الفصل الرابع

سفر الوفد إلى باريس

جلس سعد وأصحابه الثلاثة في طريقهم إلى المنفى يتساءلون، وأول سؤال طبيعي يخطر لهم وهم مفارقون البلاد هو السؤال عما عسى أن يجريَ فيها بعد إقصائهم عنها: هل تسمع بالخبر؟ وهل تملك أسباب الثورة؟ وهل تقوى القيادة العسكرية كظم النفوس طويلًا بعد هذه الضربة؟ فأما سعد فكان رأيه أنَّ الثورة عمل شاق على بلد أعزل مرهق بالأعباء مشحون بالجند والسلاح والأرصاد. ولكنها إذا كانت واقعة فشعور الناس بالاختناق والتماسهم المنفس للجهر بآلامهم المكبوتة كافٍ لانفجارها والاستيئاس فيها.

وقريب من هذا رأي إسماعيل صدقي إلى نزعة من شكوك الرجل الحديث.

أما حمد الباسل ومحمد محمود فقد كان رأيهما الرأي الطبيعي لزعيم قبيلة بدوية وصاحب عصبية في الصعيد؛ فآخر شيء يطيب لزعيم القبيلة أن يفكر فيه أنَّ قبيلته لا تثور لأجله ولا تأخذ بثأره، وكذلك صاحب العصبية في الصعيد، فاتفقا على ترجيح الثورة وإن لم يتفقا على النتيجة.

ويظهر أنهم — سواءٌ منهم من رجَّح الثورة العاجلة ومن لم يجزم بوقوعها العاجل — قد وطنوا النفس على البقاء زمنًا ليس بالقصير في جزيرة مالطة، ولم يخطر لهم أنَّ الإفراج عنهم قريب. فبحث سعد عن منزل يستأجره وفكَّر في استدعاء السيدة الجليلة قرينته إلى الجزيرة؛ لحاجته إلى العناية الصحية التي لا يجدها هناك في غير المنزل برعاية الزوجة الرءوم، ولم يفكر صحبه الآخرون في ذلك؛ لأنهم شبان أصحاء بالقياس إليه.

وصلوا إلى مالطة بعد أن قضوا في النقالة ثلاثة أيام. وقد كان سعد متعبًا من مشقة الانتقال والدوار. وكان بين الشاطئ ومعتقل «بلفورستا» الذي اختاره حاكم الجزيرة لهم مسيرة نصف ساعة على القدم، فبحثوا عن مركبات في جوار الميناء فلم يجدوا إلا مركبة صغيرة يجرها حصان واحد. ركبها سعد وسار رفاقه وراءه على الأقدام، ووصلوا إلى المعتقل، فوجدوا أنَّ السلطة العسكرية قد أعدت لكلٍّ منهم حجرة للنوم وأخرى للاستقبال، وثالثة للمائدة ومكانًا للحمام.

وأراد سعد أن يكون أول عمل له في منفاه استئنافًا لعمله في القاهرة، وتحديًا للنفي والإرهاب، واستمرارًا في المطالبة بالاستقلال وإنكار الحماية. فلم يكد يستريح من عناء سفره حتى كتب الرسالة البرقية الآتية إلى رئيس الوزارة الإنجليزية، يكرر فيها المطالب التي جاء من أجلها إلى هذه الجزيرة:

إنَّ شرف الممالك يقدَّر بمقدار احترام ساستها ورجالها للمعاهدات السياسية التي يبرمونها والتصريحات الرسمية التي يفوه بها رجال تلك الحكومة الرسميون. ولَمَّا كانت إنجلترا في معاهدة لندن عام ١٨٤٠ قد ضمنت استقلال مصر، كما أقسمت الملكة فكتوريا والبرلمان بالتاج والشرف عام ١٨٨٢ أنَّ الاحتلال لن يكون إلا وقتيًّا وأعلن جلادستون عام ١٨٨٧ أنَّ أوان الجلاء عن مصر قد آن، ولَمَّا كنتم جنابكم الرئيس الممثل لحكومة جلالة ملك بريطانيا والمُدافع عن كرامة بلاده وشرف الأمة الإنجليزية الحرة؛ فإني أطالب جناب الرئيس المبجل برفع الحماية التي أعلنتها حكومتكم على بلادنا قسرًا لمقتضيات الحرب وجلاء الجنود البريطانية عن وادي النيل احترامًا للمعاهدات والتصريحات التي ذكرناها وصيانةً لشرف أمة أنت على رأس حكومتها، وليأذن جناب الرئيس بأن أذكر أنَّ سياسة العنف والإرهاق التي اتُّبعت معنا لا تزيدنا — نحن المصريين كافة — إلا تمسكًا بمطالبنا، وثباتًا في موقفنا، وأنه خير لإنجلترا أن تكون لمصر صديقة، وهناك نستطيع أن نقطع على أنفسنا عهدًا بأن نصون مصالحكم، ونروج تجارتكم في بلادنا.

