المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر

ليس غرضنا أن نأتي في هذا الفصل على تاريخ الدولة العلية في القرن الحاضر، بل على أشهر وأهم أزمات المسألة الشرقية؛ فلذلك نهمل الحوادث الصغار، ونفصل الأزمات الشداد أزمة بعد أخرى.

(١) الأزمة الأولى: استقلال اليونان

كل من قرأ تاريخ الدولة العلية يعلم أن المرحوم السلطان الغازي «محمد الثاني» لما فتح الآستانة أمن الناس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم على أموالهم وأرواحهم ودياناتهم وتقاليدهم، حيث اتبع أوامر الشرع الشريف ونشر راية الاعتدال الديني، فنال اليونانيون من هذه المعاملة الحسنة ما لم يكن يخطر لهم على بال من السعادة والرفاهية، ورأوا من سلطان آل عثمان إكرامًا لهم واحترامًا لدينهم ولرجال دينهم، حتى إنه لما انتخب بطريرقهم بعد فتح الآستانة قال له المرحوم السلطان محمد الثاني: «كن بطريرقًا لليونان والله يحميك، وفي كل الأحوال والظروف اعتمد على مساعدتي، وتمتع بكل الامتيازات التي كانت لأسلافك من قبل.»

وقد كانت هذه المعاملة الإسلامية فريدة في نوعها، غريبة في بابها، فإن الكاثوليكيين أنفسهم كانوا يعاملون اليونانيين بالاحتقار والازدراء، ويستحيل على المؤرخين أن ينكروا على محمد الفاتح وعلى المسلمين هذه الصفات العالية والمكارم الجليلة التي ظهرت في الآستانة بعد الفتح كشمس تبدد الظلمات، وآية من أكبر آيات الدين الإسلامي الباهر.

وقد أدى هذا الاعتدال الديني إلى نمو التجارة في أيدي اليونانيين، فصاروا بفضل الدولة العلية وبفضل تساهلها الديني أغنياء أثرياء عائشين في أتم الراحة والهناء، ولكنهم لم يحفظوا للدولة العلية عهدًا ولم يرعوا لها نعمة، بل أنكروا المعروف والجميل، وصاروا في الصف الأول من أرباب الدسائس العاملين ضد السلطنة العثمانية، وأضر الآلات لأعداء الدولة في قلبها.

وقد بلغت ثقة الدولة العلية برعاياها على اختلاف دياناتهم وأجناسهم وحسن نواياها نحو المسيحيين المحكومين بها أنها عينت لمقاطعات صربيا والأفلاق والبغدان حكامًا من اليونانيين مؤملة أنهم يخدمونها بصدق وأمانة كما أكرمتهم وأكرمت أمتهم، فكانوا الأعداء الألداء في ثياب الأصدقاء الأمناء، وعوضًا عن أن يقوموا بالواجب عليهم نحو دولة رفعتهم إلى أسمى المناصب استعملوا سلطتهم ونفوذهم في تهييج أهالي هذه البلاد ضد الدولة العلية، وإلقاء بذور الثورات والاضطرابات فيها.

•••

وقد أسس المهيجون من اليونانيين جمعية في بلاد الروسيا اسمها «هيتري» — أي الجمعية اليونانية الوطنية — غرضها: استقلال اليونان والانتقام من الدين الإسلامي، وقد ساعد القيصر هذه الجمعية كل المساعدة؛ فأخذت تنمو وتنتشر، وأخذ الكثير من أعضائها يقتلون ويسلبون باسمها وبدعوى المطالبة باستقلال اليونان، وكان «إسكندر إيبسيلانتي» و«ديمتريوس إيبسيلانتي» أهم أعضاء الهيتري في خدمة القيصر الشخصية، وكان «كابوديستريا» زعيم الثورة اليونانية أحد وزراء القيصر إسكندر الأول.

وكان ابتداء الثورة اليونانية دخول «إيبسيلانتي» في المقاطعات اليونانية في عام ١٨٢١ محرضًا على الثورة بلاد اليونان كلها، وقد اعتبر هذا العمل بإيعاز من الروسيا، وكان من البديهيات أن «إيبسيلانتي» الذي كان ضابطًا بمعية القيصر عمل ما عمل بأمر القيصر أو برضاه، وقد أتى «إيبسيلانتي» نفسه بما يدل على ذلك حيث كتب في دعوته للثورة: «وإذا اعتدى أحد من الأتراك على أراضي بلادكم فلا تخشوا له بأسًا؛ فإن دولة عظيمة مستعدة لمعاقبة المعتدين عليكم.»

ولم يكن بين دول أوروبا دولة تعارض هذه الحركة اليونانية مثل دولة النمسا، فإنها كانت تحيط الباب العالي علمًا بكل دسائس ثورويي اليونان، وبكل تشجيعات الروسيا لهم وأعمالها السرية.

أما إنكلترا فكانت خطتها في بادئ الأمر التظاهر بمساعدة تركيا ضد الروسيا، ومقاومة الحركة اليونانية أشد المقاومة، ولكن الدولة العلية أظهرت شكها في نوايا بريطانيا؛ لعلمها بطمعها وجشعها وكراهتها الحقيقية للإسلام. خصوصًا وأن سوء قصدها كان قد ظهر باستيلائها على الجزائر اليونانية، وقد جاءت الأيام مبرهنة بأسطع برهان على أن الدولة العلية كانت مصيبة في سوء ظنها بالإنكليز، فقد انقلبت إنكلترا في مسألة الثورة اليونانية ضد الدولة العلية كل الانقلاب، وغيرت كراهتها الأولى لليونانيين بالمحبة العلنية والمساعدة الظاهرة.

ولما علمت النمسا بأعمال الروسيا ومساعداتها لليونانيين بذل وزيرها الأول «مترنيخ» الشهير أقصى جهده لدى القيصر إسكندر الأول؛ ليعيد السكون إلى بلاد اليونان، ويأمر الثورويين بعدم القيام في وجه حكومة المرحوم السلطان محمود، والامتثال والخضوع لأوامر الدولة، وقد أظهر مترنيخ للقيصر إسكندر الأول مقدار الخطر الذي ينتج عن اشتعال نار الفتنة والثورة في بلاد اليونان مبينًا له أن تعضيده لثورة اليونان يكون داعيًا لانتشار الثورة في كل أنحاء أوروبا ضد الملوك، فأثرت هذه الأقوال على القيصر إسكندر الأول، وأعلن رسميًّا غضبه وسخطه على إيبسيلانتي، ووجه ملامه لليونانيين ناصحًا لهم بالسكينة والانصياع لحكم الدولة العلية.

ولكن هذه التصريحات العلنية لم تكن إلَّا ترضية وقتية للنمسا التي كانت مضطربة الأحوال؛ لاشتغالها بقمع الثورة الإيطالية التي قامت وقتئذ في وجهها، ولم يرجع القيصر إسكندر الأول عن عزمه؛ بل صار يتظاهر علنًا بمحبة السلم والميل إلى الإنصاف مع الدولة العلية، وهو يكمن لها في الباطن السوء والضرر منتظرًا الفرص المناسبة.

أما إيبسيلانتي فقد هزمته الدولة هو ورجاله شر هزيمة، واضطر إلى الهروب في ترانسلفانيا حيث قبضت عليه النمسا وسجنته لغاية عام ١٨٢٧، وقد أسس ثوار اليونان بالرغم عن سقوط إيبسيلانتي في قبضة النمسا مجالس أهلية ومجلسًا عموميًّا لهم كبرلمان يوناني.

•••

وما انتشر في أوروبا خبر قيام اليونانيين بالثورة ضد الدولة العلية حتى تظاهر الكثيرون من الكتاب والشعراء بتعضيدهم والانتصار لثورتهم ضد المسلمين، وأول من جاهر بالانتصار لليونانيين وبالنداء باستقلالهم هو اللورد «بيرون» الشاعر الإنكليزي. فقد هاجر من بلاده، وعاش غريبًا ينشد مجد اليونان السالف، وينادي أوروبا بمساعدة أبناء اليونان ونصرتهم، وقد أثرت كتاباته وأشعاره في أغلب بلاد أوروبا، وجرى على سنته الكثير من شعراء فرنسا وكتابها، وفي مقدمتهم «فيكتور هوجو» الشاعر الشهير، وأسست اللجان المختلفة في فرنسا وإنكلترا لمساعدة اليونانيين بالمال والرجال، وسافر المتطوعون من كل بلد في أوروبا ومن كل جانب.

وقد قامت الحركة كلها في بلاد أوروبا باسم معارف اليونان وأنوارها القديمة وباسم الدين المسيحي، فكنت تجد الكتاب الذين لا دين لهم ولا عقيدة في أفئدتهم يدافعون عن اليونانيين باسم الدين المسيحي، ويوجهون إلى الإسلام أقبح السباب وأدنى الشتائم.

وكان أنصار اليونانيين يحسبونهم كآبائهم الأولين متى نالوا حريتهم واستقلالهم؛ بزغت شموس المعارف والآداب والفلسفة من بلادهم، وعادت أتينا مشرقًا لأنوار الحكمة والعرفان، والذين كانوا ينتصرون لليونانيين مؤملين هذا الأمل كانوا إما متعصبين في الدين ضد المسلمين يحملهم بغضهم على اعتقاد فاسد كهذا، أو كانوا سليمي النية، فلقد برهن اليونانيون بعد استقلالهم على أن بينهم وبين اليونانيين القدماء بونًا بعيدًا وفرقًا عظيمًا.

ولا ريب أن أولئك الذين كانوا ينتظرون شروق أنوار الحكمة والفلسفة العالية من أبناء أتينا الحاليين تحسروا طويلًا، واندهشوا منتهى الاندهاش من خطئهم في آمالهم هذا الخطأ الكبير، واعتدائهم بغير حق على السلطنة السنية التي كانوا يقولون عنها إنها المانعة لترقي اليونان، والواقفة في سبيل شروق شموس الحكمة والعرفان من «أتينا».

ومن الغريب أن أغلب أنصار اليونانيين إن لم نقل كلهم كانوا يجهلون تمام الجهل بلاد اليونان وأهلها، على أنهم لو كانوا أرسلوا بعض الوفود لزيارة هذه البلاد والوقوف على حقيقتها وحقيقة أهلها، لكانوا أدركوا أنهم مخطئون خطأً كبيرًا، وأن آمالهم البعيدة حلم لا حقيقة له، ويستحيل أن يكون له وجود.

وقد أنصف بعض الكتاب الأوروبيين الدولة العلية، وأظهروا للعالم المتمدن الحقيقة التي لا مراء فيها، وفضحوا أعمال اليونانيين حتى خجل أنصارهم، وفي مقدمة هؤلاء الكتاب الفضلاء «ألفريد لميتر» الفرنساوي، فقد وضع كتابًا على استقلال اليونان، كشف فيه الغطاء عن أمور عديدة تشرف الدولة العلية وترفع من مقامها أمام التاريخ، وتشهر أكاذيب أنصار اليونان الجمة.

ومن المستندات الرسمية العديدة التي أوردها حضرة المؤلف السالف الذكر؛ عريضة رفعها جماعة من الفرنسويين كانوا سافروا إلى بلاد اليونان لنصرة الثائرين فيها إلى أميرال البحرية الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط يسألونه فيها أن يردهم إلى فرنسا، وهذه العريضة تترجم للقارئ عن الحقيقة، وعن أكاذيب أنصار اليونان، وقد جاء فيها: «وقد وصفوا لنا اليونانيين قبل سفرنا من فرنسا بشجعان وأبطال يفوقون آباءهم الأولين شهامةً ومجدًا، فما وجدنا هنا إلَّا رجالًا يحملهم حب المال على حب الجرائم، وأناسًا لا يزالون في ظلمات الجهالة والوحشية.»

وقد كتب القومندان «بوجول» في مذكراته عن ثورة اليونان بتاريخ ٢٢ ديسمبر سنة ١٨٢٧ ما تعريبه:

وقد جئت الشرق وأنا من أكبر أنصار هذه الأمة «اليونانية» ولم يتغير اعتقادي فيها وإحساسي نحوها إلَّا بالتجربة؛ فهي مجردة عن الوطنية والشجاعة والاتحاد، وهم كل رئيس من رؤسائها أن يكون غنيًّا، وقد بلغت الفوضى حدها في بلاد اليونان، وأغلب أعضاء حكومتها — وكلهم محتقرون أشد الاحتقار — معروفون من الجميع بأنهم المسلحون للصوص البحار، ولولا تداخل الدول لخضع اليونانيين جميعًا هذا العام، واعترافًا بالجميل نحو أمم أوروبا لا يزال اللصوص اليونانيون يعتدون على تجارة هذه الأمم نفسها!

وكتب الأمير «ريني» أميرال الأساطيل الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط من أزمير بتاريخ ٢٣ مارس سنة ١٨٢٦ ما تعريبه:

لقد تغش أوروبا بشأن كل ما يختص بثورة اليونانيين ضد تركيا؛ فقد تنقص المستندات الرسمية، وليس من عادة الأتراك أن ينشروها، والتقارير اليونانية ليست إلَّا مراسلات خصوصية تجسم فيها الأمور وتمر على «زانت» و«كورفو» والنمسا قبل أن تلونها الجرائد في لوندرة وباريس بالألوان الساطعة البهية، ولكنها في أغلب الأحيان ألوان كذابة، ولا شك أن هذا هو اللازم للتأثير على أفكار العالم، ولكن هذا لا يكفي لإنارة أفكار الذين يقودون زمام الأمور.

وقد انتهز اليونانيون فرصة قيام «علي باشا» والي يانيه ضد الدولة العلية؛ لإحداث الاضطرابات والهيجان في كل أنحاء بلاد اليونان، فقد طغى هذا الباشا، وعصى الدولة العلية، وأراد الاستقلال والخروج من تحت السلطة الشرعية؛ فصار يعمل لاستمالة اليونانيين إليه ضد الدولة العثمانية، ولكن أطماعه الشديدة وأخلاقه الشرسة أكثرت من أعدائه بالرغم من تملقه لليونانيين ونفاقه.

وسبب عصيانه على الدولة: أن إسماعيل باشا أكبر أصدقائه وأول المقربين إليه وقع بينه وبينه خلاف شديد أدى إلى هروب إسماعيل باشا إلى الآستانة حيث تعين فيها بالحرس السلطاني، وأبلغ رجال الدولة أعمال هذا الرجل وسوء نواياه، فقررت الدولة عزل ابنه الذي كان حاكمًا لتساليا؛ فاغتاظ علي باشا من ذلك وأرسل أحد أتباعه من الألبانيين إلى الآستانة لقتل إسماعيل باشا، وبالفعل قتله هذا الألباني عند ذهابه للصلاة.

وقد علمت الدولة وقتئذ بأن الإنكليز يشجِّعون علي باشا على رفع لواء العصيان ضد الدولة العلية، ووقفت على كل مراسلاته مع اليونانيين، فامتلأت غيظًا منه، واعتُبِر خائنًا للدولة والملة، وأصدر شيخ الإسلام منشورًا للمسلمين باعتباره خارجًا على الدولة كافرًا بنعمتها.

وقد أمرته الدولة بالحضور إلى الآستانة في ظرف أربعين يومًا، فخالف أمرها، وصمم على معاداتها، والقيام في وجهها، وصار يجتهد في استمالة المسلمين إليه، فلما لم يفلح لأنهم جميعًا اعتبروه خائنًا وخارجًا من دين الإسلام مال إلى اليونانيين، وصار يتقرب منهم ويستنصر بهم ضد الدولة، ويوزع الأموال عليهم، ولما أراد الانتفاع بهذا الود سألهم بتاريخ ٢٤ مايو سنة ١٨٢٠ تكوين جيش ينصره ضد الدولة، ولكن اليونانيين الذين كانوا يعرفون أخذ الأموال وسماع المدائح وبدائع الأقوال من هذا الطاغية كانوا يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن تقديم الأسلحة والرجال، فلم يجيبوا للعاصي طلبًا، ولم يلبوا له نداءً؛ بل بقي يناديهم وهم صامتون حتى اقترب منه الجيش العثماني، فلم يجد له مخرجًا من ورطته إلَّا حرق مدينة «يانينا» والالتجاء إلى جزيرة كان بنى فيها قلعة حصينة جمع فيها كل ذخائره وأمواله.

وقد كان يقود الجيش العثماني ضده خورشيد باشا حاكم المورة، فوصل بمهارته وحكمته إلى دخول القلعة التي كان ملتجئًا إليها هذا المتمرد، ولما لم يجد علي باشا لنفسه سبيلًا غير التسليم، سلم نفسه لخورشيد باشا الذين أنفذ أمر الدولة بقتله عقابًا على تمرده وعصيانه، وفي أوائل فبراير سنة ١٨٢٢ أرسل برأسه إلى الآستانة؛ لتُعلَّق في مكان عام إنذارًا لكل عدو للدولة ولكل خائن.

•••

وقد انتهز اليونانيون فرصة عصيان علي باشا والي يانينا، وأخذوا يسلبون وينهبون في كل أنحاء اليونان، وجعلوا المورة منبع الثورات والاضطرابات؛ لخلوها من العدد الكافي من الجنود العثمانية، وفي ٥ مارس ١٨٢١ دخل من يُدعى «كارافيا»، وهو يوناني تعلم الجندية في الروسيا في ميناء «جالاتز» — وهو ميناء من رومانيا على الدانوب — وهجم على قلعتها برجاله العديدين حيث نهبوا وسلبوا وقتلوا من في المدينة كلها، وأسالوا الدماء وخربوا المنازل، وقد أشاع اليونانيون عندئذ في كل أصقاع العالم أن ما أتوه في هذا الميناء الصغير الذي لا يكاد يوجد به جنود يعد انتصارًا كبيرًا على الدولة العثمانية وعملًا عظيمًا، وهاج كذلك أعضاء الهيتري بمدينة «ياسي» واحتالوا على حرسها، وكان مكوَّنًا من خمسين رجلًا، فأفهموهم أن الأهالي عازمون على الثورة وقطع دابر الأتراك، ولكنهم إن تجردوا من أسلحتهم وبنادقهم توطد الأمن في المدينة، وعادت الأمور إلى السكينة والسلام، فاغتر رئيس الحرس، وظن أن أعضاء الهيتري صادقون في أقوالهم، فأجاب طلبهم وأمر الجنود بالتجرد من السلاح والذخائر الحربية، فقابل اليونانيون هذا العمل بأن نشروا لواء النهب والسلب في المدينة، ورفعوا راية الفتك بالمسلمين، فقتلوا الكثير منهم بلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، ولما جاء «إيبسيلانتي» زعيم جمعية الهيتري استحسن هذه الفظائع والمنكرات، ووافق عليها باسم الانتقام من الإسلام والمطالبة بالحرية.

وقد كانت جمعية الهيتري تهدد الأغنياء من اليونانيين بالقتل إن لما يساعدوها بالمال — وقد اتبعت هذه الخطة نفسها جمعية ثوار الأرمن مع أغنياء الطائفة الأرمنية — وحصل أن «إيبسيلانتي» المذكور لما جاء مدينة «ياسي» علم بوجود يوناني عظيم الثروة اسمه «بول أندرياس» فألقى القبض عليه بدعوى أنه اختلس أموالًا كثيرة من أموال الهيتري، فأدرك الرجل أن هذه التهمة ألقيت عليه ليقدم لإيبسيلانتي شيئًا من المال، ففعل ذلك وكان في فعله نجاته.

وقد أحدثت هذه الفظائع التي جرت في «ياسي» في كل بلاد اليونان فرحًا شديدًا، واشتاقت نفوس أهاليها للسلب والنهب، وذبح المسلمين باسم الحرية والدين!

وقد يجد الإنسان في بعض الكتب المنتصر أصحابها لليونان فصولًا طويلة على هذه المذابح المختلفة والجرائم العديدة، ومن هذه المؤلفات أشهرها مؤلف المسيو «بوكفيل» المسمى «محطة الشرق» فقد جاء بالرغم عن شدة تعصب المؤلف ضد المسلمين بحقائق يخجل منها كل إنسان يحترم الإنسانية ويحبها.

ولما كانت المورة كما قدمنا منبعًا للثورات والاضطرابات، حاصر اليونانيون مدينة «مونبازيا» فقاوم أهلها الحصار طويلًا حتى فقدوا كل الذخائر والمأكولات، وكان يقود اليونانيين وقتئذ «ديمتريوس إيبسيلانتي» فاستعمل الخداع للاستيلاء على هذه المدينة، وأعلن أهلها بأنه يحترم أملاكهم وأموالهم ويحترم قبل كل شيء أرواحهم إذا سلموا المدينة، وأنه يساعدهم على الرحيل منها إذا أرادوا ذلك. فصدق أهل هذه المدينة الشقية كلام «إيبسيلانتي» وسلموا القلعة والأسلحة، فدخل اليونانيون المدينة وأول شيء قاموا به هو أنهم لم يحترموا لرئيسهم قولًا ولا عهدًا؛ بل هتكوا الأعراض، ونهبوا الأموال، وقتلوا النساء والأطفال قبل الرجال.

وإنه ليسهل على القارئ أن يتمثل قومًا لا سلاح بأيديهم ولا قوة تحميهم، يهجم عليهم جماعة من أشرار اليونانيين وهم متسلحون بأنواع السلاح، ويتمثل مناظر المعارك الدموية التي تجري بينهم، ودفاع الموت الذي يدافع به المسلمون عن نسائهم وأطفالهم.

وقد كتب الكونتر أميرال الفرنساوي «هالجان» في عام ١٨٢١ تقريرًا عن دخول اليونانيين إلى «مونبازيا» جاء فيه:

وقد وجد في قلعة مونمبازيا ثلاثمائة يوناني لم يكتفِ الأتراك أيام الحصار بمعاملتهم بالحسنى، بل عاملوهم كإخوتهم الحقيقيين أثناء المجاعة، واحترموا كنائسهم كل الاحترام، ولكن يونانيو المورة لم يعاملوا الأتراك بنفس هذه المعاملة عندما أخذوا المدينة، بل أتوا بأشنع القبائح وأفظعها في مساجد الأتراك.

أما المسجونون فقد أُرسِلوا بغير زاد إلى «كاسوميس»، ووُجِدت على الأرض العائلات الإسلامية التعسة تنازع نزاع الموت من الجوع والعطش، وهي نائمة على الأحجار، وحوالي الجزيرة وجدت جثث القتلى، وبالرغم من ذلك كله فقد أراد اليونانيون ضرب هاته العائلات بالرصاص، ولم تنجُ من أيديهم إلَّا بفضل المسيو «دي بونفور» الذي هدد اليونانيين، وأخذ كل الأتراك الموجودين بهذه الجهة في سفينة مخاطبًا ضباط اليونانيين بأن ما عملوه هم ورجالهم لا يأتي به إلَّا لصوص البحار!

وهذا التقرير وحده يشهد بأبدع بيان على أن أنصار اليونان في أوروبا كذبوا على العالم كله الأكاذيب الشنيعة، وأن الجرائم والفظائع الدموية التي جرت في بلاد اليونان لم يأتها إلَّا اليونانيون ضد المسلمين.

وإن الفيلسوف ليقف مندهشًا أمام هذه الدنايا والجرائم، ويعجب كيف أن شعراء أوروبا وكتابها كانوا ينتصرون لقوم لا تتغذى أرواحهم إلَّا بذبح الأبرياء، ولا تستريح نفوسهم إلَّا إلى الجرائم. فهل كان ينتظر شعراء أوروبا وكتابها من هؤلاء القوم الذين كتب عنهم ضباط أوروبا نفسها، وبعض من أفاضل كتابها ما قرأه القارئ أن يعيدوا لربوع اليونان مجدها السالف، وأن يردوا للوجود أتينا مشرقًا لأنوار الحكمة والعرفان؟!

وقد استولى ثوار اليونان في ١٩ أغسطس سنة ١٨٢١ على مدينة «ناورين» الشهيرة، وأتوا فيها من الفظائع ما لم تره عين ولم تسمع به أذن.

وكتب عن هذه الفظائع القس الأرثوذكسي «فرانتزيس» ما ترجمته:

وكانت البنات التي تريد الهروب من أيدي القتلة تجري نحو شاطئ البحر وعلى أجسادها أثر الرصاص، ومع ذلك كانت تُرمى وتُقتَل، وكانت النساء يحمل أكثرهن الأطفال على الذراع فيمزق المعتدون ملابسهن، والتي كانت تلقي بنفسها إلى البحر لتستر عورتها كانت تُرمى كذلك بالرصاص وتُقتَل، وقد هُشِّمت رءوس بعض الأطفال الذين اختطفوا من أمهاتهم، وألقى اليونانيون في عميق البحار بناتًا وأطفالًا لم يتجاوز أغلبهم الرابعة أو الخامسة من العمر كأنهم قطع من لحوم الكلاب.

وفي ٥ أكتوبر نفسها استولى ثوار اليونان بعد حصار طويل على مدينة «تريبوليتزا»، وإنه يستحيل على كاتب شرقي أو غربي مهما كانت بلاغته وقوة إنشائه وعظيم تأثيره أن يصف المذابح الهائلة البهيمية — أو التي لا اسم لها — التي أتاها اليونانيون، بل يكفي القارئ أن يعلم أن اليونانيين ذبحوا في «تريبوليتزا» ثمانية آلاف من الرجال، وفوق ذلك من النساء، وأن المذابح استمرت ثلاثة أيام كاملات، حتى فسد الجو وتغير الهواء، وانتشر من بعدها الوباء حيث عم كل بلاد اليونان، وجاء من المنتقم الجبار منتقمًا للأبرياء الشهداء من الظالمين المجرمين السافكين للدماء.

وقد كتب أغلب كتاب أوروبا إلَّا من أعماهم الغرض والتعصب على هذه الفظائع، ووصفوها كما تستحق، فقال عنها الكاتب الإنكليزي «فنلي» المشهور — وكان قد شهد الحادثة بعينه — في كتابه «تاريخ اليونان»:

إن منظر هذه المذابح لا يعادله منظر في تاريخ البشر، لا في فظاعته ولا في طول مدته.

وقد أحدثت هذه الفظائع في الآستانة تأثيرًا شديدًا جدًّا، وهاج الأهالي طالبين عقاب اليونانيين الذين لهم يد في جمعية الهيتري؛ فقام عندئذ شيخ الإسلام ونصح المسلمين بالسكينة والاعتدال، وعدم الاعتداء على الأبرياء انتقامًا من الآفكين، وسيرى القارئ أن اليونانيين كافأوا شيخ الإسلام هذا بأن قتلوه هو وعائلته بعد ندائه في صالح الأبرياء منهم.

فلما علم المرحوم «السلطان محمود» بما عمله اليونانيون بدسائس جمعية الهيتري؛ أمر بتفتيش منازل بعض اليونانيين المشتبه فيهم، وعمل تحقيق تام على كل الذين اشتبه في أمرهم؛ فأبان التحقيق إدانة الكثيرين من اليونانيين، ومنهم «موروزي» الذي كان للسلطان به ثقة عظمى، فاستعملها في تبليغ أعضاء الهيتري أسرار السياسة العثمانية، والبطريرق «جريجوريوس» فأمر السلطان بإعدام الجميع عبرة لغيرهم من المفسدين والثوار.

أما في أتينا، فقد اتبع اليونانيون خطتهم الدموية بنفسها، فأسالوا الدماء بكثرة عظيمة، ولم يرحموا أحدًا من المسلمين.

وقد انتشر بعض أعضاء الهيتري في أزمير، وجعلوا غايتهم جمع الأموال بأدنى الوسائل وأسفل الطرق، وإلقاء الخوف والرعب في نفوس اليونانيين المقيمين بأزمير. فأشاعوا الإشاعات المختلفة عن نوايا الدولة العلية نحو اليونانيين حتى اضطرت العائلات اليونانية كلها إلى المهاجرة من أزمير، فاستفاد أعضاء الهيتري من هذه المهاجرة أنهم جمعوا أموالًا كثيرة، وأوهموا أوروبا بأن سبب هذه المهاجرة ظلم الدولة العلية، وسوء معاملتها لليونانيين!

ومما يؤكد ذلك أن أحد رجال فرنسا بعث من أزمير بكتاب إلى وزير البحرية الفرنساوية في ذلك الحين جاء فيه:

وقد أشاع في كل أنحاء المدينة رجال يعملون على جمع الأموال بكل الوسائط الدنيئة الإشاعات المزعجة للخواطر بشأن نوايا الأتراك، فمتى علم الأهالي بأن أحد بواخرنا تقصد ميناء الأرخبيل تأتيني العائلات اليونانية وتسألني من كل جانب السفر على هذه البواخر، وقد يطول بي الأمر إذا أردت أن أشرح لسعادتكم كل الوسائل التي يمليها الشره وسوء القصد على رجال يعملون لجمع الأموال بدعوى الإنسانية، وأنه يجب أن يكون الإنسان هنا ليعتقد ذلك.

وقد استعملت هذه الوسائل في جهات مختلفة، وأهاج ثوار اليونان كل المسيحيين في البلاد اليونانية، إما بدعوى الدين، وإما بالتهديدات والإنذارات.

أما في الأرخبيل، فقد جعل اليونانيون همهم الأكبر السرقة واللصوصية والقتل والسلب والنهب، وقد كانت الدولة العلية استخدمت الكثيرين من أبناء اليونان في بحريتها ثقة منها بهم، كثقتها بكل رعاياها على اختلاف دياناتهم وأجناسهم. فلما قامت الثورة اليونانية ترك البحرية العثمانية كل اليونانيين الموظفين بها، فعاق ذلك الدولة العلية عن قمع الثورة في الأرخبيل كما قمعتها بعد في بلاد اليونان نفسها.

وقد قدمنا فيما سبق أن شيخ الإسلام أصدر منشورًا بالآستانة نصح فيه المسلمين بالسكينة وعدم الاعتداء على الأبرياء من اليونانيين، وقلنا إن مكافأته من هؤلاء كانت القتل، وذلك أن المرحوم السلطان «محمود» عزله من منصبه لهياج الشعب ضده، فغادر الآستانة على باخرة عثمانية قاصدًا بلاد الحجاز، ولما وصلت الباخرة الأرخبيل هجمت عليها بعض السفن اليونانية، وضايقتها من كل جانب حتى أسرتها وأخذت ما فيها من الأموال والخيرات، ولما رأى البحارة اليونانيون أن شيخ الإسلام وعائلته بين ركاب السفينة قبضوا على بناته وذبحوهن أمامه، وألقوا بهن إلى البحر، ثم قتلوا كل من بالسفينة على مشهد منه حتى صار وحده أمامهم، فقتلوه شر قتلة جزاء له على نصحه المسلمين بالسكينة وعدم الاعتداء على الأبرياء من بني اليونان!

•••

وقد أحدثت مذابح اليونان تأثيرًا شديدًا في الروسيا، فقام القس ورجال الدين يحرضون الأهالي ورجال الحكومة على أن يطلبوا من القيصر الانتقام من الهلال للصليب، وطرد الأتراك المسلمين من بلاد اليونان المسيحية، ومع أن اليونانيين هم الذين اعتدوا على المسلمين وأتوا الفظائع الجسام فإن أنصار اليونان في أوروبا ملأوا الأرض بكاءً وعويلًا، واتهموا الدولة العلية بأنها تذبح الأبرياء وتسفك الدماء، فأرسل عندئذ القيصر «إسكندر» إنذارًا للدولة العلية على يد سفيره بالآستانة المسيو «ستروجونوف» جاء فيه: «إن الباب العالي يجبر المسيحية على أن تتساءل إذا كانت تستطيع أن تنظر بغير حراك إلى إبادة أمة مسيحية، وترضى بهذه الإهانات الموجهة للدين المسيحي»، وطلب القيصر من الدولة العلية في مذكرته هذه طلبات ملؤها التهديد والوعيد.

وفي الوقت نفسه أرسل إلى الدول الأوروبية مذكرة يفسر فيها لها خطته وسلوكه، ويسألها عن الخطة التي تنوي كل واحدة منها اتباعها إذا قامت الحرب بين الروسيا والدولة العلية، وعلى أي صورة ترضى كل منها تقسيم الدولة العلية …

فكان القيصر إسكندر الأول يريد بثورة اليونان تقسيم الدولة العلية وبلوغ أمانيه من الآستانة والبوسفور.

