التربيع والتدوير

قال عمرو بن بحر الجاحظ:

كان أحمد بن عبد الوهاب مُفرِط القِصَر، ويدَّعِي أنه مُفرِط الطول، وكان مُربَّعًا، وتَحْسَبه لِسَعةِ جُفْرته واستفاضة خاصرته مُدوَّرًا، وكان جَعْد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدَّعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيقُ الوجه، أخمصُ البطن معتدلُ القامة، تامُّ العظم، وكان طويلَ الظهر، قصير عظم الفَخِذ، وهو مع قِصَر عظم ساقه، يدَّعي أنه طويل الباد رفيعُ العماد، عاديُّ القامة، عظيمُ الهامة، قد أُعطي البَسْطة في الجسم والسَّعة في العلم، وكان كبير السنِّ، مُتقادِم الميلاد، وهو يدَّعي أنه معتدلُ الشباب، حديثُ الميلاد.

وكان ادعاؤُه لأصناف العلم على قَدْر جهله بها، وتكلُّفُه للإبانة عنها، على قدر غباوته عنها، وكان كثير الاعتراض لهجًا بالمراء، شديد الخلاف، كلِفًا بالمجاذبة، مُتتايِعًا في العُنود، مؤثرًا للمغالبة، مع إضلال الحُجَّة، والجهل بموضع الشُّبهة، والخطرفة عند قصر الزاد والعجز عند التوقُّف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء ومغبَّة فساد القلوب، ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهو، وما في المعاندة من الإثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في التغالُب من فُقْدان الصواب.

وكان قليل السَّماع غُمْرًا وصُحُفيًّا غُفْلًا، لا ينطق عن فِكر ويثق بأول خاطر، ولا يفصل بين اعتزام الغُمْر واستبصار المُحِق، يعُدُّ أسماءَ الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلَّق منهم بسبب؛ وليس في يده من جميع الآداب إلَّا الانتحال لاسم الأدب.

فلما طال اصطبارُنا حتى بلغ المجهود منا وكِدنا نعتاد مذهبه ونألفُ سبيله، رأيت أن أكشِف قناعه، وأُبْدي صفحته للحاضر والبادي، وسُكَّان كلِّ ثغْر وكلِّ مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ فيها، وأُعرِّفُ الناس مقدارَ جهله، ولْيسأله عنها كلُّ مَن كان في مكة ليكفُّوا عنَّا من غَرْبه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به.

كأنه لم يسمع بقولهم: «من جادلَ قاتلَ.» ولم يسمع بقولهم: «عادِ مَن لا حاك.» ولم يسمع بقولهم: «الخلاف شر.» ولم يسمع بقولهم: «إذا عزَّ أخوك فَهُنْ.» ولم يسمع بقول النبي في السائب بن صيفي: «هذا شريكي الذي لا يُشاري ولا يُماري.» ولا بقول عثمان: «إذا كان لك صديقٌ فلا تُمارِه ولا تُشارِه.» ولا بقول ابن أبي ليلى: «لا أُماري أخي، فإما أن أُكَذِّبه وإما أن أُغضبه.» ولا بقول ابن عُمر: «لا يُصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو مُحِقٌّ.»

وكأنه لم يسمع بقول الشاعر:

خِلافًا علينا من فَيَالة رأيهِ
كما قيلَ قبلَ اليوم «خالِف فتُذْكَرا»

ولم يسمع بقول الأول:

«رآهُ مُعدًّا للخلاف» … البيت.

ولا بقول الآخر:

لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلافِ
كثيرُ المراء قليلُ الصوابِ
ألجُّ لجاجًا من الخُنْفساء
وأزهى إذا ما مَشَى من غُرابِ

وقالوا: «فلان أخلفُ مِن بول الجمل.» ولذلك قال الشاعر:

وأخلفُ من بولِ البعيرِ فإنه
إذا قيل للإقبال «أقْبِل» فأدْبرا

قال رجل لزهير البابي: «أين نبتَ المراء؟» قال: «عند أصحاب الأهواء.» وقال عمر بن عبد العزيز: «من جعل دينه غَرَضًا للخصومات أكثرَ التنقُّل.» وكان عمر بن هُبَيرة يقول: «اللهم إني أعوذ بك من المراء وقِلَّة خيره، ومن اللجاج وتندُّم أهله!» وقال بعض المذكورين: «اللهم إنا نعوذ بك من المراء وقلة خيره، وسوء أثره على أهله؛ فإنه يُهلِك المروءة، ويُذهِب المحبة ويُفسِد الصداقة، ويُورِث القسوة ويُضرِّي على القِحَة، حتى يصير الموجز خَطِلًا، والحليم نزِقًا، والمتوقِّي خبوطًا، والصدوق كذوبًا.»

والمراء من أسباب الغضب وأقرب ما يكون الرجل من غضب الله إذا غضِب، كما أنه أقرب ما يكون من رحمة الله إذا سجد، لقول الله عز وجل: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، وقال لقمان لابنه: «إياك والمراء، فإنه لا تُعقَل حكمته، ولا تؤمن لعجتُه.» وقال آخر: «المراء غضْبة، والصمت حكمة، ولو كان المراء فحلًا والفخر أُمًّا، ما ألْقحَا إلَّا الشر.» وقال الشعبي: «إني لأستحيي من الحق أن أعرفه ثم لا أرجع إليه.» وقال ابن عُيينة: «قال الحَسَنُ: ما رأيتُ فقيهًا قطُّ يداري ولا يماري، إنما ينشر حكمته؛ فإن قُبِلت حَمِد الله، وإن رُدَّت حَمِد الله.» عن إبراهيم بن إسماعيل بن عائذ عن المبارك بن سعيد قال: «قال مُجاهد: صَحِبت رجلًا من قريش ونحن نُريد الحج، فقلت له يومًا: هلمَّ نتفاتَح الرأي، فقال: «دَع الودَّ كما هو.» فعلمت والله أن القرشي قد غَلَبني!» وقال إسحاق الموْصِلي: «كثرة الخلاف حرب، وكثرة المتابَعة غِشٌّ.»

•••

أطال الله بقاءك وأتمَّ نعمته عليك وكرامته لك، قد علمتُ — حَفِظك الله — أنك لا تحسُد على شيء حَسَدَك على حُسْن القامة وضِخَم الهامة، وعلى حَوَر العين، وجودة القدِّ وعلى طيب الأحدوثة والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلَف ومعانيك التي بها تلهَج، وإنما يحسُد — أبقاك الله — المرءُ شقيقَه في النَّسَب وشبيهه في الصناعة ونظيره في الجوار، على طارف قدْره، أو تالِد حظِّه، أو على كَرَم في أصل تركيبه ومجاري أعراقه، وأنت تزعُم أن هذه المعاني خالصةٌ لك مقصورةٌ عليك، وأنها لا تليق إلَّا بك، ولا تحسُن إلَّا فيك، وأنَّ لك الكلَّ وللناس البعض، وأن لك الصافي ولهم المَشوب، هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه.

فما هذا الغيظ الذي أنْضَجَك؟ وما هذا الحسد الذي أكمدك؟ وما هذا الإطراق الذي قد اعْتَراك؟ وما هذا الهمُّ الذي قد أضناك؟ وهل رأيت أخْسَرَ صفقةً، ولا أوهن قوة مِمَّن يجري العِتاق مع الكوادن، والروائع مع الحواسر؟ ومِمَّن حاكم من يسالمه، وجاذب من يقلده؟ وهل رأيتَ مكينًا يقلق ومصنوعًا له يسخط؟ وهل زِدتَّ على أن أطمعت في نفسك، ومكَّنت للشبهة في أمرك، وأنشأت للخامل ذكرًا، وللوضيع قدرًا؟

إنك لا تعرفُ الأمور ما لم تعرفْ أشباهها ولا عواقبها ما لم تعرف أقدارها، ولن يعرفَ الحقَّ من يجهل الباطِل، ولا يعرف الخطأ من يجهل الصواب، ولا يعرف الموارد من يجهل المصادر، فانظر لمَ تسالمت النفوس مع تفاوُت منازلها، ولمَ تجاذبت عند تقارُب مراتبها، ولمَ اختلف الكثير واتَّفق القليل، ولمَ كانت الكثرة عِلَّة التخاذُل والقِلَّة سببًا للتناصُر، وما فرقُ ما بين المجاراة والتحاسد وبين المنافسة والتغالب؛ فإنك متى عرفت ذلك استرحت منَّا ورجونا أن نستريح منك!

وكيف يعرف السبب من يجهل المسبِّب؟ وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل؟ بل كيف يعرف الحجة من الشبهة والغدر من الحيلة، والواجب من الممكن، والغُفْل من الموسوم، والمعقول من الموهوم، والمحال من الصحيح والأسرار المجهولة من ذوات الدلائل الخفية، وما يُعلَم مما لا يُعلَم، وما يُعلَم باللفظ دون الإشارة مما لا يُعلَم إلَّا بالإشارة دون اللفظ، وما يُعلَم معتقدًا ولا يُعلَم يقينًا مما يُعلَم يقينًا ولا يُعلم معتقدًا، وما المستغلق الذي لا يجوز أن يفارقه استغلاقه والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه؟

ومَن هو طائر مع العوام حيث طارت وساقطٌ معها حيث سقطت، مع الزِّراية عليها والرغبة عنها، قد ظلَمَها بفضل ظُلمه لنفسه وجرى معها بقدر مناسبتها لقدره؛ فاعرف الجنْس من الصنف والقسْمَ من النصْف، وفرْقَ ما بين الذمِّ واللوم، وفصْلَ ما بين الحمد والشكر، وحدَّ الاختيار من الإمكان، والاضطرار من الإيجاب، وسنعرِّفك من جُملة ما ذكرنا بابًا أنت إليه أحوَج وهو علينا أرد.

•••

اعلم أن الحسد اسمٌ لما فَضَلَ عن المنافسة، كما أن الجُبن اسمٌ لما فضل عن التوقِّي، والبخل اسمٌ لما قصر عن الاقتصاد، والسَّرَف ما جاوز الجود، وأنت — جُعلتُ فداك — لا تعرف هذا، ولو أدخلتُك الكُور ونفختُ عليك إلى يوم يُنفَخ في الصُّور.

وهل في الأرض إقرارٌ أثبت ودليلٌ أوضح وشاهد أصدق من شاهدي على ما ادَّعيتَ لنفسك من الرِّفعة، مع ما ظهر من حسدك لأهل الضَّعة؟ وهل تكون بعد ذلك إلَّا فاسد الحسِّ ظاهرَ العنود، أو جاهلًا بالمحال؟

وبعدُ، فأنت — أبقاك الله — في يدك قياسٌ لا ينكسر، وجوابٌ لا ينقطع، ولك حدٌّ لا يُفلُّ، وغربٌ لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تُنسَب، ومذهبُك الذي إليه تذهب، أن تقول: «وما عليَّ أن يراني الناس عريضًا وأكون في حُكمهم غليظًا، وأنا عند الله طويلٌ جميل، وفي الحقيقة مقدود رشيق!» وقد علموا — أبقاك الله — أن لك مع طول الباد راكبًا طولَ الظهر جالسًا، ولكن بينهم فيك، إذا قُمتَ، اختلافٌ وعليك لهم، إذا اضطجعتَ، مسائل.

ومن غريب ما أُعطيتَ، وبديع ما أُوتِيتَ، أنَّا لم نرَ مقدودًا واسِعَ الجُفْرة غيرَك، ولا رشيقًا مستفيض الخاصِرة سواك، فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب! فيا شعرًا جمع الأعاريض، ويا شخصًا جمع الاستدارة والطول!

بل ما يُهمُّك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عَرْضك قد أدخلت الضَّيم على ارتفاع سَمْكك، وأن ما ذهب منك عرْضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا، ولئن اختلفوا في طولك، لقد اتفقوا في عرضك؛ وإذ قد سلَّموا لك بالرغم شطرًا ومنعوك بالظلم شطرًا، فقد حصلتَ ما سلَّموا، وأنت على دعواك فيما لم يسلِّموا، ولعمري إن العيون لتُخطئ، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلَّا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلَّا للعقل؛ إذ كان زمامًا على الأعضاء، وعِيارًا على الحواس.

ومما يُثبت أيضًا أن ظاهر عرْضك مانعٌ من إدراك حقيقة طولك، قولُ أبي دُؤاد الإيادي في إِبِله:

سَمِنَتْ واسْتَحَشَّ أَكْرُعُها
لا النِّيُّ نِيٌّ ولا السَّنامُ سَنامُ

وقولُ رافع بن هُرَيْم:

أدق شواها عند بُهْرة جَوْفها
سَنامٌ كقصْر الهاجري مُقَرْمد

ولو لم يكن فيك من العجب إلَّا أنك أول من تعبَّدَه الله بالصبر على خطأ الحسِّ، وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنتَ في طولك آيةً للسائلين، وفي عرضك منارًا للمضلِّين.

وقد تظلَّم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد، ومن القصير مثل أحمد؛ إذ زعم محمد أنه إنما أفرط في الرشاقة، ونُسِب إلى القضافة؛ لأن إفراط طوله غمَرَ الاعتدال من عرضه، وزعم أحمد أنه إنما أفرط في العرض، ونُسِب إلى الغِلَظ؛ لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله، وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار، ويفتقر إلى الاعتلال، والمربوع — بحمد الله — قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر؛ فقد استغنى بعزِّ الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال.

وقد سمعنا من يذم الطِّوال، كما سمعنا من يُزرِي على القِصار، ولم نسمع أحدًا ذمَّ المربوع، ولا أزْرى عليه، ولا وقف عنده ولا شكَّ فيه، ومَن يذمُّه إلَّا مَن ذمَّ الاعتدال، ومَن يُزري عليه إلَّا مَن أزْرى على الاقتصاد، ومَن ينصِب للصواب الظاهر إلَّا المُعاند، ومَن يُماري في العِيان إلَّا الجاهل، بل من يُزرِي على أحد بتفاقُم التركيب، وبسوء التنضيد، مع قول الله — جلَّ ثناؤه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ.

وبعدُ، فأيُّ قدٍّ أرْدَى وأيُّ نظام أفسدُ من عرْض مجاوِز للقدْر وطول مجاوز للقصْد؟ ومتى لم يضرب العرضُ بسهمه على قدْر حقِّه، ويأخذِ الطولُ من نصيبه على مثل وزنه، خرج الجَسَد من التقدير وجاوز التعديل، وإذا خرج من التقدير تفاسَدَ، وإذا جاوز التعديل تَبايَنَ، ولئن جاز هذا الوصف وحسُن هذا النعت، كان لقاسم التَّمَّار من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.

وهذا كلُّه بعد أن يُصدِّقوك على ما ادَّعيتَ لطولك في الحقيقة، واحتجت به لعَرضك في الحكومة، على أنك باعتلالك لما ينفيه العيان، واستشهادك لما تُنكِره الأذهان، متعرضٌ للصِّدق من المتكرم، ومتحكِّك بالحكم من المتغافل، وأيُّ صامت لا يُنطِقه هذا المذهب، وأيُّ ناطق لا يُغرِيه هذا القول، وإذا كان هذا ناقضًا لعزم المتسلِّم، فما ظنُّك بعداوة المتكلِّف؟ فأنشدك الله أن تُغريَ بك السفهاء، أو تنقض عزائم الحُلَماء، وما أدري — حفظك الله — في أيِّ الأمرين أنت أعظم إثمًا، وفي أيهما أنت أفحش ظُلمًا: أبتعرُّضك للعوامِّ، أم بإفسادك حِلمَ الخواص.

وبعدُ، فما يُحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه، وأشباهُكَ من القِصار كثير، ومَن ينصرك منهم غير قليل؟ وقد رأيتُك زمانًا تحتج بالنعمان بن المُنذر، وبضَمْرة بن ضمرة، وبمُجَّاعة بن مُرارة، وبمجَّاعة بن سعر، وبأوْفَى بن زُرارة، وبعبد الله بن الجارود، وبعِلْباء بن الهيْثَم، وبسعيد بن قَيْس، وبأبي اليَسَر كَعْب بن عمرو، وبحَسَكة بن عتَّاب، وبمُخارق بن غِفار، وبعِمْران بن حِطَّان، وبيوسف بن عُمَر، وبإياس بن معاوية، وبمَعْن بن زائدة، وبعُقْبة بن سَلم، وبرجال ناهيك بهم رجالًا، وبأعلام كفاك بهم أعلامًا.

ورأيتُك تقول: «إن كان الفضلُ في النِّكاية، وفي الشدة والصَّلابة، فقِصارُ كلِّ شيء أشد ضررًا، وأدقُّ مَدْخلًا وأظهرُ قوةً وجلدًا، كالحجارة: أصلبُها الحصى، وكالحيَّات: أقتلُها الأفعى، وكالبعوض: أضرُّها القِرْقِس، وكالعقارب: أقتلُها الجرَّارات، وكذلك أحرارُ الطير وبُغاثها، وصِغار البراغيث وكبارُها.»

