الفصل الثالث

لماذا لا يفهم الجميع أسباب تأييد التجارة الحرة؟

إن التجارة الحرة ليست من سنن الكون، وإنما نحن الذين نوجِد حرية التجارة — أو نوجِد شيئًا أقرب ما يكون إليها — ولا نفعل ذلك إلا حينما تكون الظروف موائمة لذلك وتكون الأولوية على المستويَين السياسي والفكري للمصالح المرجوَّة من وراء التجارة الحرة. لكن لماذا تجري الأمور على هذا المنوال؟ ألا تجعلنا التجارة الحرة جميعًا أفضل حالًا على المدى الطويل؟ وإذا كانت التجارة الحرة هدفًا صعب التحقيق على هذا النحو، فهل يُعزى ذلك إلى المصالح الشخصية الضيقة، أم إلى النزوع إلى إعاقة التقدم، أم إلى الإخفاق السياسي، أم إلى كل هذه الأمور مجتمعة؟

قد يكون من السهل أن نربط دائمًا التجارة الحرة بالتقدم السياسي والاقتصادي، والحمائية بالتأخر والانحدار. لكن هذا قد يكون مضللًا أيضًا، كما شهدنا في الفصل السابق؛ فالحالة الحقيقية للتجارة يصعب معرفة كُنهها؛ ومن ثَمَّ تعتمد اعتمادًا كبيرًا على السياق الذي توجد فيه. ونحن لسنا بحاجة إلى أن نفهم اقتصاديات حرية التجارة فحسب، بل أن نفهم أيضًا ما لها من تأثيرات على عدالة التوزيع والمعايير الاجتماعية.

(١) مضاهاة التجارة بالتقدم التكنولوجي

لا توجد بداية أفضل من عام ١٧٠١ مع شخص يُدعى هنري مارتن. كاد مارتن، الذي كان محاميًا ومواليًا لحزب «الأحرار» (أو «الويج» كما كان يُسمى في ذلك الوقت) في إنجلترا في مطلع القرن الثامن عشر يذهب في طي النسيان. سبق مارتن عصره بالكثير حينما كتب — قبل آدم سميث بثلاثة أرباع قرن، وقبل ديفيد ريكاردو بأكثر من قرن — أعظم ما عرفه بني البشر من رسائل عن التجارة الحرة.1

رأى مارتن أن المركنتليين الذين سيطروا على التفكير في السياسة الاقتصادية لم يتسببوا إلا في الارتداد إلى الخلف على الصعيد التجاري. كانت الرؤية السائدة تذهب إلى أن بريطانيا ينبغي ألا تستورد شيئًا عدا المواد الخام كي تحتفظ بالتصنيع للمنتجين المحليين. وكانت ثَمَّةَ معارضة جماهيرية كبيرة تواجه «شركة الهند الشرقية» التي كانت قد بدأت تستورد المنسوجات القطنية من الهند. لكن مارتن رأى غير ذلك؛ إذ شعر أن استيراد السلع المصنعة من الهند يمثل فائدةً للدولة الإنجليزية لا خسارةً لها.

أراد مارتن أن يواجه المركنتليين برأيه مباشرةً، لكن كانت تواجهه مشكلة؛ إذ كان حريصًا أيضًا على نيل منصب عام. كان سيعين في نهاية الأمر، عام ١٧١٥، مفتشًا عامًّا على الواردات والصادرات، وهو منصب استُحدث نتيجةً لهوس المركنتليين بحجم التجارة، وهو ما تطلب أن يحصيَ مارتن التجارة الواردة إلى إنجلترا والصادرة منها. ولو كان صرَّح على الملأ بما يعتنقه من معتقدات تؤيد حرية التجارة لتقوضت طموحاته السياسية؛ ومن ثَمَّ، سيطرت نزعة الحمائية في ذلك الوقت؛ ولهذا، حينما خط مارتن، عام ١٧٠١، مؤلفه التحريضي «تأملات في تجارة شركة الهند الشرقية» الذي كان بريئًا في ظاهره، اضطُر إلى نشره دون أن يحمل اسمه.2 وقد استبق في هذا الكتيب المميز تقديم كثير من الحجج التي ساقها مؤيدو التجارة الحرة من الاقتصاديين الذين أتَوْا بعده بزمن طويل للدفاع عن آرائهم. والأروع من هذا أن ذهنه تفتَّق عن «الحجة الدامغة» التي تثبت أفضلية التجارة الحرة، والتي أحدثت أثرًا مدويًا تفوَّقت به حتى على كثير من كتب الاقتصاد اليوم.
وتعتمد حجة مارتن على تشبيه التجارة الدولية بالتقدُّم التكنولوجي؛ فقد أشار إلى أمثلة كانت مألوفة للقراء في ذلك الوقت. يقول مارتن: خذ مثلًا ماكينة نشر الخشب، التي تسمح لشخصين فقط أن يؤدِّيا عملًا كان أداؤه سيتطلب ثلاثين شخصًا في حالة عدم توافرها. يمكننا أن نستخدم هؤلاء الثلاثين شخصًا إذا لم نردَّ استخدام هذه الماكينة، لكن ألن يكون هذا العدد أكثر من اللازم بثمانيةٍ وعشرين شخصًا؛ ومن ثَمَّ يكون إهدارًا لموارد الدولة؟ أو، تأمل صندلًا في نهر يصلح للملاحة؛ حيث يستطيع خمسة رجال على متنه أن ينقلوا الشحنة التي كان نقْلها سيتطلب مائة رجل ومائة فرس في حال نقْلها برًّا. يمكننا بالطبع أن نستخدم هذا العدد الكبير من الرجال والخيل لأداء العمل إذا لم نستغل النهر، لكن ألن يكون هذا أيضًا إهدارًا للموارد؟ كان مارتن يعتقد أن قرَّاءه سيعتبرون الاستغناء عن الابتكارات التكنولوجية، كماكينة نشر الخشب أو الصنادل، حمقًا بيِّنًا؛ وبِناءً على المنطق نفسه قدم الحجة الدامغة متسائلًا: أليس إهدارًا أن نستخدم عمال نسيج في إنجلترا بينما يمكن الحصول على المنسوجات التي ينتجونها من الهند باستخدام عدد أقل من العمال؟3

نستطيع طبعًا أن ننتج المنسوجات محليًّا، أو يمكننا أن نحصل على كمية المنسوجات نفسها من الهند بأن ننتج نحن سلعة أخرى نستطيع مبادلتها مقابل هذه المنسوجات. وفي حال كان إنتاج السلعة الثانية يتطلب عددًا أقل من العمال، سيكون هذا بمثابة تكنولوجيا أفضل هبطت علينا من السماء لتوفر لنا ما نحتاج من منسوجات. لا ريب أننا لن نفكر في حرمان الوطن من فوائد ماكينات النشر والصنادل، أو أي ابتكارات أخرى توفر العمالة. وقياسًا على ذلك، ألن يكون من الحمق أيضًا أن نرفض واردات مصنِّعي الهند؟

تصيب حجة مارتن الداعمة للتجارة الحرة عين ما تنجزه التجارة، وهي فاعلة في بيانها وفصاحتها؛ إذ مَن عساه أن يكون ضد التقدم التكنولوجي؟ وحينما أواجه طلبتي بهذه الحجة، سرعان ما يركز أحدهم على أحد مثالبها؛ فهي تفترض أن العمالة التي سُرحت من إنتاج المنسوجات داخل البلاد ستجد عملًا آخر في مكانٍ ما. لكن إذا ما ظلت هذه العمالة عاطلة، فلن يكون لمكاسب توفير العمالة أثر ملموس. لكن التشابه الذي يسوقه مارتن فيه ما يحصنه ضد هذا التحدي، على الأقل للجولة الأولى؛ فالتقدم التكنولوجي لا يختلف عن التجارة الحرة؛ إذ إنه، أيضًا، يسرِّح عمالة وقد يؤدي إلى حدوث بطالة مرحلية. وإذا كنت تؤيد التقدم التكنولوجي، فأنت ولا شك تؤيد التجارة الحرة!

