نقطة ارتباط

١٨٤٦–١٨٥١

١٣

إذا نظرنا إلى داروين عن بعد، لا عن قرب، فسنجد أن شيئًا غريبًا حدث له بعد ذلك. يبدو داروين وكأنه في حالة توقف. يبدو أنه تخلى عن فكرته. كانت فكرة التطور بالانتخاب الطبيعي واضحة في عقله وفي دفاتر ملاحظاته منذ عام ١٨٣٨. لكن ها هو المقال الموسع الذي ألفه عام ١٨٤٤ يقبع فوق أحد أرفف حجرة مكتبه، دون نشر. ولن يُطبع مؤلَّفه «أصل الأنواع» حتى عام ١٨٥٩. في تلك الأثناء، ومع مرور السنين، واصل داروين رعاية أطفاله، والتجول حول المنزل، والتصرف كشخص مصاب بوساوس المرض، وتشريح البرنقيل بالاستعانة بأحد الميكروسكوبات، وتربية الحمام في أحد الأقفاص. نشر داروين أوراقًا بحثية صغيرة في مجلة جاردنرز كرونيكل، وتدور حول موضوعات كالملح، وحبال دلاء الآبار، وأشجار الفاكهة، وسلالة أفراس قزمة ذات لون فيراني. لا شيء عن التحول. وأخذ يقضي الشهور عند ينابيع المياه العلاجية، وقد سمح لنفسه بأن يتعذب بحمامات باردة وأن يُلف بمناشف مبللة. كانت فترة من السلوك غير المتوقع سميت بفترة «تأخير داروين».

يختلف الباحثون حول هذه الفترة، ويوجد من الأدلة الملتبسة ما يكفي لبناء نطاق كامل من التفسيرات الممكنة. هل كان يخشى نشر نظريته لأنه يعرف أنها ستثير حنق المجتمع الفيكتوري؟ هذا تعميم واهٍ، وتفسير مبتذل يتجاهل تنوع المجتمع الفيكتوري. وعلى كل فالملكة فيكتوريا نفسها قرأت كتاب «الآثار»، وعلى الرغم من أن المؤلف اختار إبقاء اسمه مجهولًا فإن أحدًا لم يحاول العثور عليه والزج به في السجن. ظل روبرت جرانت يتحدث سنوات في صخب حول الموضوعات نفسها تقريبًا في محاضراته لطلبة الطب. هل كان داروين يخشى النشر بسبب المناخ السياسي؛ حيث الكنيسة الراسخة والحكومة لديهما أسباب قوية للحذر من الزعماء الشعبيين، وجماهير الميثاقيين، وربما العصيان المسلح الصريح، الذي تدعمه اللاماركية وغيرها من الأفكار الفرنسية الهدامة؟ من الصحيح أن داروين لا يكنُّ أي حب للاضطراب الديمقراطي المتطرف. فداروين نفسه صاحب أرض ثري، ينتمي لطبقة السادة، وهو مناصر تقدمي معتدل لحزب الأحرار، ولديه ما يخسره من مال ووضع اجتماعي؛ فهو لا يريد أن يحيك أي راية قد يلوح بها السياسيون الثوريون. هل كان مترددًا في النشر لأنه ينتمي إلى تراث جامعتَي أكسفورد وكامبردج للتاريخ الطبيعي اللاهوتي، الذي انتمى إليه الكثيرون من الأصدقاء والمعلمين القدامى، وكلهم رجال دين ورعون من الأنجليكان؟ هل كان أكثر تهذيبًا من أن يفاجئهم بمفهوم «التحول»؟ أم أنه متردد لأن زوجته الورعة كانت تخشى من أن النزعة المادية في أفكاره قد تكلفه روحه نفسها؟ احتمال آخر: هل كان التحول في حد ذاته لا يثير قلقه مثلما تثيره التبعات المنطقية للنظرية؛ أي انحدار «الإنسان» من نسل حيوانات أخرى؟ ثم هناك أمر اعتلال صحته غير المبرر. هل هو مصاب بمرض أو عجز حقيقي، يجعل الأيام التي يقضيها فوق الأريكة في غثيان وخمول تتراكم إلى أشهر من الإنتاجية الضائعة؟ أم أن مرضه نابع في جزء منه على الأقل من حالته النفسية، طريقة يتبعها جسده لإخراج ما في ذهنه من اضطراب؟ ثمة احتمال آخر: ربما مضى في طريقه ببطء وتأنٍّ لأسباب علمية وجيهة. فهو يجمع البيانات طوال الوقت، ويستكشف التداعيات المعقدة لفكرة أبعد ما تكون عن البساطة التي قد تبدو عليها. إنه يصقل حججه، ويجري اختبارات تجريبية، ويثقف نفسه في مجالات غير مألوفة من المعرفة (علم التصنيف، وعلم الأجنة، وتربية الحيوانات الداجنة) لها أهمية حاسمة لإثبات دعواه. مع الوضع في الاعتبار المهمة الهائلة المتمثلة في تبرير نظرية هائلة، هل كان معدل تقدمه معدلًا جديرًا بالتقدير بالفعل؟ أم تراه ظل منشغلًا أكثر مما ينبغي طيلة واحد وعشرين سنة، وألهته مختلف الواجبات والمشاريع والمسئوليات الإنسانية التي ألقتها الحياة في طريقه؟

أعتقد أن إجابة كل سؤال من هذه الأسئلة هي نعم. إن الغموض الحقيقي يكتنف الطريقة التي تتفاعل بها كل هذه العوامل معًا — مع ما لها من أهمية نسبية وما بينها من تفاعل متبادل معقد — وهذا أمر لن يُحسم بكتابة سيرة نفسية أو بتحليل غير مباشر لنصوص كُتبت منذ قرن ونصف القرن. كان تشارلز داروين رجلًا معقدًا، شجاع لكنه خجول، مُلهَم لكنه مضطرب، ذو عقل متألق وقلب رقيق ومعدة ترتج كماكينة لمزج الطلاء. ولو أنه كان أقل تناقضًا وأكثر شفافية لما أثار الاهتمام هكذا.

لكن، في هذه النقطة، يمكن للقليل من تنظيم المعلومات والعمليات الحسابية أن يساعدنا على إلقاء نظرة أكثر قربًا عليه. كان داروين في خريف ١٨٤٦ يبلغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا. وخلال العقد الذي أعقب مغادرته للسفينة «بيجل» في ميناء فالموت نشر ثلاثة كتب، كلها متعلقة بأمور الرحلة: بحثين جيولوجيين (أحدهما عن الشعاب المرجانية، والآخر عن الجزر البركانية)، ثم كتابه «يوميات من رحلة السفينة بيجل». نال كتاب «اليوميات» نجاحًا شعبيًّا، وصدرت له طبعة ثانية لاحقًا. أما كتابه الجيولوجي الثالث (عن أمريكا الجنوبية) فقد كانت مسودته عند الناشر ومن المقرر صدوره سريعًا. حرر داروين أيضًا خمسة أجزاء من سلسلته «علم حيوان السفينة بيجل» ونشر أكثر من عشرين ورقة بحثية. كانت معظم هذه الأوراق قصيرة وخفيفة، لكن الورقة الخاصة بتلك المصاطب الغريبة التي تحفُّ بمنحدرات جلين روي في اسكتلندا كانت طويلة وطموحة، واحتلت اثنتين وأربعين صفحة بدورية «الوقائع الفلسفية للجمعية الملكية». وقد أورد فيها داروين الحجج على أن هذه المصاطب كانت شواطئ بحر قديمة، تكونت عندما ارتفعت مستويات المحيط في جلين أثناء انخفاض الأرض في العهود القديمة، وهذا يتفق مع النظرية الأكبر، التي تشربها من ليل، القائلة إن ارتفاع وانخفاض مستويات الأرض يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الملامح الجيولوجية وتحديد أماكن رواسب الحفريات. كانت ورقة بحث جلين روي إسهامًا كبيرًا في دورية علمية لها مكانتها، وكانت لها أهميتها وقتها لسمعته وصورته الذاتية، بما حوت من افتراضات نظرية جريئة، وكانت لها أهميتها لاحقًا لكن على نحو مغاير عندما ثبت خطؤها، وهو ما سبب له الحرج. في الحقيقة، يمكننا أن نضيف الحرج الناشئ عن ورقة جلين روي إلى قائمة الأسباب المحتملة لتأخره في عرض نظريته عن التطور.

كتاب «اليوميات» كانت له أهميته هو الآخر، لكن بقدر أقل من التضارب؛ إذ جعله يشتهر كرحالة علمي شاب منذ عام ١٨٣٩. ظهر «اليوميات» باعتباره الجزء الثالث من مجموعة فيتزوري التي حملت عنوانًا لا يجذب الانتباه هو «يوميات وملاحظات». كان لداروين دور ثانوي داعم للمؤلفين الرئيسيين — فيتزروي نفسه وربان آخر سابق — فيما سمي بأنه «سرد لرحلات أبحاث المسح لسفينة صاحبة الجلالة، المغامرة والبيجل». (على أي حال، فقد بدأ داروين الرحلة بصفته غير الرسمية ثم تولى دور العالم الطبيعي بما يشبه المصادفة.) لكن في وقت النشر كان داروين قد خطا نحو الأضواء وسرق الاهتمام؛ لأن الجزء الذي ألفه كان، بخلاف الجزأين الآخرين، ممتعًا في قراءته، ومفعمًا بالمغامرات العنيفة وسط مشاهد خلوية مذهلة يحكيها راوٍ عذب الحديث. أحب الناس هذا الجزء. بعد ذلك بثلاثة شهور أعاد الناشر — وقد استشعر ما أعجب الجمهور — إصدار الجزء الخاص بداروين وحده، وهو الأمر الذي من المؤكد أنه زاد من غطرسة روبرت فيتزروي. أعاد داروين مراجعة العنوان على نحو أكثر توسعًا وثقة، بطريقة فيكتورية عاصفة وجعله: «يوميات أبحاث في الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي للبلاد التي زارتها بيجل سفينة صاحبة الجلالة». حققت هذه الطبعة مبيعات جيدة، لكن كان داروين مقيدًا بالعقد الذي رتبه فيتزروي، لذا لم تعد عليه هذه الطبعة بأي نقود قط. بعدها بست سنوات رتب صفقة أفضل لحسابه الخاص، وباع حقوق الطبع لناشر جديد مقابل ١٥٠ جنيهًا، وهذا يعد في عام ١٨٤٥ مبلغًا حقيقيًّا من المال. أجرى داروين مراجعة فعالة، فحذف الفقرات التي تبدو مملة، وأضاف فقرات أخرى لها نكهة أكثر، وأدخل نتائج جديدة أتت من الخبراء الذين درسوا العينات التي جمعها، وعكس ترتيب «الجيولوجيا» و«التاريخ الطبيعي» في العنوان كانعكاس مرهف لحقيقة أن الجيولوجيا لم تعد مثار اهتمامه الأول.

