الباب الثاني

الأدب العربي وتجدُّده

الأدب العربي حافظٌ لرُوحه دائمًا على الرغم من تجدُّد منابع إلهامه، وتغيُّر مظاهر أثوابه. ومَن ينظُر إليه بعينٍ جديدة يبصِرْه دائمًا جديدًا.

***

أثواب الأدب العربي

طالما قلتُ: إنَّنا لو تأمَّلنا الآداب القديمة، لوجدنا أنَّها قد عاصرتْها فنونٌ كبرى؛ فمصر القديمة والهند والإغريق والرومان … إلخ — كانت المعابدُ العظيمة، والتماثيل الرائعة فيها خليقةً أن يُعاصرها أدبٌ يضارعها في قوة البناء ودقَّة التركيب، وروعة الفن: (الملاحم، والقصص، والتمثيل). ولكنَّ الذي حدَثَ في تاريخ الأدب العربي، كان غير ذلك؛ لقد نشأتْ لغةٌ نضرة زاهرة في بيئةٍ قحلاء وسط الصحراء. ولقد كان أقصى ما عاصر لغة «امرئ القيس» أو «لبيد» أو «زهير» من مظاهر الفنون الأخرى — تلك المسوخ والتهاويل لآلهة من الحجر، لا يجرؤ أحد أن ينسبها إلى الفن في قليل أو كثير. ولعلَّ هذا من مفاخر اللغة العربية، أن نراها قد برزتْ وحدها هذا البروز بين الرِّمال، كأنَّها عَرَار أو أُقْحوان، ولعلَّ الفضل في ذلك راجع إلى الشِّعر؛ فالشِّعر زهرٌ قد ينبت في الخلاء، أمَّا النثر فيحتاج في نموه إلى العُمران … لكن جاء العُمران بعد ذلك، بظهور الإسلام، وتكونتْ حضارةٌ إسلامية، واسعةُ الأرجاء؛ فأقيمَت المساجد الجميلة على أنقاضِ الهياكلِ القديمة، وشُيِّدت القصور، ومُلئتْ بالبدائع والطرائف والتُّحف، وتقدَّمت الصناعات، وازدحمت الفنون، وابتلعت الحضارة الإسلامية في جوفَهَا كثيرًا من الحضارات. ومع ذلك، لم يحاول الأدب العربي أن يزيد في قوالب نثره، أو أن يُساير تلك الفنون المعاصرة، ولم يخرج — في الناحية الإنشائية — عن ثوبَيه المعروفَين، وهما: «الرسائل» و«المقامات». والمقامات أعمالٌ قصصية قُصد بها سرد حكاية، وتصوير أشخاص، ولكنَّ الإغراق في الوشي اللفظي والاحتفال بالوضع اللغوي، صرَفَ الكاتب عن التعمُّق في التحليل، والإفاضة في السرد، والإجادة في البناء. فالأدب العربي الإنشائي في تلك الأزمان، قد عُني باللفظ أكثر ممَّا يجب، ولم يشأ أن ينزل عن تكلُّفه الذي يعتبره فصاحةً وبلاغة، ليصور ما يجيش في نفس الشعب من إحساسٍ، وما يُبهجه من خيال.

وهنا حدَثَ أمرٌ عجيب؛ فرُوح الشعب لا يُقهر … هذا الشَّعب في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة، قد تعطَّش للونٍ جديد من الأدب غيرِ لونِ البداوة الأولى، لونٌ من الأدب مستمدٌّ من إحساسه بالحياة الجديدة المتطوِّرة المتغيِّرة … أدبٌ جديد قائم على فنٍّ مساير للفنون الزاهرة المعاصرة. فلمَّا لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدُّوا الناس بحاجتهم؛ لجَأَ الناسُ إلى أدباء من بينهم لا يملكون أداة اللغة، ولا جمال الشكل، ولكنْ يملكون السليقة الفنية ورُوح الخَلق … وهنا ظهَرَ الأدب الشعبي … فما ظهور الأدب الشعبي أحيانًا إلا علامة قصورٍ أو تقصير من الأدب الرسمي، أو صرخة احتجاجٍ على جمود الفصحاء.