وقلتَ: «إن كان الفضل في العدد، فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذَّر والفَراش، ومنا الدعاميص والبعوض، ومنا الرمل والتراب وقطر السحاب.» واحتججت بأن الحُسن والفضل لصغار ما في الإنسان كالناظرِيْنِ والأُنثَيَيْنِ وحبَّة القلب وأمِّ الدماغ، وزعمت أن الإنسان، إذا طال جِسْمُه وامتد شخصه، أسرع الانهدامُ إلى بَدَنه والانحناءُ إلى ظهره، وأن القصير لا يتقوَّس ظهرُه ولا يميل عنقُه ولا يضطرب شخصه، ولا تعوجُّ عظامُه، ويسعُه كلُّ باب، ويقطعه كلُّ ثوب، ولا تخرج رجلاه من النعش، ولا يفضل عن الفِراش، وهو بعدُ أخفُّ على القلوب وأخلط بالنفوس وأبعدُ من السَّماجة، وأدخلُ في كلِّ باب ملاحة.

وقلتَ: «وتقول الناس: ما هو إلا فُلْفُلة، وما هو إلا زُنْبقَة، وما هو إلا شِرارة، وما لسانه إلا لسان حية.» ولم أزل أراك تقدِّم العرْض على الطول، وتزعُم أن الأرض لم تُوصَف بالعرض دون الطول إلا لفضيلة العرض على الطول، وذلك كقول الشعراء ووصف العلماء، قال الشاعر:

كأن بلاد الله وَهْيَ عريضةٌ
على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابِلِ

ولم يقل: «كأن بلاد الله وهي طويلة»، وقال آخر:

… … … …
وفي الأرض للمرء العريضة مَذْهَب

ولم يقل: «الطويلة»، وقال:

ولا تحسُداني بارك الله فيكما
على الأرض ذاتِ العرضِ أن تُوسِعا لِيَا

وقال الراجز:

نَقْطعُ أرضًا ونُلاقي أرضًا
إن البلاد غَلَبتْنا عَرْضا

ولم يقل: «طولًا»، وقلتَ: لولا فضيلة العرض على الطول، لَمَا وصف الله الجنة بالعرض دون الطول، حيث يقول جلَّ ثناؤه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

فهذه براهينُك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضى والتسليم، ومن القَناعة والإخلاص، إلَّا أنك ترى أنَّ ما عند الله خيرٌ لك ممَّا عند الناس، وأن الطول الخفيَّ أحبُّ إليك من الطول الظاهر؛ لكان في ذلك ما يشهد لك بالإنصاف، ويحكم لك بالتوفيق، وأنا — أبقاك الله — أتعشَّق إنصافك، كما أتعشق المرأة الحسناء وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقُّه في الدين، ولربما ظننت أن جَورك إنصافُ قومٍ آخرين وأن تعقُّدك سماحُ رجالِ مُنصِفين.

وما أظنك صِرتَ إلى مُعارضة الحجة بالشبهة، ومقابلة الاضطرار بالاختيار، واليقين بالشك، واليَقَظة بالحلم، إلَّا للذي خُصِصت به من إيثار الحق، وأُلْهِمتَه من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوجَ ما تكون إلى الإنكار، أذعنَ ما تكون بالإقرار، وأشدَّ ما تكون إلى الحيلة فقرًا، أشدَّ ما تكون للحُجة طَلَبًا، إلَّا أن ذلك بطَرَف ساكن وصوتٍ خافض وقلبٍ جامع، وجأش رابط، وبنيَّةٍ حسنة، وإرادة تامَّة، مع غَفلة كريم، وفطنة عليم، إن انقطع خصمُك تغافلت، وإن خرِف ترفَّقت، غير منخوب ولا متشغِّب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس، ولا واهن العزم، ولا حسود ولا منافس ولا مغالِب ولا معاقِب.

تُقِلُّ الحزَّ وتُصيبُ المفْصِل وتُقرِّب البعيد وتُظهِر الخفي وتميِّز الملتبِس وتخلِّص المشكِل وتُعطِي المعنى حقَّه من اللفظ، كما تعطي اللفظ حقَّه من المعنى، وتُحب المعنى إذا كان حيًّا يلوح وظاهرًا يصيح، وتُبغِضه إذا كان مُستَهْلَكًا بالتعقيد، ومستورًا بالتغريب، وتزعم أن شرَّ الألفاظ ما غرَّق المعاني وأخفاها وسَتَرَها وعمَّاها، وإن راقتْ سمعَ الغُمْر واستمالتْ قلبَ الريِّض.

أعجبُ الألفاظ عندك ما رقَّ وعذُب وخفَّ وسهل وكان موقوفًا على معناه ومقصورًا عليه دون ما سواه، لا فاضلٌ ولا مقصِّر ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خِصالَ البلاغة واستوفى خلال المعرفة، فإذا كان الكلامُ على هذه الصفة وألِّف على هذه الشريطة، لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمتعلِّم كالمعلِّم، وخفت المئونة واستُغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجَّة، واستبدلوا بالخلاف وِفاقًا، وبالمجاذبة موادعة وتهنَّئوا بالعلم وتشفَّوا ببرد اليقين، واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المُنصِف من المُعاند، وتميَّز الناقص من الوافر، وذلَّ المُخطِل، وعزَّ المُحصِّل، وبدَتْ عَوْرةُ المُبطِل، وظهرت براءةُ المُحِق.

وقلتَ: «والناس، وإن قالوا في الحَسَن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط بان، وكأنه قضيب خيزُران، وكأنه غُصن بان، وكأنه رُمحٌ رُدَيْني، وكأنه صفيحة يَمَانية، وكأنه سيف هُنْدُواني، وكأنها جانٌّ، وكأنها جدلُ عِنان، فقد قالوا: كأنه المشتري، وكأن وجهه دينار هِرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارةُ القمر، وكأنها الزُّهَرة، وكأنها دُرة، وكأنها غمامة، وكأنها مَهاة؛ فقد تراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل.»

وقلتَ: «وجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، كذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.» وقلت: «والرُّمْح، وإن طال، فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومفصَّلًا، والطولُ لا يوجد فيه إلا موصولًا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.»

وقلتَ: «ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أُكْرِه على تركيبه دون ما خُلِّي وسُوِّم طبيعته، وعلى أن كلَّ مربع ففي جوفه مدوَّرٌ، فقد بان المدوَّر بفضله، وشارك المطوَّلَ في حصَّته.»

ومن العجب أنك تزعُم أنك طويل في الحقيقة، ثم تحتجُّ للاستدارة والعرض، فقد ضربت عما عند الله صفحًا، ولهجت بما عند الناس.

فأما حَوَر العين، فقد انفردتَ بحسنه، وذهبت ببهجته وملحه، إلا ما أبانك الله به من الشُّكلة، فإنها لا تكون في اللئام، ولا تفارق الكرام، وقال الشاعر:

ولا عيب فيها غيرُ شُكْلة عينها
كذاك عِتاقُ الطير شُكْل عُيونها

وقال آخر:

وشُكْلةُ عين لو حُبيتَ ببعضها
لكنتَ مكان النجم مرأى ومسمعًا

فأما سواد الناظر وحُسن المحاجر وهدبُ الأشفار ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك، وأما إدراكك الشخصَ البعيد، وقراءتُك الكتابَ الدقيق ونقشَ الخاتم قبل الطبع، وفهمُ المُشكِل قبل التأمل، مع وَهَن الكبر وتقادُم الميلاد، ومع تخوُّن الأيام، وتنقُّص الأزمان، فمن تُوتياء الهند وتركِ الجماع، ومن الحِمْية الشديدة وطولِ استقبال الخُضْرة.

وأنت، يا عم، حين تُصلح ما أفسد الدهر، وتسترجع ما أخذتْ منك الأيام، لكما قال الشاعر:

عجوزٌ تُرجِّي أن تكون فتيةً
وقد لَحِب الجنبانِ واحْدَوْدب الظَّهْرُ
تدُسُّ إلى العطَّارِ مِيرة أهلها
وهل يُصلحُ العطارُ ما أفسدَ الدَّهرُ

وكيف أطمع في تقويمك بعد اللَّجاج، وقد مَنَعْتَنِيه قبله؟ وكيف أرجو إقرارك جهرًا وقد أبيته سرًّا؟ وكيف تجود به صحيحًا مُطمِعًا، وقد بخُلت به مريضًا مُوئِسًا؟ وكيف يرجو خيرَك مَنْ يراك تطاول أبا جعفر وتخاشنه وتنافره وتراهنه، ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العِظام، وبحضرة كبار الحُكَّام، ثم تستغرب ضحِكًا مِن طَمَعِه فيك، وتُعجِّب الناس من مجاراته لك؟ وأشهدُ بعدُ أنك تخاشن عمرو بن بحر الجاحظ وتعاقله، ثم تظارفه وتطاوله، وتُغنِّي مع مُخارق وتُنكر فضل زُرْزور، وتستجهل النظَّام وتستبرد الأصمعي، وتستغبي قيس بن زُهَير، وتستخف الأحنف بن قيس وتبارز أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم تخرج من حدِّ الغلبة إلى حدِّ المِراء، ومن حد الأحياء إلى حدِّ الموتى.

هذا، وليس لك مُساعد ولا معك شاهدٌ واحد، ولا رأيتُ أحدًا يقف في الحكم عليك، أو ينتظر دعواك، ولا رأيتُ مُبصرًا يُخلِّيك من التأنيب، ولا مؤنِّبًا يخليك من الوعيد، ولا متواعِدًا يُخليك من الإيقاع، ولا مُوقعًا يرثي لك ولا شافعًا يشفع فيك، يا عمِّ، لِمَ تحملنا على الصِّدْق؟ ولمَ تجرِّعنا مرارة الحق؟ ولمَ تعرِّضنا لأداء الواجب؟ ولمَ تستكثر من الشهود عليك؟ ولمَ تحمل الإخوانَ على خلاف محبَّتهم لك؟

اجعل بَدَلَ ما تجني على نفسك أن تجني على عدوِّك، وبدل ما تضطرُّ الناس إلى أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يُمسِكوا عنك، ولمَ لا بد — يرحمك الله — لمَن فاته الطول مِن أن يلقى بيده إلى التهلكة، أو مِن أن يقول بخلاف ما يجد في نفسه؟ فوالله، إنك لجيِّد الهامة، وفي ذلك خَلَفٌ من حُسن القامة، وإنك لحسن الخطِّ، وفي ذلك عِوَضٌ من حُسْن اللفظ، وإنك لقليل الشيب، قليل البول، وإنك لتجدُّ مقالًا، وإنك لتعدُّ خِصالًا.

فقُل معروفًا، فإنَّا من أعوانك، واقتصد فإنا من أنصارك، وهاتِ؛ فإنك لو أسرفتَ، لقُلنا: «قد اقتصدت!» ولو جُرتَ لقلنا: «قد اهتديت!» ولكنك تجيء بشيء تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، ولو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك، ولربما عذرتُك ولان جانبي لك، فأقول: «خرف الشيخ» إذا كان جادًّا، و«عبثَ» إن كان هازلًا، وقد يُعجِل الخَرَفُ إلى أحدث منك سنًّا ويُبطئ عن أطولَ منك عمرًا.

بل، مَن هذا الذي يَعدُّ من السنين ما تَعد، وبلغ من الكبر ما بلغت؟ وعند مَن يُدرَك هذا العلم إلا عند النجوم أو عند إبليس الرجيم؟ بل، من يعرف ذلك إلا فاطر السموات والأرض؟ لو عرفتْ عِقْبان طِخْفة ونسور السَّراة وأحناش الرمل وعيرُ العانة، وورْشان الغابة، وشيوخ اليمامة، وهَرْمَى فرغانة أنك لا تَعُدُّ عمر نوح عمرًا، ولا النجوم يومًا، وأنك قد فُتَّ التأريخات، وجُزتَ حسابَ الباورات، واستقللتَ الأحقاب، وخرجتَ من خطوط الهند؛ لَمَا استطالت بأعمارها ولا فرحت بطول أيامها.

•••

فيا قعيد الفلك كيف أمسيتَ؟ ويا قُوة الهَيُولى، كيف أصبحتَ؟ ويا نسر لقُمْان، كيف ظهرت؟ ويا أقدم من دَوْس، ويا أسنُّ من لُبَد، ويا صفي المشَقَّر، ويا صاحب المسْنَد، حدِّثني كيف رأيتَ الطوفان، ومتى كان سَيْل العرم، ومُذ كم مات عُوج، ومتى تبلبلت الألسُن، وما حبس غُراب نوح، وكم لبثتم في السفينة، ومُذْ كم كان زمان الخُنان، ويوم السُّلَّان، ويوم خزاز، ووقعة البَيْداء؟

هَيْهات أين عادٌ وثمود؟ وأين طسم وجدِيس؟ وأين أُمَيم ووبَار؟ وأين جُرهُم وجاسم أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق؟ ومذ كم ظهرت الجبال ونَضَبَ الماء عن النَّجَف؟ وأيُّ هذه الأودية أقدم: أَنَهْر بلخ، أم النيل أم الفرات أم دجلة؟ أو جيحان أم سَيْحان أم مهران؟ وأين تُرابُ هذه الأودية؟ وأين طينُ ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها؟ وأي بحر كبست، وأي هبطة شحنت؟ وكم نشأ لذلك من أرض وحَدَثَ من عين؟

جُعلتُ فداك، مَن أبو جُرْهم؟ ومَن رهط الدجال؟ وهل تعرف له شبيهًا؟ أين طُوَيْس؟ وما قصةُ ابن صائد؟ وممن سوشى المنتظر؟ وخبِّرني عن هِرْمِس: أهو إدريس؟ وعن أَرْمِيا: أهو الخَضِر؟ وعن يحيى بن زكريا: أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين: أهو الإسكندر؟ ومن أبوه ومن أمه؟ ومن قِيرَى وعِيرى؟ ومن جُلَندَى؟ ومن أولاد الناس من السعالي؟ وما الحُوش من الإبل؟

وخبِّرني عن قحطان: ألِعابَر هو أم لإسماعيل؟ وعن قُضاعة: ألِمعد بن عدنان، أم لمالك بن حِمْير؟ ومتى تخزَّعت خُزاعة؟ ومتى طوَت المناهل طيِّئ؟ ومن ابن بِيض وما تلك السبيل؟ وما قصة الزُّهَرة؟ وما شأن سُهَيل؟ وما القول في هاروت وماروت؟ وما شأن الإربيانة؟ وما قصة الفأرة وجُرْم الوَزَغة؟ وما إحسان الحمامة؟ وما تفريط العِظاية؟ وما صَخَب الضفادع؟ وما تسبيح الصُّرَد؟ وما عداوة ما بين الديك والغُراب؟ وما صداقة ما بين الجن والأَرَضة؟ ومن أين لها الماء؟ وما بلغ من عقل الهُدهد، وأين قبر أمه، ولِمَ نتنت ريحه؟

وخبرني عن الأُمَّة التي مُسِخَت ثم فُقِدت، ممن كانت وإلى أي شيء صارت: أأخذت برًّا أم بحرًا؟ فإن كانت بحرية، أفهي الجري؟ وإن كانت برية أفهي الضباب؟ وما آوى وما حُبَيْن وما عِرْس وما أوْبَر وما وَرْدان؟ وما قصة الطراثيث؟ وما سبب كون السَّنانير؟ وما علة خلْق الخنزير؟ وكيف اجتمع في الذبابة سُمٌّ وشفاء؟ وكيف لم يقْتُل الأفعى سُمُّها؟ وكيف لم تُحرق الشمس ما عند قُرصها؟

وخبِّرْني عن الأبدال: أهم اليومَ بالعَرْج أم ببَيْسان أم كما كانوا متفرِّقين؟ وخبرني أكلهم موالٍ أم كلهم عَرَب، أم هم أخلاط؟ وما فعل صاحب أنطاكية؟ ولمَ أُقيم سلمان بعد بلال ومَن جُعِل بعد سلمان؟ ومن عشائرهم وأين دورهم وأين أهلوهم؟ وكيف لم يتقدَّموهم ويتفقدوهم؟

وكيف صارت بيسان لسان الأرض يوم القيامة؟ وكيف صارت كبدُ الحوت أولَ طعام أهل الجنة؟ ولمَ تسمَّى نونًا؟ وهل الرَّجْفة من حركته؟ وهل الزلزلة من تنقُّله؟ وما الخَسْف؟

وكيف شاهدتَ المِسْخ: أَعَلَى طول الأيام انقلبت خِلْقتُهم أم صار ذلك ضربة واحدة؟ وهل عاشوا أم أَبلسوا أو تُركوا ثلاثًا ثم أُبطلوا؟ وهل كانوا يتعارفون بعد المسخ ويعرفون بعض ما قد نزل بهم بعد القلْب؟

وخبرني عن بحار نِيطَس وعن قَيْنَس وعن الأصم، وعن المُظلم وعن بحر مايوتس وعن الباكي وعن قاف، وأين كنتَ عام الجُحاف؟ ومذ كم كان زمن الفِطَحْل؟ وأين كان مُلك الأَزْد، وأين كان من مُلك الأشكان؟ وأين كانا من مُلك بني ساسان؟ وأين كان خُرَّه أردشير من إستاشف؟ وأين كان أَبْرَويز من أنو شَرْوان؟ وأين جَذيمة من تُبَّع؟ وأين الفَنجَب من بلهرَى، وأين بَغبُور من قَيْصَر؟

وخبِّرني عن الفراعنة: أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة: أهم من قوم عاد؟ وخبرني أهم من عاد الأولى أو من عاد الأُخرى؟

وخبرني عن عُطارد الهندي، وجوابه لعُطارد السماوي حين هبط إليه من فلكه، وهل جرى بينهما إلا ما سمعنا ومذ كم كان ذلك؟

