أنا قاتلة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ليوبولد مارشان»

مُثلت هذه القصة في باريس منذ ثلاثة أشهر، فأجمع النقاد على الإعجاب بها، ولكنهم على ذلك وقفوا منها مواقف مختلفة: فمنهم من أُعجب إعجابًا مطلقًا، ومنهم من احتاج إلى شيء من التحفظ يختلف قلة وكثرة باختلاف حظه من المحافظة، والميل إلى التجديد في مناهج الفن التمثيلي.

والحق أن القصة تدعو إلى شيء من التردد في وضعها، وتصورها، وانسياق فصولها، ومناظرها، فموضوعها في ظاهر الأمر عادي تافه لا يكاد الناس يلتفتون إليه إلا أن يضطروا إلى ذلك، فإن فعلوا فما أسرع ما ينصرفون عنه؛ لأنه من هذه الموضوعات التي تطرق آذانهم في كل يوم، وتغدو بها الصحف وتروح، والتي أثارث أول الأمر شيئًا من السخط، ثم لم تلبث أن ألِفها الناس واطمأنوا إليها، فالعناية بموضوع كهذا وعرضه في ملاعب التمثيل خليقة أن تضطر الناقد إلى شيء من التردد، ثم وضع القصة نفسه لا يخلو من بعض الغرابة، فقد تعود الكتَّاب الممثلون أن يسيروا بالنظارة والقراء سيرًا هادئًا منطقيًّا حتى ينتهوا بهم إبَّان القصة أو آخرها إلى ما يثير في نفوسهم العواطف الحادة إن كانوا يريدون إلى إثارة هذه العواطف. أما كاتبنا فقد خالف هذا المنهج مخالفة تامة؛ فبدأ بما يثير العواطف، ويهز النفس هزًّا عنيفًا في الفصل الأول، ثم مضى بقصته في تؤدة وهدوء ولين حتى انتهى بها إلى آخرها، ثم إن القصة في حقيقة الأمر توشك أن تكون قصتين، أو هي بالفعل قصتان، تبدأ أولاهما في الفصل الأول، وتنتهي إبان الفصل الثاني، ثم تبدأ الأخرى وتنتهي آخر الفصل الثالث. ومن الممكن جدًّا فصل هاتين القصتين، ولكن هذا الفصل يفسد إحدى القصتين وهي الأولى؛ لأنه يردها إلى شيء تافه لا قيمة له، ولا خطر، ويسيء إلى القصة الثانية؛ لأنه يردها إلى حوار مجرد، وإلى ضرب من الفلسفة لا عمل فيه ولا حركة، ومهما يكن من شيء فاقتران هاتين القصتين وإن كان في حقيقة الأمر مصدر جمال — كما سترى — خليق بأن يفاجأ النقاد والنظارة، ويضطرهم إلى شيء من التردد قبل الحكم للكاتب أو عليه.

تجد هذه الملاحظات كلها وملاحظات أخرى فيما كتب النقاد عن هذه القصة إثر تمثيلها لأول مرة، ولكنك تجد في الوقت نفسه إلى هذه الملاحظات — كما قلت لك — إعجابًا شديدًا لم يتردد النقاد جميعًا في إعلانه، بل لم يتردد بعضهم في أن يغرق فيه، ذلك أن القصة خليقة بالإعجاب، وليس يغض منها أن موضوعها مألوف، بل ليس يغض منها أن يكون هذا الموضوع تافهًا مبتذَلًا إذا استطاع الكاتب أن يستغل هذا الموضوع التافه المبتذل، فيرفعه رغم تفاهته وابتذاله إلى حيث يجعله مصدرًا للعظة والعبرة، والتأثر والتفكير.

وقد استطاع الكاتب — كما سترى — أن يصل بموضوعه التافه المبتذل إلى هذه المنزلة، وليس يكفي أن يكون الموضوع تافهًا مبتذلًا ليزدريه الفن، ويُعرض عنه، وإنما يخيل إلينا أن من مزايا الفن الصحيح أن يمس بعصاه السحرية هذه الشئون التافهة المبتذلة، فيرفعها ويجعلها مصدرًا للفائدة العقلية أو الشعورية أو للفائدتين معًا، ذلك أن هذه الشئون التافهة إنما هي مظاهر لحياة الناس، وليس في حياة الناس شيء وإن صغر يحسن أن يُطرح ويزدرى لأنه صغير.