لكن ثَمَّةَ نقطة ضعف واحدة في حجة مارتن؛ إذ على الرغم من أنها توضح الأسباب التي تجعل التجارة مفيدة بالنسبة إلى إنجلترا، فإنها لا توضح الأسباب التي تجعلها مفيدة بالنسبة إلى الهند أيضًا؛ إذ لماذا قد ترغب الهند في أن تبيع منسوجاتها لإنجلترا مقابل مصنوعات إنجليزية إذا كانت المنسوجات الهندية — في واقع الأمر — تتطلب عمالة أكثر كي تنتج، وتكلف الهند تكلفة تفوق قيمة ما تشتريه في المقابل؟ ظلت هذه الثغرة مكمن ضعف في الحجة إلى أن أتى ديفيد ريكاردو بمثاله الشهير عام ١٨١٧ عن تجارة الأقمشة والخمور بين إنجلترا والبرتغال، ورسَّخ على نحوٍ حاسم مبدأ الميزة النسبية. فمن غير المحتمل أن تكون الظروف التي يواجهها المنتجون الهنود شبيهة بتلك التي تسود إنجلترا. وإذا ما قورن المنتجون الهنود بنظرائهم في إنجلترا فسيتبيَّن أن إنتاجيتهم من المنسوجات تفوق إنتاجيتهم من أنواع السلع التي يستطيع المنتجون الإنجليز تصنيعها، وأن تكلفة المنسوجات في الهند تقل عن تكلفة تلك السلع الإنجليزية. وهكذا سينتهي الأمر بأن يشتريَ كلا البلدين ما يكون ثمنه رخيصًا خارج البلاد وباهظًا داخلها، وأن يقتصدا في استخدام العمالة على النحو الذي ذهب إليه مارتن؛ وبهذا تعود التجارة بالفائدة على كل الأطراف؛ فهي ليست لعبة ذات مجموع صفري.

يلاحَظ أيضًا أن ثَمَّةَ مكاسب متبادلة تتحصل من التجارة حتى في حال كانت الهند تُنتج كلا النوعين من السلع بإنتاجية تقل عن إنتاجية إنجلترا (تكلفة عمالة أعلى). فكل ما تحتاجه الهند هو ألا يكون مستواها سيئًا في تصنيع المنسوجات كما هو في تصنيع غيرها من السلع؛ وذلك لأن الاختلاف بين الدول في التكاليف «النسبية»، وليس التكاليف المطلقة، هو ما يصنع الميزة النسبية.

إن هذه حجة قوية غالبًا ما يفشل نقاد التجارة الحرة في استيعابها بالكامل قبل التصدي لها. كما أشار بول صامويلسون عند رده على تحدٍّ من شخص متخصص في الرياضيات لا يُكِنُّ التقدير اللازم للعلوم الاجتماعية، بأنها في الغالب الفرضية الوحيدة في علم الاقتصاد التي تعتبر صحيحة وغير تافهة في الوقت نفسه؛ فقال صامويلسون: «أما عن كونها صحيحة من الناحية المنطقية، فهذا أمر لا حاجة لبرهنته وأنا أمام متخصص في الرياضيات، وأما عن كونها ليست تافهة، فأفضل ما يشهد بصحة هذا أن الآلاف من الرجال المرموقين والفطنين لم يتمكَّنوا قط من التوصل إليها أو استيعابها استيعابًا كاملًا لدى شرحها لهم.»4 وقد يحدث في كثير من الأحيان أن يحل الاستدلال المغلوط محل التفسير الذكي العقلاني لمسألة التجارة؛ ففي تصريح شهير، لكن يُشك في صحته، يُنسب إلى إبراهام لنكولن، يقال إن «محرر العبيد العظيم» قال:
لا أعرف الكثير عن مسألة التعريفات، لكن ما أعرفه جيدًا أننا حين نشتري السلع المصنعة بالخارج نحصل على السلع ويحصل الأجانب على النقود. أما حينما نشتري السلع المصنعة محليًّا؛ فنحصل على السلع والنقود معًا.5
بالطبع هذا تحديدًا هو نوع المغالطات المركنتلية التي أراد مارتن (وآدم سميث وديفيد ريكاردو وبول صامويلسون من بعده) أن يدحضه؛ فالتكلفة الحقيقية لاستهلاك السلع لا تتمثل في النقود التي تتيح إتمام الصفقة، بل في العمالة وغيرها من الموارد النادرة التي نُضطر إلى استخدامها للحصول على ما نحتاجه.

(٢) تشكك الجمهور في التجارة

غالبًا ما تؤدي هذه المغالطات إلى نفاد صبر الاقتصاديين من الاحتجاجات على التجارة الحرة وصرف كل من يرغبون في التدخل في هذا الشأن. ليس من الصعب دحض الكثير من الحجج المناهضة للتجارة؛ لأنها لا تصمد كثيرًا أمام التدقيق، لكن في أوساط عامة الجمهور يُعتبر التشكك في التجارة بالغ الانتشار بدرجة يصعب معها القضاء عليه؛ إذ يظهر استقصاء تلو الآخر أن أغلبية واضحة من الناس تؤيد فرض قيود على الواردات بغرض «حماية» فرص التوظيف والاقتصاد. ولا تكاد الولايات المتحدة تُستثنى من ذلك؛ فعلى سبيل المثال، أظهر استقصاء عالمي كان قد أُجري في أواخر تسعينيات القرن العشرين تأييدًا كاسحًا لحماية التجارة؛ فقد فضَّل ما يقرب من ٧٠٪ من العينة التي أُجري عليها الاستقصاء العالمي فرض قيود على الواردات.6
في أي بلد، يكون الأفراد ذوو التعليم العالي أقل ميلًا إلى الحمائية من غيرهم. لكن في كثير من البلدان لا تكاد التجارة تحظى بشعبية حتى بين هذه الفئات؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال تسيطر المشاعر المناهضة للتجارة على فردَين من كل ثلاثةٍ وسط الأفراد المنتمين إلى ثلث السكان الأعلى تعليمًا.7
وبطبيعة الحال يميل الأفراد المعرَّضون لتكبُّد خسائر في دخولهم جراء توسُّع التجارة إلى نزعة الحماية. لكن رغم الدور الذي تلعبه الدوافع الاقتصادية الضيقة، فهي لا تعد مسئولةً مسئوليةً كاملة عن انتشار مناهضة التجارة؛ فالأشخاص ذوو الحس الوطني القوي والصلات الاجتماعية ذات الطابع الشيوعي — مع جيرانهم أو منطقتهم أو دولتهم — ينفرون من التجارة الدولية، مهما كان نوع الوظائف التي يشغلونها ومهما بلغ مستواهم التعليمي. والمرأة غالبًا ما تكون أقل اهتمامًا بالتجارة من الرجل، حتى إذا كانت في الوضع الاقتصادي نفسه أو الوظيفة نفسها؛ فالقيم والهُويات والعلاقات تلعب كلها دورًا في هذا الأمر؛8 لذا سيكون من قبيل السطحية المفرطة أن نعزوَ انتشار الرؤى المناهضة للتجارة إلى مجرَّد الحرص على المصلحة الشخصية أو إلى الجهل وحده.