وخبرني كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أُفرغ في إنائه: أكان بحرًا أُجاجًا استحال عذبًا زُلالًا، أم كان زلالًا عذبًا استحال أجاجًا بحرًا؟ وخبرني كيف صار الماء أبعد من الفلك ولا يكون إلا في بطن الأرض، وهو أشبه بالهواء كما أن الهواء أشبه بالنار، وكيف يكون أحق بالوَسَط، والأرض أبعد من شبه الفلك؟ وكيف طمع — جُعلت فداك — الدهري في مسألة العلاة والمِطْرقة، وفي البيضة والدجاجة، مع تقادم ميلادك ومرور الأشياء على بَدَنك؟ وكيف كان بدْء أمر البُد في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم، وقصة عمرو بن لُحي في العرب؟

وخبرني عن عناق بنت آدم، وعن ميسرة وعن مَشْيَه ومَشْيَانه، وعن بهْيَا وطَحْيَا، ومذ كم عُمِرت جزيرة العرب، ومذ كم بادت يونان، وعن فصْل ما بين السِّند والهند، والهند والمَيْد، وعن جميع مَن هلك بالرُّعاف، وعن مَن أفناهم النملُ، وعن من أجْحَف بهم السيل، وعن أصحاب النُّعمان كم صنفُهم، وما تقول في الرَّجْم السماوي: أكان من عِظام البَرَد، أم كحجارة الطيْر الأبابيل التي خُلِقَت من سِجِّيل؟

وخبِّرْني عن معنى الفرات على حقِّه وصدقه، وعن نُضوب البحر، وعن تنقُّص الأرض، ولمَ عمِل الفلك في هذا العالم وليس بينهما شبه، وهلَّا عمل فيه بقدرة منه، وهل يجوز أن يعمل شيء في شيء إلا والآخر يعمل فيه؟

وخبِّرْني مذ كم كان الناس أمةً واحدة، ولُغاتهم متساوية، وبعد كم بطنٍ اسودَّ الزنجي، وابيضَّ الصَّقْلبي؟ ولمَ صار اللون أسرع تنقُّصًا من الجسد؟ ولمَ كان الولد يجيء على شبه ما في أبيه من الأمور الحادثة في بدنه غير القديمة في أصل تركيبه، ومع ذلك لم يُولَد صبيٌّ قطُّ في العرب مجنونًا؟ وما هذه الخاصية التي منعت من هذا المعنى؟ وفي كم تمَّت لكل فرقةٍ بعد التبلبل لُغتُها، واستفاض شأنها؟

خبِّرْني، جُعلتُ فداك، أيما أطوَل عُمرًا: آلنَّسْر أم عير العانة أم الحية أم الضَّبِّ؟ ومتى تستغني الحية عن الغذاء؟ ومتى ينتفع الضب بالنسيم؟ ومتى ينقطع النَّسْر عن السِّفاد؟ وكيف صار البغل لا ينسل، وهو ولد الرَّمَكة من العير، وكذلك السِّمع لا ينسل، وهو ولد الضَّبُع من الذئب، والراعي ينسل، وهو ولد الحمام من الورشان، والبُخْتي ينسل، وهو من ولد العِراب من الفوالج، ولم يُسمع في الظِّلف إذا اختلفت، ولم يُسمَع في الحافِر ولا في الخُفِّ إذا اختلفت؟ وخبِّرْني عن الزَّرافة: أمن ولد الناقة من الضَّبُع؟ وعن الشَّبُّوط: أمن ولد البُنيِّ من الزَّجَر؟

وخبِّرْني عن عَنْقاء مُغْرِب وما أبوها وما أمها، وهل خُلقَت وحدَها، أم من ذكر وأنثى؟ ولمَ جعلوها عقيمًا، وجعلوها أُنثى؟ ومتى تمهد لذلك الصبي، ومتى تظل بجناحها شيعة الإمام، ومتى يُلقَّى في فيها اللجام؟ ومتى يُماع له الكبريت الأحمر، ويُساق إليه جبل الماس؟

وخبِّرْني عن بناء سُور الأُبُلَّة، وعمن حيَّرَ الحِيرة، ومن أنشأ بُنيان مِصر، ومن صاحب كرد بنداذ ومدينة سمرقند؛ وخبِّرني عن البناء الذي يُضاف بالمدائن إلى سام: أهو لِسَام؟ وعن تَدمُر: أهو لسليمان؟ وأين مُلك أخاب بن عُمْري من مُلك نِمرود الخاطئ؟ وأين وقع مُلك ذي القرنين من مُلك سُليمان؟

•••

وقد كنتُ — أطال الله بقاءك — في الطول زاهدًا وعن القِصَر راغبًا، وكنت أمدح المربوع، وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خيرُ الاعتدال بِشرِّ قصر العُمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنتُ أقصر منك وأضوى، وأقلَّ منك وأوهى!

وليس دُعائي لك بطول البقاء طلبًا للزيادة، ولكن على جهة التعبُّد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول: «أطال الله بقاءك»؛ فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول: «لا أخلى الله مكانك»؛ فإلى هذا المعنى أذهب.

وقد زعموا — جُعلت فداك — أن أكْلَ ما طال عمرُه من الحيوان زائدٌ في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان والضِّباب وحُمُر الوحش، وكلحم النَّسْر لمن أكله ولحم الحية لمن استحلَّه؛ فإن كان هذا الأمر حقًّا، وكان هذا العلاج نافعًا، وكنتَ له مُستعمِلًا وفيه متقدِّمًا وتراه رأيًا، وإن كنتَ عنه غنيًّا، أخذنا منه بنصيب وتعلَّقنا منه بسبب، وكيف لي بذلك وأنا صغير الأُذُن وأذُنك أذن أبي سُهيل؟ وأنا دقيق العُنق، وعنقُك عنقُ قاسم التمَّار، وأنا صغير الرأس ورأسُك رأسُ جالوت!

وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جوازُ الكَوْن والفساد عليك، وتعاورُ النقصان والزيادة إيَّاك؛ فجوهرك فلكيٌّ وتركيبك أرضي؛ ففيك طولُ البقاء، ومعك دليل الفناء، فأنت عِلَّة للمتضادِّ وسبب للمتنافي، وما ظنُّك بخلْق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض؟

جُعِلت فداك، ما لقي منك الذَّهَب، وأيُّ بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهَجان ببقاء الحُسن، وبأن الدهر يُحدِث لهما الجِدَّة إذا أحدث لجميع الأشياء الخُلوقة، فلما أربى حسنُك على حسنهما وغمرَ طولُ عمرك أعمارهما، ذلًّا بعد العِز، وهانا بعد الكرامة.

وما لي فيك قولٌ إلا قول الأعرابي حين أضلَّ الطريق في الظلمة، فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرًا وهو يقول: ما أقول؟ أأقول: «رفعك الله»، وقد رفعك، أم أقول: «جمَّلك الله»، وقد جمَّلك، أم أقول: «عمَّرك الله» وقد عمرك؟ ولكن أقول: «وهل أنطق إن نطقتُ إلَّا رجيعًا وأقول وما قلتُ إلا لغوًا؟!»

وقد زعم ناسٌ ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور، أنه ليس شيء مما يُساكن الإنسانَ في منزله ورَبْعه، وفي داره وموضع مُنقلبه، إلا والإنسان يفضلُه في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والإبل، وزعموا أن أقصرها أعمارًا العصافير، وأن أطولها أعمارًا البغالُ، وأن العلة في طول بقاء البغل قلةُ السِّفاد، وفي قِصَر عمر العصافير كثرةُ السِّفاد، وأن مما يقضي بهذه العلة ويُثبت هذه القضية ما يعُمُّ الخِصيان من طول العمر، ويعمُّ الفُحولة من قِصَر العمر.

وما أرى — حفظك الله — بهذا القياس بأسًا في ظاهر الرأي، وما أجده بعيدًا في أغلب الظن، ولو كنت أقتُلُ ذلك عِلمًا وأعلمُه يقينًا، لكان أحبُّ الأمور إليَّ أن يكون لي فيه سَلَفٌ صدق، وإمامٌ لا يغلط، وأن أحْكِيَه عن معدَّلٍ وأُسنده إلى مَقْنَع: فقُلْ نسمعْ وأشِرْ نتبعْ.

يعجبني — جُعلت فداك — منك بُغضُ الشُّهرة ودبيبُك في غِمار الحشْوية، استغناءً بنفسك وصونًا لقدرك ومعرفةً بما أُعطيتَ وثقةً بالذي أُوتيت، وما أقلَّ — بحمد الله — ما سَبَقَك به إبليس، وما أيسرَ ما فاتك به آدم! فزاد الله شاكرَك نعمة وناصرَك عزةً.

وقد ذكرت الرُّواة في المعمَّرين أشعارًا وصنعت في ذلك أخبارًا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطِعة ولا دلالةً قائمة، ولا نقدر على ردِّها لجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليلٌ يُثبِّتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النَّصَب، وما في النصب من طول الفِكرة، وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرُّض للوساوس والخفقة، وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الجَسَد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكدِّ.

فافتحْ لبيتك بابًا نسترح إليه، وأقِمْ له علمًا نقف عنده، فقد علمتَ ما ذكروا من عمر نابغة بني جَعْدة، ومالك ذي الرُّقَيْبة، ونصر بن دُهمان، وابن بُقَّيْلة الغسَّاني، والرَّبيع بن ضُبَيع، ودُوَيْد بن نَهْد، وأنت — أبقاك الله — تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلَهم وعمائَرهم وأصولَهم وأجذامَهم، فخبِّرْني أكذبوا أم صدقوا، أم اقتصدوا أم أسرفوا.

فأمَّا ما رَوَوْا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبَّتوا لهم من السِّمَن والعِظَم والضِّخَم، سوى ما نطق به الكتابُ عن أجسام عاد، فالشاهدُ على كذِبهم حاضر، والدليلُ على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سُيوف الأشراف، وأزِجَّة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضِيق أبوابهم وقِصَر سَمْك عَتَب درجهم في قصورهم العاديَّة ومُدُنهم العُدْمُليَّة، ويدُل على ذلك الجرونُ التي كانت مقابرَهم وأبوابُ مدافنهم في بطون أرَضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم، ومواضعُ قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قُمم رءوسهم.

ولو حضرَنا من الشواهد على ما ادَّعوا من أعمارهم مثلُ الذي حضرَنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم، إذن لما عنَّيْناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السببَ في طول قاماتهم وضِخَم أبدانهم تقادُمُ ميلادهم وجِدَّة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابُها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظمَ منهم، ولكان نُقصانُ مَن بعدهم — ممَّن يلي عصرهم ومن يلي أولئك — على حساب ذلك.

•••

وخبِّرْني — أبقاك الله — من كان باني رِيَام، ومَن أنشأ كعبة نجران، ومن صاحب غُمدان، ومن باني تدْمُر، ومن صاحب الهرَمَيْن، ومُذ كَم بُنِيَت مَأْرِب، وأين كان الأبْلَق الفَرْد من المُشَقَّر، وأين قصر النُّوبَهار من قصر سِنْداد، ومن صاحب عَقَرْقُوف؟ ولمَ قضيتَ — جُعِلْت فداك — لجمَعَة الإياديَّة على بنت الخُسِّ، ولابن شَرِيَّة على شِقٍّ، وللنَّخَّار على ابن النَّطَّاح، ولابن الكيِّس على ابن لسان الحُمَّرة؟ وأين كانت الزباء من ملِكة سَبَأ؟ وأين خاتُون من بُوران؟ وأين جُلنْدَى من أَسْباذ؟ وأين حذيم من أفعى؟ وأين كان لُقَيْم من لُقمان؟ وأين كان كُرْز بن عَلْقمة من مُجزز المُدْلجي؟ وأين كان رافِع المُخِش من دُعَيْمص الرَّمْل؟

وخبِّرْني عن عَظامة أقاليم الخراب، وعن خَلاء شِقِّ الجنوب، أذلك قائم مُذ دار الفَلَكُ وكان النمو أو الدُّوَل بينهما مقسومة والأيامُ عليها موقوفة؟ ولمَ قدَّمت إقليم دوس على إقليم بابل؟

وخبرني عن الشُّهُب: أتكون نهارًا أم تكون ليلًا؟ ولِمَ قدَّمت الروم في الصَّنْعة على أهل الصين؟ ولم قدمت تُبَّت على الزابَج؟ ولمَ فضَّلتَ السكون على الحَرَكة؟ ولم جعلتَ الكون فسادًا والافتراقَ اجتماعًا؟

قد وجدتُك — جُعلت فداك — خِفْتَ أن تكون ابن صائد، ورجوتَ أن تكون الدجال، ولعلك دابَّة الأرض وما أدري لعلك سَوْشي، ولستَ — بحمد الله — الخَضِر! والذي لا أشك فيه أنك غيرُ المسيح، وأظن روحَك روح شيقرة، بل روح بَعَلزبَوُب، بل روح دكالا، وأنك الأَرْكُون المنتظر.

واحتملْ لي مسألةً واحدة ولا أعود وسأجعلها طويلةً ولا أزيد: كم بين وَد وسُواع ويَغوث ويَعُوق، وبين مناة والعُزَّى والغبغب وعائم وبين مَناف ونُهْم وسَعْد ومَرْحب؟ ومذ كم نكحَ إسافُ نائلةَ؟ ومذ كم مُسِخَا في الكعبة؟ وخبِّرني عن بَرهوت وبَلَهُوت، وعن الجابِيَة وموضع الطاغية، وعن سَيْف الصاعِقة، ومن ألقى ذلك إلى الرافضة، وما كان مال قارون، وما كان كنزُ النَّطْف، ولمن كانت اليتيمة، وما قُرْط مارية، وما أصلُ مال ابن جُدْعان، وكيف كانت مشورة أمه، وخبِّرْني عن ذلك المال الذي مَن أخذَ منه ندم ومَن تركَه ندمَ.

جعلتُ فداك، قد شاهدتَ الإنس مذ خُلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحتجبوا، ووجدتَ الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة وأغفالًا وموسومة وسالمةً ومدخولة: فما يخفَى عليك الحُجَّةُ من الشبهة ولا السُّقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنِع ولا المستغلَق من المستبهَم، ولا النادر من البديع ولا شبهُ الدليل من الدليل، وعرفتَ علامة الثِّقة من علامة الرِّيبة، حتى صارت الأقسامُ عندك محصورة والحدودُ محفوظة والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها مصوَّرة، ووجدت السبب كما وجدت المسبِّب، وعرفتَ الاعتلال كما عرفتَ الاحتجاج، وشهدتَ العِلَل وهي تُولَد والأسباب وهي تُصنع، فعرفتَ المصنوع من المخلوق والحقيقة من التمويه.

فما تقول في الرَّئِيِّ؟ وما تقول في الرؤيا؟ وما تقول في إكسير الكيمياء؟ وما تقول في كَيْموس الصَّنْعة؟ وما تقول في الزجر؟ وما تقول في الفِراسة؟ وما تقول في الفأل؟ وما تقول في الطِّيَرَة؟ وما تقول في نميمة الظلم؟ وما تقول في معنى البركة؟ وما تقول في النجوم؟ وما تقول في الخِيلان؟ وما تقول في أسرار الكفِّ؟ وما تقول في النظر في الأكتاف؟ وما تقول في قَرْض الفأرة؟ وما تقول في إلحاح الخُنْفَساء؟ وما تقول في دوائر الرأس، وفي أوضاح الخَيْل، وفي النمس والسُّؤْر، وفي الديك الأَفْرَق، والسِّنور الأسود، وفي البوْل في النَّفَق، وفي الاطلاع على عادي الآبار، وفي النوم بين البابين؟

وما تقول في النُّمْنُمة، وفي الرتيمة، وفي تعليق كعب الأرنب، وفي حَلْي السليم، وفي البَلايا والوَلايا؟ وما تقول في الهام، والاستمطار بالسَّلَع والعُشَر؟ وما تقول في شَقِّ البُرْقُع، وفي حَدْر الرِّداء؟ وفي كَيِّ الصحيح عن ذي العُرِّ، وفي فَقْء العين للسواف، وفي نزع المسر للعارة؟ وما تقول في الآمر والناهي والمتربِّص؟ وفي النطيح والقَعيد والسانح والبارح؟ وما تقول في وطء المِقْلات للقتلى، وفي دماء الملوك للكَلْبَى؟

وما تقول في صرع الشيطان، وفي تلوُّن الغِيلان، وفي عَزيف الجنان، وفي ظهور العُمار، وفي طاعتهم للعزائم، وفي رَئِيِّ المأمور الحارِثي، وعُتَيْبة بن الحارث اليَرْبوعي؟ وما فصلُ ما بين العراف والكاهن والحازي والمتبوع؟ وما تقول في تحوُّل إبليس في صورة سُراقة المُدْلجي، وفي صورة الشيخ النجدي؟ وخبِّرْني عن شِنِقناق وشَيْصَبان، وعن سَمْلقة وزَوْبعة، وعن المُذهِب والسِّعلاة، وعن بركُوَيْر ودركاداب، وأين كان مِسْحل — شيطانُ الأعشى — من عمرو — شيطان المُخَبَّل؟

قد — والله — عافانا الله بك وابتلى، وأنعم بك وانتقم؛ فترحًا لمن زهد فيك، وسقيًا لمن رغِب إليك، وويل لمن جهل فضلك، بل الويل لمن أنكر فضلك! إنك — جُعِلت فداك — كما لم تكن فكنتَ فكذا لا تكون بعد أن كنتَ، وكما زدتَ في الدهر الطويل، فكذا تنقُص في الدهر الطويل؛ إذ كلُّ طويل فهو قصير، وكلُّ مُتناهٍ فهو قليل، فإياك أن تظنَّ أنك قديم فتكفُر، وإياك أن تُنكِر أنك مُحدَث فتُشرِك!