ولا شك أنَّ آخر ما انتظرته الحكومة البريطانية — وهي تنفي زعيم مصر إلى جزيرة مالطة عقابًا له على طلب استقلالها — أن لا تفيد من ذلك إلا أن تصبح الجزيرة ميدانًا آخر من ميادين المطالبة بذلك الاستقلال!

نزلوا في المعتقل معزولين عن بقية الأسرى على خلاف السُّنة التي كانت متبَعة فيه قبل وصولهم، ولم يؤذن لهم بالخروج للرياضة في الخلاء إلا مرتين كل أسبوع بعد التوقيع على حلف كتابي يقسمون فيه بالشرف أن لا يهربوا، ولا يساعدوا أحدًا على الهرب، ولا يعطوا أحدًا نقودًا، ولا يعملوا شيئًا فيه إيذاء لجنود جلالة الملك … وبعد كل هذا لم تكن السلطة الإنجليزية تسلمهم من مالهم إلا بمقدار ما يلزمهم أول فأول لضرورة المعيشة، وكانوا قد برحوا مصر وليس معهم من النقد إلا قليل، فأرسلوا — بوساطة السلطة — يطلبون مالًا من ذويهم في مصر، فجاءهم خمسمائة جنيه لكلٍّ من سعد وحمد الباسل ومحمد محمود، ومائة جنيه لإسماعيل صدقي، فأودعتها السلطة مصرف الجزيرة، وأباحت لهم أن يشتروا ما يشاءون بتحويلات يقبضها البائع من المصرف، ورخصت لهم في استخدام طاهٍ ألماني وإبقاء النور الكهربائي إلى ما قبل منتصف الليل بنصف ساعة، فكانوا يقضون الوقت في التعاون على تعلم اللغات التي يحسنها بعضهم ولا يحسنها الآخرون.

ولم يسمعوا شيئًا عن مصر ولا عن ثورتها إلا حين زارهم اللورد مثوين حاكم الجزيرة، وهو يقول لهم عرضًا: «أشعلتم النار في مصر وجئتم إلى هنا!» فعلموا أنَّ في مصر أحداثًا خطيرة، وأدركوا أنها الثورة حين استطاع طاهيهم الألماني أن يدس إليهم بعض القصاصات عن صحيفة التيمس، وعرفوا منا قبسًا من مظاهرات الطلبة وثورة البدو في الفيوم، ولكنهم لم يسمعوا بما يدلهم على مداها وتفصيلات وقائعها.

وبعد شهر من مالطة جاءهم النبأ بالإفراج عنهم والسماح لزملائهم في القاهرة بالسفر إلى حيث يشاءون، وأنهم مأذون لهم في السفر على الباخرة «كاليدونيا» التي تقل أولئك الزملاء، وستصل إلى الجزيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق لنصف أبريل.

فكان لذلك النبأ في نفوسهم وقع عظيم؛ لأنه بشَّرهم بالحرية التي طالما تمنَّوها للسعي في قضية بلادهم، وأثبت لهم أنهم يسعَون في قضية تستحق عناءها، ولا تُخيِّب رجاء الساعين فيها.

فتفاءلوا بالإفراج عنهم خيرًا، وفرحوا بما أولاهم من الثقة وتأكيد العزيمة أضعاف فرحهم بالطلاقة من الاعتقال، وباتوا على شوق إلى صباح يوم الثلاثاء؛ لينعموا بلقاء أولئك الزملاء الذين فارقوهم، ولا يعلم منهم أحد متى يكون اللقاء، وليسمعوا منهم تفصيل الحوادث التي لمحوا بصيصًا منها في شذرات الصحف الإنجليزية، وهي لا تصل إليهم إلا بعد لَأْيٍ في خلسة من الرقباء.

