الباب الرابع

الأدب والدِّين

الدين والأدب، كلاهما يُضِيء من مِشكاةٍ واحدة.

***

السماء هي المنبع

هنالك صلةٌ — في اعتقادي — بين رجُلِ الفنِّ ورجُلِ الدِّين؛ ذلك أنَّ الدين والفنَّ كلاهما يُضيء من مشكاةٍ واحدة، هي ذلك القبَسُ العلويُّ الذي يملأ قلبَ الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان … وإنَّ مصدر الجمال في الفنِّ هو ذلك الشعور بالسموِّ الذي يغمُر نفسَ الإنسان عند اتصاله بالأثر الفنيِّ … من أجل هذا، كان لا بد للفنِّ أن يكون مثل الدِّين، قائمًا على قواعد الأخلاق.

وهذا رأيي! ولكنَّه ليس رأيَ كلِّ المشتغِلين بشئُون الفنِّ.

فلَقَد اشتدَّ الجدَلُ من قديمٍ بين طائفتَين؛ طائفة تقول: إنَّ الفنَّ ينبغي له أن يكون أخلاقيًّا. وطائفة تقول: إنَّ الفنَّ يجب أن يتحرَّر، حتى من الأخلاق؛ لأنَّ الجمال في الفنِّ ينبع من الإتقان، وأنَّ الإجادة في تصوير الدَّمامة والرذيلة لا تقلُّ فضلًا عن الإجادة في تصوير الحُسن والفضيلة! … هذا صحيح … وإنِّي لأشدُّ الناس تمسُّكًا بحريَّة الفنِّ، وإدراكًا لقدسيَّة هذه الحرية، ولا أتصوَّر فنًّا لا يصوِّر الرذيلة كما يصوِّر الفضيلة، ولا يُبرز القبيح كما يُبرز الحَسَن! … وإنَّ الدين أيضًا — في تنزيله — يصوِّر لنا رجسَ المشركين وإثمَ الكافرين وقُبحَ الأشرار والمُفسِدين، كما يُبرز لنا فضلَ المؤمنين وإحسانَ المُحسِنين. ولكنَّ المقصود ليس حريةَ التصوير؛ فهذه مكفولةٌ في الفنِّ، ملحوظةٌ في الدِّين. إنما المقصود هو ذلك الإحساس الأخير الذي ينقله الفنُّ والدِّين إلى النفوس!

ما من ريبٍ في أنَّ الإحساس الأخير، الذي ينقله الدِّين إلى النفوس — مَهمَا يكُن لونُ الصورة، ولون التصوير — هو إحساسٌ أخلاقيٌّ.

فهل هذا هو واجب الفنِّ أيضًا؟ … أو أنَّ الفنَّ حرٌّ حتى في إحداث الأثر الذي يريد، غير مقيَّد حتى في إقرار المشاعر غير الأخلاقية في نفوس الناس؟

يقول «شوبنهور»: إنَّ النية لا قيمةَ لها في الأثر الفنِّي … أيْ أنَّ نيات الفنَّان الصالحة أو الطالحة، لا تقدِّم ولا تؤخِّر في القيمة الفنية لعمله.

ويقول «جويو»: «إنَّ الرُّوح الأخلاقي عند الفنَّان كعبقريته؛ يجب أن ينبعا معًا، وفي وقتٍ واحد، من أعماق طبيعته … وإنَّ الفنَّ غير الأخلاقي، هو على كلِّ حال أحطُّ مرتبةً، حتى من وجهة النَّظَر الفنيَّة الخالصة … ذلك أنَّ الفنَّ العالي، ليس ذلك الذي يُثير في النفس أحرَّ المشاعر وأعنفها فحسب، ولكنَّه الذي يُثير فيها أكرمَ المشاعر وأرحمَهَا. إنَّ خطَرَ الفنِّ يرجع إلى تلك القدرة العجيبة فيه، تلك التي يستطيع بها أن يستدرَّ عطفَك على مخلوقاته، ويَستَلِبَك إعجابَك بصُوَره. وإنَّ العطف والإعجاب يُعدِيان كالمرض. فإذا أبدع الفنُّ في تصوير نوعٍ من الشذوذ أو الانحطاط، وحمَلَك بهذا الإبداع على أن تعطف على الانحلال وتعجَّ بالتدهور؛ فإن مجتمعًا بأَسْره يمكن أن تسري فيه العدوى عن طريق هذا الفن.»

ما مهمَّة الفنِّ الحقِّ إذن؟ أهي أن يقِفَ في المجتمع واعظًا ومُرشِدًا وهاديًا إلى سواء السبيل؟

من المُجمَع عليه أنَّ الوعظ والإرشاد ليسا من وظيفة الفنِّ؛ لأنَّ وظيفة الفنِّ هي أن يخلُق شيئًا حيًّا نابضًا، يؤثِّر في النفس والفكر.

ما هو نوع هذا التأثير؟ … هنا المسألة!

إنَّ نوع التأثير هو الذي يحدِّد نوعَ الفن، فإذا طالعتَ أثرًا فنيًّا: قصيدة أو قصة أو صورة، وشعرتَ بعدئذٍ أنَّها حرَّكتْ مشاعرك العليا أو تفكيرك المرتفع؛ فأنت أمام فنٍّ رفيع! … فإذا لم تحرِّكْ إلا المُبتذَل من مشاعرك والتافه من تفكيرك؛ فأنت أمام فنٍّ رخيص.