فإن للشيطان في مثلك أطماعًا لا يُصيبها في سِواك ويجد فيك عِلَلًا لا يجدها في غيرك، ولستَ — جُعلت فداك — كإبليس، وقد تقدَّم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخبر لما قدَّمته عليك ولا ساويتُه بك، وأنت أحق منه بعذر وأولى بستر، ولو ظهر لي لَمَا سألتُه كسؤالي إياك، ولَمَا ناقلتُه الكلام كمُناقَلَتي لك، وإن كان في التجاذب مثلَك فهو في النصيحة على خلافك؛ ولأنك إن منعتَ شيئًا فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منعَ، منعَ بالغش والإرصاد، وأنت على حال أشكل ونحن نرجع إلى أصل وننتمني إلى أبٍ ويجمع بيننا دين.

•••

وخبرني عن الشِّق وعن واقواق، وعن النسناس وعن دُوَالباي، وعن الكركدن، وعن عنقاء مُغْرب، وعن الكبريت الأحمر، وعن ثَوْر الله في الأرض.

وحدِّثني عن شعب رَضْوَى وعن جبال حِسْمَى، ومتى ترى الماء الأسود والجوَّ الأكلف، والطين الأزرق؟ وكيف ذلك النمر؟ وهل يظمأ ذلك الأسد؟ وهل باضَ الخُفَّاش؟ وهل أمنت الحُبارَى؟ ومتى تتعلم ما في الجَفْر، وتُحكِم ما في الزُّبُر؟ وما فعل فحْل وبار، ونعاج أبي المرقال؟

وما الحُجة في الرَّجْعة والقول في المناسخة؟ ومن أين قلتم بالبداء؟ ومن أين جعلتم العلم فعلًا والزيادة فلتًا؟ وما القول في النفس؟

وخبرني ما السحر وما الطِّلَسْم وما الدَّنْهَش وما الخَلْقَطِير وما الهيكل وما الطوالق؟ وما قولهم في اللُّبان الذَّكَر، وفي مُراعاة المُشْتري؟ ولمَ توحَّشوا من الناس؟ ولم باتوا بالبَراح وأقاموا بالخَراب واغتسلوا بالماء القَراح؟ ولمَ قدَّموا التصديق وأخَّروا الطيرة؟ ولم أجابوا وأكرموا ولم منعوا وقَتلوا؟

وخبرني من خانِقُ الغَرِيض، وقاتلُ سعد يوم النَّفَق، ومَن الذي استهوى عمرو بن عَدي؟ ومن صاحب عُمارة بن الوليد؟ ومَن يصرع منهم الأصحَّاء، ومن يُبرئ المرضى ويستهوي العُقلاء؟ وعن فصل ما بين الشيطان والجني، وما بين الجن والحِن؟ ومن طعامُه الجَدَف؟ وخبرني عن أشعار الهاتف، وما يُسمع بالليل من جوائب الأخبار، وخبِّرني عن النُّمَيْري صاحب الورقة، وعن تميم الداري صاحب الرَّدْم.

وخبرني عن شَقْلون وعن أهْرِمَن، وعن كاوه وكَيُومَرْث وإيدَذَش وافرَدَذَش وابْرُشارش وابربُارش وخوَيرَث بامية، وكيف صارت خونرث هذه أعمر العوالم؟ وأيما أكثر: يأجوج أم مأجوج؟ وأيما أقصر وأيما أطول أعمارًا وأيما أفضل: مُنكر أم نكير؟ وأيما أخبث: هاروت أم ماروت؟ وأي حوت ابتلع يونس؟ وأي حية ابتلعت المُهَلب؟ ومن أي خشب كانت سفينة نوح؟ ولمَ ملح الحمض؟ ولم طُوِّقت الحمامة؟ وما فرقُ ما بين الطأس والكأس؟

وما كان سبب اتخاذ الأقْبيَة؟ وما سبب صنعة الزُّجاج؟ وما قِصَّةُ الرُّخام: أكيمياء أم مخلوق؟ ولم امتنع عمل الذهب والزجاج أعجبُ منه؟ ومَن صاحب المينا وتودين الحِجارة؟ ومن صاحب التلطيف؟ ومن صاحب النوشاذر؟ وما تقول في التِّنِّين؟ وما فُرَانِق الأسد؟ وما صَداقة ما بين الخُنْفَساء والعقرب؟ وما بال السواد يصبغ ولا ينصبغ، وما بال البياض ينصبغ ولا يصبغ؟ ومن صاحب الأصْطُرلاب؟ ومن صاحب القَرَسْطون؟ ولم أسألك عن الحداد، وإنما سألتُك عن الفيلسوف، وعن عِلَّته في المد والجزر، وخبرني عن جواهر الأرض، وعن جمع القار: أشيءٌ مفروغ من خلقه، أم أرض تستحيل إليه؟

ولمَ عمل بعض السم في العَصَب وبعضُه في الدم وبعضُه فيهما جميعًا؟ ولم كان بعضه سمَّ نَجَاز وبعضُه سمَّ جهاز؟ ولم صار لا يقتُل مع العادة وقتلَ قبل العادة؛ ألأن الطبائع تنكر الشيء الغريب، أم لأنه ضد في نفسه؟ وكيف صار مع ريق الأفعى ريقُ بعض الناس في القتل، وفي أيهما سُم؟ ولمَ خالف البِيش في العَصَب والدم؟ ولمَ يقتُل العقرب إنسانًا ويقتله آخر؟ ولم صارت الأفعى قاتلة، وتأكلها القنافذ ولا تضرها، ويأكلها الأُرْوي فلا يتأذَّى بها؟ ولمَ صارت الهندية تقتل كلَّ شيء، ولا يقتلها شيء، ولا يستمرئها شيء؟

ولم خالف النيلُ جميع الأودية في النقصان والزيادة، ولم بلغت جريتُه الشمال، ولم صار أقصاه كأدناه؟ ومتى يُدال منه، ومتى يحوِّله الإمام؟

•••

وقد علمتَ — جعلتُ فداك — أن الخبر إذا صحَّ أصله وكان للناس عِلَّةٌ في نشره، كان في الدلالة على الحق كالعيان، وفي الشفاء كالسماع، على أن الخبر لا يُعرَف به تكيُّف الأمور، لكن يُعرَف به جُمل الأشياء، إلَّا خبرك؛ فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى إعادة ولا إلى علة ولا إلى تفسير، حتى يقوم خبرُك في الشفاء وفي كيفية الشيء مقام العيان!

وقد كنتُ أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما تقولون في رجُل لم يقُل قطُّ بعد انقضاء خُصومته وذهاب خَصْمه: «لو كنتُ قلت كذا كان أفضل.» أو: «لو كنتُ لم أقل كذا كان أمثل.» فما بال عَفْوِه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فِكرتكم؟ فلما رأيتك علمتُ أنك عذابٌ صبَّه الله على كلِّ رفيع، ورحمةٌ أنشأها لكلِّ وضيع.

فخبرني عما جرى بينك وبين هِرْمِس في طبيعة الفلك، وعن سَماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطاطاليس، وأيَّ نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت، فقد أبَتْ نفسي غيرك، وأبت أن تتشفَّى إلَّا بخبرك، ولولا أني أكلف برواية الأقاويل وأُغرَم بمعرفة الاختلاف، ولا أستجيز مسألتك عن كلِّ شيء، وابتذالك في كلِّ أمر، لما سمعتُ من أحد سِواك، ولما انقطعتُ إلى أحد غيرك.

•••

واعلم — جعلت فداك — أني لم أُرِدْ بمزاحك إلَّا أن أُضْحِك سنَّك، ولا كانت غايتي فيك إلا أن أَنفُق عندك، وقد كنتُ خفت ألَّا أكون وقفتُ على حدِّه وأشفقتُ من المجاوزة لقدره، والمزاح بابٌ ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان، وهو بابٌ متى فتَحَه فاتِح وطرَّق له مُطرِّق، لم يملك مِن سدِّه مثلَ الذي يملك مِن فتحِه، ولا يخرج منه بقدر ما كان قدَّم في نفسه؛ لأنه بابٌ أصلُ بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلَّا ما سخُف، ومِن شأنه التزيُّد، وأن يكون صاحبه قليلَ التحفُّظ.

ولم نَرَ شيئًا أبعدَ من شيء ولا أطول له صُحبةً ولا أشد خِلافًا، ولا أكثر له خلطةً من الجد والمُزاح والمناظرة والمِراء، قال القعقاع بن شَوْر: «ليس لمَزَّاح مُروءة ولا لمُمارٍ خِلَّة»، وقال مُعاوية: «المُزاح هو الشَّنار الأصغر.» وقال الحسن ابن حي: «المُزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى.» وعاب عمر بعض العظماء فقال: «ذاك رجُل فيه دُعابة.»

وقال الشاعر:

وجد القول يقدُمه المُزاحُ

وقال آخر:

رُبَّ كَبِير ساقَهُ صَغير

وقال الآخر:

رُبَّ جِدٍّ ساقَهُ اللعبُ

فإن كنتُ لم أقصر عن الغاية ولم أتجاوز حدَّ النهاية، فبما أعرف من يُمن مكالمتك، ومن بركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك، وجودة تثقيفك، وإن كنت قد أخطأتُ الطريق وجاوزتُ حدَّ المقدار، فما كان ذلك عن جهلٍ بفضلك، ولا إنكار لحقِّك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثلُ تَمامك، ولا مع المتكلِّف لها مثلُ كَمالك، دخل عليه من الخَلل بقدر عجزه وسلم منه بقدر نَفاذه، نعم ولو كان من العلماء الموصوفين والأدباء المذكورين.

ومن المزاح — جُعلت فداك — بابُ مَكْر وجِنْسُ خدع: يتَّكِل المرءُ في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: «مزحتُ»، وعلى أن يقول عند المحاكمة: «لعبتُ»، وعلى أن يقول: «مَن يغضب من المزاح إلَّا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيِّق العَطَن؟»

وبعدُ، فمتى أعدَّتَ النفسُ عُذرًا، كانت إلى القبيح أسرع ومتى لم تُعِدَّه، كانت عنه أبطأ، ومن أسباب الغَلَط فيه ومن دواعي الخطأ إليه، أن كثيرًا ممن تمازحه يضحك، وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مُزاحَك، وإن كنتَ قد أوجعتَه؛ فإن حَقَدَ ففي الحقد الداءُ، وإن عجِلَ فذلك البلاءُ، فإن قلتَ: «فما أدخلك في شيء هذا سبيله، وهكذا جوهرُه وطريقُه؟» قلتُ: «لأني حين أمنتُ عِقابَ الإساءة، ووثقتُ بثواب الإحسان وعلمتُ أنك لا تقضي إلَّا على العَمْد ولا تُعذِّب إلا على القَصْد، صار الأمنُ سائقًا والأملُ قائدًا، وأيُّ عملٍ أردُّ، وأي مَتْجر أربح، ممَّا جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة؟»

ولو كان هذا ذنبًا لكنتَ شريكي فيه، ولو كان تقصيرًا لكنتَ سببي إليه؛ لأن دَوام التغافُل شبيهٌ بالإهمال، وترك التعريف يُورِث الإغفال، والعفوَ المتتابِع والبِشْرَ الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفُّظ؛ ولذلك قال عُيَيْنَة بن حصن لعثمان بن عفان — رضي الله عنه: «عُمَرُ كان خيرًا لي منك: أرهبني فأتقاني وأعطاني فأغناني.» فإن كنتُ اجترأتُ عليك، فلم أجترئ عليك إلَّا بك، وإن كنتُ أخطأتُ فلم أخطئ إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقةَ بعفوك سببٌ إلى قِلَّة التحفُّظ وداعيةٌ إلى ترك التحرُّز.

وبعدُ، فمَن وهب الكبير فكيف يقف عند الصغير؟ ومن لم يزل يعفو عن العمد، كيف يعاقِب على السهو؟ ولو كان عِظَم قدري هو الذي عَظَّمَ ذنبي لكان عِظَم قدرك هو الذي شفع لي، ولو استحققتُ عِقابَك بإقدامي عليك مع خوفي منك لاستوجبتُ عفوَك عن إقدامي عليك لحسن ظني بك، على أني متى أوجبتُ لك العفوَ فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفتُ إليك العقاب فقد وصفتُك بالإنصاف، ولا أعلم حالَ الفضل إلَّا أشرفَ من حال العدل، ولا الحالَ التي توجب الشُّكر إلَّا أرفعَ من الحال التي توجب لك الصبر، فإن كنتَ لا تهب عقابي لحُرمتي فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النقمة؛ فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأحدوثة فعُدْ إلى حسن العادة، وإن لم تفعله لحسن العادة فأتِ ما أنت أهله.

واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قُضي لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عقلك حسُن العفو عني عندك، وفصلُ ما بيننا وبينك وفرقُ ما بين أقدارنا وقدرك أنا نُسيء وتغفر ونُذنب وتستر ونعوِّج وتقوِّم ونجهل وتعلم، وأن عليك الإنعام وعلينا الشُّكر، ومن صفاتك أن تفعل، ومن صفاتنا أن نصف، فإذا فعلتَ ما تقدر عليه من العقاب كنتَ كمَن فعل ما يقدر عليه من التعرُّض، وصِرتَ ترغب عن الشكر كما رغبنا عن التسليم، وصار التعرُّض لعفوك بالأمن باطلًا والتعرُّض لعقابك بالخوف حقًّا، ورغبتَ عن النبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصرتَ كمن يشفي غيظًا، أو يداوي حِقْدًا أو يُظهر القُدرة أو يُحب أن يُذكَر بالصَّوْلة.

ولم تجدهم — أبقاك الله — يحمدون القدرة إلَّا عند استعمالها في الخير، ولا يذمون العجز إلا لِمَا يفوت به من إتيان الجميل، وأنَّى لك بالعقاب وأنت خيرٌ كلُّك؟ ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجتَ الجود لأهله؟ وهل عندك إلا ما في طبعك؟ وكيف لك بخلاف عادتك؟ ولمَ تستكرهُ نفسك على المكافأة وطباعُك الصفحُ؟ ولمَ تكدُّها بالمنافسة ومذهبها المسامحة؟

فسُبحان مَن جعل أخلاقك وِفْق أعراقك، وفعلك وفق قولك، ومن جعل ظنَّك أقوى من يقيننا وفراستَك أثبتَ من عياننا، وعفوَك أرجحَ من جُهدنا، وبَداهتَك أجودَ من تفكُّرنا، وفعلَك أرفعَ من وصفِنا، وغيبتَك أهيبَ من حضور السادة، وعتبَك أشدَّ من عقاب الظَّلَمة!

وسبحان مَن جعلك تعفو عن المُتعمِد، وتتجافى عن عقاب المُصرِّ، وتتغافل عن المُبادِي، وتصفح عن المُتهاوِن، حتى إذا صرت إلى مَن ذنبُه نسيان، وتوبتُه إخلاص، وهفوتُه بكر، وشفيعُه حُرمة، ومَن لا يعرف الشُّكرَ إلا لك والإنعامَ إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ومن لم يقصِّر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صرتَ تتوعده بالصرم — وهو دليلٌ على كلِّ بليَّة — وتستعمل معه الإعراض، وهو قائد لكلِّ هَلَكة.

وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العُقوبة، وأن مَنْعَك إذا منعتَ في وزن إعطائك إذا أعطيتَ، وأن عقابك على حسب ثوابك، وأنَّ جزعي من حِرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأنَّ شَيْن غضبك كزَيْن رضاك، وأنَّ موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، ومالي اليوم عملٌ أنا إليه أسكنُ ولا شفيع أنا به أوثق من شدة جزعي من عتْبك، وإفراط هَلَعي من خوفك، ولستَ ممَّن إذا جاد بالصفح ومنَّ بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة، وإلا النجاة من الهلكة، بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة والقضايا الجزيلة، وبالعز في العشيرة والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر، وشَرَف العقب ومحبة النفس.

•••

وأما ذكري القد والخرط والطول والعرض، وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع والتشاجُر والتحاكُم والتنافُر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد، ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل، ومعناه معنى الجد، ولو استعمل الناس الرصانة في كلِّ حال والجدَّ في كلِّ مقال، وتركوا التسميح والتسهيل وعقدوا أعناقهم في كلِّ دقيق وجليل، لكان السَّفَهُ صُراحًا خيرًا لهم والباطلُ محضًا أردَّ عليهم، ولكن لكلِّ شيء قدر، ولكل حال شكل؛ فالضحِك في موضعه كالبُكاء في موضعه، والتبسُّم في موضعه كالقطوب في موضعه، وكذلك المنع والبذل والعقاب والعفو، وجميع القبْض والبسْط.

فإن ذممنا المُزاح، ففيه لعمري ما يُذَم وإن حمدناه، ففيه ما يُحمَد، وفصلُ ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع وحاله بحال السُّخف أشبه.

