَ مثلَ ذلك وأكثر؛ فالعقلية الإنجليزية لا تطيق قُيودًا على الفكر والمتعة، مَهمَا تكُن فائدتها! … لهذا قلَّما نجِدُ ظاهرةَ الالتزام — بالمعنى المذهبي المذكور — في الأدب الإنجليزي المعاصِر!

أمَّا المسرح، فهو أيضًا بعيدٌ كلَّ البُعد عن تصوير مشكلاتٍ حقيقية مباشِرة للمجتمع. وأكثرُ المسرحيات نجاحًا عند الجمهور الإنجليزي، روايات «نويل كوارد»، وهي من طراز رواياتِ «أندريه روسان» الفرنسي!

فإذا اتَّجهنا إلى «أمريكا»؛ ألفينا نفسَ الأمر. ولْنستمع إلى الناقد الأمريكي الشَّهير «بروكس أتفكنسون»، يصِفُ في جريدة «النيويورك تيمس» حالةَ المسرح في الولايات المتحدة بقوله: إنَّ الحياة الفكرية والفنية في هذه البلاد، تكاد تكون عائمةً على السطح … فالناس هنا لا يودُّون التعرُّض لأيِّ مُخاطَرة فكريَّة، ويتردَّدون في التصريح بما يعتقدون … والخوف من الشيوعية جعَلَ أصحابَ الذَّوق المُبتذَل، هُم الذين يتحكَّمون في الإنتاج الفكري والفني، كما هو الحال في «روسيا» الآن، فأصبح المسرح تافهًا هنا كما هو هناك! … ولن نأمل في أن يكون لنا فنٌّ مسرحي حي؛ ما دُمنا نقلِّد الدولَ الدكتاتورية في فرْضِها الرقابةَ على الحياة الثقافية، ووضْعِها زمامَ هذه الرقابة … في أيدي أجلافِ مُغلَقي النُّفوس عن كلِّ فَهْم، وفنٍّ، وذوق!»

من هنا يبدو — كما يعقِّب أحدُ الباحثين في حالةِ الفنِّ الأمريكي المعاصِر — أنَّ المُنتِجين يتجنَّبون الموضوعاتِ التي تجنح إلى نقْدِ المجتمع، ويتوخَّون السلامةَ والعافية في إنتاج كوميدياتٍ موسيقيَّة خفيفة من نوع «الموزيكهول»! … ذلك النوع الذي تمثِّل فيه «جودي جارلاند» وضريباتها بنجاحٍ يجتاح «برودواي» اجتياحًا! … ذلك النوع من الإنتاج يدرُّ على مُنتِجيه ربحًا لا ينضب مَعِينُه، ويجنِّبهم في عين الوقت المثولَ يومًا ما أمام لجنةٍ من لجانِ تحقيق الكونجرس!

تلك خلاصةٌ لقولِ بعض النُّقاد الغربيين، في شأن الحرية والالتزام في العصر الحاضر.

فإذا كان لا بدَّ لي من إبداءِ رأيي فيما ينبغي للأديب، ولا بد لي من إبداءِ آرائي هنا صريحةً؛ لأنَّ طبيعة هذا الكتاب — كما لاحَظَ القارئ — هي عرضٌ لشئون الأدب والفنِّ من خلال أفكاري، ومطالعاتي، وكتاباتي، وتجاريبي في الثلاثين سنة الماضية من حياتي الأدبية والفنية! … فإنِّي أقول — وقد قُلتُها من قبل كثيرًا — إنَّ الأديب يجب أن يكون حرًّا؛ لأنَّ الأديب إذا باع رأيه، أو قيَّد وجدانه، ذهبتْ عنه في الحال صفةُ الأديب … فالحريَّة هي نبعُ الفنِّ، وبغير الحريَّة لا يكون أدبٌ ولا فنٌّ!

تلك هي النصيحة التي ينبغي أن تُزجى إلى الأديب الفنَّان، ولا تُتصوَّر نصيحةٌ أخرى خالصةٌ يمكن أن تُقدَّم إليه؛ لأنَّ الذي يقول لفنَّان، أو أديب: الْتزمْ بكذا، أو بكيت؛ فقَدْ قتَلَه … إنما الْتزام الأديبِ أو الفنَّان شيءٌ ينبع حرًّا من أعماق نفسه؛ فإن لم ينبع الالتزام حرًّا من قلبه وبيئته وعقيدته، فلا تُلزمه أنت، ولا تُلزمه قوةٌ في الوجود! … يجب أن يكون الالتزام جزءًا من كِيان الأديب أو الفنَّان، ويجب أن يلتزم وهو لا يشعُر بأنَّه ملتزِم؛ مثله مِثلُ حمَام زاجل، ينقل رسالةً وهو حرٌّ طائر، لا يشعُر بقيدٍ في ساقه، ولا بغُلٍّ في جناحه. فإذا شعَرَ الفنَّان لحظةً واحدة، أنَّه يؤدِّي بفنِّه ضريبةً عليه أن يؤدِّيَها وجوبًا؛ فإنَّ الذي سيُنتجه لن يكون فنًّا … فإذا لم يشعُر بأنَّ الالتزام واجبٌ، وإنما هو شيءٌ طبيعي … شيءٌ لو أرغمتَه على ألَّا يؤدِّيه لعصاك وأدَّاه؛ لأنَّه جزءٌ من طبيعته وتفكيره وعقيدته … فإنَّ الذي سيُنتجه مع الالتزام، سيكون هو الفن!

وهكذا كان الالتزام عند الفنَّان المصري القديم فيما أعتقد! … كان فنُّه ملتزمًا بخدمة عقيدةٍ دون أن يشعُر بإرغامٍ على ذلك؛ لأنَّ العقيدة فعلًا عقيدتُه التي نشأ عليها، ورُكِّبتْ في طبيعته! … فالالتزام المُثمِر للفنان في رأيي، هو الالتزام الذي ينبع من طبيعته. وهنا، لا يتعارض الالتزام مع الحرية؛ بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية! … لذلك لم أقُل يومًا لأديبٍ أو لفنَّان: الْتزم! … بل قلتُ، وأقول: كنْ حرًّا!

