الباب السادس

الأدب والحضارة

إذا أبصرتَ شعاعًا، فاعلمْ أنَّ وراءه كوكبًا … وإذا رأيتَ أدبًا، فاعلمْ أنَّ وراءه حضارة … وما من خطَرٍ يهدِّد الشُّعاع إلا انفجار الكوكب!

***

الحضارة في الغد

يُعجبني من مفكِّري الغرب، براعتُهم في إبراز فضائل الحضارة الغربية، وما من شكٍّ عندي في أنَّ لهذه الحضارة فضائل. ولكنَّ الذي أشكُّ فيه أحيانًا، هو ما تنطوي عليه براعةُ هؤلاء المفكِّرين من مقاصد وأغراض … من ذلك أنِّي وقفتُ طويلًا عند هذا القول ﻟ «ريمون فرجناس» في حضارة الغرب … قال: «إنَّ هذه الحضارة الغربية، قد وُلدت في حوض البحر الأبيض المتوسط، من امتزاج الرُّوح الإغريقي بالرُّوح المسيحي؛ فهي إذن قد اتَّخذتْ مهدها هذه البلاد المحدودة الرُّقعة، الضيِّقة الآفاق. وجعلتْ إطارها هذه الطبيعة الرحيمة الهادئة بجداولها الجارية، وأشجارها المُثمِرة بالزيتون! … إنَّها حضارة وِديان … يعيش فيها بسلام الإنسانُ، وصديق الإنسان! … وإنَّ ساكن الوادي لا يحسد عادةً جارَه على واديه، ولا يطمع فيما لديه، ولا يتمنَّى أن يطرده من أرضه ليحلَّ في مكانه … ربما كانت تلك نظرةً أقرب إلى الشِّعر! … وربما اعترض عليها مُعترِضٌ، بما يزعمه أهلُ الشَّرق، من أنَّ حضارة الغرب هي حضارةُ حروب وفتوح! نعم … حضارة الغرب تعرف الحروب، ولكنَّها حروب من أجل الكرامة، لا من أجل التوسُّع والفتح!»

هكذا يفكِّر ويتكلَّم هذا المفكِّر الغربي، إنه يجمِّل الحقائق تجميلًا رائعًا، وليت ما يقول صحيح! … إذن لكانت «أوروبا» هي الجنَّة الموعود بها المتقون، ولكانت الحروب قد انقرضتْ من الأرض، والأطماع قد زالت من الصُّدور ولكنَّ الواقع يقول لنا غيرَ ذلك مع الأسف الشديد! … الواقع يقول لنا وهو يشير بإصبعه: «اتبعوا الشمس حيث تسير، وافحصوا كلَّ شبرٍ من أرضٍ يقع عليه منها شعاعٌ؛ تجدوا رايةً غربية وفتوحًا حربية ومطامع استعمارية!».

ويمضي ذلك المفكِّر الغربي في تصويره قائلًا: «إنَّ فكرة الوادي — وهي الصورة التي يعتزُّ بها — قريبةٌ إلى فكرة السعادة؛ لذلك تبدو له الحضارة الغربية كأنها حضارة الشعوب السعيدة … أو على الأقلِّ حضارة أممٍ أقلَّ تعرُّضًا من غيرها لقسوة الحياة وكوارث الطبيعة! … هذا الهناء — النسبي في نظره — هو الذي أدَّى إلى ذلك الاحترام لذات الإنسان في حضارة الغرب!»

رَدِّي بسيطٌ على ذلك المُفكِّر: أنَّ الطبيعة قد رحمَت الغرب حقًّا، وحبستْ عنه كوارثها، ولكنَّه هو لم يرحمْ نفْسَه؛ فقد خلَقَ لذاته من الكوارث والمِحَن، وأنزل بأرضه من الخراب والدمار، ما لم يخطر للطبيعة على بال! … كلُّ منبع للسعادة يسمِّمه، حتى منبع الدِّين. وكلُّ جارٍ له يحطمه، حتى لو كان مصدرًا للعِلم والتفوُّق والاختراع! … لقد وُلد الغرب في أرضِ السعادة حقًّا، ولكنَّه رفض السعادة!

ويقارن ذلك المُفكِّر بين نظرة الشرق ونظرة الغرب إلى الإنسان قائلًا: إنَّ أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد الشرق، هَالَهم ما رأوا من ثباتِ الشرقيين وهدوئهم أمام تلك الخُطوب والكوارث التي تودي بحياة الملايين؛ لكأنَّ أهل الشرق يرون في الأوبئة والمجاعات والزلازل أسبابًا طبيعية، وحلولًا سماوية لمشكلات ازدياد السُّكان وقلَّة الطعام! … فالأموات يُخلون مكانهم، ويتركون زادهم للأحياء … وتلك نظرةٌ تخالف كلَّ المخالفة نظرةَ الغرب، الذي يرى حياة الفرد الواحد لها من القيمة، ما لا ينبغي النزول عنه للغير بأيِّ ثَمَن … إنَّ التسليم بشقاءِ فردٍ — لضمان خير الآخَرين — أمرٌ يناقِض التفكير الغربي.

هذا كلامٌ طيب، مَهمَا يكُن في جوهره من الأثَرة الفردية! … ولكنْ إلى أيِّ مدًى صدَقَ هذا التفكير في ميدان الواقع الغربي نفسه؟ … إنَّ المحافظة على حياةِ الفرد وسعادته وحقوقه، مبدأٌ عظيم! … ولو ثبَتَ أنَّه من ابتكار الحضارة الغربية وحدها؛ لمَا وسِعَنا إلا الانحناء لها احترامًا! … ولكنَّ المبدأ الآخر الذي ينسبه ذلك المفكِّر إلى الشَّرق — وهو مبدأ تضحية الفرد من أجل المجموع — هو أيضًا مبدأٌ لا يقلُّ سموًّا عن المبدأ الغربي … وفي رأيي، أنَّ كلَّ حضارةٍ كاملة يجب أنْ يقِفَ فيها المبدآن جنبًا إلى جنب، ولا يدري أحدٌ ما الذي سيكشف عنه الغد … ولكنَّ الذي نراه اليوم، هو أنَّ العالم قد انقسَمَ إلى معسكرَين، كلٌّ منهما قد اتَّخذ من أحد المبدأين رايته؛ فالمعسكر الشرقي تمثِّله الآن «روسيا» بمبدئها الذي يقول: «إنَّه يجعل للدولة الأهميةَ الكبرى، وللمجموع القيمةَ الأولى.» على حين أنَّ المعسكر الغربي يقول: إنه يجعل للفردية الأهمية الأولى، وللفرد القيمة الكبرى!