ثم ليس يغض من هذه القصة أن يكون الكاتب قد بدأ من حيث ينتهي الكتاب الممثلون، فأثار العواصف في أول قصته، وقد تعود الكتاب أن يهيئوا في أول القصة لهذه العواصف وألا يثيروها إلا إبان القصة، فما الذي يمنع هذا الكاتب أن يجدد ويخالف هذا المألوف الذي لم يحتمه على الناس إلا العادة، والذي ليس من التقديس بحيث لا ينبغي الانصراف عنه، وأمر العواصف النفسية كأمر العواصف الطبيعية الخارجية، لها الأسباب المهيئة التي تستتبعها وتثيرها، ثم لها النتائج التي تنشأ عنها بعد هدوئها، وكما أن العالم الطبيعي من الحق عليه أن يدرس العواصف قبل أن تثور ليعرف كيف تثور، وأن يدرسها بعد أن تثور؛ ليتبين ما ينشأ عنها من النتائج والآثار، فمن الحق على من يريد أن يتعرف النفس الإنسانية أن يدرس عواصفها وعواطفها قبل أن تثور كما تعود الكتاب الممثلون أن يفعلوا، وبعد أن تثور كما فعل كاتبنا هذا في هذه القصة.

ثم ليس يغض من القصة أيضًا أن تتألف من قصتين ما دامت هناك سبيل إلى تحقيق الوحدة بين هاتين القصتين، بل إلى استخلاص إحداهما من الأخرى بحيث تستطيعان أن تكونا قصة واحدة.

وسبيل هذه الوحدة من قصتنا هذه واضحة بيِّنة، فهذه المرأة التي تقترف الإثم، ثم تتأثر بنتائجه بعد اقترافه شخص واحد لا شخصان، ولو أنك درست حياة أي شخص من الأشخاص لاستطعت أن تجمعها، فتؤلف منها قصة واحدة؛ لأن حياة الأفراد والجماعات متصل بعضها ببعض، ناشئ بعضها عن بعض، فالوحدة هنا هي الأصل، والتفريق يُصطنع اصطناعًا، ويُتكلَّف تكلفًا على أنه وسيلة من الوسائل لتسهيل الدرس، وجعله سائغًا ميسورًا.

إذن فيخيل إلي أن هذه الملاحظات التي أخذ بها الكاتب لا تثبت أمام التفكير والتحقيق، وإنما ينبغي أن يُنظر إلى القصة من حيث هي لنعرف هل وُفق الكاتب في تصورها، وفي عرضها، وفي استخلاص ما استخلص منها من النتائج والآثار؟ ويخيل إليَّ أنه قد وُفق إلى ذلك توفيقًا حسنًا لا بأس به.