ظهرت أبرز التغيرات التي أدخلها على «اليوميات» في الفصل الخاص بجزر جالاباجوس. أضاف داروين له رسمًا لأربعة من طيور الحسون، يبين الاختلافات الكبيرة في مناقيرها، التي ساعده جون جولد على إدراكها. كتب داروين: «عندما نرى هذا التدرج والتنوع في البنية في مجموعة واحدة صغيرة وثيقة القرابة من الطيور، بوسعنا أن نتخيل حقًّا أن نوعًا واحدًا قد أُخذ من قلة من الطيور الأصلية في هذا الأرخبيل وعُدِّلَ لأغراض مختلفة.» كان داروين في الطبعة الأسبق في عام ١٨٣٩، قد همهم بتعليق آمن يشوبه حس مبهم من الإيمان حول مدى انشغال «القوى الخالقة» في جالاباجوس. لكن في النص الجديد بطبعة عام ١٨٤٥ غير داروين تعليقه ليدور حول التعجب من «كمية القوة الإبداعية»، وهذه صياغة تختلف اختلافًا دقيقًا، وفيها تأكيد على الكم أكثر مما فيها من ورع، وقد أقر داروين بشعوره ﺑ «الذهول» لمدى وفرة الأنواع الفريدة التي تقطن هذا الأرخبيل الصغير، خاصة أن هذه الجزر قد تشكلت نتيجة نشاط بركاني حديث نسبيًّا. يكتب داروين: «ومن ثم يبدو أننا نقترب، من حيث المكان والزمان معًا، إلى حدٍّ ما من تلك الحقيقة الكبرى — لغز الألغاز هذا — أول ظهور للكائنات الجديدة فوق هذه الأرض.» كان هدف هذا السطر جذب الانتباه. فحين ذكر داروين «لغز الألغاز هذا»، فإنه كان يكرر عبارة صاغها جون هيرشل، فيلسوف العلم البارز، واللغز الذي يعنيه هيرشل هو «حلول أنواع جديدة محل الأنواع المنقرضة»، كما يدل على ذلك سجل الحفريات، لكن ذلك لا يسهل تفسيره بالتاريخ الطبيعي اللاهوتي. منح تبني عبارة هيرشل لداروين مرجعية محترمة للنظر إلى أصل الأنواع كأمر لم يحسم بعد، وأتاح له أن يلمّح لاهتمامه بحل هذا اللغز. ثم ما لبث داروين أن انتقل بهدوء إلى مناقشة أمر القوارض في جالاباجوس.

ترك داروين قراء النسخة المراجَعة لكتاب «اليوميات» في ١٨٤٥ وهم في حال من الإعجاب بصور الحسون، وحال من التعجب مما يعنيه هذا. ربما تكون هذه الجزر قد جعلت داروين «أقرب إلى حدٍّ ما» من السؤال الكبير، لكنه لن يقترب منه أكثر من ذلك، ليس في مطبوعة تنشر، لثلاثة عشر عامًا أخرى.

على الرغم من انعزال داروين عن المجتمع وتكريس نفسه للعلم، فإنه كان محبًّا لكسب المال، وليس بصفته مؤلفًا فحسب. فقد ظل يرعى استثماراته في حرص، وأحدها كان مزرعة مساحتها ٣٢٤ فدانًا قرب قرية تسمى بيزباي في لنكولنشاير، اشتراها بمال إرثه الذي ناله من والده وعادت عليه بالأرباح نتيجة تأجيرها. جعله امتلاك المزرعة واحدًا من السادة الملاك، «أحد إقطاعيي لنكولنشاير» كما كان يسمي نفسه ساخرًا. كان يمتلك أيضًا أسهمًا في القنوات، ثم لاحقًا أسهمًا في السكك الحديدية. عند بداية حياته الزوجية هو وإيما كانا يتلقيان ما يقرب من ١٢٠٠ جنيه سنويًّا، معظمها فوائد للودائع التي تلقياها كهدية من والديهما. وبالرغم من إدارتهما لمنزل أسرة كبير، فإنهما تمكنا من ادخار القليل من هذا المبلغ. تصاعد دخلهما تدريجيًّا طيلة عقد من السنين، ثم بعد أن مات د. داروين فجأة في عام ١٨٤٨ وتم تقسيم ممتلكات الطبيب بطرق غير معروفة بين الأخوين وشقيقاتهما، جلب هذا لتشارلز قدرًا كبيرًا من المال يقرب من ٤٥ ألفًا من الجنيهات. كانت هذه ثروة حقيقية. وفي السنوات التي تلت ذلك مباشرة وصل الدخل المشترك لتشارلز وإيما إلى ما يزيد عن ٣٧٠٠ جنيه سنويًّا، وكانا يعيدان استثمار نصف هذا المبلغ. استمر تزايد ثروتهما. بالمقارنة مع عائد الإرث العائلي والاستثمارات الذكية، فإن أرباح داروين من نشر الكتب كانت صغيرة، وإن لم تكن أصغر من أن تظهر في حساباته المالية شديدة التدقيق. بعد الطبعة الأولى غير المربحة من «اليوميات»، أتت له الطبعة الثانية بعائد متواضع ولكنه مُرضٍ. فجأة لم يعد داروين مجرد مؤلف يُنشر له، إنما هو محترف بأجر. ظل متمسكًا بناشره الجديد جون موراي. بعد ذلك بأربعة عشر عامًا حقق كتاب «أصل الأنواع» نجاحًا ماليًّا لهما معًا، إضافة إلى كونه معلمًا علميًّا شامخًا. ونتيجة لنشر أول طبعتين لا غير من «أصل الأنواع» (نشرتا في أواخر ١٨٥٩ وأوائل ١٨٦٠)، كسب داروين ٦١٦ جنيهًا و١٣ شلنًا و٤ بنسات، وهذه كانت البداية فحسب.

لم يكن داروين بخيلًا، لكنه بحكم العادة مدقق في الحسابات وحسب. فالتفاصيل لها أهميتها. هناك دفاتر حسابات موجودة بين يدي داروين تبين كل دخل له وكل مصاريفه طيلة ثلاثة وأربعين عامًا، ابتداء من زواجه حتى موته، بما في ذلك من تفاصيل دقيقة مثل الأجر السنوي البالغ ٢٥ جنيهًا الذي دُفع لبارسلو رئيس خدمه في عام ١٨٤٢، والثمانية عشر شلنًا التي أنفقها في عام ١٨٦٣ لشراء نشوق لنفسه. وصل إنفاقه على الأحذية في عام ١٨٦٣ أيضًا إلى ١٨ شلنًا؛ ربما تكون الأحذية غالية لكنها تبقى زمنًا، حتى مع رجل مشَّاء، أما النشوق فهو عادته المقيتة الرئيسية. وبعد خمس سنوات من السكنى في دار داون، أنفق ٥٨ جنيهًا على تحسين الحديقة والأرض المحيطة. وصل إجمالي فواتير الجعة في تلك السنة إلى ٣٢ جنيهًا. لكن لا توجد قائمة تحسب من الذي شرب وبأي قدر شرب.

في عام ١٨٤٦ كان لديه أربعة أطفال بقوا أحياء — ولدان وبنتان — وطفل آخر في الطريق. كان هناك دومًا طفل آخر في الطريق حتى قاربت إيما سن الخمسين. بلغ عدد من أنجبتهم إيما عشرة أطفال، مات منهم ثلاثة في سن صغيرة. لا يعد معدل حملها المتكرر ولا معدل الوفيات بين ذريتها من الأمور غير المعتادة وقتذاك. على أن داروين أصبح في النهاية يتعذب بقلقه بشأن صحة أطفاله (إلى جانب الثلاثة الذين توفوا كان كثيرون غيرهم في صحة واهنة)، كما كان يتعذب بإحساس بالذنب من أنهم ربما ورثوا بنيته الجسمانية السيئة. بل إنه راودته الفكرة المظلمة بأن زواج الأقارب قد يكون جزءًا من المشكلة؛ فهو وإيما أولاد خئولة.

أما في القرية، فكان داروين أحد أعمدتها. صادق داروين راعي الأبرشية المحلي، وهو رجل شاب وصل توًّا في أواسط أربعينيات القرن التاسع عشر، ولعب داروين دورًا مفيدًا في أعمال الأبرشية المالية، وإن كان قد توقف عن حضور الشعائر، تاركًا ذلك لإيما والأطفال. بعد ذلك بقليل وافق على أن يكون أمين صندوق «نادي الكنيسة للفحم والملابس» وأمين صندوق أيضًا لجمعية تعاونية للعمال، هي «جمعية داون الصديقة»، التي تأسست بناءً على اقتراحه. توسع داروين في حيازته الخاصة واستأجر شريطًا إضافيًّا من الأرض يمتد على طول الحد الخلفي لممتلكاته، غرب المرج الكبير، وزرعه بشجر القرانيا، وأشجار نفضية كالبتولا وغيرها، يضاف إليها سياج من شجر الإيلكس. وبعد أن أحيط ذلك الشريط بممشى معبَّد بالحصى، أصبح يعرف بالممشى الرملي، وهو طريقه اليومي الذي يسلكه في جولاته التأملية. لم تكن مسافته طويلة؛ إذ كانت تبلغ ربع الميل تقريبًا، لذا كان داروين أحيانًا يقطعها عدة مرات، متابعًا المسافة التي قطعها بأن يركل الحجارة على الممشى، مثل خرز المعداد، في كل مرة يصل فيها إلى نقطة معينة. راقب داروين أطفاله وهم يلعبون. ولاحظ أعشاش الطيور. كان يحب هدوء الروتين وسكينته. وكان يكره الاستفزاز والانفعالات الجياشة. وقد أسرَّ إلى فيتزروي عندما تراسلا لأول مرة من سنوات قائلًا: «إن حياتي تسير كالساعة، وأنا ثابت على النقطة التي سأنهيها عندها.»

كان فيتزروي قد عاد للتو من نيوزيلندا، بعد أن فُصل من منصبه من جانب وزارة المستعمرات. كان خطاب داروين مكتوبًا في الأول من أكتوبر ١٨٤٦، قبل يوم واحد من ذكرى مرور عشر سنوات على نزوله في توق عن سطح السفينة «بيجل». إذا كان داروين قد أحس بدفقة من الحنين إلى الماضي، إضافة إلى بعض التعاطف وبقية من الامتنان لهذا الرجل الذي لم يعد جديرًا بالمحبة قط، فإنه شعر أيضًا بشيء آخر: فالسنوات تمر مسرعة بالمقارنة بمعدل إنجازاته. وقد ذكر في مفكرته اليومية مرور عقد من السنين، وأنه فرغ لتوه فحسب من تصحيح آخر صفحة في مسودة طباعة مؤلَّفه «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية». لقد كلفته الثلاثية الجيولوجية، حسب تخمينه، أربعة أعوام ونصف العام. كتب متذمرًا: «ترى كم من الوقت ضاع بسبب المرض؟!»

لكن خلال فترات سلامته صحيًّا كان يعمل عملًا شاقًّا مطردًا — ما نسميه اليوم بإدمان العمل — فيكدح دون أخذ فترة راحة أو إجازة أو للاحتفال بين مشروع وآخر. لم يكن بالرجل الذي يفتح زجاجة شراب ويتقافز فرحًا لمجرد أنه أنهى أحد كتبه. في اليوم نفسه الذي أنهى فيه داروين مسودة طباعة مؤلفه عن الجيولوجيا في الأول من أكتوبر لعام ١٨٤٦، تحول إلى الوعاء الوحيد الباقي الذي يحوي عينات محفوظة من رحلة السفينة «بيجل». حوى الوعاء قرابة دستة من البرنقيل من نوع غريب جدًّا؛ كائنات بالغة الصغر تختبئ بأصداف نوع معين من القواقع البحرية، وكان قد جمعها منذ أحد عشر عامًا في أرخبيل تشونوس إزاء ساحل شيلي. وهو الآن ينوي أن يشرّح هذه الكائنات الصغيرة، ويستوعب هويتها، ويكتب ورقة بحثية عنها.

بدأ العمل وهو يظن أنه لن يستغرق منه زمنًا طويلًا. ولم يتوقع أن يبتلع توصيف البرنقيل ثمانية أعوام كاملة.

