الفصل الأول

عن الأسواق والدول

العولمة في مرآة التاريخ
في ١٧ نوفمبر عام ١٦٧١، كان في استقبال الزبائن الدائمين لمقهى «جاراواي» — وهو منتدًى شهيرٌ كان يحظى بإقبال مالكي السفن وسماسرة البورصة والتجار بلندن — إعلان استثنائي:

في الخامس من ديسمبر القادم سيُعقد مزاد لبيع ٣٠٠٠ حمولة من جلود القندس، مقسمة إلى ٣٠ حصة مملوكة لشركة «جافرنر آند كمباني أوف ميرشانتس-أدفينتشرارز تريدينج إنتو هدسونز باي»، وذلك في القاعة الكبرى للمقهى.

لم يكن اهتمام زبائن «جاراواي» بعملية بيع جلود القندس هذه اهتمامًا عابرًا؛ فقد كان جلد القندس يعد مصدرًا لأعلى أنواع الفراء جودة؛ ومن ثَمَّ كان الطلب عليه هائلًا إبان القرن السابع عشر. وكان محل تقدير كبير إلى حدٍّ جعل الملك تشارلز الأول يُصدر قرارًا عام ١٦٣٨ بحظر استخدام أي خامة أخرى بخلاف فراء القندس في صناعة القبعات.

ما كان يثير تخوفًا هائلًا لدى تجار المدينة ونبلائها ورجال المال العاملين فيها أن لندن لم تكن منطقة نشطة في مجال تجارة الفراء؛ فقد كان القدْر الأكبر من فراء القندس يُنتَج في روسيا ويباع على امتداد موانئ بحر البلطيق والبحر الأسود إلى التجار في كُبريات المدن الأوروبية مثل باريس وفيينا وأمستردام. علاوةً على أن الصيد الجائر كان قد أسفر عن تناقص شديد في أعداد القنادس وعن ارتفاع أسعار فرائها؛ فكان على أثرياء لندن أن يقنعوا بالفراء الأقل جودة الذي كان يتقاطر من أنحاء القارة، أو أن يحصلوا على ما يحتاجون من فراء من تلك المدن مباشرةً وبتكلفة كبيرة. كان المزاد العلني في «جاراواي» إيذانًا ببداية عهد جديد من وفرة الفراء العالي الجودة.1
كيف شق فراء القندس طريقه إلى «جاراواي»؟ ومَن، أو، ما هي «جافرنر آند كمباني أوف ميرشانتس-أدفينتشرارز تريدينج إنتو هدسونز باي»؟ تكمن هنا قصة مشوقة عن العولمة من زمن آخر.2 لكن لا شك أنه كان شكلًا مختلفًا تمامًا للعولمة. ومع ذلك إذا نظرنا إليه عن كثب، فسنعلم الكثير عما من شأنه أن يشجع العولمة، وما من شأنه أن يقيدها.

(١) عصر شركات التجارة المعتمدة

ثَمَّةَ ثلاثة أبطال لم يكونوا في الحسبان هم من حرَّكوا تسلسل الأحداث الذي أدَّى بفراء القندس إلى مقهى «جاراواي». كان اثنان منهم صهرَين من أصل فرنسي، ولكِّل منهما اسم لامع؛ الأول بيير إسبري راديسون، والثاني ميدار شوار دي جروسيلييرز. كان راديسون ودي جروسيلييرز صيادَين ومغامرَين، يعملان في تجارة الفراء دون الحصول على ترخيص في الأطراف الشمالية لإقليم كيبيك الواقع فيما باتت تُعرف اليوم بدولة كندا. وكان النظام الاستعماري الفرنسي لكندا التي كانت تُعرف حينئذٍ باسم «فرنسا الجديدة» قد أسس تجارة رابحة من خلال شراء فراء القندس من الأمريكيين الأصليين؛ إذ كان السكان الأصليون يجلبون بضاعتهم إلى محطات تجارية أقامها المستعمرون ثم يبيعون حيوانات القندس مقابل أسلحة نارية وخمور. وتماشيًا مع الفلسفة الاقتصادية السائدة آنذاك — المذهب المركنتلي (التجاري) — كانت هذه التجارة برمتها تُدار في شكل احتكار كي تعود بأعلى الأرباح على المملكة الفرنسية ومن ينوبون عنها.

فكَّر راديسون ودي جروسيلييرز، من وحي رحلاتهما في الغابات الشمالية في المنطقة، بالقرب من شواطئ خليج هدسون، في إمكانية زيادة ما يحصلون عليه من الفراء زيادة هائلة بالتوغل أكثر في المناطق التي يقطنها الأمريكيون الأصليون، والتي لم يُستكشف أغلبها بعد. لكن حكومة الاستعمار الفرنسي الشديدة التمسك بتقاليدها الراسخة لم تكن لتدع ذلك يمر بسلام أبدًا. فحُكم على المغامرَين بغرامةٍ عقابًا على الاتِّجار دون ترخيص، وأُودع دي جروسيلييرز السجن فترة وجيزة.

قرر الصهران أن يغيِّرا من يعملان لحسابه بعد أن تعثرت جهودهما على أيدي بني وطنهم. وفي رحلة البحث عن رعاة جدد، ارتحلا إلى لندن حيث جرى تقديمهما للملك تشارلز الثاني. الأهم من ذلك أنهما نجحا في جذب انتباه الأمير روبرت، ثالث أبطال قصتنا. وُلد الأمير روبرت في بوهيميا، وهو ابن أخت الملك تشارلز الثاني ومغامر من نوع مختلف. وقد حارب في إنجلترا وفي القارة الأوروبية وفي البحر الكاريبي، وكان فنانًا ومخترعًا هاويًا أيضًا. كانت خطة راديسون ودي جروسيلييرز تتمثل في تأسيس طريق بحري من إنجلترا يعبر شمالي المحيط الأطلنطي إلى خليج هدسون عبر مضيق هدسون؛ وبذلك يتمكَّنان من تحاشي السلطات الفرنسية والوصول إلى القبائل الهندية من جهة الشمال مباشرةً؛ حيث كانت توجد منطقة لم تعلن أيٌّ من الحكومات الأوروبية السيطرة عليها بعد. كانت الخطة مكلِّفة ومحفوفة بالمخاطر؛ ولهذا كانا في حاجة إلى الحماية الملكية والدعم المالي. وكان الأمير روبرت في موقع يسمح له بتوفير كلٍّ منهما.

في صبيحة الثالث من يونيو عام ١٦٦٨، أبحر دي جروسيلييرز من لندن على متن «نانساتش»، وهو مركب صغير اختير خصوصًا لصغر حجمه الذي يمكِّنه من الإبحار عكس مجرى النهر، ثم نقله عبر اليابسة إلى خليج هدسون، في رحلة موَّلها الأمير روبرت وحاشيته. وبعد مرور أربعة أشهر، رسا المركب قبالة شواطئ خليج هدسون. (كان هناك مركب آخر حمل على متنه راديسون لكنه اضطُر للعودة إلى إنجلترا بعد أن واجه عواصف عاتية خلال رحلته.) أمضى دي جروسيلييرز وطاقمه الشتاء في تلك البقعة، وأقاموا علاقات مع الهنود من قبيلة «كري»، ثم عادوا إلى إنجلترا في أكتوبر عام ١٦٦٩ على متن «نانساتش» محملين بكمية وفيرة من الفراء.3

وبعد أن أثبت أبطال قصتنا الثلاثة نجاح خطتهم، فعلوا ما كان سيفعله أي رجل أعمال حصيف يعمل في تجارة عبر مسافات طويلة في ذلك الوقت؛ وهو تكوين جماعة ضغط على الملك للحصول على حقوق الاحتكار. وبطبيعة الحال كانت قرابة الأمير روبرت من الملك تشارلز الثاني ميزة لمصلحتهم. وفي الثاني من مايو عام ١٦٧٠، منح الملك الأمير روبرت وشركاه ترخيصًا تأسست بموجبه شركة «جافرنر آند كمباني أوف ميرشانتس-أدفينتشرارز تريدينج إنتو هدسونز باي»، وهي الشركة التي صارت تُعرف فيما بعدُ باسم شركة «هدسونز باي». لا تزال هذه الشركة قائمة حتى يومنا هذا وتُعرف باسم «إتش بي سي»، أكبر متجر شامل في كندا، الأمر الذي يجعلها أيضًا أقدم شركة مساهمة في العالم.

