الفصل الثالث

الغموض والوضوح

تُعدُّ جدلية الغموض والوضوح من أهم خصائص النص في الدراسات النقدية الحديثة؛ إذ الفارق بين النص ذي الطبيعة «الإعلامية» الخالصة وبين النَّص الأدبي يَكمن في قدرة النص الأدبي على إبداع نظامِه الدلالي الخاص داخل النظام الدلالي العام في الثقافة التي يَنتمي إليها. وإذا كانت النصوص «الإعلامية» الخالصة تَعتمد «الوضوح» معيارًا للجودة والرداءة، فإنَّ هذا المعيار في النصوص الأدبية يختلف باختلاف طبيعة النصِّ وباختلاف النوع الأدبي الذي ينتمي إليه. إنَّ من أهم خصائص النصوص الأدبية مع ذلك أن يخالف النص نفسه ولا يكتفي بالمخالفة بين نفسه وبين غيره من النصوص:

«إنَّ اختلاف النص (عن غيره من النصوص) ليس هو المُميز له أو المحدِّد لهُويته الخاصة، ولكنها طريقة النص في الاختلاف مع ذاته. وهذا الاختلاف لا يُمكن الوصول إليه إلا من خلال فعل القراءة. إنها الطريقة التي تُصبح بها الطاقة الدلالية للنص غير محدودة … من خلال عملية التكرار، وهي ليست إعادة للشيء نفسه، بل لشيء مختلف: إنَّ الاختلاف بكلمات أخرى ليس هو ما يُميز نصًّا من آخر. إنه ليس الاختلاف بين «كيانَين مستقلَّين» ولكنه اختلاف في «داخل النص ذاته».»١

وفي حالة القرآن فقد سبق أن ناقشنا في «الإعجاز» الكيفية التي يُفارق النص بها غيره من النصوص سواء على مستوى النص أم على مُستوى فعل القراءة عند العلماء. وتتجلَّى الكيفية التي يُخالف بها النص ذاته من خلال مجموعة من المستويات سبق أن ناقَشنا بعضًا منها في الفصول السابقة. تتجلَّى هذه الكيفية من خلال «المكي والمدني» سواء على مستوى المضمون أم على مستوى اللغة والصياغة. وتتجلى أيضًا من خلال «الناسخ والمنسوخ» في اختلاف الأحكام. وإذا كانت قضايا «المكي والمدني» و«الناسخ والمنسوخ» تُشير إلى مخالفة النص لذاته بتأثير علاقته بالواقع وجدله، فإن للنص آلياتٍ أُخرى في مخالفة ذاته لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بجدله مع الواقع، بل ترتبط أكثر بجدل الواقع معه من خلال فعل «القراءة».

والفارق بين جدل النص مع الواقع وبين جدل الواقع مع النص فارق في الأولية ليس إلا، ففي مرحلة تشكيل النص في الثقافة تكون الثقافة «فاعلًا» والنص «منفعلًا»، وإن كان «انفعال» النص هنا — كما سبقت الإشارة — انفعالًا من خلال آليات اللغة. وفي مرحلة تشكيل النص للثقافة يكون النص «فاعلًا» والثقافة «منفعلًا»؛ فالثقافة هنا لا تشكل النص، بل تُعيد قراءته، وهي من ثم تُعيد تشكيل دلالته ولا تعيد تشكيل معطياته اللغوية. في هذا السياق الجدلي بين «النص» و«الثقافة» تكشَّفت آلية «الغموض والوضوح» بوصفها سمة من سمات النص. ولقد أشار النص ذاته إلى هذه السمة في الآية التي تقول:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.٢

ولقد تمَّ فهم «المحكم» على أساس أنَّه الواضح البيِّن الذي لا يحتاج إلى تأويل، كما فهم «المتشابه» على أساس أنه «الغامض» الذي يَحتاج إلى تأويل. وكان القانون الذي اتَّفق عليه العلماء هو ضرورة رد المتشابه إلى المحكم؛ أي تفسير «الغامض» استنادًا إلى «الواضح». ومعنى هذا القانون أن العلماء — على خلافاتهم الأيديولوجية حول هذه القضية وغيرها من القضايا — قد اتَّفقوا على أن النص هو معيار ذاته؛ فالواضح المحكم يعد بمثابة «الدليل» لتفسير الغامض المتشابه وفهمه. إنَّ أجزاء النص يُفسِّر بعضها بعضًا، وليس مطلوبًا من المفسر أن يلجأ إلى معايير خارجية لفض غوامض النص واستجلاء دلالتها. ويمكن التعبير عن هذا القانون بلغة النَّقد الأدبي فنقول إن النص يتضمن أجزاء تُعدُّ بمثابة «مفاتيح» دلالية تُمكِّن القارئ من الولوج إلى عالم النص وكشف أسراره وغوامضه. واحتواء النص على الغموض والوضوح يُعدُّ بمثابة آلية هامة للنص لتحويل فعل القراءة إلى فعل إيجابي يُساهم في إنتاج دلالة النص. وهكذا يكون إنتاج الدلالة فعلًا مشتركًا بين النص والقارئ، ويكون من ثمَّ فعلًا مُتجدِّدًا بتعدد القرَّاء من جهة، ومتجددًا باختلاف «ظروف» القراءة من جهة أخرى.

لقد ناقَشنا في مكان آخر خلاف العلماء حول «المحكم والمتشابه» من منظور «التأويل»٣ وغايتنا هنا التركيز على الكيفية التي أدرك بها القدماء آليات النص في إنتاج الدلالة من خلال جدلية «الغموض والوضوح»، ولذلك فمن الضروري أن نتوقَّف عند الجوانب المختلفة التي ناقش القدماء من خلالها هذه الآلية. وهي جوانب تضمُّ مجموعة من علوم القرآن إلى جانب علم المحكم والمتشابه.

