الدمية الجديدة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرنسوا دي كوريل»

لست أدري أحدثك عن قصة من قصص التمثيل أم عن رسالة من رسائل الفلسفة، ولعلي أحدثك عنهما جميعًا، فإن القصة التي بين يدي الآن تمثيلية عرفت أكبر ملاعب باريس، وهي في الوقت نفسه فلسفية، تناولت بالبحث والتحليل مسألة من أكبر المسائل التي تشغل الضمير الإنساني وتعذبه، سواء أكان ضميرًا فرديًّا أم اجتماعيًّا، وليس في ذلك شيء من العجب؛ فإن صاحب القصة هو ذلك الذي حدثتك عنه في القصة الماضية؛ هو «فرنسوا دي كوريل» الكاتب الفرنسي.

وضع هذه القصة سنة ١٨٩٥، ولكنه لم يقدمها إلى الملعب؛ لأنه أشفق أن تكون من الدقة والتعمق في البحث الفلسفي بحيث تسبق عقل الجمهور، فاكتفى بنشرها في «مجلة باريس»، ولم تكد تنشر هذه القصة حتى أعجب بها الناس، وحتى نالت لدى القراء والنقاد فوزًا لا بأس به، ثم مضت الأعوام فلما كانت سنة ١٨٩٩ تحدث الكاتب مع زعيم من زعماء التمثيل في عرض هذه القصة على الجمهور فأصلحها الكاتب، وغير منها، وأضاف إليها، ثم مثلت فكان الفوز عظيمًا، وأجمع النقاد أو كادوا يجمعون على أن هذه القصة آية من آيات التمثيل تؤرخ العصر الذي وضعت فيه، وتدل على أن هذا الفن سينتقل من طور إلى طور، فيختم القرن الماضي في طوره القديم، ويبتدئ هذا القرن في طوره الحديث. ولم ينكر تفوق هذه القصة إلا ناقد واحد هو «سارسي»، ومع ذلك فقد اعترف بأنها قيمة مؤثرة، ولكنه زعم أنها خليقة بالقراءة لا بالتمثيل، ويقول «فرنسوا دي كوريل»: إن هذا الحكم لم يصدر عن إنصاف، وإنما صدر عن الهوى.

وضعت هذه القصة منذ أكثر من ربع قرن، ومع ذلك فلم ينسَها الناس، ولم تعرض عنها ملاعب التمثيل، بل ما زالت تمثل وتمثل في أكبر ملاعب باريس في «الكوميدي فرنسيز»، ولعل إعجاب الناس بها، وفهمهم إياها في هذه الأيام أشد وأصدق منهما يوم مثلث لأول مرة، فقد ارتقى الجمهور في هذه السنين الأخيرة ارتقاء عقليًّا ظاهرًا، يمكنه من الوصول إلى دقائق هذه القصة وأمثالها، ومهما يكن من شيء، فإن إعجابي بالجمهور الذي يفهم هذه القصة، ويكلف بها أشد من إعجابي بالكاتب الذي وضعها، ونظم فصولها، وأحسب أن هذه القصة لو مثلت في مصر لما استمع لها من الناس إلى نفر قليل، وقليل جدًّا، ولهذا ترددت قبل أن أختار هذه القصة موضوعًا للحديث؛ ذلك أن الجد فيها أكثر من الهزل، بل ليس فيها من الهزل شيء، وليس أمر الحب فيها ذا خطر، وإذا شئت فقل إنه ذو خطر جليل، ولكنه حب علماء يخلو من هذه الرقة، ومن هذه الدعابة التي تستخفك وتستهويك، فأنا أعرفك وأعرف أنك لا تطلب إلى الصحف السيارة دروسًا علمية أو أحاديث فلسفية جافة، وإنما تطلب ذلك إلى الكتب والمجلات والأساتذة، فأما كتاب الصحف فأنت تريدهم على أن يسلوك ويلهوك في أوقات الفراغ، في القهوة، أو في الترام. وفي الحق أن هذه القصة لا تسلي ولا تلهي، بل لا تكاد تحرك عواطف القلب، وإنما هي تهز العقل الإنساني هزًّا عنيفًا، وتحيي الشك حينًا ما، وحسبك أنها تقرب بين الذكاء والإيمان، أو بين العلم والدين.

