الفصل الرابع

حرب باردة عالمية (١٩٥٠–١٩٥٨)

باندلاع الصراع الكوري، صارت الحرب الباردة عالمية في نطاقها على نحو متزايد. وفي العقد التالي على بدء القتال في كوريا، لم يفلت من شباك التباري والتنافس والصراع بين القوى العظمى سوى بقاع قليلة حول العالم. في الواقع، كانت نقاط الصراع العالمية الرئيسية في الخمسينيات والستينيات — إيران وجواتيمالا والهند الصينية ومضيق تايوان والسويس ولبنان وإندونيسيا وكوبا والكونغو — بعيدة فعليًّا عن حدود الحرب الباردة. برلين فقط، التي أثار التنافس عليها الأزمات بين السوفييت والأمريكان في عام ١٩٥٨ ثم مجددًا في عامي ١٩٦١ و١٩٦٢، تنتمي إلى مجموعة المنازعات التالية على الحرب العالمية الثانية مباشرة، التي أوجدت الشقاق بين الشرق والغرب في المقام الأول.

خلال هذه الفترة، تحركت الحرب الباردة بالأساس من مركز النظام الدولي إلى أطرافه. حدد كل من الأمريكان والسوفييت عددًا من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والنفسية في المناطق النامية في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وسعيًا لكسب الموارد والقواعد والحلفاء والنفوذ هناك. وبحلول الخمسينيات باتت هذه المناطق في قلب الصراع السوفييتي الأمريكي، وهو الحال الذي ظلت عليه طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. على النقيض من ذلك، أوجد الانقسام بين الشرق والغرب في أوروبا درجة مدهشة من الاستقرار، وصارت فكرة الصراع العسكري هناك غير مستساغة على نحو متزايد من جانب الزعماء الأمريكيين والسوفييت، الذين أدركوا أن أي مواجهة واسعة النطاق في المركز من شأنها التحول إلى مواجهة نووية مؤكدة. أبرز ما يؤكد هذا هو حقيقة أن كل الحروب التي اندلعت خلال حقبة الحرب الباردة تقريبًا كانت في العالم الثالث، وأن العشرين مليون فرد الذين قضوا في الحروب التي اشتعلت بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠ سقطوا جميعهم، عدا مائتي ألف منهم فقط، في صراعات اندلعت في مناطق متباينة من العالم الثالث.

ومع هذا فقد تصاعد سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال العقد الثاني من الحرب الباردة، وصاحبه احتمال أن يتسبب التقدير الخاطئ أو التصعيد الخارج عن السيطرة في كارثة مروعة أو القضاء على عدد لا حصر له من البشر. هذه الموضوعات الرئيسية — التوسع الجغرافي للحرب الباردة إلى المحيط الخارجي، وإرساء السلام والاستقرار النسبيين في أوروبا، والزيادة المنتظمة في ترسانة الأسلحة النووية بكلا الجانبين — تشكل نقاط التركيز الرئيسية لهذا الفصل.

إضفاء الاستقرار على العلاقات بين الشرق والغرب

من قبيل المفارقة أن الحرب الكورية مثلما تسببت في إسباغ الطابع العسكري والعالمي على الحرب الباردة، فإنها أيضًا أطلقت العنان لقوى كان من شأنها المساعدة في تعزيز استقرار العلاقات الأمريكية السوفييتية وفي الوقت ذاته ترسيخ انقسام دول أوروبا بين المعسكرين الشرقي والغربي على نحو قلل من احتمالية نشوب حرب بين القوتين العظميين. ضاعف واضعو السياسات الأمريكان من جهودهم لتقوية حلف شمال الأطلسي، وذلك لاقتناعهم عقب الهجوم الكوري الشمالي بأنهم يواجهون عدوًّا انتهازيًّا أكثر شراسة وخطورة، ولتخوفهم المتزايد من ضعف أوروبا الغربية أمام أي تدخل عسكري سوفييتي. وبنهاية عام ١٩٥٠ أرسل ترومان أربع كتائب أمريكية إلى أوروبا، بالرغم من المعارضة القوية للنواب الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، وبدأ في تحويل منظمة حلف شمال الأطلسي إلى تحالف عسكري حقيقي ذي هيكل قيادي متكامل، وعين الجنرال دوايت دي أيزنهاور، القائد العسكري ذا الشعبية في الحرب العالمية الثانية، قائدًا أعلى لحلف شمال الأطلسي، وبدأ في وضع خطط إعادة تسليح ألمانيا.

مَثَّل إعادة تسليح ألمانيا الأولوية الرئيسية لإدارة ترومان. رأى المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون أن الطاقة البشرية الألمانية ضرورية للدفاع عن أوروبا، وآمنوا بأن إعادة تسليح ألمانيا، مع استعادة سيادتها بالكامل، كان أمرًا مطلوبًا لتثبيت أقدام الجمهورية الاتحادية في الفلك الغربي ولدعم حكومة المستشار كونراد أديناور الموالية لأمريكا. بيد أن احتمالية إعادة إحياء ألمانيا من الناحية العسكرية بعد فترة قصيرة من زوال النظام الذي تسبب في فظائع لا مثيل لها في أوروبا أثارت خوف فرنسا وغيرها من الحلفاء الأوروبيين. ولتهدئة مخاوفهم، وافقت الولايات المتحدة على مفهوم «لجنة الدفاع الأوروبية» التي اقترحها الفرنسيون، والتي طرحت مجموعة من الترتيبات المعقدة التي من شأنها أن تسمح ببناء قوات عسكرية محدودة لألمانيا الغربية تكون مدمجة داخل جيش أشمل لأوروبا الغربية.

حاول السوفييت دون جدوى تعطيل عملية إعادة تسليح ألمانيا، فقدموا للحلفاء الغربيين في ربيع عام ١٩٥٢ مجموعة من المذكرات الدبلوماسية التي تطالب بتأسيس ألمانيا موحدة محايدة. فمرة أخرى طارد شبح إعادة إحياء ألمانيا — بحيث يستوعب الغرب قوتها الاقتصادية والعسكرية ويسخرها لمصلحته — ستالين والمكتب السياسي السوفييتي، ودفعهم لإيجاد حل أقل تهديدًا، حتى وإن كان يتسم بالخطورة، للمشكلة الألمانية. لكن واشنطن رفضت مطالب موسكو على الفور. كانت ألمانيا الموحدة المحايدة بمنزلة الكابوس لأمريكا؛ إذ إن مثل هذه الدولة يمكن أن تميل مع الوقت ناحية المعسكر السوفييتي، وبهذا تخل بميزان القوى الأوروبي. وهذا تحديدًا هو ما عقدت إدارة ترومان العزم على الحول دونه. سرعان ما أقلم السوفييت أنفسهم على الأمر الواقع وارتضوا وجود ألمانيا مقسمة، وردًّا على ذلك أخذوا خطوات أدت إلى الاعتراف بألمانيا الشرقية، المسماة بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، كدولة مستقلة ذات سيادة في مارس ١٩٥٤. أدرك ستالين وخلفاؤه أن اندماج ألمانيا الغربية المستقلة المعاد تسليحها في المعسكر الغربي من شأنه إمالة موازين القوى الاقتصادية والعسكرية نحو الغرب على نحو كبير، لكنهم أيضًا أدركوا أن مثل هذه النتيجة حملت على الأقل عددًا أقل من المخاطر مقارنة بظهور دولة ألمانية موحدة مستقلة مجددًا كثقل موازن في السياسة الأوروبية وكتهديد محتمل للأمن السوفييتي.