هذا موقفي تجاه الأدب والأدباء على وجه العموم! … ولكنَّ الموقف مختلفٌ كلَّ الاختلاف فيما يختصُّ بإنتاجي أنا على وجهٍ خاص؛ فعلى الرغم من مناداتي بالحريَّة، فإنَّ عملي في أكثر كتبي هو من صميم الأدب المُلتزِم، ولستُ أدري أهذا راجعٌ إلى رواسب ماضينا وتاريخنا القديم، أم إلى طبيعتي الخاصة؟ … إنما الذي أعرفه هو أنِّي منذ أمسكتُ بالقلم، ما حاولتُ قَط أن أُنشِئ لنفسي أسلوبًا جميلًا، يتميَّز بجزالة اللفظ، وحسن الديباجة، ممَّا يستهوي القارئ بحلاوةِ الجرس والرنين! … هذا الفنُّ للفنِّ في الأسلوب؛ ما خطَرَ لي أن أُمارِسه … ولكنْ أردتُ أن أتَّخذ من الأسلوب خادمًا لأهدافٍ أخرى، غير مجرَّد الإمتاع! … هذه الأهداف، كما ظهرتْ واضحةً للناس، كانت قوميَّةً وشعبية وإصلاحية في «عودة الروح»، وفي «عصفور من الشرق»، وفي «يوميات نائب في الأرياف»، وفي «مسرح المجتمع»! … وكانت مذهبيَّةً مُتصِلةً بمصير الإنسان، كما لم تظهر بوضوحٍ لكلِّ الناس خصوصًا في «مصر»، في «أهل الكهف»، وفي «شهرزاد»، وفي «سليمان الحكيم»، وفي «بجماليون»، وفي «الملك أوديب» … إلخ. أقول لم تظهر لكلِّ الناس؛ لأنَّ كثيرين منهم هنا، لم يروا فيها أكثرَ من أساطير أُخرجتْ في إطارٍ فني … والقليلُ أدرَكَ أنَّ الأسطورة لذاتها لم تكن هي المقصودة؛ فهذه القصص لم تُكتب لإظهار جمال الأسطورة، كما كُتبت «مجنون ليلى» لشوقي، فأظهرتْ جمال الشِّعر والعواطف والشعور، وأبرزتْ روعةَ الفَن للفنِّ نفسه … إنما كانت هذه الأساطير والقصص وسيلةً لهدفٍ آخر، لا غايةً في ذاتها … فلَمْ يكُن الغرضُ منها مجرَّد روايةِ «حادثة الكهف»، أو حكايةِ «ليالي شهرزاد» … إلخ، بل وُضِعتْ كلها لخدمة قضيةٍ خاصَّة بالإنسان ومصيره! … قضية يعتنقها المؤلِّف، ويبدو اتجاهها في هذه الأعمال كلِّها! … فقَدْ جاء في صحيفة «النوفيل لترير» الباريسية، هذه الملاحظة التي تلخِّص الرأيَ كلَّه في عبارة: «هذه المسرحيات العَشْر على تبايُنها في نواحي الإلهام، تكشف عن رُوحٍ واحد يسيطر على المؤلِّف، هو ذلك الاتجاه الملحوظ عنده دائمًا إلى موضوعٍ خالد: عجزُ الإنسانِ أمام مصيره.»

وسيأتي تفسير ذلك فيما يلي من فصول!

الأديب وليدُ عصره

لا بدَّ للفنَّان المُثمِر أو الأديب الحقِّ من أن يكون وليدَ عصره وابن بيئته! … بغير ذلك يُصبح الأدبُ أو الفنُّ شيئًا ضعيفَ الأثَرِّ ضئيلَ القَدْر، بعيدًا عن قضايا العصر، منعزلًا عن مصاير البشر! … ولقد سبَقَ لي أن قلتُ ذلك في كتابي «تحت شمس الفكر»، في فصلٍ بعنوان «الفكر والشَّعب»، جاءت فيه هذه الكلمات: «إنَّ الأدب في مصر، لم يكُن إلى عهودٍ قريبة — حتى مطلع هذا القرن — غير حليةٍ عاطلة في معاصم الأدباء! … لقد كان يعيش هؤلاء الكتَّاب، ليس فقط على هامش المجتمع، بل على هامش حياة الآخرين من أصحاب الجاه أو الثَّراء. لم يكُن الأدب في مصر إذن أداةَ تسجيلٍ وتوجيه لشئون المجتمع، ولم تكُن أقلامُ الكتَّاب أبواقًا تُوقظ النائمين، ولكنَّها كانت معازِفَ ينعس على أنغامها المُترَفون!» … إلخ.

على أنَّ تناول الأدب والفنِّ لشئون البيئة والزمن والمجتمع؛ لا بدَّ — أيضًا — من أن يكون على نحوٍ لا يُشبه — من قريب أو بعيد — الصُّحف، أو الدعايات، أو المناسبات! … فأداةُ الفنِّ والأدب، لا تعنيها المادة الإخبارية الطارئة المتغيِّرة، بل هي تُعنى بالجوهر الثابت، والمبدأ العام المُستخلَص ممَّا يجري في الزمان والمكان!