(١) المنطوق والمفهوم (ندرة النصوص)

يكاد القدماء في مناقشة العلاقة بين المنطوق اللفظي للنص وبين المفهوم الذهني الناتج عن هذا المنطوق يُبلورون مفهومًا للنص يقرن بينه وبين الوضوح؛ بحيث يُصبح «النص» هو التركيب اللغوي الذي يتطابق فيه المنطوق مع المفهوم تطابقًا تامًّا. ولكنَّهم يدركون أيضًا أن النصوص التي ينطبق عليها هذا المفهوم نادرة جدًّا وذلك بحكم الطبيعة الرمزية للغة التي تَعتمِد على طاقتي التجريد والتعميم. وعلى ذلك يقسمون التركيب اللغوي إلى أربعة أنماط؛ وذلك طبقًا لآليات العلاقة بين المنطوق اللفظي والمفهوم الذهني. النوع الأول هو «النص» وهو الدالُّ بمنطوقه على معنى لا يَحتمل غيره. والنوع الثاني هو «الظاهر» وهو الدال بمنطوقه على معنيَين، المعنى الظاهر منهما هو المعنى الراجح من المنطوق. والنوع الثالث هو «التأويل» وهو الذي يدلُّ بمنطوقه على معنيَين يكون المعنى الراجح منهما هو المعنى غير الظاهر؛ وذلك على عكس النوع الثاني. والنوع الرابع هو النوع «الغامض» الذي يحتمل معنيَين سواء على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز ويصعب تحديد المعنى المراد من المنطوق، وهذا الغامض يُطلقون عليه أحيانًا اسم «المُجْمَل». وهذه الأقسام الأربعة كلها خاصة بالعلاقة بين منطوق التركيب اللغوي وبين المعنى أو الدلالة:

«المنطوق ما دلَّ عليه اللفظ في محلِّ النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص نحو: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ … ومع احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا فالظاهر نحو: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، فإنَّ الباغي يُطلَق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب، ونحو: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فإنه يُقال للانقطاع طهر وللوضوء والغسل وهو في الثاني أظهر. وإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل ويُسمى المرجوح المحمول عليه مُؤَولًا كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ فإنه يستحيل حمل المعية على القُرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القُدرة والعلم والحفظ والرعاية، وكقوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون مُشتركًا بين حقيقتَين أو حقيقة ومجاز ويصحُّ حمله عليهما جميعًا فيُحمَل عليهما جميعًا سواء قُلنا بجواز استعمال اللفظ في معنيَيه أولًا، ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتَين مرة أريد هذا ومرة أريد هذا. ومن أمثلته وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ فإنه يُحتمل ولا يُضارِر الكاتبُ والشهيدُ صاحبَ الحق بجَوْرٍ في الكتابة والشهادة، ولا يُضارَرْ بالفتح أي لا يُضارهما صاحبُ الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما وإجبارهما على الكتابة والشهادة. ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمار سُميت دلالة «اقتضاء» نحو وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ أي أهلها، وإن لم تتوقَّف ودلَّ اللفظ على ما لم تُقصد به سُمِّيت دلالة «إشارة» كدلالة قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ على صحة صوم من أصبح جُنُبًا إذ إباحة الجِماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جُنُبًا في جزء من النهار.»٤
إن هذه الأقسام الأربعة تعتمد على التدرج من الوضوح إلى الغموض؛ فالنصُّ هو الواضح وضوحًا تامًّا بحيث لا يحتمل سوى معنى واحد، ويقابل «النصَّ» المُجْمَلُ الذي يتساوى فيه معنيان يصعب ترجيح أحدهما، ويكون «الظاهر» أقرب إلى «النص» من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى القريب، بينما يكون «المُؤَول» أقرب إلى «المُجمل» من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى البعيد. ومعنى ذلك أن قطَبي «الوضوح» و«الغموض» اللذَين يَندرِج تحتهما «النص» و«المجمل» بينهما منطقة وسطى يقع فيها «الظاهر» و«المؤوَّل». في هذا التقسيم الرباعي يقع «المحكم» في منطقة وسطى بين «النص» و«الظاهر»، ويقع المتشابه بين «المؤوَّل» و«المجمل».٥

لكن العلاقة بين المنطوق اللفظي والدلالة لا تقف عند حدود هذا التقسيم الرباعي؛ فالمنطوق اللفظي قد لا يدل وحده ويَحتاج إلى إضمار، وقد يتجاوز المنطوق دلالته المباشرة إلى دلالة «ضمنية». وتزداد المسألة تعقيدًا حين نَنظر إلى دلالة المفهوم، وهي الدلالة الناتجة عن دلالة المنطوق. إنَّ المنطوق يؤدِّي إلى مفهوم بدلالة الألفاظ، ولكن المفهوم من الألفاظ قد يدلُّ على معنى آخر وراءه، وتتمُّ هذه الدلالة إما بالموافقة وإما بالمخالفة. مثال دلالة الموافقة قوله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فالمنطوق هنا يدلُّ على النَّهي عن قول «أف» للوالدَين، وهذه الدلالة تدلُّ «بفَحوى الخطاب» على تحريم ضربهما؛ ذلك لأنَّ النهي عن الضيق منهما بالكلام «أف» يتطلَّب بطريق الأَوْلى النهي عن إيذائهما. وهذه الدلالة الثانية ليسَت ناتجة عن منطوق الكلام، ولكنها ناتجة عن دلالة هذا المنطوق أو عن «المفهوم». ومثال آخر هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا فالمنطوق يدلُّ على حكم مَن يأكل مال اليتيم ظلمًا، وهذه الدلالة الناتجة عن المنطوق تدلُّ «بلحن الخطاب» على تحريم الإحراق لأنه مُساوٍ للأكل في الإتلاف.

والنوع الثاني من دلالة المفهوم هو ما يدل بالمخالفة، وذلك في حالة أن يكون المنطوق دالًّا على مفهوم مُحدَّدٍ لغويًّا بالوصف أو الحال أو الظرف أو العدد، فيكون المفهوم المحدَّد دالًّا على نفي الحكم. عن غيره، أي عن غير الموصوف، بطريق المخالفة، مثال ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا فالمفهوم من هذا المنطوق وجوب التبيُّن في خبر «الفاسق»، وهذا المفهوم يدل على «أن غير الفاسق لا يجب التبيين في خبره، فيجب قبول خبر الواحد العدل.»٦

ومعنى ذلك أن دلالة المنطوق اللغوي للنصوص لا تَتراوح بين الوضوح والغموض فحسب، ولكنَّها تَختلِف من حيث طرق الدلالة أيضًا؛ فقد تكون الدلالة مباشرة وهي ما يُطلق عليه القدماء «دلالة المنطوق»، وقد تكون الدلالة دلالة «اقتضاء» كما في حالة الإضمار، وقد تكون دلالة «إشارة» مثل استنتاج صحة صيام من أصبح جُنُبًا من قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. والدلالة الرابعة هي دلالة «المفهوم» التي تَنقسِم إلى دلالة مُوافقة وإلى دلالة مخالفة.

