الفصل الخامس

الناسخ والمنسوخ

تعدُّ ظاهرة النسخ التي أقرَّ العلماء بحُدوثها في النص أكبر دليل على جدلية العلاقة بين الوحي والواقع؛ إذ النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدالِّ على الحكم ورفعه من التلاوة أو ظل النص موجودًا دالًّا على «الحكم» المنسوخ. لكن ظاهرة النسخ تُثير في وجه الفكر الديني السائد والمُستقِر إشكاليتَين يَتحاشى مُناقشتهما. الإشكالية الأولى: كيف يُمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتَّب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء وبين الإيمان الذي شاع واستقرَّ بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟ والإشكالية الثانية التي تُثيرها ظاهرة «النسخ» هي إشكالية «جمع القرآن» في عهد الخليفة أبي بكر الصديق. والذي يَربط بين النسخ ومشكلة الجمع ما يُورده علماء القرآن من أمثلة قد توهَّم بأن بعض أجزاء النص قد نُسيت من الذاكرة الإنسانية. ولكن علينا قبل مناقشة هاتين القضيتَين أن نُحلِّل مفهوم النسخ ووظيفته عند علماء القرآن ونُناقشهم في تصوُّراتهم لأنواع النسخ وأنماطه.

(١) مفهوم النسخ

يَعتمِد العلماء في تحديد معنى النُّسخ على نصَّين من القرآن أحدهما مكي والآخر مدني. أما النصُّ المكي فهو قوله تعالى:

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.١

ولا شكَّ أن معنى «الآية» في هذا النص المقصود به بعض النص ووحدته الأساسية، فسياق النص قراءة القرآن والبدء بالاستِعاذة من الشيطان، ثم ردَّ تهمة الافتراء وبيان أن القرآن من عند الله نزل به الروح الأمين، والرد أيضًا على اتهام مشركي مكة بأن ثمة من يُملي على محمد القرآن. في هذا السياق يكون «إبدال» آية مكان آية معناه تغيير الحُكم الوارد في نصٍّ بنصٍّ آخر مع إبقاء النصَّين، ولذلك كان بناء الآية على الشرط، وكان جواب الشرط اتهام أهل مكة لمحمَّد بالكذب. وليس لهذا الاتهام من معنى سوى تصوُّرهم لوجود تناقض في النص. والنص الآخر الذي يَستند إليه العلماء في تحديد معنى النسخ نص مدني هو قوله تعالى:

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.٢

وسياق هذا النص مُغاير لسياق النص السابق من حيث أنه يُشير إلى معاداة أهل الكتاب للمسلمين ومخالفتهم لهم في كل شيء. ولا شكَّ أن أهل الكتاب كانوا قد أحسُّوا باهتزاز مَكانتهم وبضعف تفوُّقهم على «الأميين» الذين صار لهم «كتاب» أيضًا. ولذلك كانوا كثيرًا ما يلجئون إلى اتهام آيات القرآن بالتناقُض، والأمثلة على ذلك كثيرة: منها مثلًا اعتراضهم على إلغاء النص للربا في حين أن النص يعدُ المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفًا، فكان قولهم «نعجب لرب محمد كيف يحرِّم علينا الربا ويُعطيناه». ومعروف أن «الربا» كان يُمثل بالنسبة ليهود «يثرب» مصدرًا هامًّا من مصادر سيطرتهم على حركة المجتمع. والمثال الثاني، وهو مثال أدخله العلماء في «النسخ» هو تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كان النبيُّ والمسلمون يتوجَّهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ولا شكَّ أنَّ توجُّه المسلمين إلى بيت المقدس في الصلاة كان من شأنه أن يُثير الطمع في نفوس اليهود الذين ظنُّوا في هذا التوجه اتباعًا لليهودية، ولذلك اعترضوا عند تحويل القبلة:

«فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنتَ عليها وأنت تزعم أنك على ملَّة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه. فأنزل الله تعالى فيهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (أي ابتلاء واختبارًا) وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ (أي من الفتن: أي الذين ثبَّت الله) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (أي إيمانكم بالقِبلة الأولى وتصديق نبيكم، واتباعكم إيَّاه إلى القبلة الآخرة، وطاعتكم نبيكم فيها: أي ليُعطينَّكم أجرهما جميعًا) إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ٣

ولعلَّنا من هذا السياق نفهم أن الآية في النص السابق — التي يقع عليها النسخ أو النسيان — ليس من الضروري أن تكون بمعنى الوحدة الأساسية في النص — الآية القرآنية — ولعلَّ المقصود بها المعنى اللغوي للآية، بمعنى العلامة الدالة. ويُؤكِّد هذا الفهم من جانبنا الحديث عن ملك السموات والأرض أولًا، ثم الحديث عن طلبٍ طلبه أهل الكتاب والمشركون من النبي، طلبٍ يُقارنه النص بما سبق أن طلبه قوم موسى منه؛ وهو طلبهم رؤية الله جهرة. لقد كان طلب أهل الكتاب من النبي هو أن قالوا:

«يا محمد ائتنا بكتاب تُنزله علينا من السماء نَقرؤه، وفَجِّر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ٤