قلت إن الحب في هذه القصة حب علماء، ولست أغير هذا القول، ولا أعدل عنه، فسنرى أن الأشخاص الممتازين في هذه القصة أربعة: رجلان، وامرأتان، فأما الرجلان، فعالمان من أكبر العلماء يتعمق أحدهما في الطب، والآخر في علم النفس، وأما المرأتان، فإحداهما ليست عالمة ولكنها كالعالمة؛ لأنها تستطيع أن تفهم هذين العالمين، وتناقشهما، وتلزمهما الحجة، والأخرى ليست عالمة ولا شبيهة بالعالمة، ولكنها أبعد عن الحب ولذاته ودعابته من العلماء والفلاسفة؛ لأنها تستعد لتكون راهبة، وهي تستعد لذلك بقلب ملؤه الدين والإخلاص.

فأنت ترى أن أحاديث الحب لا يمكن أن تكون عذبة، ولا مثيرة لتلك العواطف الخفية بين ناس كهؤلاء الناس، وإنما هي أحاديث أرقى من هذا كله وأدق، ثم إن هؤلاء الأشخاص الذين لا أشك في أنك ستحبهم، وتكلف بهم، وتعطف على بعضهم، هؤلاء الأشخاص ليسوا عاديين، ماذا أقول: إني لأتساءل: أيمكن أن يوجد في حياتنا الواقعة أشخاص كهؤلاء يتحدثون كما يتحدث هؤلاء الناس، ويعملون كما يعمل هؤلاء الناس، وأكاد أعتقد أن الكاتب لم يحاول تصوير ما هو كائن في الأرض، وإنما استنزل المثل الأعلى من السماء فصوره تصويرًا متقنًا، ثم عرضه على الناس ليهيج شوقهم إليه، ورغبتهم فيه، ولعله حاول مع هذا أن يحل هذه المشكلة العويصة، مشكلة الجهاد العنيف المتصل بين عقل الرجل الكبير وشعوره.

فهل وفق إلى هذا الحل؟ أعتقد أنا أنه لم يحل المسألة، ولعل هذه المسألة لا تحل، وحسب الكاتب مجدًا، وحسبه من الفوز العلمي أنه قد استطاع أن يظهر لك بطريقة لا تحتمل شكًّا ولا ريبًا أن أشد الناس نبوغًا في العلم، وتفوقًا في حل معضلاته، وأشدهم مضيًّا في الإلحاد، وإنكار الإله والدين خاضع كما يخضع أشد الناس جهلًا، وأكثرهم إغراقًا في الغفلة والذهول لهذه العواطف التي تحمل على الخوف والإشفاق، والرحمة والحنان، والأمل في المستقبل، والطمع في حياة أخرى بعد الموت، بل في جزاء للأعمال التي نأتيها في هذه الحياة، خاضع لهذه العواطف التي ينشئها الدين في نفوسنا، فهو مجتمع شيئين متناقضين: عقل ملحد كل الإلحاد، وقلب مؤمن كل الإيمان.

نعم وفق الكاتب إلى عرض هذه المسألة وإيضاحها، وسواء علينا أوفق إلى حلها أم لم يوفق، فذلك شيء في نفسه ليس بذي خطر، وإنما الأمر كل الأمر أن نعرف أن أشد الناس ذكاء وأكثرهم إلحادًا مؤمن سواء أراد أم لم يرد؛ مؤمن لأنه إنسان ليس غير، ثم قد يكون إيمانه واضحًا، وقد يكون غامضًا، وقد يكون موضوع هذا الإيمان جليًّا، وقد يكون خفيًّا، ولكنه مؤمن على كل حال، يحتاج حين يغلب قلبه على عقله إلى أن يلجأ إلى قوة قاهرة يستمد منها الغوث والمعونة، فلننظر بعد هذه المقدمة إلى القصة.