هكذا ظهَرَ القَصص في الشِّعر العربي في صورة «عنترة» و«مجنون ليلى». وسارت الحضارة الإسلامية، فسار معها الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي، فإذا نحن أمام عملٍ فني رائع هو «ألف ليلة وليلة» … ثم نَبَت في كلِّ شَعبٍ من شعوب الإسلام قِصصه التي تطبعه بطابع عصره؛ فكان في مصر قصة «أبي زيد الهلالي» و«سيف بن ذي يزن» و«الظاهر بيبرس» وغيرها وغيرها … إلخ.

ومن الغريب، أننا إذا تأمَّلنا «التصميم» الفني، والبناء الروائي لهذا الأدب الشعبي؛ وجدناه من حيث الفن — لا اللغة — هو السائر في الطريق الصحيح محاذيًا تلك الفنون والعلوم التي ظهرتْ بظهور الحضارة الإسلامية. ولقد كان من المستغرَب حقًّا للباحث أن يرى هذه الحضارة ذات فنون وعلوم، ولا يجِدُ في أدبها آثارًا إنشائية تماثِل ما عند جيرانها، حتى كادتْ تُتَّهم العقلية الإسلامية بعُقم خيالها. ولكنَّ الأدب الشعبي الإسلامي صحَّح الوضع أمام التاريخ، وأثبت أن حضارة الإسلام سارتْ في مجراها الطبيعي، مع فارقٍ واحد: وهو أنَّه في الحضارات الأخرى؛ مثل الهندية أو الفارسية أو الإغريقية، كان خاصَّةُ الشعراء والأدباء هم الخالقين لتلك الآثار. أمَّا في حضارة الإسلام، فقد تخلَّى الخاصة عن بعض هذه المهمَّة لعامَّة أدباء الشعب وشعرائه، ووقفوا بعيدين عن كلِّ تعبير أو ابتكار … حتى القرآن، ما حاولوا أن ينتفعوا به انتفاعًا فنيًّا؛ فلقد أتى القرآن بجديد في فن الكتابة لا اللغة وحدها، بل القصص والأساطير؛ لقد استخدم «الفن القصصي» في التعبير عن المرامي الدينية. ولكنَّ المدهش أنَّ الأدب العربي لم يرَ في القرآن إلا نموذجًا لغويًّا … ولم يرَ فيه النموذج الفنِّي. فلم يخطر له استلهام قصصه، أو استغلال أساطيره استغلالًا فنيًّا مستفيضًا … إنَّ وحي الأدب العربي لم يُرِد أن يتحرك، لا إلى أعلى، ولا إلى أسفل … لا نحو القرآن، ولا نحو الشعب. غير أنَّ من الإنصاف أن نستثني واحدًا من أعلامه، هو «الجاحظ»، فهذا الكاتب شعَرَ بالخطأ فسلك مسلكًا آخر، ونزل إلى الشعب يستوحيه، ويصوِّر أسواقه وبخلاءه ولصوصه وتُجَّاره وشرفاءه وخبثاءه، في أسلوبٍ بسيط حي يعدُّ مثلًا طيِّبًا للنثر التصويري في عصور الحضارة العربية، وهو بعينه الأسلوب الذي أثار على «الجاحظ» المسكين نقد المتنطِّعين من أدباء عصره، فرموه بالعاميَّة والركاكة والابتذال. ونستطيع أن نستثني أيضًا بعض الجانب الفني لمقامات «الحريري» و«بديع الزمان»؛ فهذه المقامات، من حيث رسم أشخاصها وتصوير المجتمع في عصرها، تكاد تُعطينا أحيانًا صورًا ناطقة على صغرها؛ كأنها صُوَر «المنياتور» الفارسي. ولم يفسد هذه الآثار الفنية إلا أسلوبها اللغوي، وكأنَّها لم تُكتب إلا لإبراز رصانة اللغة، وثراء اللفظ، وبراعة السجع. أما الخلق الفني فلم يخطر — فيما يظهر — للكاتبين على بال.

وهكذا انطوت قرون، وما زال هذا السد قائما بين النثر العربي، بسجعه وبلاغته المصطنعة، وبين خيال الشعب ورغباته وآماله … ولو أنَّ أدباء الفصحى هدموا هذا السدَّ من قديم، ونزلوا عن بعض جمودهم، وعبَّروا عن مطالب عصرهم وشعبهم؛ لكان الأدب العربي اليوم في مقدِّمة الآداب العالمية. فهذا الأدب بما لديه من قرآن عرَفَ القصص والأساطير، وما راج في مجتمعه من أشباه «عنترة» و«ألف ليلة وليلة»، وما وضع في لغته من «مقامات» تعدُّ أساسًا لفنِّ الأقصوصة؛ هو أحقُّ مَن يزعم للآداب الأخرى أنَّه أحد أساتذة الفن الروائي.