هل يُثبت لنا الغد أنَّ الطرفَين على حقٍّ؟ … وأنَّ العالم لم يعُد يُطيق تعدُّد الحضارات؟ … وأنَّ دنيا المستقبل لن تقبل إلا حضارةً واحدة، ترفرف بجناحَيها الكبيرَين على الأرض؟ … وتضمُّ تحتها أسمى المبادئ متَّسقةً، وأنبلَ الأفكار مُجتمِعة؟

الحضارة والشرق

الحضارة الأوروبية هي أحيانًا كرِداء المساخر، يجمع من الألوانِ كلَّ متنافر! … فهي في الوقت الذي تمنح فيه النساء حقَّ الانتخاب، تحرمهنَّ من التصرُّف في أموالهن، وتجعلهنَّ في حُكم القاصر، وتجعل الأزواج عليهنَّ في أموالهنَّ أوصياء!

فكأنَّ المرأة في نظَرِ الغرب، تصلُح لتدبير شئون الدولة، ولا تصلُح لتدبير شئون مالها! … وعلى هذا الأساس المتناقِض، منحَتْ بعض الدول نساءها الحقوقَ السياسية — مُفتخِرة مزهوَّة — فدَخَلتْ نساؤها مجالس النوَّاب، وفي أقدامهن أغلال الحِرمان من حقوقهن المالية والشخصية!

ثم رفعتْ هذه الدول الصوتَ مُجلجِلًا في هيئة الأمم المتحدة، مُطالِبةً بمنح هذا الحقِّ السياسي لكلِّ النساء في بقيَّة الشعوب.

يا للمهزلة! … لكأنَّ صوتُ المدفع هو الذي يُتيح اليومَ للعرب المسلَّح أن يُطلق صوتًا سخيفًا في شئون المجتمع، يسمِّيه صوتَ الحكمة والتقدُّم! … ولستُ أدري كيف استطاعتْ أوروبا «المتقدِّمة» أن تلبث القرونَ متخلِّفةً عن الحضارة «الإسلامية»؟!

لو كان لدينا ممثِّلٌ قويُّ الشخصية دامِغُ الحجَّة في هذه الهيئات الدولية؛ لصاح بهؤلاء القوم: ألَا أيُّها النُّوام ويْحَكُم هبُّوا! … ألَا تعرفون أنَّ نساءنا المسلمات يملِكنَ من حقِّ التصرُّف في أموالهنَّ، ما تطمعون اليوم في الوصول إليه؟

ولكنَّ مُركَّب النَّقْص في الشَّرق، يخيِّل إليه دائمًا أنَّ الغرب لا يتأخَّر، لا يمكن أن يتأخَّر! … وما الغرب في حقيقة الأمر إلا متأخِّر جدًّا، في كلِّ شئون الرُّوح والحكمة العليا!

•••

وإنَّ من آيات تأخُّره، ذلك الذي يسمِّيه «الحقُّ السياسي» … ولقد نكَبَ به شعوبًا، ويريد أن يَنكبَ به البيوت والأُسَر، هذا الغرب الهازل المتناقِض يمنح هذا «الحقَّ» للفرد ولا يمنحه للأمَّة … ما من أمَّة لها حقٌّ سياسي في تقرير مصيرها إلا إذا كان في يدها مدفع، وما من فرد انتفع بحقِّه السياسي في تقرير مصيره! … ولكنَّه قرَّر به مصاير من اشتروا أو اختلسوا منه هذا الحقَّ! … ما كلمة «الحقُّ السياسي» إلا لعبةٌ حمقاء من لُعَب الغرب، شغلتْ بها الأذهان دون أن يثبت لها نفع! … وإذا رجع الغربُ إلى حكمة الشرق، ورأى كيف فهِمَ الإسلامُ الديموقراطية؛ لجنى من ذلك دروسًا، قد تُصلِح من فساده، وتُقِيلُ من عِثاره.

•••

نشرتُ ذلك منذ سنواتٍ في كتابي «عصفورٌ من الشرق»، وقد تُرجِم إلى لغاتٍ أجنبية … ولكنِّي ما جنيتُ من ذلك إلا تُهمةً، ألصَقَها بي كاتبٌ، نشَرَ بالإنجليزية في لندن كتابًا عن مصر، قال فيه عنِّي: إنِّي «رجلٌ رجعِيٌّ» واستشهد بفقراتٍ من كتابي المذكور … أدركتُ عندئذٍ أنَّ الغرب غيرُ راغبٍ في أن يستلهِمَ من نور الشَّرق شيئًا! … وأنَّه لا يزال يُمعِن في الاعتقاد بأنَّ كلَّ ما خرَجَ عن حضارةِ الغرب فهو توحُّش، وأنَّ كلَّ ما اتَّصل بجوهر الشَّرق فهو رجعية!

•••

لستُ أدري؛ أنُسمِّي هذا الموقف من الغرب عمًى؟ … أم نسمِّيه تعصُّبًا؟ … لطالما رمانا الغربُ بالتعصُّب زورًا وبهتانًا! … وما من أمَّة في الأرض، أبدتْ من التسامح والتساهل والحرية، ونبذت من الجمود والقيود، مثلما فعلتْ أُمَم الشرق إزاءَ الحضارة الغربية! … فلقَدْ فتحنا أعيننا عليها بضمائر نقيَّة، ونقَّبنا فيها بحُسن نية، واخترنا ما اعتقدنا أنَّه ينفعنا في حياتنا الحاضرة، وينفي عنها شبهة التَّمسُّك بالبالي من المظاهر، وذهبنا في ذلك أحيانًا أبعدَ ممَّا ينبغي؛ فما وجَدنَا بأسًا في أن ننقل عن الغرب كثيرًا من الأردية، والأنظمة، والقوالب، والطرائق؛ فهي أعراض ممَّا يلحق المدنيَّات القائمة، وأثواب ممَّا يغلِّف العصور المتجدِّدة! … ولكن الذي ما كنَّا لنتهاون فيه قَط هو: الرُّوح والجوهر! … وهنا نقول للغرب: قفْ، وحذارِ أن تمسَّ هذا الجانب من الشرق، ومَهمَا يكُن من أمرِ اتِّهامه لنا بالرجعية؛ فنحن أقدَمُ منه عهدًا، وأكبر سنًّا، ونحن نعرف أنَّه الآن في شبابه المضطرب ونشاطه المتَّقد؛ لا يمكن أن يتريَّث ليبحث عندنا عن معونة! … ولكنْ غدًا، عندما يُقعِده الكِبَر وتذلُّه الهزيمة، ويذهب عنه الغرور، ربما وقَفَ لحظةً وتلفَّتَ حوله، يلتمس الهداية؛ فلن يجِدَ له عندئذٍ من هادٍ غير الشرق، مهبط الحكمة ومنبع النور!

