الفصل الخامس

مكانة المرأة

ربما كانت الحضارة المصرية القديمة هي الحضارة الوحيدة التي خوَّلت المرأة «مركزًا شرعيًّا» تعترف به الدولة والأمة، وتنال به حقوقًا في الأسرة والمجتمع، تشبه حقوق الرجل فيها، ولا تتوقف على حسن النية من جانب الآباء والأبناء والأقربين.

أما الحضارات الأخرى فكل ما نالته المرأة فيها من مكانة مرضية، فإنما كانت تناله بباعث من بواعث العاطفة على حاليها من حميد وذميم.

كانت تنال المحبة من بنيها بعاطفة الأمومة التي يحسها الأبناء نحو أمهاتهم، ويعم الإحساس بها طوائف من الأحياء لم تبلغ مبلغ الإنسان من الفهم والخلق، ولم يكن لها عرف أدبي في حياتها الاجتماعية، وقد يبدو هذا الإحساس في الحيوان الأعجم على صورة تلفت النظر إليه ويجعلها ذوو البصيرة الفنية رمزًا للأمومة في أجمل مظاهرها الفطرية، كما صنع المصور النابغ «ﻫ.و. دافيز» في صورة «الفرس والمهرة» التي سماها «الأمومة» واختارها من بين مظاهر العواطف الحيوانية التي لا تُحصى لتمثيل هذا المعنى والرمز إليه بالأشكال المنظورة.

وربما نالت المرأة حقًّا من الاهتمام بها في عصور الترف والبذخ التي تنتهي إليها الحضارات الكبرى، وهي لا تنال هذا الحظ من الاهتمام لتقدم الحضارة وارتقاء الشعور بين أصحاب تلك الحضارات، ولكنها تناله لأنها — في عصور الترف والبذخ — مطلب من مطالب المتعة والوجاهة الاجتماعية، وقد نالت هذا الحظ من الاهتمام في أوج الحضارة الرومانية مع بقائها قانونًا وعرفًا في منزلة تقارب منزلة الرقيق من وجهة الحقوق الشرعية والنظرة الأدبية، وكانت القيان والجواري الطليقات ينلن من ذلك الاهتمام أضعاف ما تناله حرائر النساء من الأزواج والأقرباء، ووضح هذا الفارق في المعاملة بين الحرائر والجواري الطليقات وأشباههن، من نسوة الأندية ودور الملاهي في كل حاضرة آهلة بهن من حواضر اليونان والرومان والبلدان الشرقية.

وليس هذا الاهتمام الذي تناله المرأة بفضل عواطف الأمومة، أو بإغراء المتعة والترف، مكانة «شرعية أو عرفية» تُنسب إلى آداب المجتمع وقوانينه، فغاية ما فيها أنها شعور يتقارب فيه الأحياء من الناطقين وغير الناطقين.

أما المكانة التي تُحسب من عمل الآداب والشرائع أو الحضارات، فقد كانت معدومة في عصور الحضارة الأولى جميعًا، ما خلا حضارة واحدة، هي الحضارة المصرية.

فشريعة «مانو» في الهند لم تكن تعرف للمرأة حقًّا مستقلًّا عن حق أبيها أو زوجها أو ولدها في حالة وفاة الأب والزوج، فإذا انقطع هؤلاء جميعًا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها في النسب، ولم تستقل بأمر نفسها في حالة من الأحوال. وأشد من نكران حقها في معاملات المعيشة نكران حقها في الحياة المستقلة عن حياة الزوج، فإنها مقضي عليها بأن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه على موقد واحد، وقد دامت هذه العادة العتيقة من أبعد عصور الحضارة البرهمية إلى القرن السابع عشر، وبطلت بعد ذلك على كره من أصحاب الشعائر الدينية. وشريعة حمورابي التي اشتهرت بها بابل كانت تحسبها في عداد الماشية المملوكة، ويدل على غاية مداها في تقدير مكانة الأنثى، أنها كانت تفرض على من قتل بنتًا لرجل آخر أن يسلمه بنته ليقتلها أو يملكها إذا شاء أن يعفو عنها، وقد يضطر إلى قتلها لينفذ حكم الشريعة المنصوص عليها.