ولعل تلخيص القصة أوضح سبيل إلى إثبات ما لكاتبنا من الحظ في هذا التوفيق: «موضوع القصة يسير سهل، ولكن يسره وسهولته لا يمنعانه أن يكون مثارًا لكثير من الشكوك والخواطر يحسن أن يقف عندها المفكر الباحث: امرأة خانها خليلها، وأسرف في خيانتها، فتجدُّ ما استطاعت في أن تترضاه، وتستأنف الحظوة عنده، ولكنها لا تفلح فتفسد عليها الغيرة أمرها، وتملك عليها عقلها وشعورها، فتقترف إثم القتل، ويعرف لها المحلفون هذا الضعف الذي اضطرها إليه الغيرة الحادة، فيعفونها من التبعة، ويبرئونها. وهي سعيدة بهذه التبرئة أول الأمر؛ لأنها أفلتت من الموت، وأفلتت من السجن، واستأنفت حظها من الاستمتاع بالحياة، وما فيها من هواء وضوء، وحرية وحركة وعمل، ولكنها إن أفلتت من المحلفين ومن القانون الاجتماعي فلن تفلت من قانون آخر داخلي نفسي هو قانون الذكرى، وما يسمونه تأنيب الضمير، فهي معذبة ترى نفسها آثمة، ولا تستطيع أن تطمئن إلى هذا الإثم، وهي تحاول أن تحيا، وأن تلذ، ولكن هذا الإثم ينغص عليها الحياة، ويكدر عليها صفو اللذة، فأنت ترى أن هذه المرأة كما تصوَّرها الكاتب، وكما عرضها خليقة بالبحث والدرس، وأن هذه الأطوار المختلفة التي تتعاقب على نفسها قبل العاصفة وبعدها خليقة أن يقف عندها علماء النفس. ومن حول هذه المرأة أشخاص آخرون يختلفون فيما بينهم، ولكن كثرتهم تثير العناية، وهي خليقة بهذه العناية، من هؤلاء الأشخاص هذا الخليل الخائن الذي ذهب ضحية الخيانة والغيرة، وهذا الزوج الطائش الذي يعترف أنه مصدر ما تورطت فيه امرأته من إثم، وهذا المحامي الذي يحب مُتهمته، ويجتهد في أن يظفر بالمكانة في قلبها، ولكنه لا يستطيع إلا أن يلاحظ بأن بين ما يطلب وبين ما تستطيع هذه المرأة أن تعطيه أمرًا بعيدًا، ذلك إلى أشخاص آخرين ليس لهم من الشأن ما لهؤلاء الأشخاص الذي ذكرت لك.»

الحق أن القصة قيمة ممتعة للقارئ، ولكني أشك في أنها تستطيع أن تعجب الجمهور، وتستهويه في غير تحفظ ولا تردد، فجمهور النظارة كثير الطمع، قليل الرضا، وهو شديدة الميل إلى كثرة الحركة والعمل، سريع السأم والملل أمام هذا النحو من الحوار الفلسفي الدقيق الطويل، وأكبر ظني أن الفصل الأول من هذه القصة — وهو الفصل الذي لا أحبه كثيرًا — قد أعجب الجمهور وراقه؛ لأنه سريع حادٌّ، كثير الحركة، كثير الأشخاص فيه ذهاب وإياب، وفيه بنوع خاص إطلاق الرصاص وسفك الدم، وحضور الشرطة، والقبض على الجانية، وكل هذه أشياء تحب الجماهير أن تراها في الملاعب، فأما الفصلان الآخران فما أحسب أن الجمهور احتملهما إلا على مشقة وجهد.

•••

نحن في فندق من فنادق نيس الكبرى، في غرفة المترفين، وهذه الغرفة تظل خالية حينًا، ثم يقبل إليها اثنان: أحدهما رجل فرنسي أقرب إلى الشباب منه إلى الكهولة، شريف غني هو فرانسوا دي لارسان، والأخرى امرأة أمريكية نجمة من نجوم السينما — كما يقولون — جميلة بارعة الجمال فتانة الشكل واللفظ غريبة الأطوار، ولا يكاد هذان الشخصان يتحدثان حتى نحسن أن بينهما حبًّا ناشئًا، ولكنه حادٌّ عنيف قد صرف كلًّا منهما عن كل شيء إلا عن صاحبه، وهما يتراضيان ويتغاضبان، بينهما جد ومزاح، وقد اتفقا أو كادا على أن يسافرا معًا من فرنسا إلى حيث تلعب هذه المرأة في بلد أجنبي، وهما في جدهما وهزلهما وإذا التليفون يدق، فتنصرف إليه المرأة ثم تنبئ صاحبها بأن زائرًا قد أقبل يلتمسه، وهي كارهة لهذا الزائر وهو له أشد كرهًا.