فأما أن يُذَمَّ حتى يكون كالظُّلم، ويُنفَى حتى يصير كالغدر، فلا؛ لأن المزاح مما يكون مرةً قبيحًا ومرةً حسنًا، والظلم لا يكون مرة قبيحًا ومرة حسنًا، فإذا مِلْنا إلى الجد ورغبنا عن الهزل وتركنا المزح وجلسنا للحكمة، فقد أغناك الله عن الحجَّة، كما سلَّمَك من الشبهة ولم يكلفك الاحتجاج كما رغب بك عن الاعتدال، فأصبحتَ لا محتجًّا ولا محجوجًا ولا غُفلًا ولا موسومًا ولا ملومًا ولا معذورًا ولا فيك اختلاف، ولا بك حاجةٌ إلى ائتلاف، وليس مع العيان وحشة، ولا مع الضرورة وجمة، ولا دون اليقين وقفة.

وهل في تَمامك ريب حتى تُعالج بالحجة؟ وهل ردَّ فضلَك جاحدٌ حتى يُثبت بالبيِّنة؟ وهل لك خصمٌ في العلم أو نِدٌّ في الفهم أو مُجارٍ في الحلم، أو ضِدٌّ في العزم؟ وهل يتبلغك الحسد أو تضرك العين؟ وهل تسمو إليك المُنى أو يطمع فيك طامع أو يتعاطى شأوَك باغٍ؟ وهل يطمع فاضلٌ أن يفوقك، أو يأنف شريفٌ أن يقصر دونك، أو يخشع عالمٌ أن يأخذ عنك؟ وهل غايةُ الجميل إلا وصفَك، وهل زيْن البليغ إلا مدحك، وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك، وهل يرجو الملهوف إلا غياثك، وهل للطلَّاب غرض سواك، وهل للغواني مَثَلٌ غيرك، وهل للماتِح رَجَزٌ إلا فيك، أو هل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك؟ وهل تُصرَف الإشارة إلا إليك؟

فلولا أن يأخذ الواصف بنصيبه منك، وبحِصَّته من الصدق فيك، وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطنابُ عندهم في وصفك لغوًا، وكان تشقيق الكلام عجزًا، ولكان تكلُّفه فضلًا.

ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك ويُمتحَن بالتسليم لك، ولم يعدَّ إقراره إحسانًا وخضوعَه إنصافًا؟ أم مَن الشبيه بك في منزلتك؟ ألست خَلَفَ الأخيار وبقيَّةَ الأبرار؟ وأي أمرك ليس بغاية؟ وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيءٌ يفوق شيئًا، أو يفوقه شيءٌ، أو يقال: «لو لم يكن كذا لكان أحسن» أو: «لو كان كذا لكان أتمَّ»؟

وأين الحُسن الخالص، والجمال الفائق، والملح المحض، والحَلاوة التي لا تستحيل، والتمام الذي لا يحيل، إلا فيك أو عندك أو لك أو معك؟ لا بل أين الحُسن المصمَت والجَمال المُفرَد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور، والفضل المشهور، إلَّا لك وفيك؟ وهل على ظَهْرها جميلٌ حسيب، أو عالمٌ أريب، إلَّا وظلُّك أكبرُ من شخصه وظنُّك أكثرُ من علمه، واسمك أفضلُ من معناه، وحُلمك أثبتُ من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليمٌ سواك؟ وهل أظلَّت الخضراء ذا لهجةٍ أصدق منك؟ وهل حملت النساء أجلَّ منك؟

ولربما رأيتُ الرجل حسنًا جميلًا، وحُلوًا مليحًا، وعتيقًا رشيقًا، وفخمًا نبيلًا، ثم لا يكون موزونَ الأعضاء ولا مُعدَّل الأجزاء، وقد تكون أيضًا الأقدارُ متساوية — غير مُتقارِبة ولا مُتفاوِتة — ويكون قصدًا ومقدارًا عدلًا، وإن كانت دقائق خفيَّة لا يراها إلَّا الألْمَعي ولطائف غامضة لا يعرفها إلَّا الذكيُّ، فأما الوزن المحقق والتعديل المصحح والتركيب الذي لا يفضحه التفرُّس ولا يحصره التعنُّت، ولا يتعلل جاذبُه، ولا يطمع في التمويه ناعتُه، فهو الذي خُصِصتَ به دون الأنام، ودام لك على الأيام.

وكذلك الحُسن، إذا كان حُرًّا مرسلًا وعتيقًا مطلقًا، لا يتحكم عليه الدهر، ولا يذبله الزمان ولا يغيره الحَدَثان، ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والكنِّ، ولا إلى المناقيش والكُحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سُهِّل في العيون تسهيلًا، وحُبِّب إلى القلوب تحبيبًا وقُرِّب إلى النفوس تقريبًا، حتى امتزج بالأرواح، وخالط الدماء وجرى في العروق، وتمشَّى في العظام، بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم، ولا السرور الشديد، ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزيةُ الظاهرة والفضيلة البيِّنة.

ولو لم يكن إلَّا أنَّا لا نستطيع أن نقول في الجُملة وعند الوصف والمِدحة: «هو أحسن من القمر أو أضوأ من الشمس، وأبهى من الغَيْث، ولهو أحسن من يوم الحلبة»، وأنَّا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: «كأن عُنقه إبريق فِضَّة، وكأن قدمه لسان حيَّة، وكأن عينه ماوِيَّة، وكأن بطنه قِبْطيَّة، وكأن ساقه بُرْديَّة، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حدُّ سيف، وكأن حاجبه خُطَّ بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البَرَد، وكأن فاه خاتَم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء، وأرق طباعًا من الهواء، ولهو أمضى من السيل، وأهدى من النجم»، لكان في ذلك البرهان النيِّر والدليل البيِّن! وكيف لا يكون كذلك، وأنت الغاية في كلِّ فضل والنهاية في كلِّ شكل.

وفيك قال الشاعر:

يزيدك وجههُ حُسنًا
إذا ما زِدْتَه نظرا

فأما قول الدمشقيين: «ما تأمَّلنا قط تأليف مسجدنا وتركيبَ محرابنا وقُبَّة مُصلَّانا، إلا أثار لنا التأمُّل واستخرج لنا التفرُّسُ غرائب حسنٍ لم نعرفها وعجائبَ صنعةٍ لم نقف عليها، وما ندري أجواهرُ مُقطَّعاته أكرمُ في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيدات الأجزاء.» فإن ذلك معنًى مسروق منِّي في وصفك ومأخوذٌ من كتبي في مدحك، والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال، أني لم أرك قطُّ إلا ذكرتُ الجنة، ولا رأيتُ أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرتُ النار.

فلا تعجب أيها السامع ولا تظن أني مُفرط، فإذا رأيتَه علمتَ أني فيما يجب له مقصِّر، وهو رجل طينتُه حُرَّة وعِرقه كريم ومَغرِسه طيِّب ومنشؤه محمود، غُذِّي بالنعمة وعاش في الغِبطة، وأرهفه التأديب وألطفه طول الفكرة وخامَره الأدب، وجرى في عرقه ماءُ الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعالُه كأخلاقه وأخلاقُه كأعراقه وعادتُه كطبيعته، وآخره كأوله؛ تحكي اختياراتُه التوفيق ومذاهبه التسديد، لا يعرف التكلُّف ويرغب عن التجوُّز، وينبل عن ترك الإنصاف ولا يمتنع عليه معرفةُ المبهَم ولا يُلحَّج باستبانة المشكِل، ولا يعرف الشكَّ إلَّا في غيره، ولا العيَّ إلا سماعًا.

يتخيَّر من الألفاظ أرقها مخرجًا، ومن المعاني أدقها مسلكًا، وأحسنها قبولًا، وأجودها وقوعًا، وأتمها إطماعًا، بأقوى الكلام وأوجزِه وأعذبه وأحسنه، يقلِّل عَدَدَ حروفه، ويُكثر عدد معانيه، ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقًا؛ إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكُّنه وعقله وسعة صدره.

وبعدُ، فمن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك، وكيف وقد أصبحتَ وما على ظهرها خَوْدٌ إلا وهي تعثُر باسمك، ولا قَيْنة إلا وهي تغني بمدحك ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حُبِّك ولا محجوبةٌ إلا وهي تنقب الخروق لممرِّك، ولا عجوزٌ إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك، فكَمْ من كَبِد حرَّى مُنْضَجة ومصدوعة مفرَثَة، وكم من حشا خافِق وقلبٍ هائم، وكم من عين ساهرة وأُخرى جامدة، وأُخرى باكية، وكم من عَبْرَى مُولهة وفتاةٍ معذَّبة قد أقرح قلبها الحزنُ وأجمد عينَها الكَمَدُ، قد استبدلت بالحلي العُطلة وبالأُنس الوحشة وبالتكحيل المَرَهَ، فأصبحت والهةً مبهوتة وهائمة مجهودة بعد طَرَفَ ناصع وسنٍّ ضاحك وغُنْج ساحر، وبعد أن كانت نارًا تتوقَّد وشعلةً تتوهج.

وليس حُسنك — أبقاك الله — الذي تبقَى معه توبة أو تصحُّ معه عقيدة، أو يدوم معه عَهْد، أو يثبت معه عزْم أو يمهل صاحبه التثبُّت، أو يتسع للتخيُّر، أو يُنَهْنِهه زجْرٌ، أو يهذِّبه خوف، هو — أعزك الله — شيءٌ ينقضُ العادة ويفسَخ المنَّة، ويُعجِل عن الرَّويَّة ويطرَح بالعَراء، وتُنسَى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — لَصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولركَّبك بأعظمَ مما ركَّب به جَعْدَة السُّلمي، بل لَدَعاه الشُّغل بك إلى ترك التشاغُل بهما والغيظُ عليك إلى الرحمة لهما.

فمن كان عيبُ حُسنِه الإفراط والطعنُ عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم؟ فلا تعجب إن كنتَ نهاية الهِمَّة وغاية الأُمنية، فإن حُسن الوجه إذا وافق حُسن القَوام وجودة الرأي وكثرة العلم وسَعة الخلق والمغرس الطيب والنِّصاب الكريم والطَّرَف الناصع واللسان البين والنغمة البهِجة والمخرج السهل والحديث المؤنق، مع الإشارة الحسنة، والنُّبل في الجِلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهُّل في المحاورة، والهذِّ عند المناقلة، والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الإطناب، كان أكثرَ لتضاعُف الحسن، وأحقَّ بالكمال والحمد.

والتاج بهي وهو على رأس المَلِك أبهى، والياقوت كريمٌ حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن، وهو في فم الأعرابي أحسن، وإن كان من قول المُنشِد وقريضه ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.

وما ندري في أيِّ الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل: إذا فرَّقْناك أم إذا تأمَّلنا بعضك.

أما كفُّك فهي التي لم تُخلَق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسُن بحُسنها كلُّ ما اتصل بها ويختال بها كلُّ ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري آلكأس في يدك أحسن أم القلم، أم الرمح الذي تحمله، أم المِخصرة، أم العنان الذي تُمسكه، أم السوط الذي تعلقه، وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، وأيها أجمل وأشكل: آللمَّة أم خط اللحية أم الإكليل أم العِصابة أم التاج أم العمامة أم القناع أم القلنسوة.

وأما قَدَمُك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، أنها لم تُخلَق إلا لمِنْبَر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم.

وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوَّه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل: آلحديث أم الشعر أم الاحتجاج أم الأمر والنهي أم التعليم والوصف، وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى: أقلمُك أم خطُّك أم لفظك أم إشارتك أم عقدك، وهل البيان إلا لفظ أو خطٌّ أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم — والحمد لله — وواحدهم — وأعيذك بالله — وأنت تجوز الغاية وتفوق النهاية.

وقد علمنا أن القمر هو الذي يُضرَب به الأمثال ويشبَّه به أهلُ الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلًا نِضوًا، ويظهر مُعْوَجًّا شخْتًا، وأنت أبدًا قمرٌ بدر وبحرٌ غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار، ويُتشاءَم به في المحاق، ويكون نَحْسًا كما يكون سعدًا، ويكون ضرًّا كما يكون نفعًا، ويقرِض الكتان ويشجب الألوان ويخِمُّ فيه اللحم، وأنت دائم اليمن ظاهرُ السعادة ثابت الكمال شائع النفع، تكسو مَن أعراه، وتكنُّ مَن أشحبَه، وعلى أنه قد محق حُسنه المحاقُ وشانه الكَلَف وليس بذي توقُّد واشتعال، ولا خالص البياض ولا متلألئ، يعلوه الغيم ويكسوه ظِلُّ الأرض، ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله وليلة فخره واحتفاله، وكثيرًا ما يعتريه الصُّفار من بُخار البحار، وأنت ظاهر التمام دائم الكمال سليم الجوهر كريم العنصر ناري التوقُّد هوائي الذهن دُرِّي اللون روحاني البدن.

فإن احتجُّوا عليك بالمد والجزر احتجَجْتَ عليهم بالعِلم والحِلم، وبأن طاعتك اختيارٌ واعتبار، وطاعته طِباع واضطرار، وبأنَّ له سِيرةً قد قُصِّر عليها ومنازل لا يجاوزها، لا تُمكنه البدَوات وليس في قواه فضلٌ للتصرُّف، وعلى أن ضياءه مُستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق؛ فكم بين المُعِير والمستعير والمتبيِّن والمتحيِّر وبين العالم وما لا حسَّ فيه، فلا زالت الأرض بك مُشرِقة والدنيا معمورة ومجالس الخير مأهولة ونسيم الهواء طيبًا وتُراب الأرض عبِقًا.

إن تفتَّيْتَ فالرشاقة والمِلح، وإن تنسَّكت فالرهبانية والإخلاص، وإن ترزنت فثهلان ذو الهَضَبات ما يتحلحل، وطِباعك — جُعلت فداك — طباع الخمر، إلا أنها حَرام وأنت حلال، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت، وقد حويتَ خِصال الياقوت، إلا ما زادك الله عليه، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضَّلك الله به، وجمعت خِلال الدُّر إلا ما خُصِصت به دونه، فلك من كلِّ شيء صَفوتُه ولُبابه وشَرَفُه وبهاؤه، وهل يضرُّ القمر نُباحُ الكلاب، وهل يزعزع النخلة سُقوط البعوضة عليها؟

•••

فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقلُّه، وقد ذهب الناس في المزاح إلى معانٍ متضادَّة وسلكوا منه في طُرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خيرٌ من جميع الجِدِّ، وزعم آخرون أن الخير والشر عليها مقسومان، وأن الحمد والذمَّ بينهما نصفان، وسنأتي على جُمَل هذه الأقاويل، ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.

فأما المحامي على الهزل والمفضِّل للمزح، فإنه قال: «أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حُسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلَّا من فضل حاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل غنًى، وأن الجد نَصَب، والمزح جمام، والجد مَبْغَضة، والمزح محبَّة، وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رَخاء إلى أن يخرج منه، والجد مؤلِم وربما عرَّضك لأشد منه، والمزح مُلِذٌّ، وربما عرَّضك لألذَّ منه، فقد شاركه في التعريض للخير والشر وبايَنَه بتعجيل الخير دون الشر، وإنما تَشاغَلَ الناس ليفرغوا وجدُّوا ليهزلوا، كما تذلَّلوا ليعِزُّوا، وكدُّوا ليستريحوا.

وإن كان المزاح إنما صار معيبًا، والهزلُ مذمومًا؛ لأن صاحبه لا يكون إلا معرَّضًا لمجاوزة القدر ومخاطرًا بمودة الصديق، فالجد داعيةٌ إلى الإفراط كما أن المزاح داعيةٌ إلى مجاوزة القدر، والتجاوز للحدِّ قاطع بين الفريقين في جميع النوعين؛ فقد ساواه المزاح فيما هو له وبايَنَه فيما ليس له، وإن كان المزح قبيحًا لأنه يُورِث الجد فأقبحُ من المزح ما صيَّرَ المزح قبيحًا، وإذا صار المزحُ قبيحًا لأن الذي بعدَه الجدُّ ولم يصِر الجدُّ قبيحًا لأن الذي بعده المزحُ، كان الجد في هذا الوزن أقبحَ من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد؛ لأن ما جعل الشيءَ قبيحًا أقبحُ من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنًا أحسنُ من الشيء.»

وأما الذي عدَّل بينهما، فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقِّه كالبذل في حقِّه، فقال: «ولكلِّ شيء موضع وليس شيء يصلُح في كلِّ موضع، وقد قسم الله الخير على المعدلة وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسَّطَ أجزاء المثوبة على العزيمة والرُّخْصة وعلى الإعلان والتقيَّة؛ فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوَّزَ المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوَّغ في المُباح كما شدَّد في المفروض، وجعل المباح جمامًا للقلوب، وراحةً للأبدان وعونًا على معاودة الأعمال، فصار الإطلاق كالحَظْر والصبر كالشكر.

وليس للإنسان من الخيرة في الذِّكر شيءٌ إلَّا وله في النِّسيان مثله، ولا في الفِطنة شيءٌ إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيءٌ إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق اللهُ العبادَ إلا بالصواب مَحْضًا وبالصدق صِرْفًا، وبمر الحقِّ صفحًا، لهلك العوام وانتقض أمرُ الخواصِّ، ولو ذكر الإنسان كلَّ ما أُنسِيَه لشَقِي ولو جدَّ في كلِّ شيء لانتكث، وقد يكون الذكر للهلكة سُلَّمًا، كما يكون النسيان للسلامة سببًا، وسبيلُ المزاح والجد كسبيل المنع والبذل، وعلى ذلك مَجْرَى جميع القَبْض والبسْط.»

