المسألة الشرقية

اتفق الكتاب والسياسيون على أن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع القائم بين بعض دول أوروبا وبين الدولة العلية، بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى: هي مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوروبا، وقد قال كتاب آخرون من الشرق ومن الغرب بأن المسألة الشرقية: هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية. إلَّا أن هذا التعريف وإن كان فيه شيء من الحقيقة، فليس بصحيح تمامًا؛ لأن الدول التي تنازع الدولة العلية وجودها لا تعاديها باسم الدين فقط، بل في الغالب تعاديها طمعًا في نوال شيء من أملاكها، وقد أرانا التاريخ أحوالًا كثيرة لم يُستعمَل الدين فيها إلَّا سلاحًا أو وسيلة لنوال غرض جوهري، فهو ستار تختفي وراءه أغراض شتى وأطماع مختلفة. والذي يراجع تاريخ الدولة العلية، ويقلب صحائف أمورها من أول وجودها إلى اليوم؛ يرى أن المسألة الشرقية نشأت مع الدولة نفسها؛ أي إنه منذ وطأت أقدام الترك ثرى أوروبا، وأسسوا دولتهم الفخمة، قام بينهم وبين بعض الدول الأوروبية النزاع الشديد، ودارت الحروب العديدة.

وبالجملة فإنه منذ ظهرت صولة الترك في أوروبا، أخذت بعض الدول على عهدتها معاداة الدولة ومطاردتها، والعمل على إخراجها من هاته القارة، ولكنها أعمال حبطت وآمال خابت؛ إذ أصبح أمر بقاء دولة آل عثمان من أول الأمور الضرورية اللازمة لسلامة بني الإنسان.

وقد وهب الله الدولة العثمانية سلطة عالية ورهبة عظيمة حينًا طويلًا من الزمان، فأخضعت لسلطانها الأمم والدول، وأرهبت بقوتها وعظمتها كل قوي وكل عظيم، ورفعت رايتها الهلالية الجليلة على أصقاع شاسعة وأقطار واسعة، فأبقت فتوحاتها وانتصاراتها في نفوس الأمم المقهورة بغضاءً كامنةً، وعداوةً لدودةً، فكان ذلك السبب الأول في الحروب العديدة التي وجهت ضدها، وأُقِيمت في وجهها.

ولما كانت البلاد الواقعة تحت سلطة الدولة العلية من أجمل بلاد العالم وأغناها؛ فقد تاقت نفوس أصحاب الدول الأوروبية لإخراج التُّرْك من هذه البلاد وتقسيمها بينها، فكانت هذه الدول تحارب الدولة العلية بأمل تقسيمها شيئًا فشيئًا، والاستيلاء على أجزائها جزءًا فجزءًا، وهذا هو سبب آخر لعداوة بعض الدول الأوروبية للدولة العلية.

وإذا دققنا النظر في سبب العداوة المشهور، وهو مسألة الدين، وجدنا أن الدولة العلية هي الدولة الوحيدة في دول الأرض التي عاملت رعاياها الذين يدينون بغير دينها بالتسامح والتساهل والاعتدال. فقد اتبعت أوامر الشرع الشريف، وتركت للمسيحيين حرية دياناتهم وعوائدهم وتقاليدهم، واحترمت عقائدهم كل الاحترام، فعاشوا طويلًا ممتعين بهاته الحرية على حين أن مسيحيي إسبانيا قتلوا المسلمين؛ لأنهم مسلمون، وهتكوا أعراض نسائهم، وحرمة بيوتهم، وما رحموا إنسانًا.

ولم تكتفِ الدولة العلية حماها الله بحسن معاملة المسيحيين واحترام أديانهم وعقائدهم، بل عاملتهم كأعز أبنائها المسلمين، ولم تميِّز بين هؤلاء وبينهم، وسلكت مع الكل طريق المساواة، وعينت الكثيرين من المسيحيين في المناصب السامية والوظائف العلية، وائتمنتهم على أمورها، وجعلتهم محل ثقتها، وبقاء المسيحيين إلى اليوم في الدولة العلية أكبر شاهد على اعتدالها الديني في الماضي وفي الحاضر، بل بقاء الجنسيات المختلفة كالبلغار والصرب واليونان وغيرها دليل ساطع وبرهان قاطع على أن الدولة العلية احترمت من نفسها وبمحض إرادتها دين الذين وقعوا تحت سلطتها، ولم تقهر أحدًا على اعتناق الدين الإسلامي، ويعترف الكتاب والمؤرخون جميعًا، بل ويعترف كل إنسان في الوجود مجرد عن الغرض الأعمى أن الدولة العلية كان في قدرتها يوم كانت أقوى دول الأرض أن تجبر كل المسيحيين في بلادها على اعتناق دين الإسلام، أو أن تطردهم من أراضيها إذا خالفوا رغبتها، ولكنها احترمت الشرع الشريف فاحترمت الدين المسيحي وأصحابه.