هنالك سؤالٌ آخر: ما مصدر هذا التأثير في العمل الفنِّي؟ … أهو الأسلوب أم اللبُّ؟ … أهو الشكل أم الموضوع؟

إنَّ الأثر الفني الكامل في نظري، هو ذلك الذي يُحدِث فِينَا ذلك الشعورَ الكامل بالارتفاع! … وقلَّما يحدُث هذا إلا عن طريق السموِّ في اللبِّ والأسلوب؛ لأنَّ ضعف «الشكل» وسقم الأسلوب يُحدِثان في النَّفْس شعورًا بالقبح والضِّيق والاشمئزاز، وهذا يُنافي الشعور بالجمال، والتناسُق، والانسجام!

شأن الفنِّ، هنا أيضًا، شأن الدِّين … فما من رجُلِ دِينٍ يُثير في نفسك إحساسًا عُلويًّا حقًّا إلا إذا كان في طريق حياته مستقيمَ السُّلوك، سليمَ الأسلوب! … بغير ذلك يختلُّ التناسُق بين الغاية والوسيلة، وبهذا الاختلال يُداخِل النَّفْس شعورُ الشكِّ في حقيقةِ رجُلِ الدِّين!

لو علِمَ رَجُل الفنِّ خطَرَ مهمَّته، لفكَّر دهرًا قبل أن يخطَّ سطرًا! … ولكنَّ الوحي يهبط عليه فيسعفه. ومعنى هبوط الوحي أنَّ شيئًا ينزل عليه من أعلى؛ شأنه في ذلك شأن المُصطَفَين من أهل الدِّين! … وهل يمكن أن يهبط من أعلى إلا كلُّ مرتفعٍ نبيل؟

للدِّين والفنِّ … السماءُ هي المنبع!

الماء الحي

«وكان لا بد له أن يجتاز «السامرة» … فأتى إلى مدينةٍ في «السامرة» يقال لها «سوخار» بقُرب الضيعة التي وهَبَها يعقوب ليوسف ابنه … وكانت هناك بئرُ يعقوب … فإذا كان «يسوع» قد تعب من السَّفَر، جلَسَ هكذا على البئر.

فجاءت امرأةٌ من «السامرة» لتستقي ماء … فقال لها «يسوع»: أعطيني؛ لأشرب!

لأنَّ تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا.

فقالت له المرأة السامريَّة: كيف تطلب منِّي لتشرب، وأنت يهودي، وأنا امرأةٌ سامرية؟

لأنَّ اليهود لا يُعاملون السامريين.

أجاب «يسوع» وقال لها: لو كنتِ تعلمين عطيَّة الله، ومَن هو الذي يقول لكِ: أعطيني لأشرب؛ لطلبتِ أنتِ منه، فأعطاكِ ماءً حيًّا!

فقالت له المرأة: يا سيد … لا دلوَ لك، والبئر عميقة؛ فمن أين لك الماءُ الحيُّ؟ … ألعلَّك أعظمُ من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟!

أجاب «يسوع» وقال لها: كلُّ مَن يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، ولكنَّ مَن يشرب من الماء الذي أُعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حيواتٍ أبدية.»

طالعتُ هذا القول في إنجيل «يوحنا» ونحن على أعتاب عامٍ جديد من مولد «يسوع»، وتساءلتُ: كَم من البَشَر انطفأ فيه ذلك العطش، ونبع فيه ذلك الماء الحي؟! … ما من ريبٍ أنَّ العدد قليل؛ ذلك أنَّ ملايين العطشى كثيرون في كلِّ جيل! … إنَّ لكلِّ إنسانٍ بين جنبَيه بئرًا عميقة. ولقد رأيتُ من الناس من يُلقي في بئره دلوًا من ذهب؛ فلا يجِدُ الدلو في القرار غيرَ نضوبٍ وجفاف! … ورأيتُ منهم من يُلقي في بئره دلوًا من ذكاء؛ فلا يجِدُ الدلو في القرار غيرَ حصًى مرصَّعٍ وحجارةٍ مرصوفة!

أين الماء؟ … وأيُّ دلوٍ يصل إليه؟

إنَّه موجودٌ، ليس في كلِّ النفوس، ولكنَّه ينبع في النفس التي تلقَّت بركاتِ السماء! … وقد لا تشعُر هي بوجوده، وقد لا يشعُر بذلك أيضًا الناسُ المحيطون بها؛ لأنَّ هذه النِّعمة أسمَى من أن تراها كلُّ العيون.