أما الدولة العلية، فقد أجابت على إنذار الروسيا بغاية الشرف والشهامة غير خائفة تهديدها ووعيدها. فترك عندئذ سفير الروسيا الآستانة، وأُعلِن في ٨ أغسطس سنة ١٨٢١ انقطاع العلائق السياسية بين الدولتين، فلما رأت النمسا ذلك خافت النتائج الهائلة والعواقب الوخيمة التي تنتج عن الحرب بين تركيا والروسيا، واتفقت مع إنكلترا على مقاومة الروسيا ومعارضة أغراضها، واتحدت معها على منع الحرب بين الدولة العلية وبينها بكل الوسائل، فكتبت وزارة لوندرة كما كتبت وزارة فيينا إلى القيصر تعارض مشروعاته، وتعده بالتوسط مع النمسا لدى الباب العالي لنوال ترضية للروسيا، فقبل القيصر توسط النمسا وإنكلترا وأطاع نصائحهما، وبالفعل توصل ساسة النمسا وإنكلترا إلى منع الحرب بين الروسيا وتركيا.

ولا يحسبن القارئ أن توسط إنكلترا مع النمسا لمنع الحرب بين الدولة العلية والروسيا كانت تقصد به إنكلترا خدمة تركيا أو مساعدتها، بل الحقيقة أن الإنكليز لما رأوا الروسيا تسعى لجعل بلاد اليونان تحت حمايتها المعنوية واستخدامها في سبيل سياستها، قاموا في وجهها وردوها عن محاربة تركيا، ثم تظاهروا بعدئذ بنصرة اليونان أكثر منها حتى حوَّل اليونانيون أنظارهم إلى بريطانيا، وصار للإنكليز النفوذ الأول في اليونان؛ حيث شكلوا في لوندرة الجمعيات العديدة لمساعدة اليونان ونصرتهم، ولم يتأخر ماليو إنكلترا عن تسليف مبالغ طائلة لحكومة اليونان الثوروية، فصارت إنكلترا بذلك أول عدوة للدولة العلية وأول دولة منتصرة لليونان.

وفي أوائل عام ١٨٢٣ صار حاكم الجزائر اليونانية الإنكليزي الذي كان يعامل قبل هذا الحين ثوار اليونان بغاية القساوة والشدة يحميهم ويساعدهم، ويتركهم يتآمرون في جزائره ضد الدولة العلية.

ولما رأت الدولة أن الاضطرابات قد كثرت في بلاد اليونان، وأن الثورة قد عمت كل أنحائها طلبت من المرحوم «محمد علي باشا» عزيز مصر أن يمدها بالرجال، فأجاب الطلب وأرسل جيشًا جرارًا على أساطيل مصر تحت قيادة ابنه المرحوم «إبراهيم باشا».

وفي أثناء تأهب المصريين للدخول في بلاد اليونان كانت الدول الأوروبية تتناقش في سان بطرسبورغ في أمر المسألة اليونانية، ولكن إنكلترا كانت تعمل على عدم نجاح المؤتمر حتى يكون لها حرية تامة في العمل، وغاية ما أقر عليه هذا المؤتمر هو أن الدول الأوروبية تطلب من الباب العالي أن يعطي أمة اليونان شيئًا من الحرية والاستقلال في إدارتها، وقد أجاب الباب العالي على هذا الطلب بأنه لا يهب اليونانيين حقًّا جديدًا، إلَّا بعد تمام خضوعهم، وأنه لا يقبل مطلقًا تداخل أية دولة أوروبية أو كل الدول بينه وبين رعاياه.

•••

أما المصريون فقد أتوا في بلاد اليونان من الأعمال ما يخلده لهم التاريخ، وما يحق لمصر أن تفتخر به في كل آن وفي كل زمان؛ فإنهم خدموا الدولة العلية أكبر الخدم وأجلها، وبرهنوا على أن المصري إذا تعلم وتربى يقوم بأشرف الأعمال وأعظمها، فقد هزم المصريون اليونانيين شر هزيمة، واستولوا على كل بلادهم حتى ارتفعت أصوات أنصار اليونان في أوروبا ضدهم، وسموا بطل مصر المرحوم «إبراهيم باشا» بالسفاح إظهارًا لغيظهم من رجل قام بالواجب عليه نحو دولته وأمته وملته.

وقد قدمنا فيما سبق أن البحرية العثمانية كان أغلب عمالها من اليونانيين، وكانت غير قادرة على قطع دابر اللصوص من الأرخبيل وحدها، فلما طلب المرحوم السلطان «محمود» من عزيز مصر أن يمده برجاله وسفنه؛ أمر المرحوم «محمد علي باشا» بإرسال أساطيل مصر الفخمة إلى مياه الأرخبيل، فاستعدت البواخر في الإسكندرية، ورأى عندئذ هذا الميناء الزاهر مظهر جلال مصر وقوتها في البحر مما لم ترَ له طول حياتها مثيلًا، وكان الرأي المنتشر حين ذاك بين قناصل دول أوروبا في مصر أن مصر بقوتها وسلطتها تقهر وحدها بلاد اليونان، وتعيدها خاضعة للدولة العلية قبل تمام ستة أشهر.

وقد أتمت مصر تجهيزاتها الحربية في ٩ يونيو سنة ١٨٢٤، وكان الأسطول المصري مركبًا من ثلاث وستين مركبًا حربية عظيمة، ومن ثمانية آلاف جندي مصري من خيرة الرجال، وكان مع الأسطول والجيش ذخيرة سنتين كاملتين.

وبعد مبارحة الجنود المصرية لثغر الإسكندرية وقفت بجزيرة «كاكسوس» وأخضعتها وقهرت أهلها الذين كان أغلبهم يعيش من النهب والسلب، وبعد ذلك بقليل استولى الأميرال التركي خسرو باشا على «إيبسارا» التي أتى أهلها من قبل إخضاع الدولة لها من الفظائع ما يعجز القلم عن وصفه، حتى إنهم قتلوا الكثيرين من أهل ساموس؛ لعدم رضاهم بدفع شبه جزية لهم.

وما أخذ المصريون والأتراك هذين الموقعين المهمين حتى نادى أنصار اليونان في أوروبا بالويل والثبور، ونشروا الأكاذيب والمفتريات عن دخول العثمانيين في هذين البلدين، مدعين أنهم ذبحوا الأبرياء وقتلوا الأطفال والنساء. هذه العبارات نفسها التي تُذكَر في كل خلاف يقع بين المسلمين والمسيحيين في الدولة العلية، والتي لا تتغير وإن تغيرت الظروف والحوادث …

وفي أول سبتمبر عام ١٨٢٤ اجتمع المصريون والأتراك في خليج «بودرون» تحت القيادة العامة لخسرو باشا، فلما علم «مياوليس» رئيس بحرية ثوار اليونان باجتماع هذه القوى العظيمة جمع سفن الثوار كلها بين «كوس» وجزيرة «كاباري» فوجه عندئذ «إبراهيم باشا» أسطوله إلى جزيرة كريد حيث كان وصلها من الإسكندرية جنود أخرى وأسلحة وذخائر جديدة، وجرى حين ذاك أن البحارة اليونانيين الذين كانوا تحت قيادة «مياوليس» طالبوه بماهياتهم ومرتباتهم الماضية، وأنذروه بأنهم يعودون إلى جزائرهم، ولا يبقون بسفنه إذا لم يعطهم هذه المرتبات؛ فحار «مياوليس» في أمره مع هؤلاء القوم الذين كان يظنهم شجعانًا أبطالًا وخدامًا للوطن اليوناني، والذين كان يسميهم أنصار اليونان في أوروبا برجال الحرية والاستقلال، وبورثة اليونانيين القدماء!

فاضطر عندئذ «مياوليس» إلى الذهاب إلى مدينة «بوبلي»، وقد كانت هذه المدينة مركز حكومة اليونان الثوروية.

أما «إبراهيم باشا» فقد أتم كل تجهيزاته ومعداته، وسار بأسطوله وجنوده قاصدًا «مودون» بالمورة حيث وصلها في ٢٤ فبراير سنة ١٨٢٥، وما استقر بها حتى أخذ يهيئ الجيش للقتال والحرب، وفي ٢٥ مارس من السنة نفسها بدأ المصريون بمحاصرة مدينة «ناورين» الشهيرة ومدينة «بيلوس».

ولا يسل القارئ عن مقدار الاحتقار والازدراء الذي كان يظهره اليونانيون نحو الجنود المصرية المظفرة، فقد كانوا يظنونهم نساء في الحرب يهربون من ساحة القتال لأول طلقة نارية، ولكنهم لما اقتربوا منهم عرفوا أن أمامهم شجعانًا كبارًا وأبطالًا يحق لمصر على مدى الدهر أن تفتخر بهم كل الفخار، وحق لمحمد علي ولابنه الكريم وقتئذ، ويحق لسلالتهما من بعد أن تفاخر بهم جنود أعظم الأمم المتمدنة.

وفي كل واقعة حدثت بين المصريين واليونانيين كان اليونانيون يولون الأدبار، ويهربون مسلِّمين البلاد والمواقع!

وقد رأى «إبراهيم باشا» أن الاستيلاء على «ناورين» لا يكون إلَّا بالاستيلاء على جزيرة «سفاكتيريا»، فأرسل إليها حسين بك الجريدلي المشهور بشهامته العظيمة ونظره الصائب في مسائل الاستحكامات العسكرية، فقهر جنود هذه الجزيرة اليونانية واستولى عليها، وما مضى إلَّا ثلاثة أيام على استيلائه عليها حتى فتح أهالي «بيلوس» أبوابها، وسألوا «إبراهيم باشا» أن يتركهم يهربون بدون أن يلحق بهم الأذى، فقبل ذلك «إبراهيم باشا» وكانت نتيجة تسامحه الجميل أن أهالي «ناورين» لما تضايقوا من طول الحصار ويئسوا من الأمر خابروه في أمر تسليم المدينة إليه بعين الشروط التي سلمت بها «بيلوس» فرضي ابن عزيز مصر بطلبهم، وسقطت «ناورين» في أيدي المصريين في شهر مايو سنة ١٨٢٥.

ولما رأى «إبراهيم باشا» أن اليونانيين امتلأت قلوبهم بالخوف منه ومن جنوده الأعزاء شرع في مهاجمة مدائن المورة ومعاقلها، فاستولى بدون صعوبة تُذكَر على «نيزي» و«كالاماتا» وبلغ «تريبوليتسا» التي تركها اليونانيون وتركوا فيها ذخائرهم من شدة تسرعهم في الهروب منها، وفي ٢٦ يونيو من سنة ١٨٢٥ استولى «إبراهيم باشا» على مدينة «أرجوس».

وقد جعل اليونانيون دأبهم وقتئذ حرق مساكنهم ومعاقلهم ومنازلهم وتخريب المدائن والقرى، وكان أنصار اليونان في أوروبا يكذبون على العالم كله، ويدعون أن إبراهيم باشا هو الذي يخرب مدائن اليونان، وقد بلغت قحة بعضهم أن سماه بالسفاح!

أما خسرو باشا، فقد صدرت إليه أوامر الدولة بأن يسافر بأسطوله إلى الإسكندرية، حيث يستعد المرحوم «محمد علي باشا» لإرسال مدد جديد، فسافر إليها وكان المرحوم «إبراهيم باشا» أرسل كذلك بأسطوله إليها، وبقي هو وجنوده في المورة، فاهتم أمير مصر — رحمه الله — بتجنيد الجنود حتى تهيئوا جميعًا، وكان عددهم أحد عشر ألف مقاتل، وسافروا من الإسكندرية بتاريخ ٢٣ أكتوبر سنة ١٨٢٥، وكان في ذلك الحين «رشيد باشا» محاصرًا لمدينة «ميسولونجي» التي كان المدد يصلها من اليونانيين من جهة البر، وكانت محاطة ببرك عفنة انتشرت منها الأمراض والحميات في جيش رشيد باشا مما أطال الحصار، وأضر بالجيش العثماني ضررًا بليغًا، ولما علم بذلك «إبراهيم باشا» سافر بجنوده إلى «ميسولونجي»، وكانت الجنود المصرية وصلت عندئذ من مصر برفقة خسرو باشا، فقوي عدد الجيش المصري التركي المحاصر لهذه المدينة، وفي ٩ مارس سنة ١٨٢٦ استولى الجيش على قلعة «فازيليادي» وفي ١٣ منه سقطت «أنتاليكون» في أيدي العثمانيين، ولما رأى قواد الجيش المصري التركي أن «ميسولونجي» واقعة في أيديهم لا محالة، وأنها إن وقعت بغير التسليم من سكانها أُسِيلت فيها الدماء كتبوا إلى أهلها بتسليم المدينة والأسلحة، وخروج من يشاء الخروج منها، وأعلنوا كل من يريد البقاء فيها أنه يبقى آمنًا مطمئنًا.

وقد جاء عندئذ «مياوليس» بأسطوله، ووقف في خليج «باتراس» ولكن الأسطول المصري التركي هزمه شر هزيمة، وقضى بهذه الهزيمة على كل آمال اليونانيين.

وقد أراد اليونانيون المقيمون بميسولونجي الهجوم على الجيش المصري التركي في مساء ٢٢ أبريل سنة ١٨٢٦ ولكن «إبراهيم باشا» وجنوده تنبهوا للأمر، وأطلقوا الرصاص عليهم؛ فحصل بين اليونانيين فزع شديد، وولوا الأدبار، وفي فجر يوم ٢٣ أبريل من السنة نفسها أي في اليوم التالي سقطت مدينة «ميسولونجي» في أيدي الجنود العثمانية.

وفي شهر يونيو سنة ١٨٢٧ استولى الجيش العثماني على مدينة «أتينا» عاصمة اليونان الحالية، وقد أعجب كل منصف محب للإنسانية بالخطة التي جرى عليها العثمانيون في دخولهم أتينا؛ حيث عاملوا أهلها بالرفق، ولم يقتلوا ولم يهينوا أحدًا ما، بخلاف ما عمله اليونانيون مع المسلمين عند استيلائهم في أول الثورة اليونانية على المدائن والقرى.

وتفصيل أخذ أتينا بالعثمانيين أن اليونانيين استدعوا إليهم اللورد «كوشران» والسير «روبرشرش» الإنكليزيين؛ ليقودا جيوشهم وعصاباتهم، فأجابا الطلب، وسافرا إلى اليونان، وتوليا رئاسة الجيش اليوناني المحاصر في أتينا.

وقد أبدى الجيش العثماني بقيادة «رشيد باشا» في محاصرة أتينا من المهارة والشهامة ما أبقى له ذكرًا عاطرًا في التاريخ، فقد جمع هذا القائد العثماني الجليل بين منتهى الشهامة العثمانية ومنتهى الإنسانية التي أمر بها الشرع الشريف.

وإن انتصار جيش «رشيد باشا» على ثوار اليونان في أتينا لمن الانتصارات المعدودة في تاريخ الحروب البشرية، فقد كاد السير «روبرشرش» نفسه يقع أسيرًا في قبضة العثمانيين لولا أنه عند الهزيمة ألقى بنفسه إلى البحر حتى أدرك مركبًا كانت بالقرب من الشاطئ.

ولما رأى القائدان الإنكليزيان أن لا مناص من التسليم وسقوط أتينا وقلاعها في أيدي العثمانيين، سألا قومندان مركب «جومون» الفرنساوية أن يتوسط بين اليونانيين والعثمانيين في أمر الصلح، فأجاب سؤلهما وكتب بذلك إلى «رشيد باشا»، فقبل القائد العثماني الشروط التي عرضها عليه المسيو «لوبلان» قومندان مركب «جومون» وهي: نزع السلاح من الجنود اليونانية، وترك الحرية المطلقة لكل من أراد السفر من أتينا، ومعاملة الذين يريدون البقاء فيها بالحسنى وعلى الخصوص الجرحى منهم. ولما علم السير «شرش» بقبول «رشيد باشا» لهذه الشروط فرح كثيرًا، واندهش غاية الاندهاش من هذا الاعتدال العظيم الذي أظهره ظافر كبير كرشيد باشا.

ولكن ثوار اليونان أرادوا أن يظهروا شيئًا من الشهامة التي كان يترنم بها أنصارهم في أوروبا، فرفضوا هذه الشروط وأبوا تسليم قلاع أتينا، ولو كان «رشيد باشا» رجلًا وحشيًّا كما قال عنه ذلك كذبًا أنصار اليونان في أوروبا لكان دخل أتينا جوابًا على وقاحة ثوار اليونان وشهامتهم الكاذبة، وقضى عليهم وعلى جنودهم وضباطهم شر قضاء، ولكنه تأنى في الأمر، واستعمل الدعة التي جُبِل عليها رعاية للأبرياء من سكان أتينا.

إلَّا أن «رشيد باشا» أنذر السير «شرش» بأنه إذا لم تُسلم أتينا وقلاعها للجيش العثماني في أقرب زمن هاجم المدينة، وكان حرًّا في عمله غير ملوم، فأرسل السير «شرش» بتاريخ ١٢ مايو سنة ١٨٢٧ إعلانًا لثوار أتينا وضباطها أمرهم فيه بوجوب التسليم، وأنذرهم بسوء العاقبة إن خالفوا أمره.

ولكن ثوار أتينا جروا على خطتهم الأولى، ورفضوا الامتثال لأوامر السير «شرش» أي لأوامر قائدهم ورئيسهم.

فلما رأى ذلك «رشيد باشا» كتب إلى المسيو «لوبلان» قومندان مركب «جومون» كتابًا في غاية اللطف والرقة أظهر فيه أنه عمل كل ما في وسعه للمحافظة على أرواح الأبرياء اليونانيين القاطنين بأتينا، ولكن خطة ثوارهم تحمله على اتخاذ طريقة أخرى للاستيلاء على أتينا، وعندئذ أعلن السير «شرش» ثوار أتينا بأنه يتركهم وأنفسهم؛ لعدم امتثالهم لأوامره، فوقعوا في حيص بيص، وارتبكوا أشد الارتباك، وانتهزوا فرصة وجود مركب نمساوية في الميناء، فسألوا قومندانها التوسط بينهم وبين «رشيد باشا» في أمر تسليم المدينة وقلاعها بطريقة سلمية، فسلم هذا الضابط النمساوي طلبهم للمسيو «دي ريني» قومندان مركب «سيرين» الفرنساوية، فاستلم هذا الأخير الطلب، وأخذ يخابر «رشيد باشا» مدة ثلاثة أيام حتى قبل القائد العثماني دخول أتينا بالسلم وعدم سفك الدماء، وفي يوم ٥ يونيو سنة ١٨٢٧ أمضى زعماء الثورة اليونانية بأتينا على شروط تسليم المدينة، ورحلوا جميعًا عنها بعد ذلك.

وقد كتب المؤرخ الإنكليزي «فنلي» في كتابه «تاريخ اليونان» عن خطة «رشيد باشا» ودخوله أتينا ما تعريبه:

لقد اكتسب «رشيد باشا» في سقوط أتينا بخطته التي جرى عليها شرفًا أبديًّا، وظهر فوق السير «روبرشرش» شهامة في الحرب ورأيًا في السلم، ولم يترك العثمانيون وسيلة من وسائل الاحتراس إلَّا أتوها، ولم ينتقموا أقل الانتقام من اليونانيين.

وقد تُوفِّي في أول ديسمبر عام ١٨٢٥ القيصر إسكندر الأول، وتولى بعده «نيقولا الأول»، وما جلس هذا القيصر على أريكة الملك حتى أعلن عداءه لتركيا، وأرسل للحكومة العثمانية بتاريخ ١٧ مارس سنة ١٨٢٦ إنذارًا يطلب منها فيه جملة طلبات مختصة بالأفلاق والبغدان وبلاد الصرب، وترك لها مهلة ستة أسابيع لقبول طلباته، وأنذرها بأنها إن لم تقبل هذه الطلبات انقطعت العلائق السياسية بين الدولتين، واشتعلت نيران الحرب.

فانتهزت إنكلترا هذه الفرصة للتقرب من الروسيا، وأرسلت في بادئ الأمر إلى بلاد اليونان ثم إلى الآستانة سفيرًا يعرض توسط إنكلترا بين الدولة العلية واليونان، فرفضت الدولة طلبه بعد أن قبله اليونانيون الذين كانوا في أسوأ الحالات بفضل «إبراهيم باشا» بطل مصر وابن عزيزها، فاغتاظت إنكلترا من الدولة، وعملت على الإضرار بمصالحها والانتقام منها، وأرسلت «والنجتون» الشهير — بطل واترلو التي هزم فيها نابليون — إلى سان بطرسبورغ؛ ليتفق مع القيصر على المسألة اليونانية ضد الدولة العلية، وبالفعل اتفق معه، وأمضى بينهما اتفاق يتضمن أن الروسيا تقبل توسط إنكلترا بين الدولة العلية واليونان، وأن بلاد اليونان تصير مستقلة استقلالًا نوعيًّا، وأنها تختار بنفسها حاكمًا عليها.

ومن الغريب أن إنكلترا لما لم تفلح في أمر التوسط بين الدولة العلية واليونان أرادت أن تتوسط بالقوة والقهر، وبالرغم عن الدولة العلية نفسها مستعينة في ذلك بالروسيا، وهكذا كانت إنكلترا تفهم معنى صداقتها لتركيا ومعنى إخلاصها لملك آل عثمان.

ولما رأى المرحوم السلطان «محمود الثاني» أن إنكلترا والروسيا متفقتان ضده، اضطر إلى قبول مطالب الروسيا منتظرًا الفرص المناسبة، وأرسل مندوبين من قبله للمخابرة مع مندوبي الروسيا في أمر عقد معاهدة بين الدولتين، وقد اجتمع المندوبون في «آق كرمان» ووضعوا بها في سبتمبر عام ١٨٢٦ عهدة سميت باسم هذه المدينة، تضمنت أن يكون للروسيا حق الملاحة في البحر الأسود، والمرور من البوغازين بدون أن تفتش الدولة سفنها، وأن تكون بلاد الصرب مستقلة تقريبًا، وتضمنت كذلك بعض شروط مختلفة بامتيازات الأفلاق والبغدان.

ويقول بعض المؤرخين: إن الذي حمل تركيا على قبول هذه المعاهدة غير اتفاق إنكلترا والروسيا ضدها؛ هو تعهد الروسيا صريحًا للحكومة العثمانية بعدم التداخل في صالح اليونان.

وقد اجتهدت إنكلترا بعد عقد هذه المعاهدة في استمالة فرنسا لها وللروسيا، وتوصلت إلى عقد اتفاق بينها وبين الدولتين؛ لمساعدة اليونان ضد تركيا، أمضى عليه في لوندرة بتاريخ ٦ يوليو سنة ١٨٢٧.

•••

وقد كان هذا الاتفاق أساسًا لواقعة «ناورين» الشهيرة، فإن الدول الثلاث لما رأت أن «إبراهيم باشا» فاز في المورة وانتصر نصرًا مبينًا، وأخضع اليونانيين كافة، وأن الثورة قاربت الانتهاء وأخذ لهيبها في الانطفاء، أمرت كل واحدة منها أميرال أسطولها بأن ينذر «إبراهيم باشا» بالوقوف عن كل عمل عدائي ضد اليونانيين، وبالعودة إلى الإسكندرية مع رجاله وأسطوله؛ فرفض «إبراهيم باشا» هذا الطلب أو هذا الإنذار قائلًا لكل أميرال إنه لا يتبع غير أوامر أبيه وأوامر الدولة العلية، ولكنه لما رأى من قواد الأساطيل الأوروبية استعدادهم لإشهار الحرب لأسطوله وعدهم برفع بلاغهم إلى الآستانة وإلى والده الجليل، واتفق معهم على هدنة وقتية لحين ورود أوامر الدولة وأوامر أبيه.

ولكن قواد الأساطيل لم يعملوا باتفاقهم مع «إبراهيم باشا» بل أخذوا يراقبون حركاته وسكناته، ويشجعون — خلافًا لشروط الهدنة — كل ضابط يوناني أو أوروبي في خدمة اليونان على مهاجمة المدائن والمواقع التي وقعت في قبضة «إبراهيم باشا» وجنوده، فشجعوا اللورد كوشران على مهاجمة قلعة «فازيلادي» كما شجعوا غيره من الضباط، وقد احتج «إبراهيم باشا» على هذه الأعمال، ولما رأى أن احتجاجه لدى قواد الأساطيل الأوروبية لم يفد شيئًا، وتحقق من تشجيعهم اللورد كوشران على مهاجمة مدينة «باتراس» خرج من ميناء «ناورين» مع بعض مراكبه لإنقاذ تلك المدينة التي كان بها فوق الألف مصري، ولكن الأسطول الإنكليزي أنذر «إبراهيم باشا» بالعودة إلى «ناورين»، فعاد هو وأسطوله احترامًا للهدنة التي كان يذكره بها قواد الأساطيل الأوروبية، وكانوا لا يذكِّرون بها أنفسهم.

وجرى عندئذ أن «إبراهيم باشا» نزل إلى البر، وتوغل في المورة، فانتهز قواد الأساطيل الدولية فرصة غيابه عن الأساطيل المصرية العثمانية، وأجمعوا على تدميرها؛ فأصدر الأميرال «كودرنجتون» الإنكليزي — الذي كانت له القيادة العامة على الأساطيل الفرنساوية والروسية والإنكليزية — أمره باستعداد السفن الدولية، وعيَّن لكل سفينة مكانها، وألقى التعليمات اللازمة لكل ضابط يقود مركبًا، وفي يوم ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧ ادعى الأميرال «كودرنجتون» أن مركبًا من المراكب المصرية قتل أحد بحارته إنكليزيًّا من سفينة إنكليزية، وجعل هذه الجريمة المختلقة سببًا لتدمير المراكب المصرية والتركية، فسلط عليها الأساطيل المتحدة الدولية حتى دمرتها عن آخرها، وزالت هذه الأساطيل الفخمة في يوم واحد، حيث كان قومندانها الأول وأميرها الأعظم «إبراهيم باشا» متغيبًا عنها، ظانًّا أن قواد الأساطيل الأوروبية يحترمون كلامهم وعهودهم!

ويقدِّر المؤرخون عدد الذين ماتوا من بحارة مصر في هذه المذبحة الشهيرة بستة آلاف بحري، وقد عدَّ أنصار اليونان مذبحة «ناورين» بواقعة المجد والفخار. أما أنصار الحقيقة فقد قضوا عليها شر قضاء، ووجهوا الملام أشد الملام إلى حكومات فرنسا والروسيا وإنكلترا التي قامت باسم المدنية بأمر ليس فيه إلَّا العار والشنار، وقد قال إمبراطور النمسا وقتئذ عن حادثة «ناورين» بأنها «مذبحة»! ونعم التسمية، وقال عنها جورج الرابع نفسه ملك إنكلترا: «إنها حادثة مشئومة.»

وقد تهيج الأحرار في إنكلترا ضد الأميرال «كودرنجتون» واعتبروا عمله وحشيًّا لا شرف فيه ولا فخار، فاضطرت الحكومة الإنكليزية لأن تعلن عدم موافقتها على عمل «كودرنجتون» ولكنها لم تعلن عدم موافقتها على هذا العمل الفظيع الوحشي إلا بعد حدوثه … ويتضح من المستندات الرسمية التي لا تزال باقية في وزارة البحرية الفرنساوية، والتي أتى على بعضها المسيو «ألفريد لميتر» في كتابه عن استقلال اليونان أن حكومات فرنسا والروسيا وإنكلترا كانت متفقة من قبل على كل ما أتاه قواد أساطيلها، وقد قال الأميرال «كودرنجتون» لما علم بعدم موافقة حكومته على مذبحة «ناورين»: «إن الوزراء يضحونني ليحفظوا مراكزهم.»

أما «إبراهيم باشا» فقد عاد بعد المذبحة، ولا يسألن القارئ عن تحسره الشديد على أسطوله العظيم الذي تركه زاهيًا قويًّا، وعاد فوجده أثرًا بعد عين، وعن عظيم اندهاشه من هذا العمل الفظيع الذي قام به دعاة المدنية وأنصار الحرية والإنسانية، وقد احتج «إبراهيم باشا» أشد الاحتجاج على هذا العمل الوحشي، وزاد احتجاجه واندهاشه عندما علم بالمطاعن السافلة التي كان يوجهها إليه الأميرال «كودرنجتون»، وبأن هذا الإنكليزي الذي دمر الأساطيل المصرية والتركية بأسفل الطرق وأدنى الوسائل ادعى أنه — أي إبراهيم باشا — هو الخائن للعهد الناكث لشروط الهدنة، وأنه المسبب لواقعة «ناورين».

وقد كتب الضابط الفرنساوي البحري المسيو «بوجول» تاريخ مذبحة «ناورين» وأتى فيها على كل ما قاله له «إبراهيم باشا» عقب المذبحة، وإنا نأتي هنا على ترجمة فصل يتضمن تصريحات «إبراهيم باشا» بشأن تهم الأميرال كودرنجتون. كتب المسيو بوجول ما ترجمته:

قال لي «إبراهيم باشا» عند زيارتي له: إنهم يتهمون إبراهيم بأنه خان العهد، ولم يحترم كلامه، ولكنني مستعد لأن أسافر لباريس وللوندرة إذا اقتضى الحال ذلك؛ لأظهر الحقيقة، ولكي يحمل الذين أسالوا دماء الأبرياء وحدهم الفضيحة والملامة، وما أُنشِئت السفن إلَّا لتكون فريسة النار أو البحار؛ فلذلك لست اليوم آسفًا عليها، ولكن اتهامي بأني خنت عهودي هو وشاية سافلة، وإني أعتمد على شرفك يا حضرة الضابط لتبلغ كلمة بكلمة إلى أميرالك ما قلته لك.

فقل له: إن ثاني يوم لواقعة «ناورين» دعا الأميرال الإنكليزي الأميرال التركي إلى مركب إنكليزية، ووشى له بأني قدمت إليه مبالغ طائلة؛ ليساعدني على الاستقلال بمصر من الدولة العلية ومن التابعية للحضرة السلطانية، وقال له بأني خائن، وأشار عليه بتبليغ ذلك للضباط والبحارة الأتراك، فماذا يُقال عن هذا السلوك وعن هذا الغش؟! أولم تبلغ الوقاحة بالأميرال الإنكليزي أنه طلب من الأميرال التركي أن يسلمه امرأة من نسائي؟!

وإنه ليسهل على القارئ أن يحكم بعد اطلاعه على أقوال «إبراهيم باشا» أي الرجلين صادق، أإبراهيم ذلك البطل النادر المثال الذي عامل ثوار اليونان بعد انتصاره عليهم النصر المبين بالرأفة والرحمة، وما سفك للأبرياء دمًا، ذلك الذي احترم عهده؟ أم كدرنجتون الذي تولى أمر تدمير أساطيل لم تعاده أقل عداء، وخان بذلك عهده وكلامه وشرفه، بل لطخ أوروبا والمدنية الغربية بدنس الفضيحة والعار؟!

•••

وبينما كانت الدول الثلاث تتداخل لصالح اليونانيين، وتسفك دماء الأبرياء لأجلهم، وتدمر الأساطيل غدرًا لمساعدتهم ونصرتهم، كان اليونانيون يهجمون على سفن التجارة الأوروبية ويسرقون كل ما فيها من المتاجر والمصانع والأموال، وقد أيد هذه الحقيقة الأميرال الفرنساوي «دي ريني» نفسه، وكتب جملة كتب على هذه السرقات الفظيعة والتعديات المتعددة إلى وزارة البحرية الفرنساوية، وقد قال في كتاب من كتبه: «إن عدد السفن التي اعتدى اليونانيون عليها، وسرقوا ما بها، بلغ في شهر واحد ستين سفينة.» فليعجب القارئ بقوم تحارب أوروبا لأجلهم، وتخون عهدها حبًّا فيهم، ويلطخ قواد أساطيلها شرفهم وشرف دولهم بمذبحة «ناورين»، وهم يجيبونها على هذا التناهي في الإحسان بالتناهي في إساءة رعاياها وسرقة أمتعتهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم!

