الباب الخامس

الأدب والعلم

ما أعجبَ العلم إذا تراءى لعَينِ الأدب!

***

باب العِلم المغلَق

كلما رجعتُ بالذاكرة إلى أيام حداثتي، لاحتْ لي أمورٌ غريبة. من ذلك أنِّي لم أكُن معنيًّا بالأدب وحده، فأنا أذكُر اليوم جليًّا أني في الثامنة عشرة من عمري كنتُ أقرأ «هربرت سبنسر»! … ولست أدري ما الذي كان يعجبني من هذا الفيلسوف، وما الذي استطعتُ أن أحصِّل منه في مثل تلك السنِّ؟ … وهل هي المصادَفة التي أوقعتْه في يدي، أو هو الزَّهو بأنْ أقرأ لمفكِّرٍ كان يملأ أسماع الدنيا في ذلك الوقت؟ … كل ما كنَّا نعرف عن «سبنسر» يومئذٍ، هو الفلسفة التطوُّرية في «إنجلترا» … ولم أقرأ له بالطبع مبادئ التطور في علوم الأحياء، والنفس، والاجتماع؛ بل اكتفيتُ بعِلم الأخلاق! … وهذا أقصى ما يحتمله عقلُ شابٍّ في الثامنة عشرة … ومع ذلك، فإنَّ ذاكرتي الآن لا تستطيع أن تُخبرني أفهمتُه حقًّا كما ينبغي أن يُفهم؟ … من المستحيل أن أكرَّ راجعًا بعمري إلى الوراء كلَّ هذه الأعوام؛ لأعيش تلك اللحظات التي كنت أطالع فيها مثل هذه الكتب، وأراقب عملها في رأسي، وأسجل أثرها في نفسي! … ولكن … ما جدوى ذلك؟ … فلْأكُن قد عجزتُ عن فَهْم «سبنسر»، ولْيكُن ما فهمتُ منه غيرَ ما قصَدَ، ولْيكُن ما حصَّلتُ منه أضأل ممَّا يجب؛ هنالك حقيقةٌ لا شكَّ فيها: هي أنَّ بذرةً قد أُلقيتْ في نفسي من كلِّ ذلك، دون أن أشعُر … ومضَت الأعوام بعدئذٍ بالفعل على نحوٍ آخر، شُغلتُ فيها بألوانٍ أخرى من الكتب «والفنِّ»، والأدب! … وإذا في شبابي — وأنا على أبواب الثلاثين — يقع في يدي عالمٌ آخر، هو «لا مارك» مكتشف القوانين الأساسية لتطوُّر الكائنات الحيَّة، قبل «داروين» بخمسين سنة! … ما الذي أوقعه في يدي هذا أيضًا؟ … أهي المصادفة أم الصِّيت المدوِّي؟ ليس صِيته قطعًا؛ فإن اسم «لا مارك»، لم يكُن من الأسماء المعروفة إلا في محيط الخاصَّة من العلماء! … قرأتُ له — قُبيل الثلاثين — رأيه في العادة الموروثة وتكوين الغرائز، وتطوُّر العضو تبعًا للوظيفة، قبل أن أقرأ «أصل الأنواع» الذي كان قد ذاع وشاع، حتى كاد يُصبح في أوروبا من الكتب المقروءة بين عامَّة المثقفين؛ فإن «داروين» من الوجهة العلمية، جاء مُتمِّمًا لنظرية «لا مارك» بأنْ أضاف إليها نظرية الاختيار الطبيعي وبقاء الأصلح في العِراك من أجل الحياة! … ولكنَّه، من حيث التأليف، قد وضَعَ كتابه هذا بأسلوبٍ سائغ، يُمتِع الأديب الذي ليس له بالعِلم صلة، ولا إلى النظريات رغبة! … ليس بعجيبٍ على الإطلاق، أن يُعجَب أديبٌ «بداروين»؛ ولكن العجيب أن يقع لأديبٍ هذا الاتصال بثلاثةٍ من الفلاسفة والعلماء في مراحلَ مختلفةٍ من حياته، ويتَّضح له فيما بعد أن أولئك الثلاثة هم أنفسهم أبطالُ نظرية التطوُّر في العصور الحديثة!