وهنا يختلف الحال أيضًا بين أديبٍ وأديب، وفنَّانٍ وفنَّان! … فحوادثُ البيئة وقضايا العصر، عملةٌ ذاتُ مراتبَ وطبقاتٍ، فيها قروشُ النيكل وفيها عشرات الفِضَّة، وفيها جنيهات الذَّهب! … فهناك الأديبُ أو الفنَّان، الذي لا يرى من حوادث البيئة غيرَ الحيِّ أو القرية أو المدينة التي يعيش فيها، ويعرف أهلها وأحوالها؛ فيصِفُها ويصوِّرها أدقَّ وصفٍ وأبرعَ تصوير! … وهناك الأديبُ أو الفنَّان، الذي يُضيف إلى هذا التصوير الدقيق للحيِّ أو القرية أو المدينة؛ نفوذه إلى رُوح مشكلاتها العامة — لا الخاصة بكلِّ شخصية من الشخصيات — ليُخرجك بعد مطالعةِ تصويره المُمتِع للبيئة والناس، بشيءٍ أكثرَ من مجرَّد تصويرِ أمكنةٍ وحوادثَ وأشخاص؛ شيء يمسُّ قضيةً عامة تتَّصل بوضعِ هذه الجماعة البشرية في الظروف المحيطة بها، شيء يُشعِرك بأنَّ الأديب أو الفنَّان ليس مجرَّد مصوِّرٍ لبيئة وساردٍ لقِصَّة وخالقٍ لأشخاص، ولكنَّه — أكثر من ذلك — محرِّكٌ لقضية، ومفسِّرٌ لوضع! … ثم هنالك أخيرًا الأديب أو الفنَّان، الذي لا يكتفي بسَردِ القصَّة وخلْقِ الأشخاص؛ ليحرِّك قضيةَ بيئةٍ معيَّنة ويفسِّرَ وضْعَ مجتمعٍ خاص، ولكنَّه يرمى من وراء عمله الفنِّي إلى تحريك قضيةِ العصر كلِّه، وتفسير وضْعِ المجتمع البشري، في الجيل الذي يعاصره والزمن الذي يعيش فيه، أو الأزمان المختلفة التي يتطوَّر خلالها! … هذه المهمَّة الأخيرة للأديب أو الفنَّان هي كالعملة الذهبية التي تصلُح للتعامُل الدولي في العالم أجمع!

والقولُ بأنَّ الأدب أو الفنَّ وليدُ بيئته؛ ليس معناه في كلِّ الأحوال أن يكون هذا الأدب أو هذا الفنُّ، هابطًا في مستواه الفكري إلى مدارك الطبقات الدنيا! … مَهمَا تكُن البيئة بدائية؛ فالفنَّان الرفيع قد يُنتج فنًّا رفيعًا من بيئةٍ مُتواضِعة، والفنَّان السُّوقي قد يُنتج فنًّا سوقيًّا من بيئةٍ مرتفعة. ففي الموسيقى مثلًا، نجِدُ «الجازبند» ينبع ويعيش في بيئةٍ مرفَّهة، في حين أنَّ بيئة الشَّعب المكافِح أخرجَت اليوم فنَّانًا شابًّا مثل «شوستا كوفتش»، الذي تجول موسيقاه الرفيعة عواصمَ العالَم المتحضِّر؛ فقَدْ وصَفَ الناقد «دافيد رابينوفتش» «سانفونيَّاته» الشهيرة، التي أوحتْ بها الحرب الأخيرة بأنَّها تعبيرٌ عن مأساة الإنسان في المصير الذي كتَبَه عليه هذا البرزخ المسدود بين الفرد والعالَم المحيط به؛ فقَدْ عبَرَت هذه الموسيقى الرفيعة، بما فيها من تفكيرٍ عميق عن حقيقة الإنسان باعتباره جزءًا من العالَم، منتهيةً إلى أنَّ خلاصه من مصيره القَلِق؛ هو أنْ يغمر نفسه في الواقع … واقع الجماعة التي يعيش بينها كجزءٍ منها … ولقد قارَنَ الناقدُ خِتامَ «السانفونيَّة» الخامسة ﻟ «شوستا كوفتش» بختام سانفونيَّة «البطولة» ﻟ «بيتهوفن»!

كما أنَّ الأدب أو الفنَّ الذي يحرِّك قضيةً، ويفسِّر وضعًا لبيئةٍ اجتماعية؛ قد يكون مُستساغًا لجمهورٍ واسعٍ من الشَّعب، كما أنَّه قد يكون أيضًا مُغلَّفًا بالشُّعور والرمز؛ كما هو الحال في مسرحيات «هنريك إبسن» المستساغة لخاصَّة الناس دون عامَّتِهم، مع أنَّها ثورةٌ على صميم الأوضاع الاجتماعية في «النرويج»! … فأولئك الذين يفهمون ويتذوَّقون مسرحياتٍ مثل «براند» أو «بيرجنت»؛ لا شكَّ هُم من الصفوة المثقَّفة دون الكثرةِ الغالبة. ذلك أنَّ الأديب أو الفنَّان لا يؤثِّر في كلِّ الأحيان مباشرةً في كُتل الجماهير، كما ينبغي للصحفي والسياسي، ولكنَّه يؤثِّر أولًا في قادة الجماهير، وهم الذين يتلقَّون عنه التوجيه الفكري للعصر والمجتمع، ويضَعُونه موضعَ التنفيذ والعمل؛ فإذا تركنا المجال القومي والْتفتنا إلى المجال العالمي، ونظرنا إلى الأديب أو الفنَّان باعتباره وليدَ العصر الذي يكتنف العالَم بأَسْره؛ وجدناه مُطالَبًا — خصوصًا في العهود الحديثة — ببحثِ قضية العصر كلِّه، وتفسير وضْعِ المجتمع البشري برُمَّته!

