مقدمة

  • ٨٠٠٠ جنيه: وذات يوم من عام ١٩١٣ اهتزَّت الأسلاك البرقية بنبأ تلقَّاه الشرق معجَبًا، والغرب متعجِّبًا: شاعر هنديٌّ فاز بجائزة «نوبل» وهذا قدرها؛ ثم بوسامٍ من جلالة ملك أسوج، ولقب «سر» من جلالة ملك بريطانيا العظمى وإمبراطور الهند. وذلك الشاعر هو «رابندراناث طاغور».
  • قرابين الأغاني: وكان الكتاب الذي نال به الجائزة مجموعة صغيرة من قصائده الخياليَّة الروحيَّة سماها «غيتا نجلي» أي «قرابين الأغاني»، ولا تسَلْ عن حظه من الإقبال ونصيبه من الرواج، فإنه لم تكد تظهر طبعته الإنكليزية في إنكلترا وأميركا حتى صدرت ترجماته في فرنسا، وروسيا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، وهولاندا، وسائر الأقطار الأوروبية.
  • البستاني: وكانت «شركة مكميلان الإنكليزية» الشهيرة هي السابقة إلى طبع الكتاب الفائز، وما لبثت أن أتحفت عالم الأدب بطائفة أخرى من شعر «طاغور» الغزليِّ أو الحبيِّ الخياليِّ في كتابٍ أسماه «البستانيُّ»، ما ظهر حتى نقل إلى معظم اللغات الأوروبيَّة، وكان له من الشأن ما تتبيَّن عِظَمه من النظر إلى أقوال الجرائد فيه وإليك بعضها:

    هذا الشاعر يتناول الصغائر المألوفة من أمور الناس ويصنعها دررًا تتألَّق فيها روعات السماء وجلال الحبِّ والحياة، فهو من ذوي الرؤية وهو في الحبِّ بصير. وما أدراك ما البصر في الحبِّ؟ إنه القسطاس الأعلى الذي تُوزن فيه فطرة المرء وطبيعته.

    الأوبزرفر

    هذه الأشعار أزهار أبهى من طلعة الشمس، وما ندري كم عبثت الترجمة برونقها الأصلي؟ ولكنها على ما تجلَّت لنا في الغاية القصوى من الجمال الرائع، وأعجب بها مشاهد وفصولًا — ساذجةً ساميةً عطيرةً — من رواية الحياة اليوميَّة، ألبسها الشاعر من البيان حلَّة سحرية.

    الدايلي ميل

    إن أشعار «البستاني» تفوق حتى الأحسن والأفضل مما في «قرابين الأغاني» رقَّةً وإبداعًا.

    الدايلي نيوز
  • الهلال: وإذا جاز لنا حسبان «قرابين الأغاني» تسابيح روحيَّة يرتِّلها الشيوخ، فترفع بهم الأرض إلى السماء، وقصائد «البستانيِّ» أناشيد غرامية يتغنى بها الفتيان، فيستنزلوا السماء إلى الأرض، فمن للأمهات وعواطفهنَّ، وللأطفال وخواطرهم، إلَّا عبقريَّة هذا النابغة؟ فالهلال اسم ثالث القمرين، وما هو إلا أربعون قطعة من الشعر تمثِّل لنا الطفولة والأمومة أيما تمثيل. وقد قالت جريدة «بال مال غازيت» الإنكليزية في تقريظه: «لقد جاءنا «طاغور» في هذا الكتاب بصور من الحقائق الوجدانية نخالها أبعد غاية، وأسمى شأوًا، وأجلَّ قدرًا مما أتانا به في «قرابين الأغاني».»
  • شيء عنه: وقد زرت «رابندراناث طاغور» بعد ما وقفت على كتبه ونقلتُ جملةً طيبة من أشعاره مما في «قرابين الأغاني» و«البستاني» و«الهلال» نظمًا ونثرًا. وعلى أثر عودتي من الأقطار الهندية كتبتُ عنه في مجلة الهلال الغرَّاء غير مرَّة؛ وهذه فقرات من إحدى تلك المقالات:

    يقول المثل: ليس الخَبر كالعيان، ومن الناس من يسرُّك خبرُه، ويسوءك مخبره. أما الشاعر الروحاني النابغة «رابندراناث طاغور» فمخبره أعظم من خبره، وقد زرته وآكلته وشاربته وحادثته، فازددت بآثاره إعجابًا، ولذاته إكرامًا، ولعبقريته إجلالًا. وأيقنت أن له نفسًا سامية، تنبعث من عينيه أشعة سنيَّة، وتسيل مع صوته العذب الرخيم نغمات شجية، وتتلألأ خلال عباراته فرائد معان درية.

    أما منزله الأصلي ومسقط رأسه، فهو مدينة كلكتة الشهيرة حيث يقيم بنوه وذووه، ولكنه منذ بضع سنين يقضي معظم عامه في ناحية من «بلبور»،١ كان والده من قبله قد انتحاها صومعة ومنسكًا، وثابر على انتيابها مدة ثلاثين سنة؛ طلبًا للسكينة والطمأنينة؛ومواصلةً للتأمل والتروِّي في الذات الإلهية.
    وما دأبه في هذا المتقطع إلَّا تعهد المدرسة التي أنشأها فيه تخليدًا لذكرى أبيه القدِّيس الفيلسوف. وقد أسماه «شانتي نكتان»٢ أي «دار السلام» تيمنًا بعبارتين كان والده يرددهما في تأملاته، هما الآن منقوشتان على نصبين من الرخام تجت الشجرتين الأختين اللتين كان يفيء إلى ظلهما في الهجيرة: (١) «الله هو السلام التام، هو الصلاح التام، هو الفريد الوحيد»، (٢) «الله سلوة نفسي، وفرَح قلبي، وسلام روحي».

    وإذا علمت أن قومه وأصحابه يتبركون بلثم نعليه تحيةً وسلامًا، وأنه في عيونهم ذو صفة علوية وعجبتَ لذلك، فلا بدع أن يقضي عجبك كله كونه أودع من أودعهم، وأرقَّ وألطف من زهرات الياسمين التي يقدمونها له قرابين إخلاص ومحبة؛ فإنه أنيس لطيف، بيَّن الدَّعة والتواضع، جامع بين السذاجة والسموِّ في زيِّه وعادته وحديثه وأسلوبه، وفي كل ما يأتيه من حركة أو سكنة؛ ميال إلى الطبعي الفطري، وكل مستحسن أو مفيد من الصناعي والمكتسب؛ صريح في قوله وعمله، يتوخى مجاراة الطبيعة والحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهو من الدين على طريقة «البراهمو سماج» التي دعا إليها والده ولا وثنيَّة فيها.

  • التعريب: ولما كنت قد جعلت لكل قطعة مقدمة موجزة، وأشفعتُ النظم أو أردفته بترجمة نثرية، فلا حاجة بي إلى الإسهاب في هذا المقام عن الشاعر، أو عن المسلك الذي سلكته في تعريب هذه المختارات من «البستاني». وحسبي أن أقول: إنني أطلعت صاحبنا على بعض هذه القصائد وترجمتُ له الأبيات العربية حرفيًّا إلى الإنكليزية؛ لأريه مواضع التصرف الذي تجوزته، فأنستُ منه من الرضى عن طريقتي في النقل والموافقة عليها ما لم أكن لأحلم بمثله.
وديع البستاني

هوامش

(١) قرية على أربع ساعات بالقطار من كلكته.
(٢) في اللغة البنغالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