قلت إن أشخاص هذه القصة ليسوا عاديين، والحق أنهم جميعًا ممتازون، فأولهم: «ألبير دونا» طبيب قد نبغ في فنه، وأصبح موضع إعجاب قومه، بل موضع إعجاب العالم كله، تفاخر به فرنسا كما تفاخر بنابغتها «باستور». والثاني: «لويز» امرأة هذا الطبيب، بارعة الجمال، شديدة الذكاء، رقيقة القلب، حادة العاطفة. والثالث: «موريس كورميه» نابغة في علم النفس، يعمل فيه عملًا لا يعرف الملل، يستخدم التجربة، ويصل إلى نتائج عظمية القيمة، ويحاول أن يجعل علم النفس علمًا حقًّا، ينتج كما تنتج العلوم الأخرى التي تم تكوينها. والرابع: «أنطوانيت ميلا» فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، فقيرة معدمة، يتيمة، جميلة جدًّا، شديد التأثير في نفس من يراها، ولكنها مريضة، قد ألح عليها السل، فجزم الأطباء بأنها ميتة، وهي تستعد لحياة الراهبة.

•••

فإذا ابتدأت القصة رأينا «لويز» جالسة في لبسة المتفضل، مرسلة الشعر تكتب، فتدخل عليها أختها «جان» التي لم نسمها؛ لأن أثرها في القصة قليل، تنبئ «جان» أختها «لويز» بنبأ عظيم، بخطب جلل يوشك أن يدك حولها كل شيء، وهو أن زوجها الطبيب متهم، يراد أن يقبض عليه، وأن الناس جميعًا يتحدثون بذلك، فإذا سألت «لويز» عما يتهم به زوجها، فإن التهمة شنيعة، ولكنها تشرف المتهم، تشرفه أمام العقل وأمام العلم، وتجعله مجرمًا أمام القانون وأمام الضمير، وإذن فقد خلق الموقف العسير الذي تدور عليه القصة، موقف التناقض بين العقل والعلم من جهة، وبين القانون والضمير من جهة أخرى، ذلك أن «ألبير دونا» الطبيب قد اتخذ المرضى موضوعًا لتجربة مهلكة، فهو يبحث عن مصل يداوي به السرطان، وقد اضطره هذا البحث إلى أن يلقح «بميكروب» السرطان بعض المرضى، فنجحت التجربة، وأصيب هؤلاء المرضى بهذه العلة المهلكة، فالتجربة في نفسها خير، بل هي واجب علمي، بل هي واجب خلقي إنساني؛ لأنها وإن ضحت بطائفة من الناس فستضمن البر والعافية للناس جميعًا، فهي من هذه الجهة خير، ولكنها قتل، فهي جريمة ينكرها الضمير والخلق والدين، ويعاقب عليها القانون، هذا هو الموقف أو هي العقدة كما يقول الممثلون، وليس لهذه العقدة حل إلا أن تتطور الإنسانية، فينتصر العقل انتصارًا مطلقًا يخضع لسلطانه القوانين، والأخلاق، والعرف، والأديان، أو ينتصر الضمير انتصارًا مطلقًا يمحو العقل ويزيل آثاره.

ولكننا الآن في شغل عن هذه المسألة التي ستدرس فيما بعد؛ ذلك أن هذا الحديث بين الأختين قد أظهر أن «لويز» لا تحب زوجها، أو أنها شقية كل الشقاء مع هذا الزوج؛ لأنها كانت تحبه الحب كله، فلم تظفر منه بما يرضي قلبها وعواطفها؛ لأن هذا العالم شغل بعلمه وبحثه، وبره بالمرضى والضعفاء عن امرأته، وعما يحتاج إليه قلبها وعواطفها وحبها، فعاشا معًا عيشة أليمة، لا يشعر الناس بما فيها من ألم، بل لا يشعر الزوج نفسه بما فيها من ألم، وإنما تألم هذه الزوجة المسكينة وتتعذب دون أن يشعر بها أحد، أو يعطف عليها إنسان، وهي منذ عشر سنين في هذه الحياة المرة، تجل زوجها وتكرمه؛ لأنه نابغة، ولأنه خير، ولكنها تشقى بجواره؛ لأنها لا تجد عنده ما تريد، وهي تضطرب بين شرين؛ أحدهما: الوفاء لهذا الزوج المعرض اللاهي، وما يستتبعه هذا الوفاء من ألم وضنك. الثاني: الحرية والاستمتاع بلذات الحياة، وإرضاء قلبها وعواطفها، وميلها القوي إلى السعادة، وما يستتبعه هذا كله من الخيانة والغدر، ومخالفة الضمير، والخلق، والدين.