فهذا وما قبله جُمَل أقاويل القوم، ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعُم أن بعض المزح خيرٌ من بعض الجد وعامَّة الجد خيرٌ من عامَّة المزح، والحق أن يُنْضَح عن بعض المزح ويُحتجَّ لجمهور الجد، وكيف لنا بذمِّ جميع المزح مع ما نحن ذاكرون؟ قال الشاعر:

… … … …
وذو باطلٍ إن شئْتَ ألْهاكَ باطِلُه

وقال آخر:

أخو الجد إن يجدد فما من وَتِيرة
لديه وإن يهْزِل يُعلِّلْك باطِلُه

وإن كانوا قد تسمَّوا بعابس وعبَّاس وشتيم وكالح وقاطب وحَرْب ومُرَّة وصَخْر وحَنْظَلة وحزن وحُجر وقِرْد وخنزير، فقد تسمَّوا بالضحَّاك والبطَّال وبسَّام وهزَّال ونشيط، وقد مزح رسول الله ولا يُقال: «كان فيه مُزاح»، وكذلك لا يقال: «مَزَّاح»، وكذلك الأئمة ومَن هزل في بعض الحالات من أهل الحِلْم والوَقار، فممَّا رُوي عنه قوله: «يا أبا عُمير ما فعل النُّغَيْر؟» وقوله: «لا تدخل الجنةَ عجوز!» وقوله: «زوجُك الذي في عينه بياض.»

وقد كان علي — رضي الله عنه — يمزح، وقال عمر: «إنَّا إذا خلونا كُنا كأحدكم.» وقد كان عمر عَبوسًا قطوبًا، وقد كان زياد، مع كلوحه وقُطوبه، يمازح أهله في الخلاء كما يجدُّ في الملأ، وكان الحجاج مع عُتوِّه وطغيانه وتمرُّده وشِدة سلطانه، يمازح أزواجه ويُرقِّص صبيانه، وقال له قائل: «أيمازح الأميرُ أهله؟ فقال: والله إن تَرَوْني إلَّا شيطانًا! والله لربَّما رأيتني وأنا أقبِّل رِجْل إحداهن.» فقد ذكرنا خير العالمين وجلَّةً من خيار المسلمين وجبَّارًا عنيدًا وكافرًا لعينًا.

وبعدُ، فمن حرَّم المزاح، وهو شُعْبة من شُعَب السهولة، وفرعٌ من فروع الطلاقة؟ وقد أتانا رسول الله بالحنفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة، وقد أمرنا بإفشاء السلام والبِشْر عند التلاقي، وأمرنا بالتزاوُر والتصافُح والتهادي، وقالوا: «وكان رسول الله يضحك تبسُّمًا.» وقالوا: «كان لا يستغرب ضحكًا.» وقال: «ارفقوا على صاحبكم.» وقال: «هذه أيام أكل وشُرْب وتعلُّل.» وسمع جواريَ تضرب الكَبَر عند عائشة فلم يُنكره، وضحك من قِيافة مُجزِّز المُدْلِجي والأعرابي صاحب العَسَل.

•••

قد اعتذرنا في معصيتك والخلاف على محبتك، مرة بالمزح ومرة بالنسيان ومرة بالاتكال على عفوك، وعلى ما هو أولى بك، على أني لم أُرِدْ بمزاحك إلا ضحك سنِّك، انظر هل هرمتُ إلا في طاعتك وهل أخلقَنِي إلا مُعاناة خدمتك، وفي الجملة إنا لو تعمَّدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا، لكان في فضلك ما يتغمدنا وفي كرمك ما يُوجِب التغافل عنا، فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل، فحظَّك أصبتَ ولنفسك نظرتَ، وإن لم تقبل فاجهد جهدك، ثم اجهد جهدك ولا أبقى الله عليك إن أبقيت ولا عفا عنك إن عفوت، وأقول كما قال أخو بني مِنْقَر:

فما بُقيَا عليَّ تركتُماني
ولكن خِفْتُما صَرَدَ النِّبالِ

والله لئن رميتني ببَجِيلة لأرمينَّك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضنَّ بأحمد بن خلف وبإسماعيل بن علي، ولئن صُلتَ عليَّ بسليمان بن وَهْب لأدمغنَّك بالحسن بن وهب، ولئن تِهتَ عليَّ بمنادمة جَعْفر الخياط لأتيهنَّ عليك بحِسْبة وَهْب الدلَّال، وأنا أرى لك أن تقبل العافية وترغب إلى الله تعالى في طول السلامة، واحذرِ البغي فإن مسرحه وَخيم، واتقِ الظلم فإن مرعاه وبيل، وإياك أن تتعرض لجرير إذا هجا وللفرزدق إذا فخُرَ ولهرثمة إذا دبر، ولقيس بن زهير إذا مَكَرَ، وللأغلب إذا كرَّ، ولطاهِر إذا صال، ومَن عرف قدرَه عرف قدر خَصْمِه، ومن جهل قدْر نفسه لم يعرف قدر غيره.

وقد رعيتُ لك حقَّ نبيذك وحُسن شرابك، وإن كان فوق العَيُّوق ودونه بَيْضُ الأنوق، وحق توتيائك، وإن بعثت به خالصًا، وعليك بالجادة فإنه خيرٌ لك ودعِ الثَّنيَّات فإنه أمثل بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الاختبار، أنِّي لم أرَ أشدَّ عقلًا وأظهر حزمًا وألطف كيدًا وأكثر علمًا وأوزن حلمًا وأخف روحًا وأكرم عينًا وأقلَّ عيبًا وأحسن قدًّا وأبعد غورًا وأجمل وجهًا وأنصع طرفًا وأكثر مِلحًا وأنطق لسانًا وأحسن بيانًا وأجهر جهارة وأحسن إشارة منك.

وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار وتموِّه نفسك وتغرُّ من قدرك وتتهيَّأ بالثياب وتتنبَّل بالمراكب وتتحبَّب بحسن اللقاء؛ ليس عندك إلا ذلك، فلمَ تزاحم البحار بالجداول والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجُزء الذي لا يتجزَّأ!

فأما البادُّ والقامة، فمَن يعدل بين القناة والكُرة، ومَن يمثل بين النخلة والدكان، وبين رَحَى الطحان وسيف يمان؟ وإنما يكون التمثيل بين أتمِّ الخيرين وأنقص الشرين، وبين المُتقارِبين دون المُتفاوِتين، فأما الخلُّ والعسل والحصاة والجبل والسُّم والغذاء والفقر والغنى، فهذا ما لا يُخطِئ فيه الذِّهن ولا يكذب فيه الحِسُّ.

والخطأ ثلاث: خطأ الحِسِّ، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي، كلُّ ذلك سبيله التنبيه والتذكير والتقويم والتأنيب، والعَمْدُ نوعٌ واحد وسبيله القمع والحظر والضرْب والقتل، أوَّل ذلك أن يُبهرِجَه صاحبُ الحكمة ولا يطمعَه في وعْظ ولا مجالَسة.

وقد رأيتُ من يُعاند الحقَّ إذا كانت المعرفةُ به استنباطًا، ولم أرَ من يُعاند الحق إذا كانت المعرفة به عِيانًا، وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو إليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة فيه حتى تكون لك فيه الرئاسة، ولا ترضى بالرئاسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالِد، ولا بالتالِد دون الأعراق التي تسري والمواليد التي تنمي، ولا ترضى أن تكون أوَّلًا حتى تكون آخرًا، ولا بالمداراة دون المُباداة، ولا بالجدال دون القتال وحتى ترى أن التقيَّة حَرام وأن التقصير كُفر!

وحتى لو كنت إمام الرافضة لقُتِلتَ في طَرْفة، ولو قُتلتَ في طرفة لهلكت الأُمة لأنك رجل لا عقب لك، والإمامة اليوم لا تصلُح في الإخوة ولو صلحت في الإخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم إنها دَنَتْ من الأرحام بعد ذلك فصارت لا تصلح إلَّا في الولد، وفي هذا القياس إنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه إلى آخر الأبد، وهذا هو عِلَّة أصحاب المُناسخة، وأنت رافضي ولم يكن هذا عندك، فأهدِ إليَّ الآن من خالص التوتياء، كما أهديتُ إليك باب التناسخ.

وأنت ترى القتل في حقِّ المعاندة شهادةً، وترى أن مُبايَنة المُنصِفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرئاسة في دَفْع الحقائق مَرْتَبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضَعة، وأن الشهرة بالمبالغة رفعة، أظهرُ القوم عندك حُجَّةً أرفعهم صوتًا، وأخلقُهم للتوبة أصلبهم وجهًا، وأحسنُهم تقيَّةً أقلُّهم تحرجًا، وأكثرهم عندك إنصافًا أشدُّهم شَغَبًا، تعشق المتهوِّر وتكلف بالجَموح وتُصافي الوقاح، والأديب عندك من عابَ أحاديث الجلساء واعترض على نوادر الإخوان، وغمزَ في قفا النديم ونَصَب للعالم وأبغض العاقل واستثقل الظريف وحَسَدَ على كلِّ نعمة وأنكر كلَّ حقيقة.

•••

جعلتُ فداك، إنما أُخرجك من شيء إلى شيء، وأُورد عليك البابَ بعد الباب؛ لأن من شأن الناس مَلالة الكثير واستثقالَ الطويل، وإن كثرت محاسنُه، وجمَّت فوائده، وإنما أردتُ أن يكون استطرافك للتالي قبل أن ينقضي استطرافُك للماضي؛ لأنك متى كنت للشيء منتظرًا وله متوقِّعًا كان أحظى لِمَا يرد عليك وأشهى لما يُهدَى إليك، وكلُّ مَنتظَر مُعظَّم، وكلُّ مأمول مُكرَّم؛ كلُّ ذلك رغبة في الفائدة وصبابةً بالعلم، وكلفًا بالاقتباس، وشُحًّا على نصيبي منك، وضنًّا بما أُؤَمِّلُه عندك، ومُداراةً لطباعك، واستزادةً من نشاطك؛ ولأنك على كلِّ حالٍ بشر؛ ولأنك متناهي القوة مدبر.

•••

خبرني كيف كانت خدائع المتنبِّئين ومخاريقُ الكذابين ممن قد كان ترشَّح للتنبُّؤ ومَن لم يُظهِر دعوته، ومَن دعا واجتهد ومَن أُجيب ومن لم يُجَب، وصِفْ لي أبواب مَصايدهم، وأجناس كَيْدهم وحِيَلهم، وعن اعتمادهم على المواطأة وعن تقدُّمهم في الحُجَّة، وعمن ذهب في طريق التعهُّد، وعن أصحاب الزجر والتنجيم، وعن أصحاب الاسترحام؟ وعن إظهار الزُّهد وتحريم الاستمتاع، ومَن وافق صورتَه وحالَه بعضُ ما في البشارات المُتقدِّمة وفي الكُتُب الصحيحة، ومَن اتفق له غيرُ ذلك من الشَّبَه.

فقُل في شيث بن آدم وقل في زَرَادشْت، وفي ماني وفي فولس، وفيما ادَّعى لمرقس ومتَّى ولوقا ويوحنَّا.

وخبِّرْني عن الأسْوَد العَنْسي ومُسَيْلِمة الحَنَفي وطُلَيْحة الأسدي وبنت عُقْفان ورِبْعي؟ وأُمية بن أبي الصَّلْت، وما قصةُ الطائرين الأخضرين، وما كان شأن الرَّمَّاح، وخبرني عن سَلامة بن جَنْدَل، وما قال الهند في نُزول البُدِّ، وقصة بن دَيْصان، وما قول عَبَدة الكِيان، وعُبَّاد قوة الهَيُولي وأصحاب البيضة، ومَن عَبَدَ النجوم، وثبَّتَ لها الحِسَّ والعلم والنفع والضر؟

ومَن جعل كلَّ داعٍ إلى الله بالصواب والعدل وصلة الرحم ونفي الجهل نبيًّا، ومن أنكر أصلَ النبوة البتة؟ وما تقول في حَنْظَلة بن صفوان وخالد بن سِنان؟ وقل في الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها.

وهل يجوز أن يكفُر نبيٌّ أو يُشرك أو يضل بعد هدايته ويصير عدوًّا بعد ولايته، ويدلُّ اللهُ على كذبه كما دلَّ على صدقه؟ وكيف صار النبي عندكم يعصي ولا يُخطئ والإمام لا يعصي ولا يخطئ؟ وكيف ساغ ذلك في جميع النبيين وأمكن في جميع المرسلين — على كثرة عدد النبيين والمرسلين — ولم يجُز ذلك في إمام واحد، مع قلة عدد الأئمة مذ كانوا؟

وخبرني لمَ تنصَّر النُّعمان ويزيد بن الحارث وتهوَّد ذو نُواس وتمجَّست ملوك سبأ، وكيف صارت العرب فِرَقًا بين مُحِلٍّ ومُحرِّم وأحْمَسِيٍّ سوى تفرُّقهم في الملل؟ وكيف لم نرَ أُمة قطُّ دَهْرِية، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يتنبَّأ دهري؟ وكيف لم يتدهَّر ملكٌ؟ وكيف لم نجد قولَ الدهرية إلا في الخاص والشاذ والرجل النادر؟

ولمَ كان لجميع أهل الأديان مملكة وملوك إلا الزنادقة؟ ولم قَتَلَهم جميع الأمم السالفة؟ ولم قضيتَ بهذا، وقد رأينا المَزْدَكية والدِّيناوريَّة والتُّغُزْغُزِيَّة؟ فإن قلتَ: «لئن من لم يكن من دينه القتال، ولا من غريزته البأس، فهو مسلوب أو مسترق.» فما بال الروم تمنع أن تُسترقَّ وأن تُسلَب وليس من دينهم قِتال ولا جِدال ولا مكافحة ولا دَفْع؟

جُعِلت فداك، أين كان عبد الله بن هِلال الحميري — صديق إبليس — من كرباش الهندي؟ وأين كان يقع منهما صالح المُدَيْبري؟ وأين عُبيد مُج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهُجَيْمي، وأين كان أبو منصور في المخاريق من جرمي، وأين بابويه من خسر خسره، وأين قشة اليهودي من كشة؟ وما فصْلُ ما بين الكهانة والشَّعْبَذة، وما فصلُ ما بين الحازي والعرَّاف؟ وأين كان عُزَّى سَلَمة من سَطيح الذِّئبي؟ وأين كان الأَبْلَق الأسدي من رياح بن كُهَيْلة؟ وأين كاهنة سعد هُذَيْم من حُلَيْس الخطاط؟

وحدِّثْني عن ساحرة حَفْصَة وساحرة عائشة: أقتلتاهما بإقرار منهما، أم بمعرفة منهما بكيفية السحر؟ وحدثني عن صاحب جُنْدَب بن زُهير: أبإقرار قَتَلَهُ أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟ وهل ثبت — جُعلت فداك — أن النبي سُحر في جف طَلْعَة ووُضِع تحت راعوفة البئر أم لا؟

وخبرني ما النيرنجات؟ وما البارباي؟ وما الكُرَويَّات؟ وما الخواتيم وما المنادِل؟ والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السَّكينة التي كانت في التابوت؛ فقد اختلف المفسِّرون فيها، وزعموا أنها كانت رأس هِر، وما سفسف ياسينيَّة؟ وما الفتل؟ وما التوجيه؟ وخبرني ما تأويل الزَّمْزمة، وما فعل المال الذي مَن أخذ منه ندم، ومَن لم يأخذ منه ندم؟ وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم.

وخبرني — جُعلت فداك — عن قولك في الشعر الذي نُنشده في المَنام ممَّا لم نسمع بأجود منه في اليَقَظة، وعن الشعر الذي نخترعه عن مناقلة الكلام، وموازنة الأمور وحال النوم وحال الآفة والنقص وصاحبُه مغمور أو شبيه بالمغمور، ولا يجري عليه قلم ولا يُلام ولا يُشكَر؟

ولمَ صرنا نتذكَّر الشيء المُهمَّ فلا نقدر عليه حتى ندعه، فأيسنا منه، أجمعَ ما نكون أنفُسًا، وأحسنَ ما نكون تذكُّرًا، ثم يعارضنا ويخطُر على بالنا في حال سَهَر أو في حال نوم، أغنَى ما نكون عنه، وأقلَّ ما نكون احتفالًا به؟ ولمَ صرنا ننسى من القصيدة بيتًا أو آية من جميع السورة أو كلمة من جميع كلام الخطبة؟

ولمَ صار البلغم بالباء أولى منه بالتاء؟ ولم كانت المِرة السوداء بالجيم أولى منها بالحاء؟ وكذلك القلب المانع من الحفظ، وهل بُدٌّ للحقيقة من خصائص أسباب وأعيان عِلَل؟ وإلا فقد يجوز أن تُنسَى هذه القصيدة بَدَلَ تلك، ولِمَ صار بعض الناس أحفظ للنَّسَب وبعضُهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للألفاظ؟ ولمَ صرنا لا ننسى السباحة وبالاكتساب عرفناها، والعادةُ أن المكتسَب قد يُنسى ويُجهَل، وأن الضروريات لا تُجهَل؟

وقل لي لمَ لمْ تضرب السَّامِري، ولم تُعِضَّ ماني وتُمضَّه، ولمَ لمْ تبزُق في وجه فرعون؟ أم إن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قوالة الكناني حين بال على رأس النُّعمان — وأنت رجل يَمان — هي التي منعتك من أن تبزق في وجه فرعون وأنت سمعته يقول: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، ولم أزعم أنك رجل يمان لولادةٍ لك في قحطان؛ كيف، وأنت أقدمُ من قحطان ومَعَد بن عدنان، ومن القرون التي خبَّر اللهُ عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها! ولكنَّك منهم بالهوى والنُّصرة؛ ولأنهم كانوا لك أحشامًا وصنيعة.