ولْنتخذْ مثلًا لذلك في الأدب «جان بول سارتر» بمذهبه المعروف عن «الوجودية»؛ فقضية العصر عنده هي قضية الحريَّة! … «حريَّة الإنسان» ذلك أنَّه يرى وضْعَ الإنسان في المجتمع البشري المُعاصِر مُهدَّدًا في حريَّته من ناحيتَين ناحيةِ السُّلطة الدينية، وناحيةِ الدكتاتورية السياسية! … لهذا قام يُنادي بتحرير الإنسان المُعاصِر من كلِّ سُلطة! … ويُعلن أنَّ الإنسان حرٌّ، حرٌّ بطَبْعه وسليقته، وأنَّه لا يستطيع الخلاصَ من حريَّته، دون أن يتخلَّص من وجوده! … وهو حرٌّ في إرادته ومسئوليته أمام الذات الإلهية التي لا تملك معه حلًّا ولا عقْدًا؛ لأنَّه هو نفسه إله هذا الوجود … إلى آخِر تلك الأفكار، التي ضمَّنَها كتاباته، وعرَضَ لبابها في مسرحيته «الذُّباب»، التي أجمَعَ النُّقاد على أنَّها تُمثِّل آراءه في قضيةِ الحريَّة أعمقَ تمثيل! … وهذه المسرحية الفلسفية مفرَّغةٌ في إطارِ الأسطورة الإغريقية، التي سبَقَ أنْ تناوَلَها «إيشيل» و«سوفوكلس» و«إيروبيد» من قبل! … ولكنَّ «سارتر» استخدَمَ أشخاصَ الأسطورة للرَّمزِ عن اتجاهاته، والتعبير عن نظراته في موقف الإنسان في العصر الحديث!

ولقد أُخرجتْ هذه التمثيلية — على المسرح الفرنسي — في نطاقِ جمهورٍ ضيِّق، من خاصَّة المثقَّفين! … فهي أيضًا، كمسرحياتِ «إبسن» في عصرها، ليست ممَّا يهبط إلى مستوى سَوادِ الناس! … ولكنَّ ذلك لم يَحُل دونَ ذيوعِ أفكار المسرحية عن طريق النُّقاد والمفسِّرين؛ ذيوعًا كاد يبلغ آذان الجماهير في جميع أركان الدنيا.

هذا الموقف من قضية العصر قد وقفتُه وتأمَّلتُه، وعرضتُ فيه نظرتي باعتباري شرقيًّا مسلمًا … فالإنسان عندي ليس إلهَ هذا العالَم، وهو ليس وحده في الوجود، وليس حرًّا، ولكنه يعيش ويريد ويكافح داخل إطار الإرادة الإلهية، الإرادة التي تتجلَّى للإنسان أحيانًا في صورٍ غيرِ منظورة من عوائقَ وقيود، على الإنسان أن يكافح لاجتيازها والتغلُّب عليها … فأنبياء الشَّرق أنفُسُهم يَبعثهم الله، ويضَعُ أمامهم العقبات … فطريق النبيِّ ليس مُعبَّدًا، ولكنَّه يُجاهِد في تبليغ رسالته وسط أشواكٍ من غرائز الناس … إن قضية العصر اليوم، وهي التي تقوم على حريَّة الإنسان، سواء باعتباره فردًا أو باعتباره جماعةً، إنما تتَّحد وتتلاقى في أمرٍ واحد، هو إنكار الله … وإنكار القُوى غير المنظورة، التي تؤثر في مصير الإنسان. وهذا ما لم أُسلِّمْ به عقلًا وإيمانًا … فقول بعض النُّقاد الأوروبيين إنَّ مسرحياتي تسيطر عليها فكرةُ عَجْز الإنسان أمام مصيره؛ صحيحٌ إلى حدٍّ ما … وأصحُّ من ذلك، ما لاحظه البعضُ من أنَّ مصيرَ الإنسان عندي مرتبطٌ دائمًا بجهاده أمام القُوى غير المنظورة؛ فهو بشعوره الداخلي «أنَّه ليس وحده في الكون، وأنَّه ليس حرًّا» أدرك أنَّه سجينُ تلك القوة الخفيَّة التي تسمَّى «الزمن»، وأنَّ مصيره مرتبطٌ بالزمن ارتباطًا وثيقًا، وأنَّه ليس حرًّا في التخلُّص من زمنه، وليس في مقدوره أن يعيش طليقًا في كلِّ جوٍّ وكلِّ زمن! … هذا محورُ مسرحية «أهل الكهف» التي كُتبتْ ونُشِرت قبل أن يظهَرَ «سارتر» في عالم الكتابة والأدب بأعوام! … كما أنَّ مصير الإنسان مرتبطٌ بأرضه تمامَ الارتباط؛ فالقوة الخفيَّة الأخرى التي تسمَّى «المكان» — المكان المادي أو المعنوي — لها قبضتها القوية على كِيان الإنسان! … وهذا محور مسرحية «شهرزاد»! لقد أراد الإنسان في هذه القصة أن يتخلَّص من الأرض ليبلغ السماء، فظلَّ معلَّقًا بين الأرض والسماء، ولكنَّ مصيرَ الإنسان مهدَّد أشدَّ تهديد بقوةٍ أشدَّ خطرًا من تلك القُوى … هذه القوة الخطِرة، هي التي تنفجر من صميم قدرته، كما تنفجر النواة في الذرَّة! … إنَّ حكمة الإنسان — خصوصًا في عصورنا الحديثة — ليست هي التي توجِّه مصيره، بل الذي يوجِّه مصيره هو قدرته؛ ذلك العفريت المنطلِق من قمقم الحكمة، هو العلَّة المباشِرة لأزمَةِ الإنسانية في العصر الحاضر! … هذا محور مسرحية «سليمان الحكيم»! … على أنَّ شعوري بعجز الإنسان أمام القُوى المؤثِّرة في مصيره؛ ليس مؤدَّاه التشاؤم، كما أنِّي لستُ أرى في النظريات الأوروبية القائلة بحريَّة الإنسان أمام مصيره ما يدعو إلى التفاؤل! … العكس هو الأصحُّ؛ فإنَّ فكرة تأليه الإنسان وحدَه على هذه الأرض، كانت — في رأيي — من الأسباب التي أدَّتْ إلى كوارثِ العالَم اليوم؛ فالإنسان — الإله الحُر الذي لا شريكَ له، ولا سلطانَ لقَدَرٍ عليه، مع ما ركِّب فيه من غرائزِ الحرب والكفاح — عندما جحَدَ وجودَ غيره على الأرض وأنكَرَ كلَّ قوةٍ غيرِ قوَّته في الدنيا؛ لم يجِدْ ما يوجِّه إليه غرائزَ حربه، ونشاط كفاحه غيرَ نَفْسه؛ فانقلب محارِبًا نَفْسه، هادمًا ذاته! … وهذا ما يفسِّر لنا انقسامَ العالم الأوروبي اليوم على نفسه، وهدْمَ المَدَنيَّة الأوروبية لذاتها! … في حينِ أنَّ فكرةَ الشعور بالقُوى الأخرى التي تواجه الإنسان وتؤثِّر في إرادته وحريَّته؛ تدفع به في نهاية الأمر أنْ يحشد غرائزَ حربه ونشاطه وكفاحه، لا ضدَّ نفسه، بل ضدَّ هذه العوائق المستترة، وهذه القوى الخفيَّة! … فالشعورُ بعجْزِ الإنسان أمام مصيره، هو عندي حافزٌ إلى الكفاح لا إلى التخاذُل! … في «أهل الكهف» كافحوا ضدَّ الزمن، ولبِثَ أحَدُهم متعلِّقًا بالحياة يقارع الزمن بسيفٍ بتَّار هو «القلب»، إلى آخِر لحظة! … و«شهرزاد» جاهدتْ مُحاوِلةً أن تردَّ — إلى الصواب — زوجَها الذي أراد أن ينبذ أرضه وآدميته، وأن تُعيد إليه إيمانه ببشريَّته! … و«سليمان» جاهَدَ ضدَّ إغراء القدرة التي كادتْ تُخرس صوتَ الحكمة!