كان مرسوم التأسيس الذي منحه الملك تشارلز الثاني لشركة هدسونز باي وثيقة استثنائية منحت الشركة صلاحيات هائلة. وقد استهلها الملك بالثناء على «ابن عمته الحبيب» الأمير روبرت وشركائه؛ لقيادتهم الحملة إلى خليج هدسون «على نفقتهم الخاصة»، ولاكتشافهم «بضائع مهمة» من شأنها أن تجلب «فائدة عظيمة لنا ولمملكتنا». ثم منح حق التجارة الحصري في كافة «البحار، والمضايق، والخلجان، والأنهار، والبحيرات، والجداول، في أي منطقة كانت» واقعة في مدخل مضيق هدسون، إضافةً إلى كافة الأراضي الملاصقة غير المملوكة «لأي أمير مسيحي أو دولة مسيحية». لكن المرسوم الملكي لم يقف عند هذا الحد؛ فقد جعل الملك تشارلز أعضاء الشركة «السادة والملاك الحقيقيين والمطلَقين» لكافة المناطق الآنفة الذكر.4
وتقديرًا للمصاعب التي خاضها الأمير روبرت وشريكاه (المغامران اللذان جازفا برءوس أموالهما في ذلك المشروع)، واستشرافًا لفوائد عظيمة ستحل على المملكة مستقبلًا، لم تحصل الشركة على امتيازات تجارية احتكارية فحسب، بل حصلت أيضًا على حقوق ملكية كاملة على منطقة خليج هدسون. وأصبحت «أرض روبرت»، التي تغطي كافة الأنهار التي تصب في الخليج، ضمن ملكية الشركة. علاوةً على أن الأبعاد الكاملة لتلك المنطقة لم تكن حُددت بعدُ في ذلك الوقت نظرًا لأنها لم تكن قد اكتُشفت بالكامل. وتبيَّن فيما بعدُ أن الملك تشارلز الثاني قد وافق بذلك رسميًّا على بيع قطعة كبيرة من دولة كندا التي نعرفها اليوم — مساحة قد تصل إلى نحو ٤٠٪ من الدولة، أو تفوق مساحة فرنسا ست مرات5 — لشركة خاصة!
جعل المرسوم الملكي من شركة هدسونز باي حكومة في كل شيء عدا الاسم، تدير مساحة شاسعة من الأراضي وتسيطر على الهنود المحليين الذين لم يكن لهم خيار في تلك المسألة. كان بإمكان الشركة خوض الحروب وتمرير القوانين وإنفاذ العدالة. وغني عن القول أنها كانت الحَكم الوحيد في مجال تجارة الفراء على «أرض روبرت»؛ حيث كانت تضع الشروط وأسعار التجارة والتبادل مع المواطنين الأصليين. علاوةً على أن الشركة أصدرت في القرن التاسع عشر عُملتها الورقية الخاصة، التي صارت العملة القانونية في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ودامت سيطرة الشركة على الأراضي فترة قاربت المائتَي عام، حتى عام ١٨٧٠، حينما نقلت الشركة ملكية «أرض روبرت» إلى سلطة دولة كندا مقابل ٣٠٠ ألف جنيه استرليني (ما يعادل ٣٤ مليون دولار بسعر اليوم).6
كانت تجارة الفراء الكندية صغيرة نسبيًّا، ولم تكن شركة هدسونز باي تمثل أكثر من مجرد شيء بسيط على هامش النظام المركنتلي الضخم للتجارة عبر المسافات الطويلة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. أما الطرق التجارية الرئيسية فكانت تقع في أماكن أخرى؛ فبطبيعة الحال كان هناك مثلث التجارة الشائن في الأطلنطي، الذي كان ينقل العبيد إلى الأمريكتين (وكان ضلعه الأوروبي-الأفريقي يشكِّل رابطًا مهمًّا) مقابل السكر والقطن والتبغ. كانت هناك أيضًا التجارة المهمة دائمًا وأبدًا مع الهند وجنوب شرق آسيا، التي باتت في ذلك الوقت تتمكَّن من تحاشي الوسطاء الفينيسيين والمسلمين بفضل طريق رأس الرجاء الصالح الذي اكتشفه فاسكو دا جاما في الفترة من ١٤٩٧ إلى ١٤٩٨. وخلال القرون الثلاثة التي تلت استكشافَي كولومبوس ودا جاما، شهد العالم ازدهارًا حقيقيًّا في التجارة عبر المسافات الطويلة؛ فوفقًا لأحد التقديرات، ازداد نشاط التجارة الدولية بأكثر من ضعف معدل الدخول العالمية في تلك الفترة.7

كانت غالبية الشركات التي ساهمت في إنشاء تلك التجارة شركات تجارية احتكارية معتمدة ومنظمة على نهج شركة هدسونز باي نفسه. وكان كثير من تلك الشركات يحمل أسماءً مرموقة، كشركتَي «الهند الشرقية الإنجليزية» و«الهند الشرقية الهولندية»، وكثير منها ترك علامات فارقة في التاريخ.

أشهر تلك الشركات «الهند الشرقية الإنجليزية» — أو «جافرنر آند كمباني أوف لندن تريدينج إنتو ذا إيست إنديز»، وهو اسمها الأصلي — التي تأسست بموجب مرسوم ملكي عام ١٦٠٠ كشركة مساهمة. وقد غطت سطوتها الاحتكارية التجارة مع شبه القارة الهندية والصين (بما في ذلك تجارة الأفيون). وكما جرت الحال مع شركة هدسونز باي، اتسعت صلاحياتها على نحوٍ ملحوظ لتتجاوز مجرد التجارة؛ فقد كان لديها جيش دائم، وكان بإمكانها شن الحروب، والانضمام لمعاهدات، وصك عملتها الخاصة، وإقامة العدل. وزادت الشركة سيطرتها على الهند من خلال سلسلة من المواجهات المسلحة مع إمبراطورية المغول وعقد تحالفات مع حكام محليين. كانت شركة «الهند الشرقية الإنجليزية» تؤدي طائفة واسعة من المهام العامة؛ منها تنفيذ استثمارات في قطاعات النقل والري والتعليم العام. وصارت في نهاية المطاف جامعة للضرائب أيضًا، بفرضها ضريبة أراضٍ على السكان المحليين كي تزيد أرباحها التجارية. وبالرغم من خسارة الشركة حقها الاحتكاري التجاري في الهند عام ١٨١٣، فقد ظلت تفرض سيطرتها هناك عدة عقود، إلى أن أُلغيت في نهاية المطاف بقيام الثورة الهندية عام ١٨٥٨، وهي نفسها السنة التي انتقل فيها حكم الهند مباشرةً إلى التاج البريطاني.