تراث الحضارات

إنَّ العصر الذي نعيش فيه اليوم، هو عصر الصراع — لا بين القوى المادية وحدها — بل بين القوى الفكرية، وإنَّ هذه التيارات الثقافية المحيطة بنا — من أنجلو سكسونية، ولاتينية، وسلافية — لتدفعنا إلى التفكير في موقفنا حيالَها! … لقد فكَّر في ذلك فعلًا بعضُ شبابنا المثقَّف … ورأى أنْ يطرح عليَّ هذه الأسئلة: «ماذا نأخذ وماذا ندَعُ من حضارةِ الغربيِّين؟»

فأجبتُ بلا تردُّد: نأخذ ما في رُءُوسهم، وندَعُ ما في نفوسهم؛ إحساسنا مِلكنا وإحساسهم ملكهم، فالشعور طابعٌ شخصي لا يُنقل ولا يستعار، ولكنَّ المعرفة مِلكٌ مُشَاع، ومتاعٌ يتداوله الجميع!

– «هل نأخذ كلَّ ألوان المعرفة؟»

– كلُّ ألوان المعرفة نأخذها، لا نترك لونًا واحدًا … ما من شعبٍ في هذا المعترك العالمي الحاضر، يُغتفر له الجهل بعلمٍ من العلوم، أو أدبٍ من الآداب، أو فنٍّ من الفنون، ولن تقوم للشرق نهضةٌ حقيقية إلا إذا أحاط بكلِّ معارف الأرض إحاطةً شاملة، ثم صهَرَها في قلبه، وأخرَجَها — مرةً أخرى للناس — معدنًا نفيسًا يُشعُّ أضواءً جديدة.

– «وما الرأي في اختيار ثقافةٍ معيَّنة دون ثقافة، كاختيار اللاتينية مثلًا دون الأنجلو سكسونية أو العكس؟»

– هذا خطأ! … كلُّ الثقافات الموجودة يجب أن نلمَّ بها إلمامًا، وأن نتخيَّر محاسنها ونقتطف أطايبها؛ فنحن لسنا مثل الغربيين مقيَّدين بواحدةٍ منها دون الأخرى! … كلُّها لنا، نغترف منها، ونضيف إليها من ذات أنفُسنا، ونُضفِي عليها من مشاعرنا، ونطبعها بطابعِ مزاجنا وإحساسنا! … لا يجب أن نتحيَّز لواحدةٍ دون الأخرى، أو نتشيَّع، أو أن نقصر اطِّلاعنا على ثقافةٍ دون ثقافة، ويجب ألَّا يكون للاتجاهات الشخصية أو للمؤثرات السياسية أو للظروف؛ تأثيرٌ في إقبالنا نحو إحداها، وانصرافنا عن إحداها! … فالثقافة ليست بضاعةً مادية لأمَّة من الأمم، وإنما ثقافةُ كلِّ أمَّة مِلكُ البشرية كلِّها؛ لأنَّها خلاصةُ تفكيرِ البشرية جمعاء! … ثقافة أي أمة، ليست سوى «عسلٍ» استُخلص من زهراتِ مختلف الشعوب، على مرِّ الأجيال، فلْيكُن همُّنا جَنْي العسَلِ دون النَّظَر إلى جماعات النَّحل! … وهل من العقل إذا لدغتْنا جماعةٌ من النحل أن نُقاطِع عسلها؟ … لقد عرفتُ رجلًا عسكريًّا من الإنجليز أيامَ الحرب، أشرَفَ على الستين، ما كانت تُذكر أمامَه كلمةُ «هتلر» أو «النازية» أو حتى كلمةُ «ألمانيا»؛ حتى يصعد الدم إلى رأسه غضبًا؛ فقد كانت له في جنوب «إنجلترا» أسرةٌ، ذاقَت الأهوالَ من القنابل الألمانية الطائرة. وكان له أهلٌ وأقرباءُ، قُتلوا في الحرب ضدَّ الألمان، وعلى الرغم من ذلك، ما كنتُ أراه يخلو إلى نفسه، وفي فترة راحةٍ من عمله، حتى أجِدَه عاكفًا على كتابٍ بعينه، يُطالعه باهتمام؛ فنظرتُ ذاتَ يومٍ إلى ما بيَدِه، فإذا هو كتابٌ ألماني يتعلم فيه اللغةَ الألمانية وآدابها؛ فدُهشتُ! … هذا الرَّجُل الذي يمقتُ الألمان هذا المقتَ، يتعلَّم لغتهم ويُعنى بآدابهم وثقافتهم، وفي مِثل سِنِّه؟! … وحادثتُه في ذلك فقال: وما وجه العَجَب؟! … هل الثقافة الألمانية مِلكُ الألمان وحدهم؟! … هذا درسٌ يجب أن يوضع تحت عين كلِّ شرقي!

– «أليس لنا مع ذلك أن نُساير، من بين الثقافات الغربية، ما يناسب طبيعتنا الشرقية، أو ما يصلُح لها في نهضتنا الحاضرة؟»

– من رأيي ألَّا نهمل شيئًا؛ فكلُّ ثقافة لها مزاياها. وما دُمنا الآن في مجال الاختيار والاغتراف؛ فيحسن بنا أن نرسل أبصارنا إلى كلِّ جهة، ولا نحبس أنفُسنا في سجنِ ثقافةٍ واحدة بعينها … أو أنْ نتَّجه إلى ثقافةِ شعبٍ واحد من شعوب الغرب … الحذر كل الحذر من إهمال ثقافة، أو مقاطعة ثقافة! … لقد غلط العرب غلطةً هي التي جرَّت علينا اليوم هذه العُزلة الذهنية، وقطعتْ ما بيننا وبين «أوروبا» من معابر ومسالك؛ تلك هي مقاطعتهم قديمًا لثقافة اليونان والرومان! … فلو أنَّهم نقلوا واتصلوا بكلِّ آداب الإغريق والرومان، وحذقوا كلَّ فنونهم، ولم يُهملوا لونًا واحدًا من ألوانها، ولم يُغفلوا فرعًا من فروعها؛ لكان قد حدَثَ اليوم العَجَب، كانت الحضارة العربية الآن هي الأساس المباشر لكلِّ ثقافة الغربيين الحاضرة، ولكانت هي التي حلَّت لديهم محلَّ الثقافة اللاتينية وزادتْ عليها رُوحًا أخرى، هي رُوح الشَّرق … لو أنَّ هذا حدَثَ — وليته حدَثَ — لكانت حضارةُ «أوروبا» في صورةٍ أروع ممَّا هي عليه الآن وأعمق! … كلُّنا يعلم أثر بعض الفلاسفة العرب، أمثال: «ابن رُشد» و«ابن سينا»، ممَّن نقلوا الفلسفة الإغريقية وفسَّروها! … لقد كان لهم الفضلُ على «أوروبا» في القرون الوسطى … والأوروبيون يعترفون بذلك الفضل، ويُشيدون به … ويقولون عن أولئك الفلاسفة العرب: إنَّهم كانوا بمثابة الجسر الذي نقَلَ إليهم آراء «أفلاطون» و«أرسطو» … ولكنَّ الفلسفة ليست سوى فرعٍ واحد من فروع الثقافة! … فكيف لو أنَّ العرب وأدباء العرب كانوا هم الجسر الكبير الكامل الذي ينقل الثقافة الإغريقية بفنونها، والرومانية بأُصولها! … وقد أضافوا إليهما ممَّا في جعبتهم من عبقريةِ الرُّوح الشرقي وحيوية الذهن العربي؟ … هذا هو الذي يدفعني إلى تنبيه الشباب في بلادنا إلى أنْ يلتفتوا اليوم إلى كلِّ ثقافة، وأن يُعنوا بكلِّ حضارة؛ لعلَّهم يُتاح لهم في مستقبل الأيام أن يُخرجوا للعالم مدنيةً جديدةً تفوق كلَّ مدنية موجودة!