وكانت المرأة عند اليونان الأقدمين مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع إلى الحقوق الشرعية، وكانت تحل في المنازل الكبيرة محلًّا منفصلًا عن الطريق، قليل النوافذ محروس الأبواب، واشتهرت أندية الغواني في الحواضر اليونانية لإهمال الزوجات وأمهات البيوت وندرة السماح لهن بمصاحبة الرجال في الأندية والمحافل المهذبة، وخلت مجالس الفلاسفة من جنس المرأة، ولم تشتهر منهن امرأة نابهة، إلى جانب الشهيرات من الغواني أو من الجواري الطليقات. وقد كان أرسطو يعيب على أهل «إسبرطة» أنهم يتساهلون مع النساء عشريتهم، ويمنحونهن من حقوق الوراثة والبائنة وحقوق الحرية والظهور ما يفوق أقدارهن، ويعزو سقوط «إسبرطة» واضمحلالها إلى هذه الحرية، وهذا الإسراف في الحقوق.

وربما ظن الذين يسمعون عن هذه الحرية «الإسبرطية» أنها ثمرة من ثمرات الارتقاء في تقدير حق الإنسان من الذكور والإناث. فخليق بهؤلاء أن يذكروا أن إنكار حق الإنسان قد بلغ غايته من القسوة في نظام الرق العريق بين الإسبرطيين، وأن ما شاع بينهم من الاسترقاق ومن التساهل مع النساء معًا، هما ظاهرتان متماثلتان لعلة واحدة في معيشة الإسبرطيين، وهي اشتغال الرجال الدائم بالقتال، وتركهم ما عداه اضطرارًا لتصرف المرأة في غيبة الأزواج والآباء. فهذه «الحرية النسوية» وذلك الاستعباد للأسرى هما ظاهرتان لعلة واحدة، لا نصيب لها من مبادئ الحرية والاعتراف بالحقوق، وقد نالت المرأة شيئًا من المجاملة والطلاقة في عهود الفروسية جمعاء لمثل هذه العلة، وكانت مجاملة المرأة في تلك العهود ضربًا من الأنفة أن تُعامل معاملة الأعداء، وأن تُحاسب محاسبة الأنداد. ولم يكن أسوأ من النساء حالًا في عهود الفروسية المتقدمة، فيما عدا هذه المجاملات أو هذه التحيات اللسانية، وقد كانت «الخاتون» تعيش إلى جانب الجواري المسرفات حيثما تفرغ الرجال لصناعة القتال، وكذلك كان شأنها بين قبائل المغول، وبين قبائل الفرنك والغاليين من الأوروبيين، وكانت مع هذا تحرم الميراث في الإقطاعات يوم شاع نظام الإقطاع والفروسية معًا بين أولئك الأقوام.

ومذهب الرومان الأقدمين كمذهب الهنود الأقدمين في الحكم على المرأة بالقصور حيث كانت لها علاقة بالآباء أو الأزواج أو الأبناء، وشعارهم الذي تداولوه إبان حضارتهم أن قيد المرأة لا يُنزع، ونيرها لا يُخلع، ومن ذلك قول «كاتو» المشهور: Nunguam exvitur Servitus muliebris.

ولم تتحرر المرأة الرومانية من هذه القيود إلا يوم أن تحرر منها الأرقاء، على أثر التمرد ثورة بعد ثورة، وعصيانًا بعد عصيان، فتعذر استرقاق المرأة كما تعذر استرقاق الجارية والغلام.

•••

وانفردت الحضارة المصرية القديمة بإكرام المرأة، وتخويلها حقوقًا «شرعية» قريبة من حقوق الرجل، فكان لها أن تملك، وأن ترث، وأن تتولى أمر أسرتها في غياب من يعولها، ودامت للمرأة المصرية هذه الحقوق على أيام الدول المستقرة بشرائعها وتقاليدها، تضطرب مع اضطراب الدولة، وتعود مع عودة الطمأنينة إليها، بيد أن الحضارة المصرية زالت وزالت شرائعها معها قبل عصر الإسلام، وسرت في الشرق الأوسط يومئذ غاشية من كراهة الحياة الدنيا بعد سقوط الدولة الرومانية بما انغمست فيه من ترف وفساد، ومن ولع بالملذات والشهوات، فانتهى بهم رد الفعل إلى كراهة البقاء وكراهة الذرية، وشاعت في هذه الفترة عقيدة الزهد والإيمان بنجاسة الجسد ونجاسة المرأة، وباءت المرأة بلعنة الخطيئة، فكان الابتعاد منها حسنة مأثورة لمن لا تغلبه الضرورة. ومن بقايا هذه الغاشية في القرون الوسطى أنها شغلت بعض اللاهوتيين إلى القرن الخامس للميلاد، فبحثوا بحثًا جديًّا في جبلة المرأة، وتساءلوا في مجمع «ماكون» هل هي جثمان بحت؟ أو هي جسد ذو روح يناط بها الخلاص والهلاك؟ وغلب على آرائهم أنها خلو من الروح التاجية، ولا استثناء لإحدى بنات حواء من هذه الوصمة غير السيدة العذراء أم المسيح عليه الرضوان.