كانت لهذه الشركات أعلامها وجيوشها وقُضاتها، وكذلك عملاتها. في الوقت نفسه، كانت تسدد أرباحًا لمساهميها في أرض الوطن. وقد يبدو تضافر التجارة والحكم على هذا النحو الوثيق نوعًا من المفارقة التاريخية بالنسبة إلى المراقبين المعاصرين، وهي السمة الغريبة التي ميزت عصرًا ظلت مفاهيمه الخاطئة حول الاقتصاد تخضع طويلًا للتنقيح والتصحيح. كانت الفلسفة الاقتصادية السائدة في القرن السابع عشر هي المركنتلية، التي كانت تشجع التحالف الوثيق بين مصالح السلطة والمصالح التجارية. وقد أدركنا مؤخرًا أن أتباع تلك النظرية كانت لديهم أفكار غريبة بحق، كرؤيتهم أن الرخاء الاقتصادي ينشأ من مراكمة الفضة وغيرها من المعادن النفيسة. وكانوا يرَوْن أن التجارة الحرة يجب أن تقتصر على المواد الخام، وأن الصناعة يجب أن تُدخر للمنتجين المحليين من خلال فرض تعريفات جمركية باهظة على الواردات. لكنهم كانوا يؤمنون أيضًا بالرأسمالية (كما يمكن أن نسميَها في يومنا هذا) وبالصادرات؛ الأمر الذي جعلهم يسبقون بفكرهم العديدَ من معاصريهم بسنوات ضوئية. وبينما كان الهولنديون والإنجليز ينقبون في أطراف العالم بحثًا عن المواد الخام والأسواق، انصرف العثمانيون والصينيون — وهما الكيانان اللذان كانا أكثر قوة بكثير — إلى سعيٍ محتوم الفشل نحو الاكتفاء الذاتي.8 كانت رواية أتباع المذهب التجاري الخاصة بالرأسمالية تقوم على رؤيتهم أن الدولة يجب أن تلبيَ احتياجات المشاريع التجارية والعكس صحيح. كان الاقتصاد يشكِّل أداة للسياسة، والعكس هنا أيضًا صحيح. وكان لا بد من احتكار التجارة الدولية تحديدًا بهدف إقصاء القوى الأجنبية، والاحتفاظ بالمزايا والفوائد للبلد الأم.

اليوم، نحن أقرب إلى اتباع فكر آدم سميث، الذي كان كتابه «ثروة الأمم» (الذي نُشر في عام ١٧٧٦) هجومًا مباشرًا على الفكر المركنتلي وممارساته. كان للاقتصاديين الليبراليين، بقيادة سميث، رأي مغاير؛ فكانوا يرَوْن أن الاقتصادات تزدهر حينما تتحرر الأسواق من قبضة الدولة. وأن المنافسة، لا الاحتكار، هي التي تُعظِّم الفائدة الاقتصادية، وأن الحواجز الجمركية أمام التجارة — مثل التعريفات الجمركية المفروضة على الواردات وأنواع حظر الاستيراد — تُقلل المنافسة؛ ومن ثَمَّ فهي تعوق تقدمنا ونموَّنا. علاوةً على أن التعاون بين الدولة والشركات ليس سوى اسم آخر للفساد. لم يُنكر آدم سميث أن للحكومة دورًا لا بد أن تؤديَه، لكن رؤيته كانت تذهب إلى دولة يقتصر دورها على الدفاع عن الوطن وحماية حقوق الملكية وإقامة العدالة. فقد كانت المركنتلية والاحتكارات المعتمدة من وجهة نظره عائقًا يَحُول دون نمو الاقتصادات الوطنية والتجارة العالمية. ووفقًا لهذه الرواية، كان على النمو الاقتصادي السريع والعولمة الحقيقية الانتظار حتى حلول القرن التاسع عشر، حينما انتصرت أفكار آدم سميث أخيرًا وحظيت باقتناع الناس.

لكن هذا الفصل بين الأسواق والدول — بين التجارة والحكم — زائف ويُخفي أكثر مما يُظهر؛ فالتبادل السوقي، لا سيما التجارة عبر المسافات الطويلة، لا يمكن أن يوجد من دون قواعد تفرضها جهة أخرى. وتُظهر قصة شركة هدسونز باي تلك الصلة الوثيقة بين السلطة والتبادل الاقتصادي ببساطتها المجردة. فإذا كنت أرغب في التعامل التجاري معك، فمن الأفضل لك أن تلتزم بقواعدي! وقد نظن أن العصور اللاحقة للعولمة أكثر استقلالًا عن قواعد الدولة وسلطتها؛ ومن ثَمَّ أكثر «صفاءً»، لكن هذا هو الخطأ بعينه؛ لأن في هذه العصور سلطة تمارَس، لكنها تمارس على نحوٍ مختلف وأقل وضوحًا. فحيثما توجد العولمة، توجد قواعد. أما عن ماهية تلك القواعد، ومَن يفرضها، وكيف يفرضها، فهذه وحدها هي الأسئلة المهمة.

ليست المسألة أن هناك دومًا قوًى شريرة تتخفى خلف الأسواق والعولمة؛ إذ يمكن أن تكون القواعد أفضل أو أسوأ. لكننا بحاجة إلى أن نطرح جانبًا الفكرة التي تذهب إلى أن الأسواق تعمل على نحوٍ أفضل حينما تُترك لآلياتها الخاصة؛ فالأسواق تتطلب بالضرورة مؤسسات غير سوقية كي تعمل جيدًا. ووفقًا للتعريف البليغ الذي قدَّمه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل دوجلاس نورث، فإن تلك المؤسسات هي التي تضع «قواعد اللعب» للأسواق؛ ومن ثَمَّ فإن وجودها يثير سؤالين: كيف تصمَّم هذه المؤسسات؟ ومن الذي تخدم مصالحَه؟ وحينما نواجه تلك الأسئلة مباشرةً، بدلًا من إهمالها وغض الطرف عنها، سنفهم على نحوٍ أفضل كيف نصمم المؤسسات التي تدعم السوق. وهذا يقودنا أيضًا إلى بعض الأفكار المقلقة حول حدود العولمة الاقتصادية.

لكن دعونا نعُدْ أولًا إلى هذه الشركات المعتمدة كي نفهم الدور الذي لعبته القوى التي كانت تضارع قوى الدول في تعزيز التجارة عبر المسافات الطويلة.

(٢) متطلبات جنْي ثمار التجارة

ثَمَّةَ مبدأ بسيط يعرفه أي طفل، ثم يعاد تدريسه له مرارًا وتكرارًا في مواد الاقتصاد بالجامعات: هناك مكاسب من وراء التجارة متى كان لديك شيء يفوق تقديرُ الآخرين لقيمته تقديرَك أنت. وإذا أعدنا صياغة هذا المبدأ في نطاق التجارة بين مناطق العالم المختلفة، فستجد أن المسألة عبارة عن ميزة نسبية؛ فأي بلد يملك وفرة في أي شيء، يمكنه أن يبادله مقابل ما يعوزه؛ فقد كان لدى هنود قبيلة كري القاطنين على ساحل خليج هدسون وفرة من حيوانات القندس، لكن كانت تنقصهم الأغطية والغلايات، وبالطبع البنادق والخمور، وهي أشياء لم يدركوا أنهم يحتاجونها إلا بعد أن قابلوا الرجل الأبيض. وبالنظر إلى ارتفاع الطلب على فراء القندس في أوروبا، كانت المكاسب التي يُتوقع تحقيقها من وراء التجارة بين القارتين ضخمة.