ثم أذنت السلطة لهم بزيارة الأسرى من أبناء وطنهم ومن الترك والألمان، فلبوا دعوة المصريين المعتقلين بالمعسكرات الأخرى، فاستقبلهم الأسرى الأجانب معجبين، واستقبلهم الأسرى المصريون فخورين، وكان بعض القادة الترك يقولون لأصدقائهم المصريين: «اعتبرونا منكم فقد أحببنا بلادكم وأحببنا زعماءكم.» ورحب بهم الأمير هوهنزلرن ابن عم غليوم، ورفع لهم بعض الألمان راية بيضاء مكتوبًا عليها بالمداد الأحمر تاريخ (١٤ سبتمبر سنة ١٨٠٧)، وهو تاريخ جلاء الجنود الإنجليز عن مصر عندما طمعوا في احتلالها للمرة الأولى، وكان الأسرى الألمان قد أقاموا معرضًا فنيًّا لمصنوعاتهم التي استطاعوا أن يصنعوها بما لديهم من الأدوات القليلة تزجية لأوقات الفراغ، فقدَّم أحدهم إلى سعد تمثالًا عسكريًّا بالعدة الحربية الكاملة للإمبراطور غليوم، مصنوعًا من الورق المقصدر الذي تغلف به صناديق التبغ الصغيرة، فحيَّاه سعد وقال له: «إنه لتمثال عظيم يمثِّل عظيمًا.» ثم قال: «ولكننا لا نملك عدة الحروب، وإنما نحن أمة سلام.»

وقد رست الباخرة «كاليدونيا» في ميناء مالطة ضحى يوم الثلاثاء، وعليها أعضاء الوفد القادمون من القاهرة وهم حسب ترتيب الحروف الهجائية: أحمد لطفي السيد بك، وجورج خياط بك، والدكتور حافظ عفيفي، وحسين واصف باشا، وسينوت حنا بك، وعبد العزيز فهمي بك، وعبد اللطيف المكباتي أفندي، وعلي شعراوي باشا، ومحمد علي بك، ومحمود أبو النصر بك، ومصطفى النحاس بك، ومعهم مكتب الوفد وفيه كُتَّابه ومترجموه، ومنهم الأستاذ ويصا واصف الذي انتُخب عضوًا في الوفد بعد وصولهم إلى باريس.

ولما رست الباخرة على الميناء انتظر الأعضاء فيها قدوم إخوانهم المعتقلين فطال الانتظار، واستحسن بعضهم النزول إلى الجزيرة للقائهم، فوجدوا الخدم قد سبقوا سعدًا وأصحابه إلى الشاطئ بالحقائب ومؤنة السفر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل سعد وأصحابه الثلاثة يمشي معهم ضابط إنجليزي وضابط من أهل الجزيرة لم يفارقهم إلا عند صعودهم إلى السفينة، فكان للقاء الزعيم وأصحابه مشهد رائع لا ينساه من رآه، وامتزجت في لقائهم معانٍ شتى من الشوق والإيناس، وشعور الظفر والثقة والأمل في النجاح.

أمَّا كيف تحوَّلت السلطة البريطانية في مصر من الحجر الشديد إلى السماح للوفد بالسفر حيث شاء، فخلاصة القول فيه أنه تحوُّل ضروري قضت به الثورة، فلم يسع السلطة إلا أن تنقاد لحكمه في النهاية؛ لأنها عجزت عن تيسير الأمور بأيديها، وعجزت عن تأليف وزارة وطنية تقبل الحكم والوفد محبوس عن السفر، فلم تجد بدًّا من إطلاق سبيل الوفد عسى أن تفرج شيئًا من حرج الموقف، وتمحوَ شيئًا من الحفيظة التي أفعمت قلوب المصريين وزادتها الفظائع في إبان الثورة ألمًا على ألم.

وقد أدركت القيادة العسكرية من اللحظة الأولى أنها أخطأت التقدير، وانتهت باعتقال الزعماء إلى عكس ما تريد؛ لأن اعتقالهم لم يردع السيل المتجمع وراء السدود، وإنما جاءه بمدد جارف أطلقه ودفع به شوطًا وراء شوط، ورسم للمصريين طريق المقاومة، فمن شاء منهم أن يرجع فلا حيلة له في الرجوع، ومن خطر له أن يتردد فليس أمامه موضع للتردد … وأنَّ أول من دعا إلى الثبات والمثابرة لهم أول من أصيب باعتقال الزعماء ومن هدد بهذا الاعتقال، وأول من ظن بهم أنهم يتقهقرون ويوجلون: قرينة سعد وخلفاؤه المتروكون في القاهرة!