•••

وقد طلبت الحكومة العثمانية من الدول الثلاث ترضية علنية لمذبحة «ناورين»، فرفضت الدول طلبها، ولم تكتفِ برفضه فقط؛ بل طلبت منها أن تقبل مطالبها المشتركة بشأن اليونان، وأن تعلن استقلالها، فأجابت الدولة على هذا الطلب الغريب بالاندهاش والاستغراب والرفض، فبارح عندئذ سفراء إنكلترا والروسيا وفرنسا الآستانة بتاريخ ٨ ديسمبر سنة ١٨٢٧.

وفي ١٢ ديسمبر من السنة نفسها تجدد بين الدول الثلاث اتفاق لوندرة السالف الذكر، وأخذت الروسيا من ذلك العهد تعمل لإعلان الحرب بينها وبين الدولة العلية، وبتاريخ ١٦ أبريل سنة ١٨٢٨ أشهرت بالفعل إعلانها الحرب لتركيا، وفي ٧ مايو اجتازت الجنود الروسية نهر «بروث».

ولا شك أن الدولة العلية كانت وقتئذ في أشد الأخطار، وكانت أزمتها شديدة قوية، فإن الروسيا أظهرت عداءها لها بإشهار الحرب عليها، وإنكلترا أظهرت عداءها لها بمساعدة اليونانيين في السر والجهر، وبترك أسطولها واقفًا في مياه الشرق يهدد موانيها، وبعقد المؤتمرات المختلفة لإعلان استقلال اليونان بالرغم عن إخضاع «إبراهيم باشا» لثوروييهم وانطفاء نار الفتنة، وفرنسا اشتركت في هذه العداوة بإرسال جيش جرار تحت قيادة الجنرال «ميزون» إلى بلاد اليونان.

وقد رأى عندئذ المرحوم «محمد علي باشا» بنظره الصائب أن الدول الثلاث متفقة كلها ضد الدولة العلية، وأن مأمورية مصر قد انتهت بقمع الثورة اليونانية، فأصدر أمره إلى ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالعودة هو وجنوده إلى الوطن العزيز، فصدع بأمر والده وعاد لمصر، حيث احتلت الجنود الفرنساوية المواقع والبلاد التي أخلتها جنود مصر.

وبذلك يرى القارئ أن الدول الثلاث كانت تعمل في آن واحد ضد الدولة العلية، وكانت الدولة بلا نصير ينصرها ولا صديق يساعدها، وكانت النمسا تعضدها بالقول في الباطن، وتعلن في الظاهر صداقتها للروسيا شأنها في سياستها على الدوام، فضلًا عن أن الجيش العثماني كان حديث التشكيل؛ لأن المرحوم السلطان «محمود» قد ألغى طائفة الإنكشارية.

ومع ذلك فقد أظهرت الجنود العثمانية في الحرب مع الروسيا من الشهامة والثبات ما حيَّر رجال الحرب في أوروبا وأدهش الروسيين، فإن الجيش الروسي مع عظيم استعداده وكثرة عدده لم يستولِ على «وارنا» إلَّا بعد صعوبات جمة، ولم يستطع أخذ مدينة شوملا، واضطر للرجوع إلى الوراء في شهري أكتوبر ونوفمبر بعد أن خسر الخسائر الجمة، وقد قارن وقتئذ «مترنيخ» وزير النمسا الأول تقهقر الروسيين في هذه الحرب بتقهقر نابليون في عام ١٨١٢.

وقد استمرت الحرب في عام ١٨٢٩، ولكن الجنود العثمانية التي كانت مشكَّلة حديثًا كما قدمنا لم تستطع مقاومة الجيش الروسي تمام المقاومة، فاستولى هذا الجيش على مدينة «إسكي إستانبول» واجتاز جبال البلقان، وبلغ في ٢٠ أغسطس سنة ١٨٢٩ مدينة «أدرنة»، وبالرغم من هذه الانتصارات فإن القيصر نيقولا الأول كان يخاف الهزيمة لما رأى عند الجيش العثماني من الدراية والكفاءة في سنة ١٨٢٨؛ ولذلك سأل ملك بروسيا أن يتوسط في أمر الصلح بينه وبين الدولة العلية، فقبل ملك بروسيا ذلك وتوسط بالفعل في أمر الصلح. وفي ٤ سبتمبر من السنة نفسها أمضت الروسيا والدولة العلية على معاهدة «أدرنة»، وهي تتضمن استيلاء الروس على جملة مواقع أسيوية، وضمانة حقوق الأفلاق والبغدان وصربيا، وحرية مرور السفن الروسية من بوغازي الدردنيل والبوسفور، وحرية التجارة للرعايا الروسيين، وتتضمن أيضًا أن الدولة العلية تدفع للروسيا غرامة حربية تبلغ الخمسة ملايين ونصفًا من الجنيهات، وأن الدولة العلية تقبل ما اتفقت عليه الدول بشأن اليونان.

وهذا الاتفاق بين الدول بشأن المسألة اليونانية لم يكن مشتملًا إلَّا على جعل بلاد اليونان مستقلة تمام الاستقلال! وقد أمضت الدول في لوندرة بتاريخ ٣ فبراير سنة ١٨٣٠ على معاهدة بهذا المعنى.

وبذلك انتهت هذه الأزمة الشديدة، وتم استقلال اليونان، وإن القارئ يجد من خلال هذه السطور، ومن مطالعة هذه الحوادث الحكم الصحيح على خطة الدول نحو الدولة العلية، ويرى كيف أنها أخرجت من تحت حكم الدولة بلاد اليونان بحجة المسيحية والمدنية مع أن الروسيا جزأت من قبل مع البروسيا والنمسا بلاد بولونيا ولم ترعَ للمسيحية حرمة ولا للمدنية مقامًا!

وهكذا الغرض في كل الأمور يعمي الدول كما يعمي الأفراد.

(٢) الأزمة الثانية: مسألة الشام بين مصر والدولة العلية

إن هذه الأزمة هي الأزمة التي إذا تذكرها العثمانيون والمسلمون امتلأوا حسرة وأسفًا أكثر من كل أزمة سواها؛ لأنها أعظم شقاق وقع بين التابع والمتبوع، وبين مصر والدولة العلية، أي بين قلب الخلافة الإسلامية وهذه الخلافة نفسها، وبين روح المملكة العثمانية وهذه المملكة.

وسيجد القارئ في هذا الفصل تفاصيل هذه الأزمة المشئومة وما جرَّت على الدولة ومصر والإسلام من الأضرار والمصائب مما يبقى أبد الدهر درسًا للعثمانيين والمسلمين، ونذيرًا بأن الشقاق بين أعضاء مجموع واحد يعود على المجموع كله وعلى أعضائه عضوًا عضوًا بالمصائب العظام والبلايا الجسام.

ابتدأت هذه الأزمة بخلاف وقع بين عزيز مصر ووالي «عكا» بسبب مهاجرة بعض المصريين إلى الشام، حيث لم يرضَ والي «عكا» بأن يعيدهم إلى مصر طبقًا لرغائب المرحوم «محمد علي باشا»، فأمر عزيز مصر ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالسفر إلى بلاد الشام على رأس جيش جرار للانتقام من هذا الوالي، فسافر واستولى في ٢٧ مايو سنة ١٨٣٢ على «عكا» وبعد الاستيلاء عليها دخل هو وجيشه دمشق وحمص، وعبر جبال طوروس بعد معارك مختلفة بين الجيش المصري والجيش التركي.

وقد انتهت سنة ١٨٣٢ بوصول المرحوم «إبراهيم باشا» إلى قلب آسيا الصغرى حيث وقعت بين عساكر مصر وعساكر الدولة واقعة «قونيه» الشهيرة التي انتهت بسقوط هذه المدينة في أيدي المرحوم «إبراهيم باشا»، وكان ذلك في ٢١ ديسمبر سنة ١٨٣٢، وقد وقع في هذه الواقعة أسيرًا في أيدي المصريين المرحوم «رشيد باشا» الذي كان يقود الجيش التركي أمام «إبراهيم باشا» والذي كان من قبل في بلاد اليونان مكلفًا بقمع الثورة اليونانية.

ولا شك أن هذه الانتصارات المتوالية تدل من جهة على ما كان لمصر وقتئذ من القوة الهائلة، وتحمل الإنسان من جهة أخرى على التساؤل: كيف تقهقر الأتراك الأبطال في هذه المواقع؟! فالجواب على ذلك: أن المرحوم السلطان «محمود الثاني» كان قد ألغى طائفة الإنكشارية كما قدمنا، وكان مشتغلًا بتنظيم جيش جديد عندما قام المرحوم «محمد علي باشا» بإحداث هذه الأزمة المشئومة، ولم يكن الجيش التركي الجديد مستعدًّا تمام الاستعداد للقتال.

وكان من نتيجة هذا الخلاف المشئوم بين مصر والدولة العلية أن المرحوم السلطاني «محمود الثاني» اضطر للاستنصار بالدول الأوروبية؛ فانتهزت الروسيا هذه الفرصة؛ لتقوية نفوذها في تركيا، وجعل سيطرتها عظيمة على الباب العالي، فأظهرت للدولة العلية استعدادها لمساعدتها ضد عزيز مصر، وأرسلت إلى الآستانة الكونت «مورافييف» أحد ضباط القيصر الخصوصيين مكلَّفًا بتبليغ الباب العالي أن الحكومة الروسية تقدم إليه إذا أراد أسطولًا قويًّا وجيشًا عظيمًا؛ لنصرة الدولة ضد عزيز مصر، ومكلفًا كذلك بالسفر إلى الإسكندرية لإقناع المرحوم «محمد علي باشا» بضرورة الاتفاق مع الدولة، والرجوع عن نواياه ومشروعاته ضدها.

وبالفعل ذهب «مورافييف» إلى الآستانة، فاستقبل رجال الدولة بلاغه بالرضى مع الحزن الشديد على هذه الحالة التي وصلوا إليها بسبب الشقاق المشئوم بين المتبوع الأعظم والتابع؛ أي بين خليفة الإسلام وأكبر أمرائه.

وقد سافر الكونت «مورافييف» من الآستانة إلى الإسكندرية في يناير عام ١٨٣٣ بقصد إقناع عزيز مصر بوجوب حل المشكلة حلًّا سلميًّا.

هذه كانت سياسة الروسيا، وسيرى القارئ نتائجها السيئة على الدولة العثمانية. أما البروسيا فلم تتداخل في الأمر؛ بل تركت بقية الدول الأوروبية مشتغلة بالمسألة وانتظرت النتيجة، وقد ود بعض سواس النمسا أن تتداخل دولتهم في هذه الأزمة المهمة؛ لتحول دون أغراض الروسيا، ولكن القابضين على أمور المملكة النمساوية حينئذ رأوا أن الثورة تهدد دولتهم من كل جانب، وأنهم في حاجة شديدة لعضد الروسيا ومساعدتها، فالتزموا لهذا السبب الحياد، واختاروا سياسة مراقبة الحوادث والانتظار.

أما إنكلترا، فقد كانت أميالها من بادئ الأمر ضد أميال عزيز مصر، ولكنها كانت تخاف إضعاف نفوذها في تركيا بتقوية نفوذ الروسيا، فكانت تريد العمل ضد الروسيا ومساعدة تركيا في آن واحد، غير أن أيرلندا كانت في ذلك الحين قائمة بالثورة ضد بريطانيا رغبةً في نيل حريتها واستقلالها، فبقيت لذلك إنكلترا مترددة في سياستها.

ولم يكن لعزيز مصر بين الدول الأوروبية دولة تريد نصرته في السر والجهر غير فرنسا، فإن الرأي العام فيها كان يحب «محمد علي باشا» حبًّا شديدًا، وكانت أعمال عزيز مصر ومجهوداته في سبيل رفع شأن مصر وتمدينها معروفة في فرنسا، ومقدرة فيها حق قدرها، لا سيما وأن أغلب عمال عزيز مصر في تمدين مصر كانوا من الفرنساويين، وكان بين «لويس فيليب» ملك فرنسا وبين «محمد علي باشا» مودة شديدة وصداقة متينة.

إلَّا أن سفير فرنسا في الآستانة كان يخاف سقوط نفوذ دولته في المملكة العثمانية بقدر ارتفاعه وازدياده في مصر، فعرض على الباب العالي أن يتوسط بينه وبين أمير مصر، وكتب إلى المرحوم «إبراهيم باشا» يرجوه باسم فرنسا ألا يتقدم في فتوحاته، وكتب إلى المرحوم «محمد علي باشا» يسأله أن يقبل الشروط التي أرسل بها إليه المرحوم السلطان «محمود الثاني» مع خليل باشا، وهذه الشروط كانت تنحصر في تنازل الدولة لعزيز مصر عن ولايات «عكا ونابلس وصيدا وبيت المقدس»، ولكن «محمد علي باشا» كان يريد الاستيلاء على الشام كلها، وكان قنصل فرنسا بمصر يشجعه على أمياله وأغراضه؛ فلذلك لم يقبل عزيز مصر الشروط السلطانية التي عرضها عليه خليل باشا، ولم يلقَ رجاء سفير فرنسا بالآستانة عنده قبولًا؛ لأنه اعتبره مجاملة لتركيا وغير صادر عن تعليمات سياسية واردة من الحكومة الفرنساوية، وأمر ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالتقدم في فتوحاته، فصدع بالأمر وتقدم إلى أن وصل مدينة «كوتاهيه».

فلما علم المرحوم السلطان «محمود الثاني» بذلك سأل الروسيا في آخر يناير سنة ١٨٣٣ أن ترسل إليه بأسطولها فوعدته بذلك، وفي هذه الأثناء عاد «مورافييف» من الإسكندرية، وكان قد نجح في مأموريته لدى «محمد علي باشا» بعض النجاح، فأعلن الباب العالي أن أمير مصر وعده، وأصدر أمره لابنه بالوقوف عن التقدم في فتوحاته. فلما علمت الدول الأوروبية بذلك رأت أن مجيء الأسطول الروسي إلى مياه البوسفور صار غير لازم، فسألت الباب العالي أن يجعل وقوفه ببلاد القرم، ولكن الروسيا كان يهمها أن يظهر أسطولها في مياه الشرق، ويعلم المسلمون قبل المسيحيين أنها صارت الحامية للمملكة العثمانية والأمينة على مصالح دولة آل عثمان!

فجاء الأسطول الروسي إلى مياه البوسفور، وجعل مرساه أمام سراي السلطان، وبعد وصوله بأيام قليلة وصل جزء من الجيش الروسي إلى الآستانة وأقام بها، فهاجت لذلك إنكلترا والنمسا وفرنسا، وطلبت من الدولة العلية الإسراع بالاتفاق مع عزيز مصر، وإبعاد العساكر الروسية عن أراضي الدولة. فقبل المرحوم السلطان «محمود الثاني» طلب الدول الثلاث، وبعد مخابرات مختلفة أعلنت الدولة العلية في أوائل مايو سنة ١٨٣٣ بخطين شريفين أنها عينت أمير مصر واليًا على الشام وعلى ولاية «أطنه»، وقد سُمي هذا الاتفاق الذي صدر به الخطان الشريفان باتفاق «كوتاهية» نسبة إلى المدينة التي كان محتلًّا لها «إبراهيم باشا» عند عقد هذا الاتفاق.

ولما صدر هذان الخطان الشريفان سألت الدول الأوروبية الدولة الروسية أن تسحب أسطولها من مياه البوسفور وجنودها من أراضي الدولة، فأجابت الطلب ولكنها لم تنفذه إلَّا بعد أن أمضت مع الدولة العلية على معاهدة «خورنكار أسكله سي» التي جعلت للروسيا في الدولة العلية نفوذًا قويًّا وسلطةً عظيمةً.

ومضمون هذه المعاهدة: أن الدولة العلية تتحالف مع الروسيا تحالفًا دفاعيًّا، وأن تتعهد كل واحدة منهما بمساعدة الأخرى في داخل بلادها أو في خارجها حسب الظروف، ولا شك أن ظاهر هذه المعاهدة لا يفيد شيئًا غريبًا، ولكن المتأمل يرى أن الدولة الروسية كانت غير واقعة وقتئذ تحت خطر، فكان من المستحيل أن ترسل الدولة العلية يومًا ما جيشًا تركيًّا لداخل البلاد الروسية، بخلافها فإنها كانت واقعة تحت خطر ظاهر، وكان احتمال دخول الجنود الروسية إلى قلب المملكة العثمانية حاصلًا. ذلك فضلًا عن أن الروسيا كان في استطاعتها أن تحدث في قلب الدولة من الاضطرابات ما تشاء لما كان لها فيها من الآلات القوية؛ أي إنه كان يمكنها أن ترسل بجنودها إلى داخل الدولة في أي وقت تريد.

والذي يثبت أن دخول الجيوش العثمانية إلى قلب المملكة الروسية كان مستحيلًا حتى في حالة قيام الحرب بين الروسيا وبين إحدى الدول خلافًا لظاهر معاهدة «خونكار أسكله سي» أن الروسيا اشترطت في آخر المعاهدة أن الدولة العلية غير ملزمة بإرسال مدد عسكري إليها في حالة وقوع الحرب بينها وبين إحدى الدول، بل يكفيها عوضًا عن إرسال مدد عسكري أن تقفل بوغاز الدردنيل أمام أساطيل الدولة أو الدول المحاربة للروسيا.

وقد علمت فرنسا وإنكلترا بهذه المعاهدة، وعملت كلتاهما على إبطالها، ولكن مسعاهما لم ينجح، وتكدرت بذلك علائقهما مع الروسيا.

•••

ولم يسرِ حكم هذا الاتفاق طويلًا، فإن إنكلترا التي كان يسوءها استتباب السكينة والسلام في الشرق، والتي اقتضت سياستها في كل أطوار المسألة الشرقية إضعاف سلطة المسلمين، عملت على تحريض الدولة العلية على الأخذ بالثأر، والانتقام من عزيز مصر، وفضلًا عن اهتمام إنكلترا بإضعاف السلطة الإسلامية في الآستانة ومصر، فإنه كان يروق لها أن تأخذ المركز الأول في النفوذ لدى الباب العالي، وتخفِّض من نفوذ الروسيا وسلطتها، فلذلك استمرت تحرض الدولة على الانتقام من «محمد علي باشا» ووجدت عند رجال الدولة آذانًا صاغية؛ لأن قلوبهم كانت قد تغيرت من جهة مصر وأميرها، وتركت فيها حوادث الشام آلامًا كبارًا.

وقد نجحت إنكلترا في هذه السياسة، وعقدت مع الباب العالي اتفاقًا تجاريًّا يخول لها كل ما للروسيا من الحقوق والامتيازات، وقابلت ثقة تركيا بها بأن استعدت لاحتلال «عدن» كأنها أرادت أن تعرف الحكومة العثمانية مقدار ثمن المودة الإنكليزية …

ومع ذلك فقد اتبعت الدولة العلية آراء الإنكليز ونصائحهم، وسيرت جيشًا جرارًا إلى آسيا تحت قيادة «حافظ باشا»، فعبر هذا الجيش نهر الفرات في ٢١ أبريل سنة ١٨٣٩. وفي ٧ يونيو من السنة نفسها أعلنت الدولة العلية الحرب على جيوش مصر، وقد كان المرحوم «محمد علي باشا» علم من قبل باستعداد الدولة لمحاربته وإخراجه من الشام، فتأهب للقتال واستعد أكمل استعداد.

فلما علمت الدول الأوروبية باستعداد الدولة العلية للحرب اهتمت كلها بالمسألة، وأخذت إنكلترا تبذل الجهد في استمالة فرنسا إليها، والاتفاق معها على مساعدة تركيا ضد «محمد علي باشا» وإضعاف نفوذ الروسيا في الدولة العلية، ولكن فرنسا لم تقبل الاتفاق مع إنكلترا ضد عزيز مصر لما كان له عندها وعند الشعب الفرنساوي من الاحترام العظيم والكلمة العليا.

وقد قام وقتئذ الخطباء على منبر مجلس النواب الفرنساوي بإلقاء الخطب البليغة دفاعًا عن أميال عزيز مصر وأغراضه السياسية، سائلين حكومتهم مساعدته ومنع كل عمل عدائي ضده، ولم يظهر الرأي العام الفرنساوي قوته وشدة تأثيره على حكومته في ظروف كثيرة مثل ما أظهر في مسألة الخلاف بين مصر والدولة العلية، فإنه كان منتصرًا لعزيز مصر أشد الانتصار.

وقد أدى رفض فرنسا لطلب إنكلترا إلى اتفاق هذه الدولة مع الروسيا اتفاقًا مبدئيًّا ضد عزيز مصر.

أما النمسا، فقد عرضت على الدول مشروع عقد مؤتمر بفيينا لحل المشكلة المصرية، فلم تقبل الروسيا هذا الطلب خوفًا من تداخل الدول في شئون تركيا الداخلية، وإضعاف نفوذها بمثل هذا التداخل، ورفضت فرنسا كذلك طلب النمسا منعًا لاتفاق الدول ضد «محمد علي باشا».

وبينما الدول مشتغلة بهذا الخلاف الخطير إذ انتشر خبر واقعة «نصيبين» أو «نزيب» التي انتصر فيها الجيش المصري بقيادة «إبراهيم باشا» على الجيش التركي في ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩، وبعد هذه الواقعة بأسبوع واحد توفي المرحوم السلطان «محمود الثاني» ولم تكن وصلته أخبار واقعة «نصيبين» لعدم وجود الأسلاك البرقية وقتئذ، وتولى بعده على الأريكة العثمانية ابنه السلطان الغازي «عبد المجيد خان».

وفي ٤ يوليو من السنة نفسها، شرع أحمد باشا القبودان الأول للأسطول العثماني في تسليم هذا الأسطول لعزيز مصر، وسبب ذلك أنه كان يبغض خسرو باشا الصدر الأعظم بغضًا شديدًا ويميل كثيرًا إلى عزيز مصر. فلما علمت الدول الأوروبية بهذا النبأ الغريب، أرسلت مذكرة إلى الباب العالي بتاريخ ٢٧ يوليو سنة ١٨٣٩ تفيده أنها متفقة كلها على مساعدته في هذه الأزمة ودفع الخطر عن المملكة العثمانية، وقد اشتركت فرنسا مع بقية الدول في إرسال هذه المذكرة، ولم يكن قصدها بذلك الاشتراك معها ضد «محمد علي باشا»، بل منع اتفاقها ضده اتفاقًا حربيًّا.

وبناء على رجاء فرنسا لم يتقدم «إبراهيم باشا» بعد «نصيبين» بل وقف عندها.

وقد عرض وقتئذ بالمرستون وزير خارجية إنكلترا على الدول الأوروبية أن ترسل جميعها إنذارًا لعزيز مصر تأمره فيه بسحب جنوده من الشام، والاكتفاء بإمارته على مصر، وتهدده بأنها تنفذ مطالبها بالقوة إن لم يرضَ بها ويذعن إليها؛ فعارضت فرنسا مطلب بالمرستون أشد المعارضة، وطلبت باسم «محمد علي باشا» تعيينه أميرًا على مصر والشام وبلاد العرب، واستمر الجدال بين حكومتي باريس ولنودره طويلًا، واشتدت لهجة السياسيين من الجانبين، كما اشتدت لهجة جرائد الدولتين، وتكدرت عقب ذلك العلائق بين الحكومتين؛ فسعت الروسيا في أن تضم إليها إنكلترا وتجعل ما بين هذه وفرنسا من الخلاف أساسًا لوفاق يوضع بينها وبين إنكلترا، وأرسلت لهذا الغرض البارون دي «برونو» للوندرة، ولكن بعض وزراء الحكومة الإنكليزية كانوا يخالفون بالمرستون رأيًا، وكانوا يودون الاتفاق مع فرنسا. فلم يتم لهذا السبب بين إنكلترا والروسيا الاتفاق، وعاد البارون دي «برونو» إلى سان بطرسبورغ ليتلقى تعليمات جديدة.

وقد زاد وقتئذ تهيج الشعب الفرنساوي في صالح عزيز مصر ازديادًا هائلًا، وخاف «لويس فيليب» ملك فرنسا من عواقب هذا التهيج، فأمر بإرجاع بقايا «نابليون الأول» من جزيرة سانت هيلينه، ودفنها بباريس في موكب حافل؛ ليشتغل الشعب الفرنساوي عن مصر وأميرها بذكرى نابليون الأول، وذكرى فتوحاته وانتصاراته العديدة، وبالفعل جيء بجثة نابليون الأول، وسارت في باريس في موكب لم يُرَ له مثيل لا في جلاله ولا في فخامته؛ مما حوَّل أنظار الشعب الفرنساوي عن مصر كثيرًا لا قليلًا.

أما إنكلترا فقد اتفق سواسها مع البارون دي «برونو» بعد عودته من الروسيا، ودعوا الدول الاوربية لإرسال مندوبين من قبلها لحضور مؤتمر يُعقَد بلوندرة لحل المشكلة المصرية، وقد اشتركت فرنسا في هذا المؤتمر غير أن سفيرها بلوندرة المسيو «جيزو» الشهير وجَّه عنايته كلها لمدِّ أَجَل المؤتمر، ومنع الدول من الوصول إلى اتفاق نهائي؛ لأن الحكومة الفرنساوية كانت مشتغلة سرًّا بالتوسط بين تركيا ومصر، وكانت تؤمل بلوغ نتيجة مُرضية لعزيز مصر بدون تداخل الدول الأخرى.

وقد نجحت فرنسا في مخابراتها السرية مع مصر والباب العالي بعض النجاح، وتوصلت إلى عزل «خسرو باشا» الصدر الأعظم، إلَّا أن «بونسونبي» سفير إنكلترا بالآستانة علم بمخابرات فرنسا السرية، وأبلغ حكومته هذا الخبر العظيم الأهمية؛ فهاج «بالمرستون» لذلك واغتاظ كثيرًا، وصمم على الانتقام من فرنسا؛ فدس الدسائس ضد «محمد علي باشا» في الشام، وأقام أهلها ضده، وعمل على عقد اتفاق بين إنكلترا والروسيا والنمسا والبروسيا، أي بين كل دول أوروبا ما عدا فرنسا، وبالفعل عقد هذا الاتفاق، وأمضى مندوبو الدول الأربع في لوندرة بتاريخ ١٥ يوليو سنة ١٨٤٠ على اتفاقية مختصة بالمشكلة المصرية.

وهذه الاتفاقية تضمنت أن «محمد علي باشا» يرد إلى الدولة جزيرة كريد وبيت المقدس وأطنه وبلاد الشام الشمالية، وأن يحفظ له ولأبنائه من بعده مصر، ويتولى ولاية «عكا» مدة حياته، وأنه إن لم يخضع لأوامر الدول في مدة عشرة أيام من تاريخ إرسال الإنذار الدولي إليه، لا تترك الدول له غير مصر، وإن لم يخضع في مدة عشرة أيام أخرى لا تترك له مصر نفسها، وتضمنت هذه الاتفاقية غير ذلك أن الدول تشترك في بوغازي الآستانة والدردانيل ضد كل اعتداء.

وقد اتفق مندوبو الدول في هذه الاتفاقية على أنها تنفذ قبل توقيع دولهم عليها إذا اقتضى الحال ذلك.

وما علم «لويس فيليب» ملك فرنسا بهذه الاتفاقية حتى أعلن غضبه وسخطه، ووافق وزيره الأول «تييرس» على الاستعداد للحرب، فجند هذا الأخير الجنود الفرنساوية، وجمع الرديف، واشتغل بتحصين الحدود، وساعد الجرائد على تهييجها الشعب ضد دول أوروبا، فتهيجت فرنسا كلها منادية بالانتقام لها ولأمير مصر من دول أوروبا.

وفي ١١ سبتمبر سنة ١٨٤٠ ضرب الأميرال الإنكليزي «نابييه» ثغر بيروت وجبر «إبراهيم باشا» على إخلاء هذا الثغر، وبعد إخلائه بثلاثة أيام أعلن الباب العالي عزل «محمد علي باشا» من إمارة مصر نفسها، وكان ذلك بناءً على إيعاز «بونسونبي» سفير إنكلترا بالآستانة. فأحدثت هاتان الحادثتان في فرنسا تأثيرًا شديدًا، وهياجًا عظيمًا؛ مما جعل عناية الحكومة الفرنساوية بتتميم استعداداتها الحربية عظيمة شديدة، وصير الحرب قاب قوسين أو أدنى.

وقد استعفى بعد ذلك بقليل المسيو «تييرس» من رئاسة الوزارة الفرنساوية، وعُيِّن مكانه المرشال «سولت» وتقلد المسيو «جيزو» سفير فرنسا بإنكلترا منصب وزارة الخارجية؛ فبذل أقصى جهده في تعديل اتفاقية ١٥ يوليو التي عُقِدت بين الدول الأربع في لوندرة، ولكنه لم يفلح في مسعاه؛ لشدة كراهة «بالمرستون» وزير خارجية إنكلترا لفرنسا ولعزيز مصر.

وفي ذلك العهد جاءت الأخبار من الشام مؤيدة آمال بالمرستون، فإن الأسطول الإنكليزي والأسطول النمساوي استوليا على أهم المواني السورية، وخرجت «عكا» نفسها من أيدي الجنود المصرية في ٢ نوفمبر سنة ١٨٤٠، ولم يستطع المرحوم «محمد علي باشا» قمع الهيجان الذي أحدثته الدسائس الإنكليزية ضده في الشام، فسُرَّ بالمرستون بهذه الأخبار، وأراد أن يزيد الطين بلة ويجعل الاضطراب عامًّا في كل أنحاء أوروبا، فاقترح على الدول الأوروبية عزل «محمد علي باشا» من إمارة مصر نفسها وإخراجه هو وعائلته من الديار المصرية، فازداد لذلك الهياج في فرنسا ازديادًا هائلًا، وحمل المسيو «تييرس» في مجلس النواب الفرنساوي على الوزارة حملة شديدة متهمًا إياها بترك إنكلترا تنتقم من «محمد علي باشا» صديق فرنسا الحميم، فأجاب المسيو «جيزو» وزير خارجية فرنسا على اعتراضات «تييرس» وغيره من الخطباء بأن فرنسا لا تقبل أبدًا نزع إمارة مصر من أيدي «محمد علي باشا» وأبنائه من بعده، وأنها مستعدة للدفاع عن حقوقه في مصر، ولو اضطرت إلى الحرب. فأدركت أوروبا من لهجة الحكومة الفرنساوية أن قبول اقتراح بالمرستون يكون داعية لحرب عامة، وأصلًا لمصائب جمة، فرفضته إرضاءً لفرنسا، ومنعًا للحرب وعواقبها الوخيمة.

ولم يخضع المرحوم «محمد علي باشا» لأوامر الدول الأوروبية إلَّا عندما رأى أن فرنسا غير قادرة على مقاومة أوروبا كلها، وأن الأميرال الإنكليزي «نابييه» يهدد ثغر الإسكندرية إن بقي مستمرًّا على المقاومة وعدم الامتثال لأوامر الدول، فأمضى معه اتفاقية تعهد فيها بسحب الجنود المصرية من الشام، وتعهد له فيها الأميرال «نابييه» بجعل إمارة مصر له ولأبنائه من بعده، وما وصل خبر هذه الاتفاقية إلى الآستانة حتى أشار «بونسونبي» سفير إنكلترا بها على الباب العالي برفضها، فرفضها، وصرح بأنه لا يقبل جعل إمارة مصر وراثية لعائلة «محمد علي باشا» بل له وحده مدة حياته.

فلما علمت فرنسا بذلك عرضت حكومتها على مجلس النواب مشروع تحصين مدينة باريس، أي إتمام الاستعدادات الحربية، فأقر المجلس على المشروع بارتياح تام، وأيد الحكومة في خطتها ودفاعها عن حقوق مؤسسة العائلة الخديوية، فاضطربت حكومة النمسا وحكومة البروسيا عندما تحققت أن استعدادات فرنسا للحرب حقيقية، وأن الاعتداء على حقوق «محمد علي باشا» وسلالته في مصر يكون سببًا لحرب عمومية في أوروبا، واتفقتا على منع الحرب بكل الوسائل، وتأييد «محمد علي باشا» وسلالته من بعده في إمارة مصر، وجبرتا بالفعل إنكلترا والروسيا على تقديم مذكرة مشتركة معهما للباب العالي طلبت فيها الدول الأربع جعل إمارة مصر لمحمد علي باشا وسلالته من بعده، وقد قدمت هذه المذكرة في ٣١ يناير سنة ١٨٤١، وأخذت النمسا بعد تقديمها تجتهد في استمالة فرنسا للاشتراك مع بقية الدول في أمر تسوية المسألة المصرية؛ فقبلت فرنسا ذلك، ولكنها اشترطت عدم التعرض لاتفاقية لوندرة التي أبرمت بالرغم عن معارضتها وتم مفعولها.