في الواقع حدث تلاقٍ مفاجئ في التفكير بين المخططين الاستراتيجيين الروس والأمريكان فيما يخص المسألة الألمانية في بدايات الخمسينيات ومنتصفها، وهو التلاقي الذي يسر من تعزيز استقرار أوروبا وسمح بتقليل في التوتر بين الشرق والغرب. وكما قال وزير الخارجية البريطاني سيلوين لويد في يونيو ١٩٥٣ فإن «توحيد ألمانيا وأوروبا منقسمة، حتى إن كان ممكنًا من الناحية العملية، لهو أمر محفوف بالخطر للجميع. ولهذا يشعر الجميع — د. أديناور والروس والأمريكيون والفرنسيون ونحن أيضًا — شعورًا عميقًا بأن تقسيم ألمانيا أكثر أمانًا في الوقت الحالي. لكن لا يجرؤ أينا على البوح بهذا علانية بسبب تأثيره على الرأي العام الألماني. ومن ثم، ندعم جميعًا في العلن توحيد ألمانيا، لكنْ كل منا وفق رؤيته».

حين رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية معاهدة لجنة الدفاع الأوروبية في صيف عام ١٩٥٤، خرج البريطانيون سريعًا بوسيلة بديلة لتحقيق الهدف المتمثل في إعادة تسليح ألمانيا الغربية وإعادة اندماجها. كانت خطتهم، التي عاونتهم فيها إدارة دوايت دي أيزنهاور، تدعو لاستخدام منظمة حلف شمال الأطلسي كإطار آمن تجري داخله عمليات إعادة التسليح الألمانية. ولاحقًا في العام نفسه، خلال مؤتمر مليء بمظاهر الترف عقد في باريس، وافقت دول منظمة حلف شمال الأطلسي على هذه الصيغة الجديدة لإعادة تسليح ألمانيا الغربية، واستعادة سيادتها القومية، وإنهاء الاحتلال الأمريكي البريطاني الفرنسي لها. وفي مايو ١٩٥٥، انضمت جمهورية ألمانيا الاتحادية ذات السيادة الكاملة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي.

بالرغم من العقبات العديدة على الطريق، فقد حققت الولايات المتحدة أهداف سياستها الأوروبية الأساسية إلى جانب التفاوض على الاتفاقات التعاقدية الألمانية، وهو ما ضمن لها تقوية منظمة حلف شمال الأطلسي وإعادة إحيائها بالتوازي مع تأسيس ألمانيا الغربية ذات السيادة وإعادة تسليحها. وقد نجحت أيضًا في تشجيع المصالحة بين باريس وبون وجعل أوروبا الغربية أكثر تكاملًا من الناحية السياسية وأنشط من الناحية الاقتصادية. يقول المؤرخ ملفين بي لفلر: «كانت الخطة الأمريكية تقضي بخلق أوروبا مزدهرة غير شيوعية. وكان هدفها هو التصدي لأي محاولة من الكرملين للاستيلاء على أوروبا الغربية وقت الحرب أو ترهيبها في وقت السلم أو إغراء ألمانيا الغربية بالانضمام لفلكها في أي وقت.» وبعد عشر سنوات بالضبط على نهاية الحرب في أوروبا، بدا ذلك الهدف الأساسي أقرب إلى التحقق.

في أوائل عام ١٩٥٣ حدث أول تغيير على مستوى القيادة منذ بدء الحرب الباردة في كل من واشنطن وموسكو. لكن الزعيمين الجديدين لم يفعلا الكثير لتقليل انعدام الثقة والشك المتبادل الواقع في قلب الموقف المتأزم بين القوتين العظميين. في الواقع كان أيزنهاور وكبير مستشاريه للسياسة الخارجية، جون فوستر دالاس، عازمين على الاستمرار في الحرب الباردة بقوة أكبر مما فعلت الإدارة الديمقراطية السابقة. وجه برنامج الحزب الجمهوري لعام ١٩٥٢، في فقرة ألفها دالاس، الديمقراطيين بسبب «الخطايا المأساوية» في الشئون الخارجية وأدان استراتيجية الاحتواء للرئيس ترومان بوصفها سياسة «سلبية وعقيمة وغير أخلاقية» من شأنها أن «تترك عددًا لا حصر له من البشر فريسة للشيوعية المستبدة الملحدة». ولم تنجح وفاة ستالين في مارس ١٩٥٣ ومقترحات السلام المبهمة المقدمة من جانب القيادة الجماعية التي حلت محل ذلك الديكتاتور الروسي الذي حكم البلاد فترة طويلة في تغيير قناعة أيزنهاور وكبار مخططيه الاستراتيجيين بأنهم يواجهون عدوًّا عنيدًا مخادعًا. كانوا متيقنين من أن الاتحاد السوفييتي يمثل خطرًا عسكريًّا وسياسيًّا وأيديولوجيًّا من المقام الأول، فهو عدو غير عابئ بأساليب التفاوض الدبلوماسية التقليدية ومن ثم لا يمكن التعامل معه إلا من منطلق القوة المسيطرة. وقد قال دالاس للجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ خلال جلسات الاستماع المنعقدة لتأكيد ترشحه لمنصبه: «إنه صراع غير قابل للتسوية.» وقد دعا الموقر ونستون تشرشل، الذي تولى لفترة ثانية رئاسة وزراء بريطانيا، إلى اجتماع قمة لبحث إمكانية التسوية الدبلوماسية مع موسكو، لكن أيزنهاور رفض طلبه، واصفًا إياه سرًّا بأنه تحرك مبكر عن أوانه نحو الترضية.