هل من الممكن أن يكون لدى عامة الناس حس فطري أفضل مما كنا نتوقع إزاء تعقيد الحجج المؤيدة للتجارة الحرة؟ في الحقيقة، رغم ما يميز حجج مارتن وديفيد ريكاردو وغيرهم من قوة وروعة، لا تنتهي قصة التجارة عند هذا الحد، وإلا لكانت حياة أي خبير اقتصادي في التجارة ستُمسي مُملة للغاية. حسنًا، ربما لا تكون مثيرة كحياة ميك جاجر، لكن يمكنني أن أؤكد لكم أن كسب العيش من علم الاقتصاد الدولي يستلزم ما هو أكثر من إعادة تأكيد أهمية الميزة النسبية يومًا بعد آخر. وكل طالب بلغ مستوًى متقدمًا في دراسة التجارة يتعلم أن ثَمَّةَ الكثير من التحريفات والمغالطات المثيرة في قصة مكاسب التجارة؛ فهناك قائمة طويلة بالمتطلبات التي يجب أن تتوافر كي نبلغ درجة معقولة من الرضاء بأن حرية التجارة تحسِّن مستوى الرفاهية الاجتماعية بصفة عامة؛ ففي بعض الأحيان يكون الإقلال من التجارة أفضل من الإكثار منها، ويكون تشبيه التجارة بالتقدم التكنولوجي مُضللًا بطرق تبين لنا بجلاءٍ السبب في وجود هذه الهوة في النقاش العام بين خبراء الاقتصاد وعامة الجمهور.

(٣) تقييد الحجة المؤيدة للتجارة الحرة

لنعُد إلى وجهة نظر مارتن التي ذهبت إلى أن الواردات تؤدي إلى الاقتصاد في استخدام الموارد. بطبيعة الحال، من المنطقي أن نستورد السلع ما دام إنتاج السلع التي نصدِّرها وتأتي بثمن الواردات يتطلب عمالة أقل مما كانت ستتطلبه هذه الواردات لو حاولنا أن ننتجها نحن. لكن كيف نحسب في الواقع تكاليف العمالة التي تذهب في إنتاج مختلِف السلع، وكذلك النفقات الأخرى التي تتصل برأس المال والحرفيين المهرة والأرض وما إلى ذلك من مستلزمات الإنتاج؟ وما وسيلة القياس المناسبة؟

كان المنظِّرون الأوائل — أمثال هنري مارتن وآدم سميث — مفرطين في السطحية إلى حدٍّ ما حينما افترضوا أن مجرد النظر إلى تكاليف الإنتاج الفعلية أو عدد الأفراد المستخدمين في عملية الإنتاج كافٍ لقياس التكاليف؛ فالتكاليف التي نتكبدها كمستهلكين ومنتجين أفرادًا لا تكون دائمًا التكاليف النسبية ذاتها من وجهة نظر الدولة ككل.9

فالتكاليف التي يتكبدها المجتمع من عمالة (وغيرها من الموارد) حين تُستخدم في نشاطٍ ما قد تكون أقل أو تكون أكثر من التكلفة التي يتحملها مستخدِم العمال مباشرة ويدفع مقابلها المستهلك. دعنا نُطلق على التكاليف الأولى «اجتماعية» وعلى الثانية «خاصة». تكون التكاليف الاجتماعية أعلى من التكاليف الخاصة على سبيل المثال حينما يتسبب الإنتاج في إحداث تأثيرات ضارة على البيئة. ويحدث العكس حينما يولِّد الإنتاج معرفة قيِّمة وتعم التكنولوجيا كل مجالات الاقتصاد. هذان مثالان مألوفان على ما يسمِّيه خبراء الاقتصاد «التأثيرات الخارجية الإيجابية» و«التأثيرات الخارجية السلبية»، التي تعيِّن حدًّا يفصل بين ما هو مفيد على المستوى الخاص وما هو مفيد على مستوى المجتمع.

وتظهر مثل هذه الحدود الفاصلة كذلك حينما يقدِّر المجتمع المساواة وغيرها من الاعتبارات الاجتماعية؛ فحينما نهتم بشأن أفراد أقل الفئات الاجتماعية نصيبًا من توزيع الدخل (ونجد صعوبة في زيادة دخولهم زيادةً مباشرة)، تكون التكاليف الاجتماعية لتشغيل الفقراء أو غيرهم من الأفراد المحتاجين أقل من التكاليف الخاصة. وإذا أخذنا مثلًا حالة الولايات المتحدة قُبيل الحرب الأهلية التي ذكرناها في الفصل السابق، فسنلاحظ بوضوح بالغ أن النفقات التي تكبَّدها مالكو العبيد في ولايات الجنوب في مزارع التصدير المملوكة لهم؛ لم تبرِّر التكاليف الاجتماعية الفادحة التي ترتبت على العبودية باعتبارها نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا.

بلغة الاقتصاديين: يجب تقييم الموارد المستغلة في المعاملات الدولية وفقًا لما تتطلبه فعليًّا من «تكاليف الفرص الاجتماعية البديلة» وليس وفقًا لأسعار السوق السائدة. وطريقتا الحساب هاتان لا تتماثلان إلا حينما تدرج الأسواق في حساباتها كل التكاليف الاجتماعية، ويتسنَّى تنحية اعتبارات توزيع الدخل جانبًا، ولا تهمل الأهداف الاجتماعية والسياسية الأخرى، وبدون هذه المتطلبات الثلاثة لا تتماثل الطريقتان. والطلبة الذين أبدَوْا قلقًا من أن مارتن أغفل مسألة البطالة كانوا على حق؛ فنتيجةً لمجموعة واسعة النطاق من الظروف — تتجاوز كثيرًا حالة البطالة المرحلية — قد تفقد التجارة الحرة جاذبيتها بمجرد تقييم كافة تأثيراتها على النحو الصحيح.

علاوةً على ذلك، لم يكن مارتن على صواب حينما ألمح إلى أننا لا نتدخل على الإطلاق في التكنولوجيا. فنحن أحيانًا نعترض على سبل بعينها تؤدي إلى التقدم العلمي والتكنولوجي — كأنواع معينة من التجارب على البشر والاستنساخ البشري على سبيل المثال — لأنها تتعارض مع قيمنا ومعتقداتنا الراسخة؛ فبعض المجالات مثل التكنولوجيا النووية والهندسة الوراثية لا يزال يخضع لقيود صارمة في معظم البلدان، والعقاقير الجديدة لا بد أن تمر بعملية اختبار طويلة الأمد وصارمة كي تحوز القبول وتُطرح للمستهلكين، والمحاصيل المعدلة وراثيًّا تخضع لقيود محددة تتعلق بالممارسات الزراعية؛ هذا إن سُمح بها بالأساس. والتقنيات المستخدمة في كثير من الصناعات المتطورة كصناعة السيارات والطاقة والاتصالات عن بُعد تخضع هي الأخرى لضوابط كثيرة لأسباب تتعلق بالصحة والسلامة والأثر البيئي، أو لضمان إقبال كبير من جانب المستهلكين عليها. فعلى سبيل المثال، كانت المتطلبات القانونية المتعلقة بالانبعاثات وأحزمة الأمان والوسائد الهوائية من العوامل الرئيسية المؤثرة على التغير التكنولوجي في مجال صناعة السيارات.