وهي حقيقة يقررها التاريخ، وينطق بها كل منصف محب لها، ولكن من غرائب أحوال هذا الوجود أن هذه الفضيلة السامية، وهذه المكرمة الفريدة كانت أكبر سبب لكل ما لحق الدولة العلية من الضرر والإجحاف، وأصلًا لكل ما حل بها من المصائب والبلايا؛ فاحترامها لعقائد المسيحيين على اختلاف أنواعهم أقام أمامها بعض دول أوروبا بحجة المسيحيين أنفسهم، وكان سببًا لحروب جمة.

فمسألة اختلاف الدين في الدولة العلية التي هي نتيجة الاعتدال الديني والعدل والإنصاف، كانت ولا تزال الداء الدفين الذي يهدد حياة الدولة من وقت إلى آخر. فتداخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العلية باسم المسيحيين المحكومين بها، ومضايقة أوروبا للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، واضطرابات الدولة تقوم باسم هؤلاء المسيحيين، والإنذارات التي تُوجَّه للدولة تُوجَّه باسم هؤلاء المسيحيين؛ بل وأغلب الحروب التي جرت مع الدولة جرت باسم هؤلاء المسيحيين، ويعلم الله إنهم سعداء الحظ في الدولة العلية، وأن تداخل أوروبا بحجة نصرتهم لا لزوم له البتة.

ولو أنصفت الدول الأوربية قليلًا لاعترفت بهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن المسيحيين في الدولة العلية لا ينقصون عن المسلمين في حسن المعاملة إن لم يكونوا من الراجحين، وها هم اليهود لا يثورون ولا يهيجون ولا يشتكون ولا يتألمون، بل يحمدون الدولة ليلًا ونهارًا في السراء والضراء، ويسبحون في كل آونة بنعمها عليهم وحسن رعايتها لهم، وما ذلك إلَّا لأنه لا يوجد في الدول الأوروبية دولة تدَّعي الدفاع عنهم والعمل لمصالحهم، فهم ليسوا بآلات في الدولة ضد الدولة، بل هم يعرفون من أنفسهم أنهم عثمانيون ممتعون بكل الحقوق العثمانية، وأما العناصر التي كالأرمن تستعملها بعض الدول كإنكلترا، فهي تثور بعوامل الدين وبدسائس دينية، وقد ثبت ذلك جليًّا في المسألة الأرمنية، وشُوهِد أن الأرمن الكاثوليك كانوا على سكينة تامة، بينما كان البروستانت يثورون ويدبرون المكائد ضد الحكومة العثمانية.

فمسألة الدين في الدولة العلية هي الآلة القوية التي يستعملها أصحاب الدسائس والغايات، وأولئك الذين يثورون بدسائس أعداء الدولة إنما يثورون ضد أنفسهم، ويقضون على حياتهم وسعادتهم بعبثهم وجنونهم واتباعهم لأوامر أعداء الدولة المحركين لهم؛ فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمنية إنما ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، والذين ماتوا في كريد ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، بل والذين ماتوا من جنود اليونان في تساليا ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية نفسها، ومن يعمل بنصيحة أعداء الدولة ويتبع أوامرهم فجزاؤه ما نال الأرمن واليونان.

وبديهي أن دولة مثل دولة إنكلترا التي تدعي محبة المسيحيين في الشرق، والعمل لراحتهم وسعاداتهم، لو كانت صادقة في دعواها، لرأت من الواجب عليها أن تصافي الدولة العلية حتى تنال منها متمناها بشأن المسيحيين، وإلَّا فمن الجنون في السياسة أن تدعي إنكلترا محبة المسيحيين، ثم تعادي الدولة العلية القابضة بيديها على زمام أمور المسيحيين، فهل يقبل العقل البشري أن دولة قوية كالدولة العلية تعمل في بلادها على خلاف رغبتها، وتنيل أصدقاء الإنكليز أي أصدقاء ألد أعدائها الراحة والسعادة والهناء؟! هل يقبل العقل البشري أن المسيحيين المدافعة عنهم إنكلترا يعادون المسلمين، ثم يسألونهم معاملتهم بالرقة واللطف وحسن العناية بهم؟!