إنَّ هذا التعدُّد في طرائق الدلالة اللغوية يَعكِس إحساس القدماء أن طرائق الدلالة اللغوية تُخالف طرائق الدلالة الأخرى مُخالفة اللغة لغيرها من أنواع الدلالات. من هنا نفهم حصرهم مفهوم «النص» في التركيب اللغوي الدال بمنطوقه على مفهومه دلالة مباشرة واضحة ليس فيها لبس أو احتمال، وإدراكهم في نفس الوقت أنَّ هذا النمط من الدلالة نادر جدًّا، وهو ما عبَّروا عنه بقولهم بندرة النصوص:

«وقد نُقِلَ عن قوم من المُتكلِّمين أنهم قالوا بندور النص جدًّا في الكتاب والسنة. وقد بالَغ إمام الحرمين وغيره في الرد قال: لأنَّ الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا إن عزَّ حصوله بوضع الصيغ ردًّا إلى اللغة فما أكثره مع القَرائن الحالية والمقالية.»٧
والقول بندرة النصوص مردود إلى طبيعة اللغة التي تَعتمِد على التجريد والتعميم في دلالتها، وهذا من شأنه أن يجعل إنتاج الدلالة في اللغة بشكل عام وفي النصوص المُمتازة بشكلٍ خاصٍّ لا يُفارق جدلية النص/القارئ. إن تحديد المعنى المرجوح من المعنى الراجح في «الظاهر» أو «المؤوَّل» تحديد مرهون بأفق قارئ وعقله، وتحديد المحذوف المضمر في دلالة «الاقتضاء» يحتاج كذلك إلى قارئ. فإذا انتقَلنا من دلالة «المنطوق» إلى مُستويات دلالة «المفهوم» كانت الدلالة غير مُفارقة لفعل القراءة بما تتضمَّنه من تأويل. وهذا كله مفهوم للدلالة يَقترب إلى حدٍّ كبير من المفهوم المعاصر الذي يرى أن فعل القراءة — ومن ثم التأويل — لا يبدأ من المُعطى اللغوي للنص؛ أي لا يبدأ من المنطوق، بل يبدأ — قبل ذلك — من الإطار الثقافي الذي يمثل أفق القارئ الذي يتوجَّه لقراءة النص.٨

(٢) المجمل

المُجمَل يقف في الطرف الآخر من النص، وهو طرف الغموض كما سبقت الإشارة. وقد كان المثال الذي أُشير إلى المُجمل به قوله تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ، وهو تركيب يحتمل قراءتَين ويحتمل من ثم معنيَين: القراءة الأولى: ولا يُضارِرْ على البناء للمعلوم، والقراءة الثانية ولا يُضارَرْ على البناء للمجهول. وكلتا القراءتين تحتملهما الآية. لكن من الملاحظ أن «الإجمال» هنا نوع من الغموض الذي يجعل النص قابلًا لتأويلَين لا يتعارَضان، فسواء كان النَّهي للكاتب والشاهد ألا يضرَّا صاحب الحق أم كان لصاحب الحق ألا يضرَّ الكاتب والشاهد، فإنه نهى عن أن تُؤدي كتابة الديون إلى ضرر. وإذا كان «الإجمال» هنا راجعًا إلى الصيغة الصَّرفية للفعل، فإنَّ القدماء يُعدِّدون أشكالًا أخرى للإجمال المؤدي إلى الغموض مثل «الاشتراك» الدلالي للألفاظ و«الحذف» و«اختلاف مرجع الضمير» و«احتمال العطف والاستئناف» و«الغرابة» في اللفظ و«ندرة الاستعمال» على مستوى التركيب و«التقديم والتأخير» و«قلب المنقول» من الألفاظ و«التكرير القاطع لوصل الكلام» وكلها ظواهر لغوية وأسلوبية موجودة في نص القرآن.٩

وقد أشار القدماء إلى بعض الألفاظ «الغريبة» التي غمض معناها على الجيل الأول من المسلمين:

«فأخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سُئِل عن قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: أي سماء تُظلُّني وأي أرض تُقلُّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وأخرج عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: هذه الفاكهة قد عرَفْناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إنَّ هذا لهو الكلف يا عمر.

وأخرج من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنتُ لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول أنا ابتدأتها.

وأخرج ابن جريح عن سعيد بن جبير أنه سُئِل عن قوله وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجب فيها شيئًا. وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: والله ما أدري ما حنانًا وأخرج الفرياني حدثنا إسرائيل حدثنا سمَّاك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمُه إلا أربعًا: غسلين وحنانًا وأوَّاه والرقيم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ حتى سمعت قول بنت ذي يزن: تعالَ أُفاتحك، تُريد أخاصمك.