شمس الشرق

آن الأوان، في هذا العصر، للقضاء النهائي على فكرة الاستعمار، والسيطرة بالقوة على الشعوب والأفكار؛ لا للسبب المعروف وحده، من أنَّ ذلك يتعارض مع مبادئ الحرية والعدل وحقوق الإنسان، بل لأمرٍ آخر أشدَّ خطرًا على الحضارة البشرية وأعمق أثرًا!

إنَّ سيطرة الغرب على الشرق اليوم، لا تكتفي بالإخضاع المادي والاقتصادي! … إنها تشمل أيضًا الإخضاع الروحي؛ الشعار اليوم: «مَن يحتلَّ أرضك يحتلَّ فكرك، ومَن يسلبْ بلدك يسلبْ روحك!»

«أمريكا» لا تقف في «اليابان» عند حدِّ الاحتلال العسكري؛ إنَّها تريد أن تفرض عليها تفكيرًا اجتماعيًّا، وتلبس ذلك الرُّوح الشرقي عقليةً أمريكية! … هي تزعم أنَّها تُمدِّن «اليابان»!

وبريطانيا في الشرق الأوسط والهند، وفرنسا في شمال أفريقيا! … عين الخطة والطريقة! … وليس الباعث في كل الأحيان إصبَع الاستعمار وحدها، ولكنَّ وجود غالبٍ ومغلوب يؤدِّي حتمًا إلى تغلُّب رُوحٍ على رُوح، وفكرةٍ على فكرة؛ ليتلاشى المقهور في القاهر!

ما النتيجة، لو أدَّى الاستعمار الغربي إلى محو الشرق، برُوحه وتفكيره؟ … ماذا يحدُث للدنيا إذا فتحنا أعيننا ذات صباح، فلَمْ نَجِد «الشرق»، ووجدنا الغرب وحده، بشمسه ونوره وناره؟!

إنَّ الذي سيحدُث معروف وإنْ طال الأمد! … إنَّ شمس الغرب الفاترة الباردة الشاحبة العجوز؛ لا بدَّ أن تغرب يومًا، وأنْ يحلَّ الظَّلام في الأرض، فمن أين تطلع مرةً أخرة فتيَّةً قوية؟ … إذا لم يكن في الأفق شرق!

أخطأ فكرةٍ في ذِهن الغرب؛ اعتقادُه أنَّ «الحضارة الغربية» هي كلُّ شيء … إنَّها عقيدةُ طفلٍ يرى شمس العصر المائلة فوق البحر وهَّاجةً ساطعة؛ فيحسب أنَّها في السماء مسمَّرة، وفي الفضاء مثبَّتة!

شمسُ الغرب غاربةٌ لا محالة! … متى؟

يوم تنتهي «الطريقة العقلية» إلى نهايتها الطبيعية! … إنَّ الغرب يستخدم الطريقة العقلية، كالطفل الذي يلهو بحبلِ «الديناميت»! … لقد أوقَدَ طرفه، وترك ناره تجري فيه، وهو فرِحٌ طروب مزهوٌّ فخور لذلك الوهج، والنور يجري ويسري. كأنه انتصارٌ تلوَ انتصار، لا يريد أن يَقِفه لحظةً لينظر في نهايته، ويتأمَّل آخِرته؛ إنَّه ثمِلٌ بالنور الجاري الساري. ولن يُفيق حقًّا، ولن ينبه إلا على صوت الانفجار، وحلول الدَّمار!

أيها الغرب! … الْعب بحبل تفكيرك ما شئتَ، ولكنْ أبقِ على الشرق قليلًا، واترك له بعض أنفاسه، ودَعْ له بعضَ رُوحه؛ فهو الذي سيقوم غدًا، زاحفًا على ركبتَيه الخائرتَين، من ثقَلِ نِيرك، مادًّا إليك يدَيه الضعيفتَين، من أثر أغلالك؛ لينتشلك من المحنة، وينتزعك من الفناء!

الحضارة رُوح

عندما انهارت «اليابان» أمام القنبلة الذرِّية في الحرب الأخيرة، سألتُ نفسي: هل انهارت «اليابان» حقًّا؟ … أو الذي انهار فيها هو الحديد؟ … هل هُزمت «اليابان» حقًّا، أو أنه لم يُهزم فيها غير العارية التي استعارتْها من الغرب؟ … أمَّا الجوهر الذي ينبع من نفسها؛ فهو باقٍ لا ينهار ولا يُهزم! … وهو وحده المنبع الذي تصدُر عنه كلُّ القوى المتجدِّدة، التي لها الغلبة آخر الأمر … القوى الميكانيكية التي ارتدتْها «اليابان»، على غِرار أردية الغرب، هي في الواقع التي كُسرت وسُحقت، وهي وحدها القابلة للكسر والسَّحق والتحطيم! … قوة المادة مَهمَا تكُن عظيمةَ الخطر؛ فهي موقوتةُ الأثَر! … وهي سهلةُ المنال سريعةُ الزَّوال! … هي لك اليوم، ولغيرك غدًا؛ هي لمَن يدفع فيها الثَّمن الأبهظ؛ لأنها تُشترى بالمال! … لقد انتصرتْ «أمريكا» لا لفضائل في جوهرها، ولا لمزايا في رُوحها، ولكنْ لذَهَب المموِّلين، الذي استطاعتْ أن تشتري به العِلم والعلماء، وتحصل به على موادِّ الفتك وخبرةِ الخبراء … وهي بالمال تَقْتَني كلَّ شيء … تقتني كلَّ مظاهر الحضارة التي تُبهر بها العالَم … تقتني كلَّ الأثواب البرَّاقة.