١٤

ما بين عامي ١٨٤٦ و١٨٥٤ لم يفعل داروين شيئًا آخر تقريبًا سوى دراسة البرنقيل. كان يجلس إلى طاولة منخفضة قرب إحدى نوافذ حجرة مكتبه، وقد جلس فوق مقعد دوار، ليشرّح حيوانات البرنقيل بالاستعانة بالميكروسكوب. وأخذ يرسم ما يراه. احتفظ بأجزاء العينات التي شرّحها فوق شرائح ميكروسكوبية شُمعت بإحكام، ووضع الشرائح مرتبة في أحد الأدراج. ألف داروين أوصافًا فنية معقدة لنوع بعد نوع منها، وقرأ الدراسات التي أجريت عن البرنقيل، مع كل ما كانت عليه من تشوش وتباين. وأصدر أحكامًا عن طريقة تصنيف الأنواع التي وصفها، مصححًا الاختيارات السيئة للمصنفين السابقين. لم يكن من السهل دراسة البرنقيل. كان لها شكلان؛ أحدهما (البرنقيل اللاسويقي) يشبه البطلينوس المدرع بغطاء سميك، والثاني (البرنقيل السويقي) يشبه بلح بحر موضوع على كومة رمال. وما زاد الأمور بلبلة أن يرقات البرنقيل تسبح مثل يرقات الروبيان. راسل داروين خبراء البرنقيل، والمغرمين به، متسولًا منهم العينات، التي يشرِّحها إلى قطع بالغة الصغر قبل إعادة ما تبقى منها. جُهز بناء على طلبه مجهر للتشريح من نوع جديد صنعه له صانع آلات في لندن ودفع داروين من أجل صنعه ١٦ جنيهًا، أي ما يوازي ميزانية نصف العام من مشروب الجعة. لا بد أن حجرة مكتبه كان لها رائحة الحانة، نتيجة تبخر الكحول الحافظ من عيناته. كانت عيناه تغيمان في نهاية كل يوم عمل. وضعت إيما ابنة وثلاثة أبناء آخرين أثناء فترة البرنقيل، وهي لا تزال تشرف على أمور دار داون وكل ما يدور به من أنشطة بشرية بينما تشارلز يكدح في عمله متحمسًا. هناك قصة تُروى كثيرًا عن الانطباع الذي أحدثه جهد هذه الأعوام الثمانية على أطفاله الصغار؛ فبينما كان ابنه الثاني، جورج، يزور منزل بعض رفاقه في اللعب ذات يوم سألهم: «أين يعمل أبوكم على برنقيلاته؟»

كان توصيف البرنقيل انعطافًا غير مخطط له أبعده لفترة عن «التحول»، لكنه أعاده إليه مجددًا في النهاية. بدأ الأمر كمهمة متواضعة؛ وصفٍ لأحد الأنواع، ثم تحول تدريجيًّا إلى وسواس قهري؛ شيء يريد أن يفعله، شيء عليه أن يفعله، شيء لا يمكن أداؤه إلا على نحو كامل وصحيح. إلا أن هذا الانعطاف لم يكن عشوائيًّا ولا عارضًا. فقد كشفت القوة الدافعة عن نفسها قبل ذلك، في تبادل للرسائل بين داروين وهوكر في عام ١٨٤٥، قبل أن ينخرط داروين في دراسة عينات أرخبيل تشونوس. كانا يناقشان كتابًا معينًا عن طبيعة الأنواع ألفه عالم نبات فرنسي اسمه فريدريك جيرار. كان من الواضح أن البحث غير دقيق. أخبر هوكر، الصارم دومًا فيما يخص شئون النبات، داروين: «لا أميل إلى التسليم بكثير مما يقوله أي شخص يعالج الموضوع بطريقة جيرار هذه، ولا يعرف كيف يكون المرء متخصصًا في التاريخ الطبيعي.» ومع أن هوكر لم يقصد بذلك أي استخفاف بصديقه، وإنما كان يقصد جيرار فقط، فإن داروين اتخذ موقفًا دفاعيًّا. كان قد أثبت جدارته في الجيولوجيا، لكنه لم يثبتها في دراسة منهجية للبيولوجيا — بمعنى أنه لم يدرس قط أي مجموعة واحدة من الحيوانات أو النباتات بالعناية الكافية بغرض التوصيف كمتخصص في التصنيف — لذا أخذ تعليق هوكر على أنه نقد شخصي له. وعلى الفور رد عليه: «كم كانت ملاحظتك، بشأن عدم أحقية أي شخص لم يصف العديد من الأنواع بدقة في أن يبحث مسألة الأنواع، مؤلمة (لي).» بعد ذلك بثلاثة عشر شهرًا أخذ داروين يصف حيوانات البرنقيل، وهو لا يرغب في أن يبدو منظِّرًا طائشًا غير متعمق في تفاصيل الكيفية التي يختلف بها أحد الأنواع عن الآخر، مثل جيرار أو مؤلف «الآثار».

أول برنقيل عمل داروين عليه كان محيرًا بطرائق عديدة. كان الكائن الذي لا يزيد في الحجم عن رأس الدبوس ينتمي إلى الشكل الشبيه بالبطلينوس؛ البرنقيل اللاسويقي، لكنه بدلًا من تثبيت نفسه فوق صخرة وإفراز درع جسدي على شكل مخروطي، فإنه يجد مأوى يحميه بأن يثقب جحرًا داخل صدفة قوقعة. أدرك داروين أن هذا يمثل جنسًا غير معروف، وسماه مؤقتًا أرثروبالانوس، وأخذ يذكره بإعزاز في خطاباته لهوكر وسماه بالسيد أرثروبالانوس. بعد مرور أسبوعين على التشريح شعر بالافتتان به، وأنه قد يقضي شهرًا آخر في العمل عليه ويكتشف في كل يوم مفاجأة جميلة في بنيته. جهز لنفسه كتلتي خشب لدعم رسغيه وهو يعمل، وأخبر هوكر عن مدى سعادته بأنه بعد كل تلك السنوات من الكتابة التفصيلية في الجيولوجيا، يستخدم الآن عينيه وأصابعه مجددًا بهذه الطريقة. بعد شهر آخر من الدراسة الأعمق أحس بالحيرة من السمات التناسلية للسيد أرثروبالانوس. كان من المعروف أن معظم البرنقيلات خنثوية؛ إذ يحمل كل واحد منها أعضاء ذكورية وأنثوية. لكن هذا النوع، بقدر ما استطاع داروين أن يتبينه، له قضيبان ذكريان وليس لديه كيس بيض. كانت هذه أول إشارة للاكتشاف النهائي المهم للدراسة كلها: بعض أنواع البرنقيل خنثى، وبعضها ينفصل إلى ذكور وإناث، والبعض يتجمد في تنظيمات معقدة في منتصف الطريق بين الحالين. فالحياة الجنسية للسيريبيديا (الاسم العلمي لكل أنواع البرنقيل ويعني هدبيات الأرجل)، تتغير في مراحل متعاقبة، من الخنثوية إلى التمايز إلى ذكور وإناث، وهو ما يطرح وجود مسار من «التحول».

في أواخر نوفمبر من عام ١٨٤٦ أرسل داروين مسودة لورقة بحثه عن الأرثروبالانوس إلى عالم التشريح ريتشارد أوين، وطلب منه رأيه، وأقر بأنه أصبح مهتمًّا للغاية بشأن البرنقيل حتى إنه يشرّح الآن نصف دستة من الأجناس الأخرى. في الربيع التالي فقد المزيد من الأسابيع بسبب اعتلال صحته، وكان من أعراض مرضه هذه المرة ظهور البثور. انقطع أيضًا عن البحث بسبب رحلاته إلى لندن من أجل الجمعية الجيولوجية، ثم رحلته في شهر يونيو التالي إلى أكسفورد لحضور مؤتمر «الجمعية البريطانية لتقدم العلم» السنوي، الذي كان من آخر الاجتماعات الكبيرة التي حضرها. كانت معظم اتصالاته تتم وقتها بالبريد. استعار داروين ذخيرة عينات لها قدرها من أحد جامعي العينات الأثرياء، واتصل بالعديد من أمناء المتاحف للحصول على المزيد. كان هناك اتفاق عام بين الخبراء على أن تصنيف البرنقيل أمر تعوزه الدقة، وأخبر اثنان منهم على الأقل داروين بأنه الرجل المناسب لإصلاح الأمر. بحلول نهاية ١٨٤٧ كان قد جهز نفسه لكتابة أفرودة (دراسة عن موضوع واحد وحسب) شاملة عن البرنقيل، يصف فيها أنواعًا جديدة، ويراجع الأوصاف السابقة، وبذا يضفي نظامًا منهجيًّا على المجموعة كلها.

أقنع داروين مسئولي المتحف البريطاني بأن يرسلوا له ما لديهم من برنقيل، كقرض طويل مؤتمن، وأرسل نداءات بطلبه في كل اتجاه آخر يمكن تخيله. بل إنه كتب رسالة صغيرة لسير جيمس كلارك روس، الربان الذي رأس رحلة هوكر للقطب الجنوبي، الذي كان وقتها يستعد لرحلة قطبية بحثًا عن سير جون فرانكلين، الزميل المستكشف، الذي علق على نحو قد يعرِّضه للوفاة في مكان ما وسط المضايق المتجمدة غرب جزيرة بافن. سأله داروين عما إذا كان يستطيع التفضل بأن يُحضر له بعض حيوانات البرنقيل الشمالية أثناء وجوده هناك وهو يروغ من جبال الجليد ويبحث عن فرانكلين؟ ستكون بالطبع مشغولًا، إلا أن الأمر لن يستغرق وقتًا طويلًا إذا كشطت قليلًا من الصخور. وطلب داروين منه في عذوبة أن يحفظها في محلول كحولي، وأن يتأكد من ألا يتلف قاعدتها. من الواضح أن روس تجاهله.

تضمنت البلبلة العلمية عن البرنقيل عدم الاتفاق على وضع هذه الكائنات بالضبط داخل المملكة الحيوانية. هل هي رخويات؟ إنها تبدو كذلك، أخذًا في الاعتبار أنها تحيط نفسها بأصداف (الأفراد البالغة منها تفعل ذلك على أي حال) وتحيا حياة ساكنة، وتسمح لماء البحر بالتغلغل خلال تجاويفها الداخلية. صُحح هذا المفهوم الخطأ في عام ١٨٣٠ على يد باحث يدعى جيه فوجان طومسون، لاحظ أن أطوار اليرقة في البرنقيل، التي تسبح بحرية، تشبه القشريات. وفي الوقت الذي دخل فيه داروين الصورة كان من المتفق عليه أن البرنقيل من القشريات. يعكس اسم «سيريبيديا» (الذي يعني ذات الأقدام المشعرة) حقيقة أنه داخل كل غطاء صدفي خارجي يكمن كائن صغير غريب أشبه بجراد البحر المشوه، تلتصق رأسه بالطبقة السفلية للغطاء الصدفي وتتحرك سيقانه الرفيعة لاقتناص الطعام. كانت مهمة داروين المختارة هي تفهم ماهية السيريبيديا، نوعًا بعد نوع، وجنسًا بعد جنس، وعائلة بعد عائلة، وأن يخصص لها إجمالًا مرتبة وموضعًا داخل شعبة الحيوانات ذات السيقان المفصلية الكبيرة التي كانت تسمى وقتها بالمتمفصلات. هل السيريبيديا طائفة مميزة من المتمفصلات، منفصلة عن طائفة القشريات، والحشرات، والعنكبوتيات ومكافئة لها؟ أم أنها مجرد قسم غير هام داخل إحدى الطوائف الثانوية للقشريات المعروفة من قبل؟ وفي النهاية استقر داروين على تسميتها بالطائفة الفرعية المستقلة، وذلك استنادًا على دراسته الوثيقة عن تشريح البرنقيل، وإجراء المقارنات بين الأنواع ومشابهة اليرقات بالحيوانات البالغة. ميز داروين داخل هذه الطائفة الفرعية عائلتين أساسيتين؛ البرنقيل السويقي والبرنقيل اللاسويقي، يضاف إليهما أشكال عديدة شاذة لا تتفق مع أي منهما. أحد الأشكال الشاذة هو السيد أرثروبالانوس، نقطة البداية لكل أبحاثه عن البرنقيل.