إن الاتفاق والوفاق بين المسلمين والمسيحيين في الدولة العلية لا يكون نتيجة الضغط والقوة، بل نتيجة الميل المتبادل وحسن النية من الجانبين، والإخلاص والوفاء للدولة العلية، وإذا كانت دول أوروبا تريد حقيقة سعادة المسيحيين في الشرق، فأول واجب عليها هو أن تأمرهم بالامتثال لأوامر الدولة، والتعلق بها، والإخلاص في خدمتها، وإلَّا فالدولة أو فالدول العاملة على إلقاء بذور الشقاق والعداوة بين المسلمين والمسيحيين لا تجني ويستحيل أن تجني شيئًا آخر غير العداوة المرة والخصومة الشديدة.

وغني عن البيان أن المسلمين في الدولة العلية متى رأوا فريقًا من أخدانهم المسيحيين يعمل بأوامر الأجنبي عدُّوه خائنًا للوطن العثماني، ناكثًا لعهد الدولة العثمانية، أي عدُّوه دخيلًا في الوطن والملة والدولة، ووجب عليهم العمل ضده بكل ما في استطاعتهم قيامًا بواجباتهم الوطنية، وهذا هو الشأن في أمم العالم، فلو فرضنا أن فريقًا من الإنكليز قام يومًا ما في إنكلترا بإحداث الاضطرابات والثورات تنفيذًا لأوامر دولة أجنبية كالروسيا أو ألمانيا أو فرنسا؛ فأي واجب تحتمه الوطنية عندئذ على بقية الإنكليز؟ أليس القضاء على هؤلاء الخونة المنفذين لأوامر دولة أجنبية بكل الوسائل؟

القائمون بالثورات والاضطرابات في الدولة العلية خونة منفذون لأوامر أعداء الدولة، يجب على العثمانيين الصادقين إعلان العداء لهم، والانتقام منهم بكل ما في الجهد والاستطاعة.

ويستحيل الوصول كما قدمنا إلى الاتفاق السليم الصحيح بين المسيحيين والمسلمين في الدولة العثمانية إلَّا بإخلاص الجميع لها إخلاصًا تامًّا.

هذه هي الحقيقة وحدها دون غيرها.

وإذا كان اختلاف الدين في الدولة العلية هو داء من أدوائها، بل هو أكبر أدوائها، فالدخلاء في الدولة العلية داء عضال، وبلية لا تعادلها بلية؛ فإن الذين كانوا سببًا في هزيمة الدولة في حروب مختلفة هم الدخلاء، والذين ساعدوا الدسائس الأجنبية هم الدخلاء. فقد دخل في جسم الدولة العلية كثيرٌ من الأجانب نساءً ورجالًا، وغيروا أسماءهم بأسماء إسلامية، وعملوا على الارتقاء في المناصب حتى وصل بعضهم إلى أسماها، وصاروا من أقرب المقربين، فعرضوا بالدولة للدمار، وأطلعوا أعداءها على أسرارها، وقد انتشر الدخلاء في الزمن السالف إلى كل فروع الدولة العلية حتى في الجيش نفسه، وصارت لهم سلطة عظيمة ونفوذ كبير، وكنت تجد من وزراء الدولة العلية من يعمل لصالح الروسيا مدعيًا أنه روسي السياسة، ومن يعمل لصالح إنكلترا مدعيًا أنه إنكليزي السياسة، ولكن ليس منهم من كان عثماني السياسة.

ولولا أن الأمة العثمانية أمة حية قوية عظيمة الشهامة والوطنية، لكانت تلاشت اليوم بدسائس الدخلاء، ولو كان للدخلاء في دولة أخرى ما كان لهم في الدولة العلية من السلطة والحول، لكانت تقوض بنيانها وتداعت أركانها، وإن أعظم سلطان جلس على أريكة ملك آل عثمان، ووجه عنايته لإبطال مساعي الدخلاء، وتطهير الدولة من وجودهم، هو جلالة السلطان الحالي. فلقد تعلم من حرب سنة ١٨٧٧ وما جرى فيها أن الدخلاء بلية البلايا في الدولة ومصيبة المصائب، فعمل بحكمته العالية على تبديد قوتهم، وتربية الرجال الذين يرفعون شأن الدولة، ويعملون لإعلاء قدرها، وقد برهنت الحرب العثمانية اليونانية على أن للدولة اليوم رجالًا من أبنائها الصادقين، يخدمونها بالأمانة والوفاء، ويتفانون في محبتها، وأن ليس للدخلاء من سبيل لنوال مآربهم السيئة، فأمثال صاحب الدولة «أدهم باشا» الذي كان مجهول الاسم عند الكثيرين من العثمانيين قبل الحرب كثيرون في الدولة العلية، تظهرهم الحوادث وتعرفنا بهم وبقدرهم المشكلات.