ما من إنسانٍ عريق الأصل، لم يَجِد في «أمريكا» سوقًا لعراقته. ولا صاحبِ تجاريبَ، لم يبِع تجاريبه هناك. ولا صاحبِ اسمٍ لامعٍ في أدب أو عِلم أو فن، لم تُنصبْ له الأشراك الذهبية؛ ليلصق اسمه بالجنسية الأمريكية! … بلادٌ لم تصنع الحضارة بما فيها؛ فاشترتْها بمالها الذي جمعتْه سريعًا بشتَّى الوسائل! … «أمريكا» بلدُ «السينما» … وهي كلُّها دولةٌ مُقامَة على طريقة «هوليود»: واجهاتٌ من الكرتون، وجدران تُناطِح السَّحاب من الأسمنت، وأُناس يتحرَّكون ويتكلَّمون ويتصرَّفون طبقًا لروايةٍ موضوعةٍ ألَّفها مؤلِّف أجنبيٌّ عريق! … أمَّة أوجدتْها الظروف، وأنشأها المال، ومن الممكن أن تُزيلها الظروف، أو يتخلَّى عنها المال؛ فتختفي من الوجود، دون أن يخسر الوجود شيئًا أو يحسَّ لفقدها أثرًا، أو ينال من بعدها تراثًا ذاتيًّا أو ميراثًا خاصًّا! … فالحضارة بخيرٍ بها وبدونها؛ لأن العلم بأساتذته، وتقاليده وماضيه، وتاريخه وتجاريبه، وكذلك الفن، وكذلك الأدب، وكذلك الفلسفة وكل شئون العقل والفكر، وكذلك الدين وكل شئون القلب والروح؛ موجودة من قبل «أمريكا» ومن بعدها! … جذورها ممتدَّة في غير تلك البلاد، ويمكن أن تُورق، وأن تُثمر دون حاجةٍ إلى إغراءٍ أو ضيافة.

كلَّا! … ليس المال كلَّ شيء! وإن استطعتَ به أن تشتري «مظهر» الحضارة؛ فلن تستطيع أبدًا أن تشتري «رُوح» الحضارة!

روح الحضارة يبزغ مع الشمس من قديمٍ في أرض أمَّة! … يبزغ مشاعرَ وإحساسات، قبل أن يظهر وسائلَ ومادياتٍ … إنَّه الإحساسُ الأول الذي لا يشترى بروح الله في أعاليه، وفي الكائنات! … والشعور الأول — الذي لا يقتنى — بروح الجمال في المخلوقات! … إنَّه ذلك الذي يجعل من الإنسان إنسانًا! … إنه ذلك الذي يُشعِر الإنسان بإنسانيته — مباشرةً بدون وسيطٍ أجنبي — شعورًا، ينبُت معه في أرضه ووطنه منذ القدم، بخصائص تلك الأرض وطابع ذلك الوطن!

وقد ينشأ ذلك الشعور مع عقيدةٍ سماوية، أو فلسفةٍ أرضيَّة، أو متعة فنية! … ربما كانت زهرةً من أزهار بلدٍ من البلاد، يتضوَّع معها — في نفس المحبِّ لها — أريجٌ ذكيٌّ لحضارةٍ بشريَّة حقَّة!

إن لم يقُم دليلٌ على حضارة «اليابان» غير حُب أهلها للأزهار، لكفانا ذلك! … أصْغُوا إلى هذا الحديث لشاعرهم «أكاكورا»: «عرفَت الإنسانيةُ شِعرَ الحُب وقتما عرفَت حُب الأزهار! … إنَّ اليوم الذي قدَّم فيه أولُ رَجُل بطاقةَ الزهر الأُولى إلى محبوبته، هو اليوم الذي ارتفع فيه الإنسان فوق مستوى الحيوان؛ لأنَّه بارتفاعه عن حاجاتِ الطبيعة المادية، أصبح إنسانًا … وبإدراكه الفائدةَ الدقيقة المتسامية لمَا هو «غيرُ مفيد»، حلَّقَ في سموات «الفنِّ»! في الأفراح والأحزان، الأزهار هي لنا الصديق الأمين؛ فنحن نطعم ونشرب ونغنِّي ونرقص، وهي معنا! … ونحن نحبُّ، ونحن نتزوج، وهي معنا! … ونحن نمرض في فراشنا وهي معنا، بل نحن لا نجرُؤ أن نموت إلا وهي معنا! … وحتى عندما نرقد في التراب؛ فليس سواها يأتي أخيرًا، لتبكي بقطراتِ نداها فوق قبورنا! … كيف نستطيع العيش بغيرها؟ … أهناك أقسى من أن نتصوَّر العالم «أرملًا» يحيا بدونها؟! … لكن مَهمَا يكُن ذلك مؤلمًا فإن من العبث أن نُخفي عن أنفسنا الواقع؛ نحن — برغم دنوِّنا من الأزهار — لم نرتفع كثيرًا فوق مستوى الحيوان! … ما من «حقيقة» راسخة في كياننا دائمًا غير الجوع! … ما من شيءٍ مقدَّس عندنا غير شهواتنا … إلهنا عظيمٌ، ولكنَّ نبيَّه — في نظرنا — هو الذَّهب. من أجله، وفي سبيل قرابينه؛ ندمِّر الطبيعة برُمَّتها! … نحن نفخر بأننا أخضعنا «المادة» ولكنَّا ننسى أنَّ المادة هي التي أخضعتْنا وجعلتْنا لها عبيدًا! … يا لفظاعة ما ترتكب باسم الثقافة والإحساس والفِكر! … حدِّثيني أيتها الأزهار اللطيفة! … يا دموع النجوم! … أيتها الناهضة في الحديقة، تترجَّح رُءُوسكِ تحت رشفات النَّحل، وقُبلات الشمس، ولمسات الندى! … أتعرفين ما ينتظرك غدًا من مصير رهيب؟!»

الحضارة في دم الإنسان

روت الأخبار أخيرًا أنَّ جماعةً — لا يزيد عددهم على العشرين من رجالٍ ونساء — تمثَّل لهم شبحُ الحرب القادمة، وأدركوا مبلغ الدَّمار والعذاب اللذين سيحيقان بالعالم المتحضِّر، يومَ تقوم تلك المَجزرة البشرية التالية، وما سيكون فيها من قنابل ذرِّية وصاروخية ولاسلكية. فأخذهم الرَّوع، أو القلق، أو السخط، أو الضجر؛ فآثروا أن يتركوا هذا المجتمع الإنساني الذي يسمُّونه متحضِّرًا، وأن ينطلقوا إلى جزيرةٍ صغيرة نائية في مجاهل المحيط الهادي، يعيشون فيها بقيَّة حياتهم عيشةً بسيطة فطرية، لا ينقلون إليها شيئًا من المبادئ الاجتماعية التي قام عليها العالم المتمدِّن؛ فلا ملكية تُثير النِّزاع، ولا قيود تحدُّ من الحرية! … فالنساء مَشَاع، والرجال مشاع، والطعام مشاع! … فلا زوجة، ولا أُسرة، ولا دين، ولا عقائد! … وأغلب الظنِّ أنَّهم لم ينقلوا أيضًا، إلى تلك الجزيرة كُتبًا، ولا تُحفًا، ولا مظهرًا واحدًا من مظاهر الفكر، أو الفنِّ؛ حتى لا يتسرَّب إلى وطنهم الجديد بِذرةٌ من العالم القديم، قد تُنبت لهم نوعًا من التفكير يردُّهم إلى المشكلات الأُولى، ويُفسد عليهم هذه الحياة التي أرادوها صافيةً كحياة الأطهار من الأطيار!