وليس لهذا الطلب من معنى سوى أنهم كانوا يَطلبون «علامة» أو «آية» يستدلون منها على صدق النبي. ويكون معنى الآية بناءً على هذا أن العلامات الدالة على النبوة يُمكن أن يُغيِّرها الله، وأن ما يُغيِّره الله من هذه العلامات أو يسحب عليها أذيال النسيان يأتي من العلامات بما هو أفضل منها في الدلالة، أو يأتي على الأقل بما يُماثلها. إن هذا الفهم يتجاوز تعدُّد قراءات «أو نُنسها» وهي قراءات تراوحت بين نَنْسَها بإسناد الفعل إلى الله، أو نُنْسِها بجعل الفعل على صيغة «أفعل» من «أنسى» لا من «نسَّى» والقراءة الثالثة «نَنْسَأْها» بالهمز بمعنى التأجيل، وهي قراءة يستدلُّ منها الزركشي على أن النسخ بمعنى تأجيل الحكم لا بمعنى إلغائه، وهو:

«ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلَّة بالصبر، وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إیجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء، كما قال تعالى: «أَوْ نَنْسَأْهَا» فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.»٥

ويكون على ذلك معنى النسخ هو إبدال نصٍّ بنصٍّ مع بقاء النصين وعلى ذلك يصعب أن نتقبل كثيرًا من النصوص والأنواع التي يُوردها العلماء داخل قضية «الناسخ والمنسوخ»، خاصة تلك النصوص التي يجعلون آخرها ناسخًا لأولها. إن أنماط النسخ يمكن أن تتضح أكثر إذا ناقشنا وظيفة النسخ وغايته.

(٢) وظيفة النسخ

لا شكَّ أن إبدال نصٍّ بنصٍّ بما يترتَّب عليه من إبطال حكم بحكم آخر يمكن أن يُدرَس من زوايا عديدة، أهمها التدرج في التشريع خطوة خطوة مراعاةً لقانون التدرج في عملية التغيير. وإذا كان النص في مفهومه الأساسي من حيث كونه وحيًا انطلق من حدود مفاهيم الواقع، فلا شكَّ أنه في تطوُّره كان لا بد أن يراعي هذا الواقع. ولا يصحُّ أن يكون هذا الفهم محجوجًا بتصور أن الله لا يجوز عليه التغير، وأن علمه الشامل للماضي والحاضر والمستقبل وللكليات والجزئيات يمنع من أن يحكم بحكم ثم يُغيِّر هذا الحكم؛ فالتغيُّر صفة ثابتة في الواقع لازمة له من حيث هو حركة مستمرة سيَّالة دافقة. وما دام النص نصًّا متوجهًا للواقع فلا بد أن يراعي شروط الواقع. لقد قارب علماء القرآن هذا الفهم وإن عبروا عنه بلغة عصرهم ومن خلال مفاهيمهم:

«والنسخ مما خصَّ الله به هذه الأمة في حكم من التيسير ويفرُّ هؤلاء (الذين يُنكرون النسخ) من القول بأن الله ينسخ شيئًا بعد نزوله والعمل به. وهذا مذهب اليهود في الأصل، ظنًّا أنه بَدَاء — كالذي يرى الرأي ثم يبدو له — وهو باطل لأنه بيان مدة الحكم، ألا ترى منهم الإحياء بعد الإماتة، وعكسه، والمرض بعد الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه وذلك لا يكون بَداءً، فكذا الأمر والنهي.»٦

إن تغايُر أفعال الله في العالم لا يعني تغيرًا في ذات الله أو في علمه، وكذلك إبدال آية مكان آية وتغيير الحكم لا يعني «البَداء» أو أن الله يُقرِّر أمرًا ثم يبدو له فيه رأي آخر. إنَّ النظر دائمًا إلى «الله» في مناقشة قضايا الوحي والنص إغفال للبُعد الآخر الهام وهو الواقع والمُتلقِّين. إن الأحكام الشرعية أحكام خاصة بالبشر في حركتهم داخل المجتمع، ولا يصحُّ إخضاع الواقع المُتغير لأحكام وتشريعات جامدة لا تتحرَّك ولا تتطوَّر.

وقد مرَّ بنا في مناقشة قضايا أسباب النزول تدرج التشريع في تحريم شرب الخمر وتدرُّجه في تحريم بعض الأطعمة، وهو تدرج يصحُّ أن يقال معه إن الآيات الأخيرة في ترتيب النزول تنسخ حكم الآيات السابقة عليها. والمهم في تحديد الناسخ من المنسوخ هو ترتيب النزول لا ترتيب التلاوة في المصحف. ومعنى ذلك أن تحديد الناسخ من المنسوخ في آيات القرآن يعتمد أساسًا على معرفة تاريخية دقيقة بأسباب النزول وبترتيب نزول الآيات، وهو أمر ليس سهلًا كما نتصوَّر. وحين سأل محمد بن سيرين عكرمة لماذا لم يُؤلف الصحابة القرآن كما أُنزِل الأول فالأول كان جوابه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يُؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا.٧

وهذا ما يجعل تحديد الناسخ والمنسوخ ليس دائمًا أمرًا سهلًا. ولعلَّ ذلك كان السبب في مُغالاة علماء القرآن في النماذج التي ناقشوها في هذا الباب. لقد جعلوا كل اختلاف نوعًا من النسخ، وخلطوا في ذلك بين أدوات التخصيص اللغوي داخل الآية الواحدة وبين تغيير الحكم لتغير الظروف والملابسات.

قال ابن العربي: قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ناسخة لمائة وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخًا لأولها وهي قوله: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.