وقد خلا الرجل حينًا، وطرق عليه الباب فأذن فتدخل عليه امرأة هي إيليز كولريه، وهي صديقة قديمة له ولأسرته، أنكر مكانها، ثم تحدثا فنفهم أنها قد أقبلت تشفع عنده في خليلته بول فالير، ونفهم أن المودة اتصلت بين هذا الرجل وبين خليلته هذه منذ سنتين، واتصلت بفضل هذه الزائرة، ولأن هذه المرأة لم تكن سعيدة مع زوجها اللعوب، وإذ كان للحب كغيره مما يتصل بالناس آجال كآجال الناس فقد انقضى أجل هذا الحب سريعًا في نفس هذا الرجل، فأخذ يخون خليلته، ويسرف في خيانتها، وأخذت هي تصبر على ذلك وتحتمله، وربما أنكرته على صاحبها في شدة وعنف أحيانًا حتى ضاق بها فترك لها باريس، ولقي هذه الأميركية فشغف بها، وهو يريد أن يترك فرنسا كلها، وزائرته تستعطفه وتترضاه، ولكنه لا يريد عطفًا ولا رضاء، والحوار بينهما طويل، فيه لين، وفيه عنف، ولكنه غير مُجْدٍ.

وهما كذلك وإذا الباب يُطرق، وإذا خليلته بول تدخل في هيئة المضطرب المولَّه، الذي أنفق أيامًا وليالي لم ينم إلا غرارًا، وقضى في القطار يومًا وبعض يوم، فهو متعب مكدور، وهو أشعث أغبر، سيئ الحال، وهو إلى هذا كله ضائع الرشد، أو كضائع الرشد، فإذا أقبلت خلت إلى صاحبها فيكون بينهما حوار قصير، ولكن فيه استعطافًا وإباء، وترضيًا وزجرًا، ثم فيه بعد ذلك غيظ وحنق، ثم نذير ثم إباء، ثم إطلاق الرصاص، ثم ما يتبعه من إسراع الخدم، ودعوة الشرطة، والقبض على هذه المرأة مولهة ذاهلة، فقد فقدت الصواب أو كادت تفقده.

وأنا أعفيك من وصف هؤلاء الأشخاص الكثيرين الذين نراهم يضطربون طوال هذا الفصل على أن في هذا الوصف شيئًا غير قليل من النفع، فهو يصور أخلاق الخدم، وأخلاق أصحاب الفنادق، وأخلاق الشرطة تصويرًا لا يخلو من فكاهة وعبرة.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في باريس في دار بول، وقد مضى على ما قدمت لك تسعة أشهر، وكانت مرافعات حادة، وعناية من الصحف شديدة بهذه القصة، ثم براءة المتهمة.

ونحن نرى خادمها العجوز وصديقتها التي مر ذكرها تنتظرانها، وقد هيأتا دارها لاستقبالها، وهي واصلة بعد دقائق من نيس، وهما تتحدثان عن حالها قبل الإثم، وعما عسى أن تكون قد احتملت في السجن في أثناء المحاكمة، وعما ينتظرها من الألم بعد ذلك، ويخيل إلينا ونحن نقرأ هذا الحوار أن هاتين المرأتين لا تجدان ما تتحدثان فيه، أو أن الكاتب نفسه لا يجد ما يطلق به لسانهما.

وهذا شخص ثالث قد أقبل هو زوج بول، فلعله يبعث في هذا الحوار شيئًا من الحركة والحياة، ولكنه دون ذلك، فلا يكاد يدخل حتى تدهش الصديقة لمكانه، وحتى نعلم أنه كان شهمًا أمام القضاء حين أدى شهادته، فقد اعترف بأنه المسئول عما اقترفت زوجه من إثم؛ لأنه أهملها وخانها، وأسرف في الانصراف عنها، ولكنا نراه بعد ذك سخيفًا فارغ القلب، معقود اللسان، لا يدري كيف يقول، وقد أقبل يريد أن يلقى زوجه بعد هذه المحنة لا لأنه يحبها أو يعطف عليها عطفًا صادقًا، بل هو نوع من المجاملة، ونوع من الغرور أيضًا، وهو يتحدث إلى صديقة امرأته بأنه لم يُخلق لزوجه، ولم تُخلق زوجه له، وإنما هو رجل صاحب دعابة ولهوٍ ينفق ليله في الحانات، ونهاره في العمل، وهو ضيق الصدر لأن امرأته لا تصل، وقد واعد صاحبة له، فهو يشفق أن يفوته الموعد.