وقد تبدو هذه نهاية القصة في التفسيرات التي توردها الكتب التعليمية عن التجارة. لكن على أرض الواقع، ليست الأمور بهذه البساطة. انظر إلى العقبات التي كان على أبطالنا الثلاثة ومساعديهم أن يتجاوزوها؛ فقد كان عليهم خوض مغامرة خطرة — معرِّضين حياتهم وأموالهم للخطر — للوصول إلى الهنود عبر طريق بحري جديد. وكان عليهم بناء محطات للتجارة وتزويدها بالرجال على امتداد خليج هدسون في ظل أوضاع مناخية غاية في القسوة، وكان عليهم استكشاف المناطق الداخلية على اليابسة وإقامة علاقات مع الهنود، علاوةً على فتح قنوات اتصال والإبقاء عليها، وبناء الثقة، وإقناع الهنود بِنِيَّاتهم السلمية. وكان عليهم إجراء «دراسة للسوق» لمعرفة ما سيشتريه الهنود مقابل الفراء. وفوق ذلك كله، كان عليهم أن يوفِّروا بيئة آمنة ومضمونة تتسنَّى فيها ممارسة التجارة. وهذا الأمر تطلب في المقابل سن قوانين وتشريعات، مدعومة بقوة عسكرية (إذا دعت الحاجة).

بعبارة أخرى: كان عليهم أن يستثمروا في البنية التحتية للتجارة — بما تشمل من وسائل نقل، ولوجستيات، واتصالات، وثقة، وقانون ونظام، وإنفاذ عقود — قبل أن يكون للتجارة مكان فِعلي هناك. كان «لزامًا» على «ميرشانت-أدفينتشررز» (تعني بالعربية «التجار-المغامرون») أن ينفذوا مهام لا تنفذها سوى الدول؛ نظرًا لاستحالة ممارسة التجارة في غيابها.

وكانت الصفقة التي عقدتها السلطة مع الشركات الخاصة، في ظل المذهب التجاري، بالأساس كما يلي: تدفع أنت (أي الشركة) ما يلزم للبنية التحتية المؤسسية، وفي المقابل سأسمح لك بكسب أرباح احتكارية من وراء التجارة التي سيتمخض عنها نشاطك هذا. كانت معادلة «خذ وهات» هذه مفهومة جيدًا، وفي بعض الأحيان بادية الوضوح. وقد حدث منذ زمن بعيد، منذ عام ١٤٦٨، أن منح البرتغاليون فيرناو جوميز حق احتكار التجارة مع أفريقيا مدة خمس سنوات، بشرط «أن يوسع استكشاف الساحل باتجاه الجنوب لمسافة مائة فرسخ (أكثر من ثلاثمائة ميل بقليل) كل عام».9 في عام ١٦٨٠، حينما انبرى البعض للتصدي لاحتكار «شركة أفريقيا الملكية» تجارة العبيد ببريطانيا، استخدم محامو الدفاع عن الشركة عبارات كانت تامة الصراحة عن المهام «العامة» التي يؤديها هذا المشروع، متعللين بأن: تجارة العبيد تتطلب بناء قلاع بطول الساحل الأفريقي الغربي بتكلفة كبيرة تفوق قدرة تجار القطاع الخاص، وأنه لا بد من الدفاع عن التجارة من الهجمات التي تشنها الدول الأخرى، وأن صون القلاع والسفن الحربية يستلزم وجود سيطرة حصرية، وأن تجار القطاع الخاص يزعجون الحكام المحليين بمحاولاتهم استعباد «الجميع بلا استثناء، حتى الزنوج ذوي المرتبة العالية»؛ وما إلى ذلك من الحجج.10 لكن لسوء حظ الشركة، لم تمنع تلك الحجج إلغاء الاحتكار عام ١٦٩٨؛ فقد كانت تجارة العبيد مربحة للغاية بدرجة لا يمكن معها أن تُقصر حصريًّا على شركة واحدة.
وحينما اتهم مناهضو شركة هدسونز باي الشركة بأنها تدفع للهنود الأمريكيين ثمنًا بخسًا مقابل فراء القندس، تعللت الشركة بأن تلك الأسعار المنخفضة معقولة بالنظر إلى صعوبات التجارة في براري أمريكا الشمالية. وقالت الشركة: صحيح أن الهنود يُطلب منهم دفع أسعار مرتفعة مقابل البضائع الإنجليزية بينما يحصلون على سعر بخس لقاء الفراء، لكن هذا هو العرف السائد لدى «التجار المتحضرين في جميع أنحاء العالم، [عند] التعامل مع قبائل جاهلة وخاضعة لسيادة الآخرين.» والأهم من ذلك كله «أن مخاطر التعرض للموت أو الإصابة أو فقدان البضائع في المناطق النائية كبيرة؛ ومن ثَمَّ يجب تحقيق أرباح كبيرة بما يعوِّض عن تلك المخاطر.»11
وأخيرًا، لا بد أن يتحمل أحدهم مسئولية توفير السلام والأمن وإطار عمل القوانين والتشريعات التي تيسِّر ممارسة التجارة. وما يميز المركنتلية عن النسخ الأحدث من الرأسمالية أن المهمة كانت تقع بوجهٍ عام على عاتق المؤسسات الخاصة. وحينما كانت الشركات الخاصة تفقد قدرتها على أداء تلك المهام — سواءٌ أكان ذلك بسبب أنها صارت أضعف مما يجب أم بسبب دخول منافسة من الدول الأخرى أدت إلى انخفاض ريعها — كان يتعين على التاج الملكي أن يتدخل. فحينما سُئل أحد السياسيين البارزين والمدير السابق في شركة هدسونز باي من قِبل إحدى لجان «مجلس العموم» عام ١٨٥٧ حول النتائج المحتملة لإلغاء الامتيازات الخاصة الممنوحة لشركته، أجاب — بوضوح — بأن ذلك لن يكون له أي تأثير ما دامت «ستتحمل كندا تكلفة إدارة [المنطقة التي ستتنازل عنها الشركة] وستُبقي على وجود رقابة جيدة وتَحُول دون دخول منافسين في تجارة الفراء قدر استطاعتها.»12 ربما لم تكن الشركة سعيدة وهي ترى احتكارها يزول، لكنها كانت ستتأقلم مع الأمر ما دامت الدولة الكندية ستتولى توفير متطلبات تسيير العمل (ودفع تكلفتها) اعتبارًا من بدء إلغاء الامتيازات.

أضف إلى ذلك أن حدث إلغاء امتيازات شركة «الهند الشرقية» في أعقاب الثورة الهندية عام ١٨٥٨، وحلول الحكم الاستعماري المباشر من لندن محلها؛ يشكل نموذجًا مثاليًّا آخر على هذا النوع من التحوُّل؛ فحينما لم تعد الشركة الخاصة وجيوشها قادرة على أداء المهمة، تعيَّن على المملكة أن تتدخل بما لديها من سلطات إقناعية أكثر فاعلية.

(٣) التغلب على تكاليف المعاملات

قد يوجز أحد الاقتصاديين المعاصرين النقاش الذي استعرضه الكتاب حتى الآن بالقول إن الدور الذي لعبته شركتا «هدسونز باي» و«الهند الشرقية» وغيرها من الشركات التجارية المعتمدة؛ كان يتمثل في تقليل «تكاليف المعاملات» في التجارة الدولية بهدف بلوغ درجةٍ ما من العولمة الاقتصادية. ويجدر بنا التروِّي في تدبُّر هذا التصور؛ لأنه يحمل المفتاح لفهم العولمة — ما يقيدها أو يعمقها — ولأن ذكره سيتردد مرارًا طوال نقاشنا.

