الفصل السابع عشر

الصديقتان

أقبل الصيف يجر أذيال نسماته الحارة بما يذيب، وهب الناس للاصطياف. وكذلك أسرة حبيب، فقد صمموا على السفر إلى ربوع لبنان، أما فريد فأبى مرافقة والده وشقيقته مفضلًا البقاء في مكان يستنشق مع نسماته أنفاس حبيبته مستعلمًا عن أحوالها، وسير علتها من وقتٍ إلى آخر، وقد ناب عنه في صحبتهما عزيز، إذ لم يكن لديه من الأعمال ما يحول دون سفره.

ولما حان وقت السفر ذهبت ماري لوداع صديقتها، وحالما رأتها أبدت مزيد الأسف لما رأته فيها من آثار السقام، وأسرعت فطوقتها بذراعيها، وقبَّلتها بلهفة وحنو، وهي تقول لها وفي صوتها رنة حزن: أواه أيتها العزيزة، إني لم أكن أتصور أنْ أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، فلقد حضرت مرة لزيارتك بعد أنْ بلغني خبر انحراف صحتك، فلم يؤذن لي بمشاهدتك، فكنت أعود بصفقة الخاسرين مواصلة الاستفهام عنك من وقتٍ إلى آخر، إلى أنْ قيض لي مشاهدتك اليوم، فالحمد لله على سلامتك.

فتجلدت روزه ما أمكن، وقبَّلت صديقتها بفتور، ثم جلستا، وأخذتا بأطراف الحديث، فقالت روزه: كيف أنت يا ماري هذه الأيام؟

– إني كما تتمنين لي من الهناء والرفاه، وقد عزمنا على الرحيل إلى سورية، فأتيت أتزود من محياك قبلة الوداع.

– وهل عزمتم على الاصطياف فيها؟

– نعم، وسنمكث هناك طول الصيف، وربما تجاوزناه إلى فصل الخريف لبعض أشغال يقصد والدي الاتجار بها بين الشام ومصر.

– وهل عاودت والدك الهمة للعمل، فقد كان في عهدي أنه انقطع عنه منذ أمد طويل.

– في عزمه أنْ يرسم خطة الأشغال، ثم يكل إدارتها إلى أخي وخطيبي، ولا بدَّ من استصحاب أحدهما لمساعدة أبي على انتقاء الموافق من المصنوعات الشامية التي يندر وجودها في مصر، ولما كان أخي مرتبطًا بخدمة البنك العقاري، فلا يمكنه مرافقتنا والاستعفاء من أشغاله قبل أنْ يتأكد من نجاح العمل الجديد، وعليه فسينوب عزيز مكانه في رفقتنا.

ولدى ذكر عزيز، غصت روزه بريقها وكلل العرق جبينها، غير أنها تجلدت، وأجابتها وهي تكاد تنشق مرارتها: حسنًا يفعل.

– إني واثقة بأن هذا العمل سوف يعود على عزيز بالنجاح والثروة، أفلا ترين رأيي؟

فأشارت إليها بالإيجاب، وقد تبين الكمد من وجهها.

أما ماري فلم تنتبه لتبدل ملامح صديقتها، إذ قد شُغلت حينئذٍ بذكر عزيز، وسرحت أفكارها في جمال المستقبل وسعادة أيامه.

فقالت لها روزه، وهي تحاول الابتسام: وهل تحبينه يا ماري؟

فأكدت لها بنظرة لطيفة، وقد تضرج خداها، وافتر ثغرها.

– وهو يهواك طبعًا.

– إلى حد العبادة.

ثم جعلت تسرد لها من الأدلة القاطعة، والبراهين الناطقة بصدق هواه، وكثرة هيامه، وتلك تتلقى سهام كلمتها بصدر أدمته يد الأحزان، وهي تتلوى كطير مذبوح، وتتنهد من صدر مقروح، محاولة امتلاك نفسها وكتمان حزنها، غير أنَّ الضعف غلبها أخيرًا، فهوت إلى الأرض، وهي تئن أنين المحتضر، وتصعد الزفرات، فيُسمع لها حشرجة أشبه بصوت مدية تخترق الأحشاء.