هناك أمثلةٌ كثيرة، ولكنَّ أبسطها وأقربها إلى فَهْم العامَّة، مثل ذلك النَّجَّار الذي كان يعمل في حانوته طول النهار، فإذا جاء المساء؛ ذهب بربحِ يومه إلى داره، فتعشَّى هو وعياله، ثم رفع عقيرته بالغناء! … فغنَّى، وأنِسَ، وطرِبَ بعضَ ليله، ثم نام بين أُسرته نومًا هنيئًا هادئًا لذيذًا حتى الصباح، وكان له جارٌ غنيٌّ يرى هذه الحال منه، ويتعب ويقول في نفسه: «كيف يكون لهذا النَّجَّار على فَقْرِه مثلُ هذا الصفاء … وأنا الغنيَّ، لا أنام ولا أهمد، ولا يُطفِئ المالُ عطشي للثَّراء!» ثم عزَمَ على أن يدبِّر للنَّجَّار أمرًا … فألقى في داره الحقيرة بكيسٍ مملوءٍ بالذَّهَب، وجعل يترقَّب ما يحدُث، وعندئذٍ حدَثَ العجب؛ فقد انقطع الغناء الذي كان يرتفع مرَحًا من دار النَّجَّار، وسكَتَ القلبُ المغرِّد السعيد، ولغَطَ الذِّهن المفكِّر المكدود، وذهَبَ النوم الهنِيء، وحلَّ السُّهاد الطويل، وشغَلَ النَّجَّار، نهاره وليله بأمر ذلك المال الذي هبط عليه؛ كيف ينتفع به ويستغلُّه ويُنميه؟ … ومرَّت الأيام والليالي، وقد خيَّم على دار النَّجَّار ذلك السَّحاب الذي يخيِّم على دار جاره الغني! … سحاب الهمِّ الذي لا يزول؛ لقد بدأ الجري الدائم خلفَ السَّراب! … لقد غاض النَّبع من البئر، وجاء العطَشُ الذي لا ينطفِئ أبدًا!

•••

درسُ «يسوع» ليس للأفراد وحدهم؛ بل للدول أيضًا! … هذه الحروب — التي لا ينطفئ سعيرها — إنما هي علامةُ عَطَش! … متى تؤمن الدول القوية أنَّ هذا العطش، لا يُطفِئه الطغيان ولا السيطرة؟ … كلُّ دولة تشرب من بئر «السيطرة»؛ تعطش أيضًا!

أجراس «الميلاد» تدقُّ في أدياركِ وكنائسكِ أيتها الدول الكُبرى؛ فلا تغتري ولا تظُنِّي «القنابل الذريَّة» تُطفِئ عطشك، بل ثقي أنَّ الذي يُطفِئه إلى آخر الأزمان، هو ذلك الماء الحي، الذي تحدَّث عنه السيد المسيح!

الحقيقة الكاملة

يروي الفيلسوف الصيني «لي هتز» هذه الأسطورة المملوءة بالحكمة: «فوق تلٍّ من تلال غابةٍ نائية، كان يعيش رجلٌ شيخ، مع ابنٍ له وجواد … ذات صباح، هرب الجواد واختفى؛ فأقبل الجيران على الشيخ يُعزُّونه في نكبته بفَقْدِ جواده … فقال لهم الشيخ: «ومَن أدراكم أنها نكبة؟»

فصمتوا وانصرفوا واجِمِين! … ولم تمضِ أيامٌ حتى عاد الجوادُ إلى صاحِبه من تِلقاء نفسه، لا وحده، بل مُصطحِبًا معه عديدًا من الخيول البريَّة … فعاد الجيران إلى الشيخ فرِحِين مُهنِّئين بهذا الغُنْم الموفور، وهذا الحظِّ السعيد، فنَظَر إليهم الشيخ بهدوء، وقال: «ومَن أدراكم أنَّه حظٌّ سعيد؟»

فسكتوا مَذهُولِين، وانصرفوا متحيِّرين، ومرَّت الأيام! … وجعَلَ ابنُ الشيخ يُروِّض الخيول البريَّة، فامتطى منها جوادًا عنيدًا، فسقط من فوق صهوته إلى الأرض، فكُسرت ساقه؛ فرجَعَ الجيران مرةً أخرى إلى الشيخ مَحزونِين، يبثُّونه ألَمَهم لما وقَعَ لولده، ويعزُّونه في هذا الحظِّ العاثر!

فقال لهم الشيخ برفقٍ: «ومَن أدراكم أنَّه حظٌّ عاثر؟»

فانصرفوا صامتين! … ومضى العام! وإذا حربٌ تقوم، وجُنِّد الشباب، وأرسلوا إلى الميدان؛ فلاقى أكثرهم الحتف، إلا ابن الشيخ؛ فإنَّ العرَجَ الذي بقَدَمه أعفاه من الذهاب إلى الحرب؛ وأنقذه من ملاقاة الموت!»

•••

إلى هنا تنتهي قصة الفيلسوف الصيني، ولو أنه استرسل فيها لمَا فرغنا من تعاقُب السَّعد والنَّحس على الحادث الواحد، ذلك أنَّ لكلِّ شيءٍ نهاره وليله، يدوران حوله بغيرِ انقطاع، ولكنَّ الإنسان في نظرته القصيرة وذاكرته الضعيفة؛ لا يرى الحادث إلا في حلقاته المُنفصِلة، وأجزائه المتقطِّعة، ونتائجه المؤقَّتة ومؤثِّراته المُفاجِئة. فعينُه لا تستطيع أن تشمله في جملته؛ لأنَّ جملته ممتدَّة في الغد، وعين الإنسان لا ترى الغيب!

