الفصل الثامن

مسألة السودان

أما مسألة السودان فلم تطرح تحت البحث، ولكن الوفد قد حصل على تأكيدات تضمن الطمأنينة على مياه النيل لري الأرض المصرية المزروعة الآن والقابلة للزراعة في المستقبل.

وقد بيَّن الأعضاء المندوبون مهمتهم في هذه المرحلة بكلمةٍ ذيَّلوا بها المذكرة وقالوا فيها:

أما مهمة أعضاء الوفد المندوبين فبيانها أنه لما وصلت المفاوضات بين الوفد ولجنة ملنر إلى أن قدَّمت اللجنة هذه القواعد على أنها نهائية في الأساسات التي بُنيت عليها، رأى الوفد — أخذًا بالأحوط واستمساكًا برأي الوكالة على إطلاقه — ألا يبت في الموضوع برفضه أو قبوله، بل رأى أنَّ الحكمة تدعو إلى عرض الأمر على البلاد. فإذا قالت البلاد: «إنَّ هذه القواعد صالحة أساسًا للمعاهد»، دخلت المسألة في دورها النهائي، ووُضعت معاهدة على القواعد المذكورة، وعُرضت على الجمعية الوطنية التي هي صاحبة الرأي الأعلى في الأمر، ولها دون غيرها الكلمة الأخيرة في الموضوع. فبعد أن تدرس تفاصيل المعاهدة وصيغتها تقرر قبولها أو رفضها.

وقد رأى سعد أن يجعل رأيه في المشروع للأساتذة: مصطفى النحاس، وويصا واصف، وحافظ عفيفي؛ لأنهم لم يحضروا البحوث فيه بالعاصمة الإنجليزية كما حضرها زملاؤهم القادمون من أوروبا، فكتب إليهم في الثاني والعشرين من أغسطس ما يأتي:

أهديكم أطيب تحياتي، وبعدُ فإنكم تجدون طي هذا بلاغًا لنواب الأمة وأرباب الرأي فيها، تعلمون مضمونه من المشروع الذي ستعرضونه على الأمة — أنتم والقادمون إليكم من إخوانكم — وهذا موافق للحقيقة؛ لأنه — وأريد أن يكون الأمر بيني وبينكم — مشروعٌ ظاهره الاستقلال والاعتراف به، وباطنه الحماية وتقريرها؛ ففيه من خصائص الحماية ومميزاتها الشيء الكثير، كالقوة العسكرية، والتدخل في التشريع للأجانب وفي القضاء المختص بهم، والتدخل في المالية وفي الحقانية بواسطة موظفين إنجليز، وجعْل المعتمد الإنجليزي ذا مقام خاص وله التقدم على غيره من وكلاء الدول الأخرى، وتقييد حرية مصر في عقد المعاهدات وفي اختيار وكلائها السياسيين، وفي التجاء هؤلاء لممثلي إنجلترا، وتَولِّي إنجلترا دون مصر عقد المعاهدات المتعلقة بإلغاء الامتيازات مع الدول الأخرى.