•••

أمِثلُ هذا الحُلم يمكن تحقيقه؟ … في رأيي أنَّ هذا يتوقَّف على مدَّة الحُلم ومداه؛ فالحُلم لا يمكن أن يحتفظ بصفاته الخيالية إلا وقتًا قصيرًا؛ فإذا طال أمَدُه، انقلب إلى واقع، واقترن به من الظروف والعناصر ما يُخرجه عن صفاته، ويحوِّله عن اتجاهاته!

فهذا النَّفر من الرجال والنساء، يمكن أن يحقِّقوا حُلمهم هذا، لو اقتصر الأمر عليهم؛ فعاشوا ما عاشوا، لا ينسلون ولا يزيدون. يُمضون أيامهم على هذا الوضع الذي اختاروه واصطلحوا عليه، تمرُّ بهم الأيام وهم في هذه الجزيرة؛ كأنهم في رحلة خلويَّة طويلة الأمَد، إلى أن يموتوا وينقرضوا، ويُدفنوا تحت أوراق الشجر الذابلة، وتُدفن معهم قصتُهم الطريفة!

أمَّا الوجه الآخر من الأمر، فهو أن يتركوا نسلًا ويخلِّفوا ذُرِّية. وهنا تبدأ قصة الإنسانية تُكتب من جديد؛ فهذه الذريَّة سيكون فيها القوي والضعيف، والجميل والقبيح … بل سيكون فيها الأقوى والأجمل: ممثلَّين في صورة فتًى مفتولِ العضلات، وفتاة رائعة القَسَمات! … عندئذٍ يظهر النزاع على الجميلة بين الرجال، فلا يلبث أقواهم أن يظفر بها ويستأثر. وبظهور الاستئثار تظهر الملكية، وما إن يبدأ الرجلُ يملك المرأة حتى تخلق «الأُسرة»، وما إن يكوِّن كلُّ رجُلٍ أُسرتَه، ويكثُر صغاره، حتى يشعُر بتبِعته؛ فيخصُّ ذويه وحدهم بثمارِ جهده وعمله … وبتعدُّد الأسر وتعدُّد المصالح، يحتاج الأمر إلى نظامٍ وقانون. ثم إلى مَن يفرض هذا النظام ويطبِّق هذا القانون. وعندئذٍ يظهر رئيس القبيلة، أو زعيم الجزيرة، أو كبير هذا المجتمع الصغير، الذي بدأتْ نواته في التكوين وبظهور النظام والقانون اللذين يحدِّدان العلاقات بين أهل الجزيرة، يظهر ما سيسمَّى بعدئذٍ بالعُرف والتقاليد! … ثم تأخذ النوازل الضرورية، والنكبات التي لا مفرَّ منها، تحلُّ بأهل الجزيرة؛ فهذه رياح هُوج تعصف بأكواخهم وصواعق من السماء تحرق أشجارهم! … وهذا رجُلٌ سيِّئ الطِّباع مكروهٌ بين العشيرة يُغرق طفله! … وذاك رجُلٌ حسَنُ الخُلق محبوبٌ، ينال من صيد البحر خيرًا غير مُنتظَر! … هنالك إذن قوةٌ خفيَّة تنظُر إليهم من خلال السُّحب، أو من أعماق البحر، أو من أغوار الغاب، تُثيب المحسن وتعاقب المسيء! … بهذا الخاطر الذي يبرق في ضمير أحدهم يولد الدِّين، وبميلاد الدين أو العقيدة الإلهية يظهر من أهل الجزيرة مَن ينقطع إلى التفكير فيه ومزاولة شئونه … إنَّه الكاهن … يهرع إليه المنكوب من الناس، يسأله ردَّ القضاء الخفيِّ أو الرحمة فيه؛ فيخفف عنه الكاهن ويعزِّيه … ويتفنَّن الكهنة في إيجاد الوسائل التي يؤثِّرون بها في نفوس الناس، حتى يكون لهم أثَرٌ محسوس في التعزية والتلطيف والتخفيف! … فيبتدعون الرُّقي، والتمائم، والتعاويذ؛ في صورةِ كلامٍ منغَّم موسيقي موزون يمسُّ النَّفْس ويسرُّ الأذن؛ وبهذا يُولد الشِّعر! … ثم في صورة تماثيل وتهاويل تحدُث الرَّوعة في القلب والبهرة للعين؛ وبهذا يولد الفن!

وجِدَت إذن نواةُ حضارة؛ من مجتمعٍ، وقوانين، وعُرف، وتقاليد، ودين، وفن! … فلْنترك بعد ذلك الزمن الأكبر يتولَّى، على مدى الأجيال والقرون، تنمية هذه النواة، إلى أنْ تصير شجرةً باسقة لحضارةٍ هائلة، تنتج بُذورها القنابلَ الذرِّية والصاروخية واللاسلكية! … ويهرب منها نفرٌ، يتبرَّأ منها قائلًا: إلى حياة الفطرة … إلى جزيرةٍ نائية، لا تنبت فيها مدنيَّة أبدًا!

•••

أيها الإنسان … أين تهرب؟ … إن ما تفرُّ منه تحمله في دمك! … حيثما ذهبتَ وتوالدتَ؛ خرجتْ من صُلبك حضارةٌ مضيئة مدمِّرة كالشُّهب … هكذا خُلقت! … خلقك الله حقًّا من تراب الأرض الطيِّبة … ولكنْ مسَّكَ بعدئذٍ إبليس؛ فصِرتَ شهابًا لا يهدأ حتى يبرق، ويُحرق نفسه، وهو يهوي في أجواز الزمان!

الإنسان والغريزة

قال لي صاحبي، ونحن على مائدة الطعام: إنِّي أنتظر موسم «السمَّان» بصبرٍ نافد في كلِّ عام!

ومزَّق كتف «السمَّانة» بيده، والْتهَمَ لحمها بلذَّة ونَهَم! … فقلتُ له وأنا أصنع مثل ما يصنع: «السمَّان» أيضًا يفرح بهذا الموسم! … لأنَّه في نظره موسم السباحة إلى المشاتي.

فقال: المشاتي؟! … يا له من أحمق! … لو علِمَ أنَّ هذه المشاتي ليست سوى بُطوننا؟

فقلتُ: لو علِمَ؟ … ومَن قال لك إنَّه لا يعلم؟!

فقال بنبرةٍ دهِشة: ماذا أسمع؟ … أتراه يعلم؟!

فقلت: ولِمَ لا؟ … من المحتمل جدًّا أنَّه يعلم.

فقال: يعلم أنَّه يأتي إلينا كلَّ شتاء للسياحة، فنتلقَّاه في بُطوننا؟!

فقلتُ بهدوء: شأن كلِّ سائح! … أيجهل أولئك الذين يأتون إلينا كلَّ شتاء للسياحة، أننا سنتلقى ما معهم بجيوبنا؟!