وإن أغرب شيء في أحوال الدولة العلية وفي تاريخها يدهش أعداءها ويحير الكتاب الكارهين لها، هو بقاؤها حية بعد كل المصائب التي تساقطت عليها، والبلايا التي نزلت بها. فلقد رأت هذه الدولة العثمانية ما لم تره دولة من دول الأرض القديمة والحديثة، فقد كانت تتحالف معها بعض الدول كالنمسا مثلًا، وتعمل وهي متحالفة معها على الاتفاق مع الروسيا على تقسيمها، وقد كانت تتظاهر إنكلترا لها بالصداقة والوفاء، وتسعى وهي متظاهرة كذلك على ضياع أملاكها من يدها وسقوطها في قبضتها، وقد كانت دول أوروبا كلها تجتمع وتتحد على ما تسميه بالمبدأ المقدس، مبدأ حماية استقلال الدولة العلية وسلامتها، ثم كانت هي بعينها تجزئ الدولة العلية باسم هذا المبدأ المقدس نفسه، وقد كان العاملون على تقويض أركان الدولة وحلها عديدين أقوياء، ومع ذلك كله لا تزال الدولة العلية حماها الله قوية ثابتة الأركان تخافها أقوى الدول، ويخطب ودها إمبراطور شهد العالم كله بقوته وعظمته وبأسه.

ولقد يندهش الإنسان غاية الاندهاش عندما يقرأ ما كان يُكتَب من نحو مائة وعشرين سنة عن الدولة العلية؛ فقد كان الكتاب والسياسيون يتناقشون في مشروعات تقسيمها، فالبعض كان يريد أن يؤسس مكان الدولة العلية «الاتحاد البلقاني»، والبعض الآخر كان يريد إعادة ملك بيزانتان، وكان سياسيو الروسيا والنمسا يتباحثون في مشروع تقسيم الدولة بين دولتيهما، فكل كان يضع مشروعًا، والجميع كانوا متفقين على أن الدولة قصيرة الأجل، وأكثرهم أملًا في حياتها كان يجود عليها في مشروعه بعشرة من السنين أو عشرين عامًا، ولو بُعِث اليوم من القبور كتَّاب أواخر القرن الماضي وسواسه، ورأوا الدولة العلية قائمة عزيزة تحارب في أواخر القرن التاسع عشر، وتنتصر وتجتاز العقبات عقبة بعد عقبة، وتصرف المصائب مصيبة بعد أخرى؛ لكذبوا أعينهم وما صدقوا بالحقيقة.

ولكن الحقيقة هي أن بقاء الدولة العلية ضروري للنوع البشري، وأن في بقاء سلطانها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وأن الله جل شأنه أراد حفظ بني الإنسان من تدمير بعضهم البعض ومن حروب دينية طويلة بحفظ سياج الدولة العلية وبقاء السلطنة العثمانية. فقد لاقت هذه الدولة العثمانية في حياتها الطويلة أخطارًا هائلة كانت تكفي لتداعي بنيان أقوى الممالك، ومرت عليها ملمات كانت تندك لها الدول القوية والممالك القاهرة بدون أن تمس حياتها الحقيقية بسوء بل بقيت حية تدهش العالم بشبيبتها.

وقد أحس الكثيرون في أوروبا من رجال السياسة ومن رجال الأقلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام، وأن زوالها — لا قدر الله — يكون مجلبة للأخطار أكبر الأخطار، ومشعلة لنيران يمتد لهبها بالأرض شرقها وغربها شمالها وجنوبها، وإن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة من المسلمين، وحرب دموية لا تُعَد بعدها الحروب الصليبية إلَّا معارك صبيانية.

وإن الذين يدعون العمل لخير النصرانية في الشرق يعلمون قبل كل إنسان أن تقسيم الدولة العلية أو حلها يكون الضربة القاضية على مسيحي الشرق عمومًا قبل مسلميه؛ فقد أجمع العقلاء والبصيرون بعواقب الأمور على أن دولة آل عثمان لا تزول من الوجود إلَّا ودماء المسلمين والمسيحيين تجري كالأنهار والبحار في كل وادٍ.

