شوط القبس

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»

قد يكون هذا العنوان غريبًا، وقد لا يخلو من بعض النفرة، بل قد يكون غامضًا بعض الشيء، ولكن توضيحه يسير، وترجمته صحيحة، ومتى فهمت معناه، وقرأت القصة، أو ألممت بها فقد أحسب أنك تقرُّه ولا تنكره.

كان للأثينيين عيد ديني يحتفلون فيه حفلة، اختلف في تأويلها الفلاسفة والشعراء، كان أعضاء المدينة يصطفون على مسافة بعيدة، ويبدأ أحدهم فيقتبس من النار المقدسة جذوة ينقلها مسرعًا إلى من يليه، ثم ينقلها هذا إلى من بعده، وما تزال الجذوة تنتقل في سرعة من يد إلى يد حتى تبلغ آخر الصف. وقد فسر أفلاطون و«لوكريس» هذه الحفلة الدينية بأنها كانت رمزًا لحياة الأجيال المختلفة من أبناء الإنسان، وعلى هذا التفسير اتخذ صاحب القصة عنوان قصته، فسماها شأو القبس أو نستطيع أن نقول ننقل هذا القبس في سرعة من يد إلى يد، وهو لا يريد بعنوانه ولا بقصته إلا أن يشرح هذه الفكرة التي خطرت لأفلاطون ولوكريس، ويثبتها في وضوح وجلاء، فقصته في الحقيقة فصل من فصول الفلسفة أو درس من الدروس يريد بها أن يخلبك أو يستهويك، أو يؤثر فيك هذا الثأثير المختلف الذي يخرجك من لذة إلى ألم، ومن ألم إلى لذة، ليس يريد أن يذيقك لذة الانفعال حسنًا كان أم سيئًا، وإنما يريد شيئًا آخر، يريد أن يقنعك بقضية من القضايا، ورأي من الآراء، هو إذن لا يتحدث إلى قلبك ولا إلى عاطفتك، وإنما يتحدث إلى عقلك، ولكنه في هذا الحديث إلى عقلك لا يصطنع منطق أرسطاطاليس، ولا يتكلف ضروب القياس والاستقراء، وإنما يسلك سبيل العاطفة ليصل إلى إقناع العقل، أو هو يعدل عن المنطق النظري إلى منطق الحياة الواقعة، أو هو يكشف أمامك هذه الحياة الواقعة حتى تلتمس منطقها بيدك، وحتى تقتنع حين تلمس هذا المنطق بأن قضيته صادقة، وأن رأيه صحيح، وهذه القضية في نفسها قيمة نافعة، لو اقتنع الناس بها وأحسنوا التفكير فيها لأعفوا أنفسهم من ضروب من الآلام، وفنون من الغرور، ولكانوا بمأمن من اليأس، وخيبة الأمل في كثير من الأحيان، نعم لو آمن الناس بهذه القضية لقبلوا الحياة كما هي، لا يكبرونها أكثر مما ينبغي، ومن استطاع أن يفهم الحياة كما هي، ويقبلها كما هي فهو الفيلسوف الذي يستطيع أن يريح ويستريح حقًّا، ولكن الناس لن يفهموا الحياة كما هي ولن يقبلوها كما هي، وسيظلون أبدًا يفهمون الحياة كما يحبون أن تكون، وسيظلون لهذا في شقاء ينتقلون من رجاء إلى يأس، ومن فشل إلى خيبة أمل.