أهي المصادفة؟ … وما هي المصادفة؟ … أتراها، كما يقول «هنري بوانكاريه» العالم الرياضي، مجموعة الأسباب المعقَّدة الخفيَّة عن إدراكنا، التي تؤدِّي إلى نتيجةٍ مقصودة بعينها … لستُ أدري … كلُّ ما أعرف، هو أنِّي في ذلك الوقت كنتُ أكتب روايةَ «شهرزاد»، ومَن يُنعِم النَّظر فيها يَجِد فكرةَ تطوُّر الإنسان — لا على نحوٍ يؤيِّد التطوُّر المُطلَق في خطٍّ مستقيم — بل التطور المحدود في دائرةٍ مفرغة، كدائرة الأجرام العُظمَى والصغرى في أفلاكها السماوية والذرِّية … فهل نستخلص من هذا أنَّ هناك قدَرًا يدفع الشخص إلى قراءة ما سوف يلزم له في عمله … أو أنَّ طبيعة الشخص هي التي تميل به إلى هذا اللون أو ذاك من ألوان الغذاء الفِكري؟! … ليس من السهل الجواب، وإن كنتُ أعتقد أنَّ البذرة الأولى التي أُلقيتْ في نَفْسي منذ الحداثة؛ قد فعلتْ فعلها في الخفاء، وإذا الحنين إلى ذلك النوع من الكتب يعاودني من حينٍ إلى حين. لقد بلَغَ بي الأمر حدًّا قد يدهش البعض؛ فأنا أجِدُ اليوم عسرًا في قراءة القِصص، وأجِدُ اللذةَ في مطالعة كتابٍ علمي، على أن الصعوبة عندي، هي أن أعثر على كتابٍ في صميم العلم، من تأليف عالمٍ يستطيع أن يكتُب؛ فإنَّ أكثر العلماء لا يستطيعون أن يُجلُوا أفكارهم إلا في نطاق معادلاتهم الرياضية، ومصطلحاتهم الفنية التي لا يَقْدر على متابعتهم فيها غيرُ العلماء … أمَّا أولئك الذين يبسِّطون العلم تبسيطًا سطحيًّا في كتبٍ مقروءة للناس؛ فلا أرى لهم قيمةً فكرية كُبرى بالنسبة إليَّ! … بقي أولئك الذين أعنيهم، وأحبُّ أن أقرأ لهم، وهم في الغالب من طراز العلماء المُطعَمين بالفلسفة، أو الفلاسفة المتَّصِلين بالعِلم، يتَّخذون من العلم مادةَ تفكيرٍ وتأمُّل، لا موضوعَ بحثٍ فنِّي في معمل، ويفرغون نتائجَ تفكيرهم في كتاباتٍ، نستطيع في أغلب الأحوال أن نتابعهم — إن لم يكُن في مسالكها، فعلى الأقلِّ — في مراميها!

ما أعجبَ العِلمَ إذا تراءى لعينِ الأديب!

إني لأُسائل نفسي أحيانًا: كيف استطاع العلماء أن يطَّلِعوا على أعاجيب الكون دون أن ينقلبوا أدباء؟ … أمَّا الأدباء، فلا ينبغي أن يطَّلعوا على هذه الأعاجيب إلا بقَدْر … وإلا انقلبوا مجانين!

قُل الرُّوح من أمرِ ربِّي

جاء في أخبار السيرة النبوية، أنَّ «النضر» و«عقبة» أقبلا على رءُوس «قريش» في حيٍّ من أحياء «مكة» صائحَين: يا معشر قريش! … قد جئناكم بفصلِ ما بينكم وبين «محمد»؛ سَلُوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنَين، وعن الرُّوح، فإن أخبَرَكم عن اثنين وأمسك عن واحدةٍ؛ فهو نبيٌّ.

فلمَّا جاء «محمَّد» تقدَّم إليه «النضر» سائلًا: يا محمَّد! … أخبرنا عن الرُّوح: ما هي؟

ففكَّر النبي لحظةً، ثم قال: أُخبركم بما سألتُم عنه غدًا.

وترَكَهم وانصرَفَ مُطرِقًا، وسار في سبيله مُفكِّرًا، وجاء الغدُ ومضى، وتعاقبَت الأيام والنبيُّ ساجدٌ عند غارِ حِراء، يتأمَّل ويفكِّر على غير جدوى، حتى أرجَفَ أهلُ مكة وقالوا: وعَدَنا «محمدٌ» غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها ولا يُخبرنا بشيء! … واشتدَّ البلاء على النبيِّ؛ فصاح مستغيثًا بربِّه: أيْ رب! … إليك أشكو بلائي … أيْ رب! … ابعثْ لي وحيك! … لقد سألوني عن الرُّوح ولا أعلم بمَ أُجيب … أيْ رب! … أنسيتَني؟ … اللهم إنِّي لفي بلاء … اللهم إنِّي لفي بلاء!

وعند ذاك، هبط «جبريل» بالآيات: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّاوَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًاوَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا

•••

إني أجِدُ دائمًا في هذا الحادث سمةً من سمات العَظَمة في النبي؛ فهو قد فكَّر في المسألة تفكيرًا صادقًا خلال تلك الأيام الطويلة، وقلَّبها على وجوهها، ولم يهتدِ فيها بنفسه إلى جواب؛ فهو لم يكُن بالنبي الذي يُبيح لنفسه الكذب على الناس، فيخترع لهم جوابًا بارعًا يسيرًا يجوز على عقولهم الساذجة في تلك الأزمان؛ ولكنه أخَذَ الأمرَ مأخذَ الجِد، وحاوَلَ في الغارِ حلَّ المسألة، فلما هاله إعجازُها استنجَدَ بربِّه، فسمِعَ منه ذلك القول الحكيم!