يحب الاقتصاديون الاعتقاد بأن النزوع إلى «المقايضة، والمبادلة، والمتاجرة» وفقًا لصياغة آدم سميث المثيرة (والدقيقة في الوقت نفسه)؛13 يشكل أحد العناصر المتأصلة في الطبيعة الإنسانية؛ مما يجعل «التجارة الحرة» هي السنة الطبيعية للأمور. بل إنهم استحدثوا مصطلحًا عامًّا للتعبير عن مختلِف أنواع الخلافات التي تمنع التجارة التي تعود بالنفع المتبادل أو تجعلها أكثر صعوبة، ألا وهو: «تكاليف المعاملات». في الواقع، تكثر هذه التكاليف في عالمنا، وإذا كنا نعجز عن رؤيتها في كل ما يحيط بنا، فليس هذا إلا لأن الاقتصادات الحديثة قد طوَّرت الكثير جدًّا من الاستجابات المؤسسية الفعالة للتغلب عليها.

انظر إلى كل تلك الأشياء التي بِتْنَا نسلِّم بأنها ضرورية للغاية لإقامة النشاط التجاري؛ فمثلًا لا بد من وجود طريقةٍ ما — سوق، أو بازار، أو معرض تجاري، أو تبادل إلكتروني — للجمْع بين طرفَي المعاملة. ولا بد من توفير قدر يسير من السلام والأمن لهما للدخول في التجارة دون الشعور بالخطر على حياتهما أو حريتهما أو الخشية من التعرض للسرقة. ولا بد من وجود لغة مشتركة كي يفهم كلٌّ من الطرفَين الآخرَ. وفي أي صورة من صور التبادل بخلاف المقايضة، لا بد أن يكون هناك وسيلة موثوق بها لإتمام التبادل (عُملة). ولا بد أن تكون جميع الخصائص ذات الصلة بالسلعة أو الخدمة محل التبادل (مثل جودتها ودرجة تحمُّلها) ظاهرة تمامًا. كذلك لا بد أن تتوافر ثقة كافية بين الطرفَين، وأن يملك البائع حقوق ملكية واضحة على البضائع محل البيع (ويكون قادرًا على إثبات تلك الحقوق) وأن يملك القدرة على التنازل عن تلك الحقوق للمشتري. ولا بد أن يكون أي عقد بين طرفَين نافذ المفعول في المحاكم أو من خلال أي تدابير أخرى. ولا بد أن يكون الطرفان قادرَين على التعهُّد بالالتزامات المستقبلية (مثلًا «سأدفع لك مبلغ كذا من المال حال استلام …») وأن يفعلا ذلك على نحوٍ موثوق به. ولا بد من توافر حماية من الجهات الأخرى التي تحاول عرقلة المبادلة أو الحيلولة دون إجرائها. بوسعي أن أسهب الحديث حول هذه النقطة، لكني أعتقد أن المراد قد اتضح بالفعل.

في بعض الأحيان تعمل هذه المتطلبات على إزالة العوائق الكبرى التي تعرقل ممارسة التجارة. فإذا كنت تملك قطعتَين من الكعك وأملك أنا كوبَين من عصير الليمون، يمكننا بكل يُسر أن نُجري مقايضة تجعل كلًّا منا أفضل حالًا. لكن في أحيانٍ أخرى، تعتمد التجارة على شبكة واسعة من المتطلبات المؤسسية. فلا بد أن شركة أبل ووكلاءها في الصين تعمل بالضرورة في إطار بيئة غنية بالاتفاقيات التي تضم قائمة طويلة من الالتزامات الثنائية المحددة. وحينما تمنح «سيتي جروب» قرضًا لإحدى شركات الدول النامية، فإنها تعتمد على مزيج من سمعة المقترِض، وقوة القوانين في البلد المضيف، وإمكانية توقيع عقوبات دولية كشرط سابق لإتمام الاتفاق على عقد الصفقة. وإذا سارت العلاقات في الاتجاه الخطأ — كأن يسرِّب وكيل صيني تصميمات جهاز «آي فون» المملوكة لشركة «أبل» إلى أحد المنافسين، أو أن يرفض المقترض من «سيتي جروب» سداد فوائد دَينه — فربما لا يكون أمام الأطراف المتضررة سوى أقل القليل من الإجراءات المفيدة التي يمكن اللجوء إليها. إن وجود الخوف من احتمالية تدهور الأمور إلى الأسوأ وحتمية حدوث ذلك يشكِّل عقبة كئودًا أمام عقد الصفقات في المقام الأول. وإذا تحدثنا بلغة الاقتصاديين، فسنقول إن هذه عمليات تجارية يرتفع فيها احتمال زيادة تكاليف المعاملات زيادةً كبيرة.

والمؤسسات — على الأقل تلك التي تدعم الأسواق — عبارة عن تنظيمات اجتماعية صُممت للحد من تلك التكاليف، وتكون على هيئة ثلاثة نماذج: علاقات طويلة الأمد قائمة على الثقة والتبادلية، وأنظمة المعتقدات السائدة، والإنفاذ من جانب طرف ثالث، أو كما يطلَق عليها: «تمكين طرف ثالث».

أول هذه النماذج يولِّد التعاون عبر تكرار التفاعل على مدى الزمن. على سبيل المثال، ما يردع المُورِّد عن غش عميله هو قلقه من خسارة معاملات أخرى مستقبلًا. في المقابل، يختار العميل ألا يأكل حق المُورِّد لأن التحوُّل إلى مُورِّد آخر وبناء علاقة طويلة الأمد مع مؤسسة جديدة سيكون مكلفًا بالنسبة إليه. وكلما تطوَّرت العلاقة ازدادت الثقة، وصار في الإمكان التطلع للدخول في مشاريع أكبر. تلك العمليات التي تدعم نفسها بنفسها لا تعتمد على أية أسس قانونية رسمية أو حماية تنظيمية، وهي شائعة في الدول النامية حيث تكون تلك الأسس ضعيفة.

أما ثانيها، فيتمثل في إمكانية دعم التجارة عبر نظم المعتقدات أو الأيديولوجيات. فبائع الفاكهة لا يبيع فاكهة عفنة إلى المسافرين لأن «هذا، بكل بساطة، خطأ». وقد تختار دولة ما ألا ترفع تعريفاتها الجمركية أو تفرض قيودًا على انتقال رءوس الأموال؛ لأن «هذه ليست الطريقة التي تدار بها الأمور». وقد يعزي كل هؤلاء هذه الأفعال إلى أسباب شخصية؛ فربما يخشَوْن أن تنبذهم مجتمعاتهم — القبيلة، أو الطائفة، أو الجماعة الدينية، أو المجموعة العرقية، أو «مجتمع الدُّول»، حسبما تكون الحالة — إذا لوحظ أنهم يتحدَّوْن الأعراف السائدة للسلوك الرشيد؛ فالأفكار السائدة على نطاقٍ واسع، أيًّا كان مصدرها، والمتعلقة بمدى لياقة طرق التصرف المختلفة؛ قد تضبط سلوك الأطراف على التعامل بأسلوب معين وتوفر مستوًى من الأمانة والتعاون قد يصعب الوصول إليه بأي طريقة أخرى.