•••

ولو استطاع إنسانٌ أن يشمل بنظرته الأمس واليوم والغد، وأن يتتبع حادثًا واحدًا أو رجُلًا بعينه؛ لرأى العَجَب! … فهذا الغنيُّ الذي يملك الملايين سيرى أمواله قد بدَّدها وارث، وهذا الوارث سيكون له أولادٌ فقراء، ومن هؤلاء الفقراء يخرج واحد يُنشئ ثروة، وهكذا دَوالَيك: يأتي المال من العدم ويذهب المال في العدم، ويولد من السَّعد نَحس ومن النحس سَعد! … ساقية لا تقف عن الدوران ولا تقف طول الزمان. ليس هناك في حقيقة الأمر حظٌّ زاهر ولا عاثر؛ لأنَّ الساقية الدوَّارة لا تُبقي أحدًا في موضعه ولا شيئًا في مكانه! … إنَّ ما نسمِّيه «الحظَّ» ليس إلا وقوفُ نظرنا المحدود على وضعٍ من الأوضاع في وقتٍ من الأوقات، وإنَّ فرَحَنا أو بكاءنا لهذا الحظِّ ليس سوى قلَّة صبرنا على انتظار البقيَّة؛ شأننا في ذلك شأن المُشاهِد لقصةٍ تمثيلية! … إنَّه يضحك أو يبكي لكلِّ ما يُصيب البطَلَ، دون أن ينتظر ختام الرواية … لعلَّ أداة الشعور والإدراك فينا، قد جُعلت على هذا التركيب المناسب لحياتنا القصيرة؛ فنحن نأخذ كلَّ حادثٍ يمرُّ على أنَّه البداية والنهاية، لا أنَّه الحلقة في سلسلةٍ طويلة!

•••

إنَّ الإنسان الذي أُعطي الحكمة، ليس في حقيقة الأمر إلا ذلك الذي أُعطي العين التي ترى الأشياء في جملتها، لا في جزءٍ منها؛ وفي تعاقُبها، لا في وقوفها! … الأديب العظيم أيضًا له تلك العين التي ترى الحقيقة الكاملة في حياة البشرية؛ تلك العين التي تُبصر الساقية في دورانها … وهذا ليس بالأمر الهيِّن! … إنَّه للبَشَر من أصعب الأمور؛ من أجل هذا كانت الحكمة في الأرض نادرة؛ لأنَّ الحكمة وحدها هي التي ترى الساقية وهي تدور … هي التي ترى الحقيقة الكاملة!

ثورة العقل

جاء في أساطير الصين: «أنَّ قِردًا صعد إلى السماء، وجعل يثرثر ويفاخر، ويتيه ويختال، ويزعم أنَّ «البراعة» قد تجسَّدت فيه، وأنَّ «الحذق» ليس إلا بعض معانيه، وأنَّه أحقُّ الكائنات بمكانٍ علويٍّ لا يُدانيه مخلوق! … وظلَّ يُحدِث في السماء من الصياح والضجيج، ومن الثورة والاحتجاج، ما حمَلَ «بوذا» على النظر في الأمر، فدعا القردَ وقال له: إذا كنتَ حقًّا بارعًا كما تقول فاقفز من راحة يدي اليمنى؛ فإن استطعتَ ذلك؛ فإنِّي أضعُك فوق عرشٍ من تلك العروش التي تتُوق إليها، وإن عجزتَ عن ذلك؛ فإنِّي أُعيدك إلى الأرض؛ لتكفر فيها عن ذنبك طوال السنين، قبل أن تأتي إليَّ مرةً أُخرى بثرثرتك!

سمِعَ القرد ذلك، وقال في نفسه: «بوذا» هذا ليس إلا مغفلًا! … إنِّي أقفز مائة قدَم، وراحة يده ليست أطول من شبرَين؛ فكيف يعجز مثلي عن القفز خارجها …؟!

وبدت الاستهانة والسخرية على وجهه ولم يُجب؛ فقال له «بوذا»: ألَمْ تسمع ما عرضتُ عليك؟ … ما جوابك؟

– أأنت جادٌّ فيما عرضتَ؟ … أأنت واثقٌ من أنَّك ستُعطيني ما وعدتَ؟

– بالطبع.

– وأنا قبلتُ!

قالها القرد باعتدادٍ وتحدٍّ واطمئنان! … عند ذاك بسط «بوذا» يده اليُمنى فبدتْ للقرد في حجم ورقة «اللوتس»، واعتلاها، وبدا له أنَّه يملأ راحتها؛ فانتفخ قليلًا، وملأ بالهواء صدره، ثم جمع كلَّ قوَّته، وقفَزَ … وإذا الريح من حوله تكاد تصفر لسرعته، ومرَقَ في الفضاء كالسَّهم، والريح بأجنحتها تحمله حتى وقَعَ آخرَ الأمر عند مكانٍ أبصَرَ فيه خمسةَ أعمدةٍ ضخمة قائمة، تكاد تمسُّ السحاب، فتأمَّلها في سموقها قائلًا في نفسه: «لقد وصلتُ بلا شكٍّ إلى آخر العالم! … لم يبقَ عليَّ إلا أن أرجع إلى «بوذا» وأساله وعده وأطالبه بالعرش! … لكنْ مهلًا … يجب أن تُتَّخذ الحيطة مع «بوذا»، حتى لا يقوم بيننا جِدال؛ فلْنتركْ ها هنا بُرهانا يدلُّ على أنِّي بلغتُ هذا المكان.»