في المقابل نحن ندعم أشكالًا عديدة من البحث والتطوير؛ لأننا على يقين بأنها تؤدي إلى انتشار إيجابي للمعرفة في مجال الاقتصاد برُمته. فتجيز الحكومات الاحتكار المؤقت في صورة براءات الاختراع، وذلك للتشجيع على الابتكار. وهي تموِّل الجامعات ومختبرات البحث، وتعمد إلى اتخاذ التدابير اللازمة للتأثير على اتجاه التطور التكنولوجي؛ فهي مثلًا تدعم التقنيات الخضراء (التي لا تضر بالبيئة) أكثر من غيرها؛ وهكذا لا يكون الحبل متروكًا على الغارب للتكنولوجيا أبدًا.10

وأخيرًا، أرى أن التشبيه الذي استخدمه هنري مارتن ومَن تبعه من المفكرين كان نافعًا؛ فالتجارة الحرة تشبه فعلًا التطور التكنولوجي. لكن لا ينبغي أن تدع فصاحة الكلام تخدعك، بل ينبغي أن نتعلم أمرًا ما من تدخُّلنا السافر في عملية التغير التكنولوجي؛ فلو كان علم الاقتصاد لا يهتم إلا بزيادة الربح إلى أقصى حد، لكان مجرد اسم آخر لإدارة الأعمال. إن علم الاقتصاد نظام «اجتماعي»، والمجتمع لديه طرق أخرى لحساب التكاليف بخلاف أسعار السوق.

لكن ما الذي يعنيه هذا تحديدًا بالنسبة إلى تطبيق السياسة التجارية؟ وما نوع القوانين التي ينبغي أن نطبقها؟ وكيف نمنع أنفسنا من الانزلاق إلى الحمائية المطلقة، ومن التحوُّل إلى مكافئين معاصرين لتابعي ند لود أثناء الثورة الصناعية، الذين تصدَّوْا لانتشار التقنيات الحديثة في مجال صناعة النسيج، ودمروا الأنوال المميكنة؟ لإجابة هذه الأسئلة، نحتاج إلى مزيد من البحث لفهم العواقب الاجتماعية للتجارة.

(٤) التجارة وتوزيع الدخل

إن الطلبة الجامعيين لا يتعلمون مكاسب التجارة من مارتن أو سميث أو ريكاردو، بل من رسم بياني يشكل نواة أي كتاب دراسي تمهيدي في علم الاقتصاد؛ إذ يرسم الأستاذ منحنيَين يُعبران عن العرض والطلب، ويشير إلى اتجاه أسعار السوق في حالة وجود التعريفة أو عدم وجودها، ثم يسأل إلى أي مدًى سيستفيد الاقتصاد من إلغاء التعريفة، ثم يظلل بعنايةٍ مساحات تمثل تأثُّر فئات مختلفة في المجتمع بزيادة الدخل ونقصانه على النحو التالي: مساحة «أ» تُعبر عن الخسارة التي تلحق بالمنتجين المتنافسين محليًّا، ومساحة «ب» تُعبر عن المكاسب التي تعود على المستهلكين المحليين، ومساحة «ج» تُعبر عما تخسره الحكومة من حصيلتها من عائدات التعريفات. ثم يسأل: كم «صافي» الربح الذي يعود على الاقتصاد؟ فيجمع ويطرح كل هذه المساحات بالطريقة المناسبة، ثم ها نحن أولاء نجد أنفسنا أمام مثلثَين يمثِّلان المكاسب التي تعود على الاقتصاد من التجارة — أو ما يعادلها من «خسارة باهظة» مترتبة على فرض التعريفة. ولهذا السبب تُعتبر التعريفات فكرة سيئة؛ وهكذا يتبين مدى ما نربحه في حالة إلغائها.

هذا شرح بارع، ولا بد أن أعترف أنني أيضًا أشعر بمتعة خاصة كلما شرحت هذه الاتجاهات؛ متعة استدراج المبتدئ للانضمام إلى القطيع. طبعًا لا حاجة لإرباك عقول الطلاب عند هذه النقطة بأن نشير لهم إلى أن منحنيَي العرض والطلب اللذين استخدمناهما لحساب «صافي» الأرباح ليسا بالضرورة هما المنحنيَين المناسبَين. إن جدولَي العرض والطلب يمثلان على التوالي: «الاستعداد للدفع» و«التكلفة الحدية»، للمستهلكين والمنتجين الأفراد في هذا السوق بعينه. لكن حينما يوجد فارق بين التقديرَين الاجتماعي والخاص، لا يكون أيٌّ من هذين الجدولَين دليلًا جيدًا لإرشادنا إلى القدر الذي يكون المجتمع على استعداد لدفعه أو إلى التكاليف التي يتجشمها المجتمع. ومع ذلك، حتى في غياب هذا الفارق تتضح من الشرح على السبورة نقطتان مهمتان.

الأولى: أن إعادة توزيع الدخل هي الوجه الآخر للأرباح من التجارة. فحينما تتسبب التجارة في انكماش أنشطة وتوسُّع أنشطة أخرى — وهذا أمر لا بد من حدوثه لحصاد كامل أرباح التجارة — تتضرر حتمًا الفئات التي يرتبط دخلها الاقتصادي بالقطاعات المنكمشة. ولا تكون هذه الخسائر مؤقتة. فمثلًا إذا كنتُ ماهرًا في مجال إنتاج الملابس تحديدًا، فسأعاني انخفاضًا دائمًا في دخلي حتى إذا نجحتُ في تجنُّب البقاء عاطلًا بلا عمل ووجدتُ عملًا آخر أؤديه. وتشير التقديرات في الولايات المتحدة إلى أن مثل هذه الخسائر في الدخل تتراوح بين ٨ و٢٥٪ من الأجر الذي كان يتقاضاه الفرد قبل تسريحه من عمله الأصلي.11 علاوةً على أن أي تكاليف يتكبدها الفرد مؤقتًا جرَّاء تغيُّر أوضاعه — مثل معاناته بطالةً مرحليةً أو انخفاضًا في دخله إلى دون المستوى الذي اعتاده — تُضاف إلى هذه الخسائر.
في هذا السياق تحديدًا يكمن سوء فهم شائع في النقاش العام حول مسألة التجارة؛ فمؤيدو حرية التجارة غالبًا ما يسلِّمون بأن بعض الأشخاص قد يتضررون على المدى القصير، لكنهم لا يفتئون يؤكدون أن أحوال الجميع (أو معظم الناس على الأقل) ستتحسن على المدى البعيد. في الواقع ما من شيء في علم الاقتصاد يضمن حدوث ذلك، بل إن قدرًا كبيرًا منه يفترض العكس. وثَمَّةَ استنتاج شهير مُستقًى من آراء وولفجانج ستولبر وبول صامويلسون يؤكد أن بعض الفئات حتمًا ستعاني جرَّاء حرية التجارة خسائر طويلة الأمد في الدخل.12 وفي بلد غني كالولايات المتحدة يكون أغلب المتضررين من العمال غير المهرة كالمتسربين من المدرسة الثانوية مثلًا.13 وهذا يُلقي ظلالًا من الريبة على مفهوم «مكاسب التجارة»؛ لأن من غير الواضح تمامًا كيف يمكن أن نحدد ما إذا كان البلد «كله» يتحسَّن حقًّا حينما يكسب بعض أفراده ويخسر بعضهم الآخر.
أضف إلى ذلك أن هذه الآثار التوزيعية المستمرة لا تكون موجودة في الكتب الدراسية المبسطة فحسب؛ فأدوات أي خبير اقتصادي في التجارة تشمل تشكيلة واسعة من نماذج التجارة المعقدة والمتطورة، وفي معظم هذه النماذج تولِّد التجارة صراعًا حاميَ الوطيس على توزيع الدخل.14 لكنَّ ثَمَّةَ حدْسًا جوهريًّا تشترك فيه جميع هذه المناهج: لما كانت إعادة هيكلة الاقتصاد تولِّد مكاسب تتعلق بالكفاءة، وتؤدِّي إلى التوسع في القطاعات ذات الميزة النسبية والانكماش في غيرها، فغالبًا ما تكون إعادة توزيع الدخل هي الوسيلة الضرورية لبلوغ مكاسب التجارة. ومؤيدو التجارة الذين يزعمون أن لها فوائد جمة وآثارًا توزيعية غير ملموسة إما أنهم لا يفهمون حقًّا كيف تعمل التجارة، أو مضطرون لِليِّ أعناق الحقائق من أجل دعم تماسك حججهم، بينما الحقيقة أبسط من ذلك: لا ربح من دون ألم.