موقف آخر عسير كالموقف الأول، كانت «لويز» تحاول أن تجد منه مخلصًا، لا سيما وأن هنالك شخصًا ثالثًا يحبها، ويكلف بها، ويظهر لها هذا الحب والكلف، وهي تميل إليه، ولا تجد غضاضة في مجالسته، والتحدث إليه، وهذا الشخص هو «موريس كورميه» النابغة في علم النفس، والصديق الوفي لزوجها، كانت إذن تنتهز الفرصة للتخلص من هذا الموقف، فقد سنحت الفرصة، أصبح زوجها مجرمًا وهي لا تحبه، وإذن فستفارقه، وتسترد حريتها، وتشاطر صاحبها لذات الحياة، وإنها لتتحدث في هذا كله إلى أختها إذ تدخل الخادمة، فتنبئ بأن فتاة أقبلت تريد أن تلقى الطبيب؛ لأنها منه على موعد، فيؤذن لهذه الفتاة في الدخول؛ لأن «لويز» تفترض أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا زوجها، فتريد أن تتبين منها الأمر. تدخل هذه الفتاة وهي «أنطوانيت»، فتقص على الأختين ما ذكرنا لك من أمرها، وتنبئهما بأنها قد شفيت أو كادت لحسن علاج الطبيب، وأنها أقبلت تستشيره بعد أن كتبت إليه، فأذن لها في ذلك، ويأتي الطبيب فتنبئه أخت امرأته بما علمت من أمره، وتطلب إليه أن يحتاط، وأن يخفي أوراقه قبل أن تأتي الشرطة للتفتيش، وكانا يتحدثان في ناحية، فتعلم من حديثهما أمرين؛ الأول: أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا الطبيب؛ لأنه واثق بأنها ستموت، وإذن فقد اتخذها موضوعًا للتجربة. الثاني: أنه سيخفي أوراقه عند صديق أمين هو «موريس كورميه» الذي علمت من أمره مع لويز ما علمت، ثم تخرج «جان»، ويُعنى الطبيب بهذه المريضة، فيسألها عن أمرها، وتجيبه بأن صحتها جيدة، وأنها تحس كأنها تُخلق خلقًا جديدًا، ولكن دملًا قد ظهر في جسمها لا يريد أن يشفى، ولا أن يفتح، ولهذا أقبلت تعرضه على الطبيب، وقد علمت طبعًا أن هذا الدمل هو السرطان، يفحص الطبيب صدر المريضة فكلما تقدم في الفحص اشتد خوفه وذعره واضطرابه؛ ذلك لأنه يلاحظ أن هذه الفتاة قد برئت من مرض السل، وإذن فهو قاتلها؛ لأنها ستموت بالسرطان.

الطبيب والهٌ جزعٌ، ولكنه يتجلد، ويسأل الفتاة في عنف عما اتخذت من دواء، فتجيبه بأنها لم تتخذ إلا دواءه هو، وأنها قد اتخذت شيئًا آخر تخشى أن تذكره، فيغضب الطبيب، شربت ماء «لورد» — وهي قرية فيها ينبوع ظهر في القرن الماضي فقدسه الناس، وزعموا أن العذراء هي التي أخرجته، إلى آخر ما هو معروف من أمره.

إذن فلم يبقَ شك عند الطبيب في أنه قاتل، وفي أنه يستحق عقاب القاتل؛ ذلك لأنه كان يعتقد أن تجاربه ليست شرًّا، فهو لا يجربها إلا في أشخاص لا يشك في أنهم ميتون، وإذن فهو لم يكن يجني على الإنسانية، بل لم يكن يجني على المرضى أنفسهم، أما الآن وقد برئت هذه الفتاة من السل، فالأمر غير ذلك، قد جنى على الإنسانية فأفقدها بعض أفرادها، وجنى على هذه الفتاة فأفقدها الحياة، وإذن فهو قاتل.