على أنَّ موضع الدهشة عندي، هو أنَّ «محمَّدًا» في عصره وبيئته، قد رأى ببصيرته المسألة في إعجازها، بنفس العين التي يراها بها علماء العصر الحديث! … إنِّي لم أُدهش ﻟ «جوته» يومَ قال عن الرُّوح قولًا مُماثِلًا في قصته «فوست»! … فجوته قد مارَسَ علومَ النبات والتاريخ الطبيعي، ودرس من قوانينها ما وضعَهَ أمام هذا الإعجاز وجهًا لوجه … إنَّ مسألة الرُّوح لا يمكن أن تبدو أمرًا معجِزًا للطاقة البشرية حقًّا إلا أمامَ رجُلِ عِلم، غَاصَ بكلِّ ما أُعطي للإنسان من ملكاتٍ مفكِّرة في أعماق الأبحاث النظرية والعملية معًا … وحتى رجُلُ العِلم المُغلَق في أبحاثه، المخدوع بالنتائج الأولى البرَّاقة لاكتشافاته؛ قلَّما يُبصر بُعد المَرمَى، أو يفطن إلى استحالة المطلب، حتى يخطو في تأمُّلاته العليا خطوات.

فلقَدْ حبَسَ نفرٌ من العلماء أنفسهم في معاملهم منذ أكثر من أربعين عامًا، واضعين نُصبَ أعيُنهم هذه المسألة: «أفي مقدور العِلم يومًا أن يخلُق — صناعيًّا — مادةً لها كلُّ خصائص المادة الحيَّة، أي القدرة على النموِّ والتمثُّل؟»

لقد جرَّأهم على هذا المطمع اعتقادُهم أنَّ «الحياة» — في جوهرها — ليستْ سوى تفاعُل القُوى الكيميائية الطبيعية؛ فهي إذن قابلةٌ أن تُصنع في المعامل صُنعًا … ولو أنَّهم ما اجترَءُوا بعدُ، على أن يتصوَّروا إمكانَ الوصول دفعةً واحدة إلى صُنع «خلية»؛ فالخلية في نظَرِهم جهازٌ قد بلغ في تخصُّصه ودقَّته أسمى المراتب، وما هي إلا نتيجة تطوُّرٍ، استلزم الملايين من الأعوام! … ومع ذلك، فقَد انكبَّ العلماء يبحثون … فما استطاع أحدٌ منهم سوى «رافاييل ديبوا» و«لبتلر بيرك» و«هيريرا» المكسيكي، و«ستيفان لبدوك» أن يأتوا إلا بكائناتٍ منحطَّة، فيها شِبه حياةٍ استنبطوها من الأملاح ونظائرها، واتَّضح لهم بعدئذٍ أنَّها جميعها لا تدخُل نطاق الكائنات الحية بمعناها الحقيقي!

على الرغم من ذلك، يقول لنا البيولوجي «جان روستان» هذا القول المُفعَم بالتفاؤل: «إذا توصَّل العِلم يومًا إلى خلْقِ الحياة؛ فإنَّ ذلك سيتمُّ حتمًا بوسائل أخرى، وبالرجوع إلى طرائق الكيمياء العضوية التي لا تُقهر، وإنَّ النجاح الذي بلغتْه الآن، في هذا المجال، ما عاد محلَّ جدال؛ فهي اليوم قادرةٌ على أن تخلُق — صناعيًّا — عددًا كبيرًا من موادِّ النشاط الحيوي مثل القلويَّات، حتى الهرمونات … إلخ.»

أمَّا علماء الطبيعة «الفيزيقا»، فمنهم مَن يتَّجه وجهةً أخرى، ويضع المسألة على أساسٍ آخر، مثل «شرودنجر» الذي يبحث في أصول الحياة، وهل هي تقوم على أُسس القوانين الفيزيقية، دون أن يتفاءل أو يتشاءم!

أمَّا أنا، الذي ليس بعالِم، ويحاول جاهدًا أن يُتابع العلماء في أبحاثهم، ويَلقَى العنتَ الشديد في مطالعة آثارهم، ويتحامل متجلدًا على تفهُّم كُتُبهم؛ فإني أتساءل متشائمًا: لنسلِّم جدلًا أنَّ هؤلاء العلماء قد نجحوا في خلْقِ خليةٍ حيَّة؛ فما قيمة هذه الحياة الظاهرية إذا لم تكُن منطويةً على تلك الخِصال الكامنة العاقلة، التي تميِّز بعد نموها شخصيةَ النوع، حيوانًا كان أو إنسانًا؟ … تلك هي الرُّوح! … إنها ليست مجرَّد حياةٍ بيولوجية عمياءَ صمَّاء، تنمو داخل معملٍ نموًّا آليًّا، إنما المقصود بالرُّوح ذلك الشيء الخفيُّ الزائد على مجرَّد الحياة البيولوجية! … فهل في مقدور العِلم أن يخلُق لنا يومًا خليةَ نملةٍ مثلًا، فيها رُوح النملة، بما فُطرتْ عليه من سليقةِ الادِّخار والكدح والنِّظام؟

ما أظنُّ العِلم يستطيع أن يخلُق ذلك، ولا أقلَّ من ذلك.

ويبدو لي أنَّ العلم قد عرَفَ أخيرًا حدوده، وفطِنَ إلى قُصوره، وآمن بوجود شيءٍ خلْفَ تحليلاته ومركَّباته … شيءٌ خفيٌّ لا يسمِّيه الرُّوحَ … ولكنه هو في حقيقة الأمر، ذلك الرُّوح الذي أشار إليه الدِّين!