•••

بدأ الكاتب قصته كما يبدأ الخطيب خطبته، أو كما يبدأ العالم فصلًا من فصول العلم، فيضع نظريته موضع البحث، ثم ينفق خطبته أو فصله العلمي في إثبات هذه النظرية، فلنسلك سبيله، ولنشرح نظريته، وهي سهلة سائغة ليس فهمها بالعسير. نظريته هي أن حياة الأجيال الإنسانية ليست إلا سلسلة من التضحية المتصلة غير المنقطعة، يضحي كل جيل من أجيال الناس بنفسه وحياته وقوته وآماله في سبيل الجيل الذي يليه، دون أن يجد من هذا الجيل شكرًا، أو ينال منه جزاءً، كما أنه لم يقدم إلى الجيل الذي سبقه شكرًا، ولم يعوض عليه جزاء حياة الأجيال الإنسانية، إذن هي كأمر هؤلاء اللأثينيين يوم كانوا يحتفلون بعيدهم المقدس، فلا يزيد أحدهم على أن ينقل الجذوة من يده إلى يد من يليه مكتفيًا بعد ذلك بأن ينظر إلى هذه الجذوة تسرع في انتقالها من يد إلى يد دون أن يستطيع شيئًا أكثر من أن يصل بها عينه، مشفقًا عليها أن تخمد أو تسقط بين الذين يتناقلونها. نحن إذن حملة هذه الجذوة التي هي الحياة ورثناها عن الجيل الذي سبقنا، ونورثها الجيل الذي يلينا، لا عمل لنا في الحياة إلا هذا، ولا أمل لنا في الحياة إلا هذا، نحن ننظر أمامنا أبدًا دون أن ننظر وراءنا في يوم من الأيام، نحن آباء بررة، ولكننا في الوقت نفسه أبناء عاقون، نقف برنا على أبنائنا، ولا يظفر آباؤنا منا إلا بالعقوق والتقصير.

تجد هذه النظرية منك معارضة قوية؛ لأنها تخالف ما ألفت من جهة، وتخالف ما تريد من جهة أخرى، ولأنها فوق كل شيء تصدمك بإظهار ما فيك من نقص، فأنت تكره أن تكون عاقًّا، وتريد أن تكون وفيًّا برًّا، وأنت أثر تحب نفسك، وتريد أن يشعر ابنك بأنه مدين لك بالحياة، تخدع نفسك، فتعتقد أنك برٌّ بأبيك وأمك، وتضلل نفسك فتريد أن يكون ابنك برًّا بك ووفيًّا لك. تجد هذه النظرية منك معارضة قوية، ولكنها في الحق صحيحة صادقة، فمهما تعارض، ومهما تنكر فلن تستطيع أن تجحد شيئًا واقعًا، وهو أنك تحب ابنك أكثر مما تحب أباك، وأنك تستطيع بل تلزم نفسك — حين تشعر بالحاجة — الفناء لا في سبيل حياة ابنك، بل في سبيل لذته وراحته ليس غير.

والكاتب يأخذك بحجة أخرى لا تخلو من دعابة، ولكنها صحيحة قوية: ما بال الديانات لم تأمرك بأن تحب ابنك، وأن تعطف عليه؟ لأنها ليست في حاجة إلى هذا الأمر، فأنت تحب ابنك وتعطف عليه بحكم الطبيعة، وما بال الديانات تأمرك أن تكون برًّا بأبويك، وتلح عليك في هذا الأمر، وتبسط أمامك من الرجاء ما يرغِّبك في البر بأبويك، وتضع أمامك من النذر ما يخيفك من العقوق؟ لأنك لست برًّا بأبويك بحكم الطبيعة، وإنما البر بالأبوين خُلُق ينبغي أن تتكلَّفَه، وتجدَّ في تحصيله، ومهما تفعل فلن تُوفق منه إلى ما تريد.

الإنسانية إذن — بطبعها كما يقول الكاتب — أمٌّ برَّة وبنت عاقة، وهي تتكلف الخطوب، وتتجشم الأهوال لتصف نفسها بما ليس فيها من فضيلة البر.

ولكني لا أريد أن أغلو في بسط هذه النظرية، فلأنتقل بك إلى مذهب الكاتب في إثباتها، وسترى أن هذا الإثبات على صدقه وصحته لا يخلو من لذة وألم يهزَّان العواطف هزًّا عنيفًا، ويؤثران في النفس تأثيرًا شديدًا.