ومن جانبهم، استجاب قادة الاتحاد السوفييتي الجدد لإعادة تسليح ألمانيا وتقوية حلف شمال الأطلسي بإحكام قبضتهم على أوروبا الشرقية. وقد كشفت الإضرابات والمظاهرات الواسعة وغيرها من أشكال المقاومة للحكم السوفييتي في ألمانيا الشرقية في يونيو ١٩٥٣، والمصحوبة بالمسلك المستقل المتزايد الذي انتهجته يوغوسلافيا في عهد جوزيف بروز تيتو، عن ضعف سيطرة الاتحاد السوفييتي داخل نطاق نفوذه الخاص. وفي الرابع عشر من مارس ١٩٥٥ أسبغ الاتحاد السوفييتي الطابع الرسمي على علاقاته الأمنية بدول أوروبا الشرقية «الحليفة» له — جمهورية ألمانيا الديمقراطية وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا وألبانيا — بتشكيل حلف وارسو. وقد رمز حلف وارسو؛ ذلك التحالف العسكري الفضفاض الذي جاء كرد فعل دفاعي لمبادرات الغرب في ألمانيا وداخل حلف شمال الأطلسي، إلى تقوية خطوط الانقسام داخل القارة الأوروبية. وبعدها بيوم واحد، انضم الاتحاد السوفييتي إلى حلفائه في التوقيع على معاهدة سلام مع النمسا تمكن من إنهاء احتلال الحلفاء هناك في مقابل إنشاء دولة محايدة ذات سيادة. وقد عرضت موسكو أيضًا على الغرب مقترحات جديدة لوقف سباق التسلح، وعملت على الوصول إلى «تسوية مؤقتة» مع يوغوسلافيا، وأطلقت سلسلة من المبادرات الدبلوماسية الجريئة في العالم الثالث.

هذه الخطوات التي أقدم عليها الزعيم الجامح، والمرن في الوقت ذاته، نيكيتا إس خروشوف؛ زعيم الحزب الشيوعي الذي برز بوصفه الشخصية المهيمنة فيما بعد القيادة الستالينية، ساعدت على تسهيل عقد لقاء القمة الذي تحرق إليه تشرشل طويلًا. وفي يوليو ١٩٥٥ اجتمع قادة الحكومات الأمريكية والسوفييتية والبريطانية والفرنسية في جنيف، وهو الاجتماع الأول من نوعه منذ مؤتمر بوتسدام قبلها بعقد. وبالرغم من عدم تحقيق أي تقدم مفاجئ فيما يخص ألمانيا أو نزع السلاح أو أيًّا من القضايا الكبيرة موضع الخلاف، فإن حقيقة انعقاد المؤتمر وحدها بدت وكأنها تبشر بفصل يسوده التعاون والتوافق في العلاقات بين الشرق والغرب. وفي أوسع معانيه، أكد مؤتمر جنيف إقرار كلا الجانبين الضمني بالوضع القائم في أوروبا، إضافة إلى الإدراك ضمنًا بأنه لن يخاطر أي من الطرفين بالحرب لتغييره. وأبرز ما في الأمر أنه بعد شهرين من اختتام أعمال المؤتمر، اعترفت موسكو دبلوماسيًّا بألمانيا الغربية.

استنكر خروشوف بغلظة الجرائم التي ارتكبها ستالين في حق شعبه وأخطاء السياسة الخارجية، وذلك في خطابه المهم للغاية الذي ألقاه في الاجتماع العشرين للحزب في موسكو في فبراير ١٩٥٦. دعا الزعيم الروسي في خطابه السري الذي امتد أربع ساعات إلى «التعايش السلمي» مع القوى الرأسمالية، واعترف بأن هناك طرقًا مختلفة للاشتراكية. أصاب الخطاب، الذي سرعان ما انتشر فحواه، كلًّا من الشيوعيين وغير الشيوعيين بالصدمة. تشجع الإصلاحيون في أوروبا الشرقية بفضل إمكانية أن يخفف السوفييت قبضتهم. وسرعان ما اختبر المفكرون والطلاب والعمال حدود تسامح الكرملين مع الاختلاف والاستقلال القومي. وفي يونيو، سريعًا ما تحولت المنازعات العمالية في بولندا التي سادها الاضطراب طويلًا إلى تعبير عن المقاومة الصريحة للاتحاد السوفييتي. وبعد أن استعان بالجيش الأحمر لإخماد شغب القوميين في وارسو، تراجع خروشوف عن موقفه ووافق على تعيين رئيس الوزراء السابق فلاديسلاف جومولكا، الإصلاحي الذي طُرد من قبل في حركة تطهير ستالينية، ليكون الرئيس الجديد للحزب الشيوعي البولندي.
fig6
شكل ٤-١: احتجاجات المجريين ضد الاتحاد السوفييتي، نوفمبر ١٩٥٦.1

نتج عن اضطراب مماثل نتائج أكثر مأساوية في المجر. ففي الثالث والعشرين من أكتوبر، تصاعدت المظاهرات التي قادها الطلاب في أرجاء البلاد لتتحول إلى حركة عصيان صريحة ضد الوجود العسكري السوفييتي. وفي نهاية الشهر، حين أعلنت الحكومة الإصلاحية بزعامة إمري ناجي عن قرار المجر بالانسحاب من حلف وارسو وناشدت الأمم المتحدة الدعم، نفد تسامح خروشوف حيال التغيير السياسي داخل أوروبا الشرقية. رأى الزعيم السوفييتي أنه إذا لم يفعل شيئًا، فإن هذا «سيعطي دفعة كبيرة للأمريكيين والإنجليز والفرنسيين». أمد الغزو العسكري الإنجليزي الفرنسي لمصر في الحادي والثلاثين من أكتوبر، بالإضافة إلى دخول حملة أيزنهاور الانتخابية أيامها الأخيرة، الزعيم الروسي بما اعتبره «لحظة مواتية» لاستخدام القوة العسكرية. ومن ثم، في الرابع من نوفمبر تحرك مائتا ألف جندي من القوات الروسية وقوات حلف وارسو، مدعومين بخمسة آلاف وخمسمائة دبابة، لقمع العصيان المجري بالقوة الغاشمة. تسبب الصراع غير المتكافئ في مقتل نحو ٢٠ ألف مجري وقرابة ثلاثة آلاف سوفييتي. وبحلول الثامن من نوفمبر كانت حركة العصيان قد سُحقت. لم يكن بوسع إدارة أيزنهاور — الذي كان لخطبه المؤيدة للتحرر ولبث إذاعة راديو أوروبا الحرة الأثر الكبير في تشجيع المقاومة المناهضة للسوفييت — ما تفعله سوى غض الطرف عن الوحشية الروسية. من الواضح أن الأمريكيين لم يكونوا مستعدين للتسبب في مواجهة عالمية بسبب أحداث تقع داخل نطاق النفوذ السوفييتي أكثر مما كان السوفييت مستعدين للاستجابة للتطورات الواقعة في أوروبا الغربية. وبمنتصف الخمسينيات ظهر شكل من أشكال نظام القوى العظمى في أوروبا، وقل أن يوجد من الباحثين من يستخدم مصطلح «السلام الطويل» لوصف أوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي نظر البعض، وهو ما تعلمه المجريون على نحو مؤلم، تحقق هذا النظام بثمن باهظ للغاية.