ولنُصغِ إلى العلَّامة «إ. م. جود» وهو يتحدَّث عن التحليل العلمي للإنسان، قال: «لو أنَّ علماء الطبيعة، والكيمياء، ووظائف الأعضاء، والتحليل النفسي، والاقتصاد، والإحصاء، وعلم الأحياء … إلخ؛ اجتمعوا ليقرِّروا الحقيقة عن الإنسان بعد الفحص الدقيق والتحليل العميق، كلٌّ في دائرةِ اختصاصه، لمَا استطاعوا أن يخرجوا بحقيقة الإنسان! … لأنَّ كلَّ هذه التفاصيل المتفرِّقة عن الإنسان لو جمعتْ، لمَا كوَّنَت الإنسان؛ فالإنسان ليس هو مجموعة الدقائق التي يتكوَّن منها تركيبُه المادي والحيوي والنفساني، إنَّه أكثر من هذه المجموعة … إنَّه شخصية! … هذه الشخصية شيءٌ يُفلت دائمًا من غربال العِلم ووسائله! … هي شيءٌ لا تحسُّه إلا إذا كنتَ لهذا الإنسان صديقًا، والصداقة والحُب من الأشياء التي لا يمكن أن يحسَّها العلم.» ويمضي «جود» بعدئذٍ يحدِّثنا عن نتائج التحليل العلمي لنكتةٍ فكاهية، بلهجةٍ لا تخلو من السخرية! … فيقول لنا: إنَّ السير أرثر إدنجتون حاوَلَ أن يبحث في طبيعة النكتة، وقد رأى أنَّها قابلةٌ للتحليل، شأنها في ذلك شأن أيِّ مركَّب كيميائي، فشرَحَ جوفها وفكَّ أجزاءها، وقرَّر ما ينبغي أن يكون عليه النموذج الكامل لنكتةٍ فُكاهية! … وكان المنطق يقضي بعدئذٍ أن نضحك للنُّكتة، ولكنَّا لم نضحك! … شيءٌ فيها قد تبخَّر عند التحليل، ولو حاولنا عندئذٍ أن نضمَّ أجزاءً نموذجية، لنكتة مثالية حلَّلها العلماء وقرَّروها، لمَا ظفرنا مع ذلك بالضحك!

والضحك الذي ينسبه جود إلى النُّكتة، أُسمِّيه أنا: الرُّوح! … على أنَّ العلم، قد بدأ يعترف صراحةً أنَّ الدِّين هو خيرُ طريقٍ يوصل إلى هذه الغاية!

قال «شرودنجر»: «إنَّ بصيرتنا الدينية، لها من القوة والمتانة والضمان، ما لبصيرتنا العلميَّة!»

وقال «إينشتين»: «بصيرتنا الدينية هي المنبع وهي الموجِّه لبصيرتنا العلمية.»

هذا الاعترافُ هو، ولا شك، كسبٌ للدِّين؛ فما كان أحدٌ فيما مضى، أي منذ قرنٍ من الزمان، يتصوَّر العلماءَ يقولون عن الدِّين مثلَ هذا القول!

ذلك كان حقًّا مسلك الفلاسفة والعلماء في الإسلام، ولكنَّ العلم لم يقِفْ في وجه الدِّين تلك الوقفة المُسرِفة في التحدِّي والغرور إلا في القرن التاسع عشر. ومَن يدري؟ … ربما يتحتَّم علينا، في الغد أن نتابع سَيرَ العِلم؛ لنثبِّت أقدامنا في الدِّين!

فما من شيءٍ يرينا دائمًا قدرةَ الله إلا عجزنا البشري!

العِلم متغيِّر

يخيِّل إلينا غرورنا العلمي — في العصر الحاضر — أننا نستطيع أن نُبهر أيَّ عقلٍ عظيم من عقول الماضي، وأن نُشعِره بعجزه الذليل، وتقدُّمنا الجبَّار، وأن نضعه موضعَ الحيرة والعجَب والذهول، أمام اكتشافاتنا الميكانيكية والبيولوجية والذريَّة! … ولكثيرٍ من الكُتَّاب والمفكِّرين اليوم، تصوُّرات أدبية وفكرية لمَا يمكن أن يكون عليه الحال، لو ظهَرَ في زمننا الحديث رجالٌ من أمثال: أفلاطون، ونيوتن، وأبي العلاء! … يتصوَّر «مترلنك» الأمرَ على هذا النحو، فيما لو ظهَرَ اليوم «أفلاطون» واطَّلَع على آثار حضاراتنا القائمة! … إنَّه يراه مُلقِيًا علينا أسئلةً تحتاج إلى أجوبةٍ خليقة بذهنه النادر … أسئلة عن خطواتنا الثابتة الظافرة، في مختلف ميادين النشاط البشري … سيسألنا — بالطبع أولَ ما يسألنا — عمَّا صنعناه في ميادين الأخلاق، والاجتماع، والسياسة! … أيُّ ربحٍ إنسانيٍّ ظفرنا به في تلك النواحي؟ … فماذا يمكن أن نُجيب؟ … لا شيء! … ما من شيءٍ قد تمَّ بعدُ، فكلُّ تجاريبنا، وكلُّ خيالاتنا، ومُثُلنا العليا وأكاذيبنا، تتقدَّم في وسائلها ونتائجها عمَّا كانت عليه في عهد «أثينا» … ما خلا شيئًا واحدًا قد تحقَّق مُبطَّنًا بالنِّفاق والرياء، هو إلغاء ذلك الرقيق! … ولو فطِنَ «مترلنك» قليلًا، لأدرك أنَّ الرقيق قد أُلغي في الأفراد، ولكنَّه مباحٌ في الجماعات! … وإذا كان من حقِّ الفرد اليوم أن يعيش حرًّا؛ فإنَّه ليس من حقِّ بعض الشعوب أن تعيش حرَّة! … لم يكفِ إذن مرور أكثر من ألفَين من الأعوام لمحوِ هذا الظُّلم الإنساني في أبسطِ صُوره!