ولكن امرأته قد أقبلت، فليلقاها زوجها، وتلقاها صديقتها في شيء من الاضطراب والتردد، ونحسُّ نحن التناقض بين هؤلاء الناس جميعًا، فأما الآثمة ففرحة مبتهجة؛ أليست قد برئت فأمنت الموت، وأفلتت من السجن، واسترددت الحرية! وأما زوجها وصديقتها فينكران فيما بينهما وبين أنفسهما هذا الابتهاج، لا يفهمانه وهما يحسان شيئًا من خيبة الأمل، فقد كانا ينتظران أن يرياها مضطربة محزونة؛ ليعزياها، ويثبتا من جأشها، فلما أقبلت عليهما فرحة مسرورة أفلسا، ولم يعرفا كيف يقولان، وتنصرف صديقتها على أن تلقاها من الغد بعد أن تفهمنا أن لن تكون الصلة بينها وبين صاحبتها كما كانت من قبل؛ لأن الأوضاع الاجتماعية لا تسمح بذلك، وتخلو المرأة إلى زوجها حينًا، فإذا كل سبب للحديث بينهما منقطع، ولكن الزوج قد استطاع على كل حال أن يُفهم امرأته أنه ينكر بعض الشيء ما هي فيه من فرح وابتهاج بالحرية، فتحسُّ هي أن الفرق عظيم بين ما يقتضيه الشعور الطبيعي وما تقتضيه الأوضاع الاجتماعية، فهي فيما بينها وبين نفسها سعيدة مغتبطة بحريتها، ولكن الأوضاع الاجتماعية تريدها على أن تقتصد في إظهار هذا الفرح، وعلى أن تصطنع لنفسها وجهًا يظهر عليه الحزن والضعف والكآبة.

وقد انصرف زوجها، وخلت إلى نفسها وإلى خادمها، وهنا تبدأ القصة الثانية.

خلت في حقيقة الأمر إلى نفسها وإلى خادمها؟ إنها تنظر من حولها فترى البيت كما تركته منذ أشهر لتلحق بصاحبها في نيس، لم يتغير فيه شيء، وتسمع من حولها فلا يصل إلى أذنها شيء، وإنما هو هذا الصدى الذي يضطرب في الأذن إذا سكن من حولك كل شيء، وتعكف على نفسها فترى أنها مملوءة بهذه الذكرى التي لم تفارقها بعد، وهي خائفة وجلة تدعو خادمها، ثم لا تستطيع أن تتحدث إليها بما تجد، فتتحدث إليها بأي شيء، وكلما همت الخادم أن تنصرف أمسكتها؛ لأنها تفزع من الخلوة إلى نفسها، ثم تتشجع شيئًا فشيئًا، فتطلب إلى الخادم أن تقضي الليل قريبًا منها لأنها خائفة.

وقد أخذت الكلفة تزول بينها وبين خادمها، وأخذت هذه العجوز تغريها وتهدئ من روعها، وتنصح لها بترك باريس، والاضطراب يشتد من حين إلى حين، والهلع يغمر نفسها شيئًا فشيئًا، وإذا هي تتمثل خليلها، ثم لا تلبث أن تنسى كل شيء، ويخيل إليها أنها تنتظره كما كانت تفعل من قبل، وهي تمد أذنها لتسمع دق الجرس الذي كانت تسمعه في مثل هذا الساعة، وهي تسمع دق الجرس بالفعل، وهي تنكر ذلك! ولكن الجرس يدق ويدق، وقد سمعته الخادم كما سمعته سيدتها، فتمر بالمرأة لحظة ذهول لا تلبث أن تزول؛ لأن الخادم قد فتحت الباب، وأدخلت عليها سرج إيتيه محاميها.