وأخرج من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغِسلين، ولكنِّي أظنه الزقُّوم.»١٠

ولم تكن ظاهرة «الغموض» بالنسبة للجيل الأول من المسلمين قاصرة على «الألفاظ» الغريبة، بل كانت تتجاوز ذلك إلى مستوى التركيب، ولذلك احتاج النص في هذه المرحلة المبكرة إلى التفسير في بعض أجزائه:

«كسؤالهم لما نزل: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فقالوا: أيُّنا لم يَظلم نفسه؟ ففسَّره النبي بالشرك، واستدلَّ عليه بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وكسؤال عائشة رضي الله عنها عن الحساب اليسير فقال: «ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عُذِّب.» وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الذي وضعه تحت رأسه. وغير ذلك ممَّا سألوا عن آحاد منه.»١١
ولعلَّ من أهم مظاهر «الغموض» الخلاف حول آية المُحكم والمتشابه ذاتها لا على مستوى الدلالة فقط وما ارتبط بها من تحديد معنى المُحكم ومعنى المتشابه، ولكن على مستوى القراءة ذاتها في تحديد طبيعة «الواو» في وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فهل هي واو عطف أو واو استئناف. وعلى قراءة العَطف يكون «الراسخون في العلم» معطوفًا على اسم الجلالة في وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ويكون من ثم داخلًا في حكم من يعلم التأويل. وعلى هذه القراءة تبقى جملة «يقولون آمنَّا به» مقطوعة عن السياق إلا على تأويل أنها خبر لمبتدأ محذوف. وعلى قراءة الاستئناف يكون «الراسخون في العلم» خارجة من حكم العلم بالتأويل، وتكون مبتدأ خبره «يقولون آمنا به».١٢

لقد كان المبدأ الذي طرحه المُفسِّرون أن هذا الغموض الراجع إلى «الإجمال» يُمكن الوصول إلى دلالته بالعودة إلى النص ذاته في مكان آخر؛ فالمُجمَل في موضع له بيان في موضع آخر. إنَّ تفسير الرسول للظلم بالشرك كان تفسيرًا للنص بالنَّص ذاته، فالنص من خلال نظامه اللغوي والدلالي يُؤسس مُعجمه الخاص ويضع أساس تفسير الغامض في بعض أجزائه:

«قال العلماء من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولًا من القُرآن فما أُجْمِل منه في مكان فقد فُسِّر في موضع آخر، وما اختُصِر في مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر.»١٣

وليس أدلَّ على أن النص يُؤسس لغته الخاصة من «المشكلة الشرعية» التي أضفاها النص على كثير من ألفاظ اللغة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، بل إن ألفاظ «الإسلام» و«القرآن» و«الوحي» و«الشرع» و«السنة» تدخل في إطار الألفاظ التي أضفى عليها النص دلالات لم تكن لها في اللغة، وهذا هو الفارق بين «الدلالة الشرعية» و«الدلالة الوضعية» لهذه الألفاظ. لقد بلغ من الإحساس بهذا النَّقل الدلالي الذي قام النص بتحقيقه في بعض ألفاظ اللغة أن اعتبر بعض العلماء أن هذه الألفاظ من «المجمل» الذي يحتاج للبيان:

«ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، ولِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قيل إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك والحَج لكل قصد، والمراد بها لا تدلُّ عليه اللغة وافتقر إلى البيان. وقيل: لا، بل يَحمل على كل ما ذكر إلا ما خُصَّ بدليل.»١٤

إن بيان «المجمل» والكشف عن دلالة الغامض بالعودة إلى سياق النص في أجزاء أخرى أمر هام دون شكٍّ خاصة في مجال استثمار الأحكام الشرعية الفقهية من النصوص، لكن كثيرًا من أجزاء النص أيضًا تظلُّ تحتمل تعدُّد القراءات؛ ومن ثمَّ تعدُّد التأويلات خاصة على مستوى التركيب والأسلوب، ومع اختلاف «المنظور» الذي يَنطلِق منه القارئ والمفسر، وآية «آل عمران» خير دليل على ذلك.

(٣) الاختلاف الذي يُوهم التناقض

في كثير من أجزاء النص يحدث نوع من الاختلاف الذي يَبرز من خلال «التكرار»، ولكنه تكرار لا يُعيد نفس الشيء، بل تكرار يطرح جديدًا. وحين قارن القدماء هذه النصوص «المُكررة» ولاحظوا «الاختلاف» بينها حاولوا أن يكشفوا أن هذا «الاختلاف» لا يؤدي إلى غموض أو تناقُض في دلالة النص، بل الأحرى القول إنه اختلاف دالٌّ على «الإعجاز» من حيث دلالته على قُدرة النص على التصرُّف دون الوقوع في التكرار الحرفي. إنَّ القصص القرآني مثلًا يتكرَّر في السور المُختلفة، لكن هذا التكرار يُضيف دائمًا شيئًا جديدًا؛ فقصة موسى مع أهله حين رأى النار في طريق عودته إلى مصر تأتي في كل سورة بأسلوب مختلف وبإضافة جديدة. فالقصة تحكي في سورة «النمل» أن موسى:

«رأى نارًا فقال لأهله: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. وقال في سورة طه في هذه القصة: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى. وفي موضع لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. وقد تصرف في وجوه وأتى بذكر القصة على ضروب ليُعلِمَهم عجزهم عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ليكون أبلغ في تعجيزهم وأظهر للحجة عليهم.»١٥
ولذلك أعاد قصة موسى في سور وعلى طرق شتى وفواصل مختلفة مع اتفاق المعنى.١٦

ولا يَكتفي القدماء بهذا «التعليل» لوجود ظاهرة الاختلاف بين أجزاء النص، بل يُحاولون تفسير هذا الاختلاف؛ وذلك اعتمادًا على مبدأ هام هو نفي الاختلاف الذي يوهم التناقض. ونفي الاختلاف الذي يُوهم التناقض ليس نفيًا للاختلاف في ذاته، بل هو نفي للتناقض الذي يُمكن أن يوهمه هذا الاختلاف. إن النص ذاته ينفي عن نفسه «الاختلاف» الموهم بالتناقض:

«سُئِل الغزالي عن معنى قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مُشترك بين معانٍ، وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يُشبه أوله آخره في الفصاحة؛ إذ هو مختلف؛ أي بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو إلى الدنيا. أو هو مُختلف النَّظم، فبعضه على وزن الشعر، وبعضه مُنزحف، وبعضُه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يُخالفه، وكلام الله منزَّه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره، وعلى مَرتبة واحدة في غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغثِّ والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميِّين يتطرق إليه هذه الاختلافات … ولقد كان رسول الله بشرًا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوُجِدَ فيه اختلافٌ كثير، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن، وكيف يكون هذا المراد، وقد قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف، وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى.»١٧