وهي الملمة التي يجب على محبي الإنسانية الصادقين في محبتهم العمل لمنع وقوعها ودفعها بتعضيد الدولة العلية وتقوية سلطانها.

ولقد اعتقدت الآن الروسيا كما اعتقدت النمسا — وقد كانتا العدوتين القديمتين للدولة العلية — بأن تقسيم الدولة العلية أمر مستحيل، فعملت كلتاهما على المحافظة على السلام العام بالمحافظة على سياج الدولة العثمانية.

فقد رأت النمسا أن حروبها مع الدولة العلية أضرتها ضررًا بليغًا، وظهرت النتائج المشئومة لهذه الحروب. فقد ضعفت النمسا، وانتهى بها الأمر أن فقدت أملاكها الإيطالية التي تكونت منها إيطاليا الحالية، وفقدت كذلك أمام بروسيا جزءًا عظيمًا من مقاطعاتها الألمانية.

ولقد عملت النمسا في عهد عدائها للدولة العلية على تهييج أمم البلقان ضد السلطنة السنية، باسم مبدأ الجنسيات؛ لأنها بصفتها دولة كاثوليكية كان لا يمكنها أن تهيج هذه الأمم الأرثوذكسية باسم الدين؛ فكانت نتيجة تهييج النمسا لأمم البلقان باسم الجنسيات وبالًا عليها، وذلك أن مبدأ الجنسيات نفسه وجد أنصارًا كبارًا في قلب المملكة النمساوية، فقامت المجر ونالت حريتها واستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية المجرية، وها هي أمة البوهيم قائمة اليوم بالمطالبة باستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية البوهيمية، وقد أصبح من الظاهر للعيان أن دولة النمسا تنازع نزاع الموت في الأيام الحالية بفضل مبدأ الجنسية.

أما الروسيا فقد قامت دائمًا في المسألة الشرقية باسم الدين الأرثوذكسي، فعملت لإخراج الرومانيين واليونانيين والصربيين والبلغاريين وأهل الجبل الأسود من تحت سلطة الدولة العلية باسم الدين الأرثوذكسي؛ فنشأ عن ذلك مع استقلال هذه الأمم الصغيرة عداوة شديدة بينها وبين بعضها لما وجدت في نفسها من الطمع لتوسيع دائرة أراضيها، ذلك فضلًا عن أن الكنيسة اليونانية التي هي أم الكنائس الأرثوذكسية أصبحت غير معتبرة عند البلغاريين والصربيين، والنزاع القائم بين هذه الجنسيات المختلفة في مقدونيا يبيِّن جيدًا درجة عدواتها لبعضها، ودرجة الخطر الذي صارت إليه بلاد البلقان بسبب مسألة الجنس والدين.

وإذا بحثنا فيما اكتسبته الروسيا من حروبها مع الدولة العلية نجد أنها عادت تركيا قرنًا ونصف قرن، وحاربتها المرار العديدة، وفقدت الرجال والمال بكثرة عظيمة في كل حرب، ولم تنل في الحقيقة من كل حروبها إلَّا بلاد القرم والقوقاز، وقد رأت الروسيا ما لم تكن تظنه أبدًا وهو أن بعض البلاد الصغيرة التي حررتها كصربيا وبلغاريا واليونان ورومانيا عادتها أشد العداء، ولا تزال صربيا ورومانيا واليونان سائرة في سياسة لا ترضي الروسيا، وعلى الأخص رومانيا التي تمكن بينها وبين ألمانيا والنمسا والدولة العلية الصفاء والوداد، ولم تعتدل بلغاريا نفسها في سياستها مع الروسيا إلَّا في هذه السنين الأخيرة من يوم اعتناق البرنس بوريس ولي عهد بلغاريا للدين الأرثوذكسي.

وقد رأت الروسيا من جهة أن حروبها مع الدولة العلية لا تفيد غير إنكلترا التي قوي مركزها في آسيا وفي الشرق الأقصى، والتي لها أعظم مصلحة في إضعاف قوة الروسيا، وإضاعتها الوقت والمال والرجال في حروبها مع الدولة العلية، ورأت كذلك من جهة أخرى أنه يستحيل عليها أن تأخذ الآستانة وتنفذ وصية بطرس الأكبر؛ لما تلاقيه في القيام بهذا الأمر من قبل الدولة العلية ومن دول أوروبا نفسها، وفي مقدمتها فرنسا حليفتها؛ ولذا فضلت الروسيا الاهتمام بمسائل الشرق الأقصى ومسالمة تركيا، وقد تحقق العثمانيون من هذه المسالمة في المسألة الأرمنية وفي مسألة الحرب الأخيرة.