تستقبله مطمئنة إليه، مبتهجة بمقدمه، فقد كان رفيقًا بها في أثناء المحنة، ناصحًا لها، محسنًا إليها، وزيارته هذه تنقذها مما كانت فيه من الهلع، وقد أخذا يتحدثان، فنحس أن بينهما صلة لا تخلو من غرابة، أما هي فواثقة به، مطمئة إليه، تريد أن تتخذه مشيرًا ومرشدًا، وأما هو فمشفق عليها، رفيق بها، يحسن التعزية والتسلية، ولكن صوته ينمُّ عن شيء آخر غير هذا، وما هي إلا أن يتصل الحديث قليلًا، فنتبين أنه يحبها، وهي فزعة من هذا الحب، آسفة له، فقد كان يُخيل إليها أنها وجدت في هذا الرجل صديقًا مخلصًا، فإذا هي تجد فيه عاشقًا ملحًّا، وهي تطلب إليه أن ينصرف وهو يأبى ويستعطف، وهي تتحدث إليه في صراحة بأنها لم تبقَ صالحة للحب، وبأن قلبها مملوءة بأشياء أخرى، ولكنه واثق بأن الزمن سيحدث آثاره، وسيلقي بينها وبين هذه الذكرى من النسيان ستارًا كثيفًا، وهي تأبى وتلحُّ في الإباء، وتعلن أن حب الرجال غرور ينتهي آخر الأمر إلى ألفاظ جوفاء لا تدل على شيء، وهو يسرف في هذه الألفاظ التي يملأها الحنان والحب، فتجيبه على كل جملة من هذه الجمل بقولها: هذا كلام، كلام، ولكنه يمضي في هذا الكلام، أو قل يستحيل شخصه إلى كلام قد أخذ على هذه المرأة السبيل من كل وجه، فهي ما تكاد تنطق بكلمة حتى يغمرها هو بموج متراكب من القول تضطرم فيه نار الحب اضطرامًا، ويسدل دونهما الستار، وقد أحسسنا أن الفوز سيكون له.

•••

ويدركنا الفصل الثالث في قرية من قرى الساحل في بريطانيا الفرنسية آخر الصيف في فندق هناك، قد انصرف عنه أكثر المصطافين، ولم يبقَ فيه إلا القليل من المتخلفين، ومن بينهم صاحبتنا هذه ومحاميها، وقد مضى على ما قدمنا في الفصل الثاني عام وبعض عام، وقد قبلت حبه ومنحته ما كانت تستطيع أن تمنحه من ود وإيثار، ولكننا نحسن منذ أول الفصل بأن الأمر لا يطرد بينهما على وتيرة واحدة، نراها أول الفصل في غرفة الاستقبال تكتب، وقد أقبلت عليها امرأة تقيم معها في الفندق هي مدام ترانسون، فتتحدث إليها في شئون كثيرة، ولكننا نفهم من حديثهما أن في الفندق امرأة شابة جميلة خلابة، قد فارقت زوجها، وهي تعبث مع كل من تلقاه، ومع المحامي هذا بنوع خاص، ولكن بول تلقى هذا كله بشيء من الإغضاء والإذعان والفلسفة، ونفهم أيضًا أن هذا المحامي الذي يعرف الناس أنه زوجها قد ذهب مع هذه المرأة اللعوب إلى مدينة قريبة؛ لأن هذه المرأة تريد أن تشتري ما تحتاج إليه، فآثر أن يحملها في سيارته.