وهكذا كان الإنسان يجاهد دائمًا ضدَّ العوائق الخفيَّة، التي شعَرَ بتأثيرها في حريَّته وإرادته ومصيره! … وهو جهادٌ، لا من نوعٍ هدَّام — كجهاد الإنسان المتألِّه ضدَّ نفسه — بل جهادٌ بنَّاء، كجهاد المصريين القدماء ضدَّ الزمن وعوامل فنائه، بإقامة الهياكل الكُبرى، واختراع التحنيط والأصباغ، وكجهاد أهل الدِّين السماوي في الشرق ضدَّ قلَقِ النَّفْس وغرائز الإنسان، بتثبيت العقائد ووضع الشرائع!

ومَهمَا يكُن من عجزِ الإنسان، وإخفاقه أمامَ مصيره، فإنَّ العِبرة هي بجهاده، جهاده المُنتِج الشَّريف! … ذلك ما أرادتْه القدرة الإلهية للإنسان، فهي قد ألقتْ في سبيله الأحجارَ؛ ليُجاهد في تحطيمها … والعوائقَ؛ ليكافح في إزالتها! … وليس المهمُّ للإنسان أن ينجح، بل المهم أنْ يكدح. وليس الشرفُ للإنسان، في أن يقول إنِّي حرٌّ، بل في أن يقول إنِّي سجينٌ، ولكنِّي أُجاهِد للخَلاص! … لولا شرَفُ الجهاد، لهدى الله الناسَ بغير أنبياء مجاهِدين، ولجعلهم ينجحون في هداية الناس من أول كلمة؛ بدون كفاح! … لا … إنَّ الإنسان ليس إلَهًا، وإنَّ الإنسان ليس حرًّا، ولكنَّه مجاهِدٌ — بإرادة الله — ضدَّ قيود … مكافِحٌ ضدَّ سجون!

لو اتَّجه تفكير الأدب الأوروبي المعاصر إلى هذه الوِجهة، ودعا إلى حشدِ قُوى الإنسان، ضدَّ القيود الخفيَّة التي تكبِّل حريَّته الحقيقية؛ لكان في هذا النوع من التفكير بعضُ الحلِّ لأزْمَة الإنسانية في العصر الأخير! … فأزْمَة الإنسان اليوم، هي حربه ضدَّ نفسه، فهو ليس له قريعٌ آخَر غيرُ نَفْسه؛ لأنَّه لم يعُد، في غروره، يرى سوى حريَّته المطلَقة! … لم يعُد يرى القُوى الأخرى غيرَ المنظورة، التي تحرِّك وجودَه، وتلعب بمصيره، وتستوجب نضاله، وتتطلَّب تفكيره!