تتفق «لويز» مع هذه الفتاة على أن تقيم عندها لتعالج في البيت، ثم تخرج الفتاة، ويقف الزوجان وجهًا لوجه، فانظر كيف يبتدئ بينهما الحديث:

لويز : إنك لقاتل!
ألبير (في بطء) : نعم إني قاتل!
لويز : لا أعرف جريمة أدنأ من هذه! فتاة بائسة ليس لها عائل، وليس لها من يدفع عنها!
ألبير : لقد كانت ميتة! ولقد حاولت كل شيء في إنقاذها، ولقد وصلت من الفناء إلى حد أيأسني من شفائها، وأقسم لو أن طبيبًا أقبل فتنبأ لنا بأن صحتها قد تتحسن لوصفناه بالحمق! لقد كنت أجرب في جثة هامدة، فلم أزدها ألمًا ولا حزنًا، ولقد لقحتها ميكروب السرطان، وهي في إغماء، فلم تشعر بشيء …
أرى أني مجرم، ولكني أرى ذلك لأول مرة، لقد كنت مطمئنًّا الاطمئنان كله، إن الذين شهدوا مثلي احتضار كثيرين ثم فكروا لا يستطيعون أن يؤمنوا بحياة أخرى، نعم! إذا رأيت الكائن العاقل يفقد قليلًا عقله وبهجته وشعوره، وكل ما يكوِّن الشخص الإنساني حتى لا يبقى منه على سرير الألم إلا شيء تعس، ذاهل، يصيح، إذا رأيت هذا شعرت بأنك إنما تشهدين كائنًا ينحلُّ انحلالًا مؤلمًا، لا شخصًا يبتدئ سفرًا مجيدًا، وإذن فنحن الذين يعلمون أن ليس بعد الموت حياة أخرى نجلُّ الحياة ونقدسها أكثر مما يجلها ويقدسها مؤمن متعصب، ونعتقد أن أشد الجرائم إنما هو أن نضيع ولو مخطئين على الحي دقيقة من حياته التي ينتظرها الفناء، ولن تستطيعي أن تتصوري ما كنت أتخذ من حيطة حتى لا تقصِّر تجاربي أجَل المريض ولو ثانية واحدة.

ثم يدور الحديث بينهما على هذا النحو شديدًا قاسيًا مؤلمًا، حتى تبلغ «لويز» من لومها أن تنكر عليه ثقته بعلمه، وترى أنه كان من الحق عليه ألا يجزم بأن مريضًا سيموت؛ فقد تشفيه معجزة، وهنا ينكر الطبيب المعجزات، ويشتد الجدال بينه وبين زوجه في ذلك، حتى تخرج لويز عن طورها، فتقول له: ومهما تضرع إلى العلم هذا المعبود االجديد الذي يظلم العالم إن تقبل ضحيتك الدموية، فإن هذا العلم نفسه يظهر كراهية بشعة لهذه الضحيَّة، حياة واحدة تملك تقديمها إلى العلم؛ هي حياتك!

فيدفع الطبيب عن نفسه بأنه كثيرًا ما عرَّض حياته للخطر في مكافحة الأمراض المهلكة، ويذكِّرها مرضًا أصابه، وأشرف به على الموت، وأنها قد عُنيت به في هذا المرض عناية ملؤها الإخلاص؟ وينتقل بهما هذا الحديث إلى ما بينهما من صلة، فيذكر الطبيب أن امرأته لا تحبه، ويحدثها بذلك، فيكون بينهما حوار مؤلم، تذكر «لويز» أنها كانت تحبه، ولكنه كان يزدريها، ويذكر هو أنه كان يثق بها، ويعتمد عليها، ويعتز بعطفها في جهاده العلمي، تذكر له أنها فقدت حبها إياه، ولكنها كانت تجلُّه إلى اليوم، فيسألها عن رأيها فيه منذ اليوم، فتجيبه أنها أصبحت تخافه؛ لأنه كان ينكر على المؤمنين المتعصبين ازدراءهم حياة الناس في سبيل الإيمان والعقيدة، حينما هو يزدري حياة الناس في سبيل علمه دون أن يضمن لهؤلاء الناس ما يضمنه لهم المؤمنون من حياة أخرى فيها الأمل والرجاء، وفيها السعادة والنعيم. ويستمر بينهما الحديث حتى يعرض الطبيب على امرأته أن تسترد حريتها، فتقبل ذلك مترددة، وهنا تظهر عاطفة جديدة في نفس هذه المرأة التي تكره زوجها وتخافه، تظهر عاطفة الخير والرحمة، ولكنها ليست واضحة. تحس هذه المرأة في أعماق نفسها شيئًا غامضًا يأمرها ألا تترك هذا الزوج الذي ينصرف عنه الناس جميعًا، ويتركونه يعاني وحده سخط الجماعة، ووخز الضمير، وإنهما لفي ذلك إذ يدخل «موريس كورميه» فينصرف الطبيب ليحضر الأوراق التي يريد أن يخفيها عند صاحبه، وينتهز الصديق هذه الفرصة القصيرة ليتحدث إلى صاحبته في الحب، ولكن هذه الفرصة لا تطول فيعود الطبيب، ويكلف صاحبه أن يُعنى بما يدفع إليه من الأوراق، وهنا ينتهي الفصل الأول وقد عرض فيه موقف الأشخاص جميعًا أحسن عرض، وفصل أدق تفصيل. فأما الطبيب فهو يرى نفسه مجرمًا أمام ضميره بعد أن استيقن شفاء «أنطوانيت» من السل، وهو جزع لهذا؛ جزع لأن امرأته تكرهه وتخافه، وهذه المرأة ترى زوجها مجرمًا وقد كانت تكرهه وتخافه، ولكنها بدأت تعطف عليه دون أن تتبين ذلك من نفسها، فأما «موريس كورميه» فهو يجل الطبيب ويكبره، وهو مع ذلك يحب زوجه ويدور حولها.