قالوا: وليس في القرآن آية من المنسوخ ثبَت حكمها ست عشرة سنة إلا قوله في الأحقاف. قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ وناسخها أول سورة الفتح: قال ابن العربي: ومِن أغرب آية في النسخ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ أولها وآخرُها منسوخان، ووسطها محكم.٨
وهذا التصور لحُدوث النسخ في الآية الواحدة تصور يُعارض مفهوم «النسخ» ذاته من حيث هو إبدال آية مكان آية من جهة، وهو مفهوم يُعارض وظيفة «النسخ» التي هي التيسير والتدرج في التشريع من جهة أخرى. إن الآية الأولى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ٩ تأمُر بقتال المشركين بعد نهاية هذه الأشهر، إلا فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وليس في هذا الشرط نسخ أو تغيير في الحكم. أما الآية الثانية قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ١٠ فهي حوار مع أهل مكة كما يتضح من سياقها داخل السورة، فهي آية مكية لا علاقة لها بأول سورة الفتح المدنية التي نزلت عند الانصراف من الحديبية نوعًا من البشارة للنبي والمسلمين. والآية تدلُّ على أن «عدم دراية النبي» تنصبُّ على نتائج علاقته بقومه التي ساءت بسبب الدعوة بدليل قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. والقول في الآية الثالثة خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ١١ بأن أولها منسوخ بالزكاة وآخرها منسوخ بالأمر بالقتال قول لا يستقيم، بل هو من قبيل استعراض المهارة والذكاء. لذلك يذهب السيوطي إلى:
«إن الذي أورده المكثرون أقسام: قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه … وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ ومنه قوله: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قيل إنه نُسِخ بقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وإنما هو مخصوص به. وقسم رفَع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الإسلام ولم يَنزل في القرآن؛ كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية القصاص والدِّيَة، وحصر الطلاق في الثلاث، وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجحه مكي وغيره ووجَّهوه بأن ذلك لو عُدَّ في الناسخ لعُدَّ جميع القرآن منه؛ إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب. قالوا وإنما حقُّ الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسَخَت آية … فإذا علمتَ ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المُكثرون الجم الغفير مع آيات الصفح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم تنسخها.»١٢

وإذا كانت وظيفة النسخ هي التدرُّج في التشريع والتيسير، فلا شكَّ أن بقاء النصوص المنسوخة إلى جانب النصوص الناسخة يعدُّ أمرًا ضروريًّا؛ وذلك لأنَّ حكم المنسوخ يُمكن أن يَفرضه الواقع مرةً أخرى. وقد أدرك العلماء ذلك حين ناقشُوا موقف النص بين أمر المسلمين بالصبر على أذى الكفار وبين أمره بقتالهم، وقالوا إن الأمر بالصبر من قبيل «المنسأ» الذي يتأجَّل العمل به، أو يُلغى إلغاءً مؤقتًا لتغير الظروف، فإذا عادت الظروف إلى ما كانت عليه قبل ذلك عاد حكم المنسأ إلى الفعالية والتأثير.

بمعنى أن كلَّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لِعلَّة ما توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا … ومن هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية، كان ذلك في ابتداء الأمر، فلمَّا قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمُقاتلة عليه، ثم لو فُرِض وقوع الضعف كما أخبر النبي في قوله: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ.» عاد الحكم، وقال : «فإذا رأيت هوًى مُتبعًا، وشُحًّا مُطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك.» وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه حين ضعفِه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن اتبعه ورحمة؛ إذ لو وجب لأورث حرجًا ومشقَّة، فلمَّا أعز الله الإسلام وأظهره ونصَره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مُطالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية — إن كانوا أهل كتاب — أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.

ويعود هذان الحُكمان — أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة — يعود سببُهما، وليس حكم المسايفة ناسخًا لحكم المسالَمة، بل كلٌّ منهما يجب امتثاله في وقته.١٣

وإذا كان علماء القرآن قد أخرجوا هذا «المنسأ» من باب الناسخ والمنسوخ فإن تحديد وظيفة النسخ في التسهيل والتيسير والتدرُّج في التشريع تجعل المنسوخ كله من باب «المنسأ»، ويكون معنى التبديل في الآيات التي ناقَشْناها قبل ذلك هو تبديل الأحكام لا تغيير النصوص بإلغاء القديم بآخر جديد لفظًا وحكمًا. وإن فهم معنى «النسخ» بأنه الإزالة التامة للنص تتناقض مع حكمة التيسير والتدرج في التشريع.

(٣) أنماط النسخ

يُصنِّف القدماء أنماط النسخ في القرآن طبقًا لمفاهيم مختلفة ومُتغايرة للنسخ، فإذا نظَرنا إلى طبيعة النصوص الناسخة والمنسوخة كنَّا في دائرة المقارنة بين القرآن والسنة، فهل يجوز أن تُنْسَخ نصوص من القرآن بنصوص من السنة؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال اختلف العلماء:

«فقيل لا يُنسخ القرآن إلا بقرآن؛ كقوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرًا منه إلا قرآن.

وقيل بل يُنْسَخ القرآن بالسنة لأنها أيضًا من عند الله، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى وجعَل منه آية الوصية … والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نسخت وإن كانت باجتهاد فلا، حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره.