لكنْ وا أسفاه … إنه الأدب الرسمي اللغوي، قد وقف حائلًا دون مجرد الاقتراب من كنوز الشعب، كأنما هي شيء مزرٍ بمقام فضلاء الأدباء؛ لهذا لم نجِدْ أديبًا عربيًّا جرُؤَ على النظر في كتاب «ألف ليلة وليلة» مستلهِمًا فنَّه، متغاضيًا عمَّا في لغته من قصور … لأنَّ الأدب في عُرفهم مرادفُ اللغة الفصحى المُنمَّقة الرصينة المُتحذلِقة، حتى أتى «الجاحظ» بتجديده، محاوِلًا منذ قرون تغيير تلك الفكرة قليلًا في مسألة اللغة والتصوير الشعبي، ولكنَّ التجديد والجمود يتعاقبان في الأمم والآداب والفنون تعاقُبَ النهار والليل. ومنذ أن وطِئَ «المغول» بسنابك جيادهم حضارةَ الإسلام، والأدبُ العربي يعيش في ذلك الليل الطويل.

إلى أنْ طلع أخيرًا فَجر العصور الحديثة، فبزغتْ أشعة التجديد مرةً أخرى. فإذا نظرنا الآن إلى الأدب العربي في ردائه الحديث، أيْ منذ انتهاء الحرب الكبرى الأولى حتى اليوم؛ رأينا ظاهرةً تسترعي الالتفات … هي استئناف الاتجاه الذي بدأه «الجاحظ»، ولكنْ على نطاقٍ أوسع، وبخطواتٍ أسرع. فالأسلوب الكتابي قد تحرَّر نهائيًّا من السجع، وتخلَّى عن الوَشْي اللفظي، وانطلق إلى البساطة والسهولة والمرونة. والوحي الفني لم يعُدْ يفرِّق بين مصدر الخاصة ومصدر العامة؛ فقد تحطَّم السدُّ بين الأدباء الرسميين والأدباء الشعبيِّين في نظَرِ أدباء هذا العصر.

وإذا نحن نرى الشعراء يستلهمون القصص الشعبي العربي القديم فيما ينظمون، ونرى الأدباء يستوحون «ألف ليلة وليلة» فيما يُنشِئون ويدرسون. كما أنَّ إهمال القدماء للأساطير الإسلامية في القرآن وغيره قد صحَّح، واتَّجه الأدبُ اليوم إلى استغلال هذا المصدر استغلالًا فنيًّا!

على أنَّ المهم، في كلِّ ذلك، هو استخلاص الصفة المميِّزة لاتجاه الأدب العربي في ردائه الحديث، وإنَّ استخلاص ذلك ليس بالأمر السهل؛ فإنَّ النظرة العَجلى تُوقِع في الخطأ. ولقد خُدع بعض المستشرقين والباحثين بمظهر بعض قوالب هذا الأدب، وخصوصًا قوالب القصص والتمثيل؛ فأسرع يقرِّر أنَّ الصفة المميزة لهذا الأدب اليوم هي تأثُّره المطلق بالآداب الأوروبية … والنظرة المتعمِّقة تُرينا أنَّ الأدب العربي — ككلِّ أدبٍ حي — لم يُغمِض، ولا يستطيع أن يغمض عينه عن الحضارات المحيطة به … ولقد فعَلَ ذلك في كلِّ أطواره الغابرة. فتأثُّره، فيما مضى، بالثقافة الهندية والفارسية والفلسفة اليونانية، لا يقِلُّ عن تأثُّره اليوم بالثقافة اللاتينية والأنجلوسكسونية … ذلك أنَّ من الحُمق أن نطالب أدبًا بالاحتفاظ دائمًا بردائه القديم، أو نطالب شخصًا بأنْ يُبقي على جسده ثوبه، حتى نستطيع إذا قابَلْناه أن نميِّز شخصيته. هنالك فرق بين الشخص والرداء، والأدب العربي محتفظٌ بشخصه ورُوحه دائمًا على الرغم من تغيُّر أَردِيتُه بتغيُّر الأزمان، فهو في نظر الباحث المتعمِّق يسير سَيرَه الطبيعي … والطبيعي هو أن يرى ثياب عصره، ويخرُج في زِي زمانه … فلا يسخر منه أحدٌ، ويقول: إنه يرتدي في القرن العشرين ثيابًا تاريخية كالمُمثِّلين … كلَّا … إنَّه يعيش عصره مع العالم، ويرتدي الزيَّ العالمي المعاصر، ولكنَّه — برغم ذلك — يحتفظ دائمًا بجنسيته ورُوحه وتفكيره وذكريات ماضيه، ومشاعر نفسه … نعم … إنَّ الفرق كبيرٌ جدًّا بين الرُّوح والرداء. وآداب الشعوب الحيَّة اليوم كصورتها: رِداءٌ واحد، ورُوحٌ مختلِف.