ودنا من العمود الأوسط، وبال عند قاعدته، ولم يجِدْ غير هذا أثرًا يتركه، مبالغةً في الكِبر والاعتداد والغرور.

ثم قفَزَ عائدًا من حيث أتى، حتى استقرَّ فوق يد «بوذا» اليُمنى، وصاح به، صيحةَ الظَّفَر: لقد ذهبتُ كما ترى ورجعت، وإنَّك لتستطيع الآن أن تعدَّ لي العرشَ الذي يليق بي ويُرضيني.

فقال «بوذا» بهدوء: أيها القِردُ الثَّرثار! … إنَّك لم تغادر راحةَ يدي طولَ الوقت.

فصاح القرد مُحتجًّا: ما هذا الكلام؟ … إني ذهبت إلى نهاية العالم؛ حيث أبصرتُ بعيني خمسةَ أعمدةٍ شاهقة تلمس السحاب، وقد توقَّعتُ تكذيبك هذا، فتركتُ هناك أثرًا لي … تعالَ معي، وأنا أجعلك ترى بعينك!

فقال «بوذا» بهدوء: لا حاجةَ بي إلى ذلك … انظر في قرار كفي اليُمنى، فانحنى القرد ينظُر بعينَيه البرَّاقتَين … فأبصر عند قاعدة الإصبع الوسطى في كفِّ «بوذا» بللَ ذلك الأثر الذي أحدثه.»

•••

ذلك القرد عندي، ليس سوى رمزٍ «للعقل» البشري! … إنَّه بارعٌ نشيط، قفَّاز برَّاق، وقد استطاع — بسرعةِ حركاته — أن يوجِّه أنظارنا إليه وحده، وأن يعلِّق اهتمامنا به، وأن يقصر آمالنا عليه. بل لقد نجح أحيانًا في أن يُوهمنا أنَّه هو وحده مصدرُ الحركة الكبرى في الوجود! … ولقد كشَفَ لنا حقًّا ببريق عينَيه، عن أشياءَ أثارتْ فينا العَجَب، فتبعه منَّا خلق كثيرون، به وحده يؤمنون، لا يرون إلا ما يُريهم، ولا يصدِّقون إلا ما يَضَع عليه أيديهم … وقد تملَّكه الغرور؛ فصاح يقول: أنا كلُّ شيء … ولا وجود لغير ما أكشف عنه … وفي قدرتي أن أثِب إلى كلِّ القِمم!

فتجلَّت «القدرة الإلهية» قائلةً: أيها العقل «أو القرد»! … في قُدرتك أن تثب إلى الشَّجر، ولكنَّك لن تثِب إلى السُّحب!

فقال العقل: سأثب قريبًا إلى ما فوق السُّحب؛ لقد عرفتُ سرَّ الذرَّة، وأنا في طريقي إلى بلوغ القمر، والوثوب إلى بقيَّة الكواكب، والإحاطة بكلِّ ما في الكون!

فمدَّت «القدرة الإلهية» يدها قائلةً للعقل: تُحيط بكلِّ ما في الكون أيها الأحمق؟ … انظر إلى كفِّي هذه إنَّك مَهمَا تقفز؛ فلن تستطيع أن تبلغ نهايتها، أو تخرُج عن محيطها، أو تُدرك ما حولها، وما خارجها! إنِّي أتحدَّاك أن تحاول.

فقال العقل: وأنا قبلتُ التحدي.

وحدثتْه نفسه أنَّه لا بد منتصر!

فما تكون هذه اليدُ أمام ضوءِ فلسفته وبريق علمه؟ … يكفي أن يسلِّط عليها عينَيه المُشِعَّتَين بالعلم والفلسفة؛ ليكشف حدودها ومعالمها! … وجمع كلَّ قُواه، وقفَزَ بكلِّ ما في ساقَيه من منطقٍ واستقراءٍ وتجاريبَ واستنتاج، واستعان بكلِّ ما في يدَيه من تصوُّر وتخيُّل، وتفكير واستغراق، ووثَبَ وثبةً ظنَّ بها أنَّه بلَغَ فعلًا حدود الكون!

ولكنَّ «القدرة الإلهية» قالت مُشفقةً به: لا تُجهِد قُواك عبثًا، ولا تحاول المستحيلَ؛ إنَّك لم تزل في كفِّي، نقطةٌ حائرة ونطفةٌ عاجزة. لك أن تقفز ما شئت؛ لأني خلقتُك هكذا قفَّازًا، ووضعتُ في طبيعتك القفز والوثب، ولا ينبغي أن تخرُج عن طبيعتك التي ركَّبتُها فيك، ولا أن تكفَّ عن حركتك التي فطرتُك عليها؛ فإنك إذا جمدتَ وخمدتَ، خالفتَ سَلِيقَتكَ التي أردتُها أنا لك متحرِّكةً متجدِّدة. ولا يجوز لك أن تقِفَ عن الوثب؛ فتُعارض إرادتي! … ولكنْ … إياك أن تغترَّ بمدى قفزاتك، وتتوهَّم أنَّك بالغٌ بها ما لا يمكن أن تبلغ؛ فتعرِّض نفسك لذلِّ الخيبة ومرارة اليأس وسخرية المقدِّرين لنشاطك!