وقد شهد السياسيون بأنه لا يوجد في تاريخ علاقات الدولة العلية مع الروسيا للمسالمة والصداقة مثل التلغراف الذي بعث به جلالة القيصر إلى جلالة السلطان يرجوه فيه أن يصدر أمره بإيقاف الحرب مع اليونان.

أما الدولة التي أصبحت في هذه السنين الأخيرة حاملة لراية العدوان ضد الدولة العلية، فهي إنكلترا عدوة الإسلام، وعدوة مصر.

فلقد قضت هذه الدولة أزمانًا طويلة ظهرت فيها للدولة العلية بمظهر الصديقة الوفية والحليفة الأمينة، وكانت تكسب من هذه الصداقة الكاذبة بقدر ما كانت تخسر تركيا؛ فإن لإنكلترا مصلحة عظمى دائمية في أن الروسيا تحارب تركيا لتضعف قواها، فلا تستطيع مطاردة الإنكليز في الهند والشرق الأقصى، ولتضعف تركيا فتستولي إنكلترا على شيء من أملاكها بحجة الدفاع عنها، وفوق ذلك فإن إنكلترا كسبت كثيرًا من صداقة تركيا لها — بقطع النظر عن المكاسب المادية والتجارية والصناعية — بما كانت تنيلها هذه الصداقة من النفوذ عند المسلمين، ومن السلطة التامة على مسلمي الهند. فلقد كاد أهل الهند يطردون الإنكليز من بلادهم في ثورة سيباي الشهيرة لولا صداقة تركيا لهم، هذه الصداقة التي حملت المرحوم السلطان «عبد المجيد» على إصدار منشور لمسلمي الهند أمرهم فيه بالركون إلى السكينة والهدوء وعدم القيام بإحداث الاضطرابات ضد حكومة صديقته «ملكة بريطانيا».

فإذا كان الإنكليز في الهند عاشوا طويلًا آمنين شر المسلمين، فما الفضل في ذلك إلَّا للدولة العلية، وها هم اليوم يدعون أن تركيا «عدوتهم الحالية» وصديقتهم القديمة أوعزت إلى الهنود المسلمين بالثورة، فثاروا ولا يزالون ثائرين، وسواء كانت ثورتهم بإيعاز من تركيا — وهو ما لا أظنه لأن الثورة قائمة بها قبائل معلومة، ولو كانت الدولة العلية أوعزت بالثورة لثار مسلمو الهند جميعًا — أو بإيعاز من ضمائرهم ونفوسهم، فدعواهم هذه دليل ساطع على أنهم استفادوا كثيرًا من تظاهرهم بالصداقة للدولة العلية، وإن إشهارهم العداوة لتركيا لا يضر إلَّا بهم.

ولقد أدركت الحكومة العثمانية من يوم أن تولى أمور الدولة العلية جلالة السلطان الأعظم «عبد الحميد الثاني» أن إنكلترا خداعة في ودها، وأنها تضر بمن تتظاهر لهم بالصداقة أكثر مما تضر بأعدائها الظاهرين؛ فقد أخذت من الدولة العلية قبرص بدعوى مساعدتها ضد الروسيا في مؤتمر برلين، ثم دخلت المؤتمر وخرجت منه بدون أن تستفيد تركيا من هذه المودة الإنكليزية الكاذبة أقل فائدة، بل إن الدولة العلية فقدت في هذا المؤتمر ما لم تفقده قط في مؤتمر آخر.

وقد شعرت الروسيا كذلك بعد حرب سنة ١٨٧٧ أنها لا تستفيد من حروبها مع تركيا ما يعوض عليها خسائرها العظيمة في هذه الحروب، ففضلت سياسة مسالمة الدولة على سياسة العداء، فكان هذا التاريخ مبدأ للشقاق والعداوة بين الدولة العلية وبين إنكلترا، وقد ظهرت هذه العداوة بمظهرها التام الواضح بعد احتلال الإنكليز لمصر؛ حيث رأى جلالة السلطان في هذا الاحتلال وفي خطة الإنكليز فيه وفي خداعهم لجلالته ما علم منه أن الإنكليز لا صديق لهم، وأنهم أكبر أعداء تركيا، وأن صداقتهم القديمة المزعومة لم تكن إلَّا حجابًا ستروا وراءه عداوتهم المرة وأطماعهم الشديدة ضد دولة آل عثمان.