الجاحظ وعصرنا

قلَّما يحتفظ الإنسان بشيءٍ من آثار الصِّبا؛ فإذا عثَرَ على أثرٍ من تلك الآثار وقد وخَطَه الشيب؛ كان لذلك في نفسه أجملُ الوَقْع … وإنِّي لكثرة التنقُّل في الحياة وبُعد الشُّقة في الزمن؛ قد فقدتُ كثيرًا من آثار صِباي … ولكنِّي عجبتُ ذاتَ يوم، وقد وقَعَ في يدي كتابٌ لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ … كُتب على جِلدته اسمي فوق عِبارة: «سنة أولى فصل أول.» بخطِّي الذي كان لي في ذلك الوقت … وما رأيتُ أنه مُختلِفٌ كثيرًا عن خطِّي في هذه الأيام … لقد فرحتُ بذلك الأثر. ورجعتُ بفِكري القهقرى، وأنا أتساءل: أحقًّا كنَّا نقرأ الجاحظ في مثل تلك السنِّ؟! … أغلب الظنِّ أنَّ هذا الكتاب لم يكُن من مقرَّرات المدارس في ذلك العهد … إنما هو نوعٌ من المطالعات الخاصَّة التي كنَّا نغرق فيها خارجَ الدرس … ذلك أنِّي لم أنسَ صفحةً من صفحات هذا الكتاب الذي كنتُ أقرؤه كثيرًا، في ذلك الحين، مع ما كنتُ أقرأ من آثار الأدب القديم. والحقُّ أنَّ الجاحظ — وقد مضى على وفاته أكثر من ألفِ عام — هو الأستاذ المباشر لأكثر رجال القلم في الأدب العربي المعاصر؛ لأنه رفَعَ عَلَم التجديد، وعلِمَ الكتَّاب أنَّ الأسلوب أداةٌ للتعبير القويم عن النفس والفكر؛ لا وَشْي من اللغو، ولا بضاعة من الزخرف يراد بها اللهو … وإنِّي لمُوقِن أنَّ الجاحظ لو استطاع أن ينظُر إلينا من عالمه الآخر، لمَا أنكَرَ كثيرًا من الأساليب التي يُنشِئ بها كتَّابُ اليوم أفكارَهُم … بل إنه، لفرط صِدقه في تصوير نفسه وعصره، وصراحته في التعبير عن المشاعر الإنسانية الثابتة فيه وفي الناس؛ قد لا يرى إلا تغييرًا يسيرًا في المحيط الأدبي، لا في الشرق وحده؛ بل في كلِّ مكانٍ وزمانٍ يوجد به أدبٌ وأدباء وكتَّاب ومؤلِّفون! … ولنستمع إليه إذ يقول بلغته، التي كان يكتب بها منذ عشرة قرون: «إنِّي ربما ألَّفتُ الكتاب المُحكَم المُتقَن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخُطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي؛ فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم، بالحسَدِ المركَّب فيهم، وهم يعرفون براعته … وأكثر ما يكون هذا منهم، إذا كان الكتاب مؤلَّفًا لمَلِك، معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرفع، والترهيب والترغيب؛ فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياجَ الإبل المغتلِمة، فإنَّ أمكنتْهم الحيلةُ من إسقاط ذلك الكتاب، عند السيد الذي أُلِّف له، فهو الذي قصدوه وأرادوه … وإنْ كان السيد المؤلَّفُ له الكتاب تحريرًا نقَّابًا وحاذقًا فطنًا، وأعجزتْهم الحيلة؛ سرقوا معاني ذلك الكتاب، وألَّفوا من أعراضه وحواشيه كتابًا، أهدَوه إلى مَلكٍ آخر … وهُمْ قد ذمُّوه وثلبوه لمَّا رأوه منسوبًا إليَّ وموسومًا بي … وربما ألَّفتُ الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه؛ فأُترجمه باسم غيري، وأُحيله على مَن تقدَّمني عصره، مثل ابن المقفع، فيأتيني أولئك القوم الطاعنون على الكتاب، الذي كان أحكَمَ من هذا الكتاب، لاستنساخه وقراءته عليَّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويُصيِّرونه إمامًا يقتدون به … ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كُتُبهم وخطاباتهم؛ لأنه لم يُترجم باسمي، ولم يُنسب إلى تأليفي.» إلخ.