اضطرابات في العالم الثالث

لأسباب عديدة صارت دول العالم الثالث النامية، وأغلبها خرج إلى النور بعد عقود إن لم يكن بعد قرون من الحكم الاستعماري الغربي، محور تركيز التنافس السوفييتي الأمريكي خلال عقد الخمسينيات. أدرك مخططو الأمن القومي الأمريكي أن موارد وأسواق مناطق العالم الثالث كانت ضرورية لصحة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وللتعافي الاقتصادي لدول أوروبا الغربية واليابان، ولاحتياجات أمريكا التجارية والعسكرية. في واقع الأمر، استقى الغرب القدر الأعظم من قوته العسكرية والاقتصادية من صلاته بالعالم النامي، وأبرز الأمثلة على ذلك هو أهمية نفط الشرق الأوسط البالغة لأوروبا الغربية في أوقات السلام ولحلف شمال الأطلسي في أوقات الحرب. أما السوفييت، خاصة بعد وفاة الديكتاتور ستالين واعتلاء الداهية الدبلوماسي خروشوف سدة الحكم، فقد عملوا على مد علاقات صداقة وتحالف مع دول العالم الثالث غير المنحازة إلى المعسكر الغربي كي يخفف هذا الجانب من قوة الغرب. وقد سعى الكرملين، مستعينًا بالسبل الدبلوماسية والتجارة وقروض التنمية السخية، إلى بسط نفوذه والحصول على الموارد والقواعد، خاصة في الدول الأفروآسيوية، وفي الوقت ذاته إلى إضعاف قبضة الغرب. بدا نموذج التنمية الماركسي اللينيني مقبولًا في نظر العديد من مفكري العالم الثالث وقادته السياسيين، الذين انبهروا بالقفزة التي حققها الاتحاد السوفييتي من دولة متخلفة إلى عملاق عسكري صناعي في جيل واحد فقط.

سهلت هذه الحقيقة من سعي الكرملين لعقد الصداقات وجني الدعم، تمامًا كما صعبت وصمة الاستعمارية الغربية والعنصرية والغطرسة والتحكم المستمر في الموارد القومية من مهمة الدبلوماسيين الأمريكيين. صار واضعو السياسات الأمريكيون مقتنعين في الخمسينيات بأن نتيجة الصراع على الأطراف يمكنها قلب ميزان القوى العالمي في مصلحة الغرب، أو ضده. وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي دين راسك في مجلس الشيوخ في فبراير ١٩٦١ أن الجهود السوفييتية «الضخمة للغاية» في العالم النامي تظهر أن الصراع السوفييتي الأمريكي تحول «من مشكلة أوروبا الغربية العسكرية إلى تنافس حقيقي على الدول المتخلفة». وقد حذر من أن «المعارك في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا هي الآن مترابطة، ليس على المستوى العسكري في المقام الأول، بل حول النفوذ والمكانة والولاء وغيرها، والأمر خطير أيما خطورة».

تُجسد الأزمة الإيرانية التي وقعت بين عامي ١٩٥١ و١٩٥٣ كل هذه النقاط الرئيسية. ولدت الأزمة بسبب الصراع بين النظام القومي المصمم على السيطرة على اقتصاد البلاد وقوة غربية غير مستعدة لإعادة التفاوض حول امتيازات النفط المجزية للغاية. أشعل الزعيم القومي محمد مصدق فتيل الأزمة حين أمم حقول ومصافي النفط التابعة لشركة النفط الأنجلو إيرانية في ربيع عام ١٩٥١. كان رئيس الوزراء الإيراني يرغب في انتزاع المزيد من الأرباح لبلاده من احتياطيات النفط الهائلة التي تمثل أعلى موارد البلاد قيمة، وهو المورد الذي طالما خضع للاحتكار من طرف شركة النفط البريطانية العملاقة. تسبب رفض بريطانيا العظمى المتعنت للتفاوض بإخلاص مع حكومة مصدق، ثم لجوؤها إلى مقاطعة النفط الإيراني، في رفع مستوى التوتر، الذي سريعًا ما ألقت الحرب الأهلية بظلالها عليه. وعلى الرغم من تعاطف الولايات المتحدة في البداية مع ما اعتبرته، هي الأخرى، بمنزلة تحدٍّ غير مرحب به من جانب إحدى دول العالم الثالث للقواعد غير المكتوبة، التي حكمت فترة طويلة الترتيبات التجارية بين الدول الصناعية وسواها من الدول الأقل تقدمًا، فإنها استشعرت تهديدًا أخطر من الجارة الانتهازية الواقعة شمال إيران. عرضت إدارة ترومان خدماتها للوساطة لأنها خشيت بالأساس نشوب مواجهة تخل باستقرار المنطقة يكون الاتحاد السوفييتي هو المستفيد منها. لكن الرفض البريطاني للتسوية وأد الجهود الأمريكية، وحث مصدق على الترحيب بالمساعدة السوفييتية وعلى التماس الدعم الداخلي من حزب توده الموالي للاتحاد السوفييتي. واستجابة لذلك، دشنت إدارة ترومان، بالاشتراك مع البريطانيين، عملية سرية هدفت من ورائها إلى الإطاحة بمصدق، واستعادة نظام الحكم الملكي بزعامة شاه إيران، محمد رضا بهلوي، الموالي للغرب.

بالرغم من أن أصول النزاع البريطاني الإيراني ليس لها علاقة بالحرب الباردة، فإن المخاوف الأمريكية من التدخل السوفييتي — مهما كان مبالغًا فيها — هي التي حركت السياسة الأمريكية. استند تدخل الولايات المتحدة الخفي في الشأن الإيراني إلى شاغلَين أساسيين للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في بدايات الحرب الباردة: عزمها على احتواء الاتحاد السوفييتي، ومن ثم الحد من تأثيره على الدول الفتية المتحررة للتو من ربقة الاستعمار، وعزمها على تمكين دول أوروبا الغربية من الوصول إلى إمدادات النفط الحيوية. وقد تحدث أيزنهاور لأحد المستشارين عقب سقوط نظام مصدق قائلًا: «إن توفير إمداد النفط الكافي لأوروبا الغربية يعادل في الأولوية توفير إمداد النفط الكافي لأنفسنا. وعلى الغرب، كي يحمي بقاءه، أن يستمر في سيطرته على نفط الشرق الأوسط.»