والنقطة الثانية التي تتضح من الشرح في الصف الدراسي أقل وضوحًا من سابقتها، وغالبًا لا يميل الأستاذ إلى الخوض في تفاصيلها. لكن الطلاب المتيقظين أكثرَ من غيرهم يلاحظون أن مكاسب التجارة تبدو هزيلة للغاية إذا ما قورنت بما يحدث من إعادةٍ لتوزيع الدخل؛ فإلغاء التعريفة لا يسفر فقط عن مكسب بعض الناس وخسارة بعضهم الآخر، بل يضاف إلى ذلك أن ما يحدث من طوفان في إعادة توزيع الدخل ينزح في طريقه «صافيَ» الأرباح التي تحققت. وهذه نتيجة عامة للسياسة التجارية حينما تخضع للظروف الواقعية.

لتوضيح هذه النقطة، حسبتُ ذات مرة نسبة مكاسب إعادة التوزيع إلى الفعالية وفقًا للافتراضات القياسية التي يطرحها خبراء الاقتصاد حينما نتناول مسألة التجارة الحرة.15 كانت الأرقام الناتجة كبيرة جدًّا؛ بالغة الضخامة حقًّا بدرجةٍ دفعتني إلى إعادة حساب النسبة عدة مرات كي أتأكد من أنني لم أُخطئ الحساب. على سبيل المثال، في اقتصادٍ كاقتصاد الولايات المتحدة، حيث يقل معدل التعريفات عن ٥٪، سيُسفر التحوُّل إلى التجارة الحرة الكاملة عن إعادة توزيع أكثر من ٥٠ دولارًا من الدخل بين الفئات المختلفة مقابل كل زيادة مقدارها دولار واحد من المكاسب الفعلية أو «صافي» الأرباح المحققة!16 رجاءً اقرأ العبارة الأخيرة ثانيةً إذا كنت قد مررت بعينيك عليها سريعًا: إننا نتحدث هنا عن ٥٠ دولارًا من إعادة التوزيع مقابل كل دولار واحد من إجمالي الأرباح، وهذا يشبه ما يحدث لو أننا منحنا «س» من الناس ٥١ دولارًا زيادة على دخله، لنتسبب في إفقار «ص» من الناس بمقدار ٥٠ دولارًا دفعة واحدة!
والسبب الرئيسي وراء كوْن نسبة مكاسب إعادة التوزيع إلى الفعالية بالغةَ الضخامة هو أن التعريفات قليلة للغاية بالفعل في اقتصاداتنا المعاصرة. ولو كانت التعريفات تبلغ مثلًا ٤٠٪، لكانت النسبة التي حسبتها قاربت ٦٪.17 لكن حتى في هذه الحالة الأخيرة، ستكون إعادة التوزيع من «س» إلى «ص» كبيرة جدًّا. وطبعًا من غير المرجح أن نقبل بهذا القدر المفرط من إعادة توزيع الدخل في أيٍّ من مجالات السياسة الأخرى من دون أن نحظى، على الأقل، بشيء من الثقة في أن العملية تتماشى مع مفاهيمنا عن عدالة التوزيع.

وحينما نجد أنفسنا أمام مواقف كهذه قد يرغب معظمنا في معرفة المزيد. مثلًا: مَن «س» ومَن «ص» وماذا فعلا لإحداث هذا التغيير؟ وهل «ص» أفقر من «س» أم أغنى منه، وبأي قدر؟ وكيف يمكن أن يؤثر التصرف المقترح تنفيذه على الرجُلين وأسرتَيهما؟ وهل «ص» يتمتع بحق الوصول إلى شبكات الأمان وغيرها من برامج الضمان الاجتماعي الحكومية التي توفر تعويضات؟ في ضوء إجابات هذه الأسئلة لن يسفر التغيير عن انزعاج في بعض الحالات. فإذا تبيَّن أن «ص» غني، أو كسول أو غير مستحق على أي نحو، ومسئول مسئولية كاملة عن القرارات الحمقاء التي تسفر عن الخسارة، فمن المرجح أن ننظر بعين الرِّضَا إلى التغيير. لكن ماذا إذا لم يكن أيٌّ من هذه الأمور صحيحًا، وكان «س» قد تصرف على نحوٍ يعتبره الكثيرون غير أخلاقي؟

لا بد أن نطرح الأسئلة نفسها حينما نتناول التغييرات التوزيعية الكبرى التي تُسفر عنها التجارة. لكنَّ ثَمَّةَ سؤالين آخرين بالغَي الأهمية: هل ستكون المكاسب قليلة للغاية إذا ما قورنت بالخسائر التي يُحتمل أن تتكبدها الفئات المحدودة الدخل، أو غيرها من الفئات المحرومة التي ربما لا تحظى برعاية كافية من شبكات الأمان الحكومية؟ وهل ستتضمن التجارة حال تطبيقها داخل البلاد اتخاذ إجراءات من شأنها أن تخل بقواعد السلوك المتعارَف عليها على نطاق واسع أو بالعقد الاجتماعي، مثل تشغيل عمالة الأطفال، أو تضييق نطاق حقوق العمال، أو اللجوء إلى ممارسات تضر بالبيئة؟ إذا كانت إجابة هذين السؤالين بنعم، فستكون شرعية التجارة محل شك، وهذا أمر طبيعي. وستكون هناك حاجة إلى نقاش عام حول مسار التصرف الصحيح؛ الأمر الذي قد يُسفر في بعض الأحيان عن زيادة، لا قلة، التدخل في التجارة.

إن هذه الاعتبارات المتعلقة بكيفية تقييم التغييرات الاجتماعية الناجمة عن ضخامة التأثيرات التوزيعية تُلقي لنا مزيدًا من الضوء كي نتبيَّن السبب الذي يجعل تشبيه التجارة بالتطور التكنولوجي لا يقدم حجة محكمة في مصلحة التجارة الحرة. إننا كثيرًا ما نعتقد أن ظهور تكنولوجيا جديدة ناجم عن جهود أشخاص مبتكرين وشركات تلعب في ظل مجموعة عامة من القوانين. لكن إذا تفوَّقت الشركة «ج» على الشركة «د» بمنتج جديد أو عملية جديدة، فهذا لأن الشركة «ج» أنفقت مبلغًا أكبر على «البحث والتطوير»، أو انتهجت استراتيجية عمل أفضل، أو حالفها الحظ وحسب، وليس لأن الشركة «د» مقيدة بمجموعة قوانين مختلفة أكثر تكلفة. إن الإصرار على صحة هذا الافتراض يساهم في انحيازنا لمصلحة التطور التكنولوجي؛ لأنه يقلل قلقنا — إن لم يُلغِه تمامًا — بأن أرضية الملعب كانت أكثر ميلًا جهة اللاعب الخاسر.

التجارة الحرة مختلفة. تستطيع الشركات خارج البلاد أن تحظى بميزة تنافسية ليس فقط لأنها أكثر إنتاجية، أو نتيجة لوفرة العمالة (ومن ثَمَّ رخص سعرها)، بل أيضًا لأنها تمنع عمالها من المشاركة في المفاوضات الجماعية؛ فهم يُضطرون للقبول بمستوًى أدنى من معايير الصحة والسلامة، أو يتلقَوْن دعمًا من حكوماتهم. وهذه طريقة مهمة أخرى تعمل بها الاختلافات في التدابير المؤسسية بين البلدان على خلق معارضة وخلافات في التجارة الدولية.