فإذا سألَنا «أفلاطون» بعدئذٍ عن حالِ الفنِّ والفِكر والأدب؛ فما نستطيع أن نقول له: إنَّا تقدَّمنا في ذلك عن «أثينا» تقدُّمًا يُذكر! … ومَن منَّا قد يُجيبه جوابًا قاطعًا لا تردُّد فيه؛ إنَّا لم نزل نحتذي النماذج الإغريقية دون أن نبزَّها في الكمال والإبداع!

فإذا سألَنا عمَّا وصلنا إليه في الفيزيقا، والكيمياء، والطبِّ والجراحة، والفلك والتاريخ الطبيعي، وعلم الأحياء … إلخ، فإنَّه هنا سيجِدُ لدينا أجوبةً تُدهشه حقًّا! … سينظُر — بعين العجَب — إلى آلتنا البُخارية والكهربائية، وطائراتنا، وأسلحة حربنا، و«الراديو» و«الرَّادار» … إلخ؛ فتصيبه رِعدةٌ في أول الأمر، ولكنْ عندما تخفُّ وطأةُ الصدمة، سيلتفتُ متسائلًا: ما الذي يمكن أن يُضيفه كلُّ هذا إلى ملكات الإنسان الرُّوحية؟ … إنَّه على حقٍّ؛ فكلُّ هذه المخترعات قد يسَّرتْ لنا سُبل الحياة المادية، إنَّ كلَّ طفلٍ في مجتمعنا العصري قد شبَّ، وألِفَ وفَهِم هذه الاكتشافات أكثرَ من «أفلاطون»، ولكنْ هل كلُّ إنسانٍ في زمننا له ذلك الرُّوح المتألِّق، والثقافة المصفَّاة، والذوق المهذَّب الذي لأفلاطون؟

هذا رأيي أنا الشخصي! … لو ظهَرَ اليوم «أفلاطون»، لكان هو دائمًا «أفلاطون»؛ تلك الشخصية الإنسانية الممتازة في كل عصر وفي كل زمان.

ولنفرض أنَّه ظهَرَ حقًّا، فهل هو صالحٌ للحياة في وقتنا الحاضر؟ … وهل يحبُّ هذه الحضارة؟ … وأيُّ نوعٍ من الناس يتَّخذهم أصدقاء؟ … وأيُّ بلدٍ من البلاد يطِيبُ له فيه المقام؟

أسئلةٌ لم يُجِب عنها أحدٌ بعد … ولْأحاول الإجابة السريعة؛ فأقول: إنَّ «أفلاطون» يستطيع أن يعيش في زمننا هذا مبجَّلًا قادرًا على أن يكسب رزقه بعرَقِ الجبين! إنَّ أيَّ جامعة تقبله أستاذًا لفلسفته، يحاضر فيها باللغة اليونانية، إذا شاء!

أمَّا أين يُقيم؟ … فمن المحقَّق أنَّ «أمريكا» ستصنع المستحيل؛ كي تُغريه بالإقامة فيها، والتدريس في إحدى جامعاتها! ولكنِّي أشكُّ كثيرًا في أن «أفلاطون» يحبُّ هذه الحضارة الأمريكية الآلية الصاخبة، أو يطيق المقام في ناطحاتِ سُحبها الجوفاء — وهو الفيلسوف المشَّاء — أو يرضى أن يُعطي صورته وحياته الخاصَّة طعامًا لصُحفها ومُخبِريها، أو يحادث فنَّانيها دون أن يلوذ بالفِرار!

ولكنَّه سيجِدُ له دائمًا أصدقاءَ من الأدباء والفلاسفة، وأساتذة الجامعات، ممَّن يقرءُون له، ويدرسون آثاره. وهم بذلك يُقيمون له خيرَ دليلٍ على أنَّه حيٌّ في كلِّ زمان! يعيش معهم دون أن يرَوه، فليس هو بالصديق المستجدِّ، وإنما هو لهم صديقُ الفِكر والرُّوح من قديم! نعم! … ما دام للرُّوح قيمةٌ في ذاتها، بما لها من شخصيةٍ وذوقٍ وتهذيب، فالإنسان العظيم قديرٌ على الاحتفاظ بقَدْره ومقامه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ مَهمَا تتجدَّد المعارف، ويقفز العِلم، وتتعدَّد الاكتشافات، وتتغيَّر الظروف والأحداث!