وتكرار التعاملات ومعايير المجتمع كلاهما يعمل على أفضل ما يكون في حالة الأسواق المحلية ذات النطاق الصغير، التي تقل فيها حركة الأفراد، وتكون البضائع والخدمات المتداولة بسيطة وقياسية، ولا تحتاج إلى النقل مسافات طويلة. لكن مع نمو الاقتصادات وتزايد قابلية الحركة الجغرافية، تصبح هناك حاجة ماسة إلى قواعد واضحة وشاملة، وتصبح الرقابة التي يمكن الاعتماد عليها أولوية أولى؛ فالبلدان الوحيدة التي تمكَّنت من الإثراء في ظل الرأسمالية هي تلك التي استطاعت بناء مجموعة مُوسعة من المؤسسات «الرسمية» التي تحكم الأسواق: الأنظمة الضريبية التي تدفع تكلفة المنافع العامة كالدفاع الوطني والبنية التحتية، والأنظمة القانونية التي ترسخ حقوق الملكية وتحميها، والمحاكم التي تنفذ العقود، وقوات الشرطة التي توقع عقوبات على من ينتهكون القوانين، والبيروقراطيين الذين يضعون اللوائح التنظيمية الاقتصادية ويشرفون على تنفيذها، والبنوك المركزية التي تكفل الاستقرار النقدي والمالي، وما إلى ذلك من المؤسسات. وبلُغة الاقتصادي نقول إن هذه هي مؤسسات «رقابة الطرف الثالث»؛ فقواعد اللعبة يتولى تنفيذها جهاز رسمي عادةً ما يكون حكوميًّا؛ فالسبب وراء دفعك الضرائب يرجع في جزء منه إلى أنك بحاجة إلى تحسين الطرق والتعليم، لكنني أعتقد أنك كنت ستدفع أقل بكثير لو لم يكن هناك مُحصِّل الضرائب.

حينما ننظر إلى حجم الحكومة في مجتمعات مختلفة، سنكتشف حقيقة مذهلة؛ إذ كلما ازداد نمو الاقتصاد، ازدادت الحصة التي يستهلكها القطاع العام من موارده، ولا توجد سوى استثناءات نادرة لتلك القاعدة؛ فالحكومات لا تكون أقوى وأكبر في أفقر اقتصادات العالم، بل في أكثرها تقدمًا. والعلاقة الطردية بين حجم الحكومة ودخل الفرد علاقة وثيقة على نحوٍ ملحوظ؛ إذ تملك البلدان الغنية أسواقًا تعمل على نحوٍ أفضل، وتملك «أيضًا» حكومات أكبر إذا ما قورنت بالحكومات في الدول الأفقر. وقد يبدو كل هذا مدهشًا للوهلة الأولى، لكن المناقشة السابقة تساعدنا على معرفة ما يجري؛ فالأسواق تبلغ ذروة التقدم والفاعلية في توليد الثروة حينما تدعمها مؤسسات حكومية قوية. إن الأسواق والدول كلاهما عنصران «يكمل أحدهما الآخر»، لا يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر، كما تدَّعي دومًا التقارير الاقتصادية الساذجة.

(٤) التجارة والحكومات

لقد توصلت إلى هذه الفكرة بطريقة غير متوقَّعة منذ عدة سنوات مضت. فالحكومات تلعب في المجتمع الحديث دورًا متغلغلًا بدرجة يصعب على كثير من علماء الاجتماع، وأنا من بينهم، ألا يعتبروه مثيرًا للقلق. ذات يوم كنت جالسًا في مكتبي أتساءل عن السبب في أن تقليص حجم القطاع العام تَبيَّن أنه بالغ الصعوبة، على الرغم من الجلبة التي أثارها بعض السياسيين المحافظين مطالبين بما سَمَّوْه «الحكومة الصغيرة»، حتى مر على مكتبي مقال لعالم السياسة بجامعة ييل ديفيد كاميرون.14
كان كاميرون مهتمًّا بالسؤال التالي: لماذا تَوسَّع القطاع العام بسرعة كبيرة في الاقتصادات الأكثر تقدمًا خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية؟ صحيح أن كاميرون لم يركز إلا على تجربة الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٥، لكن هذا كان في الحقيقة اتجاهًا له جذوره التاريخية؛ فحوالي عام ١٨٧٠ كان نصيب النفقات الحكومية في الاقتصادات التي صارت متقدمة اليوم يبلغ نحو ١١٪، وبحلول عام ١٩٢٠ كانت هذه النسبة قد بلغت ٢٠٪؛ أي الضعف تقريبًا، ثم ارتفعت فيما بعدُ إلى ٢٨٪ عام ١٩٦٠، وبحلول الوقت الذي أجرى فيه كاميرون دراسته كانت النسبة قد تجاوزت ٤٠٪، ثم واصلت ارتفاعها منذ ذلك الحين.15 لم يكن الارتفاع مماثلًا في دول مختلفة؛ فالحكومات اليوم في الولايات المتحدة واليابان وأستراليا (حيث لا يتجاوز نصيب نفقات الحكومة نسبة ٣٥٪) أصغر بكثير من نظيرتها في السويد أو هولندا (حيث تتراوح النسبة بين ٥٥–٦٠٪)، في حين تقع معظم الدول الأوروبية الأخرى بين المعسكرَين. أراد كاميرون أن يفهم أسباب هذا الاختلاف.

كان استنتاجه، الذي قام على دراسةٍ للاقتصادات المتقدمة في ثمانيَ عشرةَ دولة، أن الانفتاح على التجارة الدولية كان عاملًا رئيسًا؛ فقد بلغت الحكومات أعلى مستويات نموِّها في تلك الاقتصادات الأكثر انفتاحًا على الأسواق الدولية. بعض البلدان تكون بطبيعة الحال محمية أكثر من قوى التنافس الدولي، إما لأنها أكبر حجمًا أو لأنها بعيدة عن شركائها التجاريين الكبار؛ وهكذا هي الحال بالنسبة إلى اقتصادات الحكومات الصغيرة ضمن قائمتنا (الولايات المتحدة واليابان وأستراليا). في المقابل، تشارك الاقتصادات الصغيرة القريبة من شركائها التجاريين في قدر أكبر بكثير من النشاط التجاري، وتملك قطاعًا عامًّا أكبر (مثل السويد وهولندا).

وقد يبدو لك هذا الادِّعاء منافيًا للمنطق إلى حدٍّ بعيد إذا كنت ممن دأبوا على الاعتقاد بأن الأسواق لا تزدهر إلا في حال عدم تدخُّل الدولة فيها. كنت أدرك بالطبع أن أكثر الاقتصادات تقدمًا تملك قطاعًا عامًّا أكبر، لكن كاميرون كان يرمي إلى شيء آخر؛ إذ كان يرى أن الاختلاف في حجم القطاع العام بين الاقتصادات المتساوية الثراء يمكن تفسيره بالنظر في أهمية التجارة بالنسبة إلى تلك الاقتصادات.

لا بد أن أعترف بأن الشك ساورني فيما خلص إليه كاميرون؛ فالاقتصاديون أمْيل إلى أن يكونوا مجموعة من المشككين، لا سيما حينما يكونون حيال عمل إحصائي أجراه علماء اجتماع آخرون. وقد كان أول رد فعل لي حال قراءة المقال: «لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا.» فالعينة صغيرة للغاية (ثمانيَ عشرةَ دولة)، والتأثير يُحركه حجم الدولة أكثر من انفتاحها على التجارة الدولية في حد ذاته. وهناك الكثير من الآثار الأخرى المحيرة التي لم يأخذها التحليل في الاعتبار، علاوةً على أشياء أخرى.