إنَّ الاختلاف — في تأويل الغزالي — ظاهرة أحدثها النص بين الناس؛ فقد اختلف الناس في النص وفي تفسيره وتأويله، ولكن النص نفسه لا اختلاف فيه لا على مُستوى النَّظم والأسلوب ولا على مستوى المضمون والدلالة. لكن مثل هذا التأويل يتجاهَل أن اختلاف الناس حول النص «تأويلًا» استند إلى أجزاء مُختلفة في النص. إن استشهاد الغزالي بقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا هو في حقيقته استشهاد يَعتمد على «تأويل» يأخذ الآية على ظاهرها بوصفها آية «محكمة» تدلُّ بظاهرها. وهو استشهاد لا يوافقه عليه أي مُفكِّر معتزلي يضع الآية في نطاق «المتشابه» الذي يحتاج إلى التأويل الذي يتباعد بها عن دلالتها الظاهرة. ويضع المعتزلي في مُقابلة هذا الاستشهاد بالنص من جانب الأشعري استشهادًا بجزء آخر من النص يراه «محكمًا» دالًّا بظاهره على نقيض معنى النص الذي يستشهد به الأشعري.

إنَّ اختلاف الناس حول النص يرتدُّ في جانب منه إلى «اختلاف» النص ذاته، وهو اختلاف أوهم التناقُض. من هنا يَحرص العلماء على إزالة هذا الوهم، ومن هنا يَنبع الاتِّفاق بين الفرق المختلفة على نفي التناقُض عن القرآن. وليس تأويل «المُتشابه» بردِّه إلى «المحكم» في حقيقته إلا محاولة لإزالة وهم «التناقُض» عن النصوص المختلفة. ومعنى ذلك أن كل الفرق تسلم بطريقة أو بأخرى بوجود نوع من الاختلاف بين أجزاء النص، لكنه اختلاف لا يُؤدِّي إلى التناقض. إنه اختلاف قد يرتد في جزء منه إلى طبيعة اللغة؛ فهو اختلاف طبيعي مردود إلى الطبيعة اللغوية للنص، أو لنقل بلغة معاصرة: اختلاف مردود إلى آلية النص في تحديد طبيعته الخاصة. وهذه الآلية الخاصة كما سبقت الإشارة هي التي تجعل فعل القراءة — والتأويل من ثم — جزءًا من آليات النص. لقد عبر القدماء عن هذا الترابط بين «آلية النص» وبين «فعل القراءة» حين أدركوا أن الاختلاف يَرتد إلى طبيعة اللغة، وأن القراءة تتم من خلال «المعقول» الذي لا يصح أن يتعارض معه المنقول أو النص.

وإنما حملهم على التأويل وجوبُ حَملِ الكلام على خلاف المفهوم من حقيقته؛ لقيام الأدلة على استحالة المتشابه والجسمية في حق البارئ تعالى، والخوض في مثل هذه الأمور خطره عظيم. وليس بين المعقول والمنقول تغاير في الأصول، بل التغاير إنما يكون في الألفاظ، واستعمال المجاز «في» لغة العرب. وإنما قلنا: لا تغاير بينهما في الأصول لما علم بالدليل أن العقل لا يكذب ما ورد به الشرع؛ إذ لا يَرِد الشرع إلا بما يفهمه العقل، إذ هو دليل الشرع وكونه حقًّا. ولو تُصُوِّر كذب العقل في شيء لتُصُوِّر كذبه في صدق الشرع، فمن طالت ممارسته العلوم، وكثر خوضه في بحورها أمكنه التلفيق بينهما، لكنه لا يخلو من أحد أمرَين، إما تأويل يبعد عن الأفهام، أو موضع لا يتبين فيه وجه التأويل لقصور الأفهام عن إدراك الحقيقة، والطمع في تلفيق كل ما يَرِد مستحيل المرام.١٨

وإذا كان «الاختلاف» حين يُقرَأ من خلال «المعقول» يُزيل توهم «التناقض» فإن الاختلاف يصبح نوعًا من التنوع لا يتعارض مع الإيمان بوحدة «النص» ووحدة مصدره. وإذا كانت الآراء والأيديولوجيات تختلف، فإن «المعقول» الذي لا يتعارَض معه النص يختلف من جماعة إلى جماعة داخل العصر الواحد في المجتمع الواحد، ويختلف من مجتمع إلى مجتمع في العصر الواحد، وهو أشد اختلافًا بتغاير العصر وتقدم الزمان وتطور المجتمعات. ويظلُّ النص من خلال آليات الاختلاف نصًّا قابلًا للقراءة والتفسير والتأويل.

لو كان القرآن كله محكمًا لما كان مُطابقًا إلا لمذهب واحد وكان بصريحه مبطلًا لكلِّ ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنفِّر أرباب سائر المذاهب عن قبوله والنظر فيه والانتفاع به. فإذا كان مشتملًا على المُحكَم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يُؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمُّل فيه صاحب كل مذهب. وإذا بالغوا في ذلك صارت المُحكمات مُفسِّرة للمتشابهات.١٩

إنَّ النص بهذا الاختلاف لا يُحدد هويته فقط ويميز نفسه عن غيره من النصوص، بل يتجاوز ذلك لكي يجعل من نفسه محورًا في الثقافة عن طريق قابليته للتفسيرات والتأويلات المختلفة في المكان والزمان على السواء. إنَّ النصوص المحددة الدلالة هي النصوص ذات الوظيفة الإعلامية الخالصة، والتي تنتهي مهمتها بفك شفرة الرسالة ووصول المتلقِّي إلى مضمونها ومحتواها وصولًا كاملًا نهائيًّا، ومن شأن هذه النصوص أن تكون خاضعة خضوعًا شبه تامٍّ لمعطيات اللغة العادية؛ فهي نصوص لا تُبدع لغتها الخاصة؛ وذلك على خلاف النصوص الممتازة. وفي القرآن نجد مستويات لغوية مختلفة تتراوح بين «الإعلام» الخالص وهي نصوص قليلة جدًّا وبين اللغة «الأدبية» المكثَّفة الدلالة المبدعة لآلياتها الخاصة.