تسبب صراع آخر ألقت الحقبة الاستعمارية الجديدة بظلالها عليه بين بريطانيا ومصر حول مَن يحق له السيطرة على مجمع القاهرة السويس العسكري الضخم في إرباك الجهود الأمريكية الهادفة لجعل الشرق الأوسط منطقة مستقرة موالية للغرب. وقد أدى هذا الصراع على نحو غير مباشر إلى أكثر أحداث العقد خطورة؛ أزمة السويس ١٩٥٦. ترجع جذور هذه الأزمة إلى رفض مصر الانضمام إلى أي منظمات دفاعية مناهضة للسوفييت سعى الأمريكيون والبريطانيون لتكوينها في بدايات وأواسط الخمسينيات. تسببت المرارة المتولدة عن الصراع مع البريطانيين في عزوف المصريين عن التعاون مع الغرب المنخرط في مكائد استعمارية متواصلة. وفي ظل رفض مصر وأغلب الدول العربية الكبرى الأخرى الدخول في اتفاقات أمنية جماعية مع القوى الغربية، مال الأمريكيون والبريطانيون نحو مفهوم «الحزام الشمالي» البديل. ومن ثم، في فبراير ١٩٥٥ وقعت بريطانيا وتركيا وباكستان وإيران والعراق على حلف بغداد، وهو اتفاقية أمنية مشتركة فضفاضة، الهدف منها مد درع الاحتواء حتى الشرق الأوسط. وبالرغم من أن الضغط الأمريكي، إلى جانب وعود المنح الاقتصادية والعسكرية، كان له أبلغ الأثر في المفاوضات السابقة على توقيع الاتفاقية، فإن واشنطن اختارت عدم المشاركة على نحو مباشر في الحلف لتجنب أي استعداء لا لزوم له للدول العربية التي كانت لا تزال على علاقات ودية معها.

ومع ذلك، فقد تسببت هذه الاتفاقية في إذكاء عدم الاستقرار الذي كانت أمريكا تهدف للحول دونه من الأساس. مثَّل إنشاء حلف بغداد في نظر الزعيم القومي المصري القوي جمال عبد الناصر عملًا عدائيًّا صريحًا نظرًا لأن العراق المحافظة — الدولة العربية الوحيدة الموقعة على الحلف — كانت المنافس التقليدي لمصر داخل العالم العربي. وفي خريف عام ١٩٥٥ وقع عبد الناصر صفقة تسليح مع تشيكوسلوفاكيا بهدف مضاهاة العراق، التي تعززت قوتها العسكرية وقتها بفعل ارتباطها الرسمي بمجموعة حلف بغداد المدعومة من الغرب. وفي ديسمبر ١٩٥٥ عمدت إدارة أيزنهاور؛ لتخوفها من الميل المصري المحتمل ناحية المعسكر السوفييتي، إلى تقديم الإغراءات التي جاءت على صورة تمويل سخي لمشروع سد أسوان (السد العالي)؛ العمود الفقري لخطط مصر التنموية الطموحة. بيد أن الدعم المصري للهجمات على إسرائيل، واستمرارها على النهج المحايد في السياسة الخارجية واعترافها بجمهورية الصين الشعبية في مايو ١٩٥٦ أثار حنق الولايات المتحدة. وفي التاسع عشر من يوليو ١٩٥٦ أعلن وزير الخارجية الأمريكي دالاس على نحو مباغت سحب العرض الأمريكي لتمويل السد العالي. وكان رد عبد الناصر الجريء على الولايات المتحدة هو «موتوا بغيظكم». وقد حذر رئيس البنك الدولي يوجين بلاك وزير الخارجية دالاس من أن «هذا سيفتح أبواب الجحيم».
figure
خريطة ٣: الشرق الأوسط، ١٩٥٦.2

وفي السادس والعشرين من يوليو أثبت عبد الناصر صحة نبوءة بلاك. وفي حركة جريئة غير متوقعة بالمرة أعلن عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، الإنجليزية الفرنسية، مع تعهده بتشغيل ذلك الممر المائي الدولي الحيوي بكفاءة واستخدام العائدات لتوفير التمويل لمشروع السد العالي ذي الأولوية القصوى. وبعد مفاوضات فاترة، حاول فيها دالاس بدأب العثور على بديل للصراع المباشر، نتج عن تواطؤ كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عمل عسكري مشترك ضد مصر في أواخر أكتوبر ١٩٥٦. لكن هؤلاء الحلفاء أصيبوا بالصدمة والفزع حين شجبت الولايات المتحدة بكل قوة هذا الغزو، ووصفته بالعدوان العسكري الصارخ غير المبرر الذي ينتهك سيادة القانون. وحين شجب السوفييت، في الخامس من نوفمبر، الهجوم على مصر وهددوا بعجرفة بالانتقام من بريطانيا وفرنسا إذا لم توقفا عدوانهما مباشرة، تحولت أزمة السويس فجأة إلى مواجهة خطيرة محتملة بين الشرق والغرب. ساعدت ضغوط أمريكا على حلفائها في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وبهذا نزعت فتيل الخطر الذي اعتبره الأمريكيون خداعًا أجوف، لكنه مقلق في الوقت ذاته، من جانب السوفييت.

في أعقاب أزمة السويس، تحملت الولايات المتحدة أعباءً أكثر في منطقة الشرق الأوسط. كان أكبر مخاوف أيزنهاور هي أن يتحرك السوفييت لملء الفراغ الذي سيتخلف نتيجة ضعف النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة. وقد تحدث لمجموعة من نواب الكونجرس في الأول من يناير عام ١٩٥٧ قائلًا: «على الولايات المتحدة أن تملأ الفراغ الحالي في الشرق الأوسط قبل أن يفعل السوفييت ذلك.» تمخض عما سمي بعقيدة أيزنهاور، التي اقترحها الرئيس على الكونجرس في الخامس من يناير، إنشاء تمويل خاص لتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية للأنظمة الموالية لأمريكا في الشرق الأوسط. وقد هددت أيضًا باستخدام القوة العسكرية، إن لزم الأمر، لوقف «العدوان المسلح الصريح من طرف أي دولة تتحكم بها الشيوعية الدولية». بالتأكيد جسدت هذه العقيدة المبهمة التزام الأمريكيين العميق بالمنطقة التي صار واضعو الاستراتيجيات الأمريكيون يعدونها الخطوط الأمامية للحرب الباردة. ووفرت الذريعة الملائمة كي يرسل أيزنهاور القوات الأمريكية إلى لبنان في العام التالي، بعد أن أطاح انقلاب دموي في العراق بالنظام الملكي الموالي للغرب مما زعزع المصداقية الأمريكية في المنطقة. بيد أن أعمق مسببات عدم الاستقرار بالمنطقة؛ الصراع العربي الإسرائيلي، والضغائن المترسخة داخل العرب حيال بقايا الاستعمار الغربي، وجاذبية القومية العربية الأصولية، ظلت بعيدة عن منال القوات الأمريكية والإغراءات الاقتصادية والمكائد الدبلوماسية وعروض الوساطة الأمريكية.