وقد أقرت فرنسا مع الدول في لوندرة على اتفاقية البوغازات التي تضمنت قفل بوغاز الدردنيل والبوسفور لكل سفن الدول الحربية بلا استثناء.

وقبل أن تمضي الدول على هذه الاتفاقية أصدر الباب العالي، متبِّعًا في ذلك نصيحة السفير الإنجليزي «بونسونبي» خطًّا شريفًا أعلن فيه أن حكومة مصر تبقى وراثية لعائلة «محمد علي باشا» ولكن الدولة تحتم انتخاب من تشاء من أعضاء العائلة لإمارة مصر عند وفاة أميرها الحاكم، وألا تجند مصر أكثر من ثمانية عشر ألف عسكري، وأن تؤخذ الضرائب بنفس الطريقة التي تؤخذ بها في تركيا، وأن يرسل للدولة منها الربع، فرفض عزيز مصر هذه القيود كما رفضتها فرنسا، وعاد الهياج والاضطراب في فرنسا إلى ما كانت عليه. فاهتم «مترنيخ» وزير النمسا الأول بالأمر، وسعى في عزل الصدر الأعظم «رشيد باشا» الذي كان يعمل بنصائح السفير الإنكليزي، فعزلته الدولة وعينت مكانه «رفعت باشا» وأصدرت إرادة جديدة بتعيين «محمد علي باشا» واليًا على مصر، وجعل إمارة مصر لأبنائه من بعده الأرشد فالأرشد، وبأن يتفق بعد بين مصر والباب العالي على مبلغ ترسله مصر سنويًّا للدولة العلية.

فقبل المرحوم «محمد علي باشا» هذه الشروط في ١٠ مايو سنة ١٨٤١، ولم يعد لإنكلترا وسفيرها بالآستانة حجة لخلق المشاكل ومد أجل الشقاق، وبذلك أمضت الدول كلها في لوندرة بتاريخ ١٣ يوليو من السنة نفسها على اتفاقيتين: الأولى معلنة قفل باب المسألة المصرية حين ذاك. والثانية: متعلقة بقفل بوغازي الدردنيل والبوسفور أمام سفن الدول الحربية.

وبذلك انتهت هذه الأزمة المشئومة.

•••

لا ريب أن المرحوم «محمد علي باشا» كان يعمل لتوسيع نطاق ملكه، وكان مولعًا بأن يتولى إمارة مصر والشام؛ لتتم له الكلمة في الشرق وفي البحر الأبيض المتوسط، وكأنه رأى ما رآه قبله نابليون من أن صاحب مصر لا يهنأ له عيش ولا تكمل له سعادة بغير الشام، وكذلك صاحب الشام لا تؤيد إمارته ولا تقوى سلطته إلَّا باستلامه زمام أمور مصر، فطمح لذلك مؤسس العائلة الخديوية لجعل الشام تحت حكمه، وانتهز فرصة رفض والي «عكا» قبول طلبه بإرجاع المصريين المهاجرين من مصر إلى وطنهم؛ لفتح الشام وتحقيق أمانيه، ومما سهل له ذلك علمه بارتباك أحوال الدولة عندئذ، واشتغال المرحوم السلطان «محمود الثاني» بتنظيم جيش جديد.

وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن «محمد علي باشا» كان يؤمل القبض على زمام الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية والجلوس على أريكة ملك آل عثمان، ولكني لست ممن يرون هذا الرأي، بل ولا ممن يظنونه ظنًّا، فإن «محمد علي باشا» الذي وهبه الله من الذكاء النادر والفكر الحاد والنظر الصائب والبصيرة الصادقة ما جعله في نظر الكثيرين فوق «نابليون» رأيًا وعملًا أبعد من أن يؤمل مثل هذا الأمل المستحيل، وإن ذلك الذي سخرت له الرجال وذللت أمامه صعاب الأعمال كان يعلم أكثر من كل إنسان أن زوال المملكة العثمانية أمر لا يكون إلَّا إذا زال هذا الوجود، وأن دولة الروسيا القوية العظيمة لم تستطع بلوغ هذه الغاية، فكيف به وما كان إلَّا أمير مصر؟!

كلا، إني لست ممن يرون بأن مؤسس العائلة الخديوية الكريمة كان يؤمل أو يحلم أن يقبض على زمام الدولة العثمانية، ولكنه كان يريد أن يحكم الشام مع مصر، وها هي رسائله إلى «لويس فيليب» ملك فرنسا مدونة في المستندات الرسمية والتاريخية تثبت أن غاية أمانيه كانت الاستيلاء على الشام.

ولو كان يعلم عزيز مصر بالنتائج السيئة والعواقب الوخيمة التي تنشأ عن دخوله الشام، ووقوع الخلاف بينه وبين الدولة العلية؛ لكان ولا محالة عدل عن أمنيته وعمله، ولا جرم أن «محمد علي باشا» تنَدَّم طويلًا على هذا الخلاف المشئوم، وتحَسَّر على ما فرط منه.

وقد يذهب الإنسان عندما يقلب صحائف تاريخ هذه الأزمة المشئومة إلى أن هنالك أسرارًا لم يكشفها لنا التاريخ دفعت بعزيز مصر ضد الدولة العلية، فإن المرحوم «محمد علي باشا» كان يعلم علم اليقين أن إنكلترا هي أول عدوة له ولمصر، وأنها لذلك تعاكسه بكل ما في وسعها، وكان لا يغيب عنه أن الروسيا لا يروق لها استيلاؤه على الشام وتأسيس دولة إسلامية جديدة يكون لها من القوة والحول ما تستطيع معه الدولة العلية يومًا من الأيام أن تقهر الروسيا وتردها عن ديارها.

وعلى أي حال، فهذه الأزمة المشئومة يجب أن تكون درسًا أبديًّا للعثمانيين والمصريين، بل ولسائر المسلمين؛ فإن هذا الخلاف القديم كان سببًا لمصائب جمة تساقطت على مصر وعلى الدولة العلية، وفي أغلب الملمات التي نزلت بالدولة أو بمصر يرى الإنسان أثرًا من آثار ذلك الشقاق المنحوس.

وقد يعمل بعض المفسدين على إحياء الضغائن في صدور رجال الدولة العلية بإيهامهم أن مصر طامحة الآن وفي كل آن إلى ما طمح إليه مؤسس العائلة الخديوية، وهي دسيسة لا يُقصَد بها إلَّا الإضرار بمصالح الدولة وبمصالح مصر.

فإذا كان الخلاف القديم قد جرَّ على الدولة وعلى مصر المصائب والبلايا، فواجب على بني الدولة وبني مصر أن يعتبروا به، وأن يجعلوا الوفاق والاتفاق رائدهم في كل أعمالهم؛ فمصر من الدولة روحها ومن الخلافة فؤادها، ولا حياة لهذا الجسم العظيم إلَّا بالاتفاق بين أعضائه في العمل.

وإذا كانت دول أوروبا تتحد وتتفق مع قوتها وعظمتها عندما يهم المسيحية أمر، فكيف لا نتحد معاشر المسلمين وبلادنا واقعة في أشد البلاء، والأخطار محدقة بها من كل جانب، وأعداؤها يكيدون لها أعظم كيد كلما سنحت لهم الفرص؟!

لا سلامة للدولة العلية ولمصر إلَّا بالوفاق والاتحاد، وقد أدرك هذه الحقيقة المصريون عن بكرة أبيهم مقتدين بالعباس أميرهم المحبوب، فتقربوا من الدولة العلية، وجاهروا بمحبتها في السراء والضراء، واعترف العالم كله بأن أهل مصر أصدق المخلصين للدولة العلية وللعرش الشاهاني؛ إذ ثبت ذلك بأجلى بيان في الحرب الأخيرة، ولا ريب عندي أن أمة مصر العزيزة ثابتة في أميالها لا تتحول أبد الدهر عن إخلاصها للدولة العلية حماها الله.

وإنه ليجب على كل مصري صادق وعلى كل عثماني يخلص الحب لبلاده أن يحبط أعمال الذين يبثون الدسائس بين مصر والدولة العلية، ويلقون بذور الشقاق بين جلالة الخليفة الأعظم وسمو الخديوي الأفخم، فإن أولئك العاملين على خلق الشحناء والبغضاء بين المتبوع والتابع لأشد خصوم الدولة، وألد أعدائها.

كتاب من «محمد علي» أمير مصر إلى «لويس فيليب» ملك فرنسا

نأتي هنا على ترجمة كتاب أرسله عزيز مصر إلى ملك فرنسا بشأن حوادث الشام ومسألة الخلاف بينه وبين الدولة العلية، وكنا قد نشرناه في جريدة المؤيد الغراء عقب خطبة ألقيناها بالإسكندرية، وأشرنا فيها إليه.

ومن هذا الكتاب يعرف القارئ حقيقة أفكار المرحوم «محمد علي باشا» وأمياله وقت الأزمة السالفة الذكر.

القاهرة في ١٦ رمضان سنة ١٢٥٦ هجرية، نوفمبر سنة ١٨٤٠

أيها الملك العظيم، إني أشعر بالحاجة لإظهار شكري لجلالتكم، ذلك الشكر الذي يجيش في صدري.

فلقد ألقت نحوي حكومة جلالة الملك من أمد بعيد أنظار رعايتها، واليوم تتوج جلالتكم مآثرها عليَّ بإعلانها للدول أن وجودي السياسي ضروري للموازنة الأوروبية.

وإن هذه العواطف الجديدة من شأنها أن تحدد لي واجبات أعرف القيام بها، وأول هذه الواجبات هو أن أوضح لملك فرنسا بكل صراحة أسباب سلوكي الحالي واحدًا بعد آخر.

لقد كانت في سائر الأزمان سعادة الدولة العثمانية أصدق أمنية أتمناها من صميم فؤادي؛ حيث أنا أود أن أراها دائمًا سعيدة قوية آمنة، وكانت قصارى آمالي ومرامي أنظاري موجهة نحو مساعدتها على أعدائها أولًا، والمحافظة على كل ما ملكته يدي بعد المجاهدات العظيمة في سبيل الدفاع عنها ثانيًا.

أما الذي حببني نحو فرنسا — وأقول ذلك بكل صراحة — وحملني على اتباع نصائحها دائمًا، فهو ما تبينته من أنها أكثر الحكومات رغبة في خير الدولة العثمانية بلا خديعة ولا مواربة ولا شائبة قصد سيئ، وكذلك أرجو أن تعتقد جلالتكم أن حبي لبلادي هو الذي كان دائمًا الدافع لي والقائد لزمامي.

وعلى ذلك استطعت بعد المجاهدات العظيمة والأحوال المتناقضة تأييد الأمن في الشام، فحل فيها اليوم السلام محل الفوضى والاضطراب، وإذا كنت قد أظهرت عظيم رغبتي في بقاء هذه البلاد تحت حكومتي؛ فذلك لأني معتقد بأنها إذا نُزِعت من يدي عادت إليها المصائب التي استأصلت جراثيمها منها. ومن جهة أخرى، أرى أن الشام تصير إذا بقيت في يدي عنصر قوة أستطيع به وقتئذ مساعدة مولاي السلطان ودولتي العلية مساعدة فعلية حقيقية، ولكنها لما كانت في يد الدولة العلية — وذلك ما أتجاسر على القول به — كان الاضطراب والفوضى والحروب الأهلية مستحكمة فيها، وها قد تحققت اليوم شيئًا مما كنت أخافه، فلقد ساعد النفوذ الأجنبي عناصر الشقاق والاضطراب حيث لم يكن يفلح أول الأمر مسعى الذين كانوا يهيجون الأمة، ولكن مساعي أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يخدمون استقلال تركيا بإحداثهم الاضطراب في إحدى ولاياتها نجحت هذه المرة، لا في إثارة خواطر البلاد فقط، بل وفي إقامة الأمة ضد بعضها، فثارت بذلك الحروب الأهلية.

وإن دواعي المصلحة العمومية التي كانت ترغبني في المحافظة على الشام، وجعلها تحت حكومتي زالت اليوم بالمرة، ولم تبقَ هنالك إلا مصالحي الخصوصية ومصالح عائلتي، وإنني مستعد لحياطة هذه المصالح بكل ما يصل إليه جهدي في سبيل سلامة العالم، فأترك إذن الأمر للحكمة العالية، وأضع بين يدي ملك فرنسا حظي، فهو الذي يسوي كما تقتضيه رغبته الخلاف الحالي.

وإذا وافق ما أعرض على جلالتكم؛ فإنني أرضى من الشام بعكا؛ لأنها البلد التي قاومت بكل الوسائل مساعي التهييج التي عملت لإثارتها ضدي، وقد يجوز أن جلالتكم ترى من العدل أن تترك لي جزيرة «قنديه» التي صارت تحت سلطة حكومتي حسنة زاهية من عهد بعيد، ولكن إذا أرشدتكم حكمة جلالتكم العالية إلى أن زمن التساهل والتنازل قد فات، وأن المحافظة الشديدة واجبة، فإني مستعد للكفاح حتى آخر لحظة من حياتي أنا وسائر أولادي، وإن جيشي في الشام لا يزال عظيمًا، ودمشق وحلب وكل المدائن المهمة لا تزال تحت سلطتي، وجيشي الذي في الحجاز ها هو عائد نحو مصر، وقد وصل قسم منه إلى القاهرة، ويصل القسم الآخر قريبًا، وبين يدي شيوخ ذوو نفوذ هم نازعون الآن إلى جبل لبنان متعهدين بأن يخضعوا لسلطتي الدروز والمارونيين، ولدي أربعون باخرة مستعدة للسفر لأول إشارة من جلالتكم.

وعليه فأؤمل أن أسباب مسعاي لا تبقى مجهولة بعد اليوم، حتى لا يظن إنسان ما أن الخوف صار قائدي الآن، فإن حياتي كلها براهين داحضة لمثل هذه الدعوى، ولو كان الخوف يقودني، لجاز أن أرى ضعيفًا واهنًا، ولكنت تنازلت منذ ١٥ يومًا حيث كان وجودي مهددًا بالأخطار، ولكن اليوم وقد أنقذ وجودي السياسي بإعلان فرنسا، فإنني لا أخاطر بشيء كبير إن طالت الحرب.

كلا، وليست القوة التي يعدونها ضدي هي التي ترهبني؛ بل إن الذي يرهبني هو أن أكون سببًا لحرب عمومية، وأن أجرَّ فرنسا التي أنا مدين لها كثيرًا إلى حرب لا يكون لها داعٍ غير فوائدي ومصالحي الشخصية.

ولهذا فإنني أعرض حقيقة الأمر على أنظار جلالتكم، واعترافي لكم بالجميل يجعل ذلك فرضًا وواجبًا عليَّ، فضلًا عن أني معجب وواثق بملك فرنسا، ذاك الإعجاب وهذه الثقة اللتين تحمل العالم كله عليهما حكمة جلالتكم وذكاؤكم العالي، وإنني بهما أضع حظي بين يديكم.

ومهما كان قرار الملك، فإني أقبله بشكر وامتنان ما دامت جلالتكم مشتركة في المعاهدة التي سيتفق عليها بين الدول العظيمة، والتي تقرر حظي ومستقبلي.

وأخيرًا، مهما وقع ومهما كان الأمر، فإني أرجو الملك أن يسمح لي بأن أقول له: «إن اعترافي بالجميل نحوه ونحو فرنسا سيبقى في قلبي إلى الأبد، وإني أتركه إرثًا لأبنائي وأبناء أبنائي من بعدي كواجب مقدس.»

ولقد كنت أود أنه كلف أحد ضباطي العظام المعول عليهم بحمل هذا الكتاب إلى أعتاب جلالتكم، ولكن الصعوبة وطول القورتنينه حملتاني على تكليف الكونت «والوسكي» بتوصيله إلى جلالتكم، ا.ﻫ.

محمد علي

(٣) الأزمة الثالثة: حرب القرم

تبين للقارئ فيما سبق أن إنكلترا حلت محل الروسيا في النفوذ لدى الباب العالي، وصارت وحدها المسموعة الكلمة في الأزمة الأخيرة عند رجال الدولة، وأنها توصلت إلى إبطال معاهدة «خونكار أسكله سي» التي خولت للروسيا حق إرسال جيوشها إلى قلب الدولة العلية عند الحاجة، فاستاءت الروسيا لذلك، وعقدت النية على الانتقام من الدولة العلية التي أحلت إنكلترا محلها، وقد كان المرحوم السلطان الغازي «عبد المجيد خان» عاملًا على إصلاح أحوال الدولة، وتنظيم إدارتها، فأصدر فرمان الكلخانة الشهير الذي اشتمل على إصلاحات عديدة كانت تكفي لتقويم أحوال الدولة وتقويتها في ظرف قليل من السنين، فساء ذلك القيصر «نيقولا الأول» لأن سياسته كانت تقتضي تقهقر الدولة على الدوام، وعدم تمكنها من إصلاح شئونها، وتقويم المعوج في أحوالها؛ ولذلك أوعز إلى المسيحيين الأرثوذكس في الدولة بمعارضة «التنظيمات» والعمل على إيقاف تنفيذها، وبالرغم عما بذله الأرثوذكس من معارضة التنظيمات الجديدة، فإن الحكومة العثمانية التي كان على رأسها وقتئذ «رشيد باشا» ابتدأت في تنفيذها، واستبشر كل العثمانيين بقرب فلاحها تمام الفلاح، ونيل ثمارها. إلَّا أن ذلك كان من شأنه ازدياد حقد القيصر «نيقولا الأول» على الدولة العلية، فأمر بإجراء التجهيزات الحربية اللازمة، واستعد لمحاربة الدولة مؤملًا إضعافها وإيقافها في طريق الإصلاح.

ولإيجاد المشاكل بين الروسيا والدولة العلية أوعز القيصر «نيقولا الأول» إلى القس «دانيلو» الذي كان حاكمًا على الجبل الأسود، وتابعًا للدولة العلية، بأن يرفع راية العصيان في وجه الدولة، ودعاه قبل ذلك للسفر إلى سان بطرسبورغ، فسافر إليها وقُوبِل فيها باحتفاء عظيم، وأهداه القيصر المال والنياشين، وحرضه ضد الدولة بكل أنواع التحريضات حتى عاد إلى الجبل الأسود، ونادى أهله باسم الصليب والدين الأرثوذكسي للقيام في وجه الدولة؛ فلبُّوا نداءه وثاروا أجمعين.

فلما علمت الحكومة العثمانية بذلك؛ سيرت جيشًا عظيمًا بقيادة عمر باشا — وهو قائد عثماني جليل اشتهر بقهر بلاد البوسنة — لقمع ثورة أهل الجبل الأسود، فسار الجيش ووقعت بينه وبين الثوار مواقع دموية في جبال هذه البلاد، حتى قهر الثوار وتم له الظفر والنصر، وقد كان لهذه الحادثة تأثير شديد في أوروبا، فاهتمت كل الدول بالأمر وعلى الخصوص النمسا، فإنه كان يهمها عدم اضطراب الأحوال في البلقان، ولكنها كانت مدينة للروسيا بمساعدتها في عام ١٨٤٩ في قمع الثورة المجرية، فاضطرت للتظاهر بمساعدة أهل الجبل الأسود لدى الباب العالي، وكان غرضها الحقيقي توطيد السكينة والسلام في البلقان، وإحباط مساعي الروسيا، فسألت الباب العالي في آخر عام ١٨٥٢ أن يعتدل في انتقامه أهالي الجبل الأسود، حتى لا تجد الروسيا حجة لخلق مشاكل جديدة.

وفي هذه السنة نفسها حدث خلاف عظيم بين الروسيا وفرنسا بشأن الأماكن المقدسة في الشام؛ وذلك أن لفرنسا بمقتضى معاهدات قديمة وحقوق ثابتة حماية معنوية على الكاثوليكيين في الشرق، وقد توصلت بهذه الحماية إلى جعل مفاتيح كنائس «أورشليم» بأيدي الكاثوليكيين، فأرادت الروسيا أن ترفع كلمة الدين الأرثوذكسي بتسليم مفاتيح الكنائس بأورشليم إلى القسس الأرثوذكس؛ ليزداد نفوذها في الشرق مما يخالف مصلحة فرنسا في الشرق وشرفها كل المخالفة؛ فلذلك احتجت الحكومة الفرنساوية على رغبة الروسيا، وطلبت من الباب العالي أن يَفصِل في هذا الخلاف بمقتضى الحقوق والمعاهدات، فعين الباب العالي لجنة للتحقيق. وبعد بحث طويل أقرت اللجنة على أن للكاثوليكيين وحدهم الحق في امتلاك الكنائس بأورشليم، وبناء على هذا القرار أصدر الباب العالي فرمانًا بذلك بتاريخ ٩ فبراير سنة ١٨٥٢، فاستاءت الروسيا من هذا الفرمان غاية الاستياء، وألحَّت على الحكومة العثمانية بإبطاله مدعية أن معاهدتي «قينارجه» و«أدرنة» تخولان لها هذا الحق، ولكن الباب العالي أبقى فرمان ٩ فبراير بالرغم عن إلحاح الروسيا ومعارضتها.

وفي آخر عام ١٨٥٢ تعين لويس نابليون «نابليون الثالث» إمبراطورًا على فرنسا، فعمل على رفع شأن بلاده في الشرق، وسُرَّ لهذا الخلاف الناشئ بين دولته وبين الروسيا؛ ليدافع فيه عن مصالح الكاثوليكية، ويستميل بذلك رجال الدين إليه.

وقد خافت النمسا وقتئذ أن يتسع الخرق على الراتق، وتشتعل نيران الاضطرابات في البلقان ونيران الحرب بين الروسيا والدولة العلية، فبذلت جهودها في تسوية مسألة الجبل الأسود، وأرسلت في يناير عام ١٨٥٣ إلى الآستانة الكونت دي «ليننجن» يرجو الباب العالي باسم النمسا توطيد السكينة في هذه الجهات المضطربة، والعفو عن ثوار الجبل الأسود، ومكافأة المسيحيين الذين لم يثوروا ولحقهم الضرر في هذه الاضطرابات، فأجاب الباب العالي رجاء النمسا، وتأيدت السكينة والطمأنينة في الربوع المضطربة.

أما ما يختص بمسألة الأماكن المقدسة، فقد أرادت فرنسا أن تتساهل مع الروسيا خصوصًا وأنها بلغت مرامها، واكتسب «نابليون الثالث» ميل الكاثوليكيين إليه، فسألت الباب العالي أن يمنح القسوس الأرثوذكس بعض امتيازات في كنائس أورشليم، وخابرت الحكومة الروسية في أمر عقد لجنة بسان بطرسبورغ من مندوبي الحكومتين للنظر في مسألة الأماكن المقدسة، فقبلت الروسيا، وكان يُخيَّل وقتئذ للعالم كله أن الخلاف بين الروسيا وفرنسا أوشك أن ينتهي بسلام.

•••

غير أن القيصر «نيقولا الأول» أمر في الوقت نفسه البرنس منشيكوف بالسفر إلى الآستانة؛ ليخلق سببًا لإعلان الحرب على الدولة العلية، وكانت مأموريته ظاهرها أنه مكلف بتسوية مسألتي الجبل الأسود والأماكن المقدسة مع الباب العالي، وقد سافر «منشيكوف» من سان بطرسبورغ في ١٠ فبراير سنة ١٨٥٣ مصحوبًا بضباط عديديين خلافًا للعادة الجارية عند سفر أحد السياسيين إلى إحدى العواصم لمخابرة حكومتها في أمر. وجمعت الروسيا على نهر «بروث» جيشًا مكوَّنًا من خمسين ألف عسكري، وبدت جليًّا لكل أوربا رغبة الروسيا في الحرب، بل عزمها على إعلانها.

وكان يظن القيصر «نيقولا الأول» أن البروسيا والنمسا تساعدانه ضد الدولة العلية، وأن إنكلترا لا تعارضه في شيء، وكان لا يخاف مساعدة فرنسا لتركيا، ولا يظن أن إنكلترا وفرنسا تتحدان مع تركيا ضده، وكان سفيره بلوندرة يمثل له الحكومة الإنكليزية ميالة للسلم، والرأي العام الإنكليزي مضادًّا للحرب، والعلائق بين إنكلترا وفرنسا غير متينة لا يُخشى معها من عقد اتفاق بين هاتين الدولتين. كل ذلك حمل القيصر «نيقولا الأول» على الاستعداد للحرب وعدم المبالاة بنتائجها.

وقد سعى القيصر طويلًا في الاتفاق مع إنكلترا على تقسيم الدولة العلية بين دولته وبينها، فتحادث في هذا الصدد كثيرًا مع السير «هاميلتون سيمور» سفير إنكلترا بسان بطرسبورغ، ولكنه لم يفلح؛ لأن إنكلترا كانت تعلم أن بقية الدول الأوروبية لا ترضى بأمر خطير كهذا، وأن تقسيم الدولة العلية ليس بالأمر السهل، وعلى فرض وقوعه فإنه يجر أكبر المصائب على العالمين، فضلًا عن أن هذا التقسيم لا يفيد في الحقيقة غير الروسيا.

وفي ٢٨ فبراير سنة ١٨٥٣ وصل البرنس «منشيكوف» إلى الآستانة بين رجاله وضباطه، وفي أبهة أراد بها التأثير على أفكار رجال الباب العالي، وصار في كل أفعاله يعمل على خلق سبب لإعلان الروسيا الحرب على الدولة العلية، فطلب أولًا عزل «فؤاد باشا» ناظر الخارجية العثمانية الذي كان عدوًّا للروسيا؛ لتسهل له المخابرات، ثم عرض على الباب العالي مشروع عقد تحالف دائم بين الروسيا والدولة العلية تعترف فيه الدولة بحماية القيصر على الكنيسة اليونانية. فاندهش رجال الدولة من هذا المشروع الغريب، وأدركوا أن الروسيا تريد إعلان الحرب؛ لأنها تعلم جيدًا أنه يستحيل على الدولة قبول هذا المشروع، فإن لرؤساء الكنيسة اليونانية سلطة دنيوية على نحو الخمسة عشر مليونًا من المسيحيين، وما حماية الروسيا على الكنيسة اليونانية إلَّا حماية حقيقية على هؤلاء المسيحيين.

وقد أبلغت الدولة العلية سرًّا وكلاء الدول الأوروبية طلب روسيا هذا، ووصل عندئذ للآستانة سفيرا فرنسا وإنكلترا بها، وكُلِّفا من قبل حكومتيهما بالعمل بالاتفاق. وبما أن البرنس «منشيكوف» كان لا يزال يجاهر بأن مأموريته تنحصر في حل مسألتي الجبل الأسود والأماكن المقدسة، اتفق السفيران على تعجيل حل هاتين المسألتين حتى يُضطَر «منشيكوف» إلى مبارحة الآستانة وإعلان انتهاء مأموريته أو التصريح بنوايا القيصر الحقيقية، وسبق أننا ذكرنا أن مسألة الجبل الأسود انتهت بتوسط النمسا لدى الباب العالي. أما مسألة الأماكن المقدسة، فقد رضيت فرنسا بتسويتها بما فيه ترضية للقيصر، وتمت هذه التسوية في ٤ مايو سنة ١٨٥٣، ولم يبقَ هنالك سبب ظاهري لبقاء «منشيكوف» بالآستانة، إلَّا أن القيصر بقي على نيته الأولى، وكان لا يزال يظن أن إنكلترا لا تساعد الدولة ضده، فقدم «منشيكوف» في ٥ مايو سنة ١٨٥٣ للباب العالي إنذارًا شديد العبارة طلب فيه أن يجيبه في ظرف خمسة أيام على طلبه بشأن عقد اتفاقية بين الدولتين، يضمن فيها الباب العالي للكنيسة اليونانية حريتها الدينية وامتيازاتها الدنيوية، ويجعل للروسيا عليها حماية حقيقية، وأعلن «منشيكوف» الباب العالي في إنذاره بأنه إن لم يقبل مطالب الروسيا قامت الحرب بين الدولتين. فأجاب الباب العالي بأن الكنيسة اليونانية متمتعة بتمام حريتها، وبأنه مستعد مع ذلك لأن يؤكد أمام العالم كله لسائر رعاياه المسيحيين ضمانته لحريتهم الدينية، وبأنه يرفض رفضًا باتًّا جعل الكنيسة اليونانية تحت حماية الروسيا، مبينًا للبرنس «منشيكوف» أنه لا يستطيع قبول هذا الطلب بدون تعريض استقلال الدولة للخطر، ووضع إدارتها الداخلية تحت مراقبة أجنبية — أي تحت مراقبة الروسيا.

وفي ذلك الحين عُيِّن «رشيد باشا» صدرًا أعظم ووزيرًا لخارجية الدولة، وكان معروفًا بكراهته الشديدة للروسيا، فتظاهر «منشيكوف» ببعض اعتدال في خطته، وسأل الباب العالي أن يرسل رسالة للحكومة الروسية يصرح لها فيها بقبول مطالبها، وبذلك لا تطلب منه الروسيا عقد اتفاقية بهذه المطالب. فأجاب «رشيد باشا» على هذا السؤال الجديد بالرفض، وكان ذلك في ٢٠ مايو سنة ١٨٥٣، فانقطعت المخابرات، وعاد «منشيكوف» إلى سان بطرسبورغ. وفي ٣١ مايو من السنة نفسها أرسل «نسلرود» وزير الروسيا الأول إنذارًا جديدًا للباب العالي بمعنى إنذار «منشيكوف»، وأعلن فيه بأن الروسيا تحتل مقاطعتي الأفلاق والبغدان إذا رفض الباب العالي قبول مطالبها، وقد كان ورفض الباب العالي رفضًا جديدًا قبول هذه المطالب، فأرسل «نسلرود» في ١١ يونيو سنة ١٨٥٣ إلى وكلاء الروسيا لدى الدول الأجنبية منشورًا بيَّن لهم فيه الأسباب التي حملت الروسيا على الشروع في احتلال الأفلاق والبغدان؛ أي على إعلانها الحرب على الدولة العلية.

•••

ما انتشر خبر تهديد الروسيا للدولة باحتلال مقاطعتي الأفلاق والبغدان حتى هاج الرأي العام في إنكلترا وفرنسا، واندهش ساسة الحكومتين من جراءة الروسيا الغريبة، وإقدامها على هذا العمل الخطير النتائج، فاتفقتا على مساعدة الدولة العلية ضدها، وأرسلتا أسطوليهما إلى فرضة «بزيكا» أي إلى مدخل الدردانيل؛ ليسهل لهما أن تساعدا الحكومة العثمانية مساعدة فعلية عن مساس الحاجة.

وإظهارًا لما جُبِلت عليه العائلة السلطانية المعظمة من محبة رعاياها على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، وحسن رعايتها لهم على السواء؛ أصدر الباب العالي خطًّا شريفًا بتاريخ ٦ يونيو سنة ١٨٥٣ منح فيه سائر المسيحيين في الدولة العلية الحرية الدينية التامة؛ أي أكَّد لهم استمرار الحكومة العثمانية على احترام هذه الحرية التي تمتعوا بها دائمًا هم وأسلافهم من قبل. وعرضت فرنسا من جهة أخرى على الدول الأوروبية مشروع عقد مؤتمر لإزالة الخلاف بين الروسيا والدولة العلية؛ فبرهنت بذلك الدولة العلية ونصيرتها الأولى فرنسا على اعتدالهما وميلهما للسلم، وتركتا مسئولية الحرب وسفك الدماء على الحكومة الروسية التي بقيت على عنادها، ولم ترجع عن قصدها.