إنَّ الرُّوح ثابتة، والعِلم متغيِّر.

هذا أيضًا دليلٌ على أنَّ الرُّوح — لا العلم — هي مصدرُ الخلود!

وجدتُها … وجدتُها

في تاريخ العلوم قصةٌ صغيرة طريفة، يتناقلها الناسُ في كلِّ العصور، منذ القرن الثاني قبل الميلاد: «حيرون» ملك «سيرقوسة»، طلَبَ ذاتَ يومٍ إلى صائغٍ حاذق أن يصنع له تاجًا من الذهب الخالص؛ فأذعَنَ الصائغ للأمر ومضى إلى عمله وانكبَّ عليه، حتى أتمَّ صُنْعه، وقدَّمه إلى الملك! … فلمَّا رآه الملك، داخلتْه رِيبة في الصائغ البارع، وقال في نفسه: مَن يُدريني أنَّ هذا التاج قد صُنع من ذهبٍ خالص؟ … ومَن يُثبت لي أنَّه لم يُخلَط بقدْرٍ وافرٍ من الفضَّة؟ … واستولتْ على الملك هذه الفكرة، حتى أرَّقتْ ليله، وأقضَّتْ مضجعه؛ فلَمْ يرَ بُدًّا من أن يستشير في ذلك علَّامة العصر «أرشميدس» قائلًا له: «أريد منك، أيها العالم الحكيم، أن تكشف لي هذا الغشَّ — إذا كان — وأن تتحقَّق لي من صفاء الذَّهب في هذا التاج، على شرطِ ألَّا تمسَّه بسُوء، وألَّا تُحدِث فيه أثرًا!»

فمضى «أرشميدس»، يبحث وينقِّب طويلًا — على غير جدوى — عن الوسيلة التي يعرف بها مقدار الذَّهب، دون أن يمسَّ التاج، وأعيتْه الحيلة، وكاد يسلِّم أمرَه لليأس! … حتى كان يومٌ ذهَبَ فيه إلى الحمَّام؛ ليغتسل في حوضه! … فبينما هو مغمورٌ في الماء، لاحَظَ أنَّ أعضاءه تفقد وزنها في الماء على نحوٍ ظاهر، وأنَّه يستطيع أن يحرِّك ساقه فيه ويده، فتتحرَّكا بسهولة تُثير العجَبَ … في تلك اللحظة، أشرقتْ بصيرتُه بلمحةٍ من لمحاتِ الوحي، قادتْه إلى اكتشافه المشهور: «قانون الكثافة النوعية للأجسام»؛ فما تمالك عند ذاك أن خرَجَ من الحمَّام بعد هذه الإشراقة من الإلهام، وهو ثملٌ بفوزه، قد نسي ما سبَقَ من أمره — وجرى في الطريق عاريًا — دون أن يشعُر أو يَعِي، وهو يصيح بالإغريقية: «يوريكا! … يوريكا!» أي: «وجدتُها! … وجدتُها.»

أنا أيضًا حدَثَ لي مثل ذلك ذات يوم … أنا الذي لا يفقه شيئًا في العلوم … خيِّل إليَّ أنِّي اكتشفتُ حقيقةً علمية! … وهل من الضروري أن يكون الإنسان عالمًا طبيعيًّا، أو كيميائيًّا، أو فلكيًّا، لتكشف له الطبيعة عفوًا عن سرٍّ من أسرارها؟! … إنَّ الطبيعة امرأةٌ قد يحلو لها أن تنزع نقابها أمام مَن لا يعنيه أمرها، وتحتفظ وتتمنَّع على مَن يجري خلفها ويقفو أثَرَها، أو قُل: إنَّها استهانتْ بشأني أو لم تفطن إلى وجودي، فخلعتْ — على مقرُبةٍ منِّي — إزارَها … ومكَّنتْني من الاطلاع على سرٍّ من أسرارها. وكان ذلك أيضًا داخل الحمَّام! … لكأنَّ الطبيعة الأخرى، لا تخلع بُرقعها ولا تتجرَّد في حقيقتها العارية إلا في حمَّام!

نعم ما من شكٍّ عندي في أنِّي اكتشفتُ اكتشافًا علميًّا، قد لا يقلُّ في الخطر والأهمية عن اكتشاف «أرشميدس»، وقد تجلَّى لي الوحي مثلما تجلَّى له في حمَّام! … وكلُّ الفرق بيني وبين الحكيم الإغريقي هو أنِّي نسيت أن أخرُج من حمَّامي إلى الطريق عاريًا أصيح: «يوريكا! … يوريكا! …» أي: «وجدتُها … وجدتُها!»

فالذي فعلتُه، هو أنِّي ارتديتُ ثيابي بكلِّ تعقُّل ورزانة ورباطة جأش! … ولا غَرو، فنحن الآن في عصر العقل المادي، وورقِ البنكنوت! … وخرجتُ من داري إلى الطريق بكلِّ تُؤَدة ووقار، وذهبتُ من فوري إلى صديقٍ لي، عالمٍ معروف من علمائنا الراسخين في العلم، ودخلتُ عليه وابتدرتُه قائلًا: أتعرف مَن الذي أمامك؟

– طبعًا … أعرف!