فالسيدة الجليلة قرينته لم تضيِّع لحظة واحدة في الحزن والجزع الذي لا يفيد … عادت من زيارة إحدى شقيقاتها حيث كانت ساعة الاعتقال، فما هو إلا أن علمت بما حدث أثناء غيابها حتى كان أول ما خطر لها أن أرسلت إلى شعراوي باشا تبلغه أنَّ مكتب سعد مفتوح له ولزملائه في غياب سعد كما كان في حضوره وترجوه وزملاءه أن يقبلوا دعوتها إلى العشاء في ذلك المساء، وأن يعقدوا جلستهم الأولى في مكان انعقادها المألوف؛ لكيلا يطرأ على سير الدعوة أقل تغيير بعد ذلك الحادث الذي أُرِيدَ به القضاء عليها. فقرر الأعضاء أن يلبوا رجاءها وأن يشكروها عليه، واعتذروا من حضور العشاء لاشتغالهم بإعداد الاحتجاج الذي يقابلون به اعتقال الزعيم، واتخاذ الخطة التي تلائم الموقف الجديد.

ولم يكن شعور الأعضاء بعد الاعتقال شعور فزع وارتداع كما قدَّرت السلطة البريطانية، بل كان شعور استياء لاعتبارهم دون من اعتقلتهم السلطة في الخطر والأثر، وشعور رغبة في إفهام السلطة البريطانية خطأها وتحدِّيَها واستفزازها بإتيان العمل نفسه الذي من أجله اعتقلت سعدًا وأصحابه. فكتب شعراوي باشا احتجاجًا إلى رئيس الحكومة البريطانية على اعتقالهم، وأبلغه فيه أنَّ الوفد مثابر على خطتهم، ووجَّه مع زملائه في اليوم التالي خطابًا إلى صاحب العظمة السلطان، يلقي فيه تبعة إعراض الكبراء عن تأليف الوزارة على السلطة العسكرية:

فإنما هو النتيجة الطبيعية للخصلة التي اتُّخذت في مسألة سفر الوفد، فإن كل مصري ذي كرامة لا يمكنه — حقيقةً — أن يقبل الوزارة في هذا الظرف من غير أن يستهين بمشيئة بلاده.

وختم الخطاب بقوله:

إليكم يا صاحب العظمة — وأنتم تتبوَّءُون أكبر مقام في مصر، وعليكم أكبر مسئولية فيها — نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسي، فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة بادرة تخيفه على مستقبله، كما يحق له أن يكرر الضراعة لسدتكم العلية أن تقفوا في صفه مدافعين عن قضيته العادلة.

أما الحكومة البريطانية فقد أحبت أنَّ تُيَئِّسَ المصريين من كل أمل في اللين والهوادة، فعيَّنت الماريشال اللنبي مندوبًا ساميًا بعد نشوب الثورة بنحو أسبوع، بدلًا من السير ريجنالد ونجت الذي كان من رأيه السماح بسفر الوزيرين المصريين، وقد تعمدت بتعيينه غرضًا آخر هو إرهاب المصريين باسم القائد المنتصر في أقرب الميادين إليهم وهو ميدان فلسطين. وأذاعت في الوقائع المصرية أنه «مُنح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات صالحًا لإعادة النظام واحترام القوانين … مع تثبيت حماية جلالة الملك في مصر على أساس متين».

وقد بدأ الماريشال اللنبي عمله بعد قدومه إلى القاهرة باستدعاء الكبراء والسراة قائلًا لهم: إنه جاء إلى مصر ليُنهيَ الاضطرابات، ويتحرى أسباب الشكاية، ويزيل منها ما يقضي العدلُ بإزالته. وطلب إليهم أن ينصحوا الناس بالهدوء والسكينة.

فتكررت هذه النصائح التي يوعز بها الإنجليز في غير جدوى، ولم يزل متعذرًا على «المستوزرين» أن يجترئوا على قبول الوزارة، ولم يزل تسيير الإدارة الحكومية في البلاد من أصعب الأمور.