(٤) الحروف المقطعة في أوائل السور

إذا كان «المجمل» يجد تفسيره في جزء آخر من النص، وإذا كان «المختلف» يُفسر فيه «المتشابه» على ضوء «المُحكَم»، فإن الحروف المقطَّعة في أوائل السور لا تدخل تحت أيٍّ من هذين النمطين، ناهيك أن تدخل تحت أي وجه من وجوه الدلالة التي ناقشناها في المنطوق والمفهوم. إن المنطوق في حالة الحروف المقطعة غير دالٍّ؛ أي ليس له مفهوم مباشر أو غير مباشر. ولا شكَّ أن هذا هو الذي دفع بالبعض إلى جعل هذه الحروف من «المتشابه» الذي لا يعلمه إلا الله، وقرأ الآية — بناءً على هذا التأويل لمعنى «المتشابه» — على الاستئناف دون العطف.

قال ابن عباس: أنزل الله القرآن على أربعة أوجه: حلال وحرام، ووجه لا يسع أحدٌ جهالته، ووجه تَعرفه العرب، ووجهُ تأويل لا يَعلمه إلا الله.٢٠

وقد وُضِع تحت هذا الوجه الذي لا يعلمه إلا الله كثير من أجزاء النص تدلُّ بمنطوقها على اختصاص العلم الإلهي ببعض الجوانب التي لا يعلمها البشر مثل الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام والروح.

فهو يجري مجرى الغيوب نحو الآي المتضمِّنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام. وتفسير الروح والحروف المقطَّعة. وكل مُتشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه؛ إما نصٌّ من التنزيل، أو بيان من النبي ، أو إجماع الأمة على تأويله، فإذا لم يَرِد فيه توقيف من هذه الجهات عَلمنا أنه ممَّا استأثَر الله تعالى بعمله.٢١

وإذا كانت النصوص المشار إليها عن الساعة والغيث وما في الأرحام وعن الرُّوح نصوصًا دالَّة بمنطوقها على استئثار علم الله بهذه الأشياء فإنها نصوص ليس لها تأويل وراء منطوقها. إنها نُصوص دالَّة أدخل في باب «المحكم» ولا علاقة لها بالتشابُه أو الغموض. ومعنى ذلك أن الحروف المقطعة والآيات «المتشابهات» فقط هي التي استأثر الله بعلمها وليس لإنسان تأويلها.

إنَّ اختلاف الروايات عن ابن عباس جعَل أنصار التأويل يَستندُون إلى مروياتٍ أخرى عنه تُعارض وجود شيء في القرآن لا يصل الإنسان إلى فهمه وتأويله:

«ألا ترى أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ: أنا من أولئك القليل.

وقال مجاهد … لو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المُتشابه إلا أن يقولوا: «آمنَّا» لم يكن لهم فضل على الجاهل؛ لأنَّ الكل قائلون ذلك. ونحن لم نرَ المُفسرين إلى هذه الغاية توقَّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هو متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمروا على التفسير، حتى فسَّروا الحروف المقطعة.»٢٢

والحقيقة أن تفسير الحروف المقطَّعة ومحاولة الوصول إلى سرِّها يرجع إلى زمن نزول النص، وإلى جدل اليهود مع النبي حول الإسلام والقرآن. وسواء كانت هذه الرواية هي سبب نزول آية آل عمران أم كانت مجرَّد «واقعة» لا تعلُّق لها بنزول الآية فإن مغزاها بالنسبة لتفسير الحروف المقطَّعة يظلُّ هامًّا. لقد حاول اليهود تفسير هذه الحروف تفسيرًا عدديًّا ظنًّا منهم أنها يُمكن أن تكشف لهم عن مدة سيادة «الإسلام» وسيطرته سياسيًّا. قال ابن إسحاق راويًا عن ابن عباس:

«إنَّ أبا ياسر بن أخطب مرَّ برسول الله وهو يتلو فاتحة البقرة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فأتى أخاه حيي أخطب في رجال من يهود، فقال: تعلموا والله، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أُنزِل عليه، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقالوا: أنت سمعته؟ فقال: نعم، فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله ، فقالوا له: يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلُو فيما أنزل إليك الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ؟ فقال رسول الله : بلى، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ فقال: نعم: قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بَيَّن لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أكل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب، وأقبل على مَن معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دينٍ إنما مدة مُلكِه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله ، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: المص قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمَّد غيره، قال: نعم الر. قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان، هل مع هذا غيره يا محمَّد قال: نعم المر قال: هذه والله أثقَل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلًا أُعْطِيت أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يُدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبع مائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابُه أمره علينا.»٢٣

ولقد كان هذا التأويل أساسًا فيما يبدو اعتمد عليه كثير من السلف في محاولة كشف أمدِ الدنيا ومدة العالم، ومن هؤلاء الذي اعتمدوا عليه السهيلي في كتابه فيما يقول ابن خلدون:

«وهو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المُكرَّر قال وهي أربعة عشر حرفًا يجمعها قولك «الم يسطع نص حق كره» فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة وثلاثة إضافة إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثتِه فهذه هي مدة الملَّة قال: ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها. قلت: وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه.»٢٤

وينتهي ابن خلدون إلى رفض مثل هذا التأويل؛ وذلك استنادًا إلى أمرَين: الأول أن دلالة الحروف على «الأرقام» ليست دلالة طبيعية أو عقلية، بل هي دلالة عرفية وضعية اعتباطية. والأمر الثاني أن اليهود الذين وضعوا هذه الدلالة هم أقرب إلى البداوة والأمية بالمعنى الثقافي والحضاري؛ ومن ثم لا يصح التعويل على آرائهم واجتهاداتهم في مثل هذه المسائل. يقول:

«ولا يقوم من القصة دليل على تقدير الملة بهذا العدد؛ لأن دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية، وإنما هي بالتواضُع والاصطلاح الذي يُسمونه حساب الجمل. نعم إنه قديم مشهور، وقدم الاصطلاح لا يصير حجة، وليس أبو ياسر وأخوه حُيي ممَّن يؤخذ رأيه في ذلك دليلًا ولا من علماء اليهود لأنَّهم كانوا بادية بالحِجاز غفلًا عن الصنائع والعلوم، حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملَّتهم، وإنما يتلقَّفُون مثل هذا الحساب كما تتلقَّفه العوام في كل ملَّة.»٢٥