وقد غطت هذه الغاشية في العهد الروماني على كل ما تخلف من حضارة مصر الأولى في شأن المرأة، وكان اشتداد الظلم الروماني على المصريين سببًا لاشتداد الإقبال على الرهبانية والإعراض عن الحياة، وما زال كثير من النُّساك يحسبون الرهبانية اقترابًا من الله وابتعادًا من حبائل الشيطان، وأولها النساء.

ومن المتواتر في أقوال أناس من المؤرخين الغربيين، أن الإسلام ينقل شريعته من الشرائع التي تقدمته، ولا سيما الشريعة الموسوية. ولا يتضح بطلان هذه الدعوى من شيء كما يتضح من المقابلة بين مركز المرأة في حقوقها الشرعية كما نصت عليها كتب التوراة، ومركز المرأة في حقوقها الشرعية التي قررها الإسلام بأحكام القرآن.

فالمأثور عن الكتب المنسوبة إلى موسى عليه السلام أن البنت تخرج من ميراث أبيها إذا كان له عقب من الذكور، وما عدا هذا الحكم الصريح فهو من قبيل الهبة التي يختارها الأب في حياته، حيث لا يجب الميراث وجوب الحقوق الشرعية بعد الوفاة. ومثل هذه الهبة ما أعطاه إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين: «إذ قالت سارة لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك، وفي كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل.»

ثم جاء في الإصحاح الخامس والعشرين أن: «إبراهيم أعطى إسحاق كل ما كان له. وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقًا إلى أرض المشرق وهو — بعد — حي».

وكذلك صنع أيوب في حياته كما جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفره: «ولم توجد نساء جميلات كنساء أيوب في كل الأرض، وأعطاهن أبوهن ميراثًا بين إخوتهن، وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة.»

والحكم المنصوص عليه في حق الميراث أن تحرم البنات ما لم ينقطع نسل الذكور، وأن البنت التي يئول إليها الميراث لا يجوز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها إلى غير سبطها، وجاء هذا الحكم بالنص الصريح في غير موضع من كتب التوراة، فجاء في الإصحاح السابع والعشرين من سفر العدد أن بنات صلفحاد بن حافر: «وقفن أمام موسى واليعازار الكاهن، وأمام الرؤساء، وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع قائلات: أبونا مات في البرية، ولم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح، بل بخطيئته مات ولم يكن له بنون، لماذا يحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له ابن؟ أعطنا ملكًا بين إخوة أبينا! فقدَّم موسى دعواهن أمام الرب، فكلم الرب موسى قائلًا: بحقٍّ تكلمت بنات صلفحاد، فتعطيهن ملك نصيب بين إخوة أبيهن، وتنقل نصيب أبيهن إليهن، وتُكلِّم بني إسرائيل قائلًا: أيما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى ابنته، وإن لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لإخوته، وإن لم يكن له إخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه إخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه. فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرب موسى».

ويلي ذلك من الإصحاح السادس والثلاثين أنه «يتحول نصيب إسرائيل من سبط إلى سبط، بل يلازم بنو إسرائيل كل واحد نصيب سبط آبائه، وكل بنت ورثت نصيبًا من أسباط بني إسرائيل تكون امرأة لواحد من عشيرته سبط أبيها لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب آبائه، فلا يتحول نصيب من سبط إلى سبط آخر بل يلازم أسباط بني إسرائيل كل واحد نصيبه كما أمر الرب موسى …».