مثلت عملية إصدار القرار هذه، حول الفئات والمشابهات، العمل الروتيني الضروري لعلم التوصيف الذي انغمس داروين فيه. إن الأساس المنطقي الذي يقوم عليه هذا الفرع من البيولوجيا هو أن العقل البشري يلتمس النظام، وعلم التوصيف (القائم على وصف الأنواع، وتسميتها، وتصنيفها داخل نظام من المجموعات الرئيسية والفرعية) هو ما يضفي نظامًا مفهومًا على الكائنات الحية المتعددة لدرجة تثير الحيرة. وهي عملية قديمة جدًّا. فقد صنف أرسطو الحيوانات إلى «ذوات الدم» و«عديمة الدم» (الحشرات كانت عديمة الدم)، ثم واصل العمل من هذا المنطلق. واستطاع أرسطو أن يميز الحيتان عن الأسماك، لكنه أيضًا فصلها، مخطئًا، عن الثدييات، ووضع البرنقيل ضمن الرخويات. أثناء العصور الوسطى أصبح التعرف على هوية النباتات وتصنيفها مهمًّا للأغراض الطبية، ونشر بعض الخبراء كتبًا عن الأعشاب (قواميس عن النبات) تمكن الناس من التفريق بينها. كانت النباتات ترتب في بساطة، بالاسم، حسب الترتيب الهجائي. ولكن مع تزايد عدد أنواع النبات المعروفة، وجد المتخصصون في الأعشاب أن الترتيب الهجائي ليس بالطريقة الأنسب أو الأفيد في تقديم معلوماتهم. طرح رجل يدعى كاسبار بوهين ملاحظاته عن ستة آلاف نبات مختلف في عام ١٦٢٣، وقسم الأنواع إلى أجناس حسب تشابهها في المظهر أو الصفات البدنية الأخرى، أما جوزيف تورنفورت فقد أوضح بعد ذلك بستين عامًا مفهوم الجنس، وقسم الأجناس إلى طوائف. تبع هذين المساهمَين، المغمورَين نسبيًّا، في التصنيف كارل لينيوس، عالم التاريخ الطبيعي السويدي المشهور في أواسط القرن الثامن عشر، الذي أسس النظام الحديث للتصنيف البيولوجي. حسب قواعده، يُعَرف كل نوع باسم من كلمتين لاتينيتين، توضحان جنسه أيضًا، ويصنف النوع إلى ترتيب هرمي من الفئات المتداخلة. وتحت مستوى المملكة (النباتية أو الحيوانية) حدد لينيوس أربعة مستويات أخرى: الطائفة، والرتبة، والجنس، والنوع. لاحقًا قسم علماء التوصيف، بمن فيهم داروين، العالم الحي على نحو أدق، إلى سبعة مستويات رئيسية — المملكة، والشعبة، والطائفة، والرتبة، والعائلة (أو الفصيلة)، والجنس، والنوع — إضافة إلى عدد من الأفرع المتوسطة (كالرتبة الثانوية، والعائلة العليا، والنوع الثانوي). إلا أن تعيين الفئات المتراتبة كان الجزء الأوضح في تصميم نظام للتصنيف. وهناك سؤالان آخران أكثر صعوبة: ما الواقع السببي الذي يعكسه التنظيم في فئات (إن كان لمثل هذا الواقع وجود من الأساس)؟ وكيف ينبغي لعالم التوصيف أن يحدد موضع كل نوع؟

قسم لينيوس المملكة الحيوانية إلى ست طوائف، إحداها هي الطائفة الدودية، التي لا تضم فحسب الدودة الأرضية والدودة الشريطية ودود العلق والدود المفلطح، وإنما تضم أيضًا خيار البحر والبزاقة والقواقع ونجم البحر وقنفذ البحر والمرجانيات والحيوانات الطحلبية والأخطبوطيات والحبّار والمحاريات، وكل ما عدا ذلك من الرخويات وقنفذيات البحر والقشريات بما فيها البرنقيل. أي إن الطائفة الدودية عند لينيوس ما هي إلا دلو ضخم يفيض بكائنات مألوفة متباينة.

في عام ١٧٩٥ عندما أبدى جورج كوفييه معارضته للينيوس في بحثٍ عنوانه «مذكرات في تصنيف الحيوانات المسماة بالديدان». وبدلًا من تكديس جميع اللافقاريات الدودية وغير الدودية بعضها مع بعض، فإن كوفييه قسمها إلى ست طوائف جديدة. وفي كتاب لاحق جمع الطوائف المختلفة من الحيوانات في أربعة تشعبات، أو شعب، كبرى وهي: الفقاريات، والرخويات، والمتمفصلات (التي تضم ما عرف لاحقًا بالمفصليات)، والشعاعيات (حيوانات دائرية مثل نجم البحر وقنفذ البحر). أثبت كوفييه أيضًا أن كل «تشعب» يعكس تصميمًا جوهريًّا للجسم، يتمايز تمامًا عن التشعبات الأخرى. وجوهر كل نمط منها هو الجهاز العصبي. أما الصفات التشريحية الأخرى فهي حسب رأي كوفييه تعديلات وظيفية تناسب ظروفًا بعينها (أي الحياة في بيئة بعينها) وهي قائمة على أحد النماذج الأصلية الأربعة للأجهزة العصبية. اعتبر كوفييه وجود أربعة تشعبات من المسلمات. إضافة لذلك فقد آمن بأن الاعتماد الوظيفي المتبادل بين الأعضاء أمر بالغ التعقيد حتى إن العضو الواحد لا يمكنه أن يتغير دون أن يسبب ذلك ضررًا شديدًا بالأعضاء الأخرى. بمعنى آخر، يتضمن نظامه فكرة التكيف (الناشئ عن الظروف المحيطة) ويستبعد إمكانية التحول.

عمل إتيين جيفري سان إيلير، زميل كوفييه وصديقه بعض الوقت، ومنافسه العنيد في أمور التشريح المقارن — أيضًا في باريس في بدايات القرن التاسع عشر. لكن على النقيض من مذهب كوفييه الوظيفي، تبنى جيفري وجهة نظر المذهب الشكلي. معنى ذلك أن جيفري اعتبر أن شكل أي نوع أمر جوهري متأصل. وأن التنوع بين الأنواع نشأ كتعديلات طارئة مساعدة لأشكال النماذج الأصلية، وليس كتوافقات وظيفية ضرورية مع الظروف الخارجية. قد يبدو هذا اختلافًا في درجة التأكيد وحسب، لكن الأمر كان يتعدى ذلك. رأى جيفري أن هناك «وحدة في التصميم» تكمن وراء تعدد أشكال الحيوانات. فالهيكل العظمي للفقاريات — على سبيل المثال — هو القالب الذي صُب فيه أحد التصميمات، والذي وفر إطارًا بنيويًّا مشتركًا للثدييات والطيور والزواحف والأسماك. يختلف هذا كثيرًا عن فكرة كوفييه حول وجود نوع واحد من الجهاز العصبي يقوم عليه كل «تشعب»، وأن المتطلبات الوظيفية هي التي تفسر التفاصيل التشريحية المتنوعة. حسب وجهة نظر جيفري، تلعب البنية الدور الرئيسي في تحديد الوظيفة، وليس العكس. فالتصميم البنيوي الكامن هو عامل التحديد الرئيسي للسمات التشريحية للحيوان، أما التعديلات التكيفية فهي في مرتبة تالية عليه. أقر جيفري بإمكان حدوث بعض التحول داخل خطوط السلالة، لكنه لم يوافق على فكرة انحدار كل الكائنات من سلف مشترك. بل إنه اقترح في نهاية المطاف وجود وحدة أشمل، زاعمًا أن المتمفصلات تنتمي إلى مجموعة الفقاريات. كان تصوره هو أن الحشرة ما هي إلا حيوان فقاري يرتدي هيكله العظمي من الخارج. حاول جيفري في عام ١٨٣٠ أن يوسع هذه المجموعة لما هو أبعد، لتشمل الرخويات مثلما تشمل المتمفصلات، بناء على أدلة على وجود تشابه مفترض بين السمات التشريحية لحيوان من رأسيات الأرجل وحيوان من الفقاريات منثنٍ على نفسه. لكن كوفييه قضى في مناظرة شهيرة على هذه الفكرة تمامًا.

هناك خطة تصنيف أخرى توضح مجال وجهات النظر السائدة في تلك السنوات تسمى بالنظام الخماسي، وهي مقاربة عددية ابتكرها عالم حشرات ودبلوماسي بريطاني يدعى ويليام شارب ماكلاي. لم يكن للنظام الخماسي لماكلاي سوى نفوذ عابر. كان روبرت تشامبرز أحد مَن تشربوا هذا المذهب، وقدمه في كتاب «الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق»، عندما ظهر الكتاب لأول مرة في عام ١٨٤٤. كما استند ريتشارد أوين، عندما كان محاضرًا شابًّا، بشدة لمذهب ماكلاي. قرأ داروين أيضًا لماكلاي (وكان يعرفه عن طريق جمعية علم الحيوان) وبعد مرور فترة من الاهتمام الشديد به، انعكست على دفاتر الملاحظات المبكرة، ما لبث أن رفض أفكاره. رأى ماكلاي أنه في عالَم الأحياء تُرتب الأنواع حسب ما بينها من تشابهات في خمس مجموعات دائرية. تتضمن إحدى الدوائر خمسة أنواع من الحسون، أو خمسة أنواع من الإيجوانا، أو خمسة من أي كائن. داخل كل دائرة يقف كل نوع بجوار نوع مشابه إلى أن تنغلق الدائرة على نفسها، بحيث يكون النوع الخامس مشابهًا للأول. أيضًا يضم كل مستوى توصيفي خمس مجموعات، مرتبة هي الأخرى دائريًّا حسب درجة تشابهها. فمثلًا، تتكون المملكة الحيوانية من خمس طوائف تعكس «تشعبات» كوفييه الأربعة مضافًا إليها واحد آخر هو الحيوانات الدنيا (التي ليس لها شكل محدد أو جهاز عصبي، كالإسفنجيات). وطائفة الفقاريات تحوي خمس رتب. كان رأس ماكلاي يطن بالخماسيات. ويبدو أنه اعتقد باهتمام الرب بالخماسيات أيضًا.

على أن الدوائر — الخماسيات — كانت مجرد البداية. فقد اعتقد ماكلاي أيضًا بوجود انجذابات وتوازيات وتناظرات وتماسات، كلها تربط معًا النظام كله، كوعاء مليء بحبوب الإفطار التي تتجاذب وتتلاصق معًا. جزم ماكلاي بأنه بالتوازي مع المملكة الحيوانية هناك دائرة أخرى تشكل المملكة النباتية، بالرغم من اعترافه بجهله التام بعلم النبات. لكن أليس من المنطقي أنه ما دامت الحيوانات مرتبة في مجموعات خماسية، فإن النباتات يجب أيضًا أن تكون كذلك؟ ترتبط الدوائر بعضها ببعض عند كل مستوى بما سماه ماكلاي المجموعات، أو الأنواع، «الشاذة»، وهي أنواع وسيطة لا تتلاءم جيدًا مع دائرة أو أخرى بعينها، كما ترتبط أيضًا بالأنواع «المماسية» الموجودة في مكان تماس كل دائرتين. فخلد الماء نوع شاذ يقع في مكان ما بين الثدييات والطيور. لكن هل ينتمي إلى الدائرتين معًا، أم لا ينتمي لأي منهما؟ الإجابة هي أنه من المماسيات. الانجذابات هي تشابهات بين المجموعات داخل دائرة معينة. أما التناظرات فهي تطابقات بين المجموعات في دوائر متوازية. الانجذاب بين الزواحف والطيور يظهر في السلاحف البحرية. بينما الزقيات هي نوع مماسي بين طائفتي الرخويات والحيوانات الدنيا. البرنقيل نوع وسيط يقع على خط اتصال الشعاعيات والمتمفصلات؛ أي بين دولار البحر وجراد البحر. قد يبدو في هذا اهتمام بالقشور، إلا أن المذهب الخماسي في وقته كان يمثل محاولة واعية للعثور على النظام داخل التنوع البيولوجي. في عام ١٨٣٩ رحل ماكلاي إلى أستراليا، تاركًا نظامه عالقًا بتفكير البيولوجيين البريطانيين.

