الفصل الثاني

من الأخلاق

جاء وصف النساء بالكيد في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، مرتين على لسان يوسف عليه السلام، ومرة على لسان العزيز «في سورة يوسف»:
  • قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: ٣٣].
  • وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٠].
  • فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: ٢٨].

والكيد صفة مذكورة في مواضع كثيرة من القرآن، بعضها منسوب إلى الإنسان، وبعضها منسوب إلى الشيطان، ومن الرجال الذين نُسبت إليهم صالحون مؤمنون، ومنهم كفرة مفسدون، بل وردت وصفًا لله سبحانه وتعالى مع المقابلة بين الكيد الإلهي وكيد المخلوقات، وبغير مقابلة في آيات.

ويدخل في الكيد صفات كثيرة تُمدح وتُذم، وتُطلب وتُمنع، تشترك كلها في معاني التدبير والمعالجة والحيلة، وقد يجمع الحميد والذميم منها قولهم: «الحرب مكيدة»؛ لأنها تدبير ومعالجة وحيلة تتطلبها مواقف القتال، وقد تُذم أحيانًا في هذه المواقف، كما تذم في سواها.

وقد جاء وصف الكيد في سورة يوسف نفسها منسوبًا إلى إخوة يوسف إذ جاء فيها على لسان يعقوب عليه السلام: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف: ٥].

وجاء منسوبًا إلى الله تعالى بمعنى التدبير: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ [يوسف: ٧٦].

أما الكيد الذي وُصفت به امرأة العزيز وصاحباتها، فهو كيد يعهد في المرأة ولا يُنسب إلى غيرها، أو هو كيدهن الذي يتَّسمن به ويصدر عن خلائقهن وطبائعهن، كما يُفهم من الإضافة المتكررة في الآيات الثلاث، ويدل عليه عمل امرأة العزيز فيما غشَّت به زوجها، واحتالت له من مراودة غلامها عن نفسه، ثم من اتهامه بمراودتها وتنصلها من فعلها.

وكلها أعمال تتلخص في «الرياء» أو في إظهارها غير ما تبطنه واحتيالها للدس والإخفاء.

•••

والرياء صفة عامة تُشاهد في كثير من المستضعفين من الرجال والنساء، وأسبابه الاجتماعية تحدث لكل ضعيف يقهره غيره، فلا يخص المرأة دون الرجل، ولا ينحصر بين فئة من الناس دون فئة، وقد يحدث للحيوان الضعيف ويلجئه إلى المراوغة والملق، وهو لا يتكلف لذلك كما يتكلف الإنسان الذي يفكر فيما يعمل وفيما يقصد إليه.

ويُنسب رياء المرأة إلى الضرورات التي فرضها عليها الضعف في حياتها الاجتماعية أو حياتها البيتية، وقد يظهر فيها على نحو يناسبها حتى يتلبَّس بالبواعث الأنثوية المقصورة عليها. فلا تختص به في أصوله إذ كانت أصوله من الضعف الذي يشاركها فيه جميع الضعفاء، وإنما تختص به لأن بواعثها الأنثوية مقصورة على جنسها.

إلا أن «الرياء» الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه: إنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها، بل لعلها هي تأبى أن يفارقها لو وكِّل إليها الاختيار فيه.

فمن أصول هذا الرياء في تكوين الأنثى أنها مجبولة على التناقض بين شعورها بغريزة حب البقاء، وشعورها بغريزتها النوعية. فهي تتعرض للخطر على الحياة وتفرح بوفاء أنوثتها في وقت واحد، وهي إذ تضع حملها تتألم أشد الألم وتعاني جزع الخشية على حياتها حين تخامرها وتسري في كيانها غبطة الأم التي أتمت وجودها وتوَّجت حياتها الجنسية بأعز ما تصبو إليه وتتمناه، ويستوي كيانها كله على أن تفرح وهي تتألم، وتتألم وهي تفرح، فلا يستقيم شعورها خالصًا من النقيضين في أعمق وظائفها التي خُلقت لها، ومثل هذا التناقض يلازم عواطفها جميعًا فيما هو دون ذلك من نزعاتها وأهوائها.

•••

ومن أصول هذا الرياء في تكوينها، أنها مجبولة كذلك على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية، وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية، فهي كجميع المخلوقات الحية ذات «وجود شخصي» مستقل تحرص عليه، وتأبى أن تلغيه أو تتخلى عن ملامحه ومعالم كيانه، وهي في حوزتها «الشخصية» مدفوعة إلى صد كل افتيات ينذرها بالفناء في شخصية أخرى، ولكنها في أشد حالات الوحدة لا تتوق إلى شيء، كما تتوق إلى الظفر بالرجل الذي يغلبها بقوَّته، ويستحق منها أن تأوي إليه، وتلحق وجودها بوجوده، وأسعد ما تكون في حبها أو في علاقتها الزوجية إذ يملكها الرجل الذي يفوقها بالقدرة المطاعة والعزيمة النافذة، ونتيجة المقاومة عندها أن تجمع بين الانتصار والخذلان في لحظة واحدة. فهي منتصرة حين تظفر بالرجل الذي يغلبها ويستولي عليها.

وشبيه بهذا التناقض مع اختلاف أسبابه، أن الرغبة الجنسية عندها تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها. فليست الرغبة الجنسية — بحكم الطبيعة — عبثًا في وقت من الأوقات عند الرجل، ولكنها عبث عند المرأة في أوقات حملها وفي غير أوقات الحمل من أيام دوراتها الشهرية. وقد عوفيت أنثى الحيوان من هذا العبث؛ لأنها إذا حملت صدت عن الذكر وصدَّ الذكر عنها، ولكن المرأة التي تحس أنها عابثة في أحق الوظائف النوعية بالجد والمبالاة، يختلط عندها العبث بالجد والسرور العقيم بالوظيفة الطبيعية، وقد تقضي بعد سن اليأس زمنًا يحكمها فيه هذا العبث الذي لا نظير له في حياة الرجولة.

•••

وحب الزينة أصل من أصول الرياء يشاركها فيه الرجل في ظاهر الأمر، ولكنه يخصها في جانب غير مشترك بينها وبين زينة الرجولة؛ فإن الرجل يتزين ليعزز إرادته، وإنما تتزين المرأة لتعزز إرادة غيرها في طلبها. وزينة المرأة كافية إذا راقت بمنظرها الظاهر في عين الرجل، ولكن زينة الرجل تجاوز ظاهره إلى الدلالة على قوته ومكانته وكفايته لمؤنة أهله، وليست الزينة التي تُراد للإغراء بالقبول كالزينة التي تُراد للإغراء بالطلب، فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الإرادة والانقياد، وبين مَن يريد ومَن ينتظر أن يُراد.

•••

وجملة القول أن الرياء على عمومه هو إظهار غير ما في الباطن، وهو حالة تعرض للرجال والنساء في الحياة الجنسية وغير الحياة الجنسية، ولكن الأنوثة تُخَصُّ بلون منه؛ لأنها إذا لجأت إليه، فإنما تلجأ إليه اضطرارًا؛ لأن مِن خُلُقها ألا تُظهر كل ما في نفسها، وإن كان من الأمور الطبيعية التي لا إثم فيها ولا مخالفة بها لوظيفتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