وما هي إلا لحظات حتى تأتي هذه المرأة اللعوب أنيت هوسلين، فنفهم من حديثها أنها قد ذهبت إلى المدينة واشترت ما كانت تحتاج إليه، وأنها تشكو سرعة سرج في سوق سيارته. ثم يأتي سرج، وما هي إلا أن يخلو إلى زوجه أو إلى صاحبته فيتحدثا، فنحس أنه ضيق بالحياة، وبالإقامة في هذه القرية، وأنه يود لو استطاع أن يعود إلى باريس، وأن يغير برنامج الرحلة الذي كان يقتضي إطالة الغيبة عن العاصمة، وهو يظهر لامرأته حبًّا شديدًا، وهي تظهر له حبًّا فيه مودة وبر، ولكنه خالٍ من العواطف الحادة، والأمر بينهما واضح السوء، فهو يطلب إليها حبًّا حادًّا عنيفًا فيه نسيان لكل شيء، وإنكار لكل شيء، وهي لا تستطيع أن تعطيه إلا مودة وإخلاصًا، وهو يحس أنها لم تنسَ صاحبها الأول، ويجد في ذلك ألمًا ومضضًا، ولكنهما لا يتحدثان في هذا كله إلا على شيء من الرفق والتعمية، وقد استقر رأيهما أو كاد على العودة إلى باريس، ولكنه يعرض عليها أن يصطحبا في السيارة هذه المرأة اللعوب، فتُظهر شيئًا من التردد الرقيق، وهذه مدام ترانسون قد عادت مع زوجها، وهما يطلبان إلى الزوجين الآخرين أن يجلسا إلى مائدة اللعب، وبينما بول تهيئ الورق للعب ينظر ترانسون في صحيفة من الصحف فيقرأ أن امرأة أحست الخيانة من خليلها فقتلته، فيعلن ذلك ساخطًا على هذه المرأة؛ لأنها استباحت لنفسها قتل خليلها، لا لشيء إلا لأنه خانها، وامرأته تترافع عن هذه المرأة، ويشتد الحوار بين الزوجين في هذه المسألة: هل يبيح الحب لأحد العاشقين أن يقتل صاحبه إذا تورط في الخيانة؟ يشتد الحوار وإذا هما يحتكمان إلى الزوجين الآخرين، فأما الزوج فيتنحى، وأما امرأته فتحاول أن تتنحى، ولكنها لا تملك نفسها، وإذا هي تجهش بالبكاء، وتعلن أن ليس لامرأة أن تقتل صاحبها لأنه خانها، ويضطرب زوجها أمام هذا البكاء، ويعلن إلى صاحبيه معتذرًا عنه أن قد كان شيء من ذلك في أسرة امرأته؛ فهي متأثرة بالذكرى، وينصرف الزوجان هذان، ويخلو سرج إلى امرأته، وقد صرح بينهما الشر أو كاد، فهي تبكي وتعلن بهذا البكاء أنها ما زالت نادمة على ما اقترفت من إثم، ومعنى ذلك أنها ما زالت تذكر صاحبها، ومعنى ذلك أنها مازالت تحبه، ومعنى ذلك أيضًا أنها لا تمنح صاحبها الجديد إلا شيئًا لا يرضيه.

وهي تستعطفه وتترضاه، ولكنه يجيبها في شيء من الحب والغضب معًا، فهو رفيق بها محنق عليها، ويتصل بينهما هذا الحوار المؤلم في غير فائدة ولا جدوى، فهو محب غير موفق، وهي صديقة غير موفقة، ولكنها تتركه لبعض شأنها، فيطلب إليها أن تحمل إليه منديلًا إذا عادت؛ لأنه ذهب مع صاحبته تلك أنيت إلى بعض القهوات، فاستعارت منه منديله تمسح به فمها، فملأته بما على شفتيها من صبغة، فلم يستطع أن يحتفظ به وتركه لها، وتقبل امرأته هذا العذر على علاته وتنصرف.

ولا يكاد يخلو الرجل إلى نفسه حتى تقبل أنيت، وترفع إليه بطاقة فيها عنوانها في باريس، فيتقبلها في إهمال، ويلقيها في جيبه إلقاء، وتنكر المرأة منه هذا الإهمال وتعاتبه: ألم يكن منذ حين مفتونًا بها، يقبلها ويسرف في تقبيلها، ويلح عليها في أن تعطيه عنوانها! فما باله الآن يتقبل هذا العنوان في إهمال وازدراء!

وهذه المرأة لا تملك نفسها أن تبكي غيظًا وحنقًا، وكأنها تحب هذا الرجل، وكأنها محزونة؛ لأنها تحس منه العبث بها، والرغبة في اللهو ليس غير.

ولكن الرجل مضطرب، متردد بين عاطفتين عنيفتين: فهو يحب بول، ويحس أنها لا تجزيه من هذا الحب إلا مودة هادئة فيها ثقة كثيرة أكثر مما ينبغي، وليست فيها حدة ولا غيرة. وهو يشتهي هذه المرأة الشابة، ويحب منها بنوع خاص أنها جديدة لا تملأ قلبها الذكرى؛ لأنها لم تحب أحدًا، ولأنها شابة فيها مرح الشباب. ولم لا يضطرب؟ ولم لا يميل إلى هذه المرأة؟ أليس يراها الآن تبكي أمامه حبًّا ووجدًا بعد أن رأى تلك هادئة مطمئنة، لا تتهمه، ولا تسيء الظن به، مع أنه لم يقصر في إتيان ما من شأنه أن يثير الريبة وسوء الظن. وانظر إليه قد نهض متثاقلًا إلى هذه المرأة الشابة، فأخذ يهدئ من روعها، وأخذ يدها ورفعها إلى شفتيه فهو يقبلها، ولكن امرأته تقبل فيترك صاحبته، وتنصرف صاحبته أيضًا، ولكن في شيء من الاضطراب والحدة لا يخفى على بول.