وقل لمَ صار جميع الحيوان يسبَح إلا الإنسان والقرد والعقرب والفَرَس الأعسر.

وأيُّ شيء عندك في آصَف وفي سِفْر آدم وفي جِراب موسى وفي درسب وفي شلنة؟ وفي كتاب الأسماء وفي قولهم: «دعا فلان باسم الله الأعظم»؟ وما تقول في ابن عَقيب وفي أشجِّ المعمر؟ وفي شُعَيْب وصالح، وفي السُّفياني، وفي الأصفر القحطاني؟

وخبرني — جُعلت فداك — مذ كم صُنِع حساب الهسميرج، ومن صاحب خطوط الهند، وأين كتب قومٌ صنعةَ السند هند والأركند، وحساب كلاسفر، ومذ كم عُمِل باب الجمع، ومذ كم عمل الأرثماطيقي، ومَن سمَّى الجبر بالجبر، والجذر بالجذر والنشاذر بالنشاذر؟ والأكْدَرية: من أي شيءٍ اشتُقَّتْ؟ وما تأويلُ الدحال؟ وما تأويل الجُمَل؟

ومَن أولُ من عدَّ إلى عشرة، وجعل العشرة منتهى وغاية، ثم ضاعفها وجعل غاياتِ الأعداد عشر العشرات وعشرات عشرات العشرات أبدًا، ثم كسر على العشرة مما دون أعدادها؛ لأن الأصابع عشرة؟ وكيف لم يجعل الغاية ما له نصفٌ وثُلث ورُبع وسُدس وثُمن؟ أم رأى أن التضعيف أبدًا لا يكون إلا للعشرات فقد نجده في عشر العشرات، أم القول الأوَّل: الأشياء كلها عشرات؟

ولست أعرف — جُعلت فداك — قولَه: «إن الإنسان عشرة أشياء.» كما لم أعرف قول الفَزاري: «إن العقل كُريٌّ.» وقد علمت أن القلب كريٌّ، وأن الرأس الذي جمع الحواس كريٌّ، فأما العلم والقول وما أشبههما؛ فإنَّا لا نعرف هذه الأمور إلا على خلاف الأجرام الموصولة والمقطوعة!

•••

وقد شدوتُ من الموسيقي ولم أبلغ منه شهوتي: فخبرني أين كان أقليدُس وميرسطوس من فيثاغورس، وأين تلامذتهما من تلامذته، وهلَّا قدَّمتم أقليدس مع صنعة البرابط والمعازف؟ وأين أرشجانُس من مورسطوس؟ وأين ريوشث من فَهْلَوَذ، ولمَ قتله وهو فوقه في الإطراب والصنعة، وفي الرواية والرئاسة؟ ولمَ عفا سابور عن قتله بعد إقراره بقتله وبعد أن سُحب إلى الفِيَلة، وعزم على إمضاء الحكم؟

وأين كانت هِنْد وفَرْتَنَا والجرادتين؟ وأين ظبْية والرباب من السَّرَادن والمِهراس؟ وأين حَبَابة وسَلَامة صاحبتا يزيد من عزة الميلاء وجميلة الحدباء، وأين جميلة من الميلاء؟

وخبِّرْني عن غناء الرَّكبانيَّة للمُصطَلِق: آخذته منه الركبان أم للركبان؟ وهل رجعه بخُسر المصطلق؟ وزعمتَ أن الأهزاج لليَمَن، وأن النَّصْب للقينات؟ فلِمَن السِّناد؟ فخبرني أين كان ضُبَيْس بن حَرام من المصطلق بن سعيدة.

ولم جعل المعلِّم النَّغْمَ يعد لليونان ست عشرة نَغَمة؛ ألأنه لم يُدرك أكثر منها، أم لأنه ليس في الحلقة إلا ما أدرك؟ ولمَ جعل الرُّعب للسوداء والحزن للبلغم والجرأة للصفراء والسرور للدم؟ ولمَ قسم الأوتار على ذلك، فجعل الزير للصفراء والمَثْنَى للدم والمَثْلَث للبلغم والبمِّ للسوداء؟ وقال: الزير لطيف ناري خفيف، والمثنى هوائي بين طبيعة النار، وهو دون النار في الخفة، والمثلث كالماء، والبم كالأرض، وفي المثنى ضِعْف وزن الزير، وفي المثلث ضعفَا وزنِ الزير، وفي البم ثلاثة أضعاف؟

ولمَ زعم أن من اللُّحون ما يُقلق ويُفرق، فإن زِيدَ فيه نَقَضَ، وإن قوي قَتَلَ؟ وأن فيها ما يُغير، فإن زِيد فيه غَشَّى وإن قوي أجمد، وإن قوي قَتَلَ، فجعل لحنًا مطلقًا يقتل بالإذابة، وجعل لحنًا يقتل بالإجماد؟ ولمَ وصف اللُّحون بالإجماد والإذابة، كما تُوصَف السمومُ القاتلة؟

وخبرني عن صنيعة البَرْبَط: ألِلَمَك أم لرفائيل أم لأقليدس؟ وما تقول في قولهم: إن لمكًا عمل العُود على صورة فَخِذ ابنه؛ ساقها وقَدَمها وأصابعها، وإنه جعل الصدر الفخذ والساق الإبريق والقَدَم المشْط والأصابع الملاوي والأوتار العَصَب والعُروق؟

جعلتُ فداك، كيف حِفْظُك لكتاب كارنامك، وقد خبَّرني بعضُ المتكلِّمين أنه رأى بسيراف مجوسيًّا يحفظه وهو في ألف جلد بخط مُقارِب؟ وكيف حِفْظُك لكتاب الطرف، وهل لقِيتَ واضعه أيام أدخلك بلادَ الروم نزولُ عُطارد؟

وخبرني عن أسرار الهند: ألِرجل بعينه أم لشُورى؟ ولمَ زعموا أن العقوق يُورِث البَرَص، وهذا مما لا يُعرَف في الطب؟ ومن صاحب الشطرنج؟ ومن صاحب كليلة ودِمْنة؟ ومن واضعُ الكَوْكَلة؟ ومَن صنع القلعة؟ ولمَ صار الهندي والرومي لا يحفلان بالسِّندي في حال الأسر، ويرغبان عنه في حال القِتال؟

وقد اختلفوا علينا في النِّعال السِّندية؛ فزعم قومٌ أن صاحِب كتاب الباه كان قصيرًا مُنكَرًا، وكان بالنساء مستهتِرًا، وأنه احتال بها لجسمه حتى وَصَلَها برجله ليكون ثِخَنُها زائدًا في طوله، فلما طالت الأيام ومضت الدهور، ظنَّ مَن لا علم له أنها اتُّخِذت للزينة أو لضربٍ من المَرْفِق.

وقال آخرون: بل اتُّخذت للعقارب ليلًا وللطين نهارًا، فلما طال عليها الدهر نُسِيَ السبب، وذلك أن أكثر الرِّداغ لا تستغرق ثِخَنَها، وإبرة العقرب لا تكاد تجاوزها، وقال آخرون: بل إنما اتخذتها ملوكُها لمكان أصواتها وصريرها، استئذانًا على أزواجها وأمهات أولادها وعلى جميع محارمها، لحالاتٍ يكُنَّ عليها وأمورٍ يكُنَّ فيها، فصار صريرُها تدنِّيًا واستئذانًا.

وزعم إسماعيل بن علي أنك أنت الذي كنتَ أمرت باتخاذها وأشرتَ بصنعها، وأنك تكتُم السرَّ الذي فيها.

وأنك الذي علَّمتهم مَضْغ التانَبُول، ودبغَ تحمير الأسنان، وتطييب النَّكْهة، وأكلَ السُّعْد لِمَا أنت أعلم به والتصندُلَ لِمَا لا يجوز المكاتبة فيه.

وأنك أوَّل من احتبى هناك واستاك وفرَّق شعره وعلَّم الخِضابَ أهلَه!

وكيف وقد زعمتَ أن الاحتباء إنما صار فيهم وفي العرب؛ لأن نازلة العُمُد والصحاري وسُكَّان الفيافي والبراري وكلَّ من ليس لشِماله مِرْفَقة ولا لظهره مِسْنَدة، ولا لفَخِذه جُنَّة، لا بد أن يشتكيَ ظهره إذا طال انتصابه، وكثُر جلوسُه، ومَن احتاج احتالَ، ومن استغنى تبلَّد، فأخرجتَ لهم الحُبكة للحُبوة حتى قامت لهم مكان المُتَّكأ والمِسْند، فقد قال لك كِسْرى: «فما بال التُّرك والخزَر وجميع أهل الصحارى والعُمُد لا يعرفون الاحتباء، والحاجةُ واحدة والعقول سليمة؟» فلمَ أمسكتَ يومئذ عن الجواب؟ ألأنه استفهم استفهامَ الرادِّ، أو نفِستَ به على مَن شهد ذلك المشهد؟

•••

وأنا — جُعلت فداك — أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أُبصر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدِن العقل الدِّماغُ، والقلبُ بابُه وطريقُه، كما أن معدِن اللون جميع النفس، والعينُ بابُه وطريقُه، أم معدِنُ العقل القلبُ دون الدماغ، أو لعلهما موصولان غير مقطوعَيْنِ، وقد اعتلَّ قومٌ للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس، واعتلَّ قومٌ بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرُّعب والاضطراب وغير ذلك، فكيف القول فيه؟ وعلامَ عزمتَ منه؟

وكيف صارت النار تبتدئ من جهة، وإن كان يعرف الله فكيف عرفه: أباضطرار أم باكتساب؟

وكيف جهل سُليمان موضع ملِكة سبأ، وهو ملكٌ وشأنه عظيم، والجنُّ له مُسخَّرة، والطير له بُرُد، والريحُ له أداة؟ وكيف جهل يوسفُ مكان أبيه وحالُه في الحزن عليه حالُه وهو ملكٌ نبيٌّ؟ وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبيٌّ وليس أنبهُ من نبيٍّ، وملكَ هذا بالشام والآخر بمصر؟ وما تقول في أهل التِّيه وعن تردُّدهم أربعين عامًا في مكان واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق؟ فكيف أضلَّ الجميعُ الطريق مع ارتفاع الذِّكر وشِدَّة الطلب؟

وخبرني عن كلام عيسى في بطن أمِّه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصِّبا: أكانا في حالهما ينطقان بما لا يعلمان، أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف عَلِما: أبتجربة واستنباط، وعن تَمام أداة وكمال آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة؟

•••

وقد تعجب ناسٌ من إطالتي، ومن كثرة مسألتي، وتعجُّبي من تعجُّبهم أشد، والذي كان من إنكارهم أعظم، ولو رغبوا في العلم رغبتي، ورأوا فيه مثل رأيي، وكانوا قرءوا كتابي إليك في شبيبتي، وأيام شباب رغبتي، لاستقلوا من ذلك ما استكثروا، ولاستقصروا منه ما استطالوا؛ فإن أذنتَ لي أظهرتُه، وإن تَجُدْ عليَّ أعلنتُه.

وستقول: «ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حِشْمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي؟» ولولا أنك — جُعلت فداك — مسئول في كلِّ زمان، والغايةُ في كلِّ دهر، لما أفردتك بهذا الكتاب، ولَمَا أطمعتُ نفسي في الجواب، ولكنك قد كنتَ أذنت في مثلها لهِرْمِس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أجَبْتَ مَعْبَد الجُهَني وغيلان الدِّمَشْقي وعمرو بن عُبَيْد وواصِل بن عطاء وإبراهيم بن سَيار وعلي بن خالد الأسواري؛ فتربِية كفِّك والناشئ تحت جَناحك أحقُّ بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرصَ به وأعْنَى.

•••

وخَبِّرني عن المرائي وكيف صارت ترى الوجوه ويُبصَر فيه الخَلْق، وكذلك كلِّ أملسَ صقيل وصافٍ ساكن كالسيف والوَذيلة والقوارير والماء الراكد، حتى الحبْر البرَّاق والحَدَقة السوداء إذا كان الناظر في الحدقة أبيض، والحدقة المُغْرَبة إذا كان الناظر فيها أسود؟ وكيف صار الماء الجاري والنار الملتهبة والشمس ذات الشُّعاع لا تقبل الصورة، ولا يثبت فيها الخَلْق؟

وعن قول مَن زعم أنه ليس في القمر مَحْق ثابت، ولا كَمَد جامد، ولا سواد واكد، وإنما ذلك شيءٌ رآهُ الناس فيه؛ إذ كان أملسَ صقيلًا، بمقابلة الأرض وما فيها، كما يرى مَن قابلَ الحدقة صورة إنسان، وليس هناك صورة، وإنما هو شيء يُوجَد عند المقابلة، ولمَ صار بعض المرائي يُري الوجهَ والقفا، ويري الرأس منكَّسًا؟ ولمَ كنتَ لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدًا إلا مقلوبًا؟

وما تلك الصورة الثابتة في المرآة: أعَرَضٌ أم جوهر أم شيءٌ وحقيقة أم تخييل؟ والذي ترى، أهو وجهك أو غير وجهك؟ فإن كان عَرَضًا، فما الذي ولَّده، وما الذي أوْجَبَه، والوجه لم يُماسَّه، ولم يعمل فيه؟ وهل أبطلتْ تلك الصورةُ المرئية صورةَ مكانها في المرآة، ولمَ، وأنت لست تراه في نفس صفيحة المرآة، ولمَ، وكأنك تراها في هواء خلفَ جوفها؟

وهل أبطل ذلك اللون الذي هو في مثال لونك لون المرآة؟ فإن لم يكن أبطله فهناك إذن صورتان في جسمٍ واحد، أو لونان في جوهرٍ واحد، وإن كان قد أبطل لونَ الحديد، فكيف أبطله من غير أن يكون عَمِلَ فيه؟ وكيف يعمل فيه وحيِّزُه غير حيِّزه وهو لا مُماس ولا متصل ولا مصارم؟ وسواء ذكرنا صفيحة الحديد أم ما خلفها من الهواء، وما قُدَّامها من الفُرْجة، كل ذلك جسمٌ ذو لون، فإن اعتللتَ بالشُّعاع الفاصل، والشعاعُ يخالف في الحِسِّ، كذلك الحسَّاس وكذلك المحسوس، وكيف نرى المخالف؟ وكيف والشعاع لون وبياض، والنفس الحسَّاسة لا تدرك بشيء من الحواس؟

وما الفرق بين الأثعبان والأمدَّان، وخبرني عن فصل ما بين السكون والطفرة.

وخبرني عن القَرَسْطون: كيف أخرج أحدُ رأسيه ثلاثمائة رطلٍ زادَ ذلك أم نقصَ، ووزنُ جميعه ثلاثون رطلًا، زادَ ذلك أم نقصَ؟

وما تقول في السَّراب؟ وما تقول في الصَّدَى؟ وما تقول في القَوْس؟ وما تقول في طريقة الحُمرة، وفي طريقة الخضْرة، وكيف اختلفتا، والهواء واحد وما يقابلهما واحد؟ وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل؟

وخبرني عن لون ذَنَب الطاووس ما هو: أتقول بأنه لا حقيقة له، وإنما يتلوَّن بقدر المقابلة، أم تقول: إن هناك لونًا بعينه والباقي تخييل؟ وما تقول في عُسِّ الماء: كيف اشتدَّ صوتُه بلا باب، والصوت لا بد له من هواء، وإذا اشتدَّ فلا بدَّ له من باب؟ وما تقول في خَضَر السماء: أهو خضر جَلَدها كما نقول أم ذلك لحرِّ الهواء، كما يقول خَصمُنا؟

وهل تزعُم أن الأفلاك ذات لون؟ فإن كان لها لون، فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلافُ ما يقولون، وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذن غيرُ الفلك، فهذا هذا؛ ونقول أيضًا: إن كنَّا لا نرى القرى المستطيلة البنيان المختلفة الشكل من البُعْد إلا مُستدِيرة، فلعل الشمس مُصلبة والكواكب مُربَّعة.

وما تقول في المد والجزر: أمِن مَلَك يضع رجلًا ويرفع رجلًا؟ فإن كان كذلك فلعل مدبِّر الفلك مَلَكٌ، ولعل صوت الرعد صوتُ زَجْر مَلَك! فنَدَع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المدَّ والجزر من نفس الجواذب إذا جذب القمر وإذا دفع؟ وما تقول في قول مَن زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة النار، فإنما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له؟ ذلك معروف في منازله ومجاريه، يعرف ذلك أهل الجزر والمد.

خبِّرْني كيف صارت القيافة في النِّسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلُّفًا وصنعة ولا عُرفت بالاستنتاط والفِكرة، فتكون لمَن تعلَّم دون مَن لم يتعلَّم؛ نجدها في بني مُدْلِج، ثم في خاص من خَثْعَم، وكذلك خُزاعة، وهي في قُريش أقلُّ، وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأب، ولا يجمعهم بَلَد، وليس فيما بين البلدين قافة، وهي فيهم على هذه الصفة.