ما الذي تغيَّر اليوم من هذه الصورة، وما الذي بقي؟ ما من ريبٍ في أنَّ الغرائز البشرية التي وصَفَها «الجاحظ» لا سبيل إلى زوالها.

فلقد استولتْ على النفوس اليوم أيضًا، رُوح الاستهانة بالمُثُل العليا … وتملَّكَ القلوب والأجسام شيطانُ المتعة اليسيرة العاجلة! … ما من أحدٍ يريد أن ينقطع إلى عِلمٍ، أو يتوفَّر على فنٍّ … إنما الكلُّ يتطلَّع إلى الثمرة قبل الشجرة! … فلَمْ يعُدْ للكثيرين جَلَد على درسٍ، أو صبرٌ على كَدحٍ … وبعضهم لا ينظُر إلى الجهد الذي يجب أن يُبذل، ولكنَّه يُبصر المراتب التي يجب أن يرقى إليها، لا يريد أن يضيِّع وقتًا في الغرس البطيء والإعداد الطويل، ولكنه يريد الثمرة عجِلًا متلهِّفًا … لذلك قلَّ الاطلاع العميق، وندَرَت القراءة المُجدِية؛ فاختلَّت الموازين، وفسَدَت القِيَم!

يضاف إلى ذلك شعورٌ بالنقص، وضعفٌ في الثقة بالنفس والجنس؛ فالفكرة المنسوبة إلى أوروبيٍّ تُحترم بغيرِ بحث، والفكرة المنسوبة إلى مصريٍّ أو شرقيٍّ تُهمل بغيرِ فحص … كما أنَّ اختلاف الثقافة: من كيف وكم، وتبايُن العقلية: من قديم وحديث، أو سطحي وعميق، وتضارب الأذواق: من سلامة وسقم، أو ارتفاع وانحدار؛ كل ذلك يجعل مهمَّة الأدب الجِديِّ اليومَ عسيرةً، ويضيِّق نطاق الجديرين بالنَّظر فيه.

ذلك هو العصر الذي نحياه … وما أرى «الجاحظ» إلا راضيًا عن نفسه، قانعًا بمصيره، لو أتيح له أن ينظُر إلينا اليوم من غابر زمانه!

فنٌّ جديدٌ عند الجاحظ

خيِّل إليَّ — وأنا أقرأ كتاب «التربيع والتدوير» للجاحظ — أنَّه يصنع فنًّا طريفًا في زمانه دون أن يدري؛ فقد أراد أن يصِفَ رجلًا يعرفه ويتهكَّم عليه … فأمسك بالقلم وخطَّ له صورةً، لو كانت بالرسم لا بالبيان؛ لأُطلق على عمله الآن اسم «الكاريكاتور»!

ومن مفاخر «الجاحظ»: أن يكون تصويره بالنثر، بذلك قد يفوز في هذا المِضمار بالسَّبق؛ لأنَّ فنَّ «الكاريكاتور» في الرسم قديمٌ، عرَفَه التاريخ منذ عرَفَ فنَّ الرسم والتصوير، فإن مُضحِكات البَشَر وحماقتهم وعيوبهم وسوءاتهم، ورغبة البعض في الضحك من البعض؛ كلُّ هذا قديمٌ قِدمَ الإنسانية نفسها … فكما عرَفَ؛ الشعراءُ منذ القدم كيف يهجون؛ عرَفَ الرسَّامون كيف يسخرون!

ولقد وُلد فنُّ «الكاريكاتور» منقوشًا على الأواني الإغريقية، كما وُلد منقوشًا على جدران «الهركيولانوم» في «بومبي» … بل لقد عُثر عليه في آثار مصر القديمة.