وعندما علم القيصر «نيقولا الأول» بإرسال الأساطيل الفرنساوية والإنكليزية إلى الدردانيل غضب غاية الغضب، وزاد غضبه رفض الباب العالي للإنذار الذي أرسله إليه المسيو «دي نسلرود» وزير الروسيا الأول، فأصدر إلى الشعب الروسي بتاريخ ٢٥ يونيو من السنة نفسها منشورًا بيَّن له فيه أنه أشهر على تركيا حربًا يجب عليه اعتبارها حربًا صليبية، وجهادًا في سبيل الأرثوذكسية. وبعث كذلك «دي نسلرود» بمذكرة إلى الدولة الأوروبية أظهر لها فيها أن الدولة العلية وإنكلترا وفرنسا جبرت الروسيا على الحرب بأعمالها العدائية ضدها، كأن وزير القيصر أراد أن يغالط أوروبا بهذه المذكرة، أو كأنه نسي أن دولته هددت تركيا باحتلال مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وأن فرنسا وإنكلترا ما أرسلتا بأسطوليهما إلى مياه الدردانيل إلَّا عند توقع اشتعال نيران الحرب.

وقد هاجمت الجيوش الروسية في ٤ يوليو سنة ١٨٥٣ مقاطعتي الأفلاق والبغدان، واحتلتهما بعد أيام قليلة، فاستولى بذلك القلق على أفكار سواس الدول الأوروبية، وعلى الخصوص دولة النمسا التي كان موقفها حرجًا للغاية، فإنها كانت لا ترضى معارضة الروسيا؛ لما لهذه الدولة عليها من الأيادي البيضاء في قمع الثورة المجرية عام ١٨٤٩، ولأنها الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدتها ضد الثورات، فضلًا عن أن الروسيا كان في قدرتها أن تهيج العنصر السلافي في بلاد النمسا ضد الحكومة النمساوية. وكان من جهة أخرى اعتداء الروسيا على الدولة العلية مخالفًا لمصلحة النمسا كل المخالفة، وكان سواسها يعلمون علم اليقين أنها لو ساعدت الروسيا استطاعت فرنسا وإنكلترا أن تهيج ضدها إيطاليا والمجر وبولونيا؛ فلذلك بقيت النمسا حائرة في أمرها مضطربة في سياستها، وغاية ما أقر عليه سواسها أنهم سألوا الباب العالي ألا يجعل جوابه على احتلال الروسيا لمقاطعتي الأفلاق والبغدان إعلان الحرب عليها، بل مجرد احتجاج على هذا الاحتلال، حتى يسهل للنمسا مخابرة الدول في حل المسألة حلًّا سلميًّا؛ فقبل الباب العالي سؤال النمسا، وبرهن بذلك للعالم كله على عظيم اعتداله وسلامة أمياله؛ مما شجع النمسا على دعوة الدول لعقد مؤتمر بفيينا، وقد أجابت الدول دعوة النمسا، واجتمع مندوبوها بفيينا في ٢٤ يوليو سنة ١٨٥٣، ولم تقبل الروسيا الاشتراك في هذا المؤتمر، بل اكتفت بأن وعدت الدول بقبول ما تقرره فيه إن وافق مصلحتها.

وقد أقر هذا المؤتمر على قرار مبهم العبارة والمعنى كان يسهل لسواس الروسيا أن يفسروه حسب أهوائهم وأغراضهم، فرفضته الدولة العلية منعًا للمشاكل. فلما رأت فرنسا وإنكلترا أن الاتفاق مستحيل وأن الروسيا عاملة على منعه وإيقاد نيران الحرب أمرتا أسطوليهما بعبور الدردانيل، والوقوف أمام الآستانة، وكان ذلك بناء على طلب الباب العالي ورغبته، وفي آخر سبتمبر سنة ١٨٥٣.

وفي هذه الأثناء تقابل القيصر «نيقولا الأول» في مدينة «أولموتز» مع الإمبراطور «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا، وطلب منه الاتحاد معه ضد تركيا وفرنسا وإنكلترا، فاعتذر إمبراطور النمسا عن قبول هذا الطلب مظهرًا للقيصر أسفه من عدم إمكانه مساعدته، فلما لم يجد من إمبراطور النمسا إقبالًا على مساعدته طلب من ملك بروسيا مقابلته، وقابله وعرض عليه كذلك الاتحاد معه، ولكن نتيجة مسعاه عند ملك بروسيا كانت كنتيجة مسعاه عند إمبراطور النمسا.

أما الدولة العلية، فقد اهتمت بإتمام تجهيزاتها الحربية ولم تغفل شيئًا من لوازم الحرب، وكان الرأي العام العثماني متهيجًا جدًّا ضد الروسيا، والمسلمون في حالة قلق وهياج عظيمين، خصوصًا وأن منشور القيصر لشعبه أبان لهم أن الحرب دينية صليبية، فاجتمعوا مئاتٍ وألوفًا أمام سراي السلطان، وطلبوا بأعلى أصواتهم إعلان الحرب، فلبَّت الدولة طلبهم، وبعد جلسة عُقِدت من وزراء الدولة وكبرائها تحت رئاسة المرحوم السلطان الغازي «عبد المجيد خان»، وأعلنت الدولة الحرب على الروسيا بتاريخ ٤ أكتوبر سنة ١٨٥٣، وفي ٨ منه أنذر «عمر باشا» قائد الجيوش العثمانية البرنس «غورتشاكوف» قائد الجيوش الروسية بانجلاء العساكر الروسية من مقاطعة الأفلاق والبغدان، وحدد له خمسة عشر يومًا أجلًا للجلاء تبتدئ الحرب بعدها إذا لم ينفذ البرنس «غورتشاكوف» طلب «عمر باشا».

وقد كان القيصر «نيقولا الأول» مؤملًا قهر تركيا، ليس فقط بقوة جيوشه الجرارة، بل بفضل الاضطرابات والثورات التي كان يعمل عماله وصنائعه لإحداثها في الدولة العلية؛ فإن جملة من مهيجي اليونان قاموا في مقاطعة تساليا وأبيرا اللتين كانتا تحت حكم الدولة بتحريض الأهالي على العصيان في وجه الحكومة العثمانية، وساعدت الحكومة اليونانية وقتئذ هؤلاء المهيجين، وسمحت لعدد عديد من ضباطها وجنودها بالسفر سرًّا إلى تساليا وأبيرا؛ لنشر لواء الثورة بالفعل، وكان القيصر يحرض من جهة أخرى شاه العجم على محاربة الدولة العلية.

ولما كان أمل القيصر وطيدًا في نجاح ثوار اليونان، والوصول إلى إحداث الاضطرابات في الدولة من كل جانب، أظهر لدول أوروبا ميله للسلم ورغبته في تسوية المسألة تسوية سلمية، وكان قصده بذلك إغفال الدولة العلية عن إتمام تجهيزاتها الحربية وإضعافها بالاضطرابات والثورات. وقد اغترت النمسا بتصريحات القيصر وحسبتها صادرة عن إخلاص، فجمعت سفراء الدول بفيينا ثانية في مؤتمر، وقررت معهم في ٥ ديسمبر سنة ١٨٥٣ أمرين؛ الأول: المحافظة على استقلال الدولة العلية. والثاني: استقلال الحكومة العثمانية تمام الاستقلال في إدارتها وأعمالها الداخلية. وأرسلت النمسا مع هذا القرار مذكرة للباب العالي سألته فيها أن يخبر الدول في أقرب وقت على أي شروط يقبل المخابرة مع الروسيا في أمر الصلح.

ولكن جيوش الدولة كانت قد سارت تحت قيادة «عمر باشا» وهزمت الجنود الروسية هزيمة عظيمة اهتزت لها أوروبا كلها، وانتهت باسترجاع الدولة لمقاطعة الأفلاق الصغرى، وبإبعاد الجيوش الروسية من صربيا التي كان يجتهد الروسيون في تهييجها ضد الدولة. وفي آسيا أتى الجيش العثماني بقيادة «عبده باشا» ما أتاه مثيله بقيادة «عمر باشا» حيث دخل الأراضي الروسية، وهزم جنودها، واحتل قلعة «سانت نيقولا». فأزعجت القيصر هذه الانتصارات الباهرة، وانتقامًا من تركيا أمر أسطوله بالبحر الأسود أن يدمر أسطولها، ففاجأه في ميناء «سينوب» وأرسل عليه نيرانه حتى دمره بعد مجهودات عظيمة.

فلما وصل خبر واقعة «سينوب» إلى المرحوم السلطان «عبد المجيد خان» أرسل إلى دولتي فرنسا وإنكلترا يسألهما إرسال أساطيلهما إلى البحر الأسود لحماية المواني العثمانية؛ فأجابت الحكومة الفرنساوية الطلب بدون إمهال، بخلاف الحكومة الإنكليزية فإنها تأخرت لعدم ميل «أبردين» رئيس الوزارة الإنكليزية إلى الحرب، وأمله في حل المسألة حلًّا سلميًّا. غير أن الرأي العام الإنكليزي كان ميَّالًا إلى الحرب متهيجًا ضد الروسيا، وكان «بالمرستون» وزير خارجية إنكلترا من أكبر أنصار الحرب، فقدم استعفاءه في ١٥ ديسمبر عام ١٨٥٣ عندما رأى تأخر «أبردين» في إرسال الأساطيل الإنكليزية إلى البحر الأسود؛ فازداد تهيج الرأي العام الإنكليزي، واضطر «أبردين» إلى دعوة بالمرستون لسحب استعفائه والعودة للوزارة تاركًا له قيادة السياسة الإنكليزية كما يرى ويشاء، فأرسل «بالمرستون» الأساطيل الإنكليزية إلى البحر الأسود حسب طلب الدولة العلية، وفي ٢٧ ديسمبر أرسلت فرنسا وإنكلترا مذكرة مشتركة للروسيا أعلنتاها فيها بوجوب سحب مراكبها وسفنها من البحر الأسود، وبأن أساطيلهما داخلة إلى هذا البحر، وبأنهما تسمحان للدولة العلية بترك مراكبها وسفنها فيه، فكان الإعلان في الحقيقة إعلانًا للحرب من فرنسا وإنكلترا على الروسيا، ولم ترضَ حكومتا الدولتين التصريح به علنًا؛ لاشتغالهما بأمر إتمام التجهيزات الحربية.

كل هذه الحوادث كان من شأنها ازدياد حيرة النمسا، فعادت هذه الدولة مرة ثالثة إلى مخابرة الدولة العلية وبقية الدول في أمر منع الحرب، فطلبت من الدولة إيضاح الشروط التي تطلبها لعقد الصلح، فأجابتها الدولة بأن شروطها أربع؛ أولًا: إعلان استقلال بلادها وأراضيها، وضمانة دول فرنسا وإنكلترا والنمسا والبروسيا لهذا الاستقلال. ثانيًا: انجلاء العساكر الروسية من مقاطعتي الأفلاق والبغدان. ثالثًا: تجديد الضمانات المقدمة من أوروبا للدولة في عام ١٨٤١. رابعًا: احترام أوروبا كلها وفي مقدمتها الروسيا لاستقلال الحكومة العثمانية في كل أعمالها داخلية كانت أو خارجية.

فلما عُرِضت هذه الشروط على سفراء البروسيا والنمسا وفرنسا بفيينا؛ قبلوها وصدقوا عليها، وكلفوا حكومة النمسا في ١٣ يناير سنة ١٨٥٤ بتبليغها للروسيا، وبقيت الدول منتظرة جواب الروسيا على إنذار فرنسا وإنكلترا أولًا، وعلى مذكرة الدول الأربع ثانيًا، إلَّا أن القيصر «نيقولا الأول» كان لا يزال مؤملًا مساعدة البروسيا والنمسا، فأرسل إلى برلين البارون «دي بودبرج» وإلى فيينا الكونت «أورلوف» ليسألا الحكومتين البروسية والنمساوية أن تبقيا على الحيادة أثناء الحرب، ويعدهما القيصر مقابل ذلك بدعوتهما بعد للاشتراك معه في حل المسألة الشرقية، فطلبت النمسا من الكونت «أورلوف» ألا تَعبُر الجنود الروسية نهر الدانوب، ووعدته بالبقاء على الحيادة إذا قبلت الروسيا هذا الشرط، ولكن الروسيا وجدت قبوله يضر بها ضررًا عظيمًا في الحرب، فرفضته وحملت بذلك النمسا على أن ترفض طلبها البقاء على الحيادة، وأن تحفظ لنفسها حرية تامة في العمل.

وقد رفضت البروسيا أيضًا طلب الروسيا بالرغم عن قرابة القيصر «نيقولا الأول» لملكها، وتحقق القيصر عندئذ أنه لا نصير له بين دول أوروبا، وأنه سيحارب تركيا وحده، فرفض مذكرة الدول الأربع التي أرسلت إليه في ١٣ يناير سنة ١٨٥٤، وأجاب على كتاب ودِّي أرسله إليه «نابليون الثالث» إمبراطور فرنسا نصحه فيه بقبول مطالب الدول بأن شرف الروسيا يحتم عليها الحرب، وبقي بذلك على عناده الأول غير حاسب لنتائج الحرب حسابًا.

فلما علمت الحكومة الفرنساوية والحكومة الإنكليزية بنوايا القيصر أرسلتا إلى حكومته بتاريخ ٢٧ فبراير سنة ١٨٥٤ إنذارًا هددتاها فيه بوجوب إخلاء مقاطعتي الأفلاق والبغدان وإلَّا أعلنتا عليها الحرب، واجتهدت فرنسا وإنكلترا بعد ذلك في ضم النمسا والبروسيا إليهما ضد الروسيا، غير أن ملك بروسيا رفض الاشتراك في الحرب ضد الروسيا، وأبلغ حكومات فرنسا وإنكلترا والنمسا بأنه مستعد للاتفاق معها على بعض قواعد سياسية، تكون فيما بعد أساسًا لتسوية الخلاف بين الروسيا وتركيا. فقبلت الدول الثلاث ذلك، واجتمع مندوبو البروسيا والنمسا وإنكلترا وفرنسا في فيينا مرة رابعة، وأمضوا على بروتوكول «مذكرة» ٩ أبريل سنة ١٨٥٤ المشتمل على القواعد الآتية؛ أولًا: استقلال الدولة العلية. ثانيًا: انجلاء العساكر الروسية من مقاطعتي الأفلاق والبغدان. ثالثًا: استقلال الحكومة العثمانية في أعمالها، وترك الحرية التامة لها في منح رعاياها المسيحيين الامتيازات اللازمة. رابعًا: الاتفاق على الضمانات اللازمة؛ لتنظيم العلاقات السياسية للدولة العلية؛ مما يضمن سلامة التوازن الأوروبي.

وعندما وصل إنذار فرنسا وإنكلترا السابق الذكر إلى القيصر «نيقولا الأول» رفضه رفضًا باتًّا، وقَبِل إعلان الحرب عليه من الدولتين، فعقدت فرنسا وإنكلترا عندئذ في ١٢ مارس سنة ١٨٥٤ تحالفًا مع الدولة العلية ضد الروسيا اشترط فيه بادئ بدء أن فرنسا ترسل خمسين ألف جندي إلى تركيا، وأن إنكلترا ترسل خمسة وعشرين ألفًا، ولكن الحرب اقتضت إرسال جنود كثيرة، حتى إن فرنسا وحدها فقدت في ساحة القتال فوق المائة ألف جندي، واشتُرِط في هذا التحالف أن دولتي فرنسا وإنكلترا تسحبان جنودهما في مدة خمسة أسابيع بعد عقد الصلح مع الروسيا، واشتُرِط كذلك أن دولتي فرنسا وإنكلترا ترسلان أساطيلهما إلى البحر الأسود، وبالفعل استولت فرنسا وإنكلترا على البحر الأسود وأرسلتا جيوشهما إلى الدانوب، ولقمع الثورة في تساليا وبيرا أُرسِل جزء من هذه الجيوش إلى هاتيك الجهات، فقمعت الثورة في زمن يسير، وعادت السكينة بعد الاضطراب.

•••

وبعد أن اتفقت فرنسا مع إنكلترا ضد الروسيا اجتهدت الحكومتان في استمالة النمسا إليهما؛ لأن قوة الجيش الروسي كانت على الدانوب، وكان يسهل التغلب عليه وقهره إذا ساعدت النمسا دول تركيا وفرنسا وإنكلترا، غير أن النمسا كانت تأبى العمل ضد الروسيا قبل اتفاقها على ذلك مع البروسيا، فخابرت هذه الدولة التي كان من صالحها خدمة الروسيا بدون أن يدرك ذلك أحد، وطالت المخابرات بينهما، وانتهت بعقد اتفاقية بين النمسا والبروسيا بتاريخ ٢٠ أبريل سنة ١٨٥٤ تضمنت أن النمسا ترسل لحكومة الروسيا إنذارًا بعدم تقدم جنودها وبانسحابها من مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وأن النمسا والبروسيا تعلنان الحرب على الروسيا إذا عبرت البلقان أو أعلنت استيلاءها على المقاطعتين.

وقد وجهت البروسيا عنايتها بعد عقد هذه الاتفاقية إلى إبطال مفعولها مع بقائها، وأخرت إرسال النمسا للإنذار المتفق عليه مؤملة استيلاء الجيوش الروسية في هذه الأثناء على مدينة «سيليستريا» التي كانت محاصرة لها، والتي لم تستطع الاستيلاء عليها، ولم ترسل النمسا إنذارها للروسيا إلَّا في ٣ يونية عام ١٨٥٤.

ولما لم يستطع «غورتشاكوف» الاستيلاء على «سيليستريا» رفع عنها الحصار، وسحب جيوشه عائدًا إلى الوراء، وعندئذ اتفقت النمسا مع الباب العالي بتاريخ ١٤ يونيو سنة ١٨٥٤ على احتلالها لمقاطعتي الأفلاق والبغدان، وصد هجمات الروسيا عنهما، ومساعدة عساكر فرنسا وإنكلترا في حركاتهما الحربية، إلَّا أن البروسيا كانت عاملة كما قدمنا على معاكسة النمسا في خطتها، فأوعزت إلى حكومات الاتحاد الجرماني باشتراط جملة شروط للتصديق على الاتفاقية التي عُقِدت بين الروسيا والنمسا في ٢٠ أبريل، فعملت هذه الحكومات الصغيرة بإيعاز البروسيا واشترطت عدة شروط؛ منها اشتراكها في المخابرات التي ستجري بين الدول بشأن المسألة الشرقية، ومنها أنه إذا كانت النمسا ستجبر الروسيا على إخلاء مقاطعتي الأفلاق والبغدان يجب عليها كذلك أن توقف سير إنكلترا وفرنسا وتجبرهما على الإمضاء على هدنة؛ فاضطرت النمسا لقبول هذه الشروط، ورضيت فرنسا وإنكلترا بناء على رجائها بألا تسير جيوشهما من جهة المقاطعتين، واتفقتا عندئذ على تجريدة «القرم» والهجوم على مدينة «سباستول».

وقد أنقذت الروسيا من أخطار هائلة وخسائر جمة بتحول الجيوش الفرنساوية والإنكليزية بعد التركية عن مقاطعتي الأفلاق والبغدان اتباعًا لرجاء النمسا، والفضل في ذلك للبروسيا التي أوعزت لحكومات الاتحاد الجرماني باشتراط هذا الشرط على حكومة النمسا.

فلما تحققت الروسيا من ميل البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني إليها أرسلت للنمسا بتاريخ ٢٩ يونية عام ١٨٥٤ جوابها على إنذارها مبينة أنها لا تستطيع الرضاء بإخلاء المقاطعتين من جنودها إلَّا إذا قدمت لها النمسا ضمانات كافية، وأعلنت عدم اتحادها مع فرنسا وإنكلترا، وتعهدت بمنعهما من محاربة الروسيا في الأفلاق والبغدان؛ فرأت النمسا عندئذ ضرورة الاتفاق مع فرنسا وإنكلترا على شروط جديدة لتسوية الخلاف بين الروسيا وتركيا تكون بمثابة إنذار جديد للروسيا، وجمعت بفيينا مندوبي فرنسا وإنكلترا مع مندوبيها لوضع هاته الشروط، فلما وصل هذا الخبر إلى ملك البروسيا أوعز إلى إمبراطور الروسيا بإعلان إخلاء المقاطعتين من الجنود الروسية مؤملًا بذلك تعطيل أعمال مندوبي الدول الثلاث بفيينا، ولكنهم لبثوا مجتمعين بضعة أيام قرروا فيها — يوم ٨ أغسطس عام ١٨٥٤ — أن العلاقات السياسية بين تركيا والروسيا لا تعود لمجراها الأول؛ أولًا: إذا بقيت حماية الروسيا على مقاطعات الأفلاق والبغدان وصربيا، وإذا لم توضع الامتيازات التي منحها الباب العالي لهذه المقاطعات تحت ضمانة الدول كلها. ثانيًا: إذا بقيت الملاحة في الدانوب غير حرة. ثالثًا: إذا لم تغير الدول معاهدة ١٣ يوليو عام ١٨٤١. رابعًا: إذا استمرت الروسيا مدعية أن لها حق حماية المسيحيين كلهم أو بعضهم في الدولة العلية، وإذا لم تضمن أوروبا كلها استقلال الدولة العلية وسلامتها.

وقرر مندوبو الدول بألا تحيد دولهم بعد عن هذا القرار، وألا يُعقَد الصلح إلَّا بقبوله.

وقد أرادت النمسا أن تصدق البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني على هذا القرار، ولكنها لم تقبل منه إلَّا الشرطين الأولين ورفضت الآخرين، وأعلنت النمسا أنها لا تتحد معها إلَّا إذا تعهدت بمنع الجيوش التركية والفرنساوية والإنكليزية من الهجوم على المقاتلين أو محاربة الروسيا من هذه الجهة؛ فحارت النمسا في أمرها لأنه كان لا يمكنها قبول هذا الطلب بغير تكدير علائقها مع حكومات تركيا وفرنسا وإنكلترا.

وفي هذه الأثناء انتصرت الجيوش التركية والفرنساوية والإنكليزية على الجيوش الروسية انتصارات باهرة، فقهرتها على شواطئ نهر «ألما» واستولت على مواقع مختلفة، وفي ٢٥ أكتوبر عام ١٨٥٤ هزمت الجيوش المتحدة جيوش القيصر في «بكلاوا»، وفي ٥ نوفمبر هزمتها في «أنكرمان» وكان حصار «سباستوبول» لا يزال مستمرًّا.

وقد رأت فرنسا وإنكلترا أن النمسا تماطلها كثيرًا في أمر الاتفاق معهما اتفاقًا نهائيًّا صريحًا، فافتكرتا في طريقة تحملها على الاتفاق معهما وهي دعوة حكومة «البيمونتي» إلى الاشتراك معهما في الحرب ضد الروسيا، ويعلم كل مُطَّلِع على التاريخ أن النمسا كانت تبغض حكومة «البيمونتي» الإيطالية أشد البغض؛ لعملها على تحرير إيطاليا كلها من تحت نير النمسا، فلما علمت حكومة فيينا بأن «البيمونتي» على وشك الاتحاد مع فرنسا وإنكلترا؛ خافت من مساعدة هاتين الدولتين فيما بعد لهذه الحكومة الصغيرة، وأبلغتهما أنها مستعدة للاتفاق معهما، وعقدت معهما بالفعل في ٢ ديسمبر عام ١٨٥٤ اتفاقًا تضمن أن النمسا تتبع قرار ٨ أغسطس الذي أقرت عليه الدول الثلاث، وأنها لا تتخابر بمفردها مع الروسيا، وأنها تدافع عن مقاطعات الأفلاق والبغدان وصربيا ضد كل اعتداء، وأن فرنسا وإنكلترا تتعهدان للنمسا بمساعدتها ماديًّا إذا قامت الحرب بينها وبين الروسيا، وأنه إذا لم يتم الصلح قبل أول يناير عام ١٨٥٥ بالشروط التي قررتها الدول الثلاث في ٨ أغسطس عام ١٨٥٤ اجتمع مندوبوها، وتداولوا في الوسائل الفعالة التي توصلها إلى مرامها.

ويعلم القارئ مما سبق أن البروسيا كانت ميَّالة للروسيا، وعاملة على إنقاذها، فلما علمت باتفاق النمسا مع فرنسا وإنكلترا ضد الروسيا سعت في تأخير تنفيذ هذا الاتفاق؛ لتكتسب الروسيا زمنًا تستطيع فيه تحسين أحوال جيشها وتقويته، وليسهل للبروسيا حل الاتفاق بين النمسا وفرنسا وإنكلترا أو على الأقل إضعافه، فأشارت على الحكومة الروسية أن تعلن النمسا بقبولها لقرار ٨ أغسطس عام ١٨٥٤ وتسألها عقد مؤتمر بفيينا للمناقشة فيه. فسُرَّت النمسا بذلك، وحسبت الروسيا صادقة في بلاغها، وطلبت من فرنسا وإنكلترا إرسال مندوبين من قبلهما لحضور المؤتمر، فرضيت الدولتان بذلك، ولكنهما طلبتا من النمسا إرسال مذكرة مشتركة للبرنس «غورتشاكوف» الذي كان عُيِّن سفيرًا للروسيا بفيينا توضح فيها الدول الثلاث معنى قرار ٨ أغسطس السالف الذكر، فلم تجد النمسا مناصًا من القبول، وحررت المذكرة وأرسلتها في ٢٨ ديسمبر عام ١٨٥٤ مفسرة لمعنى قرار ٨ أغسطس، وبعد عشرة أيام من تاريخ إرسالها أجاب البرنس «غورتشاكوف» بمذكرة فسَّر فيها قرار ٨ أغسطس تفسيرًا يناقض تفسير الدول الثلاث؛ أي تفسير الدول الواضعة للقرار، واستمرت المناقشات طويلًا قبل عقد المؤتمر نفسه.

وقد أحس مندوبو فرنسا وإنكلترا أن النمسا تخدع دولتيهما، وتعمل على عدم الوفاء بتعهداتها؛ فأبلغوا حكومتيهم بذلك، وأشاروا عليهما بعقد اتفاق بينهما وبين حكومة «البيمونتي» انتقامًا من النمسا، وقد كانت الأمراض والحميات أضرت بالجيوش الفرنساوية والإنكليزية ضررًا بليغًا، وشدة البرد عطلت الأعمال الحربية، فاتفقت فرنسا وإنكلترا مع «فيكتور رامانويل» ملك البيمونتي على مساعدة حكومته لهما ضد الروسيا وإرسال ثمانية عشر ألف مقاتل، وأمضى «كافور» الشهير وزير البيمونتي على هذه الاتفاقية في ٢٦ يناير سنة ١٨٥٥، وقد سُرَّ «كافور» بها سرورًا عظيمًا؛ لعلمه بأن اشتراك البيمونتي مع فرنسا وإنكلترا في الحرب ضد الروسيا يجعل لبلاده شأنًا يسمح له بعرض المسألة الإيطالية على الدول وقت المناقشة في شروط الصلح بعد إتمام الحرب؛ ولذلك يعتبر المؤرخون اتفاقية ٢٦ يناير عام ١٨٥٥ مصدرًا لتكوين الوحدة الإيطالية وأصلًا لها، وما عُقِدت هذه الاتفاقية حتى سافرت إلى تركيا الجنود البيمونتية تحت قيادة الجنرال «لامارمورا».

وفي هذا الوقت نفسه تقدم القائد العثماني «عمر باشا» إلى مدينة «إيباتوريا» — التي هي أيضًا ثغر من ثغور بحيث جزيرة القرم — وانتصر على الجيوش الروسية فيها نصرًا مبينًا في ١٧ فبراير عام ١٨٥٥، وانضم بعد هذا النصر إلى جيوش الدولة وجيوش فرنسا وإنكلترا المحاصرة لمدينة «سباستوبول».

ولما رأت النمسا أن فرنسا وإنكلترا أساءتا الظن بها، ورضيتا بمساعدة البيمونتي؛ اجتهدت في إرضائهما والاشتراك معهما في العمل، فعرضت على البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني أمر استعدادها للحرب، وعزمها على إرسال جنودها ضد الروسيا، فرفضت طلبها بأشنع صورة ووجهت إليها الملام العنيف على اتباعها إرشادات فرنسا وإنكلترا بدون مراعاة مصلحة البروسيا والحكومات الجرمانية، وكان الموغر للصدور وقتئذ ضد النمسا المسيو «دي بسمارك» الطائر الصيت، وكان عضوًا بالمجلس المشترك لحكومات الاتحاد الجرماني بفرانكفور ومسموع الكلمة عند حكومته «البروسيا» وقد أظهر بمهارته السياسية الفائقة لحكومة البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني أن خير وسيلة لمساعدة الروسيا هي جمع العساكر البروسيانية والجرمانية على الحدود أمام الحدود الفرنساوية؛ لتخشى فرنسا شأنها ويرجع «نابليون الثالث» عما كان عزم عليه من إرسال جيش جرار إلى النمسا مخترقًا به البلاد الجرمانية لمحاربة الروسيا، وجعلها بين نار جيوشه من جهة مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وبين نار الجيوش المتحدة من جهة القرم. وقد أفلحت سياسة «بسمارك» وعدل «نابليون الثالث» عن مشروعه عندما علم بوقوف الجنود البروسيانية والجرمانية أمام حدود فرنسا.

وقد خطر على بال «نابليون الثالث» عندئذ أن يسافر بنفسه إلى الشرق، ويتولى القيادة العامة على جيوش تركيا وفرنسا وإنكلترا، ولكن إنكلترا عارضته في رغبته كما عارضه الكثيرون من نُصَّاحه ووزرائه.

وفي ٢ مارس من السنة نفسها — ١٨٥٥ — توفي القيصر «نيقولا الأول» وتولى بعده القيصر «إسكندر الثاني»، فأعلن لأوروبا رغبته في السلم وميله إلى عقد الصلح؛ مما اطمأنت له خواطر الكثيرين من رجال السياسة، وحمل فرنسا على طلب عقد مؤتمر دولي جديد بفيينا؛ حيث قُبِل طلبها وعُقِد المؤتمر في ١٦ مارس.

ولما عُقِد المؤتمر اتفق مندوبو النمسا وإنكلترا وفرنسا وتركيا والروسيا على شرطي إعلان عدم حماية الروسيا لمقاطعتي الأفلاق والبغدان، وحرية الملاحة في نهر الدانوب. أما ما يختص بضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، فقد صرح مندوبو الروسيا بأن دولتهم تحترم استقلال تركيا، ولكنها لا تقبل الاشتراك مع الدول في أمر ضمانته، وقد رفضت الروسيا، وكذلك الشرط الرابع وهو المتعلق بتحديد عدد سفنها في البحر الأسود؛ فأُوقِفت بسبب ذلك جلسات المؤتمر في ٢٧ مارس عام ١٨٥٥، ولما أُعِيد عقد المؤتمر رفض «غورتشاكوف» مرة جديدة تحديد عدد سفن الروسيا في البحر الأسود وضمانتها مع الدول لاستقلال الدولة العلية، وعرض على دول أوروبا قفل بوغازي الآستانة والدردانيل، كما تعهدت به الدول في معاهدة عام ١٨٤١، وإعطاء الباب العالي حق فتحهما عند الحاجة لسفن الدول المتحالفة معه، فلم يحصل بذلك الاتفاق بين مندوبي الدول، وأُوقِفت جلسات المؤتمر للمرة الثانية في ٢٧ أبريل عام ١٨٥٥، وفي أوائل يونية أُعِيد عقد المؤتمر للمرة الثالثة، ولكن مندوبي الدول تضاربت آراؤهم كما حصل في المرة الأولى والثانية، ولم يجدوا سبيلًا للاتفاق؛ فأُعلِن قفل المؤتمر نهائيًّا بلا نتيجة تُذكَر.