في ذلك الوقت كانت جنوب شرق آسيا مسرحًا آخر لسجال الحرب الباردة الشديد. خشي واضعو السياسات الأمريكيون من أن تتسبب الظروف غير المستقرة السائدة في تلك المنطقة، التي تتسم بوجود مصاعب اقتصادية ضخمة والانتقال الهش غير الكامل من الاستعمار إلى الاستقلال والصراعات الاستعمارية الدائرة في الهند الصينية والملايو، في جعل جنوب شرق آسيا فريسة سهلة للاختراق الشيوعي. رأى المحللون الأمريكيون في هذا خطورة شديدة. وقد أعلن تشارلز بوهلين، أحد كبار المختصين بالشأن السوفييتي بوزارة الخارجية الأمريكية أن «خسارة جنوب شرق آسيا» لمصلحة الشيوعيين سيكون لها تأثير عميق على توازن القوى الكلي حتى إنه لو حدث هذا الأمر «فسنخسر الحرب الباردة». وفي منتصف عام ١٩٥٢، تحدث وزير الخارجية الأمريكي أتشيسون على نحو مشابه حين قال لوزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن: «سنضيع لو خسرنا جنوب شرق آسيا دون قتال» ومن ثم «علينا أن نفعل ما بوسعنا لإنقاذ جنوب شرق آسيا.»

إذا كانت إمكانية استغلال الاتحاد السوفييتي للحراك الذي تموج به منطقة الشرق الأوسط كي يوجد لنفسه موطئ قدم هناك هي أسوأ مخاوف الأمريكيين في المنطقة، فإن إمكانية استخدام الصين للعدوان العسكري الصريح لتحقيق غاياتها التوسعية كان التخوف الأمريكي الأساسي في جنوب شرق آسيا. وفي تقرير سياسي مفصل تمت الموافقة عليه من جانب الرئيس ترومان في يونيو ١٩٥٢، أوضح مجلس الأمن القومي اهتمام واشنطن الأساسي. وقد حذر من أن أي ارتداد لدولة واحدة في جنوب شرق آسيا إلى الكتلة الصينية السوفييتية «من شأنه أن يكون له عواقب نفسية وسياسية واقتصادية وخيمة» وأيضًا «غالبًا ما سيؤدي إلى خضوع أو انحياز سريع للشيوعية من جانب بقية الدول في المجموعة». باختصار، يمكن توقع رد فعل متسلسل تؤدي فيه السيطرة الشيوعية على دولة واحدة، دون فعل مضاد فوري وقوي، إلى سيطرة الشيوعية على المنطقة بأسرها، وربما يمتد الأثر إلى خارجها أيضًا. ستكون لمثل هذه الاحتمالية تأثيرات اقتصادية مؤذية على كل من أوروبا الغربية واليابان، وستحرم الغرب من موارد استراتيجية مهمة، وتعصف بمصداقية الولايات المتحدة ومكانتها كقوة عظمى، وتضفي الثقل على الفكرة القائلة إن قوة التاريخ الدافعة تقف في صف الشيوعية، لا الديمقراطيات الغربية.

الهند الصينية، التي ظل المتمردون الشيوعيون بقيادة «فيت منه» يصدون فيها جميع المحاولات الفرنسية لقمعهم منذ عام ١٩٤٦، وهو ما يرجع الفضل فيه جزئيًّا إلى الدعم الصيني العسكري واللوجستي الذي لا يقدر بثمن؛ بدت أكثر مكان من المرجح أن يبسط فيه الشيوعيون سطوتهم. ومن ثم فقد مثلت نقطة محورية في جهود أمريكا لاحتواء المد الشيوعي في جنوب شرق آسيا. فالمساعدات العسكرية الأمريكية، التي بدأت قبيل الحرب الكورية مباشرة واستمرت على نحو متزايد عبر السنوات القليلة التالية، كانت الأساس الذي استندت إليه الجهود الحربية الفرنسية. لكن في بداية عام ١٩٥٤، ضاق الفرنسيون، حكومة وشعبًا، ذرعًا بذلك الصراع المكلف الطويل الذي لا يحظى بأي شعبية. وخلافًا للمشورة الأمريكية، سعى الفرنسيون لخروج دبلوماسي مشرف. ومن ثم، عُقد مؤتمر للقوى العظمى لبحث قضية الهند الصينية في جنيف في مايو ١٩٥٤. وسريعًا ما تبع هذا المؤتمر انتصار حاسم لقوات «فيت منه» على الحامية الفرنسية في ديان بيان فو في أقصى شمال غربي فيتنام. أسرع هذان التطوران بإنهاء الحكم الفرنسي للهند الصينية. ولعجزها عن الفوز على طاولة المفاوضات بما خسرته على أرض المعركة، وافقت القوى الغربية على التقسيم المؤقت لفيتنام عند دائرة العرض السابعة عشرة، مع منح النصف الشمالي لاتحاد استقلال فيتنام برئاسة فيت منه. ضغط الحلفاء السوفييت والصينيون على الزعيم الفيتنامي كي يقنع بنصف الكعكة، وهو الأمر الذي أحبطه؛ لأنهم أرادوا تجنب استفزاز الأمريكان والمخاطرة بمواجهة عسكرية أخرى مع الغرب بعد وقت قصير من وقف إطلاق النار بشبه الجزيرة الكورية.

من جانبها، سعت إدارة أيزنهاور لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الموقف الذي لم يمثل وحسب هزيمة قومية مذلة لفرنسا، بل انتكاسة عالمية للولايات المتحدة في سياق الحرب الباردة. وفي محاولة لوضع حد أمام المزيد من المد الشيوعي في جنوب شرق آسيا، اضطلع الأمريكيون بإنشاء حلف جنوب شرق آسيا (سياتو) في سبتمبر ١٩٥٤. ضم الحلف الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى وأستراليا ونيوزيلندا والفلبين وتايلاند وباكستان في تحالف فضفاض، أو بالأحرى عديم الفعالية، مناهض للشيوعية، الهدف منه إظهار البأس في وجه الصينيين والسوفييت. وتحرك أيزنهاور ودالاس ومعاونوهم على الفور لإحلال النفوذ الأمريكي محل النفوذ الفرنسي في فيتنام الجنوبية، وتدفقت الدولارات الأمريكية والمستشارون والمواد الخام على جمهورية فيتنام الوليدة للحيلولة دون سيطرة فيتنام الشمالية عليها، سواء عن طريق قوة السلاح أو صناديق الاقتراع. وقد ألغى رئيس الوزراء الموالي لأمريكا نجو دينه ديم الانتخابات المقرر إجراؤها في عام ١٩٥٦ في جميع أرجاء فيتنام، وذلك لثقته في أنها ستؤدي إلى فوز كاسح لهو تشي منه. وهكذا انضمت فيتنام إلى ألمانيا وكوريا كدولة أخرى قسمتها صراعات الحرب الباردة على نحو يجعل توحدها أمرًا شديد الخطورة.