أمَّا في مجال الكتابة؛ فإن أقرب الأساليب شبهًا «بالكاريكاتور»، قد نجده في القرن السادس عشر … قد نجده في كتاب «الأحلام المُضحِكة» لرابليه، وقد نجده في كتاب «تمجيد الحماقة» لإيراسم! … وغير ذلك من الكتابات التي تهدف إلى إبراز ما تُخفيه طبائع الناس ومظاهرهم من مثالب.

إذا صدق ظنِّي؛ فالجاحظ إذن من أسبق الكتَّاب إلى التصوير الكاريكاتوري. لقد ظهَرَ — قبله بالطبع — كثيرٌ من الهجَّائين، شعراءً كانوا أو ناثرين، ولكنِّي أعتقد أنَّ الهجاء شيء، والكاريكاتور شيءٌ آخر … إنَّ في كل «كاريكاتور» نوعًا من الهجاء، ولكنْ ليس في كلِّ هجاءٍ نوعٌ من «الكاريكاتور»! … إنَّك بالهجاء تريد أن تنال ممَّن تهجو، بالحقَّ وبالباطل، بالحقيقة أو بالافتراء؛ دون أن تقصد في كلِّ الأحوال أن تُثير فينا الضَّحك منه، أو تُظهرنا على مواضعَ فيه باعثةٍ على العبث به والتندُّر عليه! … كل همِّك في الهجاء أن تُزري بخصمك، وأن تطعنه في عزَّته وكرامته ومواطن رفعته وقوَّته. أمَّا في «الكاريكاتور»؛ فإنَّ غرضك الأول هو أن تبحث عن الغلطة المحسوسة في تكوينه الجسماني، وأن تنقِّب عن السقطة الملحوظة في تركيبه النفسي، وأن تفتِّش عن الخلَّة الممقوتة في طبعه الخُلقي، حتى إذا عثرتَ على شيءٍ من ذلك، وأنت لا شك واجدٌ في أغلب الأحيان، بادرتَ إلى قلمك أو ريشتك، فقُمتَ تُمعن في تجسيم هذا العيب وتضخيمه، وإبرازه على نحوٍ يجعله في نظَرِ الرائي أو القارئ طاغيًا على ما عداه من صفات! … فلا يقع البصر أو الذهن إلا على العيب وحده قائمًا، كأنه هو الشخص كلُّه، وليس للشخص سواه من قوام أو كِيان أو وجود.

ولْتُصغِ إلى «الجاحظ» حيث يقول في كتابه عن ذلك الرَّجُل الذي جعله فريسةً لتصويره: «كان أحمد بن عبد الوهاب مُفرط القِصَر، ويدَّعي أنه مفرط الطول، وكان مربعًا وتحسبه، لسعة جفرته واستفاضة خاصرته، مدوَّرًا. وكان جعد الأطراف، قصير الأصابع، وهو في ذلك يدَّعي البساطة والرشاقة وأنَّه عتيق الوجه، أخمص البطن، معتدل القامة، تام العَظم. وكان طويلَ الظَّهر، قصيرَ عَظم الفخذ، وهو مع قِصَر عَظم ساقه يدَّعي أنَّه طويلُ النِّجاد، رفيع العماد، عالي القامة، عظيم الهامة، قد أُعطي البسطة في الجسم، والسَّعة في العِلم. وكان كبير السن، متقادم الميلاد، وهو يدَّعي أنه معتدلُ الشباب، حديث الميلاد … إلخ.»

وعلى هذا النحو يمضي «الجاحظ» يصوِّر لنا ذلك الرجل تصويرًا، لا يريد به هجاءه، بقدر ما يريد به إضحاكنا منه! … وهذا هو رُوح فنِّ «الكاريكاتور».

على أنَّ من الشعراء مَن أتقن ذلك اللونَ بشِعره أكثرَ ممَّا أتقنه «الجاحظ» بنثره … وكلُّنا يذكُر لابن الرومي تلك الأبيات، التي يصِفُ بها رجُلًا أحدب:

قصُرتْ أخادِعُه وطال قَذالُه
فكأنَّه مترقبٌ أن يُصفعا
أو أنَّه قد ذاق أولَ صفعة
وأحسَّ ثانيةً لها فتجمَّعا

وهكذا زاوَلَ العربُ فنَّ «الكاريكاتور» شعرًا ونثرًا، حيث لم تُتِح لهم الظروفُ أن يُزاولوه رسمًا ونقشًا … كلُّ شيء خطَرَ على بالِ عبقريتهم … وإنهم ليُعوِّضون دائمًا ما يفوتهم في جانب، بالإجادة في جانبٍ آخر! … قانون التعويض الطبيعي كان رائدهم الخفيَّ في حضارتهم … حضارة كاملة شاملة، آن للغرب الظالم المُجحِف أن ينظُر إليها بعين التقدير والتوقير!