وجد داروين في المذهب الخماسي مصدرًا آخر للمعاناة، وكان لديه بالفعل وفرة من هذه المصادر. كان ما يشعره بالإحباط من كل هذه النظم هو أنها لا تتدبر «سبب» تشابه الأنواع بعضها مع بعض، سواء من ناحية التصميم البنيوي العميق (كما هو الحال في جميع الفقاريات) أو التفاصيل الخارجية (كما هو الحال بين أي نوعين من البرنقيل ينتميان للجنس نفسه). وكما قال داروين متشكيًا إلى جورج ووترهاوس في عام ١٨٤٣، فإن المشكلة في الممارسات التوصيفية الحالية «تكمن في جهلنا بما نبحث عنه في تصنيفاتنا الطبيعية». أقر لينيوس نفسه بعجز حيال هذا اللغز. كتب داروين: «يقول معظم المؤلفين إن هذه محاولة لاكتشاف القوانين التي شاء الخالق أن ينتج كائنات منتظمة وفقًا لها.» لكن داروين كان يرى أن هذه «عبارات بليغة جوفاء». أسرَّ داروين إلى ووترهاوس برأيه الخاص الجامح، الذي ذكرته فيما سبق، وهو أن التصنيف ينبغي أن يعكس «درجة قرابة»، بمعنى انحدار السلالات من أسلاف مشتركة. ليس الأمر مسألة غيبية، بل هو متعلق بعلم الأنساب.

كانت المهمة المملة الخاصة بوصف الأنواع وتسميتها وتصنيفها في نظام مرتب بمنزلة تدريب لداروين على تطبيق فكرة التحول. وهل هناك مشروع أفضل من ذلك لرجل لم يكن مستعدًّا بعد للإعلان عن الفكرة نفسها؟ سيكتب أفرودة دسمة عن هدبيات الأرجل، ويضعها في شكل مادة موسوعية محايدة مسالمة، بل حتى مخدرة، ويكون التحول هو نصها الفرعي الضمني. وإذا بدت النتيجة فستكون أكثر منطقية، وأكثر إقناعًا من الأنظمة الأخرى، فعندها ستمثل الدراسات المنهجية للبرنقيل تأكيدًا بارعًا موجزًا لنظريته. هذا أمر يستحق أن يبذل فيه قدرًا له اعتباره من جهده ووقته، أليس كذلك؟ نعم … وإن كان ذلك لا يتطلب بالضرورة ثمانية أعوام.

١٥

يعمل جون إدوارد جراي قيمًا على المجموعات الحيوانية في المتحف البريطاني، وهو واسطة اتصال داروين بالمتحف بشأن البرنقيل، لكن جراي أثار ذعر داروين في عام ١٨٤٨. في ذلك الوقت كان داروين قد ألزم نفسه بتعهد مشروع البرنقيل، وذلك بتشجيع جراي وآخرين غيره، وبذل داروين في المشروع جهودًا لها قدرها. ساعد جراي في إقناع أمناء المتحف بأن يسمحوا لداروين بالتمتع بامتياز غير معتاد: فيستعير كل عيناتهم من البرنقيل، ويتلقاها مجموعة إثر مجموعة في بيته، ويقطع بعضها إلى أجزاء صغيرة. على الرغم من أن جراي كان مهتمًّا هو نفسه بالبرنقيل، فإنه نحى خطط أبحاثه الخاصة جانبًا — أو هذا ما بدا على كل حال — مفضلًا أن يترك هذا المجال لداروين. ثم حدث في مارس من تلك السنة أن قدم جراي، على غير توقع، إلى جمعية علم الحيوان ورقتي بحث قصيرتين عن هدبيات الأرجل. ترك داروين الأمر كله يمر دون اعتراض؛ إما لأن أنباء جهود جراي الجديدة بشأن البرنقيل لم تصل إليه (وهذا من غير المرجح) أو لأنه لم يهتم بالأمر، أو لأنه كظم غيرته. بعد ذلك بشهور عديدة سمع داروين شائعة من أصدقاء نمامين بأن جراي «ينوي أن يستبق» بحث داروين، وأن ينشر أوصافًا لأغرب أنواع البرنقيل وأكثرها إثارة للاهتمام، قبل أن يستطيع داروين فعل ذلك بنفسه. بدا هذا كعمل خسيس؛ انتهاك لحرمة مروج البرنقيل الخاص به. واجه داروين جراي شخصيًّا (الأمر الذي لا بد أنه استلزم القيام برحلة إلى المتحف، وإجراء حوار جاف، وهي نوعية الأحداث التي كثيرًا ما جعلته مريضًا) ثم أتبع اللقاء بإرسال خطاب قانوني ساخط. كتب داروين أنه ما كان بأي حال سيأخذ على عاتقه هذه المهمة الضخمة المضجرة لو كان يعرف أن من المحتمل أن جراي سينقض عليها ويجني أحلى ثمار اكتشافاته بشأن البرنقيل. اعتذر داروين عن اضطراره لإثارة الموضوع، إلا أنه لم «يبدُ» كما لو كان في حالة اعتذار. تراجع جراي، تاركًا البرنقيل لداروين، واستمر انتقال عينات المتحف لداروين.

كانت لحظة قصيرة كريهة مرت بهدوء، وتكاد تكون غير جديرة بالذكر، لولا أنها تلقي الضوء على أحد ملامح شخصيته. هل كان داروين يهتم بالأسبقية؟ نعم، كان يهتم بالأسبقية. توضح مشاحنته مع جراي، إلى جانب الحادث المؤسف الذي مر به مع روبرت جرانت بشأن حصير البحر، مع حدث عارض آخر أكثر إثارة للوجيعة (مع ألفريد والاس) سيأتي ذكره فيما بعد، أن تشارلز داروين كان يملك نصيبًا معقولًا من الكبرياء البشري، وأنه لم يكن يسعد فقط بما يناله من إشباع بفضل البحث العلمي والاكتشاف، وإنما كان يسعد أيضًا بمتع النشر، والإقرار بالفضل، والشهرة، وأن يكون أول من يصل إلى الهدف.

سرعان ما عانى بعدها نوعًا آخر من الكرب، عندما أخذ والده العجوز يذوي بفعل الشيخوخة. بلغ د. داروين الثانية والثمانين، وبات يعاني النقرس والسمنة، وصار أسيرًا للكرسي المتحرك داخل البيت في شروزبري، حيث تتقاسم شقيقتا تشارلز غير المتزوجتين، سوزان وكاترين، التمريض وأداء المهام اليومية مع اثنين من الخدم المخلصين. كانت علاقة تشارلز بهذا الرجل المهيب علاقة معقدة، خاصة وأنه كان الأب والأم لداروين منذ أن كان في الثامنة من عمره. كان د. داروين (الذي كان يسميه داروين أحيانًا «الحاكم») رجلًا كريمًا دائمًا في دفع الفواتير وتوزيع النصائح الحادة، لكنه كان غالبًا ما يفوض لشقيقات تشارلز المهام الخفيفة لتربية الطفل عندما كان تشارلز صبيًّا، ثم كتابة الخطابات في السنوات اللاحقة. كان تشارلز يحترم قوة شخصية أبيه، وفطنته في أمور العمل، وقدرته في الحكم على الشخصيات، ويمتن امتنانًا عميقًا لهباته المالية، إلا أنه كان يوجد أيضًا القليل من الندبات في نفسية تشارلز، خلّفه ما كان يفعله والده أحيانًا عندما يعبر بصراحة عن الرفض والاستنكار. لم ينسَ تشارلز أبدًا تعليق والده عن أنه سيكون «مصدر عار لنفسك ولكل عائلتك» وقد ذكر هذا التعليق (أو أعاد صياغته من واقع ذاكرته الحزينة) في سيرة ذاتية كتبها بعد سنوات كثيرة، عندما صار هو نفسه رجلًا غريب الأطوار. لكنه في الفقرة نفسها يذكر عن أبيه أنه «أطيب رجل عرفته على الإطلاق» ويعبر عن غفرانه الحاني لذلك التعليق القاسي غير المنصف. تحسنت علاقتهما عندما أصبح تشارلز أكثر نجاحًا، أولًا بصفته عالم تاريخ طبيعي محل احتفاء أحسن الاستفادة من فرصة رحلة السفينة «بيجل»، ثم بصفته مؤلفًا له أعمال منشورة وعالمًا محترمًا. بدا أنهما نجحا في تجاوز ما بينهما من مصاعب، وحولا علاقة الشقاق بينهما إلى علاقة محبة بين اثنين من السادة الفيكتوريين العنيدين الجامدين. ربما تكون فكرة د. داروين قد تحسنت أيضًا عن تشارلز بمرور السنين، وهو يرى أن ابنه الأصغر هو صاحب الإنجاز في العائلة، في حين صار إرازموس محترفًا للكسل طول الوقت، ولا يريد أبدًا أن يتزوج، ولا أن يمارس مهنة الطب، ولا يختار أن يتخلل جدوله الاجتماعي الصاخب أي وظيفة مربحة. تشارلز أيضًا لم يكن يشغل وظيفة، لكنه كان ينتج كتبًا، بعضها نال الكثير من العروض النقدية الطيبة والأموال. إحدى الروابط الإضافية بين الابن والأب هي إحساس تشارلز بالذنب. كان تشارلز قد انسحب إلى حياته المنعزلة في كنت، وأخذ يركز انتباهه على نطاق ضيق — على عمله، وعلى إيما وأطفالهما، وعلى حالته الصحية السيئة — لكنه يدرك أنه ترك أباه وأختيه غير المتزوجتين دون أن يمنحهم من حضوره ودعمه العاطفي ما قد يتوقعونه منه. مثَّل دار داون عزلة اختيارية، في حين كان المنزل في شروزبري وحدة خالصة. والآن، مع تفاقم كل هذه المشاعر المتشابكة، ها هو د. داروين يعاني سكرات الموت.

رأى تشارلز والده آخر مرة في زيارة قام بها في أكتوبر ١٨٤٨. وفقًا لدفتر يومياته، كان هو نفسه في هذه الفترة «معتل الصحة على نحو غير معتاد، مع دوار في رأسه» إلى جانب «اكتئاب ورعشة؛ نوبات كثيرة سيئة من الاعتلال». لكنه ذهب إلى شروزبري على أي حال. وعلى الأرجح عكفت الشقيقتان على رعاية كلا المريضين. في مايو السابق على هذا، أثناء زيارة أقدم، جرت مباريات ألعاب ورق بهيجة مع الدكتور، لكن لم يحدث هذا على الأرجح هذه المرة. كتب تشارلز خطابًا طويلًا آخر عن البرنقيل موجهًا إلى عالم في هارفارد، وفيما عدا ذلك شغل نفسه بطريقة ما في الدار الكئيبة. عاد بعدها إلى منزله. بعد ذلك بثلاثة أسابيع كتبت إليه كاترين، أصغر أفراد العائلة، تخبره بأن حالة د. داروين ساءت. وأوضحت له أنهم يدفعونه على الكرسي ذي العجلات إلى صوبة النباتات، وأنه يجلس وهو يلهث طلبًا للهواء، ويعجز عن الكلام بما يعلو عن الهمس، لكنه رابط الجأش ومتأهب. وأنه عندما حاول أن يتحدث عن داروين هذا الصباح تغلبت عليه عواطفه. وأخبرت داروين أنها تأسف أن معدته لا تزال بحال سيئ، لتذكر تشارلز بانشغاله الدائم بذاته. وفي اليوم التالي ورد خطاب من كاترين يقول: توفي أبي هذا الصباح.

وأضافت أن الجنازة ستكون يوم السبت، وأن هذا من المفترض أن يمنحه وقتًا كافيًا للحضور.

كان الوقت كافيًا وغير كافٍ معًا. ولسبب أو لآخر ترك تشارلز أيامًا قليلة تمر قبل التحرك (ربما كان مريضًا إلى حد بالغ، أو كان ينتظر عودة إيما من إحدى الزيارات). وأخيرًا ذهب إلى لندن يوم الجمعة، مسافرًا وحده، وتاركًا زوجته مع آخر وليد لهما في البيت المليء بالأطفال الأكبر سنًّا، والخدم، والبرنقيلات. أقام تلك الليلة في مسكن إرازموس في المدينة، وإن كان إرازموس نفسه قد ذهب من قبل إلى شروزبري. أثناء توقفه وحيدًا، والأسى يملؤه على نفسه وعلى والده أيضًا، خط رسالة قصيرة لإيما تُظهر مدى تنامي حبه واعتماده عليها:

مامي العزيزة عليَّ دائمًا …

ها أنا ذا هنا وقد تناولت بعض الشاي والخبز المقدد للغذاء، وأشعر بأني في حال طيب جدًّا. لقد أفادتني الرحلة، ولم أشعر بأي إرهاق حتى اقتربت من هنا، والآن فقد ارتحت ثانية، وأشعر بأني قريب إلى حدٍّ بعيد من حالتي الطبيعية.