ولجأ الماريشال اللنبي إلى أعضاء الوفد المصري، فاستدعاهم إليه في السادس والعشرين من مارس، وطلب إليهم أن يبسطوا أسباب الشكاية في تقرير يكتبونه، فقدَّموا له التقرير بعد أربعة أيام وفيه تلخيص للمظلمة السياسية من بداءة إعلان الحماية. وقالوا في ختامه:

غير أنَّ السلطة العسكرية مع ذلك قد استدعتنا مرة أخرى في يوم ١٦ الجاري، وأعلنت إلينا أننا مسئولون عن هذا الاضطراب، وأننا مسئولون عن إزالته، ولكنها سمحت لنا هذه الدفعة أن نناقش أمر المسئولية، فأجبناها بأن هذا الاضطراب ليس نتيجة متوقعة لعملنا، ولا يصوغه برنامجنا بحالٍ من الأحوال، بل نحن نأسف له. وأما تسكين هذا الاضطراب فليس في يدنا وسيلة فاعلة فيه، ونصحنا بأنَّ أنجع الوسائل في تهدئة الخواطر بالطرق السلمية، إنما هو تأليف وزارة تعطي من الترضيات ما يرضي الشعب، حتى تستطيع أن تقوم بأعباء الظرف الحاضر.

هذا رأي أعضاء الوفد الباقين بمصر في الثورة، وهذا رأيهم في تفريج الأزمة، وهو رأي اتفقوا عليه مع كبار مصر الرسميين، ومنهم علماء الأزهر وبطريرك القبط الأرثوذكس وبعض الوزراء والنواب والسروات. وكتب به هؤلاء جميعًا خطابًا إلى القائد العام في الرابع والعشرين من شهر مارس؛ أي قبل استدعاء أعضاء الوفد إلى اللورد اللنبي بيومين، وكان تقديرهم أنَّ الوزارة التي تؤلَّف تعمل لتهدئة الحال، دون أن يشترطوا سلفًا لهذه التهدئة إفراجًا على معتقلين أو سماحًا لأحد بالسفر.

ثم قال أعضاء الوفد: «وفي اليوم التالي — وهو يوم ١٧ مارس — قابلنا الوزراء الثلاثة رشدي باشا وعدلي باشا وثروت باشا، وأقنعناهم بأن يُظهروا استعدادهم للمفاوضة في تأليف وزارة تستطيع أن تقضيَ على هذه الحركة المخيفة التي تُخشى عواقبها المجهولة، فأظهروا هذا الاستعداد لرجال دار الحماية ولكن الأمر لم يتم، والاضطراب يأخذ نسبًا وأشكالًا ليس الحكم على نتائجها في نفوس الناس بالشيء الميسور.»

وبعد أيام حان موعد صدور الميزانية وليس في البلاد وزارة ولا نواب يناقشونها، فلم يرَ المارشال اللنبي مخرجًا من هذه الورطة إلا أن يعتمد الميزانية باسم السلطة العسكرية، فأصدر بلاغًا بذلك في أول أبريل، ولكنه حل مشكلة وأثار مشاكل؛ فإن هذا التحديَ ألهب في النفوس جذوة الغضب وشحذ فيها عزيمة المناجزة؛ فعاد التجار إلى إغلاق حوانيتهم، وأضرب بعض الموظفين ممن لم يكونوا مضربين، وتمرَّد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة الشرطة، فخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات، وكانوا قبل ذلك يُحتجزون عن المظاهرات، واشتدت ثورة الأزهر وكثرت اجتماعاته، حتى لجأت السلطة العسكرية إلى مخاطبة شيخ الأزهر في إغلاقه دفعة واحدة أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة، فأبى واعتذر بأن الله ينهى المسلم عن إقفال مساجد الله.

وفي السادس من الشهر وُزِّعَ على الناس منشور من عظمة السلطان يقول فيه:

إني أنشر بين قومي هذه الكلمات التي كانت تختلج بصدري في الوقت الذي أخذت تتوارد إليَّ فيه ملتمسات الأماني القومية نحو مستقبل البلاد، وإني بالطبع لا أعني بالبلاد إلى بلادنا المباركة، لا أعني بالبلاد إلا وطننا العزيز: هذا الوطن الذي اقتضت حكمة الله أن يكون جدي الأكبر محمد علي الكبير أكرم الله مثواه صاحب عرشه.