•••

فإذا كان الفصل الثاني ازدادت هذه المواقف وضوحًا، تذهب «لويز» إلى معمل «موريس كورميه»، فيريد هذا أن يتحدث إليها في الحب، ولكنها تنبئه بأنها تحبه غير أنها جاءت تلجأ إلى العالم لا إلى الصديق، جاءت تلتمس عنده شفاء نفسها المضطربة، أليس نابغة في علم النفس؟ إذن فليشفها، إنها مترددة بين الحرية التي هي حقها وبين العطف على زوجها، هذا العطف الذي هو واجبها، لقد لجأت إلى الصلاة فلم تنفعها، فليشفها العلم إن لم يشفها الدين، ولكن العلم عاجز عن شفائها؛ لأنه لم يتقدم بعد، وما زال ناشئًا، وهو لا يعالج إلا المرضى، و«لويز» ليست مريضة الجسم، وإنها لفي ذلك مع صاحبها إذ يقبل الطبيب فتستخفي حيث تسمع، وترى دون أن يراها أحد، لذيذ جدًّا هذا الحوار القويُّ العنيف الممتع الذي يدور بين هذين العالمين، لذيذ يستحق أن يترجم كله، ولكني مضطر إلى ألا أترجم لك منه شيئًا إشفاقًا من الإطالة التي بلغت حدَّ الإملال.

في هذا الحوار يظهر الجهاد بين العقل والقلب، بين العلم والدين، بين الذكاء والعاطفة، وقد انتصرت العاطفة على الذكاء، وقد انتصر القلب على العقل، وقد ظفر الدين بالعلم، فإذا الطبيب مؤمن بقوة لا يتبينها، وإذا ضميره مقتنع بأنه مجرم، ولكن هذا الانتصار ليس باهرًا؛ لأنه نتيجة الضعف والاضطراب. يتحدث الطبيب إلى صاحبه، فما أسرع ما ينتهي بهما الحديث إلى وجود قوة قاهرة تسمو إليها الإنسانية كلها، فيعترف الطبيب بهذه القوة، وينكرها النابغة في علم النفس، ويشتد بينهما الجدال، فبينما يستدل الطبيب بمظاهر الطبيعة المختلفة، وميل الفطرة الإنسانية والعقل الإنساني إلى الخلود والإيمان بالخلود، يجيبه صاحبه بأن هذا كله أثر من آثار الضعف، ونتيجة من نتائج الاضطراب الذي هزَّ قواه منذ أمس؛ ذلك لأن أشد الناس قوة، وأمضاهم بصيرة، وأكثرهم إلحادًا إذا دهمته الداهمات، وألمت به الملمات، وأعوزه النصير من أبناء جنسه إلى قوة خفية يخلقها له الضعف، ويستحدثها له الوهم، ويصورها له حرصه على الأمل، وجزعه من اليأس، فما أسرع ما يعترف الطبيب بأن هذا حق، ولكن هذا الاعتراف لا يحوِّله عن يقينه، فهو يؤمن بأن هناك قوة وإن شئت فقل حقيقة عليا عامة تشمل حقائق الحياة كلها، هي الصور المجملة المفصلة لكل ما هو كائن، يؤمن بذلك، وبأن الميل الطبعي للإنسان إنما هو السمو إلى هذه الحقيقة العليا، يسمو إليها بقلبه تارة، فيؤمن دون بحث ولا تفكير، ويسمو إليها بعقله تارة أخرى، فيؤمن بعد البحث والتفكير، يصل إليها الطبيب بواسطة طبه، ويصل إليها الطبعي بواسطة بحثه الطبعي، ويصل إليها كل عالم بواسطة العلم الذي يشتغل به.