نظرةٌ حديثة إلى أبي العلاء

ما من شيءٍ كان يخلب لبَّ الشرقي في «باريس» مثل مناظر الرقص في مسرح «الفولي برجير» أو «الطاحونة الحمراء» … هنالك ترى عيناه الستار، قد انفرج عن جنة من ورق، نضَّرتْه الأصباغ، وأنعشتْه الأنوار! قامت فيها أشجار، تتساقط من بين أغصانها حُورٌ عاريات، يهبطن المسرح راقصاتٍ مغنِّيات … لا ذلك الرقص الذي نراه في بلادنا مقصورًا على هزِّ الثدي والأرداف، ولكنَّه رقصٌ هو إلى الشِّعر أقرب، فما مجموعة الراقصات هناك إلا بيتٌ من الشِّعر! … كلُّ امرأةٍ فيه كلمة! … وكلُّ كلمةٍ ذات معنًى خاصٍّ من حُسنها الذاتي! … وإذا الكلمات أو الراقصات يتجمَّعن في عِبارة من حركاتهنَّ المُنسَّقة، ولها معنًى أشملُ وأعمُّ، كمعنى بيتٍ منظوم له رويٌّ ونغم! … كنا نشاهد ذلك عقب الحرب العالمية الأولى، ونقول ما نقول في أنفُسنا معجَبِين بالخيال الغربي!

لقد أنستْنا براعةُ الإخراج ما في بطون الكتب! … ذلك أنَّ العجب الأكبر هو أنَّ «أبا العلاء المعري» تخيَّل أكثر من ذلك منذ ألف عام! … ولْنرجع إلى تصوُّره لحدائق الحُور، ورقص الحور في «رسالة الغفران»، ولْنُصغِ إليه حيث يصف: «ويمرُّ ملَكٌ من الملائكة فيقول: يا عبد الله! أخبرْني عن الحُور العِين، أليس في الكتاب الكريم: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ

إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين؟

فيقول الملَكُ: «اقفُ أثَرِي»! … فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق، لا يعرف كُنهَها إلا الله. فيقول الملك: «خذْ ثمرةً من هذه الثَّمَر فاكسرها، فإن هذا الشجر يُعرف بشجر الحور!» … فيأخذ سفرجلة أو رمَّانة أو تفاحة أو ما شاء الله من الثمار؛ فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراءُ عيناء! … إلخ.» ومضى «أبو العلاء» يروي أنَّ «الخليل بن أحمد» دخَلَ الجنة، وكانت له أبياتٌ تصلُح لأنْ يُرقص عليها … فأنشأ الله شجرةً من الجوز تونع لوقتها، ثم تنفض عددًا من الثَّمر تنشقُّ كلُّ جوزةٍ منه عن أربع جَوَارٍ يرُقن الزائرين، يرقصن على أبيات «الخليل»:

إنَّ الخليط تصدَّعْ
فطِرْ بدائك أو قَعْ
لولا جوارٍ حِسانٌ
مثلُ الجآذر أربَعْ
لقُلتُ للظاعنِ اظعنْ
إذا بدا لك أو دعْ