•••

وقد رأت فرنسا وإنكلترا أنهما صارتا في أشد حاجة للاتفاق بعد خيبة المؤتمر الدولي، فسافر الإمبراطور «نابليون الثالث» إلى لوندرة لزيارة الملكة «فيكتوريا»، حيث قوبل فيها بغاية الإجلال والإكرام، وبعد زمن قليل من زيارته ردت له الملكة زيارته بباريس، وبعدئذ اتفقت الحكومتان الفرنساوية والإنكليزية على إصدار أوامر جديدة لقواد جيوشهما ببلاد القرم أمرتاهم فيها بأن يحملوا الحملة الأخيرة على «سباستوبول»، وعينت الحكومة الفرنساوية في القرم الجنرال «بيليسييه» بدل «كانروبر» على قيادة الجيش الفرنساوي، وأمرته بالزحف على قلاع ومعاقل العدو، فاستولى بجيوشه في ٧ يونيو عام ١٨٥٥ مع مساعدة جيوش الدولة العلية له في قلعة «ماملون فير» المعروفة بالقمة الخضراء، وهجم في ١٨ يونيو على حصن «ملاكوف» فصدت الجيوش الروسية عنه جيش فرنسا؛ فاستاءت لذلك فرنسا وإنكلترا وتركيا، وجمعت قواها، واتفق قواد هذه الجيوش المجتمعة «عمر باشا» و«بليسييه» و«سمبسون» و«لامارمورا» على عمل مشترك للاستيلاء على «سباستوبول»؛ فهاجمت الجيوش المجتمعة في ٨ سبتمبر عام ١٨٥٥ مدينة «سباستوبول»؛ حيث احتل الجنرال الفرنساوي «ماك ماهون» قلعة «ملاكوف» بعد موت الكثيرين من جنود الدول المتحدة ومن جنود دولة الروسيا، وكان ذلك اليوم مشهودًا ومن أكبر أيام الحروب، وانتهى بسقوط «سباستوبول» في أيدي الجيوش المتحدة.

وقد أحدث سقوط «سباستوبول» تأثيرًا هائلًا في كل أوروبا، وانتظر العالم كله إيقاف الحرب وعقد الصلح بين الروسيا ودول تركيا وفرنسا وإنكلترا، ولكن الحرب بقيت مستمرة، واحتلت الجيوش المتحدة جملة مواقع مهمة، منها مدينة «قلبرون». ولولا إقبال الشتاء لاستمرت الحرب بلا انقطاع، وفي أثناء الحرب استولت الأساطيل الفرنساوية والإنكليزية على ميناء «بتروباولوسك» واحتلت في بحر البلطيق «بومارسند» وضربت «سفيابورج».

فلما رأت الروسيا أن لا استطاعة لها على استمرار الحرب بذلت جهدها في استمالة فرنسا لها، وحل عقدة الاتفاق بين هذه الدولة وبين إنكلترا، وأرسلت إلى باريس جملة من عمالها وصنائعها؛ ليستميلوا إليها رجال السياسة الفرنساوية والقابضين على أزمة الرأي العام من الكتاب والخطباء، فأظهر الإمبراطور «نابليون الثالث» استعداده لمساعدة الروسيا، ولكنه وجدها ترفض مطالب الظافرين، فاضطر إلى الاستمرار على خطته الأولى نحوها، ولما كان من صالح إنكلترا أن تُضعِف نفوذ الروسيا في بحر البلطيق اتحدت هي وفرنسا اتحادًا دفاعيًّا مع حكومة السويد التي كانت ألد عدوة للروسيا وقتئذ، وكانت تطمح لاسترجاع «فنلندا».

وجرى في هذه الأثناء أن «فيكتور إمانويل» ملك البيمونتي ذهب إلى باريس برفقة وزيره الشهير «كافور»، فانتهز الإمبراطور «نابليون الثالث» هذه الفرصة للانتقام من النمسا التي خدعته وخدعت إنكلترا في حرب القرم، فاستقبل ملك البيمونتي ووزيره أحسن استقبال، ووعدهما بالمساعدة على تحرير إيطاليا وتكوين وحدتها، فاضطربت الحكومة النمساوية وخافت شر العاقبة، وأبلغت في الحال حكومتي فرنسا وإنكلترا أنها مستعدة لأن ترسل معهما إنذارًا للروسيا تهددها فيه بإعلان الحرب عليها إذا رفضت مطالب الدول الثلاث، وسألت الحكومة النمساوية فرنسا وإنكلترا أن تمضيا معها على اتفاقية تضمن أمام العالم استقلال الدولة العلية وسلامتها، فقبلت فرنسا وإنكلترا طلب النمسا، واتفقت الدول الثلاث على صورة الإنذار، وأرسلته بالفعل لقيصر الروسيا بتاريخ ١٦ ديسمبر عام ١٨٥٥، وأعلنته بوجوب قبوله قبل تمام شهر أي قبل ١٧ يناير عام ١٨٥٦، وهذا الإنذار يشتمل على الشروط الآتية:
  • أولًا: جعل المقاطعات الدانوبية تحت رعاية الدول العظمى وضمانتها، ومنع الدولة العلية من إرسال جنودها إليها بدون تصريح الدول، وتعديل الحدود من جهة البسارابيا.
  • ثانيًا: تقرير حرية الملاحة في نهر الدانوب تحت ضمانة الدول.
  • ثالثًا: جعل البحر الأسود حرًّا، ويُعمَل لذلك اتفاقية خصوصية بين الروسيا والباب العالي تضمنها الدول بعد، وقبول الدولة العلية في المجتمع الأوروبي، وعرض كل خلاف يقع بينها وبين إحدى الدول على بقية الدول، وتقرير مبدأ قفل بوغازي الآستانة والدردانيل.
  • رابعًا: تأكيد حقوق المسيحيين في تركيا بدون إلحاق ضرر باستقلال السلطان وسيادته العالية.
  • خامسًا: جواز وضع شروط جديدة إذا اقتضت مصلحة أوروبا ذلك.

فأجابت الروسيا على إنذار دول فرنسا وإنكلترا والنمسا في ٥ يناير عام ١٨٥٦ بقبول الشروط الأربعة الأولى، ورفض الشرط الخامس لإبهامه، ولكن البروسيا خافت اشتعال نيران حرب عمومية في كل أوروبا تقوم معها الثورات والاضطرابات، فنصحت الروسيا بقبول المطالب الخمسة، والخروج من هذه الأزمة الخطرة عليها وعلى مصالحها، فاتبعت الروسيا نصيحة البروسيا، وأبلغت الدول رسميًّا في ١٦ يناير عام ١٨٥٦ قبولها لشروطها كلها.

فاجتمع عندئذ المؤتمر الدولي بباريس في ٢٥ فبراير عام ١٨٥٦ وعُقِدت جلساته تحت رئاسة الكونت «والوسكي» وزير خارجية فرنسا، واشتركت الدولة العلية والروسيا فيه كما اشتركت حكومة البيمونتي التي أرسلت نائبًا عنها الكونت «كافور» الشهير، وكان «عالي باشا» مندوبًا عن الدولة العلية في هذا المؤتمر.

وقد اتفق مندوبو الدول في هذا المؤتمر بغير صعوبة على الشروط التي عرضتها من قبل فرنسا وإنكلترا والنمسا، والتي أتينا عليها، ولم يختلفوا إلَّا في قبول طلب «نابليون الثالث» بشأن ضم الأفلاق والبغدان إلى إمارة واحدة، فقرروا النظر في هذا الأمر بعد انتهاء المؤتمر.

ولم يمضِ على مؤتمر باريس عامان حتى قررت الدول في باريس نفسها بتاريخ ١٩ أغسطس سنة ١٨٥٨ جعل هاتين المقاطعتين إمارة واحدة تحت ضمانة الدول.

وقد أمضت الدول الأوروبية على عهدة باريس في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦، وأُعلِن قفل المؤتمر في ١٦ أبريل من السنة نفسها، بعد أن تناقش أعضاؤه في جملة مسائل؛ أهمها: المسألة الإيطالية التي عرضها على المؤتمر الكونت «كافور» ووجه أنظار الدول إليها، ولكن المؤتمر لم يقرر شيئًا في هذه المسائل، واكتفى بالاتفاق على بعض شروط خارجية عن عهدة باريس مختصة بالملاحة والتجارة.

انتهت هذه الحرب بنتائج مختلفة نأتي عليها واحدة بعد أخرى.

تبيَّن للقارئ أن هذه الحرب أصلها مسألة الأماكن المقدسة، والخلاف بين الكاثوليكيين والأرثوذكس، وطالما كانت تؤمل كل دولة من الدول الاستيلاء على الشام، والقبض على زمام الكنائس ببيت المقدس، فجاء الخلاف بين فرنسا والروسيا بشأنها دليلًا على أن هذه الأماكن المقدسة يجب أن تبقى إلى الأبد في أيدي الدولة الإسلامية العظمى؛ لأنها الدولة الوحيدة التي تقدر أن تحفظ الموازنة بين كل الديانات في بيت المقدس، وتعطي كل ذي حق حقه، وأنه لو تُرِكت الأماكن المقدسة لدول أوروبا؛ لوقع بينها وبين بعض شقاق عظيم، وقامت حرب دموية؛ لنزوع كل واحدة منها إلى امتلاكها، ورغبة كل دولة في سبق غيرها إلى الاستيلاء عليها.

فدفعًا لهذا الخطر الجسيم يجب أن تبقى هذه الأماكن في أيدي الدولة العلية العادلة الأمينة، وقد أدرك سواس أوروبا ذلك، وعلموا أن مسألة الأماكن المقدسة هي من أهم الأسباب التي تحتم ضرورة بقاء الدولة العلية.

وإذا كانت الدولة العلية قد اكتسبت من حرب القرم هذه النتيجة المهمة، فإنها لم تكسب غيرها شيئًا ما، فقد فقدت المال والرجال وأضاعت نفيس وقتها، ولم تأخذ من بلاد الروسيا بلدًا واحدة، بل انسلخت عنها في الحقيقة «الأفلاق والبغدان»، وقد خدعتها الدول بمنحها امتيازين، أثبتت الحوادث بعد أنهما لا يفيدانها شيئًا مذكورًا؛ فقد تعهدت الدول كلها بضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، وأرتنا الحوادث أن دول أوروبا نفسها سلخت من الدولة العلية جملة بلاد باسم هذا المبدأ نفسه مبدأ ضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، واتفقت الدول كذلك على اعتبار الدولة العلية دولةً أوروبيةً وقبولها في المجتمع الأوروبي، ولم ترَ الدولة لهذا الامتياز فائدة ما؛ بل كانت نتيجته جر البلايا عليها بازدياد تداخل أوروبا في شئونها الداخلية.

وقد خرجت الروسيا من هذه الحرب سليمة لم تخسر فيها غير المال والرجال شيئًا، ومعاكسة الدول لها في البحر الأسود لم تكن إلَّا معاكسة وقتية كما أظهرته جليًّا الحوادث بعد مؤتمر باريس.

أما الدولة التي استفادت كثيرًا من هذه الحرب، فهي دولة البروسيا؛ فإنها استمالت إليها الروسيا بخطتها نحوها، وأوجدت عندها كراهة شديدة للنمسا التي لم تساعدها ضد تركيا كما ساعدتها هي في قمع الثورة المجرية عام ١٨٤٩، وأحدثت البروسيا بين النمسا وبين حكومات الاتحاد الجرماني شقاقًا كبيرًا؛ فحمل البروسيا كل ذلك على محاربة النمسا عام ١٨٦٦ هذه الحرب التي ساعدت الروسيا فيها البروسيا مساعدة معنوية، وانتهت باستيلاء البروسيا على مقاطعتين من أملاك النمسا، وقد تمت نتائج هذه الحرب بهزيمة فرنسا أمام البروسيا عام ١٨٧٠، وتكوين الوحدة الألمانية.

ومن أهم نتائج حرب عام ١٨٦٦ على النمسا غير فقدها مقاطعتين مهمتين؛ استقلال المجر منها استقلالًا إداريًّا، وهي أيضًا نتيجة من نتائج حرب القرم.

وقد استفادت كذلك من حرب القرم حكومة البيمونتي، فإنها أرسلت إلى مؤتمر باريس كما قدمنا الكونت «كافور» الشهير الذي استلفت أنظار مندوبي الدول إلى حالة إيطاليا ومظالم النمسا، وحمل على الحكومة النمساوية حملة شديدة كان لها رنَّة ودوي في كل أصقاع العالم، ومن حسن حظ البيمونتي أن «نابليون الثالث» كان مغرمًا بتحرير البلاد النازعة للاستقلال، وكان ميله لإيطاليا أشد من ميله لسواها، خصوصًا وأن بغضه للنمسا كان عظيمًا بعد حرب القرم؛ لتلاعب هذه الدولة في سياستها وعدم وفائها في وعودها مع فرنسا وإنكلترا، ولم تمضِ إلَّا سنون قلائل بعد حرب القرم حتى نالت إيطاليا استقلالها وتكونت وحدتها، فكانت بذلك حرب القرم سببًا لسقوط مقاطعتين مهمتين من أملاك النمسا في قبضة البروسيا، وسببًا لاستقلال المجر استقلالًا إداريًّا، وسببًا لخروج إيطاليا من تحت نير النمسا واستقلالها، وتكوين وحدتها. وبالجملة، كانت حرب القرم سببًا لضعف النمسا وتقويض أركان مملكتها.

وقد اكتسبت إنكلترا وفرنسا من هذه الحرب ازدياد نفوذهما في الآستانة، فاستعملتاه في سبيل مصالحهما، فإن الهنود كادوا يطردون الإنكليز من بلادهم في ثورة سيباي الشهيرة عام ١٨٥٦ لولا تداخل المرحوم السلطان «عبد المجيد خان»؛ فإنه أصدر منشورًا — بناء على رجاء إنكلترا — لمسلمي الهند أمرهم فيه بالركون إلى السكينة والطاعة لحكومة جلالة الملكة «فيكتوريا»، ومعلوم أن المسلمين في الهند أقوياء، ولهم شأن عظيم وكلمة نافذة، وكلهم يحترمون خليقة الإسلام ويجلونه أعظم إجلال، فلما وصل إليهم منشور جلالته وضعوه على رءوسهم وعملوا بما أمرهم به، فألقوا أسلحتهم، وانتهت بذلك الثورة وتوطدت سلطة الإنكليز في الهند بعد اضمحلالها.

وإنه ليتبادر للذهن أن إنكلترا شكرت الدولة العلية على عمل سلطانها الأعظم أو اعترفت لها بالجميل، نعم إنها اعترفت لها بالجميل، ولكن بمعاداتها والاعتداء على بلادها! فإنها سلطت في عام ١٨٥٨ — أي بعد عامين من ثورة سيباي — إحدى سفنها الحربية الضخمة على ثغر «جدة» فاستمرت تُدمِّر فيه نحو عشرين ساعة؛ أُسيلت فيها دماء كثيرة وخُرِّبت منازل وبيوت عامرة، وكان ذلك عقب فتنة صغيرة قام فيها بعض المسلمين على بعض المسيحيين، وأُصِيب فيها قنصل فرنسا وقُتِلت زوجته، ولم يكن لعمل إنكلترا معنى ولا ضرورة؛ لأن الدولة العلية كانت قد أرسلت مندوبًا عاليًا من لدنها لتحقيق الأمر ومعاقبة المعتدين.

أما فرنسا فقد استعملت نفوذها في تركيا الذي ازداد بعد حرب القرم — كما قدمنا — لإعلاء كلمتها في الشرق؛ فأرسلت جيشًا فرنساويًّا إلى الشام عام ١٨٦٠ بحجة مساعدة الدولة العلية على قمع الفتنة التي أحدثها الخلاف والشحناء بين المارونية والدروز، مع أن جيش الدولة كان كافيًا لإعادة الأمن والسكينة في هذه الديار، ولم تخرج العساكر الفرنساوية من الشام إلَّا في ٥ يونيو عام ١٨٦١.

هذه هي النتائج الخطيرة التي أنتجتها حرب القرم، ومنها يعلم القارئ حظ كل دولة في هذه الحرب، وخطة الدول نحو الدولة العلية وكنه مقاصد كل واحدة منها وحقيقة أغراضها.

(٤) الأزمة الرابعة: الحرب بين تركيا والروسيا وما قبلها وما بعدها من عام ١٨٧٥ إلى عام ١٨٧٨

أبنا في ختام ما سبق أن نتيجة حرب القرم على النمسا كانت وخيمة، حيث فقدت هذه الدولة بعدها مقاطعاتها الإيطالية، وأخذت البروسيا منها في حرب عام ١٨٦٦ مقاطعتين مهمتين، ونالت المجر استقلالها النوعي؛ أي ارتفعت سلطة النمسا عنها؛ فطمعت هذه الدولة في أخذ شيء من أملاك الدولة العلية يعوض عليها بعض خسائرها، فتقربت من ألمانيا عدوتها اللدودة التي قهرتها، وكوَّنت وحدتها بانتصارها عليها وعلى فرنسا عوضًا عن أن تستعد للأخذ بالثأر منها واسترجاع المقاطعتين اللتين أخذتهما منها، وصارت كذلك النمسا تستميل الروسيا إليها وتوعز لها بمحاربة تركيا.

وأوضحنا كذلك أن العلائق بين الروسيا والبروسيا صارت جيدة متينة، وأن مساعدة البروسيا للروسيا في حرب القرم حملت روسيا على ترك البروسيا تحارب النمسا وتقهرها وتحارب فرنسا وتقهرها، وتأخذ من كل دولة من الدولتين مقاطعتين عظيمتين، وتكوِّن بذلك وحدتها، ويصير مَلِكُها إمبراطورًا لألمانيا بدون أن تعارضها في أعمالها، بل بقيت على الحيادة مظهرة ارتياحها لنجاح البروسيا ضد النمسا وفرنسا اللتين عاكستاها — أي الروسيا — في حرب القرم.

ومن ذلك يرى القارئ أن الروسيا والنمسا وألمانيا اتفقت بعد حرب عام ١٨٧٠ التي قامت بين فرنسا والبروسيا واتفق إمبراطرتها على العمل بالاتحاد، فاهتمت الروسيا لتغيير الشرط المتعلق بحريتها في البحر الأسود الذي اتفقت عليه الدول في مؤتمر باريس عام ١٨٥٦، ودعت الدول لعقد مؤتمر للنظر فيه؛ فأجابت الدول دعوتها، واجتمع مندوبوها في عاصمة بلاد الإنكليز في ١٣ مارس سنة ١٨٧١ واتفقوا — ولم تشترك فرنسا مع الدول لاشتغالها بعقد الصلح مع البروسيا — على تغيير هذا الشرط، وإعطاء الروسيا الحرية التامة في الملاحة بالبحر الأسود وتسيير سفنها فيه.

ولما تحققت الروسيا من أن ألمانيا والنمسا مستعدتان لمساعدتها، وأن إيطاليا دولة ناشئة لا يُخشى منها، وأن فرنسا ضعيفة بعد الهزيمة خَافِتٌ صوتها، وأن ليس لها في دول أوروبا من يستطيع معارضتها غير إنكلترا، وأنها وحدها لا تستطيع أن تضرها بشيء — فضلًا عن أن الروسيا كانت تعلم أن إنكلترا لا تفيد تركيا شيئًا؛ لأن مبدأها في كل أطوار سياستها أن تنتفع من غيرها ولا تنفع غيرها — اجتهدت «أي الروسيا» في تهييج أمم البلقان، وأرسلت في كل أنحاء بلاد البلقان زعماء ينادون بالثورة ضد الدولة العلية، وينشرون مبدأ اتحاد السلافيين تحت راية القيصر، ويدعون أقوام البلقان كافة للعصيان باسم الدين الأرثوذكسي ضد الحكومة العثمانية الإسلامية. وكان من مصلحة النمسا أن تهيج بلاد البوسنة والهرسك ضد الدولة العلية؛ لما كان عندها من الأمل في الاستيلاء عليها، فساعدت مهيجي الروسيا وأخذت تهيج كذلك أهالي هذه البلاد حتى هاج المسيحيون كافة في بلاد البوسنة والهرسك، وصارت المساعدات تأتيهم جهارًا من بلاد الصرب والجبل الأسود، وأرسلت لهم من النمسا الأسلحة والذخائر سرًّا. فلما علمت الدولة العلية بذلك أرسلت إلى البوسنة والهرسك جيشًا قويًّا بقيادة القائد الشهير والبطل العظيم الغازي «مختار باشا» فقمع الثورة ورد كيد الثائرين، ولكن دول الروسيا والنمسا وألمانيا التي كانت تريد كما قدمنا استمرار الثورات والاضطرابات في الدولة توسطت بين الثائرين وبين الباب العالي، وطلبت من الدولة أن تقبل مطالب الثوار بتخفيف الضرائب عنهم وبتركهم يُعيِّنون الشرطة «البوليس» من نفس أبناء البوسنة والهرسك؛ فوعد المرحوم السلطان «عبد العزيز خان» بالنظر في هذه المطالب، وبمنح رعاياه على اختلاف دياناتهم ما يطلبونه من الامتيازات، وما يراه موافقًا لهم وللدولة. وفي ١٢ ديسمبر عام ١٨٧٥ أصدر السلطان إرادة عالية بقبول مطالب أهالي البوسنة والهرسك، وبرهن بذلك على عدم تعصب الدولة ضد رعاياها المسيحيين. ولو كانت الدول راغبة حقيقة في خير المسيحيين وغير قاصدة ضرر الدولة وإضعافها، لكانت اكتفت بهذه الإرادة السلطانية، وساعدت الدولة على تنفيذها، وأمرت الثوار الذين هاجتهم ضد الدولة بالركون إلى السكينة وبالامتثال لأوامر الحكومة العثمانية، ولكنها كانت تعمل لبثِّ الفتن والثورات، فأوعزت إلى الثوار بعدم نزع السلاح وبالاستعداد للكفاح.

وفي ٣٠ يناير عام ١٨٧٦ قدمت الدول جميعها بما فيها فرنسا وإيطاليا مذكرة للباب العالي طلبت منه فيها منح أهالي البوسنة والهرسك تمام الحرية الدينية، وتقرير مساواة الأديان، وتخفيف الضرائب، وجعل الشرطة أهلية، وتشكيل لجنة من أهالي البوسنة والهرسك مكون نصفها من مسيحيين والنصف الآخر من مسلمين؛ لمراقبة تنفيذ ما جاء في الإرادة العلية التي أصدرها السلطان في ١٢ ديسمبر عام ١٨٧٥.

وأول من وضع هذه المذكرة هو الكونت «أندراشي» وقد سُمِّيت باسمه — وهو مجري — أغضبت خطته نحو الدولة العلية في هذه الحوادث الأمة المجرية؛ لشدة تعلقها بالدولة العلية واعترافها بالجميل للعثمانيين.

ولم تتأخر الدولة العلية عن قبول مطالب الدول المذكورة في مذكرتها، وإجابتها عليها في ١١ فبراير من السنة نفسها.

فلما رأت الروسيا أن الدولة العلية قمعت الثورة أولًا، ولم ترفض مطالب الثوار ثانيًا، ولم ترفض مطالب الدول ثالثًا، وتحققت من أنه يستحيل عليها خلق سبب سياسي من المخابرات يقيم في وجه تركيا أوروبا والرأي العام الأوروبي، بذلت جهدها ووجَّهت كل عنايتها لجعل الثورة عامة في بلاد البلقان؛ حتى تُضعِف الدولة وترتبك أحوالها من جهة، وحتى يسهل عليها أن تشيع في أوروبا الإشاعات الكاذبة عن معاملة الأتراك للمسيحيين، وتهيِّج بذلك الرأي العام الأوروبي ضد الدولة العلية وضد المسلمين؛ فاجتمع ثوار البوسنة والهرسك في «كوسيروفو» في ٢٨ فبراير أي بعد قبول الدولة لمطالب الدول، وقرروا بإيعاز الروسيا الاستمرار على الثورة والعصيان، وعدم الخضوع للدولة.

وقد توصلت الروسيا إلى تهييج بلاد الصرب ضد الدولة العلية، فهاج أهلها، وجاهروا بمعاداة الدولة وطلبوا من حكومتهم محاربتها؛ فخابرت حكومتها حكومة الجبل الأسود، واتفقت معها ضد الدولة، فصارت بذلك بلاد البلقان كلها قائمة على قدم وساق ضد الدولة، وبلغت الفوضى حدها في هذه البلاد، فاعتدى المجرمون على الأبرياء، وصار كل واحد من الثوار يفاخر الآخرين بما نهب وسلب من المسلمين، وصار الذين لا سلاح بأيديهم من المسلمين يدافعون به عن أنفسهم فريسة للمجرمين من السافكين للدماء من ثوار المسيحيين.

رأى المسلمون في بلاد البلقان ما رأوا من الإهانة والسلب والنهب، وأُسِيلت دماء الأبرياء من الكثيرين منهم، وأنصار الباطل والضلال في أوروبا يشيعون في كل مكان أن الدولة العلية دولة بربرية تسفك دماء المسيحيين، وتهتك أعراض نسائهم، وتخرب بيوتهم وكنائسهم، وغير ذلك مما يكرره أعداء الدولة وأعداء الحقيقة في كل خلاف يقع بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الدولة.

وقد عمل أعداء الدولة على تهييج الرأي العام الأوروبي ضدها بكل الوسائل، وحصل أن فتاة مسيحية اعتنقت الدين الإسلامي في ضواحي سالونيك، وذهبت لهذه المدينة لإثبات إسلامها بصفة شرعية، فعلم المسيحيون بالأمر، وتجمعوا في طريق الفتاة حتى اختطفوها عند مرورها، وأخفوها في بيت أحد المسيحيين، فهاج المسلمون لذلك وذهبوا إلى الحاكم طالبين تخليص الفتاة، ثم اجتمعوا في مسجد للمداولة في الأمر، وبينما هم مجتمعون؛ إذ دخل عليهم قنصلا ألمانيا وفرنسا، فاعتدى عليهما بعض الحاضرين لاعتبارهم دخول القنصلين في المسجد إهانة لهم، وضربوهما ضربًا قضى عليهما في الحال. فانتشر خبر الحادثة في أوروبا، وما انتشر حتى نادى أعداء الدولة بالويل والثبور، وحملوا على الإسلام ودولته العزيزة حملات شديدة، وهاجوا الرأي العام ضد الحكومة العثمانية حتى اضطرت الدول كلها لإرسال سفن حربية إلى ميناء سالونيك، ولم يستطع الباب العالي أن يفهم أوروبا أن القنصلين أخطآ في الذهاب إلى المسجد، بل طلبت منه الدول معاقبة المعتدين، ولما لم يجد سبيلًا لرفض طلب الدول عاقب من ثبت عليهم الاعتداء على القنصلين بالإعدام، وانتهت بذلك هذه الحادثة، وهي حادثة من حوادث عديدة خلقتها يد الدسائس والأغراض للإيقاع بالدولة والإضرار بها، وإني لست ممن يستبعدون أن إسلام هذه الفتاة المسيحية كان مصطنعًا، وأن الحادثة مدبرة من أولها لآخرها؛ فكل من طالع شيئًا من أعمال أرباب الدسائس في الدولة يعلم أنهم قادرون على إيجاد حادثة كهذه وأكبر منها.

وقد عرض في هذه الأثناء ثوار البوسنة والهرسك على دول أوروبا أنهم ينكفون عن الثورة، ويعيدون السكينة إلى بلادهم إذا أنفذت الشروط الآتية:
  • أولًا: أن تعطي الدولة العلية للمسيحيين ثلث الأراضي التي بيد المسلمين.
  • ثانيًا: أن تصلح لهم المنازل التي هُدِّمت بسبب الثورة، وأن تساعدهم بالمال، وأن تُقدَّم لهم الثيران اللازمة لحرث الأرض.
  • ثالثًا: أن تعفيهم من الضرائب مدة ثلاث سنين.
  • رابعًا: أن تنجلي العساكر التركية النظامية من بلاد البوسنة والهرسك، وأن تبقى فقط في «نيكشيش» و«ستولاز» و«فوكا» و«تريبين» و«بيوجلي» و«مستار»، وأن ترسل النمسا والروسيا مندوبين من قبليهما في هذه البلاد لمراقبة تنفيذ هذه الشروط.
  • خامسًا: نزع السلاح من المسلمين.
  • سادسًا: ضمانة الدول الأوروبية لتنفيذ هذه الشروط.

ولما رأت صربيا وبلغاريا والجبل الأسود أن الروسيا والنمسا وألمانيا تشجع ثوار البوسنة والهرسك؛ أصغت لإرشادات المهيجين، وقامت مستعدة لمحاربة تركيا والانتقام من الإسلام باسم الصليب، ولما أرادت الروسيا أن تُعجِّل بالحرب وبإسقاط المصائب على تركيا دعت النمسا وألمانيا للاشتراك معها في تقديم إنذار جديد للباب العالي، فأجابت النمسا وألمانيا طلبها، واجتمع البرنس «غورتشاكوف» عن الروسيا والكونت «أندراشي» عن النمسا مع البرنس «بسمارك» في برلين، وتم اتفاقهم في ١١ مايو سنة ١٨٧٦ على إنذار ترسله دولهم إلى الباب العالي.

ولم تطلب الدول الثلاث من الباب العالي ما طلبته في مذكرة «أندراشي» التي أُرسِلت في ٣٠ يناير عام ١٨٧٦ بل طلبت جل ما أراد ثوار البوسنة والهرسك، فاشتملت مذكراتها على الطلبات الآتية:
  • أولًا: أن يصلح الباب العالي المنازل التي دُمِّرت بسبب الثورة، وأن يقدم كل ما يلزم للفلاحين من الثيران والآلات، وأن يعفي أهالي البوسنة والهرسك من الضرائب مدة ثلاث سنوات.
  • ثانيًا: أن يعين الباب العالي لجنة من أعيان أهالي البوسنة والهرسك المسيحيين؛ لتوزيع المساعدات المادية التي يقدمها.
  • ثالثًا: أن يسحب العساكر التركية من بلاد البوسنة والهرسك، وألا يتركها تحتل غير عشر قلاع معينة.
  • رابعًا: أن يترك المسيحيين مسلحين لغاية إتمام الإصلاحات، وإعادة الأمن والسكينة إلى بلاد البوسنة والهرسك.
  • خامسًا: أن يكون لقناصل الدول أو لمندوبيها الحق في مراقبة تنفيذ هذه الطلبات، وطلبت الدول الثلاث غير هذه الطلبات أن تمنح تركيا للثوار هدنة شهرين، وهددتها بأنها إن لم تنفذ هذه الطلبات مدة الشهرين اتخذت معها طرق القوة والقهر.

وقد قبلت فرنسا وإيطاليا التوقيع على هذه المذكرة، أما إنكلترا فرفضت التوقيع عليها بالمرة.

ولا شك أن المُطالِع لهذه الشروط يقف مندهشًا مستغربًا من معاملة دول أوروبا للدولة العلية، واعتدائها عليها بأشنع الصور وأقبحها، ويدرك من نفسه أن هذه الشروط لو كان يُطلَب تنفيذها من أحقر دول الأرض لكانت رفضت قبولها، ولو أدى رفضها إلى دمارها وخرابها؛ فموت فيه شرف خير من حياة تلطخ بالعار؛ ولذلك كان يستحيل على الدولة العلية أن تقبل هذه الشروط ولو لحظة واحدة؛ فإن طلب الدولة بقاء الجنود العثمانية في جهات مخصوصة وقلاع معينة، مع بقاء المسيحيين مسلحين هو تشجيع للثوار عظيم، وطلب الدول إعطاء الحكومة العثمانية للمسيحيين كل ما يحتاجون إليه من المساعدات المادية، وإصلاح المنازل التي دُمِّرت بسبب الثورة هو طلب لا تستطيع ميزانية تركيا أن تقوم به، وتهديد الدول للدولة باتخاذ طرق القوة والقهر معها إن لم تنفِّذ طلباتها هو تشجيع لكل أمم البلقان على الثورة ضد الدولة العلية.

ومن سوء حظ الدولة أن أُسقِط عن عرش السلطنة العثمانية في هذا الوقت الممتلئ بالاضطرابات والأخطار المرحوم السلطان «عبد العزيز خان»، وأُجلِس مكانه السلطان «مراد الخامس» الذي لم يحكم إلَّا خمسة أشهر.

•••

وبديهي أن الروسيا كانت ترمي إلى إضعاف تركيا بالثورات والاضطرابات والحرب مع أمم البلقان، حتى إذا ثبطت عزيمتها وقلَّت همتها تحولت ضدها برجالها وقوتها. وهي سياسة لا يمكن لمؤرخ عادل أن يقول إنها سياسة شريفة؛ لأن الروسيا كان يجب عليها أن تحارب تركيا من بادئ الأمر لا أن تهيِّج ضدها البوسنة والهرسك وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا.

فقد قام البلغاريون في وجه الدولة، وجعلوا غايتهم قتل المسلمين؛ فأتوا من الفظائع والجرائم ما لا يستطيع وصفه قلم، وصار أنصار الضلال في أوروبا يكذبون على العالم كله، ويدَّعون أن الدولة تذبحهم هم ونساءهم وأطفالهم مع أنهم كانوا المعتدين على الأبرياء من المسلمين.