في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وفي أرجاء العالم الثالث كافة، تحولت الولايات المتحدة بوتيرة متزايدة نحو العمليات الاستخباراتية السرية خلال عقد الخمسينيات من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية. في واقع الأمر، صارت وكالة المخابرات المركزية الأداة المفضلة وقت الحرب الباردة لواضعي السياسات الأمريكيين، وذلك لأنها كانت تعد بإنجاز أعمال فعالة بتكلفة قليلة وأغنت عن الحاجة لوجود القوات المسلحة التقليدية ويمكن بسهولة إنكارها إذا كُشف نقاب سريتها. وبين عامي ١٩٤٩ و١٩٥٢ زاد عدد عملاء وكالة المخابرات المركزية على نحو كبير، بالتوازي مع الزيادة في ميزانية الوكالة، وزاد عدد مراكز الوكالة وراء البحار من ٧ إلى ٤٧ مركزًا. وفي عام ١٩٥٣، كما ذكرنا من قبل، لعبت الوكالة دورًا كبيرًا في الإطاحة بنظام مصدق في إيران. وفي العام التالي، لعبت دورًا مماثلًا في الإطاحة بالزعيم اليساري لجواتيمالا جاكوبو أربنز جوزمان. تسبب تأميم جوزمان لشركة يونايتد فروت كومباني الأمريكية، بالإضافة إلى تسامحه مع الحزب الشيوعي المحدود في جواتيمالا، إلى نظر الولايات المتحدة له بوصفه شخصًا متطرفًا خطيرًا قد يمنح الاتحاد السوفييتي الفرصة التي يحتاجها كي يوجد لنفسه موطئ قدم في نصف الكرة الغربي. وبالرغم من أن تقديرات الأمريكان بشأن موالاة مصدق وأربنز للشيوعيين كانت خاطئة، كما أوضحت معظم الدراسات الحديثة على نحو حاسم، فإن التدخل في إيران وجواتيمالا أوضح عمق المخاوف الأمريكية بشأن اتجاه التغير السياسي في العالم الثالث. جعل النجاح في كل من إيران وجواتيمالا وكالة المخابرات المركزية تبدو وكأنها يستحيل قهرها، وربما شجع أيزنهاور وخلفاءه على توظيف العمليات الاستخباراتية السرية على نحو أتى بنتائج عكسية في أحيان كثيرة. فعلى سبيل المثال، أتى التدخل السري ضد النظام الموالي للاتحاد السوفييتي في سوريا عام ١٩٥٧ بنتائج عكسية، وتكرر الأمر عند الاستخدام الطائش لقوات شبه عسكرية في الإطاحة بنظام سوكارنو في إندونيسيا في العام التالي. كُشفت حقيقة كلتا العمليتين، وهو ما أدى إلى الإضرار بالقضية الأمريكية أكثر من إفادتها. ومع هذا فقد صار من العسير قهر إدمان اللجوء إلى العمليات الاستخباراتية السرية. وقد نتج هذا في جزء منه عن إغراء النجاح السهل قليل التكلفة، ونفس ضغوط الميزانية هذه هي التي أدت في حقيقة الأمر إلى اعتماد الولايات المتحدة المفرط على الأسلحة النووية في تحقيق أهداف سياستها الخارجية.
fig8
شكل ٤-٢: هو تشي منه، رئيس جمهورية فيتنام الديمقراطية.3

سباق التسلح

عمدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى تدعيم مخزونهما من الأسلحة — التقليدية والنووية — في أعقاب اندلاع الحرب الكورية. وبين عامي ١٩٥٠ و١٩٥٣ زادت الولايات المتحدة قوتها المسلحة بقرابة المليون جندي في الوقت الذي توسعت فيه على نحو كبير في إنتاج الطائرات والسفن الحربية والمركبات المدرعة وغيرها من معدات القتال التقليدية. أما تدعيم القوة النووية فكان أبرز. ففي أكتوبر ١٩٥٢ اختبر الأمريكيون بنجاح القنبلة النووية الحرارية، أو القنبلة الهيدروجينية، التي كانت أشد قوة من القنبلتين المستخدمتين في هيروشيما وناجازاكي بأضعاف مضاعفة. وفي أكتوبر ١٩٥٤ فجر الأمريكيون قنبلة أقوى من هذا بكثير. واكبت أنظمة الوصول للأهداف هذا التقدم. فحتى نهاية الخمسينيات اعتمد الردع النووي الأمريكي على القاذفات متوسطة المدى التي يمكنها ضرب الأراضي السوفييتية ثم العودة انطلاقًا فقط من القواعد المتقدمة في أوروبا. لكن بنهاية العقد حسنت الولايات المتحدة قدرة القصف النووي لديها من خلال بناء نحو ٥٣٨ من القاذفات بي ٥٢ العابرة للقارات، وكل واحدة منها يمكنها ضرب الأهداف السوفييتية انطلاقًا من قواعدها بالولايات المتحدة. وفي عام ١٩٥٥ أمر أيزنهاور أيضًا بتطوير صواريخ بالستية عابرة للقارات يمكنها حمل رءوس نووية لضرب الاتحاد السوفييتي انطلاقًا من الأراضي الأمريكية. وبحلول عام ١٩٦٠ بدأت الولايات المتحدة في نشر الجيل الأول من الصواريخ البالستية العابرة للقارات، إلى جانب أول دفعة من الصواريخ البالستية التي يمكن إطلاقها من الغواصات.

منحت هذه التطورات الولايات المتحدة «القوة الثلاثية» التي تشتهيها من الأسلحة النووية التي يمكن إطلاقها من القاذفات والأرض والغواصات، وكل عنصر منفرد من هذه العناصر الثلاث قادر على محو أهداف سوفييتية كبرى من الوجود. نمت الترسانة النووية الأمريكية الإجمالية من قرابة ألف رأس نووي في عام ١٩٥٣، وهو أول أعوام أيزنهاور في الحكم، إلى ١٨ ألف رأس في عام ١٩٦٠؛ آخر أعوامه بالحكم. وبحلول ذلك الوقت كانت القيادة الجوية الاستراتيجية تتباهى بامتلاك ١٧٣٥ قاذفة استراتيجية قادرة على ضرب أهداف سوفييتية بالأسلحة النووية.