ولكن العلماء يقصرون بحثهم وهمهم على ما بين أيديهم من حقائق الحياة الدنيا، ولا بد لهم من أوقات الشدة والمحنة لينتقلوا من حقائق هذه الحياة إلى الحقيقة العليا التي ينتهي إليها كل شيء. ثم يصل بهما الحديث إلى ذكر امرأة مريضة كانت موضوع التجربة في علم النفس في هذا المكان، فقدت هذه المرأة ابنًا لها كانت تحبه، فخُيل إليها أنها قاتلة ابنها، وضاقت عليها لذلك سبل الحياة، فأقبلت إلى صاحبنا العالم النفسي تلتمس لديه الشفاء، ووجد هذا العالم وصاحبه الطبيب وسيلة إلى شفائها، وهي أن أنَامَها العالِمُ ووضع أمامها تمثالًا يشبهها، وأعطاها سكينًا، وأنبأها بأن شخصيتها مضاعفة تتألف من امرأتين مختلفتين؛ إحداهما: أم تحب ابنها، والأخرى امرأة غادرة قتلت هذا الابن، ثم قال لها العالم: دونك هذه القاتلة، انتهزي نومها فاقتليها انتقامًا لابنك، ففعلت، وكان ذلك شفاء لها.

قال «موريس» لصاحبه الطبيب: إن وجهك الآن يذكرني وجه هذه المرأة، فلك صورتها ونظراتها، قال الطبيب: لم تخطئ لأني قتلت اليوم رجلًا، وأنبأه بأنه في صباح هذا اليوم لقح بمرض السرطان رجلًا قويًّا صحيح البنية، ليس بالمريض، ولا المتعرض للموت، وذلك لتكون تجاربه العلمية أصح وأصدق إنتاجًا، ثم دفع إليه ورقة فيها ذكر هذه التجربة، ونتائجها الأولى، وأنبأه بأنه سيدفع إليه في كل يوم نتائج تجاربه، وهنا اضطرب العالم النفسي، ولم يتردد في اتهام الطبيب بالإجرام، فدفع الطبيب عن نفسه بأن هذا الرجل الذي قدم نفسه ضحية للعلم حرٌّ في أن يحيا أو يموت، وأنه قد اختار الموت لا مكرهًا، ولا مخدوعًا، ولا مضللًا، وإنما اختار الموت رغبة في العلم من جهة، وفي الخير من جهة أخرى، أراد أن يستفيد العلم، وأن يستفيد الناس بعد ذلك، ثم انصرف الطبيب، وقد قال ذلك بصوت يملؤه البكاء.

فتخرج «لويز» من مخبئها مضطربة واجمة، قد أخذها شيء يشبه شوق الصوفية، فيحب «موريس» أن يتحدث إليها، ولكنها تأبى، وتعلن إليه أن زوجها لم يقتل إلا نفسه، وأن هذا الرجل الذي ضحى بنفسه للعلم والخير إنما هو «ألبير»، وأن قربه من الموت هو الذي حبب إليه ذكر الخلود والحياة الآخرة، وأنه جاء يلتمس معونة صاحبه وعزاءه فلم يجد إلا جفاء العلم وقسوته، دعني ألحق بزوجي! ثم تتركه، ويلقى الستار.