وكيف لم يختلفوا في لغتهم: فينطقَ بعضُهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية؟ فإن قلت: فإن فيهم المُعجَم والشاعر والبكي والغرير، فإن الشاعر وإن كان القريض عليه أسهل، وهو على القوافي أقدر فإنه يتروَّى الشعر ويصنعه ويتفرَّد له ويفكِّر فيه، وكيف صار به إنسان يعيش حيث تعيش النار، ويموت حيث تموت النار، يُصاب علم ذلك في الحساب وفي الغيران، ولمَ صار يُبصر النجوم من قعر البئر العميقة، ولا يبصرها أبدًا إلا والجو خالص الظلمة؟

وخبِّرني عن الظلام: أجسمٌ موجود عند زوال الضوء؟ أم تأويل قولنا: «ظلام» إنما نريد به دفع الضوء؟ فإن كان الظلام معنًى، أفتراه انقمع في الأرض، وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قُرصٌ للظلام، كما أن عين الشمس قُرصٌ للضياء؟ وإن كان قائمًا فكيف لم يتنافَيا؟ وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على مَنْظر الأعين؟ ولو كان الأمر كذلك فنحن إذن لم نر ضياءً قطُّ ولا ظلامًا.

وخبرني — جُعلت فداك — لم زعمتَ أن الحسَّ للعَصَب، وأن الشر عَصَبٌ جامد، وأن الرئة لا حسَّ لها، وأن مَن أدام سفَّ اللُّبان لم يؤلمه المؤلم وألذَّه المُلذ؟ وكيف يَلَذُّ من لا يألم؟ ولو جاز ذلك لَعَرَف الصواب مَن يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب.

•••

هذا ما عندي من العلم البَرَّاني، وأنت أبصر بالعلم الجَوَّاني، وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لمَ كان الفرس لا طِحَال له، ولمَ صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها، ولم كانت حيتان البحر لا ألسنةَ لها، ولم حاضت الأرنب، ولم اجترَّت، ولمَ كان قضيبه من عظام، ولمَ كانت علائق أجواف السَّبُع أفرادًا إلا الكُلية؟ وزعمتَ أنك تعرف في الخُفَّاش سبعين أُعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعًا، وأنك تعرف في الذهب مائة خَصْلة كريمة، والناسُ لا يعرفون إلا عشرًا، وأنك تعرف في البعير ألف داء ودواء، والأعراب لا تدَّعي إلا مائة داء غير دواء.

•••

جعلت فداك، قال رسول الله : «كاد البيان أن يكون سحرًا.» وقال: «إن من البيان لسحرًا.» وقال عمر بن عبد العزيز، وسمع رجلًا يتكلم بكلام بليغ عجيب لطيف رقيق: «هذا والله السحر الحلال.» وقال الناس لذي المكر والخِلابة، ولذي الرِّفْق والتأنِّي: «ما هو إلا ساحر.» و«قد سحر بكلامه.» وقالوا للمرأة: «ساحرةُ العينين.» وقد ذكر الله السَّحَرة في القرآن، وأخبر عن هاروت وماروت، وأخبر عن النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وقال الناس: «لهو أقبح من السحر.» إذا أرادوا نفس المعنى المشبَّه به والمعنى المحمول عليه والسحر نفسه، وما الذي اشتُقَّت منه هذه الأمثال.

ولمَ تجدهم — أبقاك الله — سمَّوا كُهَّان العرب سَحَرةً ولا العراف ساحرًا ولا الحازي ولا صاحب الطرق، ولا من كان معه رئي، ولا من ادَّعى تابعةً من لدُن عمرو بن لحي إلى يومنا هذا، وما قاله الساحر إذا عقد عقدًا أو دفن صورةً بالأندلس لرجُل بفرغانة، وإذا صوَّر شمعتين وخرَطَهما على مثال إنسانين ودفنهما وخبَّأ مكانهما وقابَلَ بين وجوههما تقابَلَا بالمودة، وإن دابَرَ بينهما تدابَرَا بالعداوة.

وقل لي مَن يتولَّى هذا له، ومن يقوم له به ومن يتطوَّع به عليه، فإن قلت: «الشيطان»، فلمَ فعل هذا له، وأوَّلُ شيطنته أن لا يُطيع من هو فوقه؟ فإن قلت: «بالعزائم التي لا تُرَد والأيمان التي لا تُدفَع.» فقد عزم الله عليه بالقرآن والتوراة والإنجيل، فلم يجده يحفل بذلك ولا يرى له قدرًا، ولا يكترث له، ولا يراه سببًا.

وأخبرني ما هذه العزيمة التي إذا سمع بها أجاب، وإذا ظهرت له أناب؟ ومن أين عرف الإنسانُ هذه العزيمة ومن أين وقع عليها ومَن له بها، أهو صَنَعها أم صُنِعت له؟ فإن يكُن الشيطان هو الذي ابتدأه بها، فقد ابتدأه إذن بتعريف العزيمة قبل أن يعزم عليه، وقد تطوَّع بأعظم الأمور؛ فما الذي يُحوِجه إلى العزيمة في أصغرها؟

فقُل في هذا، وإن زعمتَ أن العازم صاحبُه دون الشيطان، والعازم مُسلِم، وإن كان مسلمًا — ولذلك أجاب العزيمة وعظم الإخلاف — فلمَ يخبِّل له الأصِحَّاء، ويقتُل المرضى، ولم يُحبِّب ويبغِّض، ولم يفرِّق بين المرء وأهله وبين الولد البارِّ وأمِّه، ولم يجتلب العفائف إلى الزُّناة، ولم يعذِّب ويقتل، وهذا متناقض؟

ولم قيل: «أعقُّ مِن ضبٍّ.» و«أبرُّ من هِرَّة.» وهما جميعًا يأكلان أولادَهما؟ ولم عالَ الذئب أولاد الضَّبُع إذا قُتلت أو ماتت حتى قال الشاعر:

… … … …
… حتى عال أوسٌ عيالها

وهل تفهم الضبع قولهم: «خامِري أمَّ عامر!» وما بال الظبي لا يدخل كِناسَه إلا مُستدبِرًا؟ وهل يجوز قولهم في نوم الذئب؟ قال الشاعر:

ينام بإحدى مُقلتيه ويتَّقي الـ
ـمنايا بأخرى فهْو يقْظانُ هاجِع

ولمَ نامت الأرنب مفتوحةَ العينين؟ ولم أكلَ الذئبُ صاحبه إذا رأى به دمًا؟

وما بال الجن والثيران؟ وما بال الشياطين والورشان؟ وهل في الحيَّات جنان؟ وما معنى قولهم: «كأنما كُسِر فجُبِر»؟ وما تأويل الحديث: «يُؤخَذ للجمَّاء من القَرْناء، ويُكلَّف أن يعقد بين شعيرتين»؟ ولم زعمت أن عُمر نوح أطول الأعمار، مع قولك: إن جميع الأنبياء قد حذَّرت من الدجَّال وإن الدجَّال إنسان؟

•••

وقد سألتُك وإن كنتُ أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أردتَ أن تعرف حقَّ هذه المسائل وباطلها وما فيها خُرافة، وما فيها مُحال، وما فيها صحيح، وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كُتبي ولزومَ بابي، وابتدئ بنفي التشبيه والقول بالبَداء، واستبدل بالرفض الاعتزال، وإن أُنْكِر نفعُك بعد التمكين والبذل، وبعد التقريع والشحذ، فلا يُبعِد الله إلا مَن ظَلَم.

•••

وقد بقيت لي عليك مسائل وهي خاتِمة هذا الكتاب ومنتهى المسائل؛ أيهما أحسن: قول بُقراط مفسِّرًا: «العمر قصير والصناعة طويلة والزمان حديد والتجربة خطر والقضاء عسر.» أم قول أفلاطون مُجمِلًا: «لولا أن في قولي أني لا أعلم تثبيتًا؛ لأني أعلم، لقلتُ إني لا أعلم.» أم تواضع أرشجانس، حيث يقول: «ليس معي من فضيلة العلوم إلَّا علمي بأني لستُ بعالم»؟ فانظر في آخر هؤلاء، ثم انظر في قول ديمقراط: «عالمٌ مُعانِد خيرٌ من جاهلٍ مُنصِف.» وفي قول تلميذه الأول: «الجاهِل لا يكون مُنصِفًا والعالم لا يكون مُعانِدًا، وقد يكون العالم مُعاندًا.»

ثم انظر في قول ريسموس: «لولا العَمَل لم يُطلَب عِلْم، ولولا العلم لم يُطلَب عمل؛ ولأن أَدَعَ الحقَّ جهلًا به أحبُّ إلي من أن أدعه زُهدًا فيه، وإن كان الجهل لا يكون إلا من نُقصان في آلة الحسن، فإن المعاندة لَمِن زيادة في آلة الشر؛ ولَأَن أترك جميع الخير أحبُّ إليَّ من أن أفعل بعض الشر.» ثم انظر في قول تومقراط: «العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل لمكان العلم ولم يكن العلم لمكان العمل، فالسبب الجالب خير من السبب المجلوب، والغالب خير من المغلوب.» وانظر في قول فليميون: «العلم كان من العمل والعمل غاية، والعلم رائد والعمل مُرْشِد.»

ثم انظر في قول أرسطاطاليس: «ليس طَلَبي العلمَ طمعًا في بلوغ قاصِيَته، ولا سبيلًا إلى غايته، ولكنَّ التماسَ ما لا يسوغ جهله، ولا يحسُن بالعاقل خِلافُه.» ثم انظر في قوله: «قد عرفتُ الأرثماطيقي، وأتقنت معرفة الموسيقي وعرفتُ المساحة، فلم يبق إلا العلم الإلهي ومعرفة الإصلاح.» ثم انظر في قول مورسطوس: «عرفتُ أكثر المقصور، وأقلَّ ما يُوقَف عليه من المبسوط، وقليل الكثير كثير، وكثيرُ القليل كثير، وبدأتُ بما حاشا له أن يكون مبسوطًا ومرغوبًا به أن يكون مقصورًا، وهو معرفة الواحد الذي منه كان أول الأعداد، وإليه يكون مَعادي.»

ثم انظر في قول أفليمون: «ما أقلَّ منفعةَ كثير المعرفة مع شرف الطبيعة واقتصاد الشهوة!» ثم انظر في قول تلميذه الأوَّل: «غلبة الطبيعة تُبطِل المعرفة وتُنسي العاقبة، ولو كانت المعرفة ثابتة لكانت هي الغالبة.» ثم انظر في قول تلميذه الثاني: «ليس بعلم ما كان مغلوبًا، وليس بفهم ما كان مغمورًا، بل لا يكون مغلوبًا إلا بالنقص والخَبال، ولا مغمورًا إلا بالغَلَبة والانتقاض.»

ثم انظر في قول ما سَرْجِس: «من قصر عن طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة، كان حظُّه من الرغبة وحظُّه من الرهبة على مقدار حقِّ الرهبة، ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة، كان حظُّه منه بقدر كرمه وقدره وانتفاعه به على حسب استحقاقه في نفسه.»

•••

وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضُه عليك واستتارُه عنك، وعلمتُ أني لا أقدر أن أُصوِّره لك دون دهرٍ طويل، ولا أُضمِّنك معناه دون تربيب كثير.

•••

هذا الكتاب مُرضٍ مع ما فيه من الأخلاط من أشكال وأضداد، ومن الجد والهزل، ومن الحظر والإطلاق، ومن الاستئناف والقطع، ومن التحفُّظ والتضييع، ومن التثبيت والتهاون، إذا أُرِيد به تقريعَ معجبٍ أو تكشيف مموِّهٍ أو امتحانَ مشكِلٍ، أو تخجيلَ وقَّاح، أو قمعَ مُمارٍ، أو ممازحةَ ظريف، أو مُساءلة عالم، أو مدارسة حافظ، أو تنبيهًا على الطريق، أو تجديدًا للذهن.

والعقل — جُعلت فداك — أطولُ رقدةً من العين وأحوجُ إلى الشحذ من السيف، وأفقرُ إلى التعهُّد وأسرعُ إلى التغيُّر، وأدواؤه أقتلُ وأطِبَّاؤه أقلُّ وعلاجُه أعضلُ، فمن تداركه قبل التفاقُم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يُدرك شيئًا من حاجته، ومِن أكبر أسباب العلم كثرةُ الخواطر، ثم معرفةُ وجوه المطالب.

ثم في الخواطر، الغثُّ والسمين والفاسد والصحيح والمُسْرِع إليك والبطيءُ عنك والدقيق الذي لا يكاد يُفهَم والجليل الذي لا يلقَى الفهم، ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير وعلى منازلها في التبايُن والتمييز.

وللمطالب طُرُق ولدَرَك الحقائق أبواب: فمَن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالًا ممن لم يُخطِئها ولم ينتظر.

وعلى قدر صِحة العقل يصحُّ الخاطر، وعلى قدر التفرُّغ يكون التنبُّه.

هذه جماع هذا الباب وجمهورُه وأقسامُه وجُملتُه.

ثم من أنفع أسبابه الحفظُ لِمَا قد حصل والتقييدُ لما ورد والانتظارُ لما يَرِد، وألَّا تخلي نفسك من الفكرة إلَّا بقدر جَمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فصْل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهوة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بمكنونه ولا يسمَح بسرِّه ومخزونه إلا لمن رغب فيه لكَرَم عنصره وفضَّلَه لحقيقة جوهره ورَفَعَه عن التكسُّب وصانه عن التبذُّل، وأنه لا يُعطيك خالص الحكمة حتى تُعطيه خالص المحبَّة، وكان يقال: «مَن شابَ شِيبَ له.»

وخَصلة ينبغي أن تعرفها وتصطنعها وتتذكَّرها وتقف عندها، وهي أن تبدأ من العلوم بالمُهِم، وأن تختار من صنوفه ما أنت له أنشطُ والطبيعةُ به أَعنَى، فإن القبول على قدر النَّشاط والبلوغ فيه على قدر العناية.

ثم من أفضل أسبابه تخليصُ أخلاطه وتمييزُ أجناسه والمعرفةُ بأقداره، حتى تُعطِي كلَّ معنًى حقَّه من التقريب والرفعة وقسطَه من الإبعاد والضَّعة، وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخطير النفيس ولا تُلقِي إلا الغثَّ الخسيس والحقير السخيف.

فإنك متى كنتَ كذلك، لم تميِّز فصْلَ ما بين النظرين ولا فرقَ ما بين النعتين، والكَيْس كل الكَيْس والحذق كل الحذق أن لا تعجل ولا تُبطِئ، وأن تعلم أن السرعة غير العَجَلة، وأن تعلم أن الأناة خلافُ الإبطاء، وأن تكون على يقين من دَرَكِ الحق إذا وفَيْتَه شرطه، وعلى ثقة من ثَواب النظر إذا أعطيتَه حقَّه.

•••

هذه جملة العذر في هذه الرسالة وجملة الحُجَّة فيما قدَّمنا من الافتنان والإطالة، فإن كنَّا أصبنا فالصوابَ أردنا وإلى غايته أجرينا، وإن كنا قد أخطأنا فما ذلك عن فسادٍ في الضمير ولا عن قِلَّة الاحتفال بالتقصير، ولعلَّ طبيعةً خانت، أو لعلَّ علَّة حدثت، أو لعلَّ سهوًا اعترض، أو لعلَّ شُغلًا منع.

خفِّضْ عليك — أيها السامع — فإن الخطأ كثيرٌ غامر، ومُسْتَوْلٍ غالب، والصواب قليل خاصٌّ ومقموع مستخف، فوجه اللائمة إلى أهلها وأَلزِمْها مَن هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور.

كنت أتعجَّب من كلِّ فعلٍ خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجبًا، فبدخول كلِّها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب، وقد ذكر الله تعالى التعجُّب في كتابه، وقد تعجَّب رسول الله في زمانه، وفي الناس يومئذ الناقصُ والوافر والمشُوب والخالص والمستقيم والمعوجُّ، قال الله تبارك وتعالى لنبيه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، وقال: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ.

واعلم أنه لم يبقَ من المتعجِّب الفاتك إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع الفاتك إلا حصة السمع، وأما القلوب فخاوِيَة قاسية وراكدة جامِدة: لا تسمع داعِيًا ولا تُجيب سائلًا، قد أغفلها سوءُ العادة، واستولى عليها سُلطان السَّكرة.

فدعْ عنك ما لستَ منه، فإن فيما أُورده عليك شغلًا وهمًّا داخلًا.

اعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعضَ المُشركين قردةً أو كما مسخ بعضَ الأُمم خنازيرَ، لكان قد بقي بعضُ أمورها وحُبسَ عليها بعضُ أعراضها، كبقية ما مع القِرد في ظاهره من شَبَه الآدمي وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البَشَريِّ، لكنه — جلَّ ذكره — مسخ الدنيا مسخًا متتبعًا ومستقصًى مستفرغًا، فبين حاليها جميع التضاد، وبين مَعْنَييْها غايةُ الخِلاف.

فالصواب اليوم غريب وصاحبُه مجهول، فالعَجَب ممن يُصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرتَ عونًا عليه مع الزمان قتلتَه، وإن أمسكت عنه فقد رفدْتَه، ولسنا نريد منك النُّصرة ولا المعونة ولا التأنيس ولا التعزية، وكيف أطلبُ منك ما قد انقطع سببُه واجتُثَّ أصلُه؟ وقد كان يقال: «من طلب عيبًا وجده.» هذا في الدهر الصالح دون الفاسد، فإن أنصفتَ فقد أغربتَ وإن جُرتَ فلم تعْدُ ما عليه الزمان.

وهبَ اللهُ لنا ولك الإنصاف وأعاذنا وإياك من الظُّلم.

والحمد لله كما هو أهله وهو حسبنا ونِعَم الوكيل والمُعِين.

(تمت الرسالة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