وفي ختامه طالب عظمة السلطان أبناءه المصريين بما له من حق الأبوة عليهم أن يتناصحوا بعدم الاستمرار على المظاهرات التي كانت عواقبها غير محمودة في بعض الجهات.

وبعد أن جرَّبت السلطة العسكرية كل وسيلة، وفشلت في كل تجربة، لم يسعها إلا أن تجرب الوسيلة الوحيدة الباقية التي اقترحها المصريون من اللحظة الأولى، وهي إطلاق الحرية للوفد المصري ليسافر حيث شاء، فإن الحجر عليه هو سبب استقالة الوزارة، وهو سبب الإحجام عن تأليف وزارة أخرى، وهو سبب غليان النفوس وانفجارها ونشوب الثورة وانتشارها، فأذاع المارشال اللنبي في السابع من الشهر بلاغًا يعلن فيه أنه بالاتفاق مع حضرة صاحب العظمة السلطان «لم يبقَ حجر على السفر، وأنَّ جميع المصريين الذين يريدون مبارحة البلاد يكون لهم مطلق الحرية»، وأنَّ «كلًّا من سعد زغلول باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وحمد الباسل باشا، ومحمد محمود باشا يطلَقون من الاعتقال، ويكون لهم كذلك حق السفر».

فسرت نشوة الظفر والرجاء في نفوس الأمة قاطبة، وقامت مظاهرات الابتهاج في مكان مظاهرات الغضب والهياج، واستولى على الناس شعور مقدس غسل حوبة النفوس فنسي المجرم إجرامه والموصوم وصمته، وشوهدت جموع النسوة الشقيات المتبذلات على مركبات النقل يحيين وطنهن، ولا ينظر إليهن ناظر بعين المهانة أو الريبة أو المجون الذي تثيره أمثال هذه الجموع في غير تلك المظاهرات.

وامتنعت حوادث السرقة على سهولتها بين ذلك اللجب اللاجب؛ فخلت محاضر الأقسام من حوادث الطرارين واللصوص، التي لم تكن تمتنع ساعة من أيام الشح والضيق ووفرة المال في جانبٍ وندرته في جانبٍ آخر، ومشى أعظم الناس وأصغرهم على السواء في مظاهرات واحدة لا يتوقر عنها العالم الهرم، ولا ينسى فيها الصغير دواعيَ الوقار، ولم ينغص هذه المظاهرات إلا اعتداء بعض الأرمن عليها، وشكاسة بعض الضباط والجنود البريطانيين الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين المتهللين في غير عداء ولا تنكُّر، فقتلوا منهم أربعة وجرحوا كثيرين، ولعل هذه الحادثة وحدها كافية لبيان ما وصلت إليه فوضى القمع والإرهاب، فإن هؤلاء الضباط والجنود تطوعوا لفعلتهم دون أن يدعوهم رؤساؤهم إليها، بل لقد كانت القيادة العليا تستبشر بمظاهرات الفرح التي أعقبت الإفراج عن الزعماء؛ لأنها قد تلطف سورة الحنق والعداء وتهيئ جو السياسة للوفاق والمسالمة، وتتيح للوزراء المصريين أن يقبلوا مناصب الحكومة، ولكن الفوضى أخرجت أولئك الضباط عن طورهم فأفسدوا هذه الدلائل، وعكسوا الأمر على القيادة العليا حتى كادت أن تفشل في تأليف الوزارة التي كان يجري الكلام في تأليفها حينذاك؛ مما اضطر المارشال اللنبي إلى الاعتراف بخطأ الجنود ونشَر بيانًا يقول فيه:

لقد تغيرت الحالة فجأة وأطلقت الحكومة البريطانية الزعماء المعتقلين في مالطة، وأذنت للمصريين أن يرسلوا مندوبيهم إلى إنجلترا ليعرضوا شكواهم. وقد سُرَّ المصريون لذلك بالبداهة وسُمح لهم أن يقيموا الاحتفالات، كما يُسمح لأبناء إنجلترا بالاحتفال بأي نصر سياسي، ومن سوء الحظ أنَّ الجنود لا يفهمون هذا على ما يظهر؛ لذلك حدث مرةً أو مرتين أنَّ نفرًا من الجنود قاموا بمظاهرات ضد المصريين الذين كانوا قد أقاموا احتفالًا غير موجَّه ضد سلطتنا بتة. وقد أدَّى عمل هؤلاء الجنود إلى اضطرابات خطيرة، وإلى خسارة في الأنفس من الجانبين. على أنه المأمول الآن أن يلوذ الجنود بالهدوء، ويلزموا السكينة، ويتركوا القانون والنظام للقائد العام. ومما يجب أن يُفهم أنَّ كل عمل مستقل يقوم به الجنود يضاعف صعوبة مركزنا عشر مرات.