فأسرعت ماري وطوقتها بذراعيها، ثم أسندتها إلى صدرها، وهي تردد اسمها، وتتبعه بأحب الألقاب.

فأشارت روزه إلى صديقتها بتسكين قلقها، إذ لم تكن تقوى على النطق، وكان صدرها يصعد، ويهبط بسرعة، فيعسر عليها التنفس.

ولبثت برهة على تلك الحال عرضة للتأثر والانفعال، ثم انحل عقد دموعها النحيب والشهيق حتى نزفت عبراتها، فأطبقت أجفانها، ومالت برأسها على كتف صديقتها، وساد السكون حينًا، استردت به روزه شيئًا من القوة، ففتحت عينيها، ونظرت إلى ماري فرأتها تبكي، وعلائم التأثر بادية على محياها، وجملة هيئتها تدل على سلامة طويتها، وخلوص ودها، حتى ليخال الرائي أنها مستعدة لبذل النفس والنفيس في سبيل إنقاذ صديقتها، وإزالة الأسباب التي تؤلمها.

فقبضت روزه على يديها بحنو، وقالت لها وهي تتكلف الابتسام: لا تقلقي أيتها العزيزة، فما هذه إلا نوبة عصبية تنتابني أحيانًا.

– فدتك نفسي أيتها الحبيبة، إني لم أكن أتصور أنْ أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، وإنه ليؤلمني فراقك على هذه الصورة، ولا يهدأ لي بال إلا إذا أتحفتِني بالأخبار السارة عنك من وقتٍ إلى آخر.

ثم رسمت على جبينها قُبلة جمعت معاني الطهر والوداد، فوعدتها روزه بذلك، وبعد حصة قضتها الصديقتان بين أحاديث متفرعة، نهضت ماري وودعت صديقتها، فكان وداعًا مؤثرًا في فؤاد روزه كامن الحزن، وزادها أسى ما رأت في رفيقة صباها من علائم الود، فجعل قلبها بخفق بشدة، وكادت شفتاها تبوحان بأسرار فؤادها لماري؛ ولكنها ما عتمت أنْ ملكت رشدها، واسترجعت قوتها، فهزت يد صديقتها، وهي تتمنى لها سفرًا سعيدًا.

ثم سارت نحو الباب، والتفتت إلى صديقتها وهي تكفكف دموعها، فقالت لها: إنَّ قلبي يأبى مطاوعتي على الذهاب، ولكن ما العمل؟ فإن والدي وعزيزًا ينتظراني لتهيئة ما يلزم للسفر حتى نكون غدًا صباحًا على استعداد تام للرحيل، فلا بدَّ إذن من المسير، ولا يبرح من ذهنك أن تكتبي إليَّ في أول فرصة.

فانقضت كلماتها على قلب روزه كالصاعقة، ولم تقوَ على احتمال تلك الضربة، فلمعت مقلتاها، وفغرت فاها لدى تفوه صديقتها بالعبارة الأخيرة، وكادت تقول لها: رُدِّي عليَّ حبيبي. غير أنَّ ماري كانت قد توارت خارج الباب، فسقطت خائرة القوى، يكاد يُقْضَى عليها من الغم والأسى، وقد حاولت البكاء فخانها الدمع بما استوقد صدرها وضرم أنفاسها. فنهضت واجمة، وهي تطالب الحمام، وتنادي القبر لتلجأ إليه من ذلك العذاب الذي قوض دعائم اصطبارها، ثم اقتربت من النافذة لعلها تلقَى من نسيم الروض تحية تنعش منها الفؤاد، فألقت نظرها على ذلك الشارع الكبير الغاص بالعربات والخيول التي تقل المتنزهين من رجال وسيدات وأولاد، وقد أرسلت عليهم الشمس أشعتها السنجابية مودعة قبل الأفول … وما هي إلا لحظة حتى استردتها إليها، وتوارت خلف حجابها؛ كي تجلب إلى الفم قبلة لا أمل بعدها بلقاء.