زوجتي العزيزة، أعجز عن أن أخبرك بمدى تقديري لتعاطفك ومحبتك لي. كثيرًا ما أشعر بالخوف من أنني أرهقك بسوء صحتي وشكاواي.

زوجك البائس العجوز
تشارلز داروين

في اليوم التالي ركب القطار المتجه لشروزبري، ووصل إلى بيت العائلة بعد أن انطلق موكب الجنازة إلى الكنيسة. وبدلًا من أن يلاحقه تشارلز بقي في المنزل، مع إحدى شقيقاته المتزوجات، وكانت مثله تشعر بعدم قدرتها على تحمل الجنازة أو الوقوف عند القبر. قال داروين بعدها مبررًا ذلك إن هذا «أحد الطقوس لا أكثر»، لكنه أقر بشعوره بالحزن بسبب «الحرمان». لن يعرف أحد أبدًا ما إن كان قد توانى عن قصد ليتجنب رؤية والده وهو يدفن. إلا أن نزعته للتغيب عن الطقوس الكئيبة والأحداث الكبيرة لم تكن أمرًا عرضيًّا، بل أمر نمطي.

١٦

كان داروين يرى بعض الأمور المثيرة في البرنقيل عندما تسمح صحته بذلك: أنواعًا عجيبة من الجنسوية التوسطية، تشابهات مع القشريات الأخرى، بُنى بدائية أو «مجهضة»، أنوفًا للبرنقيل، آذانًا للبرنقيل، طورًا بلا فم، غددًا لاصقة تصرف إفرازها من خلال قرون الاستشعار لتشكل نقطة ارتباط عندما يصل البرنقيل غير البالغ إلى الاستقرار أخيرًا في مرحلة البلوغ، ويلصق نفسه إلى الأبد بإحدى الصخور أو قطعة خشب أو بدن سفينة. لاحظ داروين أن أنواع جنس بروتيوليباس ليس لها أرجل. أما أنواع الجنس «ألكيب» فينمو لها ثلاثة أجزاء جسدية من السبعة عشر جزءًا التي يحوزها البرنقيل في المعتاد، متخلصة بذلك من أربعة عشر جزءًا، وكما لو كان ذلك لا يكفي فإن الأنثى أيضًا ليس لديها شرج. يتضمن النوع إبلا إناثًا فقط لا غير، أو هذا ما كان يبدو، حتى نظر داروين نظرة أدق ووجد ذكورًا طفيلية ضئيلة الحجم، لا تكاد تزيد في الحجم عن محفظة منوية، مغروسة في لحم إحدى الإناث مثل البثور السوداء. كل أوجه الشذوذ هذه كانت تختص بأحد الأجناس أو بنوع واحد أو أكثر داخل أحد الأجناس. وجد داروين أيضًا أن هناك فروقًا ملحوظة على مستوى طبقي آخر: أي داخل الأنواع. وعلى عكس ما كان داروين يعتقده طول الوقت من ندرة التغاير في الحيوانات البرية، ثبت في النهاية أن حيوانات البرنقيل تتغاير إلى حدٍّ بعيد. ليس النوع جوهرًا أفلاطونيًّا أو نمطًا غيبيًّا. بل النوع عشيرة من أفراد متباينين.

ما كان داروين سيدرك ذلك لو لم يأخذ على عاتقه المهمة الصعبة المتمثلة في إرساء العلاقات بين كل نوع وآخر. وما كان سيدرك ذلك لو لم يستخدم شبكة معارفه وشهرته كعالم تاريخ طبيعي ليجمع حيوانات البرنقيل، بكم كبير، من كل أرجاء العالم. فحقيقة التغاير لا تكشف عن نفسها إلا في الحشود الكبيرة. وما كان داروين سيراها لو لم يفحص أفرادًا كثيرة لأكبر عدد ممكن من الأنواع، وليس فقط أفرادًا وحيدة ممثلة لها. كتب لهوكر ردًّا على طلبه لآخر المستجدات عن البرنقيل: «لقد أذهلني مدى التغاير الطفيف لكل جزء في كل نوع.» فهذا الفرد له قضيب أطول أو أرجل أقصر، وذلك الفرد له سويقة أطول، أو صدر أوسع. تضمن المشروع المزيد من الفروق الدقيقة والمزيد من إصدار الأحكام عما توقعته. كم مقدار التغاير الذي يتحمله النوع الواحد؟ ما الذي يميز طبقة النوع نفسه عن طبقة المتغايرات داخل النوع نفسه (مثل سلالات الكلاب)؟ قد يؤدي هذا إلى إصابة المرء بالعمى أو الجنون. وقال لهوكر: «البحث المنهجي سيكون أسهل لولا هذا التغاير اللعين.» ثم يقر بأن «فيه متعة لي كمتأمل، وإن كان بغيضًا لي كباحث منهجي». كان المتأمل الموجود بداخله يفكر في التحول ولا يبحث فقط عن النظام التوصيفي. لعب التغاير الوافر بين حيوانات البرنقيل دورًا حاسمًا في نظريته. ها هي أمامه، تلك الفروق الضئيلة التي يعمل عليها الانتخاب الطبيعي.

إلا أن كل هذا العمل في تجميع البرنقيل وفحصه، وتشريحه ووصفه، استهلك الشهر بعد الشهر، عندما تكون صحته طيبة بما يكفي لأن يعمل، وأثار ضيقه أكثر عندما لا يكون بصحة طيبة. وفي مارس من عام ١٨٥٠، بعد قرابة أربعة أعوام من بذل الجهد، كتب يشكو إلى ليل قائلًا: «إن مهمتي مع هدبيات الأرجل مهمة أبدية؛ فأنا لا أتقدم تقدمًا محسوسًا.» كان في هذا مبالغة كئيبة، لكنه كشف عن شعوره. يماثل ذلك التعليق الذي كتبه لهوكر بعد عدة شهور قائلًا إنه أرسل أخيرًا لدار الطباعة «أول ثمرة صغيرة بائسة عن حيواناتي اللعينة هدبيات الأرجل». كان وقتذاك قد قرر أن الأفرودة التي سيكتبها ستكون بحثًا من أربعة أجزاء؛ جزأين عن البرنقيل السويقي (أحدهما عن الأشكال الحفرية في بريطانيا، والآخر عن الأشكال الحية في أرجاء العالم) وجزأين مناظرين (الأشكال الحفرية والحية) عن كل البرنقيلات الأخرى. هذه «الثمرة الأولى الصغيرة البائسة» كانت الجزء الصغير الذي كتبه عن الأشكال الحفرية السويقية، وهو عمل مبهم لا يلائم سوى جمهور محدود، نشرته جمعية علم الحفريات في عام ١٨٥١. تبع ذلك لاحقًا في العام ذاته الجزء الذي يتناول الأنواع الحية، ونشره في هدوء أيضًا ناشر متخصص. واصل داروين العمل مباشرة على البرنقيلات اللاسويقية. وبعدها بعام ذكر لصديقه القديم دبليو دي فوكس أنه ما زال يبحث في السيريبيديا، «تلك الكائنات التي أرهقتني على نحو عجيب؛ فأنا أكره أي برنقيل كما لم يكرهه أي إنسان من قبل، ولا حتى بحار في سفينة شراعية بطيئة.» كان مشروع البرنقيل وقتها يحاكي خبرته على السفينة «بيجل»؛ رحلة طويلة في وحدة، قد تكون مجزية، وقد لا تكون كذلك.

لكنها كانت مجزية، بقدرٍ ما على أي حال؛ فلم تعد عليه فقط بالأفكار العلمية الثاقبة، وإنما جلبت له أيضًا احتفاءً جماهيريًّا. فبعد مرور سنتين على نشر الجزأين عن البرنقيل السويقي، منحته الجمعية الملكية قلادتها الملكية للتاريخ الطبيعي تقديرًا لهذا البحث. بعث له هوكر بالأخبار، ووصف له اجتماع الجمعية الحاسم الذي رشح فيه اسم داروين، وما أعقب ذلك من «صيحة احتفاء بالبرنقيلات» كان من شأنها أن تدفع رجل البرنقيل إلى الابتسام. بعد ذلك بعدة أسابيع ذهب داروين بالفعل إلى لندن لاستلام الجائزة. ومن المحتمل أنه ابتسم بالفعل. لكن إذا كان قد فعل ذلك، فإنه لم يدم سوى دقائق قليلة علنًا، قبل أن يؤدي الانفعال به إلى القيء.

قال داروين في نفسه متأملًا إن القلادة الملكية كانت «قطعة ذهب ثمينة تمامًا». وقد أعطته هذه القلادة، الممنوحة له مكافأة على المشروع التقليدي الجاف لتوصيف البرنقيل، قدرًا كبيرًا جديدًا من التقدير العلمي والمصداقية الثقيلة. لقد كرمته هذه المؤسسة. وكان يعرف أنه، مع ما سيأتي مستقبلًا، سيحصل على كل تكريم ممكن.

١٧

بيد أن الابتسام والقلادة الذهبية كانا شيئًا لا يمكن تخيله في عام ١٨٤٩، حين كان يحاول استئناف البحث على البرنقيلات السويقية بعد موت أبيه. عادت إليه أعراضه المرضية. وذكر في دفتر يومياته أن «الصحة معتلة للغاية، مع قدر كبير من المرض، وضعف القوى». أخذ يتقدم ببطء حتى شهر مارس، ثم أقدم على تصرف يائس. فحشد إيما، والأطفال، ورئيس الخدم، والمربية، ووصيفات عديدات، ورحلوا جميعًا إلى مؤسسة للعلاج بالمياه يديرها د. جيمس جالي في مدينة مالفرن في ورسسترشاير قرب الحدود الويلزية. كانت رحلة يومين بالقطار والعربة، عملية انتقال كبيرة لمجموعة كهذه؛ تشمل خمسة أطفال صغار السن ورضيعًا يصرخ (فرنسيس، آخر الأبناء). لا بد أن يكون المرء عليلًا بحق ليظن أن هذا قد يفيد. كان داروين قد سمع عن جالي من الأصدقاء وقرأ كتابه المليء بأفكار فيها نزعة للدجل، وعنوانه «الشفاء بالمياه من الأمراض المزمنة». ولعدم وجود خيار آخر، كان داروين مستعدًّا للمراهنة بتهور.

النظرية الكامنة وراء علاج جالي المزعوم هي أن وجود قدر زائد من الدم، محتقنًا في الأوعية الدموية التي تخدم المعدة، هو ما يسبب «سوء الهضم العصبي» كالذي يعانيه داروين. الحل لذلك، كما يعتقد جالي، يكمن في سحب الدم بعيدًا عن المعدة إلى الجلد والأطراف بواسطة الماء البارد والحك، بما يولِّد تهيجًا بقدر يكفي بالضبط لإحداث طفح جلدي. وعندما يُلف الجسم بملاءات مبللة يكون لهذا فائدة إضافية، وهي تقليل وظائف المخ، الأمر الذي يساعد أيضًا على التخفيف عن المعدة. وُضع لداروين نظام يومي يتضمن جلسات فرك بمنشفة مبللة باردة، ونقع أقدامه في ماء بارد، وشرب أقداح من الماء البارد، ووضع كمّادة مبللة على معدته طول اليوم، وأن يسخّن نفسه حتى يعرق باستخدام مصباح كحولي وبعدها يُفرك ثانية بمناشف باردة، ويقوم بالتمشية وأخذ سنة من النوم بين هذه الإجراءات المؤلمة، مع ابتلاع أدوية علاج المثلية الجنسية، والعيش على غذاء عديم النكهة يُستبعد منه — كما يقول داروين — «السكر، والزبد، والبهارات، والشاي، ولحم الخنزير المقدد، وأي شيء طيب». سمح له جالي في أول الأمر بالقليل من النشوق، ست مرات في اليوم، ثم أجبره على هجر هذه العادة تمامًا.