ومن ذلك الحين عملت إنكلترا على دس الدسائس ضد السلطنة السنية في كل أنحاء الأملاك المحروسة، فهاجت الأرمن والكريديين والدروز، ولكن دسائسها لم تأتِ بغير نتيجة واحدة، وهي إضعاف هذه العناصر التي اتخذتها إنكلترا آلات لها وإظهار قوة الدولة العلية أمام الملأ كله.

وقد علمت اليوم كل العناصر على اختلافها، وجميع الأمم صغيرة كانت أو كبيرة، أن عدو اليونان الحقيقي ليس بتركيا التي صبرت على رذائلها طويلًا، بل إنكلترا التي شجعتها على الحرب، وساعدتها في السر والجهر، وملأت مقدونيا من الأسلحة والدنانير الإنكليزية مؤملة قيامها في وجه تركيا أثناء الحرب، فخابت آمالها، وحبطت مساعيها، ورجعت مخذولة خذلانًا سياسيًّا دونه خذلان اليونان الحربي.

وقد حسب الإنكليز أنهم يبلغون متمناهم من مصر ووادي النيل، ويضعون بذلك أيديهم على الحجر الأساسي للخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، ولكن ما لا ريب فيه هو أن نصيبهم في مصر الفشل عاجلًا أو آجلًا، ولا يغرنَّ القراء سيرهم الحالي في بلاد وادي النيل، فإنما هو نتيجة ضعف رجال مصر الذين سُلِّمت إليهم مقاليد الأمور، واستيلاء الإنكليز على الإدارات المصرية لا يؤثر مطلقًا على جوهر المسألة نفسها، وحيث فشل نابليون الأول يفشل الإنكليز ولا محالة.

وقد علمت إنكلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال ويكون ما دام قائمًا سببًا للعداوة بينها وبين الدولة العلية، وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقًا الاتفاق مع إنكلترا على بقائها في مصر؛ إذ إن مسألة مصر بالنسبة لتركيا والخلافة تعد مسألة حيوية؛ ولذلك رأت إنكلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية في طريقها، ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة تضمن لها البقاء في مصر ووضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية، ونقل الخلافة الإسلامية إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنكليز، وبمثابة آلة في أيديهم؛ ولذلك أخرج ساسة بريطانيا مشروع الخلافة العربية مؤملين به استمالة العرب لهم، وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولكن العرب وغير العرب من المسلمين أرشد من أن يخدعهم الإنكليز بعدما مر من الأمور، وما جرى من الحوادث؛ ولذلك أيضًا كنت ترى الإنكليز ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمنية مشروع تقسيم الدولة العلية حماها الله جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب، أي السلطة العامة على المسلمين.

والذي يُبغِّض الإنكليز على الخصوص في جلالة السلطان الحالي هو ميله الشديد إلى جمع كلمة المسلمين حول راية الخلافة الإسلامية، وهو أمر يحول بينهم وبين أسمى أمانيهم، أي إيجاد الشقاق بين المسلمين وبعضهم وخروج بعض المسلمين على السلطنة العثمانية، ومن ذلك يفهم القارئ سبب اهتمام الإنكليز بالأفراد القليلين الذين قاموا من المسلمين ضد جلالة السلطان الأعظم، وسبب مساعدتهم لهم بكل ما في وسعهم.

وإنكلترا تعلم علم اليقين أنها لو استطاعت أن تجعل خليفة المسلمين تحت وصايتها، أي آلة لها، يكون لها سلطة هائلة ونفوذ لا حد له في سائر أنحاء المعمورة، فإنها تستطيع عندئذ — لا قدر الله — أن تنفذ رغائبها عند المسلمين التابعين لها وغير التابعين بواسطة هذا الخليفة؛ ولذلك فهي بعملها على هدم السلطنة العثمانية تعمل على تحقيق غرض بعيد هو أكبر أغراضها، وأمنية سياسية دونها كل الأماني.