وقد استعدت كذلك صربيا والجبل الأسود لمحاربة الدولة، فاتحد أميرا هاتين الإمارتين ضد الدولة، وحشدا الجنود بكثرة، وأرسلت الروسيا ضابطًا من أمهر ضباطها «تشرنايف» لقيادة الجيش الصربي، فلما علمت الدولة العلية باستعدادات صربيا والجبل الأسود الحربية أرسلت إلى أميريهما في ٩ يونيو عام ١٨٧٦ تسألهما عن سبب هذه الاستعدادات، فأجابت الصرب بأنها تطلب من الباب العالي أن تنجلي العساكر العثمانية من مقاطعتي البوسنة والهرسك، وأن تحتل العساكر الصربية مقاطعة البوسنة، وأن تحتل عساكر الجبل الأسود مقاطعة الهرسك؛ فرفض الباب العالي هذا الطلب الغريب بغاية الشدة والشهامة، وأرسل بجيشه إلى حدود الصرب والجبل الأسود، وفي ٣٠ يونيو أعلنت الصرب الحرب على تركيا، وفي ٢ يوليو أعلنها الجبل الأسود.

ولما كانت الروسيا تعلم أن تظاهر صربيا والجبل الأسود برغبة احتلال البوسنة والهرسك من شأنه أن يُكدِّر النمسا التي تريد تقوية نفوذها في البلقان، وتطمح إلى الاستيلاء على هاتين المقاطعتين سافر القيصر «إسكندر الثاني» بنفسه إلى «ريشتاد» في بوهيميا، وتقابل مع «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا، وتحادث معه طويلًا في أمور الشرق. ويحقق كثيرون من المؤرخين بأن القيصر وَعَدَ إمبراطور النمسا بإعطائه البوسنة والهرسك بعد انتهاء أزمة المسألة الشرقية، فبقيت النمسا بذلك على الحيادة وقت الحرب بين الدولة العلية وبين صربيا والجبل الأسود.

وقد كان يظن سواس أوروبا وكتابها ورجال الحرب فيها أن الدولة العلية ستُقهَر في هذه الحرب أمام صربيا والجبل الأسود، ولكنهم علموا بعدئذ أن جنود تركيا لا يزالون ليوثًا في الحرب وآسادًا في معامع القتال، فقد انتصروا على عساكر الجبل الأسود وجنود صربيا نصرًا مبينًا بقيادة الغازي عثمان باشا والمرحوم عبد الكريم باشا، وهزموهم في «زيتشار» هزيمة اهتزت لها أوروبا، ومادت لها محافلها ونواديها، ولما شعرت صربيا بأن بلغراد عاصمة بلادها صارت نفسها في خطر طلبت من الدول بتاريخ ٢٨ أغسطس سنة ١٨٧٦ أن تتوسط بينها وبين الدولة العلية، فسألت الدول الأوروبية الدولة العلية أن تعرض عليها الشروط التي تقبل معها عقد الصلح، فأجابتها بهذه الشروط:
  • أولًا: أن تعود الأحوال في صربيا إلى ما كانت عليه قبل عام ١٨٦٧.
  • ثانيًا: أن تهدم القلاع التي بنتها صربيا بعد عام ١٨٦٧.
  • ثالثًا: أن ترد القلاع التي كانت محتلة لها تركيا من قبل إليها.
  • رابعًا: أن تدفع صربيا غرامة حربية، أو أن تقبل ازدياد الخراج السنوي الذي تدفعه لتركيا.
  • خامسًا: ألا يزيد عدد الجيش الصربي عن عشرة آلاف مقاتل.
  • سادسًا: أن يسافر أمير الصرب إلى الآستانة؛ ليقدم واجبات الخضوع والتابعية للحضرة السلطانية، وليستلم فرمان تعيينه أميرًا على الصرب.

فرأت الدول أن هذه الشروط قاسية جدًّا، وأن قبولها يضر بالصرب ضررًا بليغًا، على أن القارئ إذا تذكر الطلبات التي اتفقت عليها الروسيا والنمسا وألمانيا في برلين بشأن البوسنة والهرسك وطلبتها من الباب العالي، لوجد شروط الدولة العلية مع الصرب أخف كثيرًا من طلبات الدول، مع أن الدولة غلبت الصرب وانتصرت عليها انتصارًا باهرًا. فطلبت الدول من إنكلترا التي كانت تدعي مساعدة تركيا — وما كانت تعمل في الحقيقة إلَّا على تشجيع رجال تركيا في معارضتهم ضد الدول مع علمها باتفاق الدول كلها ضد تركيا — أن تعرض على الباب العالي شروطًا أخرى.

وفي هذه الأثناء جلس جلالة مولانا السلطان الأعظم والخليفة الأكبر «عبد الحميد خان» على أريكة المملكة العثمانية، حيث المصاعب تحيط بها من كل جانب، وأعداؤها يدسون لها الدسائس في كافة أنحائها، والدول كلها متحدة ضدها، فبذل أقصى جهده في تنظيم الأمور وإصلاح الأحوال ودفع المصائب والأخطار.

وقد عرض الكونت «دي بيكونسفيلد» الوزير الأول لإنكلترا على الدولة العلية عقد هدنة لمدة ستة أسابيع للمخابرة فيها في شروط الصلح، وبقاء الحالة على ما هي عليه في صربيا، ومنح البوسنة والهرسك استقلالًا إداريًّا، فرفضت الدولة هذه الطلبات، خصوصًا وأن القيصر أوعز إلى صربيا باستئناف الحرب مرة ثانية، فجمعت جنودها وجنَّدت من لم يُجنَّد منهم. وفي ١ أكتوبر سنة ١٨٧٦ أرسل القيصر إلى «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا كتابًا سريًّا سأله فيه اتحاد النمسا مع الروسيا لاحتلال بلاد البلقان كلها، فرفض إمبراطور النمسا طلب القيصر خوفًا من نتائج عمل خطير كهذا.

وفي ٥ أكتوبر طلبت إنكلترا من الدولة العلية عقد هدنة لمدة ستة أسابيع، وفتح مذاكرة بين الدول وقت الهدنة بشأن عقد الصلح، فأجابت الدولة العلية بأن الهدنة يجب أن تكون لمدة ستة أشهر حتى تستطيع جنودها أن تستريح من أنصاب الحرب، وبأن يُمنَع وصول الأسلحة والذخائر لثوار البوسنة والهرسك ولصربيا والجبل الأسود وقت الهدنة. فلم تقبل الدول طلب الدولة العلية العادل، وأرسلت الروسيا في ١٥ أكتوبر الجنرال «أغناتييف» للآستانة حاملًا إنذارًا للباب العالي يتضمن هذه الشروط:
  • أولًا: عقد هدنة لمدة ستة أسابيع بلا شرط.
  • ثانيًا: منح البوسنة والهرسك وبلغاريا استقلالًا إداريًّا.
  • ثالثًا: ضمانة الدول الأوروبية لحقوق هذه المقاطعات.

وما وصل «أغناتييف» إلى الآستانة حتى وصلته أخبار انهزام الجيش الصربي أمام الجيش العثماني الظافر؛ فقد انتصرت الجنود العثمانية انتصارًا عظيمًا في «دليجراد» و«ألكسيناتس»، وباتوا على مقربة من «بلغراد» عاصمة الصرب التي صار أمر سقوطها في أيدي العثمانيين محققًا، فقدم في الحال «أغناتييف» إنذاره للباب العالي، وقبلت الدولة العلية عقد الهدنة في ٢ نوفمبر عام ١٨٧٦.

ولما رأت إنكلترا أن الروسيا تهدد الدولة العلية على لسان الجنرال «أغناتييف»، أرادت أن تظهر لتركيا مودتها لها؛ لتنتفع من هذه المودة عن الحاجة كما سيرى القارئ؛ فأمرت أسطولها بالسفر إلى مياه الشرق والوقوف في «بزيكا»؛ أي: في مدخل الدردانيل. وعندئذ اتفقت الدول على عقد مذاكرة بينها وبين بعضها في الآستانة.

•••

وقد اجتمع مندوبو الدول بالآستانة في أوائل ديسمبر عام ١٨٧٦، وقرروا عدم اشتراك تركيا في مداولاتهم ومناقشاتهم، بل إرسال قرارهم النهائي إليها بعد إتمام المداولات والاتفاق عليه، وهي أول مرة اجتمع مؤتمر دولي في عاصمة بلاد لم تشترك في هذا المؤتمر! وفي ٢٣ ديسمبر تم اتفاق مندوبي الدول على وضع قرار نهائي، وفي ٢٤ منه أُبلِغ هذا القرار إلى الباب العالي، وهو يتضمن أن الدولة العلية تتنازل لبلاد الصرب والجبل الأسود عن بعض الأراضي ليتسع نطاق إمارتيهما، كأنهما الغالبتان لتركيا! ويتضمن أن البوسنة والهرسك تصيران مستقلتين استقلالًا إداريًّا وأن يُعيَّن لهما لمدة خمس سنوات حاكم يجب أن يكون تعيينه بموافقة الدول، وأن يكون البوليس في البوسنة والهرسك مسيحيًّا، وأن يترك لهاتين المقاطعتين نصف إيرادهما، وأن تكون لغة البوسنة والهرسك هي اللغة الرسمية فيهما، ويتضمن القرار غير ذلك أن القسم الموجود في شمال البلقان من بلاد بلغاريا يصير مستقلًّا استقلالًا إداريًّا كالبوسنة والهرسك، وأن تحتل الجنود البلجيكية هذه المقاطعات السالفة الذكر لحين تنفيذ قرار الدول، وأن تُعيَّن لجنة دولية لمراقبة تنفيذ هذا القرار.

ولا ريب أن قرار الدول هذا كان في الحقيقة إعلانًا لتركيا بأن دول أوروبا كلها متعصبة ضدها، وأنها متحدة في العمل على الإضرار بها؛ فإن الدول الأوروبية كانت تعلم علم اليقين أن هذه المطالب ترفضها تركيا رفضًا باتًّا لما فيها من المساس بحقوقها، وكيف كانت تستطيع تركيا أن تقبلها بعد أن أقمعت الثورة في البوسنة والهرسك وهزمت جنود الصرب والجبل الأسود شر هزيمة؟!

وقد كانت إنكلترا وحدها تتظاهر للدولة العلية بالمحبة والولاء، ولكنها أضرت بها كغيرها بل أكثر من غيرها؛ لأن الدولة العلية انخدعت بتظاهر سواس الإنكليز بالميل لها، وحسبت أن بريطانيا مساعدة لها ضد الروسيا وقت الحرب، فلما جاءت الحرب علمت تركيا أن إنكلترا كانت ترمي فقط إلى تشجيعها على معارضة أوروبا مع علمها باتحاد أوروبا ضدها، وكذلك خدعت إنكلترا تركيا عند عقد مؤتمر برلين، حيث أخذت منها قبرص كما سيرى القارئ.

ولما رأى مندوبو فرنسا أن الدولة العلية عازمة على رفض مطالب المؤتمر عرضوا على بقية الأعضاء تعديل الطلبات، فقبلوا ذلك وأبلغوا الباب العالي أنهم يتركون مسألة تنازل الدولة العلية للصرب والجبل الأسود عن بعض الأراضي لمخابرة أخرى، وأنهم لا يسألون الباب العالي أن يستشير الدول في تعيين حاكم البوسنة والهرسك إلَّا في الخمس سنين الأولى، وأنهم عدلوا عن طلبهم بشأن تقسيم بلغاريا إلى قسمين، وجعل قسم منها مستقلًّا استقلالًا إداريًّا، وأنهم عدلوا عن طلبهم بشأن جعل البوليس كله في البوسنة والهرسك مسيحيًّا، وقبلوا أن يكون من المسيحيين ومن المسلمين، وأنهم قبلوا اعتبار اللغة التركية في البوسنة والهرسك رسمية كاللغة السلافية، وحددوا للباب العالي مدة ثلاثة أشهر لتنفيذ ما بقي من مطالب الدول.

وقد أمضى مندوبو إنكلترا على هذا القرار مع بقية مندوبي الدول، ولكنهم كانوا ينصحون لسواس تركيا سرًّا برفض مطالب الدول.

ولكي تعلم الأمة العثمانية أن جلالة السلطان الأعظم لا يعرض بمصالحها للخطر، وأنه يستشير في صغائر الأمور وكبائرها كبار الأمة وعقلاءها، جمع جلالة السلطان الأعظم مجلسًا عاليًا مكوَّنًا من مائة وثمانين عضوًا من كبراء الأمة ورؤساء الطوائف والمذاهب، وعرض عليهم مطالب الدول وسألهم رأيهم في الأمر، فرفضوها بالإجماع، وأشاروا على جلالة السلطان برفضها؛ فقرر جلالته رفضها عملًا برأي كبراء الأمة ورؤساء المذاهب والديانات، وحفظًا لكرامة الدولة وصيانة لشرفها.

وفي ٢٠ يناير عام ١٨٧٧ أعلن صفوت باشا مندوبي الدول رسميًّا بأن الدولة العلية رفضت مطالبهم لمساسها بمصالحها الجوهرية، فانفض بذلك المجتمع الدولي، وترك مندوبو الدول كفة الآستانة إظهارًا لغضب دولهم وانقطاع العلائق السياسية.

وفي ٣٠ يناير من السنة نفسها كتب المسيو «غورتشاكوف» وزير الروسيا الأول إلى الدول الأوروبية يسألها عن الوسائل التي ستتخذها مع تركيا لإجبارها على قبول مطالبها، ويعلمها بأن الروسيا مستعدة للعمل وحدها ضد تركيا. وفي الوقت نفسه اتفق القيصر مع «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا على بقاء النمسا على الحيادة أثناء الحرب بين الدولة العلية والروسيا، وقبل القيصر الشروط الآتية: أولًا: ألا تدَّعي إحدى الدول الأوروبية أن لها وحدها حق حماية المسيحيين في الدولة العلية، وأن يكون لدول أوروبا كلها القول الفصل بين تركيا والروسيا بعد نهاية الحرب. ثانيًا: ألا تأخذ الروسيا شيئًا ما من الأراضي الواقعة على الشاطئ الأيمن لنهر الطونة، وأن تحترم استقلال رومانيا، وألا تمس الآستانة بسوء. ثالثًا: إذا أوجدت الروسيا إمارة سلافية جديدة يجب ألا يكون ذلك ضد مصلحة البلاد الغير سلافية، وألا تدَّعي الروسيا حقوقًا على بلغاريا التي يجب ألا يحكمها أمير روسي ولا أمير نمساوي. رابعًا: ألا تمر الجنود الروسية من بلاد الصرب.

ولم تكتفِ الروسيا باتفاقها مع النمسا ومساعدة ألمانيا لها من أول الأزمة كل المساعدة، بل أرادت أن تتحقق من مساعدة بقية الدول الأوروبية لها مساعدة معنوية؛ فأرسلت الجنرال «أغناتييف» إلى عواصم أوروبا، فزارها عاصمة بعد عاصمة حتى لوندرة نفسها، وفي كل عاصمة من عواصم أوروبا قُوبِل بالترحاب، وُوعِد بعدم معارضة الروسيا في شيء. وفي لوندرة اتفق مع الوزارة الإنكليزية على عقد مؤتمر دولي في لوندرة لإرسال إنذار أخير للباب العالي، وبالفعل اجتمع المؤتمر. وفي ٣١ مارس سنة ١٨٧٧ أُرسِل الإنذار الدولي للباب العالي متضمنًا أنه يجب على الدولة العلية أن تتمم عقد الصلح مع الجبل الأسود، وأن تترك له الأراضي التي يطالب بها، وأن تنفذ الإصلاحات التي طلبتها منها الدول، وأن تجعل عساكرها في حالة السلم بأن تقلل عددها العظيم الذي جمعته للحرب، وأنذرتها الدول بأنها كلها مستعدة لأن تتحد وتقرر الوسائل الفعالة ضدها إن لم تقبل مطالبها في أقرب وقت، وبذلك اشتركت أوروبا كلها اشتراكًا معنويًّا في معاداة الروسيا لتركيا وتهييجها أمم البلقان عليها، وتحملت مسئولية كل ما عملته الروسيا ضد تركيا.

وقد أرسلت الروسيا بانفرادها إنذارًا آخر للباب العالي أشد لهجة من الإنذار الدولي، فعرض الباب العالي هذين الإنذارين على مجلس المبعوثان ليرى رأيه فيهما، فرفضهما في ٩ أبريل سنة ١٨٧٧، وفي ١١ أبريل أعلن الباب العالي الدول الأوروبية رفضه لهما، ومن ذلك اليوم صارت الحرب على أبواب تركيا، وأخذت الدولة العلية من جهة والروسيا من جهة أخرى تتمم تجهيزاتها الحربية وترسل جيوشها على الحدود.

ولما رأت الروسيا أنها لا تستطيع التغلب على تركيا والفوز عليها، إلَّا إذا عبرت جيوشها بلاد رومانيا عقدت في ١٦ أبريل مع هذه الإمارة — خلافًا لاتفاقها مع النمسا — اتفاقية تسمح للجنود الروسية بعبور أراضي رومانيا، وفي ٢٤ أبريل سنة ١٨٧٧ أعلنت الروسيا رسميًّا الحرب على تركيا، مبينة في إعلانها أن غرضها بالحرب نصرة المسيحيين.

فلما علمت إنكلترا بأن الحرب لا بد منها سألت الروسيا عدم المساس بمصالحها في الشرق واحترام صوالحها، فأجابتها الروسيا على ذلك، وهذه هي المساعدة التي قدمتها إنكلترا للدولة العلية!

وقد اتخذت الجنود الروسية في القرم وفي البحر الأسود خطة دفاعية، وجعلت خطتها الهجومية في جهة القوقاز والدانوب.

وسار الجيش الروسي في آسيا تحت قيادة الجنرال «لويس مليكوف» وبعد مجهودات عظيمة وقتال عنيف؛ استولى في ١٩ مايو على مدينة أردهان، وسار في أوائل يونية إلى مدينة «أرضروم». أما في أوروبا فقد اتفقت الروسيا مع رومانيا — التي أعلنت عندئذ استقلالها التام عن الدولة العلية — في ١٤ مايو عام ١٨٧٧ اتفاقًا دفاعيًّا هجوميًّا، وانضمت جنود رومانيا إلى جنود الروسيا، وعبرت بلغاريا الشمالية، وفي أواسط يوليو احتلت مدينة نيكوبلي، واحتل الجنرال «جوركو» مضايق البلقان الموصلة لمضيق شيبكا الشهير. وقد أحدثت هذه الأخبار تأثيرًا شديدًا في الآستانة وفي أوروبا كلها، وازداد اهتمام الباب العالي بأحوال الجيش، إلَّا أنه من سوء حظ الدولة وشى بعض الدخلاء بالشهم المشهور «عبد الكريم باشا»؛ فعزلته الدولة وعزلت رديف باشا ناظر الحربية، وعيَّنت بدل عبد الكريم باشا «محمد علي باشا» وهو ضابط روسي الأصل اعتنق الإسلام ودخل في عسكرية الدولة.

ولما علم دولة الغازي «عثمان باشا» بانتصار الجيوش الروسية والرومانية أتى بجيشه إلى مدينة «بلفنة» وحصنها أحسن تحصين.

وقد هاجت الخواطر في بلاد المجر حين ذاك هيجانًا شديدًا لانتصار الروسيا على تركيا في بعض المواقع، وصار المجريون يتظاهرون في الشوارع وفي المجتمعات ضد الروسيا، وينادون بمحبة تركيا التي ساعدت ثوارهم عام ١٨٤٩، وأخذوا يسألون حكومتهم مساعدة تركيا بالفعل. إلَّا أن النمسا التي بيدها زمام القيادة العامة للجيش المجري والنمساوي كانت على الحيادة، وكان «بسمارك» يسمعها من وقت إلى آخر أن نصيبها من أملاك تركيا سيكون «البوسنة والهرسك»؛ فكانت راضية بالحرب غير حاسبةٍ لتقوية نفوذ الروسيا في بلاد البلقان حسابًا.

وبالجملة، لم يكن لتركيا في أمم أوروبا محب يخلص الحب لها غير الأمة المجرية، ولكنها لم تستطع أن تعمل شيئًا ما في صالحها.

وقد ظن سواس أوروبا ورجال العسكرية فيها أن الروسيا ستستمر سائرة في طريق النصر، ولكن الأخبار ملأت أوروبا بعدئذ أن الجنود العثمانية انتصرت على الجنود الروسية انتصارًا باهرًا «في قارص» بفضل البطل الشهير الغازي «أحمد مختار باشا»، واضطر الروسيون لرفع الحصار عن هذه المدينة. وفي يوليو وأغسطس وسبتمبر عام ١٨٧٧ هاجمت الجنود الروسية مدينة «بلفنة» المرة بعد الأخرى، وارتدوا على أعقابهم خاسرين؛ لما أقام حولها الغازي «عثمان باشا» من المعاقل والحصون المنيعة.

ولكن سوء حظ الدولة العلية قضى عليها بألا ترسل ما يلزم من المدد للغازي «مختار باشا» بعد أن فقد جيشه الرجال الأبطال؛ فسقطت منه لذلك «قارص» في أيدي الروسيين في شهر نوفمبر عام ١٨٧٧، وسار بعد ذلك الجنرال الروسي «مليكوف» على «أرضروم». أما «بلفنة» فقد أعيت معاقلها وحصونها الروسيين، فحاصروها حصارًا شديدًا، وشهدوا قوة الأتراك وشهامتهم، وأُعجِب قيصر الروس نفسه بمهارة الغازي «عثمان باشا» وقوة إدراكه. وقد طالت محاصرة «بلفنة» حتى انقطع المدد عن الأتراك، ونفد كل ما عندهم من الذخائر، فعزم الغازي «عثمان باشا» على الخروج من «بلفنة» مع جنوده الأشداء. وفي ١٠ ديسمبر عام ١٨٧٧ خرج بالفعل، ومرت الجنود العثمانية من وسط الأعداء غير خائفة نيرانهم ولا مقذوفاتهم، بل جعالة وجهتها الاستحكامات التي كان أقامها الروسيون حول «بلفنة» على ثلاثة خطوط متعاقبة، واستولت على مدافع الخط الأول والثاني وكادت تستولى على الخط الثالث، غير أن الغازي «عثمان باشا» وقع جريحًا فظنه قومه ميتًا، وانتشر خبر موته بين الجنود العثمانية؛ فثبطت هممهم وانحلت عزائمهم، ودخل الروسيون في هذه الأثناء «بلفنة»، واضطر قواد الجيش العثماني للتسليم، والاتفاق مع قواد الجيش الروسي على إيقاف الحرب بإلقاء الجيش العثماني للسلاح، وقد فقد الجيش الروسي في محاصرة «بلفنة» ٢٨٠٨٠ رجلًا وفقد الجيش العثماني ١٥٣٠٠ رجلًا.

ولم يعتبر رجال العسكرية في أوروبا سقوط «بلفنة» انتصارًا للروسيين على العثمانيين، بل أُعجِب كل إنسان بالعثمانيين أكثر من إعجابه بالروسيين؛ فإن الروسيين كان عددهم مائة وخمسين ألف مقاتل، وكان عدد العثمانيين ثلثهم أي خمسين ألفًا فقط، وقد أظهر القيصر إسكندر الثاني نفسه للغازي «عثمان باشا» عظيم إعجابه بدفاعه عن «بلفنة»، وقال له: إن هذا الدفاع يُعَدُّ من الأعمال الحربية النادرة المثال في تاريخ البشر.

وبالجملة، فلم تنتصر الروسيا على تركيا في هذه الحرب إلَّا بالدسائس العديدة التي دستها ضدها في البوسنة والهرسك وفي بلاد البلقان؛ فقد رأى القارئ أن الدولة العلية اضطرت إلى قمع ثورة عظيمة في البوسنة والهرسك، ومحاربة الصرب والجبل الأسود، وقمع ثورة بلغاريا؛ مما أراق دماءً كثيرةً من دماء العثمانيين، وأمات أبطالًا من جنود الدولة، وحملها الأموال والمصاريف الطائلة.

ومع أن الثورة في البوسنة والهرسك وبلغاريا والحرب مع صربيا والجبل الأسود أضعفت جيوش الدولة، فإن هذه الجيوش الفخمة حاربت الروسيا بكل قوة وشهامة، وانتصرت عليها في مواضع مختلفة، ولم تحارب الروسيا تركيا بجيوشها وحدها، بل استعانت برومانيا التي قدمت لها نحو المائة ألف مقاتل، ولو كانت الروسيا حاربت تركيا من بادئ الأمر قبل أن تهيج البوسنة والهرسك وبلغاريا والصرب والجبل الأسود ضدها لكانت انتصرت تركيا ولا محالة وخابت الروسيا وهُزِمت شر هزيمة.

وإذا أضاف القارئ إلى ما تقدم أن تركيا كانت تضع ثقتها في رجال من الدخلاء يعملون بأوامر الأجنبي ويعرضون بمصالح الدولة للدمار، وأنه كان بين قواد جيشها قائد روسي الأصل علم فضل تركيا في انتصارها على الروسيا في بعض مواقع مهمة.

ولا بد لنا من أن نذكر للقارئ أيضًا أن جنود الجبل كانت تعاكس جنود الدولة أثناء الحرب، وأن الصرب انضم جيشها لجيش الروسيا بعد سقوط «بلفنة»؛ فكانت الدولة العلية بذلك مشتغلة من كل جانب برد الأعداء عن ديارها، ولم يكن لها نصير ينصرها على أعدائها، بل كانت وحدها أمام أعداء عديدين، وكان اعتمادها على محض قوتها.

•••

طالما ادَّعى أعداء الدولة العلية أنها إذا فتحت بلادًا نشرت فيها لجنودها راية السلب والنهب والفتك بأهلها، وإذا مرت بأرض خربتها وغيرت معالمها، فليقرأ المنصفون ما عمله الروسيون وصنائعهم البلغاريون في هذه الحرب مع المسلمين الأبرياء الذين لم يكن لديهم أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم، بل كانوا آمنين مطمئنين يحسبون الحرب بشرية إنسانية، لا بهيمية بربرية.

وقد أتى السير أشميد برتلت في كتابه الحديث «مواقع تساليا» على تاريخ كثير من هذه الفظائع، وإنا نذكر للقراء الكرام شيئًا منها:

لما عبر الجنرال سكويبف نهر شيبكا في يناير سنة ١٨٧٧ وجد معسكرًا يحتوي على مائة ألف من نساء الأتراك نازلًا بقرب هرمنلي، فلم يكن من جنوده سوى أنهم فتكوا بهن، وطردوهن أمامهم على ثلوج نهر ميرتزا إلى جبال رودب حتى مات أكثرهن من البرد والجوع.

وإنا نستشهد على هذه المعاملات البربرية واعتداء الروسيين والبلغاريين على الأبرياء من المسلمين بما جاء في جريدة الدالي نيوز، وقد كانت إذ ذاك منتصرة للروسيا، ففي عدد ٨ فبراير سنة ١٨٧٨ جاء فيها بالحرف الواحد:

أدريا نوبل في ٢٧ يناير سنة ١٨٧٨ لمكاتبنا في الحرب

إن المسافة التي بين «فيلوبوبوليس» و«هرمنلي» تبلغ سبعين ميلًا قد كانت بالأمس مرتعًا لآلاف من العائلات، واليوم أصبحت قاعًا صفصفًا خاوية على عروشها، ليس بها سوى جيف الموتى وعظام القتلى وبقايا المذبوحين، فتحولت نضارتها السابقة إلى منظر مخيف وأطلال دوارس؛ وذلك نتيجة ما حصل من الفظائع المنكرة التي تقشعر من هولها الأبدان، ولا يمكن لأي إنسان أن يتصور مهما اجتهد أن يحاول تلك الأهوال التي وقعت في تلك البقعة، والحالة التي وصلت إليها.

وكتب هذا الكاتب نفسه:

بينما نحن نسير من «فيلوبوبوليس» كنا نرى جثث الفلاحين مغطاة بالثلوج، ولا شك أن بعضها قد لبث على هذه الحالة الشنيعة المحزنة أسبوعين أو ثلاثة، ولم تزل آثار الدماء على ملابس بعضهم، وهكذا كنا نسير بين رمم القتلى وآثار الخيام والأرض حولنا مغطاة بالجثث وبقايا المعسكرات كما تُغطَّى بالبسط والفرش، وكنا نخترق صفوفًا من جثث القتلى ورمم الحيوانات مسافة لا تقل عن خمسة وثلاثين ميلًا؛ فرأينا نساء ملقاة في الثلوج وأولادًا وأطفالًا مرماة في البرك، ورجالًا ممزقة أجسادهم مما أصابهم من الجراحات القتالة، ورأينا الثلج محمرًّا من أثر الدماء المنهطلة، وأظن أن أغلب النساء متن من البرد القارص؛ لأن نضارة الحياة كانت بادية على وجوههن، فكأنهن نيام للراحة من عناء هذا العالم ومعاملة أهله البربرية باسم المدنية.

أما الرجال فكنت تراهم واحدًا بجانب الآخر تظهر عليهم علائم العظمة، حتى مع الموت، وذقونهم ملوثة بدمائهم، وأيديهم موضوعة على صدورهم كأنما هم يحافظون على قلوبهم الشريفة من أن تدوسها أعداؤهم بأقدام الخيل.

أما الأطفال والأولاد، فهم كالنساء مات أغلبهم من شدة البرد القارص والثلوج المتراكمة؛ فكنت ترى أوجههم لطيفة بعضها بادٍ وبعضها مغطى بالثلج، وكانت تلوح عليهم نضارة الطفولية، وتظهر عليهم الطهارة والبراءة التامة، كأنما هم نائمون نومًا طبيعيًّا، أو كأنما جعلت من الثلوج الناصعة البياض سرائرهم وأيديهم الناعمة البيضاء بارزة من المياه الذائبة.

ولا أشك أن أمهاتهم لما رأينهم أمواتًا على صدورهن من شدة البرد، وأن لا أمل في عودتهم للحياة رمينهم في الثلوج ليخففن حملهن، وفارقن حشاشات أكبادهن بالرغم عنهن، والدموع تسيل من عيونهن حتى إذا أدركت الخدود تحولت بردًا من شدة الزمهرير.

وإني لم أشعر بيأس زائد وبلاء عظيم في حياتي إلَّا عندما رأيت بعيني الفظائع والمصائب التي حلت على بني الإنسان؛ فلقد رأيت امرأة تسير بجانب طفلة تناهز العاشرة من عمرها، وهما تجدان في المسير فرارًا من معاملة الروسيين وقساوتهم البربرية، ولكن الابنة لم تقوَ على المشي؛ لأن أقدامها العارية تعبت غاية التعب من المسير على الثلج، فسقطت ميتة بين أيدي أمها الحنونة، ولقد داهم الأم الليل بظلامه الحالك وبرده الفاتك؛ فسقطت طريحة بجانب ابنتها.

وإن الطريق إلى «هاسكيوي» مملوءة بجثث عديدة، وكلما مررنا على قرية رأيناها خاوية على عروشها ليس بها إلَّا بقايا المذبوحين والمقتولين، ولقد سألنا بعض البلغاريين: من قتل هؤلاء؟ فأجابونا بصوت الشامت المسرور: «إننا ونصراءنا قتلناهم شر قتلة.»

أما في هاسكيوي فكنت ترى كثيرًا من الجنود التركية مقتولين، وفضلًا عما أصابهم من الجراح القاتلة، فإن فلاحي البلغار لم يشفقوا عليهم، بل رجموهم بالحجارة؛ ليفنوا عظام هؤلاء الشهداء الأبطال.

ولقد سألت إحدى العائلات التركية: من أين جاءت وإلى أين تسير؟ فقالت لي: إنها تركت «بلفنة» من خمسة شهور مضت، وهي على مثل حالها من الفقر المدقع تسير ليلًا ونهارًا لا غذاء لديها سوى ما تجده من لحوم الحيوانات التي تموت في الطرق، وكانت هذه العائلة مكونة من أب وأم على صدرها طفل صغير وولد يبلغ العاشرة من العمر، وكلهم حفاة عراة، الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم، وليس لديهم سوى بعض خرق يسترون بها سوآتهم وقدرة يطبخون فيها اللحم.