وإذا هي محزونة تعلن إلى صاحبها أنها تشفق عليه من هذا الاضطراب بين امرأتين، وتؤثر أن تقطع الصلة بينه وبين هذه المرأة، فيجيبها في شيء من الاحتياط أول الأمر، ثم تثور ثائرته، فيسألها: ماذا تفعل لو عرفت أنه يعبث مع هذه المرأة ويلهو بها؟ وأنه لم يذهب معها إلى المدينة منذ حين، وإنما ذهب بها إلى حيث يلهوان؟ وأنه لم يعرها منديله منذ حين، وإنما أسرف في تقبيلها ومسح بهذا المنديل شفتيه هو لا شفتيها هي؟ وأنه طلب إليها عنوانها في باريس ليستأنف لقاءها هناك؟

وأنت تقدر موقع هذه الجمل على نفس هذه المرأة البائسة التعسة. فأما صاحبها، فقد كان يقرر أو يود أنها ستأخذها غيرة حادة كتلك التي دفعتها إلى القتل فيستوثق من حبها. ولكن هذه الجمل تقع من نفس المرأة موقعًا مؤلمًا، لا لأنها تثير فيها الغيرة، ولا لأنها تدفعها إلى القتل، بل لأنها تقيم البرهان الذي لا يقبل الشك على أنها لم تعد صالحة للحب؛ لأن ذكرى صاحبها الأول قد ملأت نفسها، وملكت عليها أمرها، فهي لا تستطيع أن تحب، ولا تتبع الغيرة، ولا أن تطمئن إلى الحياة. لقد برأها القضاء منذ حين، ولكنها لم تبرئ نفسها فهي قاتلة، نعم هي قاتلة، ويجب أن تحتمل عقوبة هذا الإثم. ولئن أفلتت من العقوبة المادية التي تفرضها الجماعة ونظمها، فلم تفلت ولن تستطيع أن تفلت من هذه العقوبة المعنوية التي يفرضها على النفس قانون الندم والذكرى. ألم تحاول أن تلتمس رجلًا تطمئن إليه، وتعتمد عليه، وتثق به، وتنسى معه كل هذه الآلام والشدائد، فحال بينها وبين هذا الرجل ما يملأ قلبها من ذكرى ذلك القتيل، ومن الندم الذي يغمر نفسها للاعتداء عليه.

هي إذن قاتلة، وهي إذن مجرمة، ولا بد لها من أن تلقى عقوبة هذا الإثم، ولن تكون حياتها إلا وقفًا على هذه العقوبة، فستخلو إلى نفسها وستألم فيما بينها وبين نفسها ألمًا لاذعًا ممضًّا لا حدَّ له، ولا عزاء عنه. ألم يهجرها أصحابها وأصدقاؤها، ألم يقم البرهان على أنها عاجزة عن الحب؟ وإذن فلتطمئن إلى ما قدر الله لها من هذا الشقاء المتصل، والندم الذي سيلازمها طول الحياة، وإذن فلترد إلى هذا الرجل حريته ليمضي مع هذه المرأة البريئة حقًّا، لأنها لم تقتل، ولم تسفك دمًا، ولأنها لم تحب ولم تنغص عاشقًا.

وهي شجاعة تستقبل حياتها الأليمة في شيء من الرضا مؤثر، وتعفو لصاحبها عن هذا العبث في شيء من الطمأنينة والصفح غريب من هذه المرأة التي غارت فسفكت الدم منذ حين.

ويُسدل الستار وهما في هذا الحديث دون أن نعرف علام يستقر أمرهما، ولكننا نقدِّر في وضوح أن سيمضي الرجل لاستئناف حياته، وأن ستنصرف هي لاستيعاب ما قُدِّر لها من هذه الكأس المرة، كأس اللوعة والندم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