لذا قررت أن أتحقق من الأمر بنفسي؛ فقمت بتنزيل بعض البيانات وبدأت أنظر في كيفية وقوف عنصر «حجم الحكومة» في مواجهة الانفتاح الاقتصادي. بدأت أولًا أُنعِم النظر في حال البلدان المتقدمة التي ركَّز عليها كاميرون، واستخدمت مصادر بيانات مختلفة وفترات زمنية متباينة، لكن لدهشتي رأيت أن النتائج التي توصل إليها كاميرون ظلت صامدة. ثم وسعت نطاق التحليل ليشمل البلدان النامية، ونظرت إلى أكثر من مائة دولة توافرت حولها البيانات، ومرة أخرى ظهرت الصورة نفسها. وفي النهاية، حاولت أن أنفيَ هذه النتائج عبر تقليل آثار كل العوامل الأخرى التي خطرت ببالي، مثل حجم البلد، وجغرافيته، وديموغرافيته، ومستوى دخله، ودرجة تمدُّنه، إضافةً إلى العديد من العوامل الأخرى. ومهما اختلفت الطريقة التي اقتطعت بها البيانات، كنت أجد علاقة طردية وثيقة بين انفتاح الدولة على التجارة الدولية وحجم الحكومة.

من أين أتت تلك العلاقة؟ أخذت أتدارس تفسيرات عديدة محتملة، لكنَّ أيًّا منها لم يصمد أمام ما أجريته من اختبارات. وفي نهاية المطاف بدا أن الأدلة تشير بقوة إلى حافز الضمان الاجتماعي؛ فالناس يحتاجون إلى تعويضٍ يؤمنهم من الخسارة حينما تكون اقتصاداتهم أكثر انفتاحًا على القوى الاقتصادية الدولية، والحكومات تستجيب بإقامة شبكات أمان اجتماعي أكثر اتساعًا، إما من خلال برامج اجتماعية أو من خلال التوظيف في القطاع العام (وهو أكثر شيوعًا في الدول الفقيرة). كان هذا بالأساسِ الادِّعاءَ نفسَه الذي ساقه كاميرون، وبدا من الجلي أنه كان يتجاوز المجموعة المحدودة التي تضم البلدان الغنية التي أخضعها للبحث. لقد صادفتُ إحدى الحقائق الاقتصادية الجوهرية التي لم يُطلعني عليها من قبلُ أحد في الدراسات العليا، ألا وهي: إذا أردت للأسواق أن تتوسع، فلا بد أن تتوسع الحكومات.16

والسبب في هذه الحاجة للتوسع ليس فقط أن وجود الحكومات ضروري لإقامة السلم والأمن، وحماية حقوق الملكية، وإنفاذ العقود، وإدارة الاقتصاد الكلي؛ بل أيضًا لأن وجودها ضروري لحفظ شرعية الأسواق عبر حماية الأفراد من المخاطر والقلاقل التي تأتي بها الأسواق.

تشكل أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر التي وقعت مؤخرًا وحالة الكساد الكبير مثالًا جيدًا في هذا الشأن. لكن ما السبب وراء عدم سقوط الاقتصاد العالمي من فوق جرف الحمائية كما سقط من فوقه إبان الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي؟ السبب أنه منذ ذلك العقد وحتى الآن، أقامت المجتمعات الصناعية الحديثة مجموعة كبيرة من برامج الحماية الاجتماعية — مثل تعويضات البطالة، والمساعدات المقدمة للشركات المتضررة من منافسة الواردات، وغيرها من الإجراءات التدخلية في سوق العمل، والتأمين الصحي، ودعم الأسر — التي تخفف كلها الحاجة إلى أنماط حماية أخرى أكثر خشونة، مثل حماية الاقتصاد بفرض تعريفات جمركية عالية؛ وهكذا تكون دولة الرفاهية هي الجانب الآخر للاقتصاد المفتوح. إن الأسواق والدول عنصران متكاملان بأكثر من طريقة وحيدة.

(٥) علاقة الحب والكره بين العولمة والدولة

الآن يمكننا أن نشرع في تقدير كبر الفرق بين التجارة الدولية والمعاملات الاقتصادية المحلية. فإذا كنت أنا وأنت مواطنَين للبلد نفسه، فنحن إذنْ نعمل في ظل المجموعة نفسها من القواعد القانونية ونستفيد من المنافع العامة التي توفرها حكومتنا. أما إذا كنا مواطنَين لبلدين مختلفَين، فليس بالضرورة أن يكون الوضع كذلك. فما من كيان دولي يضمن السلم والأمن، أو يمرر القوانين وينفذها، أو يدفع مقابل توفير المنافع العامة، أو يضمن الاستقرار والأمن الاقتصادي. وبالنظر إلى اختلاف الثقافة وإلى المسافات التي تفصل بين الدول، نجد أن القواعد غير الرسمية كالمعاملة بالمثل وانضباط السلوك عادةً ما لا تؤدي هي الأخرى إلى تيسير القدر الكبير من التعاون. أما القواعد الموجودة فعليًّا التي تدعم الأسواق فهي ذات طبيعة محلية وتختلف من دولة لأخرى؛ ومن ثَمَّ، فإن «التجارة الدولية والتمويل الدولي ينطويان بطبيعتهما على تكلفة معاملات أعلى من أشكال التبادل المحلية.»

لكن هناك ما هو أكثر من ذلك؛ فارتفاع تكاليف المعاملات ليس ناجمًا فقط عن غياب القواعد الدولية اللازمة؛ إذ إن التدابير الداخلية الموجهة للتلاؤم مع احتياجات الأسواق المحلية كثيرًا ما تشكِّل عائقًا أمام التجارة الدولية. باختصار، القواعد المحلية تعرقل العولمة. أَوضح الأمثلة على ذلك يتمثل في التعريفات التي تفرضها الحكومات على التجارة أو القوانين التي تمنع الإقراض أو الاقتراض على مستوًى دولي. وأيًّا كان الغرض الداخلي الذي تخدمه تلك القيود — كتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، أو تشجيع المشاريع المحلية، أو لمجرد المحسوبية — فإنها تشكل تكاليف صريحة للمعاملات على صعيد التبادل الدولي. وقد تفرض الضرائب التي تمول شبكات الأمان الاجتماعي والاستثمارات العامة الأخرى بعض القيود على التبادل التجاري الدولي لمنع كل محترف أو رأسمالي منفلت من التملص منها.

علاوةً على ذلك، يوجد العديد من التشريعات والضوابط المحلية التي تعيق التعاملات بين الدول، حتى لو لم تكن موجهة بالأساس نحو إقامة الحواجز أمام التجارة؛ فالاختلافات بين الدول فيما يخص العملات المحلية، والممارسات القانونية، والضوابط والتشريعات المصرفية، وقواعد سوق العمل، ومعايير سلامة الغذاء، والعديد من الجوانب الأخرى؛ ترفع جميعها تكلفة تنفيذ الأعمال على المستوى الدولي؛ الأمر الذي أثار ضيق جيفري إيميلت، الرئيس التنفيذي لشركة «جنرال إلكتريك»، إذ قال عام ٢٠٠٥ متذمرًا: «كي نحافظ على مستوانا التنافسي، لا يمكننا ببساطةٍ اجتياز متاهة من التشريعات والضوابط التي تفرض علينا تعديل وتغيير كل منتج وعملية بحيث تناسب أهواء الأنظمة التشريعية لكل دولة.»17 إن الحكومات تساعد في الحد من تكلفة المعاملات داخل الحدود الداخلية، لكنها تشكِّل مصدرًا للنزاعات في مجال التجارة «بين» الدول.