الأدب لا يلتزم

إذا كان الأديب يلتزم؛ فالأدب لا يلتزم. وبمعنًى أصحَّ: إنَّ الأديب لا يستطيع أن يُلزم الأدب باحترام الْتزاماته والنَّظر فيها؛ إلا إذا توسَّل إلى ذلك بالقِيَم الأدبية الرفيعة … فالأدبُ لا يمكن أن يضع في مراتبه العُليا أديبًا استخدم أدبًا رخيصًا أو فنًّا رديئًا مَهمَا يكُن شرف الغرض الذي يهدف إليه! … فالأدب لم يَضَع «حسان بن ثابت» في طبقة «المتنبي»، مع أنَّ «حسانًا» دافَعَ بشِعره عن الإسلام، ولم ينْظِم المتنبي إلا بدافع اكتساب المال، والطَّمَع في جوائز الخُلفاء! … فالأدب أو تاريخ الأدب ينظُر إلى الوسيلة قبل الغاية؛ لأنَّ الغاية في الأدب والفنِّ لا تبرِّر الوسيلة! … والغرض الشريف وحْدَه، لا يستطيع أن يكون جوازَ مرورٍ يدخُل به أصحابُ الأدب الرخيص هيكلَ الفنِّ العظيم، بل لا بد أن يكون صاحبُ الهدف النبيل أديبًا رفيعًا أولًا، حتى يُسمح له بالدخول … وإلا قيل له: ابتعدْ عن سبيل الأدب، واسلكْ سبيلًا آخر تبلِّغُ به رسالتك! … أمامك طريق الصحافة، أو طريق الدعاية … أمَّا مَن يريد أن يستخدم الأدب أو الفنَّ وسيلةً لتبليغ رسالته؛ فإنَّه يجب عليه — قبل كلِّ شيء — أن يكون صاحبَ فنٍّ عالٍ، وأدبٍ رفيع! … ولو أنَّ الموسيقي «شوستا كوفتش» وضَعَ معانيه القومية الإنسانية النبيلة، في إطارِ موسيقى «الجاز» أو غيرها من ألوان الموسيقى الخفيفة؛ لمَا أُخذتْ هذه المعاني على سبيل الجِد، ولمَا كان لها صفةُ البقاء التي الْتصقتْ بها في هذا الوضع الفنِّي الجِدي! … ولو كان «إبسن» وضَعَ أهدافه الإصلاحية وثوراته الاجتماعية، في مسرحياتٍ خفيفةِ المَظهَر، سوقيَّة الذَّوق، عاميَّة التفكير؛ لمَا استطاعتْ، حتى مع نجاحها في بيئتها وجيلها، أن تعيش بعد ذلك في كلِّ جيلٍ موفورةَ الاعتبار!

على أنَّ الالتزام في الأدب — على شرَفِ غايته، ونُبل مقصده، ودلالته على شعور الأديب بواجبه نحو جماعته وعصره — لا يُكافِئ الأديب في كلِّ الأحيان! بل العجيب أنَّ «الأدب» أو «الفنَّ»، بمقياسه العام الخارج عن نطاق البيئة والجيل، قلَّما يَلتفِت إلى الدافع الكريم الْتفاتَهُ إلى القيمة الأدبية والفنية الخالصة! … فسانفونيات «شوستا كوفتش»، التي تُسمع الآن في باريس ولندن ونيويورك، لا تظفر بتقدير الناس من أجْلِ ما فيها من اتِّجاهاتٍ اجتماعية أو مذهبية؛ بل لمَا فيها من فنٍّ رائع رفيع! … كذلك الحال في مسرحيات «إبسن»؛ فقَدْ تغيَّرت الظروف كما تغيَّر المجتمع الذي ثار عليه هذا الفنَّان، وحقَّقَ الزمنُ أكثر الإصلاحات التي طالَبَ بها، وأصبحتْ آراؤه الاجتماعية — كما يقول أهلُ السياسة اليوم — «غير ذات الموضوع»! … ولكنَّ القيمة الأدبية الرفيعة لهذه المسرحيات، بما فيها من شِعرٍ وفِكر، لم تَزَل باقيةً، يتذوَّقها المثقفون من أهلِ هذا الجيل، كما يتذوقها المثقفون في كلِّ الأجيال … لأنَّها لم تُكتب بأسلوبِ الدعاية الوقتيَّة؛ لتمضي بمُضي وقتها، بل كُتبتْ بأسلوبِ الأدب العميق، الذي يبقى للفكر والأدب في كلِّ زمان!

أكثر من ذلك؛ أنَّ الالتزام بالأغراض القومية والإصلاحية قد يكون من منفِّرات الأثر الأدبي إذا نُقلَ إلى بيئةٍ أخرى تشعُر شعورًا آخر … ولْأضربْ مثلًا بتجاربي الخاصة:

قال أحد النُّقاد الأوروبيين في عام ١٩٣٧م عن كتاب «عودة الرُّوح»: «إنَّ نزعته الوطنية ممَّا يُضايِق قليلًا! … غيرَ أنَّ ظروف الحياة المصرية الحاضرة، تجعل من الصعب محوَ هذه النزعة، دون المساس بصِدق الكتاب كلِّه! … وإنَّه لمِن الظاهر فيه — فضلًا عن ذلك — وجود بعض عناصر أدب الطبقات الفقيرة.» … إلخ.

كما قال ناقدٌ أمريكي عن كتاب «يوميات نائب في الأرياف»: إنَّه على الرغم من تصوير الرِّيف المصري في أدقِّ تفصيلاته الإنسانية، التي تجعل القارئ يحسُّ كأنَّه موجود هناك؛ فإنَّ نزعة الإصلاح الاجتماعي فيه هي «الهانديكاب»؛ أيْ هي الحِمل الذي يُثقل على القارئ الأمريكي! … وقال ناقدُ صحيفة «ماريان»: إنَّ القارئ الأجنبي ينسى في أغلبِ الأحيان المقاصدَ الإصلاحية التي حرَّكت المؤلف لوضع كتابه. بل إنَّ القارئ يتمنَّى ألَّا يتغيَّر شيءٌ في عالَم هذه المخلوقات الإنسانية! … وأشارتْ صُحفٌ إنجليزية، مثل «اللسنر» و«السبكتاتور» وغيرهما، إلى الفقر والظلم في بيئة الفلَّاحين، وفساد الأداة الإدارية، إشاراتٍ عابرةً، ولم تقِفْ طويلًا إلا عند الصُّور الفنيَّة والأشخاص وأسلوب الفكاهة والسخرية! … كلُّ ما جاء في هذه الصُّحف — متصلًا بالوضع الاجتماعي اتصالًا يوحي بالمشاركة في الشعور القومي — هو قولُ إحداها: «إنَّ في هذا الكتاب، عن مهزلة الفساد الاجتماعي الخالدة، أكثرَ من مجرَّد استنكار، وكما حدَثَ مع كتَّاب الرُّوس في القرن التاسع عشر، وكما حدَثَ مع كاتبنا «ديكنز»؛ يشعُر الكاتب المصري أنَّ مجرَّد العطف لا يكفي، وأنَّ الغضب عبثٌ، وأنَّ السُّخرية وحدها هي أمضى سلاحٍ للهجوم!» … إلخ.