فقال: طبعًا، كلُّ سائح يأتي وهو يعلم أنَّه سينفق ماله، ولكنَّ «السمَّان» لا يمكن أن يعلم أنَّه يأتي لينفق حياته!

فقلت: ثِق أنَّه يعلم … ومع ذلك يأتي! … إنَّ العِلم بوجود الخطَرِ لا يمنع من المغامرة والسَّفر!

فقال: إنَّه إذن طائرٌ قليل العقل! … لقد كان ينبغي له أن يعلم من قديم أن رحلته إلى المشاتي هي موسم فناءٍ له؛ فما لا شكَّ فيه أنَّ بعضًا من «السمَّان»، يستطيع في كلِّ عام أن يُفلت من الشِّباك، ويعود سالمًا من حيث جاء! … أمِنَ المعقول أنَّ هذا البعض يظلُّ على غفلته وحمقه وعماه، لا يتَّعظ بما أوشَكَ أن يقع فيه من هلاك؟ … ولا بما رآه من هلاك أقرانه؟ … فيمضي في ركوب هذا الخطر في مطلع كلِّ شتاء، ناسيًا ما سبَقَ أن نزل بفصيلته من مِحَن؟!

فقلتُ باسمًا: أتريد من هذا الطائر أن يكون أكثر عقلًا من الإنسان؟ … إنَّ للإنسان شِباكًا منصوبةً، في جوفها الهلاك لفصيلته البشرية، تلك هي الحروب، يُفلت منها في كلِّ مرة، وقد فنيت من نوعه الملايين، وكان ينبغي له أن يتَّعظ ويقول: «لن أعود إليها أبدًا … لن أُلقي بفصيلتي الآدمية في هذا الهلاك مرةً أخرى … كفى ما نزل بها من مِحَن.» ولكنَّ الذي يحدث غير ذلك؛ إنَّه يمضي في الإلقاء بنفسه ونوعه في هذا الفَناء، المرَّةَ بعد المرَّة، ناسيًا ما سبق أن وقع له! … وهو في كلِّ مرة يجِدُ من ألوان الدَّمار وقوَّته ووسائله، أضعافَ ما كان يَجِد! … إنَّ شِباك «السمَّان» على الأقل هي دائمًا الشِّباك! … لم تتغير منذ قرون! … ولكن شِباك الإنسان من الحروب، تتغيَّر أساليبُ هلاكها، ويتَّسع نطاق ضررها بسرعة تُذهل العقل وتحيِّر اللبَّ، ومع ذلك لا حديثَ للإنسان إلا عن موعد رحلته القادمة إلى الحرب الضروس التالية!

فقال صاحبي بلهجة الاقتناع: حقًّا … حقًّا … إن الإنسان لأقلُّ عقلًا من «السمَّان»! … ولكن …

فقلت له: ولكن ماذا؟

فقال: ولكنْ إلى متى؟ … متى يكون في رأس الإنسان عقل؟ … متى يكفُّ عن الإلقاء بنفسه في …؟

ومده يده إلى «سمَّانة» أخرى محمَّرة في الطبَقِ، يريد أكلها … فقلتُ له: إذا اختفى «السمَّان» يومًا من هذه الأطباق، ولم تعثُر عليه في الأسواق، وقيل لك إنَّ موسمه جاء وهو لم يَجِئ، وإنَّ الأشراك نُصبت له فتركها منصوبةً تنتظر بغير أمَلٍ؛ فاعلمْ أنَّ شيئًا قد حدَثَ في مجرى الكون، وأنَّ الطبائع قد تغيَّرت، وأنَّ الإنسان هو الآخر قد عَقَل!

الحضارة تتزيَّن بالفن

وقفتُ في صفٍّ طويل أمام شُبَّاك التذاكر في قصر شايو؛ فهناك حفلةٌ موسيقيَّة تُؤدَّى فيها بعض آثار «بيتهوفن»! … وأنا ما أزال على عادتي القديمة، لا يخطر ببالي أبدًا أن أحجز مكاني مقدَّمًا! … لا بدَّ لي من أنْ أقِفَ بالأبواب وأُحشر بين الجموع وأنال مكاني بالجهد والعَرَق! … لكأنِّي بهاتفٍ داخليٍّ يهمس لي دائمًا: «الثواب في الفنِّ أيضًا على قدْرِ المشقة!»

ولكنْ أمامي في الصفِّ مئات، وخلفي أيضًا مئات! … وكلُّ شخصٍ يحرص على الشِّبر من الأرض الذي عليه يقِفُ، ويتطلَّع إلى الشِّبر من الأرض الذي إليه يزحف! … وحركة الصفِّ ضعيفةٌ، ولهفة الناس عنيفة، وإذا بي أسمع الرَّجُل الذي خلفي يخاطبني، بلغةٍ فرنسية، تشُوبها لكنةٌ أمريكية: من فضلك احجزْ لي مكاني في الصفِّ، حتى أتكلَّم في «التليفون» وأعود!

فألتفتُ إليه متعجِّبًا: أحجزُ لك مكانك في الصفِّ؟ … أنا؟! … بأيِّ سُلطة؟ … إذا خرجتَ وتركتَ الصفَّ؛ فكيف أُقنع السَّيلَ الذي خلفك بأن موضع قدمَيك محجوزٌ لك؟

– شكرًا يا سيدي! … فلْأبقَ إذن!

– نعم ابقَ واحرصْ على حقِّك بنفسك! … نحن في هذا القصر عينه الذي اجتمعتْ فيه هيئة الأمم … وكم ضاعت فيه حقوق لبعض الشعوب … على الرغم من نضالها وصياحها ووثائقها وبراهينها! … أفتستبعد أن يذهب فيه حقُّك هذا، الذي تريد أن تعهد به إلى عناية غيرك؟!

وتركتُه والْتفتُّ إلى شأني، وحجزتُ مكاني، وانحدرتُ إلى قاعة الموسيقى من ذلك المبنى الكبير.