تعمل الأسواق الدولية خارج الإطار التنظيمي الرسمي للكيانات ذات السيادة؛ ومن ثَمَّ فإنها — مع غياب الترتيبات الخاصة — محرومة من الدعم الذي يوفره هذا الإطار. وما هو على القدر نفسه من الأهمية أن الأسواق الدولية تعمل عبر الحدود التنظيمية المميِّزة للدول وأُطُرها القانونية. هاتان الحقيقتان — غياب الإطار التنظيمي الشامل للأسواق الدولية، ووجود التوترات التي تُحدثها تلك الأسواق بين المؤسسات المحلية — ضروريتان لفهم العولمة الاقتصادية؛ فهما تساعداننا على التفكير في كيفية اجتياز تحديات العولمة وإدراك حدودها. وسوف نعاود الحديث عنهما لاحقًا في هذا الكتاب.

وهكذا لم تكن الصعاب التي واجهتها شركة هدسونز باي ومن عاصرتها من الشركات في ممارسة التجارة عبر المسافات الطويلة؛ خاصة بالقرن السابع عشر فحسب أو بتجارة الفراء والتوابل وغيرها من السلع المفضلة في ذلك الوقت؛ فالتجارة الدولية مختلفة فعلًا وتحتاج إلى ترتيبات تنظيمية خاصة. لقد كان الاحتكار التجاري المعتمد، بالرغم من كل عيوبه، ابتكارًا تنظيميًّا ناجحًا — متوافقًا مع الطابع السياسي والاقتصادي في ذلك الوقت — استطاع التغلب على الكثير من تكاليف المعاملات الخاصة بالتجارة عبر القارات. وقد حفز الاحتكار العديد من الكيانات الخاصة على الاستثمار في مجالات المعرفة والأمن وإنفاذ العقود، الأمر الذي مكَّن استمرار التجارة.

بالطبع لم يستفِد جميع المشاركين في التجارة بالقدر نفسه؛ فعلى سبيل المثال، كانت الأسعار التي يحصل عليها هنود قبيلة «كري» منخفضة انخفاضًا غير معقول.18 وكانت تجارة الرقيق من الأمور المستهجنة. وبمرور الوقت، صار اهتمام الشركات بالحفاظ على أرباحها الاحتكارية أكبر من اهتمامها بتوسيع شبكات التجارة. كما أن تطوُّر مبدأ الاعتماد المتبادل بين الدول والشركات الخاصة لم يحسِّن جودة الحوكمة ولا الأداء الاقتصادي على المدى الطويل. لقد كان آدم سميث محقًّا حينما تساءل متشككًا عما إذا كانت الاحتكارات المعتمدة قد أسهمت على نحوٍ إيجابي في الموازنة العامة للدولة في نهاية المطاف. لكن بالرغم من اتساع شعبية أفكار سميث وقيام بريطانيا وعدد من القوى الكبرى الأخرى بحل الاحتكارات، ظلت المعضلة الأساسية على حالها، ألا وهي: كيف نجعل التجارة الدولية والتمويل الدولي منخفِضَي التكاليف وآمنَين؟ إن تكاليف المعاملات التي ينطوي عليها بالضرورة الاقتصاد الدولي ستظل تؤرق التجار والممولين والسياسيين.

(٦) إشكالية العولمة

الأسواق بطبيعتها لديها متطلبات أساسية مُلحة، والأسواق الدولية كذلك وأكثر. فمثلًا أسواق المواد الغذائية الأساسية، وغيرها من السلع الضرورية الأخرى، يمكن أن تعمل جيدًا من تلقاء نفسها في المجتمعات الصغيرة؛ حيث يعرف الأفراد بعضهم بعضًا، ويتفاعلون بعضهم مع بعضٍ باستمرار. وتستطيع أي جماعة صغيرة من رجال الأعمال والممولين أن تمارس التجارة والتبادل إذا كان لدى أفرادها منظومة معتقدات مشتركة فيما بينهم. بينما كل ما هو أكبر من ذلك وأوسع نطاقًا وأكثر استدامة يحتاج إلى مجموعة كبيرة من اللوائح التنظيمية الداعمة، مثل: قوانين ملكية لإثبات الملكية، ومحاكم لإنفاذ العقود، وتشريعات تجارية لحماية الباعة والمشترين، وقوة شرطة لمعاقبة الغشاشين، وأُطُر عمل كلية لإدارة دورة العمل وتيسير دورانها، ومعايير تحوُّط ورقابة للمحافظة على الاستقرار المالي؛ ووجود ملاذ أخير للإقراض لمنع حالات الذعر في القطاع المالي، ومعايير خاصة بالصحة والسلامة والعمل والبيئة لضمان الالتزام بالمعايير العامة، وأنظمة للتعويضات لإعانة الخاسرين (حينما تترك الأسواق أحدهم في مهب الريح، كما يحدث عادةً)، وضمان اجتماعي لتوفير شيء من الحماية من مخاطر السوق، وضرائب لتمويل أداء تلك المهام كافة.

خلاصة القول: الأسواق لا تصنع نفسها بنفسها، ولا تنظم نفسها، أو تحافظ على استقرارها بنفسها، أو تضفي على نفسها الشرعية. واقتصاد السوق الذي يعمل على نحوٍ جيد هو ذلك الذي يمزج بين الدولة والسوق، ويجمع بين الحرية الاقتصادية والتدخُّل. ويختلف ذلك المزج الدقيق حسب تفضيلات كل دولة، ووضعها دوليًّا، ومسارها التاريخي. لكن ما من دولة واحدة استطاعت أن تكتشف كيف يمكن أن تنموَ من دون أن تلقيَ مسئوليات ضخمة على عاتق قطاعها العام.

وإذا كانت الدولة عنصرًا لا غنى عنه كي تعمل الأسواق الوطنية، فهي أيضًا العقبة الرئيسية أمام إقامة الأسواق الدولية. وكما سنرى في هذا الكتاب، فإن ممارساتها هي عين المصدر الذي تأتي منه تكاليف المعاملات التي يتعين على العولمة التغلب عليها. ذلك هو منبع إشكالية العولمة: إنها لا تستطيع أن تنجح في غياب دور الدولة، ولا تستطيع أن تنجح في وجوده!

وبِناءً على ذلك تعاني الأسواق العالمية من مشكلة مزدوجة؛ فهي تفتقر إلى وجود الأسس التنظيمية الموجودة لدى الأسواق الوطنية، كما أنها لا تدخل تحت مظلة الأُطُر التنظيمية القائمة بالفعل. هذه اللعنة المزدوجة تجعل العولمة الاقتصادية هشة وحافلة بتكاليف المعاملات، حتى في غياب القيود المباشرة المفروضة على التجارة والتمويل «بين» الدول. وفي الوقت نفسه تحيل السعي نحو العولمة النموذجية الخالية من كل عيب إلى مسعًى عقيمٍ ومشروع يستحيل تحقيقه.

وقد قدمت الشركات التجارية المعتمدة المملوكة لأشخاص يدعمون المذهب التجاري حلًّا لتلك المعضلات؛ فبفضل سلطاتها التنفيذية التي تضارع سلطات الدولة، فرضت تلك الشركات قواعدها الخاصة على مجتمعات أجنبية في أراضٍ نائية. لكنها صارت أقل فاعلية بمرور الوقت؛ إذ تبيَّن عدم قدرتها على التعامل مع ثورات المجتمعات المحلية، فخسرت الرواية المركنتلية شعبيتها. وكان على القرن التاسع عشر — أول حقبة تشهد عولمة حقيقية — الاعتماد على آليات أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