– أراهنك بعشرة جنيهات على أنَّك لا تعرف.

– لماذا تريد أن تخسر نقودك؟

قالها وهو يُخرج من محفظته ورقةً مالية بالجنيهات العشرة، واثقًا متحديًا … فصنعتُ مثلما صنَعَ … وأخرجتُ ورقةً مالية مثل ورقته … وكلِّي ثقةٌ واطمئنان، فنظر إليَّ باسمًا قائلًا: والآن؟

– والآن … تكلَّم أنت … مَن أنا؟

– أنت صديقي فلان.

– أبدًا … أبدًا … أنا «أرشميدس».

فحدَّق في وجهي ليتأكَّد له اكتمال قواي العقلية … ولم أمهلْه؛ فقد اقتحمتُ الموضوع اقتحامًا، وقلتُ له: إنِّي لا أُلقي الكلام جُزافًا يا صديقي … عندما أقول لك إنِّي «أرشميدس»؛ فيجب أن تصدِّقني! … لقد اكتشفتُ — مثله وفي مثل ظروفه — حقيقةً علمية … قد تقلب علمَ الكهرباء التطبيقية رأسًا على عقب، وقد تغيِّر نظام الصناعة الحاضرة وتقرِّر مصير المصانع الحديثة؛ بل تغيِّر نظَرَ الخبراء العالَميين في مشروع خزَّان أسوان!

فالْتفتَ إليَّ العالِم باهتمامٍ يخالطه حذَرٌ: ماذا تقول؟ … أنت تكتشف؟

– ولمَ لا؟ يضع سرَّه في أضعف خلْقِه!

– قصدي … أنَّك لستَ بعالِمٍ كهربي.

– وماذا اخترع العلماء الكهربيون المنتشرون في الأرض، العاكفون على الدرس والتدريس في المعامل والجامعات، وهم يُعدُّون بالألوف؟! كثيرٌ من أسرار الطبيعة تتجلَّى بالمصادفة للبُسطاء أمثالي، قبل أن يتلقَّفها العلماء المحترفون ويبحثوها ويقرِّروها حقائق علمية!

فبدا على وجه صديقي العالِم أنَّه اقتنع؛ فأطرَقَ مفكِّرًا قائلًا: في قولك شيءٌ من الوجاهة، ولا شيءَ بمُستبعَد!

– الوحي في العِلم كالوحي في كلِّ شيء؛ يهبط على كلِّ إنسان. فما المانع أن تهبط على مثلي حقيقةٌ علميَّة مجرَّدة عارية؟ … لاحظْ أنَّها هبطتْ في حمَّام … وأنِّي أُبصرها بإدراكي، وأراها ببصيرتي … وألمسها بيدي … وأحسُّها في كفِّي … ثم أقدِّمها إليكم معشر العلماء الجالسين فوق المكاتب، تقلِّبون في أوراق وسجلات وملفات، لتُلبِسوها بعد عُريها ثيابًا خدَّاعَة برَّاقَة، من صِيغكم الفنية، ومعادلاتكم الرياضية؛ لتبدو في أعين الناس، حقيقةً علمية وقورًا جديرةً بالاحترام والتقديس!

– قولك لا يخلو من صواب! … إنَّ عمل بعض العلماء، كعمل الخيَّاطة التي تُلبس «الحقيقة» الثوب الذي تَصلُح به للظهور في المحافل، ولكنْ يجب أن تعترف أنه ما من امرأةٍ تستطيع أن تظهر في الطريق عارية … كذلك «الحقيقة»!

– وكيف استطاع «أرشميدس» أن يظهر في الطريق عاريًا؟

– لا تنسَ أنه كان عالمًا … لقد شغَلَ باله في الحمَّام بإلباس «الحقيقة» رداءً، ونسي نفسه!

– إنِّي معترفٌ بأنَّ «حقيقتي» عارية، ولذلك جئتُ إليك لتصنع لها ثوبًا حتى نُخرجها إلى الناس جميلة المنظر، جليلة المظهر!

– لا مانع عندي … هاتِ لي هذه «الحقيقة»!

– كلَّا يا صاحبي! … فلْنتَّفق أولًا على الشروط … إنَّ النتائج التي ستترتب على هذا الاكتشاف ذات أهمية كبرى، خصوصًا من الناحية المالية؛ فلمَنْ يكون حقُّ الاختراع، وما يدرُّه من موارد، لا تعدُّ ولا تُحصَى؟!

فهرش صديقي العالم رأسه، ثم قال: مهما يكُن من قدْرِ الاكتشاف؛ فإنَّ كلَّ قيمته في التجارب العلمية التي تُجرى عليه، واستخلاص القوانين التي يمكن استخدامها في التطبيق العملي والصناعي.

– ما معنى ذلك؟ اعرضْ شروطك، بلا مداورة ولا التواء!

– تريد الصراحة؟ للمكتشف الثلث، وللعالم الثلثان!

– يا للمبالغة! … لجسم الحقيقة الثُّلث وللخياطة الثلثان؟!