وكلما سرنا خطوة بعد «هاسكيوي» رأينا مناظر أبشع وأفظع، فكم رأينا امرأة وزوجها مقتولين نائمين بجانب بعضهما وطفلين بقربهما على الثلوج، وشيوخًا متكسرة جماجمهم، وكل هذا فضلًا عن خراب القرى وسلب ونهب ما لأصحابها من الخيرات والأشياء النافعة. ومن المناظر التي تولد الحسرة وتحزن الفؤاد أنني رأيت شيخًا هرمًا من الترك ملقى على الأرض وبجانبه مصحف قرآن شريف مفتوحًا وملوَّثًا بدمائه، وذلك بينما كان البلغاريون يسلبون الناس أموالهم ويحملونها على عرباتهم، ثم يجرونها فوق جثث القتلى؛ لتدهس العجلات لحومهم، وتفتت عظامهم، وتهشم جماجمهم بلا رحمة ولا شفقة، بل وبلا تأثر لمثل تلك المناظر البشعة الفظيعة، فأين المدنية؟! وأين حب الإنسانية؟!

وإني أقول إن عدد الذين فتك بهم البلغاريون من الأبرياء الآمنين كثيرٌ جدًا، وقد ترك بيوتهم نحو الخمسة وسبعين ألفًا هروبًا من المعاملة القاسية البربرية، ولكنهم لا يكادون يفرون من القتل حتى ينقضَّ عليهم البلغاريون ويفتكون بأغلبهم، ولم يهرب إلَّا القليل إلى بلاد الترك، وإنه ليحق للعالم أن يسمي الطريق بين فيلوبوبوليس وهرمنلي «طريق الموتى» لكثرة ما فُقِد فيه من الأرواح البريئة.

ولقد رأينا في طريقنا إلى قسطنطينية من أمثال هذه المناظر الفظيعة كثيرًا، وكم رأينا أناسًا من الضعفاء يسيرون سريعًا لا يلتفتون وراءهم خوفًا من أعدائهم، وإذا سألتهم إلى أين يسيرون لم يجيبوك من شدة ضعفهم وانتهاك قواهم، كأنما هم لا يعرفون إلى أي طريق هم سائرون، وإنما غاية ما يتصورون أنه يجب عليهم الفرار حتى يأمنوا على أرواحهم، ومن شدة فزعهم وهلعهم كانوا يتركون أمتعتهم حين تُكسَّر لهم عربة ويفرون وحدهم.

وإني بينما أكتب هذه الأسطر أرى أمام عيني كثيرًا من العربات تغدو بأصحابها بين هضاب متراكمة من الثلج، وأغلب النساء يسرن حفاة عراة خائرات القوى من الضعف والتعب.

ولذلك ضوضاء يصحبها صراخ الأطفال وعويل الأولاد وبكاء النساء وزفزفة العواصف وقرقعة عجلات العربات مما يزيد المنظر فظاعة وبشاعة، ومع الأسف الزائد أن هؤلاء المساكين التعساء يروحون فريسة الظلم وليس من يرحمهم أو يشفق عليهم.

وقد كتب مكاتب الستندرد الذي سار مع الدوق نيقولا وجَابَ الجزء الشمالي من بحيث جزيرة البلقان ما نصه:

لم أترك لنفسي مجالًا للتكلم عن كبائر الفظائع كما يجب أن نسميها، وأقول الآن: إن المتوحشين لا يفعلون مع الفارين الهاربين كما فعل البلغاريون مع جيرانهم الأتراك من القساوة البربرية والمعاملة الوحشية، وما حمل هؤلاء المسيحيين على فعل هذه المنكرات سوى حب نفوسهم الخبيثة للفتك بعباد الله، وظمئها إلى شرب دماء جيرانهم الأبرياء الذين لا سلاح بأيديهم، ولقد سمع تابع لي رجلًا بلغاريًّا في إحدى حوانيت الخمر في «سيستوف» يقول وهو حامل سكينة هائلة: «كنت أحمل معي بندقية، ولكن هذه السكينة اللطيفة أفادتني أكثر من البندقية؛ لأني ذبحت بها عشرة منهم كما تُذبَح الأغنام.»

ولعمري إن مثل هذا التغيير لا يضارعه مثيل في القسوة والفظاعة البهيمية، وإني لا أشك أنهم قتلوا الضعفاء الأبرياء، وذبحوهم كما تُذبَح الأغنام، ولقد مضى شهران على الروسيين وهم مقيمون، ومع ذلك لم يُسمَع أن تركيًّا أساء إلى أحد من المسيحيين. ومما يُحكَى أن ضابطًا روسيًّا اشترى من أحد الفلاحين المسيحيين ديكين روميين بمبلغ نصف شلن، ثم سأل الفلاح قائلًا: «أليس الناس في سرور لمقابلة إخوانهم المسيحيين؟» فأجابه: «فلننظر حتى نرى إن كنتم تعاملوننا كما كان يعاملنا الأتراك بالحسنى!»

وقد سأل المستر إدموند قنصل إنكلترا في «فيلوبوبوليس» خليل أوغلي حسين ومصطفى أوغلي عبد الله وسليمان أوغلي رشيد، وهم من سكان «بالفان» التي تبعد بمسافة سير ثلاث ساعات من ترنافو عما جرى لهم من الإهانات، فأجابوا بما يأتي:

«في صباح السبت الماضي «٧ يوليو» وصل ألايان من الكوساكز إلى قرية «بالفان فخرج كبارها حين سمعوا بوصول الروسيين لمقابلة قوادها، ولكن الكوساكز حاصروا القرية وطلبوا من السكان تسليم أسلحتهم، وفي اليوم الثاني حضر ألايان آخران من الكوساكز وأحاطوا كإخوانهم بالقرية، وكان يصحبهم في هذه المرة عدد لا يقل عن ألفين أو ثلاثة آلاف من البلغاريين الذين يسكنون القرى المجاورة، وجميعهم متقلدون بالنبابيت والسكاكين والبنادق والسيوف المختلفة الأجناس، فابتدأ هؤلاء الأوغاد في طرد أهل القرية وحيواناتهم، ونهب الناس وسلبهم من كل شيء يستحق الأخذ، ثم أشعلوا النار في القرية في أماكن عديدة، وكلما حاول أحد الخروج من لظى النار ولا سيما الأطفال والنساء حملوا عليه وزجوه فيها.

أما الكوساكز فإنهم وقفوا بعيدًا على شكل كوردون حول القرية غير متألمين مما يجري أمام أعينهم، بل كانت علائم السرور بادية على وجوههم، ولولا أننا «خليل أوغلي ومن معه» هجمنا على الكوردون بقلوب شجعها اليأس وقطعناه في طرف القرية، ما تمكنا من الفرار من لهيب النار.

وكان المتكلم هو خليل أوغلي المذكور، ولقد استمر في حديثه وعلامات الحزن والأسف بادية على وجهه، ولكنه حينما أراد أن يتكلم عما حصل لعائلته بكى بكاءً مرًّا، وصار يتنهد كما تتنهد الثكلى، ثم خنقته العَبرة؛ فلم يقدر على الكلام، وبعد مدة طويلة أمكنه أن يعبِّر لنا عما حصل لأختيه اللتين كان يعتني بأمرهما؛ لأن زوجيهما كانا في الجيش، وقال لنا: إنه رأى بعينيه عائلته وقد كانت تزيد عن إحدى عشرة نسمة تُرمَى في النار واحدًا بعد واحد.

ولمَّا عبر الروسيون نهر الدانوب سنة ١٨٧٧ قبضوا على نساء الأتراك وأطفالهم الذين كانوا يحاولون الهرب من وجه أعدائهم، وأحضروهم إلى مدينة شملا بحالة تذيب الأفئدة وتقطع الأكبدة، وهناك رآهم بعض مكاتبي الجرائد الأوروبية، فكتبوا قرارًا بهذا الشأن وأمضوا عليه.

ولقد أرسل وزير خارجية الدولة العلية هذا القرار إلى السفارة العثمانية في باريس بتاريخ ٢١ يوليو سنة ١٨٧٧ قائلًا: «إني سأرسل إليكم القرار الآتي بإجماع وإمضاءات مكاتبي الجرائد الأجنبية الآتية، وهي: «كولونيا غازت» «جرنال الديبا» «نيوفراي برسيه» «ستندارد» «دايلي تلغراف» «اللستر اند لندن نيوز» «مانشستر جارديان» «التيمس» «فرانكفور ترزايتنج» «مورنن بوست» «ريببليك فرانسز» «بسترلويد» «فاينرتاجبلاط» «مورنن إدفر تيسر» «سكوتمان» «نيويورك هرالد» «منشستر أكزامنر»، والقرار هو الآتي:

الممضون أدناه الذين يمثلون الصحافة الأوروبية والمجتمعون في مدينة شملا يرون أن من واجباتهم أن يمضوا الرسائل التي أرسلها كل واحد منهم إلى جريدته عن القسوة البربرية التي ارتكبها ويرتكبها البلغاريون ضد السكان المسلمين الأبرياء، وأن يشهد كل منا أننا رأينا بأعيننا جراح النساء والشيوخ والأطفال، وسألنا في مدينتي «راسجرار» و«شملا» النساء والأطفال والشيوخ عما حل بهم من الجراحات العنيفة بالسيوف والحراب فضلًا عن البنادق التي ربما ظُنَّ أنها أصابتهم أثناء اشتعال نار الحرب.

ويُستدَل من أجوبتهم أن ما حل بهم هو من معاملة الروسيين والبلغاريين، ويُستنتَج من كلامهم أيضًا أن معظم سكان القرى من المسلمين ذُبِحوا كما تُذبَح الأغنام، ونحن الممضون أدناه نقر أن أغلب الجرحى من النساء والأطفال.

الإمضاءات
وكتب مكاتب التيمس — وقد صحب هذا المكاتب الجنرال جوركو ورأى بعينه ما حل بالأتراك الأبرياء — من معسكر جنوب البلقان في ١٢ يوليو سنة ١٨٧٧ ما يأتي:

إن هذه الحرب ليست من الحروب الإنسانية، بل هي هول على هول، وفظائع على فظائع؛ لأن الجندي الروسي يرى التركي كحيوان يجتهد في صيده ليقتله، وأما البلغاري فكيفما تمكن من القتل قتل، وهذا هو البرنس ويتشتنستين يقول: إن البلغاريين يقتلون جرحى الأتراك، ويسلبون القتلى أموالهم، فماذا يعمل الإنسان ذو العواطف الحية حينما يرى إخوانه يتحمسون لشرب الدماء عندما يسمعون أنه قُبِض على أسرى من الأتراك؟! أم كيف يتسنى للأبطال أن ينظروا بعين الرضى رجالًا يلوثون انتصارهم بما يركبونه من منكرات الفظائع والمذابح؟!

لما رأت الدولة العلية أن أوروبا كلها ضدها، وأن لا نصير لها بين الدول، وأن إطالة الحرب مضرة بها، طلبت من الروسيا إيقاف الحرب وعقد هدنة للمخابرة في شروط الصلح، فقبلت الروسيا ذلك بغاية الامتنان، وعقدت الهدنة بين المتحاربين في «أدرنة» بتاريخ ٣٠ يناير عام ١٨٧٨، واشترطت الروسيا عند عقد الهدنة أن القواعد الأولية للصلح يجب أن تكون استقلال الصرب ورومانيا، وتنازل الدولة العلية لهما وللجبل الأسود عن بعض الأراضي، وجعل بلغاريا مستقلة استقلالًا إداريًّا، وجعل الإدارة في البوسنة والهرسك مستقلة، وتقدير غرامة حربية تدفعها تركيا للروسيا.

وما انتشر خبر هذه الاتفاقية التي عُقِدت في أدرنة بين المتحاربين حتى هاجت الخواطر في النمسا ضد الروسيا، ورأت حكومة الإمبراطور «فرنسوا جوزيف» أن هذه الشروط التي جبرت الروسيا الدولة العلية على قبولها ماسة بحقوقها وبمصالحها في البلقان وعلى شواطئ نهر الدانوب؛ فأعلنت الدول الأوروبية بأنها تعتبر كل اتفاق يقع بين المتحاربين لاغيًا لا عمل له، وأن أوروبا كلها يجب عليها أن تجتمع في مؤتمر للفصل بين تركيا والروسيا.

أما إنكلترا فقد أظهرت عندئذ ميلها للدولة العلية، وتظاهرت بالمحبة والصداقة لملك آل عثمان، وأرسلت بأسطولها إلى مياه البوسفور، وهددت الروسيا بإنزال العساكر الإنكليزية إلى الآستانة، وسيرى القارئ إلى أي غاية كانت ترمي إنكلترا عندئذ، وهل كانت صادقة في تظاهرها بالمودة للدولة العلية أو غير صادقة.

وقد أجابت الحكومة الروسية على إعلان النمسا بأن ليس لأوروبا حق في أن تتداخل في أمور لا تمس مصالحها مطلقًا، وأن الروسيا تعرض على الدول عقد مؤتمر أوروبي للنظر في شروط الصلح، فوافق البرنس «بسمارك» على جواب الروسيا، وعرض على الدول عقد مؤتمر ببرلين.

وفي هذه الأثناء كان الجنرال «أغناتييف» يتخابر مع مندوبي تركيا في شروط الصلح، وفي ٣ مارس أمضى معهم عهدة سان إسطفانوس التي هي أكبر المعاهدات ضررًا بالدولة العلية؛ فهي تتضمن جعل بلاد الجبل الأسود مستقلة تمام الاستقلال من الدولة العلية مع توسيع نطاقها وإعطائها ثغرين على البحر الأدرياتيكي، وتتضمن جعل بلاد رومانيا مستقلة تمام الاستقلال، وجعل بلاد الصرب مستقلة، مع إضافة أراضي «نيش» إلى بلادها، وتتضمن جعل بلاد البلغار مستقلة استقلالًا نوعيًّا، وتعيين حاكم روسي لها ينظمها ويحكمها لمدة سنتين، يكون لها فيها الحق في انتخاب أمير عليها، وتتضمن العهدة كذلك احتلال العساكر الروسية لبلاد البلغار مدة سنتين، وهدم كل القلاع والحصون الموجودة على نهر الدانوب «الطونة» وجعل الملاحة في نهر الدانوب حرة، وتتضمن العهدة أيضًا أن الإدارة في البوسنة والهرسك تكون موافقة لما طلبته الدول في مجتمع الآستانة، وتُوضَع تحت مراقبة الروسيا والنمسا، وأن أرمينيا تُمنَح بعض امتيازات وبعض حقوق جديدة، وأن جلالة السلطان يصدر عفوًا عامًّا عن الثوار والمجرمين السياسيين، وتتضمن العهدة غير ذلك أن الدولة العلية تدفع للروسيا غرامة حربية قدرها ١٤٠٠ مليون من الروبل، وقد رضيت الروسيا بأن تتنازل للدولة عن مبلغ ١١٠٠ مليون من الروبل مقابل تنازل الدولة لها عن باطوم وأردهان وقارص وبايزيد في آسيا، وعن إقليم «الدبروجه» في أوروبا، وهذا الإقليم أُضِيف إلى مملكة رومانيا مقابل استيلاء الروسيا على إقليم «بسارابيا» الذي سُلِخ منها في عام ١٨٥٦.

وتشتمل العهدة على تعهد الدولة العلية برعاية الرعايا الروسيين في بلادها، ووضع حقوق القسوس الأرثوذكس تحت حماية القيصر، وإعادة تنفيذ المعاهدات التجارية التي كانت بين الروسيا وتركيا قبل الحرب، وفتح بوغازي الدردانيل والبوسفور في كل وقت للسفن التجارية.

وما علمت الدول الأوروبية بهذه العهدة حتى اعترف سواسها بأن الروسيا اعتدت على حقوق الدولة العلية شر اعتداء، وأن دول أوربا تفقد موازنتها ويضيع بالمرة التوازن العام إذا أُنفِذت شروط عهدة سان إسطفانوس، وكانت أشد الدول تهيجًا ضد الروسيا هي النمسا التي خدعت في اتفاقيتها التي عقدتها مع الروسيا في يناير عام ١٨٧٧، فخابرت إنكلترا واتفقت معها على معارضة الروسيا كل المعارضة، وطلبتا منها عرض عهدة سان إسطفانوس للمناقشة بين مندوبي الدول في المؤتمر المزمع عقده، فأجاب القيصر في ٢٦ مارس سنة ١٨٧٨ بأنه لا يرضى بأن دول أوروبا تتناقش في الشروط التي لا تخص إلَّا الروسيا وتركيا، وقد أمل القيصر عندئذ الاتفاق مع النمسا، فأرسل إلى فيينا الجنرال «أغناتييف» ولكن الاتفاق كان مستحيلًا لتباين أميال الروسيا والنمسا.

وقد استفادت إنكلترا من خيبة الجنرال «أغناتييف» في مأموريته بفيينا، واعتمدت على مساعدة النمسا لها ضد الروسيا، وأعلن اللورد سالسبوري وزير الخارجية الإنكليزية وقتئذ أن عهدة سان إسطفانوس تجعل البحر الأسود تحت سلطة الروسيا ورحمتها، وتهدد استقلال الدولة العلية وسلامتها، وتضر بمصالح إنكلترا؛ أي إن إنكلترا أرادت أن تسمع الروسيا أنها إذا صممت على تنفيذ عهدة سان إسطفانوس قامت الحرب بينهما، وكان القابض في الحقيقة على مفاتيح السلم والحرب حينئذ هو البرنس «بسمارك»؛ لأن ألمانيا كانت بين الدول في موقف الحَكَم، فإنها إذا كانت انضمت إلى الروسيا كانت اضطرت النمسا إلى العدول عن محاربة الروسيا، وبذلك كانت فشلت إنكلترا وبلغت الروسيا مرامها، وإذا كانت وقفت على الحياد بدون أن تساعد الروسيا وتركتها أمام إنكلترا والنمسا كانت خسرت الروسيا أهم مكاسبها في عهدة إسطفانوس، وقد سألت الروسيا ألمانيا مساعدتها مذكرة إياها برعايتها لها ضد النمسا في عام ١٨٦٦ ومساعدتها لها ضد فرنسا في عام ١٨٧٠ حيث منعت النمسا من مساعدة فرنسا، ولكن البرنس «بسمارك» أبى مساعد الروسيا بجنود ألمانيا معتذرًا بأن ألمانيا في حاجة مستمرة لمراقبة فرنسا والاستعداد لمحاربتها، فاغتاظ قيصر الروسيا واغتاظ سواسها أشد الغيظ من ألمانيا ووزيرها، وابتدأت العداوة الكامنة بين الدولتين من ذلك الحين في الظهور.

ولما رأت الروسيا أنه لا استطاعة لها على محاربة النمسا وإنكلترا بعد محاربتها لتركيا، طلبت من الوزارة الإنكليزية أن تعرفها عن التغييرات التي تريد إجراءها في عهدة سان إسطفانوس، وجرت المخابرات في ذلك بين اللورد سالسبوري وبين الكونت «شوفالوف» سفير الروسيا بلوندرة، وفي ٣٠ مايو عام ١٨٧٨ أمضيا اتفاقية سرية تتضمن التغييرات التي طرأت على عهدة سان إسطفانوس، ولم يكن لهذه التغييرات الجديدة التي أحدثتها الوزارة الإنكليزية في عهدة إسطفانوس أهمية؛ لأن المؤتمر الدولي كان من شأنه أن ينظر في كل شروط الصلح، وأن يقرر ما يُتفَق عليه فيه بالأغلبية.

أما فرنسا، فقد كانت خطتها في المسألة من بادئ الأمر خطة الدولة الراغبة في السلامة العديمة الأطماع في أخذ شيء من أملاك الدولة العلية، ولما عرضت عليها الدول الأوروبية الاشتراك معها في مؤتمر يُعقَد للفصل النهائي بين تركيا والروسيا، اشترطت على الدول: أولًا: اشتراك كل الدول التي أمضت على معاهدة باريس عام ١٨٥٦ في هذا المؤتمر. ثانيًا: أن لا ينظر في هذا المؤتمر إلَّا في المسائل المختصة بالحرب بين تركيا والروسيا. ثالثًا: أن لا يبحث أعضاء المؤتمر في شئون مصر والشام، وأن لا يناقش أحد في المؤتمر في حقوق فرنسا على الأماكن المقدسة. فقبلت الدول كلها هذه الشروط ورضيت بذلك فرنسا أن تشترك معها في المؤتمر.

وقد ظهر للقارئ مما سبق أن إنكلترا كانت متظاهرة بالمودة للدولة العلية، وكانت تهدد الروسيا بأعلى صوت ولسان، ولم يكن قصدها من ذلك خدمة تركيا أو مساعدتها، بل التغرير بها وخدعها؛ فإنها وعدتها بالمساعدة في مؤتمر برلين ضد الروسيا، وعرضت عليها عقد اتحاد معها تتعهد فيه إنكلترا بالدفاع عن تركيا إذا مستها الروسيا بسوء — ولو كانت إنكلترا صادقة في مودتها لكانت تحالفت مع الدولة العلية قبل الحرب — وتأخذ منها مقابل ذلك جزيرة «قبرص»، فانخدع رجال الدولة العلية لسواس بريطانيا وأحسنوا الظن بهم، وعقدوا معهم هذه المعاهدة في ٤ يونيو عام ١٨٧٨؛ أي قبل عقد مؤتمر برلين بأيام قلائل، وبذلك فقدت الدولة العلية جزيرة قبرص بدون أن تكسبها المودة الإنكليزية الكاذبة أقل فائدة.

•••

وقد دعا البرنس بسمارك رسميًّا في ٣ يونيو عام ١٨٧٨ مندوبي الدول الأوروبية للاجتماع ببرلين، فحضر المندوبون وعُقِدت الجلسة الأولى للمؤتمر في ١٣ يونيو، وكان أهم مندوبي ألمانيا البرنس «بسمارك»، وأهم مندوبي النمسا الكونت «أندراشي»، وأهم مندوبي فرنسا مسيو «وادنجتون»، وأهم مندوبي إنكلترا الكونت «بيكونسفيلد» والمركيز «دي سالسبوري»، وأهم مندوبي إيطاليا الكونت «كورتي»، وكان مندوبو الروسيا البرنس «غورتشاكوف» والكونت «شوفالوف» والبارون «دوبريل». أما مندوبو الدولة العلية فكانوا «قره تيودوري باشا» و«محمد علي باشا» الروسي الأصل و«سعد الله بك».

وقد أرسلت حكومة اليونان مندوبين من قبلها لعرض مطالب اليونان على المؤتمر، وكان مندوبو إنكلترا مساعدين لهم كل المساعدة، فطلبوا من المؤتمر قبولهم لسماع أقوالهم، وكان قصد مندوبي إنكلترا من هذه المساعدة معاكسة الروسيا التي يسوءها تقوية العنصر اليوناني؛ لما في ذلك من الضرر بالعنصر السلافي، وكأن مندوبي إنكلترا كانوا يجهلون أن مساعدتهم لليونان تضر بالدولة العلية أكثر من ضررها بالروسيا، ولكن مصالح الدولة العلية كانت لا تهمهم مطلقًا بعد أن تحققت أمنيتهم بالاستيلاء على «قبرص»!

وكانت تنحصر مطالب اليونان في إظهار ضرورة استيلائها على تساليا وأبيرا وألبانيا وكريت، وقد قرر المؤتمر قبول مندوبي اليونان في آخر جلسات المؤتمر وسماع مطالبهم.

وأول مناقشة دارت بين أعضاء المؤتمر كانت على مسألة بلغاريا واستغرقت أربع جلسات، وقد انتهت المناقشة باتفاق أعضاء المؤتمر — بالرغم من معارضة مندوبي الروسيا — على جعل مساحة بلغاريا أقل بكثير مما اتفقت عليه الروسيا مع الدولة العلية في سان إسطفانوس، بجعل حدودها عند جبال البلقان، وإعطائها «صوفيا» كعاصمة لها مع بعض الأراضي في جنوب البلقان، وقرر المؤتمر بذلك جعل مساحتها ٦٤٠٠٠ كيلومتر مربع بعد أن كانت في اتفاقية سان إسطفانوس ١٦٣٠٠٠ كيلومتر مربع، وصار عدد سكانها مليونًا ونصف مليون بعد أن كان في عهدة إسطفانوس أربعة ملايين؛ وبذلك بقيت سواحل الأرخبيل في أيدي الدولة العلية خلافًا لشروط عهدة إسطفانوس، وقرر المؤتمر جعل احتلال الجنود الروسية لبلاد بلغاريا لمدة تسعة أشهر فقط لا لسنتين كما قررته عهدة إسطفانوس، وجعل تنظيم بلغاريا تحت مراقبة لجنة دولية لا تحت مراقبة مندوب روسي.

وقرر المؤتمر كذلك إنشاء ولاية جديدة في جنوب البلقان بين مقدونيا وأدرنة تكون عاصمتها مدينة «فيليبوبوليس» وتُسمَّى بالرومللي الشرقي، وتكون إدارتها الداخلية مستقلة، وأن لا يجوز للجنود العثمانية أن تقيم في داخلها، بل يكون لها الحق فقط في الدفاع عن حدودها، ولم يرضَ أعضاء مؤتمر برلين تسمية الرومللي الشرقي ببلغاريا الجنوبية، ولكنهم كانوا يرمون ولا محالة إلى ضم هذه الولاية الجديدة إلى بلغاريا بعد زمن قليل من عام ١٨٧٨.

ولما دارت المناقشة بشأن «البوسنة والهرسك» قام الكونت «أندراشي» مندوب النمسا، وقرأ تقريرًا طويلًا أبان فيه أن بقاء هاتين المقاطعتين تحت يد الدولة العلية، أي تحت حكم المسلمين، يكون سببًا لاستمرار الاضطرابات والثورات فيها، وأظهر ما في ذلك من الضرر بمصالح الدولة النمساوية، وما انتهى من كلامه حتى وقف الماركيز «سالسبوري» وأيد أقواله، وسأل المؤتمر تقرير احتلال الجنود النمساوية لمقاطعتي البوسنة والهرسك احتلالًا لا أجل له، وهكذا ساعدت إنكلترا الدولة العلية وبرهنت لها على صدق إخلاصها! … وقد احتج مندوبو تركيا على هذا السؤال الغريب، فأجابهم البرنس بسمارك — الذي كان الموعز للكونت «أندراشي» وللماركيز «سالسبوري» بما طلباه — بأن الغرض من مؤتمر برلين ليس رعاية المصالح العثمانية، بل رعاية مصالح أوروبا والمدنية! … وقد اتفق مندوبو المؤتمر بالأغلبية على جعل البوسنة والهرسك تحت حكم النمسا، وإعطائها حق احتلال إقليم «نوفي بازار»، وهو إقليم على طريق سالونيك.

وبعد ذلك نظر المؤتمر في مسألة الصرب والجبل الأسود، فأعلن استقلالهما تمام الاستقلال، وقرر إعطاءهما بعض الأراضي لتوسيع نطاقهما، ولكن أقل مما قررته عهدة إسطفانوس، وفي ذلك الوقت قرر المؤتمر سماع مطالب اليونان، فدخل المسيو «ديليانيس» والمسيو «رانجابيه» وقرأ الأول مطالب حكومته، وهي تشتمل على إعطاء اليونان ألبانيا وأبيرا وتساليا وكريت؛ فاتفق أعضاء المؤتمر على تقرير جعل المناقشة في مطالب اليونان بين اليونان والدولة العلية نفسها، وعلى أنه إذا لم يحصل الاتفاق بين الحكومتين على تحديد حدود جديدة بينهما؛ يُعرَض الأمر عندئذ على الدول الأوروبية، وأقروا على تنظيم المقاطعات اليونانية الباقية تحت حكم الدولة العلية على نسق الرومللي الشرقي، وجعل تنظيمها تحت مراقبة اللجنة الدولية.

ولما جاءت مسألة رومانيا، أعلن المؤتمر استقلال هذه البلاد كصربيا والجبل الأسود، وقرر المساواة التامة بين كل أهاليها على اختلاف دياناتهم، وهذا القرار جاء مفيدًا جدًّا لليهود الذين أساءت إليهم حكومة رومانيا في معاملتها معهم، كما أساء إليهم أهلوها كل الإساءة. وقد سمع المؤتمر مندوبي رومانيا — المسيو براتينو والمسيو كوجو لنيسانو — كما سمع مندوبي اليونان، فطلبا منه عدم تقرير سلخ أي جزء من أراضي رومانيا، وعدم مرور الجنود الروسية في بلادهم، وأن يقرر أن الروسيا تدفع غرامة لرومانيا مقابل ما تكبدته من الخسائر أثناء الحرب، ولكن المؤتمر لم يستطع قبول هذه الطلبات لما فيها من المساس بمصالح الروسيا، واكتفى بتقرير إعطاء رومانيا ألفي كيلومتر مربع في إقليم الدبروجة.

وقد نظر المؤتمر بعدما تقدم في مسألة الملاحة في نهر الطونة، فقرر بقاءها على ما كانت عليه قبل الحرب ومنح النمسا بعض امتيازات، وقرر المؤتمر في مسألة الغرامة الحربية عدم جواز استبدالها بأراضٍ أو ببلاد عثمانية، واعتبار الروسيا آخر دائن لتركيا؛ أي إنه لا يجوز لها أن تتقدم في المطالبة بالغرامة الحربية قبل الدائنين السابقين لتركيا.

أما ما يتعلق بالمسيحيين في الدولة العلية، فقد صرح مندوبو تركيا بأن دولتهم تحترم كل الديانات في بلادها، وتعامل رعاياها على السواء، فقرر المؤتمر جعل المساواة في الحقوق بين المسلمين والمسيحيين تامة، وجعل المسيحيين في بلاد الدولة العلية تحت حماية أوروبا المعنوية.

ولم يبقَ أمام المؤتمر بعد المسائل السالفة الذكر إلَّا مسألة استيلاء الروسيا على بعض بلاد ومواقع في آسيا، فتعهدت الروسيا بالتنازل عن مدينة «بايزيد» للدولة العلية مقابل تنازل الدولة عن مدينة «خوتور» للعجم، وتعهدت كذلك بعدم تحصين ثغر «باطوم» وجعله ثغرًا حرًّا للتجارة، وقد قرر المؤتمر أيضًا أن الإصلاحات المزمع إجراؤها في أرمينيا تُعرَض على الدول الأوروبية كافة، وأن حرية بوغازي البسفور والدردانيل تبقى كما قررته معاهدة باريس عام ١٨٥٦ ومعاهدة لوندرة عام ١٨٧١.

ولما رأى مندوبو إنكلترا أن أعمال المؤتمر قد انتهت، وأن الساعة آذنت بإعلان استيلاء دولتهم على جزيرة «قبرص» أعلن الكونت «دي بيكونسفيلد» ذلك في ٨ يوليو عام ١٨٧٨ لأعضاء المؤتمر، فاندهش مندوبو الروسيا غاية الاندهاش، وتحقق العالم كله أن إنكلترا قد خدعت الدولة العلية أكبر خدعة، وأنه خيرٌ لها أن تعتمد على ألد أعدائها من أن تعتمد على دولة الإنكليز، ولم يندهش البرنس «بسمارك» ولا الكونت «أندارشي» من إعلان الكونت «دي بيكونسفيلد» استيلاء إنكلترا على قبرص؛ لأنهما كانا عالمين بالأمر، ولم يعارضا فيه؛ لتعهد «بيكونسفيلد» بمساعدتهما في تقرير استيلاء النمسا على «البوسنة» و«الهرسك».

وقد طلب البرنس «غورتشاكوف» مندوب الروسيا قبل انفضاض المؤتمر تقرير الوسائل الفعالة التي تستطيع بها دول أوروبا إجبار تركيا على تنفيذ قرارات مؤتمر برلين، واستمرت المناقشة في هذا الطلب ثلاثة أيام، ولكنها انتهت برفضه، وخرج البرنس «غورتشاكوف» من مؤتمر برلين منهزمًا شر هزيمة سياسية.

وفي ١٣ يوليو عام ١٨٧٨ أمضى مندوبو المؤتمر على معاهدة برلين، وانتهت بذلك جلسات المؤتمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