وأومأت «القدرة الإلهية» إلى شيء لا يكاد يُرى في قرار كفِّها، وقالت للعقل: انظُر … أترى إلى هذا الأثر السائل الزائل؟ … إنه كلُّ ما أحدثتَ أنت، من علم وفكر وفلسفة وتجربة وخيال وتأمُّل، منذ مبدأ العصور!

فنظَرَ «العقل» متضائلًا إلى آثاره النفيسة الخالدة، فرآها في كفِّ «القدرة الإلهية» ليست أكثر من ذرَّة بللٍ فانٍ متطاير، أقلَّ شأنًا من ذلك الأثر الذي أحدثه القرد عند إصبع «بوذا».

معجزة الدين

لماذا لا يظهر في هذا العصر أنبياء؟ … سؤالٌ يطرحه كثيرون ولا يتلقَّون عنه جوابًا مُقنِعًا … لقد ظهَرَ في هذا العصر مَن يدَّعي شفاءَ الأمراض، ومَن يزعم الاتصال بأرواح الموتى … ولكن قلما يظهر مَن يدَّعي النبوة … لماذا؟ السبب ولا شكَّ هو أنَّ المتنبي يعلم أنَّه سوف يطالَب بالإتيان بمعجزة، وما هي المعجزة التي تستطيع أن تُقنع الناس في عصرنا الحاضر؟

كان المتنبِّئون فيما مضى لا يحتاجون إلى عناءٍ كبير في خداعِ العقول؛ لأن أبسط الأشياء، كان يكفي أن يُعدَّ في نظَرِ البسطاء عجيبةً تحيِّر اللبَّ، بل إنَّ بعض مدَّعي النبوة إذا أُحرجوا، كانوا يلجَئون إلى الفكاهة؛ يفلتون بها من أعواد المشانق وأسياف الجلَّادِين!

والكتب القديمة مملوءة بنوادرهم؛ فهذا رجُلٌ ادَّعى النبوة في أيام «هارون الرشيد» فلمَّا مثَلَ بين يدَيه وسأله عمَّا يقال عنه؛ أجاب بكلِّ جُرأة: نعم! … إني نبيٌّ كريم.

– أيُّ شيء يدلُّ على صِدق دعواك؟!

– سلْ عمَّا شئتَ.

وكان يقوم حول عرش «هارون الرشيد» مماليك مُرد الوجوه، فقال لمدَّعي النبوة، وهو يُشير له بإصبعه إليهم: أريد أن تجعل هؤلاء المماليك المُرد بلِحًى!

فأطرق المتنبئ ساعةً، ثم رفَعَ رأسه وقال: كيف يحلُّ لي أن أجعل هؤلاء المُرد بلِحًى، وأغيِّر هذه الصورة الحسنة؟ … أنا أجعل لك إذا شئت أصحاب اللِّحَى مُردًا في لحظةٍ واحدة؛ فضحك منه «الرشيد» وعفا عنه. وتنبَّأ شخصٌ في عهد «المأمون»، فطالبوه بمعجزةٍ فقال: أطرح لكم حصاةً في الماء فتذوب.

فقالوا: رضينا.

فأخرَجَ الرَّجُل حصاةً معه وطرَحَها في الماء فذابت؛ فقالوا: هذه حيلة، ولكنْ نُعطيك حصاةً من عندنا تجعلها تذوب.

فقال: وهل قال فرعون لموسى: لا أرضى بما تفعله بعصاك، فدَعْني أُعطِك عصًا من عندي تجعلها ثعبانًا؟

فضحك «المأمون» وترَكَه، وإذا رجلٌ آخرُ يأتي إليه ويدَّعي أنَّه «إبراهيم الخليل».

فقال له «المأمون»: إنَّ «إبراهيم» كانت له معجزات.

فقال الرجل: وما معجزاته؟

– أُضرمتْ له نار، وأُبقي فيها، فصارتْ عليه بَردًا وسلامًا … ونحن نُوقد لك نارًا ونطرحك فيها، فإن كانت عليك كما كانت عليه آمنا بك.

فقال الرجل: أريد واحدةً أخفَّ من هذه.

فقال له «المأمون»: فمعجزات «موسى» إذن؟

– وما معجزاته؟

– ضرَبَ بعصاه البحر فانفلق، وأدخل يده في جيبه فأخرَجَها بيضاء.

– هذه عليَّ أصعب من الأولى!

– فمعجزات «عيسى»!

– وما هي؟!

– إحياء الموتى!

وهنا صاح الرَّجُل: مكانكم … قد وصلتُ!

وأشار إلى القاضي «يحيى بن أكثم» الواقف بجوار «المأمون» وقال: أضربُ لكم رقبةَ القاضي وأُحييه لكم الساعة.

فقال القاضي «يحيى» من الفور: أنا أول مَن آمن بك وصدَّق؛ فاضرب عنق مَن لم يُؤمن! … فضحكوا منه.

جاء في زمن «المأمون» أيضًا مدعٍ للنبوة … فقال له «المأمون»: أريد منك بطيخًا في هذه الساعة.

فقال المتنبئ: أمهلني ثلاثة أيام.

فقال «المأمون»: أريده الساعة.

فقال الرجل: ما أنصفتَني يا أمير المؤمنين؛ إذا كان الله تعالى — الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام — ما يُخرجه إلا في ثلاثةِ أشهُر؛ أفلا تصبر أنت عليَّ ثلاثة أيام!