•••

كان لا بد دون بلوغ هذه القاعة من هبوطٍ إلى عُمقٍ عظيم في باطن الأرض، لم يجشِّمْنا تعبًا؛ فقد كان السُّلَّم الموصِّل إليها كهربيًّا «ميكانيكيًّا»، يكفي أن تقف على درجته الأُولى حتى ترى الدرجة ذاتها قد تحرَّكتْ بك، كأنَّها بِساط الريح؛ فإذا أنت في القاع السحيق في طَرفةِ عَين! … عندئذٍ بدا لنا جلالُ فنِّ العمارة يشهد بالمقدرة والبراعة! … ما هذه الأروقة العظيمة، التي لا نهاية لها، تقوم فيها الأعمدة كأنَّها الأشجار الباسقة وتتخلَّلها تماثيل آلهةِ الحُب والفنِّ والجمال! … وتنتشر بينها أضواءٌ لا ترى مشرقها ولا مغربها، وتُزيِّن جدرانها تصاويرَ ولوحاتٍ غايةٍ في الذَّوق والإبداع، وتعترضها درجاتُ سُلَّم طويلةٌ عريضة كأنَّها الشلالات صاعدةً من هنا، هابطة من هناك! … فإذا دخلتَ بعدئذٍ قاعة الموسيقى نفسها، وجدتَ مكانًا رحبًا يتَّسع لأكثر من ألف مقعد مكسوٍّ بمخملٍ ناعم، في لونِ الأرجوان … ووجدتُ المسرح في أحضانِ أعمدةٍ من البرونز المصبوب، أو هكذا يهيَّأ لك! … كلُّ ذلك في فخامةٍ وأيِّ فخامة، وبساطةٍ وأيِّ بساطة! … لكأنِّي أمام روعةِ هذا المكان في رحاب هيكلٍ من هياكل الفنِّ المصري القديم! … ما من شكٍّ عندي في أنَّ هؤلاء القوم قد تلقَّوا هذا الدرس الفني الذي أراه اليوم عن آثارنا نحن القديمة! … ولكأنِّي بهم وقد هبطوا بتُحفتهم تلك إلى الأعماق، ودفنوها تحت الثَّرى حيَّةً متألِّقة. إنما يطمعون في أن يُطاوِلوا الزمان كما طاولناه … فإذا انطوى العالم، وكشَفَ عن هذا المكان كاشفٌ في مستقبل الأيام؛ استطاع أن يقول فيهم بعض ما قيل فينا.

•••

على أني — وقد هدأ عَجَبي — طفقتُ أسائل نفسي: أَهُم الفرنسيون حقًّا الذين صنعوا ذلك؟ … ومن أين لهم المال، وقد خرجوا من المحنة منذ قليل؟ … وإذا كان في يدهم بعض المال، أفيضيعونه في تشييد هذه «القاعات» التي نسمِّيها نحن في «مصر» اليوم «كماليات»؟

•••

واتخذتُ مقعدي، والْتفتُّ إلى جواري، فإذا الشخص الذي كان خلفي هو جاري! … وابتسم لي وحيَّاني، وقدَّم نفسه إليَّ؛ فإذا هو محامٍ أمريكيٌّ من «بلتيمور»، جعل يتأمَّل المكان بإعجابٍ ويقول لي: حقًّا … إنَّ «الثقافة» بالمعنى الذي يفهمه الأوروبيون هنا، شيءٌ لا تعرفه بعد «أمريكا»!

فقلتُ له مُعزِّيًا: ولا «مصر»! … أقصد «مصر» اليوم!

فقال لي دهِشًا: «مصر»؟ ولكنَّ «مصر» عريقةٌ في الثقافة! … إنِّي لن أنسى يوم احتفلنا في «أمريكا» بعيد جامعتنا «هارفارد»، وجاءت الوفودُ من ممثِّلي جامعات العالم تحضر الاحتفال … لقد كان ممثِّلُ جامعتكم «الأزهر»، يمشي في المقدمة مختالًا فخورًا، مباهيًا بأنَّه يمثِّل أقدم جامعات الدنيا … وقد كنَّا — نحن الأمريكان — ننظُر إليه متضائلين منكمِشين، فأين جامعتنا «هارفارد»، الصبيَّة الحديثة السنِّ، من جامعة «الأزهر» الجليلة العريقة في القِدَم؟!

قال المحامي الأمريكي ذلك، فشعرتُ في الحال بشيءٍ من الزهوِ في أعماق نفسي.

ولكنِّي لم ألبثْ أن تحسَّرتُ وقلتُ في ضميري: ما أعظم التراثَ الذي نملكه، وما أثمن الكنوزَ التي ننام عليها! … نعم … ننام عليها ونُخفيها تحت ترابِ إهمالنا وجهلنا وحمقنا … بينما تهبُّ أمةٌ مثل «فرنسا» المتهدِّمة؛ فتشيِّد من جديدٍ — بمالها القليل — تُحفًا تعرضها للعالم، فتربح مجدًا ومالًا … إنها تعرف بذكائها وفِطنتها أنَّ كلَّ ما يُنفق في هذا السبيل المجدي، يعود بالكسب المادي قبل الأدبي! … أتدرون كم من السائحين الأمريكان يزورون «باريس» في هذا الصيف؟! … يقدِّرون تعدادهم بمليون ونصفِ مليون! … إنَّهم ينفقون في فرنسا ملايين الدولارات! … لماذا؟ … لأنَّ فرنسا عرفتْ كيف تنفق المال أولًا؛ ليدخل جيوبَها المالُ بعدئذٍ! … لقد فهمتْ أنَّه يجب أن تعرض على العالَم شيئًا، ليأتي العالَمُ إليها بذَهَبه … لقد شيَّدت، وخلقت وعرضت وجعلت من باريس «وِجهةً» بلورية للدنيا؛ فجاءت الدنيا إلى باريس!

•••

أمَّا في مصر … فوا أسفاه … القاهرة «باريس» الشرق! وعاصمة أفريقيا، وملتقى الحضارات! … كلُّ هذه الألقاب المجيدة، ولا نجِدُ في شوارعها مبنًى واحدًا فخمًا ضخمًا يقوم بأعمدته؛ كأنَّه هيكلٌ من هياكل الحضارة أو الفنِّ! … اللهم إلا مبنى «المحكمة العُليا»، وكَمْ فيه من عيوب!

القاهرة القائمة في أرض الآثار الفنية، ترى فيها التماثيل البديعة مُلقاةً في حقول الصعيد، أو دفينةً في بُطون الرِّمال؛ على حين أنَّ ميادينها فارغةٌ خاوية، إلا من المراحيض العامة!

كلُّ ميدان — وإنْ صَغُر — في باريس ينهض فيه تمثالٌ للزِّينة، أو لتخليد الذِّكر! … وما أكثر الميادين هناك! في كلِّ خُطوةٍ ميدانٌ فسيح وحديقةٌ غنَّاء! … لكأنَّ الأرض في باريس بثَمَن التُّراب في نظر مجلسها البلدي! … كلُّ ما يهمُّه هو أن يجمِّل منظر العاصمة، وأن يمتع سكَّانها وضيوفها بالهواء الطَّلق والمنظر الحَسَن!

•••

ولكنَّ الأرض في القاهرة بثَمَن التِّبر، في نظر أُولي الأمر فينا. يستكثرون على القاهرة حُسنَ المَنظر ونقاءَ الهواء؛ فيبيعون من أرض الميادين العامة للأفراد والشركات؛ كي تزدحم بالحوانيت والعمارات!

•••

نحن نُشوِّه عاصمتنا، وهم يجمِّلون عاصمتهم … نحن نهدم مجدنا القديم، وهم يصنعون لأنفسهم مجدًا جديدًا.

اللهم احمنا من أنفسنا؛ فإنَّ أعدى عدوٍّ للإنسان هو نفسه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