وكما أن مشروع الاستيلاء على السودان بواسطة مصر هو من المشروعات القديمة عند الإنكليز، ويثبت ذلك إرسال غوردون وسامويل باكر إلى آخر السودان بواسطة حكومة مصر التي أحسنت الظن بالإنكليز، فإن مشروع جعل الخلافة الإسلامية تحت وصاية الإنكليز وحمايتهم هو مشروع ابتكره الكثيرون من سواسهم منذ عهد بعيد، وقد كتب كتَّاب الإنكليز في هذا الموضوع ومنهم المستر بلانت المعروف في مصر. فقد كتب كتابًا قبل احتلال الإنكليز لمصر في هذا المعنى سماه «مستقبل الإسلام»، وأبان فيه أغراض حكومة بلاده، وأماني الإنكليز في مستقبل الإسلام، وقد كتب في فاتحة كتابه ما نصه:

لا تقنطوا فالدر ينثر عقده
ليعود أحسن في النظام وأجملا

أي إن هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين، بل إن هذا العقد العثماني يُنثَر ليعود عقدًا عربيًّا أحسن وأجمل.

ولكن ما لم يقله المستر بلانت هو أن قومه يريدون هذا العِقد العربي في جِيد بريطانيا لا في جِيد الإسلام.

ويبين المستر بلانت في كتابه هذا قوة العالم الإسلامي، وكيف أن المدير لأموره يكون قويًّا واسع السلطة، ويبين كذلك مشروع نابليون الأول، وكيف أنه أراد أن يكون خليفة المسلمين، وأن يقود قواهم، وهو يريد بذلك إلفات أنظار قومه إلى مشروع هم القائمون به الآن، ويبين المستر بلانت أيضًا «أن مركز الخلافة الإسلامية يجب أن يكون مكة، وأن الخليفة في المستقبل يجب أن يكون رئيسًا دينيًّا، لا ملكًا دنيويًّا.» أي إن الأمور الدنيوية تترك لإنكلترا تدبر أمورها كيف تشاء! ويعقب المستر بلانت ذلك بقوله: «إن خليفة كهذا يكون بالطبع محتاجًا لحليف ينصره ويساعده، وما ذلك الحليف إلَّا إنكلترا!» وبالجملة فحضرة المؤلف لكتاب مستقبل الإسلام يرى — وما هو إلَّا مترجم عن آمال أبناء جنسه — أن الأليق بالإسلام أن ينصب إنكلترا دولة له، ولم يبقَ للمستر بلانت إلَّا أن يقول بأن الخليفة يجب أن يكون إنكليزيًّا!

يتضح جليًّا للقارئ مما قدمناه أن ليس للسلطنة العثمانية، وبالطبع للخلافة الإسلامية في هذه الأيام عدو يجاهر بالعدوان لها، ويعمل على دك أركانها، وتقويض بنيانها غير إنكلترا، ويمكن تعريف المسألة الشرقية اليوم بأنها مسألة النزاع القائم بين إنكلترا وبين بقية دول أوروبا بما فيها الدولة العلية؛ فإن معاداة إنكلترا للدولة العلية هي في الحقيقة معاداة لكل المسيحيين ولكل المسلمين، أي للعالمين الغربي والشرقي.

وإن واجب أوروبا أمام هذه الحرب السياسية حرب الدسائس والأكاذيب القائمة بها إنكلترا ضد الدولة العلية واضح جلي، فمحتم عليها إذا كانت تعمل للمحافظة على السلام العام وعلى أرواح البشر أن تحبط مساعي إنكلترا في الشرق، وأن تقف لها بالمرصاد، ومن العدل أن نقول: إن حكومتي فرنسا والروسيا قامتا في المسألة الأرمنية بإبطال الدسائس الإنكليزية، وإحباط مساعي سواس إنكلترا، وأظن أنه لم يغب عن ذهن إنسان أن إنكلترا عرضت رسميًّا على الدول الأوروبية خلع جلالة السلطان الأعظم فرفضت الروسيا وفرنسا طلب إنكلترا قبل كل الدول، وقد قامت ألمانيا في الحرب الأخيرة بواجب أوروبا كلها ضد إنكلترا؛ فتم للدولة العلية الظفر والنصر وتم لبريطانيا الفشل والخذلان.

أما واجب العثمانيين والمسلمين أمام عداوة إنكلترا للدولة العلية فبيِّن لا ينكره إلَّا الخونة والخوارج والدخلاء؛ فواجب العثمانيين أن يجتمعوا جميعًا حول راية السلطنة السنية، وأن يدافعوا عن ملك بلادهم بكل قواهم، ولو تفانى الكثيرون منهم في هذا الغرض الشريف حتى يعيشوا أبد الدهر سادة لا عبيدًا، وواجب المسلمين أن يلتفوا أجمعين حول راية الخلافة الإسلامية المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح؛ ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم، وفي بقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية المقدسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