تلك كانت مشكلةَ المتنبِّئين في الماضي: المعجزة! … أمَّا اليوم فإنه لو قام رجُلٌ يدَّعي النبوة. وقال للناس: انظروا؛ ثم مدَّ يده إلى القمر فخلعه من موضعه في الفضاء وصرَّه في مِنديله، كأنَّه بطيخة، وسار به متنقِّلًا في أرجاء العالم … فما الذي يحدُث؟

يحدث أن يهُبَّ علماء الأرض لفحص هذه الظاهرة؛ فيقول الفلكيون: إنَّ هذا العمل الخارق قد دلَّ على أنَّ فكرتنا القديمة عن الأجرام السماوية كانت فكرةً خاطئة، وأنَّ المراصد والمجاهر ما كانت تسجِّل وتُظهر غيرَ أوهامنا مُكبَّرة مضخَّمة، وأنَّ القمر في حقيقته ليس أكثر من فقاعةٍ كبيرة من «الغاز الخفيف» استطاع أن يجذبها رجلٌ في تكوينه خاصية ينجذب إليها ذلك النوع من «الغازات» بهذه السرعة الهائلة، التي أدَّت إلى انكماش حجم القمر الأصلي فصار في حجم البطيخة.

ويقول علماء الكيمياء: إنَّ الحدَثَ يستلزم إعادةَ النظر في تركيب الموادِّ التي تتألَّف منها الأجسام السماوية، فهي لا شك قابلةٌ للتحوُّل السريع من الصلابة إلى الرخاوة، ومن الضخامة إلى الضآلة. وما من شيءٍ يمنع رجلًا ذا طبيعةٍ خاصَّة من أن يُجري هذا التحوُّل.

ويقول علماء النفس: إنَّ الأمر لا علاقة له بالقمر ولا بغيره، وإنَّ الرجل ذو قدرةٍ نفسية وقوةٍ مغناطيسية يستطيع بهما الإيحاء على نطاقٍ واسع، فهو منوِّمٌ هائل للجماعات، ويكفي أن يقول في الناس، حتى لو كانوا علماء: أنَّه قد محا بيده وجود الشمس من لوحة السماء، كما يُمحَى الرسمُ من فوق السبورة؛ حتى يصير هذا الزعم في النفوس حقيقةً ملموسة، وتمحى الشمس فعلًا في نظَرِ الناس جميعًا على اختلاف مراتبهم وعقولهم. وهذه ظاهرةٌ كانت تُكشف في بعض الأشخاص من حينٍ إلى حين، ولكنْ على نطاقٍ ضيِّق وقدرةٍ محدودة، ولا شيء يمنع من ظهورها في شخصٍ على نحوٍ يخرُج على كلِّ قياس.

وهكذا يمضي كلُّ باحثٍ في كلِّ فرع، يفحص ويمحِّص، ويفترض ويستنتج، وتكثر المجادلات الفنية، وتتلاطم النظريات العلمية. ولكن ما من واحدٍ من هؤلاء العلماء، يأخذ نُبوَّة الرَّجُل على سبيل الجِد، أو يحاول التسليم بوجود صلةٍ مباشرة بين هذا الرَّجُل و«الله»!

لم تعُد المعجزة في عصرنا الحاضر دليلًا على النبوة؛ فنحن في عصرِ المُعجزات، تتعاقبُ كلَّ يوم كأزياء السيدات؛ فمعجزة القنبلة الذريَّة التي ظهرتْ في عامٍ مضى، أصبحتْ قديمةً في هذا العام!

والموسم القادم كفيلٌ بأنْ يطلع علينا بمعجزةٍ جديدة، يستقبلها الناس بالعجب لحظة، ثم يعتادونها وينصرفون عنها، وينتظرون غيرها في الموسم التالي … وهكذا دَوالَيك … لم يعُد عالمنا الحاضر يطالب النبيَّ بمعجزة، فلو أتى بها لأدخلها العِلمُ معملَ بحثه دون أن يعتبرها بُرهانًا على أنَّه مُرسَل من الله!

عصرنا الحاضر خليقٌ أن يُعفي النبيَّ من المعجزة التي تثبت شخصيته؛ فلماذا لا يظهر المتنبي إذن، وقد أُزيلتْ من طريقه العقبةُ الكبرى؟!

لا يظهر؛ لأنه سيُطالب بأصعبِ معجزة، وهي: «الشريعة»!

تلك الشريعة السماوية الإنسانية التي تَصلُح للناس كافَّة، ويكون فيها صلاحُ الناس كافَّة، في آخرتهم ودنياهم، وفي سمائهم وأرضهم! … كيف تنزل هذه الشريعة دون أن تكون تكرارًا لمَا سبقها من شرائع؟

لا بد إذن من شيءٍ جديد! … ولا بد أن يكون الله قد أراد ذلك فعلًا.

كلُّ معجزات الأرض قليلٌ إلى جانب «المعجزة العُظمى»، وهي «الدِّيانة» التي يفجِّرها الله من نوره؛ فيُتبعها أفواجَ البَشَر مبهورين، شاعرين أنها سُكبتْ في شرايينهم، ومُزجتْ بدمائهم، إلى يوم الدِّين!