•••

وننتقل إلى البلاد التي بدأت فيها دعوة القرآن الكريم، وهي بلاد الجزيرة العربية، فلا تتوقع أن تكون للمرأة فيها قسمة من الإنصاف والكرامة غير هذه القسمة العامة في بلاد العالم، على تباعد أرجائه وتنوع عاداته وشرائعه، ولعلها كانت تسوء في بعض أنحاء الجزيرة فتهبط في المساءة إلى حضيض ثم تهبط إليه في سائر الأنحاء من الأمم كافة، وترتقي فلا يكون قصاراها من الارتقاء إلا أنها تُكرم عند زوجها لأنها بنت ذلك الرئيس المهاب أو أم هذا الابن المحبوب، فأما أنها تُكرم وتُصان لأنها من جنس النساء، يعمها ما يعم بنات جنسها من الحق والمعاملة، فذلك ما لم تدركه قط من منازل الإنصاف والكرامة. وقد يحميها الأب والزوج، كما يحميها الأخ والابن حماية الواجب المفروض عليه لكل ما في جواره أو كل ما في حوزته وحماه. فيُعاب على الرجل منهم أن يُهان حرمه كما يعيبه أن يُعتدى عليه في كل محمى أو ممنوع، ومنه فرسه ودابته وبئره ومرعاه.

فإذا هانت المرأة فهي عار يأنف منه أهلوه أو حطام يورث مع المال والماشية؛ ومن خوف العار يدفن الرجل بنته في طفولتها، ويستكثر عليها النفقة التي لا يستكثرها على الجارية المملوكة والحيوان النافع، وكل قيمتها بين الذين يستحيونها ولا يقتلونها في طفولتها أنها حصة من الميراث تُنقل من الآباء إلى الأبناء، وتُباع وتُرهن في قضاء المنافع وسداد الديون، ولا يحميها من هذا المصير إلا أن تكون عزيزة قوم تعز بما يعز عندهم من ذمار وجوار.

•••

جاء القرآن الكريم إلى هذه البلاد كما جاء إلى بلاد العالم كله بحقوق مشروعة للمرأة لم يُسبق إليها في دستور شريعة أو دستور دين، وأكرم من ذلك لها أنه رفعها من المهانة إلى مكانة الإنسان المعدود من ذرية آدم وحواء، بريئة من رجس الشيطان ومن حطة الحيوان.

وأعظم من جميع الحقوق الشرعية التي كسبتها المرأة من القرآن الكريم لأول مرة أنه رفع عنها لعنة الخطيئة الأبدية ووصمة الجسد المرذول، فكل من الزوجين قد وسوس له الشيطان واستحق الغفران بالتوبة والندم: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [البقرة: ٣٦].

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا [الأعراف: ٢٠].

وكلاهما ظلم نفسه بذنبه: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: ٢٣].

وليس على ذرية آدم وحواء من بنين وبنات جريرة تلحقهم بعد أبويهم أو تلحق أحدًا من الأبناء بجريرة الآباء: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: ١٣٤ و١٤١].

وصح مكان المرأة في الحياة الجسدية كما صح مكانها في الحياة الروحية، بما فرضه القرآن الكريم على الإنسان من رعاية جسده، والمتعة الطيبة بخيرات أرضه ورغبات نفسه، فبرئت المرأة من لعنة الجسد، وارتفعت عن الوصمة التي علقت بها فجعلتها في خلقتها قرينة لشهوات الحيوان وحبائل الشيطان، ينجو من الشيطان من نجا منها، ويتنزه عن الحيوانية من تنزه عن النظر إليها.

لا جرم كان تصحيح النظر إلى مكان المرأة ناحية واحدة من نواحٍ شتى في ذلك النظام الأدبي الشامل الذي يصحح النظر إلى حياة الروح وحياة الجسد، وإلى بواعث الخير والشر وإلى موازين التبعة والجزاء، وقوامه كله حق الوجود وحق المعيشة للكائن الحي من ذكر وأنثى ومن كبير وصغير، فلا يكتفي القرآن من المسلم باجتناب وأد البنات خشية الإملاق أو خشية العار؛ لأنها درجة لا تعدو أن تكون نجاة من ضراوة الوحشية لا ترتقي به إلى درجة الإنسان الأمين على حق الحياة، المؤمن بنصيب كل موجود من نعمة العيش والرعاية، بل يأبى القرآن للمسلم أن يتبرم بذرية البنات وأن يتلقى ولادتهن بالعبوس والانقباض: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: ٥٨، ٥٩].

وتتساوى رعاية الإنسان لأبيه وأمه، كما تتساوى رعايته لبنيه وبناته، وقد تخص الأمهات بالتنويه في هذا المقام، فإذا وجب الإحسان للوالدين معًا، فالوالدة هي التي تعاني من آلام الحمل والوضع ما لا يعانيه الآباء: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا [الأحقاف: ١٥].

