الفصل السادس

الحجاب

من الأوهام الشائعة بين الغربيين أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام، فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية، وكادت كلمة المرأة المحجبة عندهم أن تكون مرادفة للمرأة المسلمة، أو المرأة التركية التي حسبوها زمنًا مثالًا لنساء الإسلام؛ لأنهم رأوها في دار الخلافة.

وهذا وهمٌ من الأوهام الكثيرة التي تُشاع عن الإسلام خاصة بين الأجانب عنه، وتدل على السهولة التي يتقبلون بها الإشاعات عنه، مع أن العلم ببطلانها لا يكلفهم طول البحث والمراجعة، ولا يتطلب منهم شيئًا أكثر من قراءة الكتب الدينية التي يتداولونها وأولها كُتب العهد القديم وكُتب الأناجيل.

فمن يقرأ هذه الكتب يعلم — بغير عناء كبير في البحث — أن حجاب المرأة كان معروفًا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعًا إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كُتب العهد القديم وكُتب العهد الجديد.

ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن «رفقة» أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق «فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: مَن هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي؟ فقال العبد: هو سيدي! فأخذت البرقع وتغطت».

وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضًا أن تامار: «مضت وقعدت في بيت أبيها. ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلفَّفت …».

وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: «أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟»

وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا أن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن «ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب».

ويقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس الأولى: إن النقاب شرف للمرأة «فإن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر بديل من البرقع …».

وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلقى الغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد.

فلا حاجة إلى التوسع في قراءة التاريخ للعلم بأن نظام الحجاب سابق لظهور الإسلام؛ لأن الكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين، قد ذكرت عن البراقع والعصائب ما لم يذكره القرآن الكريم، ولم يكن البرقع مما ذكره القرآن الكريم فيما أمر به من الحجاب.

•••

فإذا بحث القوم عن تاريخ الحجاب في غير الكتب الدينية، فالكتب المخصصة لهذا البحث مملوءة بأخبار الحجاب الذي كان يُتخذ لستر المرأة أو يُتخذ للوقاية من الحسد، ويشترك فيه الرجال والنساء بعض الأحيان. وأخبار البرقع جزء من الأخبار المستفيضة عن حجاب العزلة في المنازل، وخارج المنازل، في الطرقات والأسواق، وقد كان اليونان ممن فرض هذه العزلة على نسائهم، وكان الرومان — على ترخصهم في هذا الأمر — يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومنها قانون عُرف باسم «قانون أوبيا Lex Oppia» يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت.

ولقد غلا المترفون من الأقدمين في حالي الحجاب والتسريح فحجبوا المرأة ضنَّا بها، وسرحوها هوانًا عليهم لأمرها، وأوشك إعزازها أن يكون شرَّا عليها من هوانها. فإذا عزت عندهم فهي طير حبيس في قفص مصنوع من معدن نفيس أو خسيس، وإذا هانت عليهم سرحوها ليبتذلوها في خدمة كخدمة الدابة المسخرة، حريتها الموهومة ضرورة من ضرورات التسخير والاستعباد!

•••

جاء الإسلام والحجاب في كل مكان وجد فيه تقليد سخيف وبقية من بقايا العادات الموروثة. لا يدرى أهو أثرة فردية أو وقاية اجتماعية، بل لا يدرى أهو مانع للتبرج وحاجب للفتنة، أم هو ضرب من ضروب الفتنة والغواية. فصنع الإسلام بالحجاب ما صنعه بكل تقليد زال معناه، وتخلفت بقاياه بغير معنى. فأصلح منه ما يفيد ويعقل، ولم يجعله كما كان عنوانًا لاتهام المرأة، أو عنوانًا لاستحواذ الرجل على ودائعه المخفية، بل جعله أدبًا خلقيًّا يُستحب من الرجل ومن المرأة، ولا يفرق فيه بين الواجب على كل منهما، إلا لما بين الجنسين من فارق في الزينة واللباس والتصرف بتكاليف المعيشة وشواغلها.

فالمؤمنون مطالبون بأن: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ [النور: ٣٠].

والمؤمنات مطالبات بذلك: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: ٣١].

وقد نهى الرجال عن الزينة المخلة بالرجولة، ونهى النساء عن مثلها: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ [الأحزاب: ٣٣].