من هذا الاختبار الشخصي، خرجتُ بهذه الحقيقة، وهي أنَّ الشعور القومي خاصٌّ بأهله وبيئته، وأنَّ الإصلاح خاصٌّ بمجتمعه وزمنه!

•••

على أنَّ الأديب — الذي يشعُر بإحساسِ بيئته ووطنه وجيله — يُحزنه على كلِّ حال أن يرى الناس في بيئةٍ أخرى، تنصرف عن شعوره الإصلاحي إلى الأدب الخالص! … من الواجب إذن على الأديب، أن يتوقَّع ذلك دون أن ينصرف عن جهاده؛ فالأدب الملتزِم لا يلزم غيرَ بيئةٍ واحدة، في زمنٍ واحد. فإذا اختلفَت البيئةُ أو تغيَّر الزمن؛ فإنَّ الأدب يتحلَّل عندئذٍ من كلِّ الْتزام، ولا يعيش بعدئذٍ إلا بقيمته الذاتية.

الأدب لكلِّ عصر

مشكلة الأديب هي أنَّه إنسان قبل أن يكون أديبًا! … إنسانٌ ابنُ بيئته وجيله، ومجتمعه وعصره! … لا بدَّ له أن يحسَّ إحساسَ مجتمعه، وأن يتأثَّر بما يحدُث في بيئته وزمنه! … ومع ذلك، لا بد له من أن يُنتج أدبًا؛ أيْ شيئًا يستطيع الحياةَ في كلِّ بيئة وعصر، والشيء الذي يستطيع الحياة في كل بيئةٍ وعصر، هو ذلك الذي يهمُّ الإنسان في كلِّ بيئة وعصر، هو الذي يتَّصل بالإنسان باعتباره نوعًا بشريًّا ممتدَّ الوجود في الزمان والمكان الخالد! … هو ذلك الذي يصِلُ عصره بكلِّ العصور، ومجتمعَه بكلِّ مجتمع، ونفْسَه بكلِّ النفوس! … هو ذلك الذي يستخرج من جيله المحدود مادةً تحيا في أجيالٍ غير محدودة! … هو ذلك الذي يتأثَّر ويؤثِّر في بيئته وزمنه، ثم يستمر بعد ذلك يؤثِّر في كلِّ مكانٍ، على مدى الأزمان! … ومعنى هذا أنَّ الأثر الأدبي الخالد، لا بدَّ إذن من أن ينطوي على شقَّين: شقٌّ يعني أهلَ زمنه خاصَّة، وشقٌّ يمكن أن يعني الناسَ في كافَّة كلِّ زمنٍ وموطن!

على أنَّ هذا القول — على إطلاقه — قلَّما يحدُث بهذه الصورة في أغلب الآثار التي اعتُبرت خالدة؛ فأذواق الأمم متغيِّرة، ومدارك الأجيال متطوِّرة؛ فمن الآثار الباقية ما أُغفل في عصرٍ ولمَعَ في عصر، وما غَمضَ في بيئةٍ وفُهِم في بيئة! … فأعمال «شكسبير»، لا يمكن أن تكون قد فُهمتْ في بيئتها وعصرها؛ كما تُفهم في العالَم الآن، بعد أن شَرَح غوامضها وألقى الضوءَ على أغوارها الألمان! … بل بعد أن استطاع عِلم النفس في العصور الحديثة أن يجوس بمصباحه خلالَ أشخاصها وما تُكِن من نفوس … أكثر من ذلك، نجِدُ بيئتَين — في عصرٍ واحد — متساويتَين في المدارك ولا تتَّفقان على فهْمِ أديب في الوقت عينه. وهذا ما حدَثَ لبرناردشو، وهذا سببٌ من أسباب سخطه على أبناء لغته الإنجليز؛ فقد لبثتْ مسرحياته وقتًا لا تظفر بإقبالِ هؤلاء المواطنين، إلى أن الْتفتَ إليها الألمان وأقبلوا على نقلها، وتمثيلها، وشرحها؛ فمدُّوا بذلك طريق استساغتها للعقل الإنجليزي!

ومن الآثار ما دُفنت في عصرها لظروفٍ شخصية أو سياسية، وبُعثت في عصرٍ آخر، عاشتْ فيه موضعَ عنايةِ الأدباء والباحثين، وأقربُ مثَلٍ لذلك في الأدب العربي آثارُ «أبي حيَّان التوحيدي»!

وهكذا لو تأمَّلنا أغلبَ آثار الأدب والفنِّ تأمُّلَ الباحث عن سرِّ حياتها؛ لوجدنا أنَّها لا تعيش حياةً واحدة في كلِّ العصور؛ لأنَّه ما من عصرٍ ينطبق حاله على عصرٍ آخر تمامَ الانطباق! … فالآثار قد تعيش في كلِّ عصر، بشخصيةٍ مختلفة بعض الاختلاف؛ ويرى فيها أهل كل عصر الناحيةَ التي تتَّفق مع مزاجهم وذوقهم وتفكيرهم ومداركهم! … فهي أحيانًا تعيش في زمان بوجهها البرَّاق المُشرِق، وتعيش في زمانٍ آخر برُوحها الخفيف الجذَّاب، ثم تعيش في زمانٍ أخير بتفكيرها الدقيق العميق. والقليل جدًّا من بين هذه الآثار، تلك التي تستطيع أن تعيش بوجهٍ واحد في كلِّ العصور! … تلك التي استطاعت أن تعيش لناحيةٍ واحدة فيها؛ فإنَّ نُقَّاد كلِّ عصر يختلفون في أسباب تذوُّقها، وأساليب بحثها، وطرائق تفسيرها؛ فالبراعة اللغوية التي الْتزم بها «أبو العلاء» لا تهمُّنا اليوم، بمقدار ما يهمُّنا تفكيره الذي صبَّه في تلك الصورة الشعرية الرفيعة!