وإذا كان اليهود قد حاوَلُوا تفسير هذه الحروف تفسيرًا حسابيًّا، فإنَّ ابن عباس قد حاول أن يردَّ هذه الحروف إلى أسماء الله وصفاته، فكلُّ حرف منها يدل على اسم أو صفة دلالة الجزء على الكل. وفي هذه الحالة يُمكن أن يدلَّ الحرف الواحد على أكثر من اسم وأكثر من صفة:

«فالألف من «الله»، واللام من «لطيف»، والميم من «مجيد»، أو الألف من «آلائه»، واللام من «لطفه»، والميم من «مجده».»٢٦

ويُمكن أيضًا أن يكون مفتتح كل سورة دالًّا على عبارة كاملة على سبيل الاختصار، فتكون الدلالة:

«في قوله تعالى: «الم» أنا الله أعلم، وفي: «المص» أنا الله أفضل، و«الر» أنا الله أرى، ونحوه من دلالة الحرف الواحد على الاسم العام والصفة التامة.»٢٧

ولا شك أن هذا التأويل المنسوب إلى ابن عباس قد تطوَّر فيما بعد، عند كل من الشيعة والمتصوفة، إلى علم قائم بذاته. اكتسبت فيه الحروف بصفة عامة وحروف أوائل السور بصورة خاصة أبعادًا ودلالات شتى سواء على الأئمَّة عند الشيعة على اختلاف فرقهم أم على حقائق الوجود والنص عند المتصوفة. وكان ذلك كله تعميقًا للاتجاهات «الغنوصية» في تفسير النص وتأويله.

وفي مُقابل هذا الاتجاه التأويلي السرِّي نجد اتجاهًا آخر يتعامل مع هذه الحروف من حقيقة أنها حروف غير دالة في ذاتها، بل هي جزء من النظام اللغوي الذي يَعتمِد عليه النص، ووجودها في النص هكذا مفرَّقة له دلالة عامة هي «تأكيد» أن هذا «النص» المعجز في نظمه مؤلَّف من نفس الحروف التي يُؤلِّفون منها نصوصهم التي لا ترقى في مستواها إلى آفاق هذا النص. ومعنى ذلك أن الاشتراك بين النص وغيره من نصوص الثقافة هو اشتراك في النظام الصوتي؛ وذلك معنى من معاني الإعجاز عند الباقلاني:

«وهو أن الحروف التي بُنِيَ عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفًا وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة وجملة ما ذُكِرَ من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة وهو أربعة عشر حرفًا ليدلَّ بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.»٢٨

وهذه الحروف الأربعة عشر المذكورة في أوائل السور إلى جانب أنها من حيث العدد نصف حروف اللغة تُمثِّل من جهة أخرى كل الظواهر الصوتية الموجودة في اللغة، فهي تُمثل ظواهر «الهمس» و«الجهر» و«الشدة» و«الرخاوة» و«الانفتاح» و«الإطباق». وهي من جهة ثالثة تمثل تقسيم الحروف من حيث «المخرج» إلى حلقية وغير حلقية. ومعنى ذلك أن اختيار هذه الحروف لبدء السور بها لم يكن اختيارًا عشوائيًّا قائمًا على المصادفة والارتجال، بل هو اختيار له دلالته من حيث إنَّ هذه الحروف تُمثِّل الظواهر الصوتية الموجودة في حروف اللغة. فمن الحروف المهموسة فيها: الصاد والكاف والقاف والسين والحاء والطاء، ومن الحروف المجهورة: الألف واللام والميم والراء والهاء والعين والياء والنون، ومن الشديدة الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة: الصاد والطاء، ومن المُنفتحة: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون. وبالإضافة إلى ذلك ففيها من حروف القلقلة القاف والطاء. ومن حروف الحلق الحاء والهاء والعين:

«والذي ينقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها أقسام نحن ذاكرُوها. فمن ذلك أنهم قسَّموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة؛ فالمهموسة منها عشرة وهي الحاء والهاء (؟) والخاء والكاف والشين والثاء والفاء والتاء والصاد والسين، وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة، وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان.»٢٩

وكذلك مما يُقسِّمون إليه الحروف يقولون إنها على ضربين: أحدهما حروف الحلق وهي ستة أحرف العين والحاء والهمزة (؟) والهاء والخاء (؟) والغين (؟) والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحُروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور. وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

وكذلك تَنقسِم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي الهمزة والقاف والكاف والجيم (؟) والظاء والذال والطاء والياء، وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضًا هي مذكورة في جملة تلك الحُروف التي بُنيت عليها تلك السور. ومن ذلك الحروف المطبقة وهي أربعة أحرف وما سواها مُنفتحة فالمطبقة الطاء والظاء والضاد والصاد. وقد علمنا أن نصف هذه الحروف في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي ، ورأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر على حد التصنيف الذي وصفنا دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضُع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل لأنَّ ذلك يجري مجرى علم الغيوب. وإن كان إنما نَبَّهوا على ما بُنِيَ عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنَّما التأثير لمن وضع أصل اللسان، فذلك أيضًا من البديع الذي يدلُّ على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان. فإن كان أصل اللغة توقيفًا فالأمر في ذلك أبيَن، وإن كان على سبيل التواضُع فهو عجيب أيضًا، لأنه لا يصحُّ أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروب على حد يتعلَّق به الإعجاز من وجه.٣٠
إن الدلالة التي يضفيها الباقلاني هنا على وجود هذه الحروف في النص دلالة مشابهة لدلالة «الإخبار عن الغيوب» على إعجاز النص. ولكن علينا أن نكون على ذكر بأنَّ هذه الدلالة دلالة أضافتها الثقافة على هذه الحروف بعد تطوُّر الدرس اللغوي. ولا يقلل من هذه الدلالة الآن أن تقسیم الأصوات مخالف لتقسيم القدماء الذين كانوا يَعتمدون على مجرد الملاحظة المباشرة، هذا بالإضافة إلى تطور نطق بعض الأصوات في اللغة الحديثة.٣١