أكان ينقُص هذا الخيال غير مُخرجٌ يُقيمه فوقَ مسرح؟ ولكنَّ الذي يُدهشني حقًّا، هو أنَّ فكرة «أبي العلاء» عن الرقص لا نرى لها أثرًا فيما ورثناه من ذلك الفنِّ … لقد كان ذلك الضرير، مثل «هومير»، يتخيَّل الأشياء في سموِّها وعلوِّها، لقد استطاع أن يرى فنَّ الرقص على ما ينبغي له من نُبل وارتفاع! … ولكنَّ المحيط الاجتماعي فيما أعتقد هو الذي طبَعَ الرقص الشرقي بهذا الطابع الذي نعرف، فقد كان هذا الفن — ممَّا تزاوله الجواري — لا ليُعرض أمام الجماهير، في مكانٍ رحب، ولكنْ ليُعرض أمام مولًى أو سيد، في لحظات أُنسٍ ومتعة في خِدرٍ من الخدور، أو مجلس من مجالس الشراب والسرور! … هذا المكان الضيِّق، وهذه الظروف الخاصة، حدَّدتْ شكلَ ذلك الذي نسمِّيه اليوم بالرقص الشرقي … فكان مجاله — كما نرى — جسم الجارية … والحركة فيه لا تتعدَّى حركةَ أعضائها، فالراقصة بلحمها وحده، هي كلُّ مدار الرقص وكل مسرحه! … ومعاني فنِّها لا تتجاوز إبرازَ محاسن أعضائها، على النحو الذي يروق لرجُلٍ في يده كأس … أمَّا الرقص الغربي؛ فقد ورثَ أصوله عن الإغريق … والمجتمع الإغريقي عرَفَ الرقص فنًّا يُعرض في الهواء الطَّلق أمام الجماهير … وكان لشيوع الألعاب الرياضية «الجمباز»، وازدهار النحت، و«التراجيديا» أثرٌ — ولا ريب — في طبع الرقص الإغريقي بذلك الطابع، الذي نرى صُوَره اليومَ على بقايا الأواني وأفاريز المعابد! … رقصٌ ليس المجالُ فيه جسمَ الراقصة وحده، بل حركةُ الجسم في إطار المكان. وليس رويُّه ونظمه ونغمه في التناسق بين حركة ردفٍ وبطن، بل بين تماوُج راقصةٍ وراقصة! … في الرقص الشرقي، يدور الحوار دائمًا، بين عضوٍ وعضو من جسم راقصة! … أمَّا الرقص الغربي، فالحوار يدور بين الراقصة والهواء، وبين مجموعة من الراقصات والفضاء! … وإنَّ الأذرُع والسِّيقان والأقدام لتتحرَّج وتتماوج، ولكنها لا تفقد أبدًا الصلة بينها وبين الطبيعة المحيطة بها من أرضٍ وفضاء.

إنَّ الراقصة الشرقية دائمًا فوق الأرض، كأنَّها في الطين مغروسة. أمَّا الراقصة الغربية، فكأنها تريد أن تُثبت أنَّها تمشي في الهواء مرتفعةً عن الأرض، فهي تخطو على أطراف الأنامل وتثِبُ كأنَّها جَواد!

إنَّ الصلة بين الجواد والراقصة يلمحها كلُّ من نفَذَ إلى رُوح الرقص … لقد حدَّثنا «بول فاليري» — فيما حدَّثَ عن المصوِّر «دجاس»، الذي حذق تصوير راقصات «الباليه» — أنَّ ذلك الفنان لم تغِبْ عنه تلك العلاقة بين الراقصة والجواد؛ فقد كان يدرس خيلَ السِّباق فيما يدرس من مصادر فنَّه! … فالجواد هو الآخر يمشي على أطراف حوافره متبختِرًا، أنامل أربع تحمله! … ما من حيوانٍ غيره يُشبه الراقصة الأولى في مجموعة «الباليه»! … ولقد ذكَرَ لنا أن «دجاس» وصَفَ جوادًا ببيتٍ من الشِّعر قال فيه: عصبيُّ المِزاج، في عُريه الكامل، وثوبُه الديباجُ!

هناك أيضًا نجِدُ شعراءَ العرب قد فطنوا إلى ذلك الشبه وتلك الصلة، وقالوا في الجواد مثلَ ذلك قبل قرون! … وها هو ذا «البحتري» يقول:

جَذلانَ تَحسُدُه الجِيادُ إذا مشى
عنَقًا بأَحسنِ حُلَّةٍ لَم تُنسجِ

وقبله قال «زهير»:

ومُلجِمُنا ما إنْ ينال قَذَالَه
ولا قدَمَاه الأرضَ إلَّا أنَامِلُه

كما قال، كذلك «ابن المعتز»:

إذا مالَ عن أعطافِهِ قُلتَ شارِبٌ
عتاه بتصريفِ المُدامةِ طافحُ

ما قصَّر شعراء الشرق إذن في فهْمِ رُوح الرقص، ولكنَّ الذي جنى على هذا الفنِّ هو رُوح المجتمع الشرقي! … لولا ذلك، لكان «أبو العلاء المعري» هو خالق «الباليه» الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