أبدى داروين تذمره من الطعام والحرمان من النشوق، وتشكك في إيمان جالي بطب المثلية الجنسية (ناهيك عن المسمرية والاستبصار، وهما مجالان آخران كان ذلك الطبيب يتحمس لهما). إلا أن داروين أقنع نفسه بأن هذا التعذيب بالماء كان ناجحًا. أسعده خلال أول ثمانية أيام أن يرى بعض الطفح الجلدي فوق ساقيه. استمر لشهر دون تقيؤ، وهذا تقدم ملحوظ، كما اكتسب بعض الوزن. بل إنه سار في أحد الأيام مسافة سبعة أميال. وقال لفوكس: «إنني أتحول إلى مجرد ماكينة للسير والأكل.» وذكر بابتهاج لصديق آخر أن أحد الآثار الجانبية للعلاج هو: «أنه يُحدث في معظم الناس، وعلى نحو بارز في حالتي، ركودًا كاملًا للعقل: لقد توقفت عن التفكير حتى في البرنقيلات!» أخذ جالي يوجهه بتطمينات حذرة بأن الشفاء ممكن، لكنه سوف يستغرق وقتًا. كم من الوقت؟ كانت الإجابة دائمًا، بعد قليل من الوقت. بعد أن أمضت العائلة ثلاثة شهور ونصف الشهر في مالفرن، عادت ثانية إلى داون، إلا أن داروين جلب معه بعضًا من نظام علاج جالي. أمر داروين بإنشاء كوخ في الحديقة للاغتسال، وبه خزان مرفوع يمكن ملؤه من البئر، وأخذ يغتسل فيه بالماء البارد ظهيرة كل يوم تقريبًا. وقبل ذلك بساعات يكون أول ما يفعله في الصباح هو جلسة تعريق باستخدام مصباح الكحول، وبعدها يقفز إلى حمام بارد، ثم يتحمل فركه بمنشفة باردة على يد بارسلو، رئيس الخدم المخلص، الذي رأى أثناء عمله خمسًا وثلاثين سنة مع آل داروين؛ أمورًا لا تقل في غرابتها عن الطبيعة الجنسية للبرنقيل.

أحس داروين بتحسن كبير، وعاد إلى منظار التشريح. اشترى حصانًا، من أجل المران البدني، وأخذ يركبه. وضع داروين خططًا للذهاب إلى برمنجهام من أجل الاجتماع السنوي للجمعية البريطانية، وهو اجتماع لا مفر منه تقريبًا؛ نظرًا لأنه أصبح الآن نائبًا للرئيس. إلا أن المشكلة في علاج جالي هي عدم إمكان استمراره. هكذا حضر داروين تجمع برمنجهام، بعيدًا عن مصباحه الكحولي واغتساله بالماء البارد، وقد أحاط به صخب اجتماعي وزملاء متباهون ذوو أصوات مرتفعة، فإذا به يشعر ثانية بالغثيان. وبدلًا من أن يذهب في رحلة ميدانية مخطط لها، تسلل مسرعًا إلى مالفرن لضبط الأمور مع جالي. عاد ثانية إلى منزله، وواصل العلاج بالماء، وحتى يتجنب فرط الإجهاد، أوقف القراءة، فيما عدا قراءة الصحف. سمح لنفسه بأن يعمل فقط ساعتين ونصف الساعة كل يوم على البرنقيلات، وقضى أغلب وقته وهو بارد ومبتل. لا عجب من أن العمل كان يجري ببطء.

خلال العامين التاليين عاد إلى مالفرن مرتين أخريين. كانت الرحلة الأولى زيارة أخرى لإنعاشه هو نفسه، أسبوع طيب في يونيو، وزع انتباهه فيه بين المناشف المبللة والبرنقيلات، وزعم أنه قد أصبح يحب «حياته المائية» هذه، باستثناء ما بها من ارتداء وخلع متكرر للملابس. هذه المرة لم يهنأ هو نفسه بالركود العقلي. كان مخه متنبهًا، وبدا أنه يتقدم في أفرودته تدريجيًّا، وأخبره الناس أنه يبدو في صحة جيدة، وكتب في خطاب متفائل لهوكر تعليقًا على الإثارة المربكة التي يشعر بها عند عثوره على الكثير من «التغاير اللعين» داخل نوع هدبيات الأرجل. أما الرحلة الثانية فكانت مختلفة تمامًا. إذ أحضر معه أكبر بناته التي كانت مريضة آنذاك بمرض غامض.

كانت آني داروين في العاشرة، فتاة صغيرة متألقة سخية القلب ترتبط ارتباطًا خاصًّا بأبيها. كان يحب ابتهاجها ويروقه طيبتها، ويعتز بصحبتها. أسرَّ إلى فوكس أنها طفلته الأثيرة. كان أحيانًا يدللها بأن يتركها تقضي نصف الساعة في تصفيف شعره — لتجعله جميلًا كما تقول — أو تعبث بياقته أو أساور أكمامه. كانت تهرِّب له بعض النشوق خفية بينما يفترض أنه قد امتنع عنه. وكانت آني ترقص بجواره وهو يتمشى على الممشى الرملي. كتب داروين لاحقًا: «إن عقلها كله نقي وشفاف.»

عانت آني في سن الثامنة الحمى القرمزية، وهو مرض يهدد الحياة، لكن بدا أن آني قد تعافت. أو ربما لم تتعافَ تمامًا. بعد ذلك بستة أشهر بدأت أمها تلاحظ أنها ليست سليمة. ثمة ما يغطي على مرح آني، وكأنه ظل بارد في فترة العصر. أصبحت آني نكدة وتعاني حمى متقطعة، وكثيرًا ما تبكي، خاصة في الليل. أرسلوا آني إلى منتجع رامسجيت، ومعها المربية وأختها الصغيرة هنرييتا (والمعروفة باسم إتي)، وذلك التماسًا لهواء البحر ولجمع الأصداف من على الشاطئ. أرسلوا آني إلى طبيب بارز في لندن واشتروا لها طائر كناري. لم يفد أي من هذا. قرب رأس السنة أخذت آني تسعل. انتاب داروين القلق من أن تكون آني قد ورثت عنه «سوء الهضم التعس»، دون أن يدرك أن الأمر أسوأ من ذلك. خمنوا تخمينًا مضللًا أن سوء الهضم العصبي هو الذي يثير الاضطراب في معدتها الصغيرة، وهكذا رتبوا لها في أوائل ١٨٥١ أن تتبع نظام د. جالي للعلاج بالماء. تلقت آني العلاج نفسه مثل أبيها باستخدام الماء البارد من بئر المنزل: اللف، والحك، ونقع الأقدام، والحمامات قارسة البرودة. أصيبت آني بالأنفلونزا، وبدا أنها شفيت منها، لكنها لم تكن في صحة طيبة. لم تشفَ من السعال. كانت بعض الأيام أفضل من غيرها. وفي أواخر مارس نقلها داروين إلى مالفرن لتلقي علاج جالي بأكمله.

كانت الحميات التي لا تعرف هويتها شائعة في تلك الأيام، قبل اكتشاف الميكروبات المرضية، وكان المتعلمون وقتها ما زالوا يعتقدون أن الملاريا تسببها الأبخرة العفنة المنبعثة من أراضي المستنقعات، ولم يكن لأحد أن يميز الإصابة بالفيروس من الآثار المزعجة للإسراف في الشراب. كان مرض آني داروين يشبه مرض أبيها من جانب واحد: أنه لم يشخص قط تشخيصًا حاسمًا. أجرى راندال كينز، أحد الباحثين المعاصرين (الذي يفهم تاريخ العائلة على نحو طيب، ولديه القدرة على الوصول بوجه خاص إلى بعض المصادر، وذلك لأنه هو نفسه حفيد حفيد جورج، شقيق آني)، محاولة حثيثة لحل اللغز في ضوء ما نعرفه اليوم. طرح كينز كل الأدلة المتاحة على أربعة مؤرخين للطب وطلب منهم أن يوافوه بتخميناتهم في ضوء تلك المعلومات. أجمعوا على أن آني ربما كانت تعانى السل، وهو المرض الذي أحيانًا ما يهاجم المخ أو الأمعاء أو الأعضاء الأخرى، مثلما يهاجم الرئتين أيضًا. كان السل مرضًا رهيبًا قاتلًا في القرن التاسع عشر، وهو معروف باسم «الهزال» أو «السل الرئوي»، لكن سببه غير مفهوم جيدًا؛ فهذا المرض البكتيري يبدو أنه يتنقل مثل ملاك الموت. لم يكن هناك أي علاج له (قبل ظهور المضادات الحيوية)، ولو كان له أي علاج فيما سبق فإنه لن يكون بغمر المريضة بحمامات الماء البارد ولفها بمناشف مبللة.

لكنهم لم يعرفوا هذا. رافق داروين ابنته الأثيرة إلى مالفرن وتركها هناك، في رعاية جالي، مع ممرضة الأطفال، وإتي الصغيرة لتكون صحبة لها. بعد أسبوعين أخذت آني تتقيأ، ثم أصيبت ثانية بالحمى وأصبحت تتزايد ضعفًا. ظن جالي أنها مرت بأزمة بسيطة وسوف تتحسن، لكنها لم تتحسن. كان داروين قد عاد لدار داون، وربما عاود دراسة برنقيلاته، عندما وصلت رسالة من مالفرن تدعوه للمجيء سريعًا. كانت إيما حاملًا مرة أخرى، في شهرها الثامن، لذا ذهب داروين وحده، على الفور.

حملت الخطابات التي أرسلها داروين لإيما، وكانت تصل إلى دار داون بالبريد الليلي، توثيقًا مفصلًا لحالة آني خلال الأسبوع التالي. في يوم الخميس بدت الفتاة الصغيرة في حالة بائسة، إلا أن «وجهها أشرق» عند رؤية والدها. انتظم نبضها يوم الجمعة، لكنها تقيأت على نحو سيئ، وبدا «من ساعة لأخرى» أنها مشتبكة في «صراع بين الحياة والموت». ردت عليه إيما ذلك الصباح برسالة قصيرة، وبصرف النظر عما قالته فيها، فإنها أبكت تشارلز. في اليوم التالي كان لآني «ملامح صارمة ذابلة» جعلت من الصعوبة التعرف عليها، إلا أن الحمى زالت، وتناولت آني بعض العصيدة. يوم الأحد كان يوم عيد الفصح، وهذه حقيقة قليلة الأهمية لداروين، ولم يذكرها في سرده لحالة آني بقيئها المتواصل. لم تفقد آني روحها الحلوة، كما سجل داروين، وبعد إعطائها جرعة ماء، قالت في وهن: «أشكرك كل الشكر.» وهكذا دواليك. كان أسبوعًا مليئًا بالعواطف الجياشة. وظُهر يوم الأربعاء توفيت آني.

في الساعات التالية كان المشهد حول فراش موت آني مشهدًا فوضويًّا مفعمًا بالحزن أيضًا. أصيبت المربية في التو «بإحدى نوباتها»، وفقًا لما ذكره تشارلز وفاني ويدجوود، زوجة شقيق إيما التي أتت لمالفرن لتمد يد العون. كانت الممرضة في حالة بائسة وعاجزة عن فعل أي شيء. أما تشارلز فقد قال لإيما، في نهاية الرسالة القصيرة التي يعلمها فيها بخبر وفاة آني: «أنا الآن ألازم الفراش بسبب اعتلال معدتي.» ثم يضيف: «لا أستطيع بعد أن أقول متى سأعود.» كان مشوشًا ومرهقًا ومكتئبًا، وكان أيضًا مريضًا، وأحس بقدر قليل من الارتياح لانتهاء معاناة آني. وكتب محاولًا أن يقدم لإيما بعض العزاء قائلًا: «لقد مضت لنومها النهائي بأقصى هدوء، وأقصى عذوبة.» وقد ذكر تشارلز الرب ثلاث مرات في صفحة واحدة، سامحًا لنفسه باستخدام بلاغة خطاب التقوى التقليدية. فقد قال: «صليت للرب» بأن يكون الخطاب القصير الذي أرسلَتْهُ فاني في وقت أسبق قد أعد إيما للأخبار السيئة. ليس من المحتمل أنه صلى للرب بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم قوله: «الرب وحده يعلم» أي تعاسات أبشع كانت آني ستعانيها لو عاشت حياة أطول. ثم قال في بساطة: «فليباركها الرب». هذه التعليقات تبدو غريبة في ضوء نزعته (الراسخة في ذلك الوقت تقريبًا) لعدم الإيمان بوجود إله مسيحي رحيم. رُتب لجنازة آني أن تكون يوم الجمعة.