بقي سفر الوفد فعلًا بعد السماح بالسفر قولًا.

والظاهر أنَّ السلطات الإنجليزية سمحت بسفره من جهةٍ لتعرقله من جهةٍ أخرى؛ لأنها تعللت بقلة البواخر، وزعمت أنَّ الأماكن فيها محجوزة سلفًا، وأنَّ الأماكن المطلوبة لا تتيسر قبل ثلاثة أشهر! وعلم الوفد أنَّ الانتظار إلى ذلك الموعد مضيِّع لفرصة الحضور أمام مؤتمر الصلح أو الوصول إلى باريس في إبان انعقاده؛ فالتمس الإذن بالسفر على «يخت» صاحب العظمة السلطان المسمى بالمحروسة، واتصل نبأ هذا الخبر بالإنجليز فخشُوا أن يُجاب بعد قيام الوزارة الرشدية التي يعلمون من سياستها الأولى أنها تشايع الوفد في طلب السفر إلى أوروبا، ورأَوا أنَّ وصول الوفد المصري إلى أوروبا على اليخت السلطاني يخوله «مظهرًا رسميًّا» يتقونه ولا يحبون دلالته الواضحة عند أمم العالم؛ فدبروا أمر الأماكن المطلوبة على عجل، وسرعان ما استطاعوا أن يحجزوا الأماكن كلها في الباخرة «كاليدونيا»، ومعها ستة أماكن أخرى لمن يشاء السفر من خصوم الوفد إلى باريس!

برح أعضاء الوفد العاصمة في الساعة الثامنة من صباح يوم «١١ أبريل» فكان توديعهم الرائع بمثابة توكيل جديد من الأمة قاطبة، فازدحمت الطرقات والميادين بعشرات الألوف من جميع الطوائف والطبقات، ووزعت محافظة العاصمة أكثر من ألف تذكرة لعلية القوم ورؤساء الدين والسروات الذين رغبوا في توديع الوفد على المحطة، فلم تكفِ هذه التذاكر لتلبية جميع الرغبات، وبلغ عدد المودعين أضعاف العدد المقدور، وأوشك الناس ما بين العاصمة وبورسعيد أن ينظموا موكبًا واحدًا للحفاوة بالوفد وتأييده وإظهار الابتهاج بسفره، وما كانوا يعلمون بالسفر في يومها لصعوبة المواصلات وانقطاع أسلاك البرق في بعض الجهات، ولكنهم كانوا يرون القطار المزين بالرايات والأزهار وعليه التحيات التي كتبها المودعون في محطة العاصمة، فيعلمون الخبر ويتسامعون به في لحظات معدودات، ويهرولون إلى لقائه داعين هاتفين.

ولما وصل القطار إلى بورسعيد، خرجت المدينة تستقبله وترحب به وتصحبه إلى الباخرة التي بات فيها ليلته، وأضاءت بورسعيد كلها في المساء، وحفت بالباخرة عشرات الزوارق المضاءة الصادحة بالموسيقات والهتافات الوطنية طول الليل، وانثالت الرسائل البرقية من المدينة ومن أنحاء كثيرة في القطر تشيع الأعضاء بالرجاء والتأييد.

وفي اليوم الذي أقلعت فيه الباخرة — وهو اليوم التالي — تألفت في القاهرة لجنة مركزية كبرى تنوب عن الوفد في غيابه، وتتولى إنشاء اللجان التي تنوب عنه في الأقاليم.

•••

ويلي هذا الفصل فصل انتقادي عن العيوب التي لوحظت في تأليف الوفد، ثم فصل عن خطة الوفد في مسألة الامتيازات الأجنبية التي أراد بها التفرقة بين بريطانيا العظمى والدول صواحب الامتيازات، ثم ينتقل الكلام إلى عمل الوفد في أوروبا كما يلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