الاختلاف الآخر أن التأثيرات السلبية لتطبيق التقنيات الحديثة تضر بالفئات المختلفة بمرور الوقت، بحيث يتسنَّى للمرء أن يؤكِّد أن أحوال معظم الناس، إن لم يكونوا جميعًا، تتحسن على المدى الطويل. صحيح أن صانع الشموع يخسر عمله بظهور المصباح الكهربي وأن صانع العربات يَلقى المصير نفسه بظهور صناعة السيارات، لكن كلًّا منهما يستفيد من التطور الآخر. أضِفْ هذين التطورين إلى كل التطورات الأخرى، واتركها لتتراكم عبر الزمن، وستكتشف أن أحوال الجميع تتحسن في نهاية الأمر. على النقيض من ذلك، تؤثر التجارة على الأشخاص أنفسهم مرارًا وتكرارًا، فإذا كنت شخصًا محدود المهارة، ولم تنلْ قسطًا كافيًا من التعليم، ولا تتمتع بما يلزم من المرونة والنشاط، فستُشكِّل التجارة الدولية وبالًا عليك طوال حياتك. ومن الأصعب كثيرًا في هذه الحالة أن يقول المرء إن الأحوال ستتحسن في نهاية الأمر.

وأخيرًا، في حال انخفاض مستوى الحواجز التي تعترض سبيل التجارة، ستثار قضية أخرى؛ إذ حتى لو كان التغير التكنولوجي يؤدِّي إلى إعادة توزيع، فهو لن يقيِّد نفسه بنفسه. لقد كانت التكنولوجيا مصدرًا للتطور الاقتصادي البشري منذ الثورة الصناعية، وما من سبب يدفعنا إلى أن نشك في أنها لن تظل كذلك في المستقبل. في المقابل، تعمل المكاسب التي تتحقق جراء إزالة القيود المفروضة على التجارة على تقليل العائدات كلما اكتسبت التجارة حرية أكثر فأكثر؛ لأن التأثيرات التوزيعية تشرع في التضخم أكثر فأكثر. وتشير معظم التقديرات التي أُجريت مؤخرًا إلى أن «إجمالي» مكاسب الولايات المتحدة من التحرك العالمي إلى حرية التجارة يبلغ العُشر من ١٪ (٠٫١٪) من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي.18 لا شك في أن بعض المصالح المرتبطة بالتصدير ستستفيد استفادة كبرى؛ لكن الخسائر التي ستلحق بآخرين ستكون أيضًا كبيرة نسبيًّا على نحوٍ ملحوظ. وكلما زاد انفتاح الاقتصاد، ساءت نسبة إعادة التوزيع إلى الفعالية. وتبدو نسبة التكلفة إلى الفائدة على صعيدَي السياسة والمجتمع شديدة الاختلاف حينما تكون التعريفة ٥٪ بدلًا من ٥٠٪. ومن صميم علم اقتصاد التجارة أن التماديَ المفرط في حرية التجارة أمر في منتهى الصعوبة؛ لأنه يؤدِّي إلى تسريح عدد كبير من الأفراد ومكسب عام هزيل. ولا وجود لآلية مماثلة تستنفد نفسها على هذا النحو في حالة التطور التكنولوجي.

ومن ثَمَّ فإن المثلثات التي يرسمها خبراء الاقتصاد وتشبيههم التجارة بالتطور التكنولوجي لا تشكِّل إلا نقطة بدء لحديث لا نهاية له. صحيح أن الاهتمام بالعدالة وتدابير تحقيق الإنصاف قد تعقد من بساطة (أم تراها ضحالة؟) الحجة الداعمة لتحقيق المكاسب من التجارة، غير أنها تساعدنا على فهم السبب في أن التجارة غالبًا ما تكون مسألة جدلية للغاية. ومقاومة حرية التجارة لا تُعزى فقط إلى ضيق المصالح الذاتية أو الجهل، على الأقل ليس دائمًا.

والأهم من ذلك أن هذا المنظور الأوسع يساعدنا أيضًا على التمييز بين الحمائية الصرفة والمعارضة المشروعة والمبررة لحرية التجارة. وأي حجة محكمة لدعم حرية التجارة يجب أن تجتاز واحدة على الأقل من العقبتين السابقتين، ألا وهما: أن المكاسب الاقتصادية من حرية التجارة تظل دائمًا صغيرة إذا ما قورنت بما تُحدثه من «تكاليف» توزيعية، وأن التجارة يجب أن تستتبع ممارسات تخل بالمعايير السائدة والعقد الاجتماعي داخل الوطن. فقد تنجح عمليات إعادة التوزيع التي تعود بصافي مكاسب ضخم ولا تخرق الأساليب المتعارَف عليها لممارسة الأعمال في نيل القبول، أما تلك التي ترسُب في هذين الامتحانين فتتطلب مزيدًا من البحث. تذكر هذين المبدأين؛ لأننا سوف نستخدمهما كلَبِنَتَي بناء لإصلاح النظام الاقتصادي العالمي.

(٥) ما لن يخبرك به خبراء الاقتصاد

إليكم تجربة مثيرة آمل أن يجريَها أي مراسل صحفي، وهي كما يلي: أن يتصل هاتفيًّا بخبيرة في الاقتصاد، ويقدم نفسه على أنه صحفي، ثم يسأل الخبيرة عن رأيها حول ما إذا كانت حرية التجارة مع البلد «س» أو «ص» فكرة جيدة. نستطيع أن نتوقع بدرجة كافية من التأكيد نوعية الرد الذي سيحصل عليه الصحفي؛ إذ سترد الخبيرة بلا تردد: «حسنًا، إن حرية التجارة فكرة رائعة.» وقد تردف قائلة: «والذين يعارضونها إما أنهم لا يدركون مبدأ الميزة النسبية، أو أنهم يمثلون المصالح الأنانية لجماعات ضغط بعينها (كالنقابات العمالية).»

ثم ليرتدِ الصحفي نفسه ملابس غير رسمية مجعدة كتلك التي يرتديها عادة طلاب الاقتصاد، وليدخل إلى إحدى الحلقات الدراسية المتقدمة عن نظرية التجارة الدولية في أيٍّ من الجامعات المرموقة في الدولة، ثم يطرح السؤال نفسه على أستاذتنا خبيرة الاقتصاد: هل حرية التجارة جيدة؟ أشك أن تأتيَ إجابة السؤال سريعة وقاطعة هذه المرة أيضًا. على الأرجح سيعتري الأستاذة جراء هذا السؤال تردد وارتباك. وقد ترد متسائلة: «ماذا تعني بكلمة «جيدة»؟» «جيدة لمن؟» وإذا بدت أمارات الحيرة على الصحفي (الطالب)، فستردف قائلة: «كما سنرى لاحقًا في هذه المادة أن في معظم ما لدينا من نماذج تؤدِّي حرية التجارة إلى تحسُّن أحوال بعض الفئات وتَردِّي أحوال بعضها الآخر.» وإذا قوبل هذا التصريح بنظرات تحمل خيبة الأمل، فستستطرد موضحة: «لكن في ظل بعض الظروف، وعلى افتراض أننا نستطيع فرض ضرائب على المستفيدين وتعويض المتضررين، «قد» تؤدي زيادة حرية التجارة إلى زيادة رفاهية الجميع.»

وهكذا تكون الأستاذة قد بدأت عملية الإحماء تأهبًا للحديث في الموضوع. وستستأنف قائلة: «لاحظوا كيف قلت «في ظل بعض الظروف»، ويمكن أن يتضمن الامتحان سؤالًا يطلب منكم ذكر هذه الظروف؛ لذا أرجو أن تنتبهوا جيدًا حالما نأتي على ذكرها بالتفصيل.»