ثمَّة تأويلات أخرى تحاول إضفاء دلالة على هذه الحروف، منها مثلًا اعتبار هذه الحروف بمثابة أسماء للسور التي وردت فيها، ولكن هذا التأويل يُضعِف من مشروعيته كثرة السور التي تبدأ بحروف متشابهة مثل «الم» التي تبدأ بها سور «البقرة» و«آل عمران» و«العنكبوت» و«الروم» و«لقمان» و«السجدة»، ومثل «الر» التي تبدأ بها سور «يونس» و«هود» و«يوسف» و«الرعد» و«إبراهيم» و«الحجر»، هذا علاوة على الطواسين والحواميم. ويبدو دفاع علماء القرآن عن مثل هذا التأويل دفاعًا مُتهافتًا؛ ذلك أنهم يذهبون إلى أنه:

«قد يقع الوفاق بين اسمين لشخصين. ثم يميز بعد ذلك بصفة وقعت، كما يقال زيد وزيد، ثم يميزان بأن يقال: زيد الفقيه، وزيد النحوي، فكذلك إذا قرأ القارئ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقد ميَّزها عن الم * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ٣٢

ويطول بنا الأمر إذا ناقشنا كل التأويلات التي طُرحت لوجود هذه الحروف والتي أسهب علماء القرآن في تعدادها حتى وصلت إلى ثلاثة عشر تأويلًا، وانتهى الأمر ببعض العلماء إلى التسليم بها جميعًا وجعلها بمثابة تأويل واحد:

«فيقال: إن الله جلَّ وعلا افتتح السور بهذه الحروف إرادةً منه للدلالة بكل حرف منها على معانٍ كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحًا، وأن يكون كل واحد منها مأخوذًا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله عز وجل قد وضعها هذا الوضع فسمَّى بها، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وأفضاله ومجده، وأنَّ الافتتاح بها سبب لأن يسمع القرآن من لم يكن يسمع، وأن فيها إعلانًا للعرب أن القرآن الدالَّ على نبوة محمد بهذه الحروف وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المُتعالِمة بينهم دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم، وأن كل عدد منها إذا وقع أول كل سورة فهو اسم لتلك السورة.»٣٣

ولا شك أن كل هذه التأويلات تؤكد بطريقة أو بأخرى إحساس القدماء بأن «غموض» دلالة هذه الحروف يشكل جانبًا من جوانب خصوصية النص، فهو غموض يُؤكِّد «الاختلاف»، بين القرآن وبين غيره من النصوص. من هنا تختلف الحروف المُقطَّعة عن غيرها من ظواهر الغموض التي ناقَشْناها في الفقرات السابقة، من حيث إن هذه الأخيرة ظواهر غموض دلالية تُبَيِّنها وتكشف عنها أجزاء أخرى من النص، وهي من ثم ظواهر غموض تبرز اختلاف النص داخليًّا. وهكذا يكون النص قد خالف بين ذاته وبين غيره من النصوص من جهة، وخالف بين أجزائه من جهة أخرى. ولم تكن هذه المخالفة إلا آلية من آليات النص حقَّق بها تميُّزه وحقق بها من ثم قدرته على التفاعل مع الثقافة في المكان والزمان.

١  Barbara Johnson, The Critical Difference, p. 4.
٢  سورة آل عمران: الآية ٧.
٣  انظر: الاتجاه العقلي في التفسير، ص١٤١–١٤٦، ص١٦٤–١٩٠.
٤  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣١-٣٢.
٥  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤.
٦  انظر: السيوطي، ص٣٢. هذا الانتقال من «المفهوم» إلى دلالته سواء بالموافَقة أم بالمخالفة، وهو ما يُطلق عليه الفقهاء «الاستنباط»، وهو بابٌ لاستثمار الأحكام الفقهية من النصوص بدلالة «المفهوم»، انظر أمثلة لذلك: الزركشي، البرهان في علوم القرآن الجزء الثاني، ص٤–٦، ص١٩–٢١.
٧  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٣١.
٨  انظر: Peter W. Nesselroth, Literary Identity and Contextual Difference, p. 51.
٩  انظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص١٨.
١٠  انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١١٣.
١١  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٤-١٥.
١٢  انظر تفاصيل هذا الخلاف في: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٧٢–٧٤.
١٣  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص١٧٥.
١٤  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٢٠.
١٥  الباقلاني، إعجاز القرآن، الجزء الثاني، ص٥٦، والآيات من سورة النمل: ٧، طه: ١٠، القصص: ٢٩.
١٦  المصدر السابق، ص٥٩.
١٧  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٦–٤٨. ولاحظ فيما أكَّدناه من النص كيف يجذب الغزالي دلالة القرآن إلى الدعوة إلى الآخرة دون الدنيا التي يضعها في علاقة تعارُض مع «الدين»، وهو الاتجاه الذي نُناقشه في الباب الثالث من هذه الدراسة.
١٨  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٨٠.
١٩  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص١٣.
٢٠  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٧٤.
٢١  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص١٦٦.
٢٢  المصدر السابق، ص٧٣.
٢٣  السيرة النبوية، الجزء الثاني، ص١٣٩-١٤٠.
٢٤  المقدمة، ص٢٣٢.
٢٥  المقدمة، ص٣٣٣.
٢٦  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٧٣.
٢٧  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٧٤.
٢٨  إعجاز القرآن، الجزء الأول، ص٦٥-٦٦. وقد عدَّد الباقلاني الحروف تسعة وعشرين على اعتبار «لا» حرفًا مُستقلًّا، وإذا اعتبرناها حرفًا مركبًا من حرفَين هما اللام والألف صارت الحروف ثمانية وعشرين مُطابقة لعدد السور. انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٧٦.
٢٩  الباقلاني، إعجاز القرآن، الجزء الأول، ص٦٦.
٣٠  الباقلاني، إعجاز القرآن، الجزء الأول، ص٦٨-٦٩.
٣١  انظر: فليش، العربية الفصحى، نحو بناء لغوي جديد، ص٣٧–٤١.
٣٢  الزركشي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٧٤.
٣٣  الزركشي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء الأول، ص١٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