الإيمان بالحياة

في إحدى المصحَّات فتاةٌ قاتلَت الموت حتى انتصرتْ، وهي الآن في طريق الشفاء، تجلس الساعات الطويلة من فترة النقاهة تقرأ وتفكِّر وتتأمَّل! … وهي فيما يبدو، قد فقدتْ بعض الإيمان بالحياة، وخيِّل إليها أنَّ الأفق ملبَّد بالظَّلام؛ فهي تمد يدَيها تلتمس النور! … إنَّها كسفينةٍ غالبَت الأمواج، وقارعَت الأنواء، وخرجتْ من زوبعة الليل — بعد أن كاد يطويها اليمُّ — تتمايل وتئن باحثةً عن الهداية في شعاعِ منارة أو خيطِ فَجْر!

اتَّجهت إليَّ؛ لأدعم إيمانها وأبدِّد حيرتها، وكان الواجب أن أُجيبها في رسالةٍ خاصة؛ فالأمر يعنيها وحدها، ولكنَّ خطابها الحامل عنوانها ضاع منِّي، ووقعت أنا في حيرةٍ من أمري، لا أدري: أأسكتُ عنها أم أُخاطبها في كتاب؟! … واخترتُ الحلَّ الأخير؛ لأني خجلتُ أن أصمَّ أذني، وأقبض يدي عن نَفْس تتخبَّط في الشكِّ وتطلُب الغوث!

أيتها الفتاة! … أتدرين أين المنارة التي تهديكِ إلى الإيمان بحياتكِ؟ … هذه المنارة قائمةٌ بين جنبَيكِ … إنَّها قلبُكِ!

هذا القلب الذي ظلَّ ينبض في أحلكِ ساعاتكِ، كما ينبض محرِّك السفينة في أعنفِ ساعات العاصفة، هذا القلب لماذا استبسَلَ هكذا دفاعًا عن الحياة؟ … لماذا لبث يدقُّ دقاتٍ كأنَّها صرخاتٌ في وجه الفَناء، يُفزعه بها، ويردُّه على أعقابه؟ … لماذا يسير بخطواته المنتظمة أو المضطرِبة الليلَ والنهار، لا تهمد له حركةٌ، ولا تخمد له نبضة، ولا يخرس له لسان؟ … إنه حارسنا ضدَّ الموت، إنه على حصنِ حياتنا الدَّيْدُبان!

قلبكِ يذود عن الحياة، ويناضل عنها نضالَ البطل؛ لأنَّه يؤمن بالحياة.

إنما الذي يشكُّ هو عقلكِ … هو تفكيرك ومنطقكِ … هو ذلك الشيء المصطنَع فينا … ذلك الشيء الذي اخترعناه بأيدينا. أمَّا القلب المؤمن بالحياة، الحارس لها، الذائد عنها — دون أن نتدخَّل في عمله بأذهاننا — فهو ذلك الجزء الأصيل فينا … ذلك الجزء الذي وضعه الله!

لا يستطيع عقلنا، لحُسن الحظِّ، أن يُصدر أمره إلى القلب فيقف نبضاته، كما يُصدر أمره إلى الأيدي والأقدام فيَقِفُ حركاتها.

لا أحد غير الله يستطيع أن يُصدر أمره إلى القلب!

ولقد أمر الله قلبكِ أن يصمد للمحنة فصمَدَ، وما دمتِ قد انتصرتِ على الموت؛ فلماذا لا تنتصرين على الحياة؟!

ما الذي يُخيفكِ من غدكِ؟ … أشباحٌ ربما كانت تتصاعد من جوفِ كتبكِ ومطالعاتكِ وتأمُّلاتكِ! … ليس أقسى من خيالاتنا! … ليس أفتكَ بنا من أيدينا وصُنعِ أيدينا، وليس أرحمَ بنا من يد الله وما خلَقَ وأبدع! … نصيحتي إليكِ أن تتركي الكتُبَ بُرهةً، وتتأمَّلي الطبيعة! استيقظي مع الفجر، واستنشقي نسماته، وأصغِي إلى العصافير وهي تفتح أعيُنَها، وتترك أعشاشها، وتقف قليلًا فوق الأغصان المرصَّعة بالندى تنفض ريشها، وتشقشق وتنشُر أجنحتها، وينقر بعضها البعض مداعِبًا، ويفرُّ بعضها من بعض ملاعِبًا! … كلُّها غِبطةٌ بالفجر، وكلُّها فرَحٌ بالحياة، لا يُقعدها عن ذلك سُحبٌ ملبَّدة ولا جوٌّ مطير! … إنها تحتفي بالفجر في اليوم المُشرِق، واليوم المُكفهِر، وتحتفل بوجودها إذا صفا الأفق وإذا أظلَمَ بالضباب! … لكأنَّها أنشودةُ الحياة تطير في الجوِّ، صادحة منذ مطلع النهار، تُلقي في سمْعِ القلوب اليقِظة المؤمنة، ما يملؤها تفاؤلًا بالوجود واستبشارًا!

أيتها الفتاة! … هذا كلُّ ما أستطيع أن أقوله لكِ؟

لا تلتمسي المعونة عند مفكِّر، ولا عند عالمٍ فيلسوف! … بل الْتمسيها عند عصفور! … ذلك المخلوق الصغير، الذي وضعت فيه قدرةُ الله إيمانًا بالحياة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