إذا لم يكن حلم حياتك أن تصبح خبير اقتصاد حاصلًا على درجة الدكتوراه، فلن يقدم لك ما ستسمعه لاحقًا ما يسرك (أو يمنحك معلومات تهمك). ومع ذلك، يجب أن أذكر إجابة الأستاذة تفصيليًّا؛ لذا سأعرضها برمتها بخط صغير للغاية. إليكم شكل قائمة الشروط المسبقة التي ستسردها الأستاذة:

لا بد أن يكون تحرير الاستيراد كاملًا، يشمل كافة السلع والشركاء التجاريين، وإلا، فإن الحد من القيود المفروضة على الواردات لا بد أن يأخذ في الحسبان الهيكل المحتمل الشديد التعقيد فيما يتعلق بإمكانية استبدال السلع المحظور استيرادها والتعويض عن نقصانها؛ (لذا، من غير المرجح في الواقع أن تلبيَ أي اتفاقية تجارية منشودة مع شريك تجاري أو أكثر هذا الشرط.) ويجب أن تخلوَ سوق الاقتصاد الجزئي من أي عيوب باستثناء القيود التجارية التي ذكرناها، أما إذا كانت تتضمن بعض العيوب، فيجب ألا تكون ثاني أفضل المعاملات المترتبة على ذلك شديدة السلبية. ويجب أن يكون الاقتصاد الوطني «صغيرًا» في الأسواق العالمية، أما إذا لم يحدث ذلك، فيجب ألا يتسبب التحرير في تعريض الاقتصاد للجانب الخطأ من «التعريفة المثلى». ويجب أن يعمل الاقتصاد بكامل طاقته المنشودة، وإذا لم يحدث هذا، فيجب أن يكون لدى الهيئتين النقدية والمالية وسائل فعالة لإدارة الطلب. وينبغي ألا يذهب المجتمع بوجهٍ عام إلى أن آثار إعادة توزيع الدخل الناجمة عن التحرير غير مرغوبة، أما إذا كانت كذلك، فيجب أن توضع أنظمة ضمان تعويضية معتمدة على فرض ضرائب لا تشكِّل عبئًا زائدًا عن الحد. ويجب ألا يعانيَ الرصيد المالي من أي تأثيرات عكسية، أما إذا حدث هذا، فيجب أن تكون هناك أساليب بديلة وملائمة للاستعاضة عن خسارة العائدات المالية. ويجب أن يلقى التحرير الدعم السياسي؛ ومن ثَمَّ، يكون مضمونًا بدرجة لا تجعل العملاء الاقتصاديين يخشَوْن أو يتوقعون أي فشل.

في هذه اللحظة تشعر الأستاذة برضًا كاملٍ عن نفسها؛ لأنها تمكَّنت للتوِّ من أن توضح لطلبتها ليس فقط مدى التعقيد الذي تتسم به الأسئلة الاقتصادية التي تبدو بسيطة، بل أيضًا كيف يمكن أن يُلقيَ علم الاقتصاد الضوء (إن كان هذا هو الوصف المناسب للرطانة السابقة!) على الإجابات.

لن يكون الصحفي (الطالب) قد تمكَّن من فهم أكثر هذا الكلام، لكنه على الأقل حصل على إجابة. وقد يحدوه الأمل فيسأل: «حسنًا، إذا فرضنا أن هذه الشروط السابقة قد توافرت، فهل نستطيع أن نضمن أن تؤديَ زيادة حرية التجارة إلى تحسين أداء اقتصادنا وارتفاع نسبة نموه؟» سترد الأستاذة على ذلك: «أوه، لا! مَن ذكر أي شيء عن النمو؟ إن ما ورد ذكره فقط هو المتطلبات اللازمة لزيادة «مستوى» إجمالي الدخل الحقيقي. أما الحديث عن النمو تحديدًا فذلك أمر أصعب بكثير جدًّا.» وربما تقدم التفسير التاليَ بوجهٍ تملؤه ابتسامة اعتداد:

في نماذجنا القياسية التي تتضمن تغيرًا تكنولوجيًّا خارجي المنشأ وانخفاضًا في مكاسب عوامل الإنتاج القابلة للتكرار (كالنموذج الكلاسيكي الجديد للنمو مثلًا)، لا يُحدث تقييد التجارة تأثيرًا على النسبة الطويلة الأمد (حالة الاستقرار) لنمو الناتج. وهذا يحدث حتى لو لم تخلُ السوق من العيوب. لكن قد تكون هناك تأثيرات على النمو أثناء الانتقال إلى حالة الاستقرار. (هذه التأثيرات المرحلية قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية وفقًا لكيفية تأثُّر المستوى الطويل الأمد للإنتاج بتقييد التجارة.) وفي النماذج التي تتضمن نموًّا داخليًّا ناجمًا عن عدم انخفاض مكاسب عوامل الإنتاج القابلة للتكرار، أو عن التعلم بالمحاولة وغيره من أشكال التغير التكنولوجي الداخلي، يفترض أن يؤديَ تراجُع تقييد التجارة إلى الازدهار في نمو الإنتاج على مستوى الاقتصاد العالمي ككل. لكن قد تعاني مجموعة فرعية من البلدان انخفاضًا في النمو، بدرجة تتوقف على مدى ما كانت تتمتع به مبدئيًّا من ثروات طبيعية ومستويات تطور تكنولوجي. الأمر يتوقف على ما إذا كانت قوى الميزة النسبية تجتذب الموارد إلى الأنشطة والقطاعات التنموية، أو تبتعد عنها.

حالما ترى الأستاذة التعبير الذي سيظهر على وجه الطالب، قد تضيف رغبةً منها في مد يد المساعدة: «أعتقد أنك ينبغي أن تأتيَ إلى مكتبي خلال ساعات الدوام لنناقش كل هذه الأمور.»

لست بحاجة عزيزي القارئ لأن تقرأ الفقرتين المطبوعتين بخط صغير أعلاه، لكن إذا كنت قد استنتجت أن الإجابة في الحلقة الدراسية مختلفة تمام الاختلاف عن الإجابة عبر الهاتف، فأنت على حقٍّ تمامًا؛ فقد تحوَّل التأكيد المباشر والقاطع لفوائد التجارة إلى كلام منمَّق مليء بكل أشكال «لكن» و«إذا». لكن المعرفة التي تقدمها الأستاذة طواعية بكثير من الكبرياء لطلبتها رفيعي المستوى تشكل خطورة بالغة على نحوٍ ما عند الحديث إلى الجمهور العادي؛ حيث يجب التغاضي عن مقومات غرفة الدرس خشية أن «يَشرُد» الجمهور.

لطالما خشيت انقطاع هذا الاتصال. وطوال عملي في البحث، لم يحدث قط — حسنًا، تقريبًا قط — أن شعرت بالضيق أو الضغط إزاء الحرص على عدم انقطاع خط الاتصال بيني وبين الآخرين. إن خبراء الاقتصاد الأكاديميين يكافَئون لقاء تفكيرهم الحر وإبداعهم، وذلك يتضمن اكتشاف مختلِف طرق انهيار الأسواق، وصياغة حجج جديدة للتدليل على أن تدخُّل الحكومة في الاقتصاد من شأنه أن يؤديَ إلى تحسن الأحوال.19 لكن ما لم تكن أنت نفسك حاصلًا على درجة الدكتوراه، فمن غير المرجح أن تتعرض لأيٍّ من هذا الثراء والتنوع. لكن على المستوى العام، يمكن اللجوء دائمًا إلى خبراء الاقتصاد لترديد كلمات الإشادة نفسها المكررة بِاسم حرية التجارة.
وحينما يكتشف خبراء الاقتصاد الهوة بين ما يُدرِّسونه للطلبة وما يعظون به، يَلجئون إلى عدد من الحجج الواهية. وإليك قائمة كاملة بما يمكن أن تسمعه:
  • (١)

    عمليًّا ستؤدي حرية التجارة على المدى الطويل إلى تحسُّن أحوال معظم الناس، تمامًا كما يفعل التطور التكنولوجي.