تغيب داروين عن الجنازة. ففي صباح الخميس أخذ بعض الكتب، وخلف وراءه ملابسه الزائدة، ولحق بالقطار المتجه إلى لندن. وبفضل ترتيبات الانتقال الجيدة وصل إلى داون في المساء. كان العذر الذي أبداه لهروبه السريع هو أن إيما تحتاجه الآن أكثر من آني، وأن بكاءهما معًا سيخفف من ألم زوجته وهي في هذه الحالة الضعيفة. ربما كان هذا حقًّا هو السبب الذي دفعه لذلك، أو ربما لم يكن هو السبب. أما إيما فقد كتبت من جانبها تخبره بأنه ينبغي ألا يشعر بأي ضرورة للاستعجال. لكنها اتفقت معه على نقطة واحدة؛ «سنكون معًا أقل تعاسة بكثير.» فعلى الرغم من عدم اتفاقهما في الجانب الديني، فإنهما كانا الآن مرتبطين ارتباطًا عميقًا كأحباء، وشركاء، ووالدين، وكل واحد منهما هو مصدر الآخر الرئيسي للدعم العاطفي في الأوقات الصعبة. الإنسان الوحيد الآخر الذي كان عزيزًا عليه بالقدر عينه كان آن إليزابيث داروين.

في يوم الجمعة ٢٥ أبريل من عام ١٨٥١ ركبت فاني ويدجوود وزوجها (شقيق إيما) ومعهما المربية والممرضة، إلى فناء كنيسة مالفرن خلف عربة موتى تحمل نعش آني. كانت الممرضة خائرة النفس لدرجة اضطروا معها لحملها إلى داخل العربة، أما المربية فكانت رابطة الجأش أكثر، وأخذت تبكي بكاءً متقطعًا. كانت جماعة صغيرة في حالة حداد. كانت الشقيقة الصغرى، إتي، قد نُقلت بعيدًا إلى أقارب آخرين. لم يحضر د. جالي الجنازة. أما داروين نفسه فقد جلس في البيت في ذلك اليوم، وكتب إلى فاني خطاب شكر لأنها شجعته على مغادرة مالفرن ولأنها تولت تنظيم الجنازة. وأضاف أنه «في وقت ما» سيود أن يعرف في أي بقعة بمقبرة الكنيسة دفن جسد آني.

الحقائق المجردة تجعله يبدو قاسي الفؤاد، لكنه لم يكن هكذا. فقد كانت عواطفه مكتومة وعميقة. على أنه بصرف النظر عن حبه الشديد لإيما، واعتماده عليها، كان لديه غريزة قوية لحماية الذات. وهو الآن ينغلق على نفسه كالبرنقيل.

١٨

تعد وفاة آني في عام ١٨٥١، التي تلت وفاة أبيه بثلاثة أعوام، علامة مهمة على الطريق الطويل الهادئ لتحرر داروين من الإيمان الديني ومن الروحانيات. تجنب داروين كلتا الجنازتين وترك طقوس صلوات راحة الميت ليؤديها غيره، لا لأن الضعف الجسدي أو العاطفي فحسب جعله يعتقد أنه غير قادر على الوقوف مرتديًا السواد إلى جانب النعش، لكن يبدو أيضًا أنه يعتبر أن هذه الطقوس الكنسية الأنجليكانية للدفن، بتأكيداتها على البعث إلى حياة أبدية أمور زائفة لا معنى لها. بعد ذلك بسنوات تحدث داروين إلى فيلسوفَين ثوريَّيْن، التمسا الاجتماع به وهما في لندن لحضور مؤتمر للمفكرين الأحرار، وجاملهما داروين بدعوتهما للغداء، قائلًا لهما: «لم أتخلَّ قط عن المسيحية حتى الأربعين من عمري.» يقع يوم ميلاده الأربعين بين هاتين الوفاتين.

إن الأسئلة عن سبب فقد داروين للإيمان الديني التقليدي، وعن مدى تحوله في النهاية لاعتناق المادية الإلحادية، أسئلة معقدة. وقد ذكر بجفاء للمفكرَين الحرَّين أن المسيحية «لا تدعمها الأدلة». كتب داروين في سيرته الذاتية: «الحقيقة أن عدم الإيمان زحف إليَّ ببطء شديد، لكنه اكتمل في النهاية.» والحقيقة أن هذا الزحف بلغ من بطئه أني «لم أحس بأي أسى، ولم يحدث أبدًا منذ وقتها أن شككت ولو لثانية واحدة في أن استنتاجي صائب». أحد العوامل التي ساهمت في ردته هو قراءته الدقيقة في الموضوعات الفلسفية والإنجيلية، بدءًا بهيوم، ولوك، وآدم سميث ووصولًا إلى كتاب جيمس مارتينو «الأساس المنطقي للبحث الديني»، وكذلك بدءًا ببالي، وهرشل، وراي ووصولًا إلى كتاب جون أبركرومبي «تساؤلات عن القدرات العقلية والبحث عن الحقيقة». اهتم داروين بعض الاهتمام بأعمال فرانسيس نيومان، وهو أستاذ في اللغة اللاتينية كان أخوه الأكبر، جون هنري، قد تحول إلى الكاثوليكية وأصبح في النهاية الكاردينال نيومان، لكن رحلة فرانسيس نيومان الروحانية انطلقت في الاتجاه المضاد، اتجاه مذهب التوحيد الصارم المتشكك. قرأ داروين كتاب نيومان «تاريخ الملوك العبريين»، وفيه انتقاد للعهد القديم للتشكك في دقته التاريخية، وقرأ سيرته الذاتية «مراحل الإيمان»، وكذلك كتاب آخر لنيومان بعنوان «الروح، أحزانها وطموحاتها»، والمذكور على نحو مستفز في عنوانه الفرعي أنه «تاريخ طبيعي». هذه التأثيرات أكملت ما لدى داروين نفسه من نزعة تجريبية. كان يرفض الكتب المقدسة كحقيقة كشفية، ويرفض فكرة العقاب الأبدي لغير المؤمنين (كأبيه وجده)، ويرفض خلود الروح البشرية، واللاهوت المسيحي عمومًا، إضافة إلى استنتاج بالي العتيق بوجود إله باطن، الذي استدل على وجوده من تناغم الطبيعة. خلق خاص؟ عناية إلهية؟ تصميم إلهي؟ لم يجد داروين أي دعم لهذه الأفكار في الجغرافيا البيولوجية، أو توصيف البرنقيلات، أو مصائر أطفال أبرياء معينين. واستنتج ببرود أن «كل شيء في الطبيعة هو نتيجة لقوانين ثابتة». هل أنتج سببٌ أول غير بشري — «كائنٌ أعلى» بأقصى المعاني غموضًا — الكونَ، ورتب له أن يتحرك وفق هذه القوانين الثابتة؟ ربما. هذا هو ما كان داروين يميل إلى الإيمان به طيلة الجانب الأكبر من حياته وهو راشد، بما في ذلك الفترة التي كتب فيها «أصل الأنواع». حدث لاحقًا «بفعل تقلبات عديدة» أن زاد تشككًا على نحو تدريجي. من المستحيل معرفة الأمر بالضبط. أفضل طريقة لوصف قناعاته الروحية، أو انعدامها، هي كما أعلن داروين نفسه في سيرته الذاتية، هي وصفه بأنه «لاأدري».

في مكان آخر وصف نفسه ببساطة بأنه «مشوش» بشأن هذه القضايا التي لا تقبل الحل. كان يضايقه تحديدًا تناقضان اثنان رآهما في العقيدة المسيحية التقليدية، أو يتعلقان بها، وهما: التعارض بين فكرتي الكون المحكوم بقانون والإله المتدخل، وأيضًا وجود الشر في عالم صممه إله كلي القدرة يؤثر الخير.

هل تعدت قوانين الطبيعة على الامتيازات الربانية؟ هذا ما حدث فعلًا، وفقًا لرأي بعض المفكرين، وليس في عالم البيولوجيا وحسب. كان داروين يعرف أن قانون الجاذبية لنيوتن هاجمه ذات مرة ليبنتز بوصفه «هدامًا» للعقيدة الطبيعية. فالجاذبية «صفة غامضة»، عامل ملفق إلحادي، استحضر على نحو خاطئ لتفسير الدوران الإعجازي للكواكب، أو هذا ما ذهب إليه ليبنتز في اتهامه. هل لاقى هذا النقد قبولًا من الناس العاقلين؟ كلا. في أغلب الأحوال فضل الناس قانون نيوتن الأساسي الأنيق. لماذا إذن يقبلون الاتهام نفسه عند تطبيقه على التباين والتكيف بين الكائنات الحية؟ كتب بداروين: «لا أستطيع أن أؤمن بأن الخالق يتدخل في بناء كل نوع أكثر من تدخله في مسار الكواكب.»

كان يزعجه أيضًا، على نحو مماثل على الأقل، مشكلة الشر، والمعاناة غير المبررة التي تنزل بالأبرياء. كتب داروين لأسا جراي، صديقه الأمريكي عالم النبات في هارفارد: «لا أستطيع أن أرى بوضوح، كما يفعل الآخرون، الأدلة على التصميم والخير في كل جوانبنا. يبدو لي أن هناك بؤسًا في العالم أكثر مما ينبغي.» لماذا مثلًا يصمم إله خيِّر دبابير النمس التي تضع بيضها داخل حشرات اليسروع الحية، بحيث تلتهم يرقات الدبور بعد فقسها عائليها من الداخل للخارج؟ لماذا تُصمَّم قطط تعذب الفئران من باب التسلية؟ لماذا يولد طفل بتلف في المخ، ليواجه حياة من البلاهة؟ هكذا تساءل داروين. بعد ذلك بعدة شهور كتب مرة ثانية لجراي، بتأكيد أكثر: «يقف رجل بريء طيب تحت [إحدى] الأشجار، وتقتله [إحدى] ومضات البرق. هل تؤمن (وأنا أود حقًّا أن أسمع منك إجابة) بأن هذا الرجل قُتل بسبب هذا الترتيب الإلهي؟ يؤمن أشخاص كثيرون، أو معظم الأشخاص، بهذا فعلًا! أنا لا أستطيع ذلك، ولا أومن بذلك.» لم يكن داروين يجادل فحسب حول رجل افتراضي وومضة برق افتراضية. إذ كان يعتمد على خبرة شخصية: مشكلة الشر كما تكشفت له وهو يرقب ابنته ذات السنوات العشر وهي تموت من مرض ما يسبب الهزال. لم يستطع داروين أن يأخذ فكرة الإله الذي يتحكم في أحداث الأرض عن قرب بما يكفي لأن يقضي بوقوع حدث كهذا — أو يأذن به، إن كان الإذن الإلهي ضروريًّا — مأخذًا جديًّا.

بعد أسبوع من موت آني، بينما الصورة لا تزال حاضرة في الذاكرة، كتب داروين مذكرة خاصة قصيرة تسجل القليل من مفاتنها، وعاداتها، وسماتها، ورقصاتها حوله بطول الممشى الرملي، وتدقيقها صعب الإرضاء، وحبها للأطفال الأصغر سنًّا، وموهبتها الموسيقية، وحماسها للقواميس والخرائط. كتب داروين أنه فقد هو وإيما متعة دارهما وأنيسة وحدتهما في عمرهما المتقدم. لا شك أن الفتاة الصغيرة كانت تدرك لأي مدى كانت محبوبة. ثم ينهي داروين ما كتبه بقوله: «فلتحل عليها البركات»، وقد أسقط هذه المرة، على نحو مبهم، ذكر اسم الرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