وفضلًا عن ذلك، فإن ما اشترط من تعليق تنفيذه على قبول الدول لإلغاء المحاكم القنصلية وصدور الذكريات بإعادة تنظيم المحاكم المختلطة، يجعل الفوائد التي تعود منه على المصريين وهميَّة؛ إذ قد ينقضي الدهر، ولا تقبل الدول ذلك الإلغاء ولا تصدر الذكريات بذلك التنظيم. ولكن إخواني لا يرون فيه رأيي، ولم أرد أن أُظهر الخلاف بيني وبينهم حرصًا على الوحدة التي هي قوتنا، ولكيلا يشمت الأعداء بنا. ولو أنَّ إخواني أصغوا إلى قولي أو لو لم أكن أخشى على هذه الوحدة من الانقسام لفارقت الندوة في يوم ٢٢ يونيو الماضي، وهو اليوم الذي وردنا فيه خطاب من اللورد ملنر عن مشروع سابق وضعته لجنته ورفضناه لكونه كان يرمي إلى ما يخالف مبدأنا وتوكيلنا، وكان رفضنا له بالإجماع. ومن الغريب أنًّ المشروع الثاني جاء أبلغ في باب الحماية لاشتماله على كثير من مميزاتها، ومع ذلك رأى الإخوان صلاحية عرضه على نواب الأمة، ولا أريد أن أشكوَ منهم إليكم؛ لأنهم إنما رأوا ذلك لأسباب قامت عندهم وأقنعتهم بصحة آرائهم، أهمها تغير ظروف الحال وعدم وجود السند والنصير لنا في الخارج، وانفراد الدول الإنجليزية بالعزة والسلطان، وعدم قوة الأمة على متابعة المعارضة والمقاومة، وإني أعترف بأهمية هذه الأسباب، ولكنها لا يمكن أن تقلب حقيقة المشروع من حماية إلى استقلال، ولا أن تجعلنا نرضى بما نهضنا لمقاومته وقمنا للمطالبة ببطلانه، وما ضحَّت الأمة في سبيل النفور والقضاء عليه بدماء الكثير من أبنائها وحرية العدد العديد من شيوخها وفتيانها، ولا يحملنا — نحن دعاة الاستقلال وحماة ألويته والصائحين به في كل صقع ونادٍ — على أن نتحول إلى تأييد ما هو بعيد عنه في الواقع وإن كان قريبًا منه في الظاهر. أما إذا قبله غيرنا وكان الإنجليز معهم، فذلك شيء آخر لا تقع تبعته علينا؛ ولهذا رأيت أن أكتب لكم بفكري حتى تكونوا في مستوًى واحدٍ مع إخوانكم الذين سيشتركون معهم في عرض المشروع، وأن يكون مركزكم إذا استحسنتم من الذين تستشيرونهم مركز الشارح للحقائق العارض للوقائع من غير تأويل ولا تفسير، لكيلا يجد خصومكم سبيلًا للطعن عليكم، ولا حسادكم حجة يقيمونها ضدكم، وسوف تطلعون على جميع المكاتبات التي دارت بيننا وبين لجنة ملنر، وعلى المشروعات الثلاثة التي ورد في البلاغ ذكرها، وتقفون من الإخوان على جميع المعلومات التي يهمكم الوقوف عليها في هذا الشأن. وإني على ثقة تامة بأنكم ستكونون في عرض هذا المشروع مثال الدقة والنزاهة والبُعد عن مزالق القدم، وإني مستعد لأنْ أرسل إليكم كل ما تشاءون من الأوراق، ولأنْ أجيبكم عن كل ما تشاءون الوقوف عليه من المسائل. والله يكون في عونكم ويقيكم شر خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبَدَهِيٌّ أنَّ هذا الخطاب لم يعلَن للأمة ولا لأحد غير الأعضاء الذين خوطبوا به وأصدقائهم المقربين. ولكن الرئيس مهَّد لتقديم المذكرة إلى الأمة ببيان منه وصف به المشروع الوصف الذي ينبغي في هذا المقام؛ فقال فيه:

… وانتهت المناقشة بوضع ثلاثة مشروعات: أولها من لجنة ملنر رفضناه بتاتًا، والثاني منا ورفضته هذه اللجنة كذلك، والثالث منها وهو الأخير، قد صرح رئيسها لنا عند البحث فيه أنه غير قابل للمناقشة في الأساسات التي بُني عليها، وأنه يلزم إما أخذه كله أو رده كله؛ لأنه تضمن في اعتباره أقصى ما يمكن إنجلترا الاتفاق مع مصر عليه، بل زاد أنَّ هناك شكًّا في جواز التساهل في بعض ما اشتمل عليه، ولكنا وجدناه مع ذلك معلقًا بتنفيذه على غير إرادتنا وغير وافٍ بمطالبنا؛ فلم يسعنا قبوله لخروجه عن حدود توكيلنا، وأظهرنا للجنة ملنر عدم رضائنا به. غير أنه — نظرًا لاشتماله على مزايا لا يستهان بها، ولتغير الظروف التي حصل التوكيل فيها، وعدم العلم بما يكون من الأمة بعد معرفتها بمشتملاته، وقياس المسافة التي بينه وبين أمانيها — رأى إخواننا معنا خروجًا من كل عهدة وحرصًا على كل فائدة واستبقاءً لكل فرصة، ألا يبت فيه رسميًّا بما يقتضيه توكيلهم قبل عرضه عليكم — أنتم نواب الأمة المسئولين وأصحاب الرأي فيها.

ثم قال:

فإذا رفضتم أعلن الوفد رسميًّا رفضه، وإذا قبلتم دخلت المسألة في دورها النهائي ووضعت معاهدة على القواعد التي تضمنها، وعرضت على الهيئة النيابية للتصديق عليها ووضع نظام دستوري للبلاد.