وقال الشافعي حيث وقَع نسخ القرآن بالسنَّة فمعها قرآن عاضدٌ لها، وحيث وقَع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له ليتبيَّن توافُق القرآن والسنة.»١٤

والحقيقة أن مثل هذا التعارض بين الآراء نابع من عدم التَّفرقة بين النصوص الدينية، ومن عدم إدراك الحدود الفاصلة بينها. ويعدُّ موقف الشافعي هنا أقرب المواقف إلى سياق النص من حيث إصراره على التماثل في مستوى النصوص فيما يتَّصل بنسخ الأحكام. وإذا كان الزركشي يَعترض على الشافعي قائلًا:

«والحُجة عليه من قوله في إسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رُجِم، فإنه لا مُسقِط لذلك إلا السنة فعل النبي ١٥

فإن هذا اعتراض شكلي فإن «الرجم» حدٌّ أقصى من «الجلد» فكيف يُمكن الجمع بينهما، ناهيك أن إقامة حد «الرجم» على «الثيب» الذي حكمه حكم الأعزب نوع من العقاب «بالأثر الرجعي» على أساس ما كان. إن السنة الصحيحة المُوحى بها تُفسِّر القرآن وتوضِّحه، ولكنَّها لا تلغي أحكامه. وآية الوصية المشار إليها لم يتغيَّر حكمها بالسنة، بل تغير بالقرآن أيضًا وهو ما يُشير إليه الزركشي عند حديثِه عن وجوب تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في ترتيب النزول حيث يقول:

«الآيتان إذا أوجبتا حُكمَين مختلفَين وكانت إحداهما متقدمة الأخرى؛ فالمتأخِّرة ناسخة للأولى؛ كقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، ثم قال بعد ذلك: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وقال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قالوا: فهذه ناسخة للأولى ولا يجوز أن يكون لهما الوصية والميراث.»١٦

وإذا كان القرآن والسنة نصَّين دينيَّين فإنهما يختلفان من وجوه أخرى جعلت الفقهاء والأصوليين يضعون السنة في مرتبة تالية من حيث الأهمية للقرآن. وإذا كان إهدار السنة في التعامل مع القرآن يعدُّ إهدارًا لجانب هام في فهم النص، فإن التسوية بين القرآن والسنة لا تقلُّ في خطرها عن خطر إهدار السنة إهدارًا كاملًا.

وإذا نظرنا إلى قضية الناسخ والمنسوخ من هذا المنظور نجد للعلماء تصنيفًا للآيات الناسخة والمنسوخة يدور حول الأنماط التالية:

  • (١)

    الآيات التي نُسِخَت تلاوتها وبقي حكمها.

  • (٢)

    الآيات التي نُسخ حكمها وبقيَت تلاوتها.

  • (٣)

    الآيات التي نُسخ حُكمها وتلاوتها معًا.

وإذا كان النمطان الأول والثالث يَفترضان حدوث تغيير في النص حُذفت منه بعض الآيات سواء بقيَ حكمها كما هو الأمر في النمط الأول، أو نُسخ حكمها أيضًا كما هو الأمر في النمط الثالث، فإن هذا الافتراض له دلالته الخطيرة التي سنعود لمناقشتِها في الفقرة التالية: ونكتفي هنا بتحليل الأمثلة التي يُعطيها العلماء للنمط الثاني، وهو النمط الذي نميل إلى حصر مفهوم النسخ فيه دون غيره من الأنماط.

الضرب الثاني: ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته، وهو في ثلاث وستين سورة؛ كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا … الآية، فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمَت التربُّص بعد انقضاء العدة حولًا كاملًا، ونفقتها في مال الزوج، ولا ميراث لها، وهذا معنى قوله: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ … الآية، فنسخ الله ذلك بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.١٧
وإذا كانت الآية الناسخة مقدَّمة من حيث التلاوة على الآية المنسوخة فإن العبرة بترتيب النزول لا بترتيب التلاوة. ولا شكَّ أن تغيير حكم من يموت عنها زوجها من التربص عامًا كاملًا إلى التربص أربعة أشهر وعشرًا نوع من التخفيف والتيسير هو الغاية من وراء هذا التغيير أو الإبدال. وليس هنا «نسخ» بمعنى إزالة النص ومَحوِه من التلاوة. وليست الحكمة من ترك التلاوة أن تكون «تذكيرًا بالنعمة ورفع المشقَّة» فقط١٨ بل يمكن أن تكون — كما سبَقَت الإشارة — «تأجيلًا» للحكم لانتفاء الظروف المؤدية إليه، والتي قد تعود فتعود للحكم فعاليته. إن منهج الوحي هنا — رغم وضوحه من حيث دلالته على الارتباط الوثيق بالواقع الإنساني — يَغيب تمامًا في الفكر الديني الرسمي المعاصر، وهو في فكر دعاة «تطبيق أحكام الشريعة» أشد غيابًا؛ لأنهم يُريدون الوثب على قوانين الواقع بالفرض والقسر وبقوة الحديد والنار.

وفي حدود هذا الفهم لظاهرة «النسخ» لا يَسلم القدماء من الخطأ النابع من حِرصهم على عدم اتخاذ موقف نقدي مِن مرويات علم «الناسخ والمنسوخ» واعتمادهم على مجرَّد النقل عن القدماء والتوفيق بين الآراء والاجتهادات والروايات، رغم أنها قضية ترتبط — كما سلَفَت الإشارة — بمعرفة أسباب النزول، وهي من ثم تحتاج إلى اجتهادات تتجاوَز حدود التوفيق بين المرويات:

«قال ابن الحصار: إنما يَرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا. وقد يحكم به عند وجود التعارُض المقطوع به مع علم التاريخ ليُعرَف المتقدم والمتأخر. قال: ولا يَعتمِد في النَّسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة بَيِّنة لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم وإثبات حكم تقرَّر في عهده والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد. قال والناس في هذا بين طرفَي نقيض فمن قائل لا يُقبَل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن مُتساهل يكتفي فيه بقولِ مُفسر أو مُجتهد والصواب خلاف قولهما.»١٩
ورغم هذا فقد درج المتأخِّرون على جمع الروايات دون فحص أو توفيق، والأخطر من ذلك دون الجرأة على اجتهاد حقيقي. من هنا نَلمس في بعض النماذج التي يوردونها ضعفًا واضحًا في انتهائها إلى مجال النسخ بمعنى تغيير الحكم. وإذا كان اتِّفاق العلماء قد انتهى إلى أن مجال «النسخ» هو الأحكام؛ ومن ثمَّ فهو لا يقع إلا في نصوص «الأمر والنهي» فإنَّ بعضهم قد وسع مجال «النسخ» ليُدخل فيه ما ليس منه. ومن هذا النمط إدخال قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا٢٠ داخل إطار المنسوخ؛ حيث يَذهب الزركشي إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ.٢١

وليس في الأمر نسخ؛ فالآية الأولى آية خبرية لا تَفرض حكمًا يُمكن أن تنسخه الآية الثانية. ومن مثل هذا الخلط تصوُّرهم أن الأمر يُمكن أن يُنسَخ قبل تنفيذه، أو تصوُّرهم أن ما أتى به النص من أحكام تخالف ما كان عليه الناس قبل الإسلام يُعدُّ من قبيل «الناسخ»، وهو توسع يجعل النص كله تقريبًا نصًّا ناسخًا ويخرج عن حدود النسخ داخل النص. هكذا يُدخل الزركشي النمطَين السابقين في حدود الناسخ حيث يقول:

  • الأول: «نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة كأمر الخليل بذَبحِ ولده. وكقوله تعالى: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ثم نسَخَه سبحانه بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ … الآية.
  • الثاني: ويُسمَّى نسخًا تجوزًا، وهو ما أوجبه الله على مَن قبلنا كحَتمِ القصاص، ولذلك قال عقب تشريع الدية: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، وكذلك ما أمرنا به أمرًا إجماليًّا ثم نُسخ، كنَسخِه التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، فإن ذلك كان واجبًا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله، وكنَسخ صوم يوم عاشوراء برمضان.»٢٢

ويتَّفق السيوطي في اعتبار هذه النماذج نَسخًا مع الزركشي رغم أنه على المستوى النظري يُنكر هذا الاتساع. وإذا كان السيوطي يؤكد أن النسخ لا يقع.

إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يَدخله النسخ ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرًا من آيات الأخبار والوعد والوعيد.٢٣

فإنه يعود ليُؤكِّد أن فرض التوجه إلى الكعبة في الصلاة نسخ، ويُعطي نماذج أخرى لا تدخل في إطار النسخ؛ وذلك اعتمادًا على المرويات التي يجمعها على النحو التالي:

«وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن نسخ القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه قال: أول آية نُسخَت من القرآن القِبلة ثم الصيام الأول. قال مكي: وعلى هذا لم يقع في المكي ناسخ، قال وقد ذكر أنه وقَع في آيات منها قوله تعالى في سورة غافر: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، فإنه ناسخ لقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قلت: أحسن من هذه نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها وبإيجاب الصلوات الخمس وذلك بمكة اتفاقًا.»٢٤

ولقد سبق أن ناقشنا الآية الأخيرة من سورة «المزمل» وبيَّنا أنها مدنية، ولكن المهم هنا أن نلاحظ التسابق على اكتشاف ناسخ ومنسوخ في المرحلة المكية. لقد صار العالِم المتأخر مجرد جامع للروايات، وحين يحاول الاجتهاد فإنما ليُضيف إلى هذه الروايات رواية من عنده. وقد أدَّى تزيُّد العلماء في قضايا الناسخ والمنسوخ إلى ما هو أخطر من ذلك؛ وذلك عندما تصوَّروا أن من النصوص ما نسخ حكمه وتلاوته، ومنها ما نُسخت تلاوته دون حكمه.

(٤) الانفصال بين الحكم والتلاوة

في مناقشة علماء القرآن للنمط الذي نسخ حكمه وتلاوته من الآيات يُوردون بعض النصوص التي تُوهم بحدوث تعديل في النص بعد وفاة النبي وانتهاء الوحي:

«كآية التحريم بعشر رضعات فنُسخن بخمس، قالت عائشة: كان مما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتُوفي رسول الله وهي مما يقرأ من القرآن. رواه مسلم وقد تكلَّموا في قولها: «وهي مما يُقرأ» فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نُسخَت أيضًا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله ، فتُوفي وبعض الناس يقرؤها.»٢٥

ولكن الذي يُعارض هذه الرواية أنه ليس في القرآن نص خاص بتحديد الرضعات المُحرِّمة. وإذا كان ثمة نسخ في هذا الحكم فلا بد أنه كان نسخًا في مجال السنة لا في مجال القرآن. ويُؤكِّد هذا الرأي ما ذهب إليه مكي حين قال:

«هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ غير متلو ولا أعلم له نظيرًا.»٢٦

لكن موقف علماء القرآن من هذه الرواية يَتراوح بين الإنكار استنادًا إلى أنه من خبر الآحاد، وبين محاولة التأويل. وإذا كان الزركشي يُورِد عن الواحدي مثالًا آخر للمنسوخ حكمًا وتلاوة يرويه عن أبي بكر هو «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، فإنه يورد الرأيَين السابقَين على النحو التالي:

«وحكي عن أبي بكر في «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم؛ لأنَّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.

وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن يُنسيهم الله إياه، ويَرفعه من أوهامهم، ويأمرُهم بالإعراض عن تلاوته وكتبِه في المصحف، فيَندرِس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ولا يُعْرَف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمن النبي حتى إذا تُوفي لا يكون متلوًّا في القرآن، أو يموت وهو متلوٌّ موجود في الرسم، ثم يُنسيه الله ويرفعه من أذهانهم. وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي ٢٧

إنَّ هذا الموقف التأويلي في حقيقته موقف تبريري، فإذا كان بعض القرآن يمكن أن يُنسى ويَندرِس مثل كتب الله القديمة، فلا شك أن هذا — إن صحَّ وقوعه — نوع من النسخ بمعنى الإلغاء والإزالة. وما دام النسخ ممكنًا بعد وفاة الرسول فإنَّ ذلك يفتح الباب واسعًا أمام الشكِّ في مصداقية النص لا من الوجهة الدينية فحسب، بل من الوجهة الثقافية أيضًا. ومهما كانت الدوافع وراء هذه التأويلات حسنة النية فإنها تنتهي في امتداداتها المنطقية إلى إلغاء مفهوم النص ذاته. لقد كان على المُفكِّر القديم أن يتحلَّى بقدر أكبر من الجرأة في مواجهة هذه المرويات بدلًا من أن يحاول الجمع بينها بافتراضات تؤدي إلى أسوأ مما حاول الهرب منه. ولو ركن العلماء إلى مبدأ أن النسخ لا يتضمَّن إلغاءً للنصوص وإنَّما يَكتفي بتعليق أحكامها، وأنه لا يقع إلا داخل النص الواحد، سواء كان قرآنًا أم سنة لاستندوا إلى مبدأ هام يَعصمُهم من هذه المتاهات والغايات المتشابكة من المرويات. وإذا تساءلنا عن الحكمة من وراء نسخ نص ثابت التلاوة — حسب حديث عائشة — بنصٍّ آخر غير ثابت التلاوة، لردَّ علينا العلماء ردًّا منطقيًّا شكليًّا استنادًا إلى تصورهم لوجود نصوص ثابتة التلاوة منسوخة الحكم مثل آية الجلد في حالة الزنا التي نُسِخَت — فيما يتوهَّمون — بالرجم، وقد كانت ثمة آية للرجم نُسخت تلاوتها وبقيَ حكمها. وهكذا ندور في دائرة مُغلقة لا ندري أين تبدأ وأين تنتهي.

وقسمه الواحدي أيضًا إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات، وإلى نسخ ما هو ثابت التلاوة بما ليس بثابت التلاوة كنسخ الجلد في حق المحصنين بالرجم، والرجم غير متلوٍّ الآن، وأنه كان يُتلى على عهد رسول الله ، فالحكم ثبت والقراءة لا تثبت، كما يجوز أن تثبت التلاوة في بعض ولا يثبت الحكم. وإذا جاز أن يكون قرآنًا ولا يُعمل به جاز أن يكون قرآنًا يُعمل به ولا يُتلى، وذلك أن الله عز وجل أعلم بمصالحنا، وقد يجوز أن يعلم من مصلحتنا تعلق العمل بهذا الوجه.٢٨
إنَّ الإشارة في هذا النص إلى النسخ في حدِّ الزنا تقودنا إلى مناقشة النمط الذي يُقال عنه أنه «مما نسخ تلاوته وبقيَ حكمه، فيُعمل به إذا تلقَّته الأمة بالقبول.»٢٩ إنَّ آية الزنا الموجودة الآن في القرآن لا تُشير إلا إلى «الزاني والزانية» دون تحديد أو تفرقة بين المتزوِّج والأعزب. وهنا يأتي دور السنة في تخصيص هذا الحكم العام، وليس ثمة نسخ هنا كما يوهم النص السابق. لكن وهم النسخ جاء من الروايات:

«كما رُوي أنه كان يقال في سورة النور: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتَّة نكالًا من الله.» ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتُها بيدي. رواه البخاري في صحيحه مُعلَّقًا.

وأخرج ابن حبَّان في صحيحه عن أُبيِّ بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب تُوازي سورة النور، فكان فيها: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما».»٣٠

وإذا كان الزركشي يذهب إلى أن امتناع عمر بن الخطاب عن كتابة هذه الآية في القرآن راجع إلى اعتقاده أنها من أخبار الآحاد التي لا يَثبت بها القرآن، فإن السيوطي يرى أن ذلك مردود:

«فقد صحَّ أنه تلقاها عن النبي . وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يَكتبان المصحف فمَرَّا على هذه الآية، فقال: زيد: سمعتُ رسول الله يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنا ولم يُحصن جُلِدَ، وأن الشاب إذا زنا وقد أحصن رُجِم؟ قال ابن حجر في شرح المنهاج: فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.»٣١

وإذا كان الامتناع عن التدوين مصدره النبي نفسه فليس وراء هذا دلالة على أنها ليسَت جُزءًا من النص الذي نعلم الحرص على تدوينه من جانب النبي. وتفسير نسخها بأن العمل بها على غير الظاهر من عمومها تفسير مُتهافت فكثير من آيات الأحكام يُمكن أن تكون كذلك ولم يكن ذلك مُبرِّرًا لنَسخها لأنَّ السنة بمَثابة نصٍّ ثانوي يُفسِّر النص الأصلي ويَشرحه ويُجلي غوامضه. لكن التسليم بالمرويات القديمة على علاتها كان من شأنه أن يؤدي إلى ذلك. ويستعرض السيوطي — بدوره — عضلاته الذهنية ليَطرح تأويلًا آخر لسبب نسخها:

«وخطر لي في ذلك نُكتة حسنة؛ وهو أن سبب التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقيًا لأنه أثقل الأحكام وأشدُّها وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى نَدب الستر.»٣٢

وليس في إلغاء النص تلاوة دون إلغائه حُكمًا تخفيفٌ كما يذهب السيوطي، بل فيه ما فيه من تحويل أحكام الشريعة إلى أسرار لا يعلمها إلا الخواص، خاصة إذا كانت أحكامًا تتعلَّق بالعلاقات الطبيعية بين البشر في المجتمع. وفي رواية أخرى عن عمر بن الخطاب أيضًا يبدو فيها أنَّ السبب وراء عدم تدوين هذا النص هو التخفيف عن الناس، ولكنه يرُدُّ ذلك إلى انتشار الزنا في المجتمع، فكأنَّ عدم تدوين النص — بناءً على هذه الرواية — كان بسبب عدم تنفير الناس من الإقبال على الإسلام:

«وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن يعلى بن حكيم عن زيد بن أسلم أن عمر خطَبَ الناس، فقال: لا تشكُّوا في الرَّجم فإنه حق. ولقد هممتُ أن أكتبه في المصحف فسألت أبيَّ بن كعب فقال: أليس أتيتَني وأنا أستقرئها رسول الله فدَفَعْتَ في صدري وقلت: تَستقرئه آية الرجم وهم يتَسافدون تسافُد الحُمُر؟ قال ابن حجر وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها وهو الاختلاف.»٣٣
ويكون التساؤل بعد ذلك كله — مع ابن الحصار — كيف يقع النسخ إلى غير بدل وقد قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا؟ لكنَّا لا نجد إجابة سوى أن «كل ما ثبت الآن في القرآن ولم يُنسخ فهو بدل مما قد نُسخت تلاوته، فكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن فقد أبدله بما علمناه وتواتر إلينا لفظه ومعناه.»٣٤ ويرى آخر أنَّ الحكمة في نسخ التلاوة مع إبقاء الحكم:
«ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استِفصال لطلب طريق مقطوع به فيُسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولدٍ بمنام، والمنام أدنى طريق الوحي.»٣٥

(٥) النسخ وأزلية النص

لم يُناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص، سواء بقي حكمها أم نسخ أيضًا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ. وإذا كان:

«ما نزل من الوحي نجومًا جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ كما قال: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ٣٦

فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلوِّ ينفي هذه الأبدية المُفترَضة الموهومة، ويجب أن نفهم الآيات الدالَّة على ذلك فهمًا غير حرفيٍّ. ولا يُمكن للمُفسر القديم التمسُّك بالمقولتين معًا. فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين ازدادت حدَّة المشكلة التي كان على العلماء القدماء ومن يتابعهم من المحدثين حذوك النعل بالنعل أن يواجهوها. يقول السيوطي راويًا:

«وأمثلة هذا الضرب كثيرة. قال أبو عبيد: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ليقولنَّ أحدكم قد أخذتُ القرآن كله، وما يَدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليَقُل قد أخذت منه ما ظهر.

وقال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدِّر منها إلا ما هو الآن.

وقال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن المبارك بن فضالة عن عاصم بن أبي النجود عن ذر بن حبيش قال لي أُبي بن كعب: كم آية تعدُّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتَين وسبعين آية أو ثلاثًا وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم، قلت: وما آية الرجم: قال: والشيخ والشيخة فارجموهما البتَّة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم.

وقال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.

وقال: حدثنا حجَّاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليَّ أبيٌّ وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وعلى الذين يُصلُّون في الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يُغيِّر عثمان المصاحف.

وقال حدثنا عبد الله بن صالح عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي كان رسول الله إذا أُوحي إليه أتيناه فعلمَنا مما أُوحي إليه، قال: فجئتُ ذات يوم فقال: إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لأحبَّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله : «إنَّ الله أمَرَني أن أقرأ عليك القرآن»، فقرأ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. ومن بقيَّتها «لو أن ابن آدم سأل واديًا من مال فأُعْطِيَه سأل ثانيًا، وإن سأل ثانيًا فأُعطيه سأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية والنصرانية ومن يعمل خيرًا فلن يُكْفَره.»

وقال أبو عبيد: حدثنا حجَّاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قالت: نزلت سورة نحو براءة ثم رُفعَت وحفظ منها أن الله سيُؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم، ولو أنَّ لابن آدم واديَين من مال لتمنَّى واديًا ثالثًا، ولا يَملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على مَن تاب.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: كنا نقرأ سورة نُشبهها بإحدى المسبِّحات نسيناها، غير أني حفظَت منها: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتُكتب شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة.

وقال أبو عبيد: حدثنا حجَّاج عن سعيد عن الحكم بن عتيبة عن عدي بن عدي قال: قال عمر: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفرٌ بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم. وقال حدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن عمر الجمحي حدثني ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تَجد فيما أنزل علينا أن جاهِدُوا کما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها؟ قال: أُسقطَت فيما أُسقط من القرآن.

وقال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المغافري عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتَين في القرآن لم يُكتبا في المصحف، فلم يُخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المُفلحون والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون.

وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يُصليان فلم يَقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديَين على رسول الله فذكرا له ذلك فقال إنها مما نُسخ فالهوا عنها.

وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر مؤتة الذين قتلوا وقَنَتَ يدعو على قاتليهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.