– إنَّك لستَ الحقيقة، ولا جسمها! … ما أنت إلا رجُلٌ عابر، صادف «الحقيقة» في الطريق عارية كاللقيطة، لا تعرف لها مأوًى ولا هدفًا؛ فسحبتَها أنت من يدها، وقُدتَها إليَّ؛ لأُزيل عنها وسخها وهملها و«عبلها»، وأصقلها، وأجلوها، وأدثرها، وأظهرها! … بالاختصار، هل تقبل المناصفة في الحقيقة؟!

– نزولًا على حُكم الصداقة وحدها … أقبل!

– اتفقنا … هاتِ اكتشافك!

– اسمع يا سيدي: كنتُ في الحمَّام منذ أيام … وكان في «الدُّش» خلَلٌ «ثُقب متَّسع» فيما أذكُر، يندفع الماء منه فوق الجسم بقوةٍ شديدة، فاستقبلتُ هذا الماء المضغوط بكفِّي من ذلك الارتفاع، فإذا بي أشعُر في اليد برعشة، كتلك الرعشة التي تحدُث لمَن لمَسَ سلكًا من أسلاك الكهربا! … هنا من أدركتُ لساعتي أنَّ ضغط الماء في ذاته يولِّد قوةً كهربية … وعلى هذا القياس، فإنَّ الماء المُندفِع من عيونِ خزَّان أسوان، يولِّد كهربا بطريقةٍ مباشرة بمجرد الضغط والاندفاع … وهو لم يخطر، ولا شك، على بالِ أحدٍ من خبراء مشروع الخزَّان؛ لأنَّ الذي خطَرَ ببالهم هو الانتفاع بضغط الماء في إدارة «مراوح»، تحرِّك بعد ذلك «دينامو»، هو الذي يولِّد الكهربا! … أمَّا اكتشافي، فهو أنَّ الماء نفسه في مساقطه يولِّد كهربا، بغير حاجةٍ إلى «دينامو»!

ما قولك في هذا الاكتشاف؟

فنفخ صديقي العالِمُ نفخةً، خيِّل إليَّ أنَّها أطارت كلَّ صرح آمالي … وبعد أن تمهَّل قليلًا ليستجمع ما بقي من احترامه المبدَّد لي؛ قال في نبرةِ سخريةٍ مكظومة: أتدري ماذا اكتشفت؟

– ماذا؟

– البحر الأبيض المتوسط! … نعم، شأنك بالضبط شأن رحَّالة يأتي في هذا العصر، ليُعلن إلى الناس أنَّه اكتشف بحرًا عظيمًا، فإذا سألوه عنه، قال: هو هذا البحر الذي يحدُّ من الشمال بأوروبا، ومن الجنوب بأفريقيا.

يا صديقي الفاضل … كلُّ جسمٍ في حركته يولِّد كهربا، أنت الآن وأنت ترفع يدك، تولِّد كهربا، وأنت تضعها في جيبك، تولِّد كهربا، وأنت تتناول هذه الجنيهات العشرة من أمامي، تولِّد كهربا! … عجبًا! … ماذا أرى؟ … انتظر، حتى نبتُّ في أمرِ الرابح للرِّهان!

وكان السيف قد سبَقَ العذَل، وامتدتْ يدي فاختطفَت الورقة المالية، التي كنتُ قد أخرجتُها وجازفتُ بها؛ فقَدْ لمحت شبح الخيبة والهزيمة في الأفق، فأسعفتْني البديهة بضرورة الانسحاب السريع.

ونهضتُ وأنا أقول لصاحبي، لأغطِّي انسحابي: أحقًّا أنِّي لم أكتشفْ شيئًا جديدًا؟

– دعكَ من هذا الهُراء! … وحدِّثْني عن الرِّهان!

– ليس في الأمر هُراء … كلُّ شيءٍ جديدٌ عندي ما دمتُ أحسُّه بنفسي لأول مرة! فلْتمتلِئ الدنيا بالحقائق العلمية، فكلُّ حقيقةٍ لم تدخُل مدارَ إحساسي وإدراكي؛ فهي لم تولدْ بعدُ! … أنا الرابح للرِّهان؛ لأنَّ العبرة هي بأن أعتقد — أنا في لحظةٍ من اللحظات — أنِّي «أرشميدس»! … وقد حدَثَ هذا، ولا يهمُّني اعتقادُك أنت، ولا اعتقاد الآخرين. ومع ذلك، فالذنب ذنبي، فلقَدْ كان في مقدوري — بكلِّ سهولة — أن أُقنعك وأقنع الناس!

– كيف؟

– لو أنِّي فعلتُ، كما فعَلَ «أرشميدس»، وخرجت من الحمَّام إلى الطريق عاريًا!

– لا تنسَ أنه في عصره لم يكُن قد أُسس بعدُ مستشفى المجاذيب!

هززتُ رأسي، تأسُّفًا وترحُّمًا على عصره السمح الحرِّ، وتركتُ صاحبي العالِم، وأنا أقول في نبرةِ المُصِرِّ على حقِّه وفوزه ورأيه: وبعد ذلك يسمُّون عصرَنَا الحاضر، العصرَ الذي يشجَّع فيه المُكتشِفون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