عمل الاتحاد السوفييتي قدر جهده من أجل اللحاق بالركب. فبين عامي ١٩٥٠ و١٩٥٥ زاد عدد جنود الجيش الأحمر بثلاثة ملايين جندي ليصل حجم القوات المسلحة الإجمالي إلى ٥٫٨ ملايين فرد، قبل أن يأمر خروشوف بتقليل عدد القوات في أواسط الخمسينيات لتقليل ميزانية موسكو الدفاعية الباهظة. بيد أن التفوق الواضح للاتحاد السوفييتي على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في عدد الجنود وازنه وأبطله تفوق الأخيرين في كل جانب آخر من جوانب القوة العسكرية. تَبَدَّى التفاوت في أوضح صوره في المجال النووي. اختبر السوفييت أول قنبلة نووية حرارية بنجاح في أغسطس ١٩٥٣، متبوعة بقنبلة أخرى أشد قوة في نوفمبر ١٩٥٥. لكن القدرة على الوصول للأهداف ظلت محدودة. وحتى عام ١٩٥٥ ظل السوفييت عاجزين عن شن ضربة نووية ضد الولايات المتحدة، ومن ثم فقد اعتمدوا لأغراض الردع على قدرة قاذفاتهم على ضرب الأهداف في أوروبا الغربية. وبنهاية العقد كان كل ما في استطاعة أسطول القاذفات السوفييتية الاستراتيجية هو الوصول إلى الولايات المتحدة في مهام قصف دون عودة انطلاقًا من قواعد بأقصى الشمال، التي سيسهل اعتراضها من جانب الطائرات الاعتراضية الأمريكية. فقط في أوائل الستينيات بدأ الاتحاد السوفييتي في إنتاج ونشر الصواريخ البالستية العابرة للقارات، وبالرغم من الإطلاق المبالغ في الدعاية عنه للمركبة سبوتنيك، أول مركبة تدور حول الأرض، في ١٩٥٧، فقد تخلف الاتحاد السوفييتي عن الولايات المتحدة في كل الجوانب التكنولوجية المهمة. هذه الحقيقة يؤكدها تعليق أيزنهاور عقب مناقشة مع مجلس الأمن القومي في عام ١٩٥٣ بشأن القدرات النووية المقارنة للقوتين العظميين حين وصف السوفييت بقوله: «لا بد أنهم مذعورون.»

لكن من قبيل المفارقة أنه في أواخر الستينيات بدأت بعض الدوائر داخل الولايات المتحدة في انتقاد أيزنهاور لسماحه بوجود «فجوة صواريخ» بين الأمريكيين والسوفييت. نبعت الانتقادات من التخوف من أن يمثل الاختبار السوفييتي الأول للصواريخ البالستية العابرة للقارات في أغسطس ١٩٥٧ وإطلاق المركبة سبوتنيك تهديدًا مؤثرًا للتفوق التكنولوجي الأمريكي المحتفى به. فالأمر لا يقتصر على أن السوفييت سبقوا الأمريكيين إلى الفضاء وحسب، بل أدى ولع خروشوف بالتباهي والتهديد بعدد الصواريخ بعيدة المدى التي تطورها دولته ببعض أرجح المحللين الاستراتيجيين حكمًا إلى القلق من التفوق السوفييتي العسكري التكنولوجي. خشي الكثيرون من أن تميل كفة ميزان القوى ناحية الشرق، وهي النزعة التي تشكك البعض في أن نعومة المجتمع الأمريكي وتدهور استعداد أطفال المدارس لدراسة الرياضيات والعلوم هو ما شجع عليها. حافظ أيزنهاور على رباطة جأشه. وبالاستعانة بصور التقطتها طائرات استطلاع سرية فوق الأراضي السوفييتية، كان يعرف أن هذا ليس صحيحًا، وأن الولايات المتحدة تحتفظ بتقدم كبير على غريمها من حيث الأسلحة النووية القادرة على ضرب أهدافها. ومع ذلك، تصاعد جدل سياسي محموم حول فجوة الصواريخ المفترضة، وظهرت هذه الفجوة المفترضة كقضية مثيرة للرأي العام في انتخابات الرئاسة لعام ١٩٦٠.

على مر التاريخ المسجل كانت سباقات التسلح سمة أساسية للصراعات الدولية. لكن بطبيعة الحال ما أضفى التفرد على سباق التسلح في حقبة الحرب الباردة كان البُعد النووي. ولطالما تدبر الباحثون ومحللو السياسات وواضعو الاستراتيجيات الحكومية كيف شكل توافر الأسلحة القادرة على صنع دمار لا نظير له المسارات التي اتخذتها الحرب الباردة. وهذا التساؤل في غاية الأهمية، مثلما هو في غاية الصعوبة فيما يتعلق بالإجابة عليه بأي درجة من اليقين. فمن ناحية، ربما منحت الأسلحة النووية قدرًا من الاستقرار للعلاقة بين القوتين العظميين، وقللت على نحو مؤكد من احتمالية نشوب صراع مفتوح في أوروبا. وقد استندت استراتيجية حلف شمال الأطلسي لصد أي غزو سوفييتي تقليدي إلى إدراك أن أي حرب أوروبية ستكون حربًا نووية، وبهذا توافرت الدوافع لدى كلا الجانبين لتجنب أي صراع من شأنه أن يسبب خسائر ضخمة في أرواح الطرف المهاجم والمدافع على السواء. وفي اجتماع لمجلس الأمن القومي في يناير ١٩٥٦ أكد أيزنهاور في حكمة على ما سماه «اعتبارًا ساميًا» في جميع النقاشات الدائرة حول الاستراتيجية النووية، «وتحديدًا أنه لن يفوز أي طرف في حرب نووية».

لكن من ناحية أخرى، تبنى أيزنهاور أيضًا عقيدة رسمية خلال عامه الأول في البيت الأبيض تقضي بأنه «في حالة أعمال القتال، ستنظر الولايات المتحدة إلى الأسلحة النووية بعين الاعتبار مثلما تنظر إلى غيرها من الذخائر». وقد صدقت إدارته على نشر أولى الأسلحة النووية القتالية في ألمانيا في نوفمبر ١٩٥٣، وتعهدت عملية تدعيم الأسلحة النووية الضخمة ونظم الوصول إلى الأهداف التي ذكرناها سابقًا، وشجعت على مبدأ «الانتقام الساحق» كمبدأ جوهري للحالة الدفاعية الأمريكية، وهددت باستخدام الأسلحة النووية خلال المراحل الأخيرة من الحرب الكورية وفي محاولاتها لردع بكين خلال أزمة مضيق تايوان في عامي ١٩٥٤ و١٩٥٥.

باختصار، أظهر الأمريكان توجهًا متناقضًا حيال الأسلحة النووية وقيمتها في تحقيق أهداف الأمن القومي خلال أول خمسة عشر عامًا من الحقبة الذرية. وفي الوقت الذي كانوا ينتقدون فيه سرًّا وعلنًا حماقة الصراع النووي الذي لن يفوز فيه أي طرف، فإنهم كافحوا لتحقيق التفوق الواضح في السلاح النووي. ومن المؤكد أن التفوق الأمريكي في الجانب النووي شجع الولايات المتحدة على الإقدام على مخاطرات في أزمات لاحقة في كل من تايوان وبرلين وكوبا، كما سيبين الفصل التالي، ومن ثم ساعد على استفحال مرحلة الحرب الباردة المحفوفة بالفعل بالمخاطر.

هوامش

(1) © Hulton Deutsch Collection/Corbis.
(2) From Ronald E. Powaski, The Cold War: The United States and the Soviet Union, 1917–1991 (Oxford University Press, 1998).
(3) © Bettmann/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