  • (٢)

    حتى إذا تسببت التجارة في حدوث أزمات، فأفضل أسلوب للتعامل مع هذه الأزمات يكون من خلال تطبيق سياسات أخرى لا من خلال فرض القيود على التجارة.

  • (٣)

    حتى إذا خسر بعض الناس، فمن الممكن تعويضهم عن خسائرهم؛ وبذلك تتحسن أحوال الجميع.

  • (٤)

    ليست حالة حرية التجارة مجرد مسألة اقتصادية؛ فهي أخلاقية أيضًا وتتعلق بحرية الناس في اختيار من يرغبون إجراء صفقات أعمال معه.

  • (٥)

    الأفكار المناهضة للتجارة الحرة سائدة بما يكفي؛ لذا فإن مهمتنا هي أن نقدِّم للناس وجهة النظر الأخرى.

  • (٦)

    سيسارع دعاة مبدأ الحمائية باستغلال محاذير التجارة لأغراضهم الخاصة.

  • (٧)

    أضِفْ إلى ذلك أن المعلومات والتفاصيل الدقيقة سوف تؤدِّي إلى إرباك الناس.

لكن لا حجة من هذه الحجج تبدو سديدة بدرجة تقترب من مستوى الدقة الذي يراعى في شرح النظريات القياسية للتجارة، ولا مقنعة على نحوٍ استثنائي.

وقد عاب روبرت دريسكل، عالم الاقتصاد بجامعة فاندربيلت، على خبراء الاقتصاد هذه الحجج الواهية في عملٍ رائع له حمل عنوان «تحليل حجة التجارة الحرة»، عرض فيه قائمة مطولة من الأمثلة المستمدة من أهم كتب علم الاقتصاد وأشهر المقالات التي يستنتج فيها خبراء الاقتصاد من دون تكلُّف أن حرية التجارة «مصلحة للدولة» دون أن يوضِّحوا كافة المصاعب الأخلاقية والفلسفية التي ينطوي عليها ذلك. يقول دريسكل ساخرًا إن هذه الكتابات ترى أن خبراء الاقتصاد، بطريقةٍ ما، «قد توصلوا إلى حل التناقض المتمثل في معرفة ما هو في مصلحة المجتمع على الرغم من أن بعض أعضاء ذلك المجتمع قد تضرر بالفعل.»20 وقال إنهم «ما عادوا يفكرون على نحوٍ انتقادي في هذه المسألة؛ ومن ثَمَّ، يصوغون حججًا هزيلة لتبرير ما يُجمعون عليه.» وإن معظم ما كتبه خبراء الاقتصاد عن مكاسب التجارة ليس «تقييمًا متوازنًا للبراهين أو تقديرًا انتقاديًّا للسلبيات والإيجابيات»، بل هو أقرب ما يكون إلى «مرافعة دفاع حماسية». والهدف من ذلك هو الإقناع لا تقديم المعلومات التي تمكِّن القارئ من تكوين رأيٍ واعٍ.21 ويقول دريسكل إن خبراء الاقتصاد ينبغي أن يعرضوا الأمر من جميع جوانبه، لا أن يقدموا أحكامهم التقديرية على أنها نتاج البحث العلمي.

لماذا تتشوش عقول خبراء الاقتصاد التحليلية عندما يتحدثون عن السياسة التجارية في العالم الواقعي؟ جزء من هذا يُعزى إلى أنهم يعتبرون الميزة النسبية درة تاج علم الاقتصاد، والتخلي عنها مبعث معاناة شديدة. وجزء آخر ناجم عما أسميها: متلازمة «الهمج على الأبواب». فخبراء الاقتصاد متخوفون من أن يتسبب تصريحهم على الملأ بأي شكوك في فوائد حرية التجارة في تقوية شوكة «الهمج» الذين لا يهتمون بالآراء المستنيرة الدقيقة، بل بالضغط لتحقيق أجنداتهم المنحازة لفكر «الاقتصاد الموجَّه». ولا شك في أن جزءًا آخر من هذا يُعزى إلى الأيديولوجية؛ فعلى الرغم من أن كثيرًا من خبراء الاقتصاد لا يعتبرون أنفسهم محافظين سياسيًّا، يغلب على أفكارهم الانحياز إلى المتحمسين لحرية السوق لا إلى دعاة مبدأ التدخل.

والإجماع الذي يبديه خبراء الاقتصاد على أفضلية حرية التجارة لا يتكرر في مجالات أخرى للسياسة الاقتصادية؛ إذ تتباين آراؤهم حينما يتعلق الأمر باتجاهات مهمة للسياسة المحلية كالصحة أو التعليم أو الضرائب. أما بالنسبة إلى العولمة فقد كان على المرء حتى وقتٍ قريب أن يبحث جاهدًا كي يجد عالِمًا في أيٍّ من الجامعات الكبرى يُدلي بردٍّ يخالف الرد النموذجي. فحينما عرض دريسكل بحثه للنشر في المجلات الاقتصادية المتخصصة قوبل بسلسلة من الرفض؛ فقد شعر رؤساء التحرير أن حجج دريسكل لم تُضِفْ الكثير من الأهمية لمؤلفات علم الاقتصاد أو أبحاثه. وكانوا على حق بالطبع؛ فالنقاط التي تناولها (والتي تناولتُها) بشأن إشكاليات قضية التجارة معروفة جيدًا داخل الوسط المهني الاقتصادي. لكن المشكلة أن خبراء الاقتصاد يخفونها كما لو كانت أسرارًا قومية، وينظرون إلى أولئك الذين يريدون إطْلاع الجمهور العادي عليها على أنهم مارقون.

حينما يبالغ خبراء الاقتصاد في الإشادة بالعولمة بتقديم نموذج منقوص لها، فإنهم بذلك لا يهدرون فرصة لتثقيف الجمهور فحسب، بل أيضًا يخسرون من مصداقيتهم. ويصبحون في نظر الناس مدافعين موالين أو أبواقًا مأجورة لدى أعضاء «النخبة العديمة الوطنية» الذين لا همَّ لهم إلا إزالة العراقيل التي تعيق عملياتهم الدولية. لم يكن الأمر سيبدو بهذا السوء لو لم يكن الدور الذي يلعبه الاقتصاد بالغ الأهمية؛ فلو كان علم الاقتصاد يطبَّق بقدر جيد من المنطق لأهَّلَنا لمواجهة الأخطاء التي عانيناها في العولمة، ولو كان التحليل الاقتصادي يُستخدم على النحو الصائب لكان بمقدوره أن يوجِّهنا في الاتجاه الصحيح نحو الإصلاحات اللازمة. إن تحقيق توازن أفضل بين الدول والأسواق — أي عولمة أفضل — لا يعني أن نطرح جانبًا علم الاقتصاد التقليدي، بل يتطلب في الواقع أن نوليَه مزيدًا من الاهتمام. وعلم الاقتصاد الذي نحتاجه هو النوع الذي يلقَّن في «قاعة المحاضرات»، لا النوع الذي يُستقى «بالخبرة»، علم اقتصاد يعرف حدوده ومحاذيره ويدرك أن إيصال الرسالة يعتمد على السياق. والفقرتان المطبوعتان بخط صغير هما «تحديدًا» ما يتعين على خبراء الاقتصاد إيصاله للجميع. آمل بنهاية هذا الكتاب أن يتفق معي القارئ في أن نشر هذا النوع من علم الاقتصاد ممكن، وأن تتحسن نظرته إلى علم الاقتصاد (حتى لو لم يتضمن ذلك نظرته لخبراء الاقتصاد).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