وإنما يصدر الإنسان عن شريعة الواجب — لا عن شريعة المنفعة — في رعاية الذرية من الإناث كرعاية الذرية من الذكور فلا يفوت القرآن الكريم أن شريعة المنفعة قد تُلجئ إلى قتل الرجال واستحياء النساء، كما ألجأت هذه الشريعة قومًا إلى وأد البنات واستحياء البنين. وكلا المصابين بلاء يُتقى، ووزر يُحسب على جُنَاتِه من الأمم ومن الحاكمين.

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: ٤٩].

وفرعون هو الذي يقول مأخوذًا بما قال: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: ١٢٧].

فتلك إذن شريعة الواجب تفرض للمرأة من حق المعيشة وحق الرعاية، ما فرضته للرجل وللإنسان على الإجمال. وإنه لجدير بالالتفات أن «الإنسان» هو الموصى في القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين؛ لأن الرجل هنا ينطوي في نوع الإنسان، وينبغي أن ينسى أنه أحد الجنسين المختلفين.

•••

على أن الآية الكبرى في وصاية القرآن بالأنثى أنها وصاية وجبت دون أن يوجبها عمل من النساء، ولا عمل من المجتمع، وأنها فرضت على المجتمع برجاله ونسائه فرضًا لم يطلبه هؤلاء أو هؤلاء، وتلك وصاية لم يحدث لها نظير قط فيما تقدم من الشرائع قبل دعوة الإسلام.

إن تخويل البنت حقها من الميراث عند انقطاع الذرية من الأبناء — كما وجب في شريعة التوراة — إنما هو حكم من أحكام الضرورة لا منصرف عنه لو شاء ولاة الأمر أن يصرفوه إلى غير هذا الوجه المحتوم، وقد سمح به للمرأة — مع هذا — على شرط يقيد الحق ويخضعه للحجر عليه. فلا تتزوج المرأة صاحبة الميراث من غير رجال الأسرة، ولا تلبث أن تأخذ حصتها من هنا حتى تردها في بيتها إلى رجل من الرجال. فالميراث هنا حق لم تنله المرأة، ولم يُنلها المجتمع إياه، ولا محل فيه من عمل الشريعة، إلا أنه عمل الضرورة الذي لا حيلة فيه.

وقد يكون للمجتمع عمل قضت به أحوال المعيشة في الحضارة الوحيدة التي بوأت المرأة من الرعاية، وهي الحضارة المصرية القديمة. ولكنه كذلك مما يئول إلى حكم الضرورة التي تسلسلت في أدوار التاريخ دورًا بعد دور.

ومن ضرورات هذه الأدوار التاريخية أن تحتفظ الأسرة الحاكمة بالعرش أيًّا كان الوريث من الذكور أو الإناث، ومن ضروراتها أن الأرض المزروعة تملك وتُوزع على الدوام بعد فيضان النيل، ولا تخرج من نطاق الأسرة التي تملكها عامًا بعد عام.

ومن ضروراتها أن تقسيم العمل بين الجنسين في غير مسائل الحرب تدبير لا محيص عنه في بلاد الزراعة العريقة، فلا يتأتى للرجال منفردين أن يضطلعوا بجميع تلك الأعمال. وكل داعٍ من هذه الدواعي الاجتماعية قد تفردت مصر به على حالة لم تعهد في غيرها من بلاد الحضارات القديمة، فكان لها جميعًا أثرها في رعاية المرأة وتخويلها ما تميزت به ربة الأسرة المصرية من الحقوق.

وفي كلتا الشريعتين وجب للمرأة حقها الكثير أو القليل بحكم الضرورة التي لا منصرف عنها، ولكن الوصايا القرآنية لم تكن لها قط ضرورة ملزمة من عمل النساء ولا من عمل المجتمع ولم تطالب بها المرأة، ولا اختارها الرجل لسائر النساء ولا لأقربهن إليه.

فمن أين صدرت تلك الوصايا التي كان للشرع منصرف عنها، وأي منصرف؟ وكان الاختيار فيها أن تُترك وتُنسى ولو آل بها الأمر إلى آراء الولاة في الأسرة وفي الحكومة؟

مصدرها الهداية الإلهية قبل أن يهتدي إليها الذين فُرضت عليهم، فتقبلوها وهم يعلمون أو لا يعلمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