بل إنَّ اختلاف البيئات في مجتمعٍ واحد وعصرٍ واحد، قد يجعل للأثر الواحد حياتَين مختلفتَين. ولْأضرب، هنا أيضًا، مثَلًا بتجربتي الخاصة؛ فأقول ملاحظًا إنَّ مسرحياتٍ مثلَ «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم» … إلخ؛ استطاعتْ أن تحيا بعضَ الحياة في الكتب، ولكنَّها لم تستطِع الحياةَ حتى الآن فوق مسرحنا العربي؛ ممَّا جعلني يومًا أعتقد أنَّها لم تُكتَب إلا لتنشر في كتب … إلى أن نُقِلت إلى لغاتٍ أجنبية، واطَّلعتُ أخيرًا على بعض تقاريرَ متحمِّسة لبعض رجال المسرح الأدبي عن صلاحيتها هناك لحياة التمثيل؛ فسألت نفسي: أتُراه اختلاف البيئة الثقافية لَدَينَا، بين قُرَّاء الكتب الأدبية وروَّاد المسارح، ذلك الاختلاف المتَّسع الشُّقة حتى الآن؛ هو الذي يجعل لمثل هذه الأعمال هاتَين الحياتَين المختلفتَين؟

على أننا نبالغ أيضًا إذا قُلنا: إنَّ الآثار الأدبية والفنية تعيش في كلِّ العصور، كما خلَقَها مؤلِّفُوها، ذلك أنَّ الذي يحدُث عادةً هو أنَّ أغلب هذه الآثار تُعرض في كلِّ عصرٍ عرضًا، قد يختلف عن الأصل قليلًا أو كثيرًا … فآثار «أرستوفان» و«سوفوكلس» و«شكسبير» قلَّما تُعرض في غير اقتباسات، أو عدادات، فيها من الحذف والتعديل والتبديل؛ ما يلائم النَّظَّارة وفنَّ المسرح، وظروف الحياة الاجتماعية في كلِّ زمن.

كما أنَّ المُلاحَظ في الآثار الأدبية، التي تنتقل من عصرٍ إلى عصر؛ أنَّها تكاد تكون محصورةً في نِطاقِ أدب الخاصة. فالأدب الشعبي قلَّما ينتقل من جيلٍ إلى جيل، ومن موطنٍ إلى موطن، بالكمية والسرعة التي ينتقل بها الأدب الرفيع … لقد كان «راسين» يقول إنَّه يكتُب لمائتَين فقط من الصفوة … وها هو ذا «راسين» يعيش إلى اليوم، حياةً موفورة في ثقافة كلِّ أمَّة متحضِّرة، على أنَّه يصِلُ عصرنا كثيرون من شعراء الشعب أو مؤلِّفيه الذين صُفِّق لهم في المحافل والمسارح، وطُرب لهم في المغاني والمشارب … أترى الخلود الأدبي لا يصنعه غيرُ نفَرٍ قليل من الصفوة في كلِّ بلد وعصر؟ … إذا كان هذا صحيحًا فما هو السبب؟ … أهو في عجْزِ الأدب الشعبي عن الحياة في بيئة أخرى غير بيئته، وزمن آخر غير زمنه … إلا في القليل النادر، عندما يسمو على نفسه بقوةٍ في الخَلْق ترفعه فوق اللغات واللهجات والحدود، والأزمان، والأجناس، كما هو الحال في قِصص «ألف ليلة وليلة» … ومع ذلك، مَن الذي نقَلَ هذه القصص إلى مرتبة الفنِّ العالي والآداب العالمية؟ … أليسوا هُم خاصَّةً من الصفوة الْتفتوا إلى قيمتها الذاتية، وفَطِنوا إلى استحقاقها للبقاء والتقدير؟ … إذا كان هذا أيضًا صحيحًا فما هو السرُّ؟ … لماذا تختصُّ الصفوة المثقَّفة بمهمَّة التخليد؟ لماذا خلَّدتْ لنا كلَّ مَن تناولتْه بالعناية من الشعراء والأدباء والفنَّانين، حتى إن كانوا قد عاشوا حياتهم في نِطاقٍ ضيِّق من اهتمام الناس؟

ربما كان السببُ، هو أنَّ الصفوة المثقفة هي التي تكتُب وتفسِّر وتسجِّل، في حين أنَّ سواد الناس يكتفون بالتلقِّي العابر … وربما كان السبب، هو أنَّ الصفوة المثقَّفة هي التي تُصدِر الأحكامَ الثابتة على أساسٍ من فَهمٍ ثابت، في حينِ أنَّ أفهام الناس وأذواقهم — في مجموعهم وسوادهم — متقلِّبة متموِّجة تتحرَّك وتتطور كلَّما ازدادت حظًّا من المعرفة والإدراك!

أمَّا بعد؛ فإني أستخلص من كلِّ ذلك الرأيَ الذي سبَقَ أن أشرتُ إليه، وهو أنَّ الأدب الكبير، هو ذلك الذي يصلُح لعصره ولكلِّ عصر، وينفع الناس ويعرض لشئونهم، ويوجِّه حياتهم في جيلهم، ثم يمضي بعد ذلك ينفع الناس في كلِّ الأجيال … هو ذلك الذي ينظُر — بإحدى عينَيه — إلى الوطن الصغير، ممثَّلًا في بيئته وزمنه، وبعينه الأخرى إلى الوطن الأكبر، ممثَّلًا في الإنسانية إلى نهاية الدهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