وفي المستدرك عن حذيفة قال: ما تقرءون ربعها، يعني براءة، قال الحسين بن المناري في كتابه الناسخ والمنسوخ: وممَّا رُفع رسمه من القرآن ولم يُرفع من القلوب حِفظُه سورتا القنوت في الوتر وتُسمَّى سورتي الخلع والحفد.»٣٧

هل يُمكن أن نفترض من هذه الروايات سقوط بعض نصوص من القرآن من ذاكرة الجَماعة رغم كثرة الروايات التي تدلُّ على حِرص النبي والمسلمين على التدوين والحفظ معًا؟ أم هل نفترض أن جمع عثمان للناس على مُصحف واحد بعد اختلافهم في القراءة — وما أدَّى إليه ذلك من تدوين القرآن على حرف واحد من الأحرُف السبعة — كان بمثابة توحيد لقراءة النص على لهجة قريش؟ وهو افتراض يُمكن أن نجد له سندًا في قول عثمان للجنة جمع القرآن وتدوينه:

«فأمَر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسَخُوها (الصحف التي كانت عند حفصة) في المصاحف. قال عثمان للرهط القرشيِّين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسَخُوا الصحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل في كل أفق بمُصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.»٣٨

أم هل نَفترض أن هذه الروايات كلها مكذوبة مدسوسة وأنه لم يسقط شيء من القرآن؟ ونَستنِد في ذلك إلى أن كثيرًا منها ورَد على لسان أُبي بن كعب وهو من أحبار اليهود. لكن أيًّا كان الافتراض الذي يُمكن أن نَفترضه، فالذي لا شك فيه أن هذه النماذج كلها لا تدخل في باب «النسخ» بالمعنى الذي حدَّدناه من قريب أو من بعيد لا من حيث المفهوم ولا من حيث الوظيفة. والذي لا شكَّ فيه أيضًا أن فهم قضية النسخ عند القدماء لا يُؤدي فقط إلى معارضة تصوُّرهم الأسطوري للوجود الخطي الأزلي للنص، بل يُؤدي أيضًا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.

لقد رأينا الترابط بين قضايا الناسخ والمنسوخ وبين قضايا أسباب النزول بحيث يُمكن أن نعدهما من منظور علاقة الترابط بين النص والواقع قضية واحدة أو نوعًا واحدًا من أنواع علوم القرآن، لكن الفصل بينهما في هذه الدراسة كان ضروريًّا لمناقشة مفهوم القدماء والكشف عن طرائقهم في الفهم والتحليل.

وإذا كنا في الفصول السابقة كلها قد ركزنا على بعد علاقة النص بالواقع والثقافة فإنَّنا في الفصول التالية نودُّ أن نركز على آليات النص سواء من حيث صلته بالنصوص الأخرى داخل الثقافة أو من حيث طرائقه في إنتاج الدلالة، وهذا كله موضوع الباب التالي.

١  سورة النحل: الآيات: ٩٨–١٠٣.
٢  سورة البقرة: الآيات ١٠٥–١٠٨.
٣  السيرة النبوية، الجزء الثاني، ص١٤٢، والآيات من سورة البقرة: ١٤٢–١٤٤.
٤  السيرة النبوية، الجزء الثاني، ص١٤٠-١٤١.
٥  البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٣، وانظر في القراءات المختلفة للفظ مناقشة جولد تسيهر وردود محمد عبد الحليم النجار في الهامش. مذاهب التفسير الإسلامي، ص٣٧–٣٩.
٦  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٠.
٧  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص٥٨.
٨  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٠-٤١.
٩  سورة التوبة: الآية ٥.
١٠  سورة الأحقاف: الآية ٩.
١١  سورة الأعراف: الآية ١٩٩.
١٢  السيوطي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٢.
١٣  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٢-٤٣.
١٤  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢١.
١٥  البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٢.
١٦  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٢.
١٧  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٧-٣٨ والآيات من سورة البقرة، الآية ٢٤٠ والآية ٢٣٤.
١٨  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٩.
١٩  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٤.
٢٠  سورة البقرة: الآية ١٤٢.
٢١  البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٨، الآية من سورة البقرة ١٤٤.
٢٢  البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤١-٤٢.
٢٣  الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢١.
٢٤  الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٤.
٢٥  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٩، وانظر حديث عائشة في صحيح مسلم، الجزء الرابع، ص١٦٧. وقد ذهب «النووي» إلى مثل ما ذكره الزركشي من أن النسخ تأخر إلى قُرب وفاة النبي ولم يكن بلغ كل الناس. انظر مختصر صحيح مسلم، ص٢٣١.
٢٦  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٢.
٢٧  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٠.
٢٨  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤١.
٢٩  المصدر السابق، ص٣٥.
٣٠  المصدر السابق نفسه.
٣١  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٦.
٣٢  المصدر السابق نفسه.
٣٣  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٦-٢٧، وانظر حديثًا آخر في صحيح مسلم. المجلد الخامس، ص١١٦، نقلًا عن مختصر صحيح مسلم الجزء الثاني، ص٣٦.
٣٤  المصدر السابق، ص٢٧.
٣٥  المصدر السابق، ص٢٤-٢٥.
٣٦  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٠.
٣٧  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٥-٢٦، وانظر أيضًا: الزركشي: البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣٦-٣٧.
٣٨  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص٢٣٦، وتحتاج قضايا «جمع القرآن وتدوينه» و«الأحرف السبعة» إلى دراسة تكشف العلاقة بينهما وتستطيع من ثمَّ أن تصل إلى تحديد مفهوم «الأحرف» بنهجٍ علمي. وقد تساعد هذه الدراسة على تحديدٍ أعمق لظاهرة النسخ ومُناقشة كل هذه المرويات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