والمفهوم من هذا النهي لم يختلف عليه أحد من المخاطبين به، ولا من المفسرين لآيات الكتاب. يقول الكشاف وهو من التفاسير المتقدمة: «فإن قلت: لِمَ سومح مطلقًا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن. وهذا معنى قوله: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا يعني: إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور. وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.»

والمتأخرون من المفسرين على مثل ذلك الفهم للزينة التي يجوز إظهارها، ومن أحدثهم الأستاذ طنطاوي جوهري صاحب تفسير الجواهر؛ حيث يقول: «إلا ما ظهر منها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم والكحل والخضاب في الكف وكالوجه والقدمين، ففي ستر هذه الأشياء حرج عظيم، فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها، لا سيما في مثل تحمل الشهادة والمعالجة والمتاجرة وما أشبه ذلك، وهذا كله إذا لم يخف الرجل فتنة، فإن خافها غض بصره.»

والمفهوم من الحجاب على هذا واضح بغير تفسير، فليس المراد به إخفاء المرأة وحبسها في البيوت؛ لأن الأمر بغض الأبصار لا يكون مع إخفاء النساء وحبسهن وراء جدران البيوت وتحريم الخروج عليهن لمزاولة الشئون التي تُباح لهن، ولم يكن الحجاب كما ورد في جميع الآيات مانعًا في حياة النبي عليه السلام أن تخرج المرأة مع الرجال إلى ميادين القتال، ولا أن تشهد الصلاة العامة في المسجد، ولا أن تزاول التجارة ومرافق العيش المحللة للرجال والنساء على السواء، ومهما يكن من عمل تزاوله المرأة في مصالحها اللازمة، فلا عائق له من الحجاب الذي أوجبه القرآن الكريم، ولا غضاضة عليها فيه؛ لأنه يُطلب من الرجل فيما يناسبه كما يُطلب منها فيما يناسبها.

ومن الحسن أن نذكر أن الأمر بالقرار في البيوت إنما خُوطب به نساء النبي عليه السلام، لمناسبة خاصة بهن لا تعرض لغيرهن من نساء المسلمين، ولهذا بُدئت الآية بقوله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ [الأحزاب: ٣٢]. ثم اقترن هذا الأمر بأمر آخر يعم الرجال الذين يَفِدُون على النبي، فيدخلون مسكنه بغير استئذان وفيه زوجاته رضوان الله عليهن، غير قارات في بيوتهن من المسكن الشريف، فيدخل الزائرون ويخاطبون آله على غير إذن منهن؛ ولذلك نهى الزائرون أن يدخلوه حتى يُؤذن لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا [الأحزاب: ٥٣].

وهذا أدب من آداب الزيارة ينبغي أن يتأدب به الزوار كيفما كانت تقاليد الحجاب في غير البيوت.

فلا حجاب إذن في الإسلام بمعنى الحبس والحجر والمهانة، ولا عائق فيه لحرية المرأة؛ حيث تجب الحرية وتُقضى المصلحة، وإنما هو الحجاب مانع الغواية والتبرج والفضول، وحافظ الحرمات وآداب العفة والحياء.

وما من ديانة ولا شريعة يحمد منها أن تأذن بالتبرج ولا تنهى عنه، أو يحمد منها أن تغضي عنه، ولا تفرض له أدبًا يهذبه ويكف أذاه.

فمثل هذا التبرج في الجاهلية الأولى هو الذي منعه الرومان بقانون، وتغاضوا عنه يوم تغاضوا عن الفتن والملذات التي أطاحت بالدولة وأعقبت العالم سآمة من نزوات الجسد جاوزت حدودها، وأوشكت أن تنقلب من نقيض الإباحة لكل شيء إلى نقيض الحرمان من كل شيء.

ومثل هذا التبرج هو الذي توعده النبي أشعيا بالدمار الذي يعصف بالزينة فلا يبقى لها باقية، فقال: «من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق غامزات بعيونهن، خاطرات في مشيهن، يخشخشن أرجلهن — يصلع السيد هامة بنات صهيون ويعرِّي الرب عورتهن، وينزع السيد في اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وخناجر الشمامات والأحراز وخزائم الأنوف.»

ومثل هذا التبرج هو الذي تمنعه جميع الشرائع على الورق؛ حيث تسميه «التهتك» أو تسميه الإخلال بناموس الحياء، ثم لا تفلح في منعه؛ لأنها تمنعه بعصا القانون ولا تمنعه بوازع الوجدان والإيمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