فابتسمت روزه ابتسامة السويداء، وقالت: هكذا قد آذنت شمس حياتي بالزوال، ولكن قبل ساعة المغيب، فوداعًا أيها العالم المملوء من المسرات، ووداعًا أيتها الشمس التي ستنشرين جناح أشعتك غدًا على قبري. أستحلفك بأن تترفقي بحال الأزهار التي ستنبت حول ضريحي، فلا تمسيها بأذًى، بل تزودي الآن من أدمعي ما يلطف حر أنفاسك.

وعقب ذلك دمعة سقطت على خدها كقطرة الندى، فأخذتها على طرف أنملها، وأرسلتها مع الهواء، ثم ألقت نظرة أخيرة على الشارع وهمت بالرجوع.

وعند ذلك استوقف بصرها أحد المارين، وكان يشبه عزيزًا بقامته ومشيته، فلبثت ترقبه إلى أنْ اقترب من منزلها، فتبينته جيدًا فإذا هو عزيز بعينه، وكان يتقدم نحو الباب، فظنته قادمًا لعيادتها لدى علمه بأنها مريضة، فارتعشت كمن مسها سلك كهربائي، ولكنها لبثت واقفة تغالب اضطرابها وضعفها، وقد صممت على امتلاك نفسها أمامه — إن هو زارها — والتظاهر بما يوافق كبرياءها ويخالف شعورها.

وما كاد عزيز يقترب من باب منزلها، حتى ظهرت ماري على عتبته، وإذ شاهدت خطيبها أسرعت نحوه فتصافحا، ولبثا حينًا يتحدثان وعلائم الحب والارتياح مرسومة على محياهما، وفي نظراتهما، وابتساماتهما، وما عتما بعد ذلك أنْ سارا متجهين نحو منزل ماري.

ولما عاينت روزه ذلك منهما، ورأت عزيزًا عدل عن زيارتها، وعاد برفقة ماري، زفرت زفرة كادت تنقصف منها ضلوعها، وسقطت مغمى عليها.

ولم يكن قد أخطأ ظنها، فإن عزيزًا حين بلغه خبر مرض روزه صمم على زيارتها رغمًا عما يعترضه من الخزي والتأثر، فاتفق خروج ماري ساعتئذٍ وتلاقيها به، فشغلته رؤيتها عن كل إنسان، ولا سيما أنها سألته أنْ يرافقها إلى منزلها فأطاعها، ومن يرفض خدمة سيدة تكلفه بقضائها، ولا سيما إذا كانت تلك السيدة عزيزة عنده، ثم جعل يسألها عن روزه أثناء مسيرهما، فحدثته بما أعاد إليه بالطمأنينة، وأكد له زوال الخطر عنها.

وألحت عليه ماري تمضية ذلك المساء بقربها ففعل، وأخذ يعاونها في تهيئة مهمات السفر، وبشائر السرور تضرب في قلبيهما مبشرة إياهما بسفر جميل ومستقبل بهي.

فنتركهما يمرحان في بحبوحة آمالهما، ونعود حيث تركنا روزه مغمى عليها، فبعد أنْ مضى عليها بعض دقائق دخلت خادمتها فرأتها على تلك الحال، فاعتنت بها إلى أنْ ثاب إليها رشدها، ولما استفاقت شعرت بقوة حديدية، أعادت إليها حياة كانت تظنها من هنيهة قد قاربت الانطفاء. فإن مشاهدة عزيز الأخيرة وما رأت عليه من علائم الصحة والبشر، ومظاهر الود نحو خطيبته الجديدة قد قطع الشريان الأخير الذي يربط قلبها به، فخرجت من ذلك اليم مطلقة القياد، أقوى منها على كفكفة الدمع ومداواة جرح الفؤاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