وهذه الخطة التي سلكها سعد في التوفيق بينه وبين أعضاء الوفد هي غاية ما كان في وسعه من الموافقة والمجاراة، فلم يكن مستطيعًا أن يعلن استحسان المشروع وهو لا يستحسنه، ولا يرى في ضميره أنه محقق لإلغاء الحماية وإقامة الاستقلال، ولم يكن مستطيعًا أن يقدم المشروع بغير بيان، ولا أن يقول في البيان غير ما قال من وصف صادق لجميع نواحيه في جانبَي المزايا والنقائص، مع إطلاق الرأي لمن يشاء فيما يشاء.

ووصل الأعضاء المندوبون إلى الإسكندرية في اليوم السابع من سبتمبر بعد نشر البيان بيومين، فاحتفى بهم الشعب في الإسكندرية والقاهرة وعلى طول الطريق بينهما، وبدأ الاستفتاء بعد يومين. فعرض المشروع على المحامين وأعضاء الجمعية التشريعية ورجال الدين ورجال القضاء وأعضاء مجالس الأقاليم والمجالس المحلية، وأجمعت الطوائف في جملتها — ما عدا أنصار «الوزراء الأصدقاء» — على وجوب التعديل والتنقيح في بعض قواعده وتضمينه النص الصريح على إلغاء الحماية، وحذف ما جاء فيه عن امتياز المندوب البريطاني «بمركز استثنائي» غير مركز المندوبين الآخرين، وطلب الأكثرون تعيين حدوده المبهمة ومواعيده المرسلة، وإخلاءه من كل لبس واشتباه في مسألة السيادة القومية، وذهب كثيرون إلى رفضه بتاتًا وفي مقدمتهم فريق من الأمراء، وذكروا السودان ووجوب الاحتفاظ بحقه وحق مصر فيه. نشروا على الملأ بلاغًا قالوا فيه: «إننا لا نبرر عقد أي اتفاق ينافي أو ينقص استقلال مصر مع سودانها استقلالًا تامًّا حقيقيًّا بلا قيد ولا شرط»، ثم فوضوا الأمر إلى الأمة صاحبة الرأي الأعلى.

وبعد عشرين يومًا مضت في عرض المشروع والتعقيب عليه في الصحف والمجالس، اكتفى الأعضاء المندوبون بما اطلعوا عليه من آراء، وكتبوا بيانًا شكروا فيه الأمة على ما قابلتهم به من الحفاوة، ونوَّهوا بالاستنارة التي «خلقت فرصة جديدة ظهر فيها رشد الشعب وحسن تقديره لجميع الظروف السياسية التي تحيط الآن بالفصل في مصيره …»

وفي هذه العبارة ما لا يخفى من دلالة على نتيجة الاستفتاء عند المندوبين، وهي نتيجة يعتبرونها تمهيدًا للقنوع والقبول لا تمهيدًا للرفض أو التعديل.

ويلي هذا الفصل فصول عما حدث في مصر خلال المفاوضة، وبعد عودة أعضاء الوفد المندوبين لاستفتاء الأمة، إلى قيام الوزارة العدلية وعودة سعد إلى مصر، والخلاف على تأليف لجنة المفاوضة، ثم ذهاب عدلي باشا إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية، واستقالته لتعذر الوصول إلى اتفاق مقبول، ثم مساعي سعد في توحيد الصفوف ونشره البيان الذي حل السلطة الفعلية على التعجيل بنفيه، وفي ختامه يقول:

إنكم أنبل الوارثين لأقدم مدنية في العالم، وقد حلفتم أن تعيشوا أحرارًا أو تموتوا كرامًا، فلا تدعوا التاريخ يقول يومًا فيكم: «أقسموا ولم يبروا بالقسم»، فلنثق إذنْ بقلوبٍ كلها اطمئنان، ونفوسٍ ملؤها استبشار بالاستقلال التام أو الموت الزؤام.

وقد نُفي سعد وخمسة من صحبه إلى جزائر سيشل في أواخر سنة ١٩٢١، ونُقل منها إلى جبل طارق، ولم تكد السياسة البريطانية تطمئن إلى إبعاده من ميدان الحركة الوطنية في مصر حتى بادرت إلى إعلان تصريح ٢٨ فبراير المشهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