فهذا الفصل الثاني قد أوضح هذين الشخصين إيضاحًا كاملًا، فتم في نفس الطبيب انتصار ضميره على عقله، وتم الاتفاق بين علمه ودينه، فهو مقتنع بأنه يجب أن يقتص من نفسه لهذه الفتاة البريئة التي قتلها، وهو يقتص من نفسه فيلقح نفسه مرض السرطان، ويحقق بهذا التلقيح شيئين: الانتقام، وتجربته العلمية، فسيصبح منذ هذا اليوم موضوعًا لهذه التجربة، وسيموت بعد أشهر، وقد أرضى علمه، فعرف نتيجة بحثه، وأرضى ضميره فانتقم لتلك الفتاة البريئة.

وأما زوجه فكانت مترددة بين الحرية، والعطف على زوجها؛ لأنها كانت تجهل هذا الزوج، فلما سمعت له، وعرفت ما فعل بنفسه استقر رأيها، وتم أمرها على أن تؤثر الواجب على الحق، فنسيت حبها «لموريس»، ونسيت حريتها، ولم تفكر إلا في زوجها الشهيد، فلحقت به تواسيه وتعزيه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث تم التفهم والاتفاق بين هذين الزوجين، فأنبأت «لويز» زوجها بأنها تحبه؛ لأنها سمعت ما قال عند «موريس»، وأن حبها إياه لا يعرف حدًّا، فهي مستعدة لأن تتلقى مرض السرطان، مستعدة لأن تتلقى شرًّا من هذا المرض، لا تريد من ذلك إلا أن تشعر بأن زوجها يحبها.

وقد نسينا الفتاة البريئة التي نجت من السل فوقعت في السرطان، تقدم هذه الفتاة فتنبئ الطبيب في لطف ورفق بأنها تعلم ما أصابها، وأنها سعيدة به، وأنها لا تأسف على شيء؛ لأنها كانت قد وهبت نفسها للخير، كانت تريد أن تعطي حياتها قليلًا قليلًا للبائسين، فستعطي حياتها للبائسين دفعة واحدة لا أقساطًا، فهي لم تخسر شيئًا، ولعلها ربحت شيئًا كثيرًا، وهي سعيدة بالموت؛ لأنه سلمها إلى السماء.

وتنتهي القصة وهؤلاء الأبطال الثلاثة قد وصل كل واحد منهم إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه البطل، فأما الطبيب فقدم نفسه ضحية للعلم، والضمير، والعدل راضيًا مختارًا، وأما الفتاة فقدمت نفسها ضحية للإنسانية راضية مذعنة لحكم القضاء، وكل ما بينها وبين الطبيب من الفرق هو أنها تثق بعدل الله في الحياة الآخرة، وأن الطبيب يحاول أن يثق بهذا العدل، أو إن شئت فقل: يؤمن قلبه بهذا العدل، ويضطرب عقله في ذلك. وأما «لويز» فقد نسيت حريتها، وميولها، وأهواءها، وعواطفها، وحبها، وقدمت نفسها ضحية للواجب، وللواجب وحده، تتمنى أن يكون نصيبها كنصيب زوجها، وكنصيب هذه الفتاة البائسة، تتمنى لو تموت في سبيل الحب، وفي سبيل الواجب.

فأنت ترى إلى هؤلاء الأشخاص كيف أحسن الكاتب تصويرهم، وكيف بلغ بكل واحد منهم إلى أقصى مداه، ولكنك تستطيع أن تسأل عن «موريس»، هذا النابغة في علم النفس ما قيمته، وما خطره في القصة؟ ليس له قيمة ولا خطر، وإنما هو وسيلة اتخذها الكاتب ليظهر أبطاله، فلولا «موريس» لما تكلمت «لويز»، ولما تكلم زوجها الطبيب، فهو إذن اختراع تمثيلي لا أكثر ولا أقل.

ولقد كنت أحب أن أظهرك بعد هذا التحليل الموجز على ما في القصة من جمال اللفظ، وحسن الأسلوب، ودقة الحوار، ولكن أين السبيل إلى ذلك والقصة مكتوبة بالفرنسية، وإظهار هذا الجمال كله يحتاج إلى ترجمة دقيقة طويلة، يضيق عنها وقتك ووقتي، وصحيفة السياسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