•••

مدام «فونتيه» عجوز أرملة، فقدت زوجها منذ عهد طويل، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فهي وفية له، مقيمة على عهده، حتى إنها لتقرأ الصحف التي كان يقرَؤُها لها، لا لأنها تحب هذه الصحف أو تُعنى بما فيها، بل لأنها تريد أن تتلمس بعينيها في هذه الأحرف المكتوبة أمامها صوت زوجها العزيز عليها. هي تحب زوجها، وهي غنية قد ترك لها هذا الزوج ثروة لا بأس بها، وترك لها ابنة هي «سابين ريفيل»، وهي امرأة نصف، فيها جمال وسحر، وهي أرملة كأمها، تزوجت من شاب غني، ولكن حظ هذا الشاب كان سيئًا، فنزلت به المحنة بعد المحنة، ثم مات وترك امرأته فقيرة معدمة لولا ثروة أبويها، ولم يتركها وحدها، بل ترك لها ابنة هي «ماري جان»، وهي فتاة جميلة خلابة، حسنة الخلق، قوية النفس، في السابعة عشرة من عمرها، ولكن فيها خلالًا تفوق سنها رغبة في الجد، وقدرة على الاحتمال.

أمامك الآن ثلاثة نساء يمثلن ثلاثة أجيال! أمامك العجوز تحب ابنتها، ولا تحيا إلا لها، وأمامك المرأة الشابة، يخيل إليها أنها لا تفرق بين أمها وبنتها في الحب، ثم أمامك هذه الفتاة لا تفكر في شيء من هذا، وإنما هي أمل ورجاء، هي زهرة تبسم للحياة، وقد بدأت شمس الحياة تشرق عليها، فهي تستجمع كل ما فيها من قوة وشباب لتستمتع بضوء هذه الشمس المشرقة، وهي تحب شابًّا اسمه «ديديه مارافون»، حسن الصورة، قوي الإرادة، مؤمن بقدرته على العمل، وحسن حظه في الحياة، أحبته الفتاة وأحبها، وتعاهدا على الزواج، واختارت الفتاة عيد ميلادها لتُظهِر أمها على هذا الحب، وعلى ما تعقد به من أمل.

فإذا كان الفصل الأول فنحن في بيت هؤلاء النسوة، وهن يحتفلن بعيد هذه الفتاة، وقد دعون إلى هذا الحفل طائفة من أصدقائهن، فيهم رجال وفيهم نساء، فيهم بنوع خاص امرأة مفتونة بجمالها، حريصة على أن تستمتع بحياتها، لا تبخل من لذات الحياة على نفسها بشيء، ولها ابنه شابة تهملها إهمالًا، أو قل إنها تضحي بشبابها في سبيل لذاتها الخاصة. أو قل إنها تنساها نسيانًا تامًّا، حتى إنها لتداعب فتى تحبه ابنتها، ويحب هو هذه الفتاة، وحتى إنها لتكلف ابنتها الشابة أن تصلح من شأنها، وترتب زينتها! وفيهم امرأة أخرى جميلة، ولكنها تضحي بجمالها وحياتها ولذتها وبزوجها وقوته ولذته في سبيل ابنتها الفتاة الجميلة التي استشعرت حب أبويها، فأسرفت في الذل والتحكم حتى إنها لتكلفهما ما يطيقان، وما لا يطيقان، كأنهما لا يعيشان إلا لها. فإذا دخلت «سابين» رأت هذا المنظر العجيب، رأت فتاة قد جثت على الأرض تصلح ثوب أمها، ورأت أمًّا قد جثت على الأرض تصلح زينة ابنتها، فإذا خرج هؤلاء الناس وخلت «سابين» إلى صديق لها هو «مارافون»، تحدثت إليه في أمر هؤلاء وإسرافهن، هذه تضحي بابنتها، وهذه تضحي بأبويها، فيشرح لها صاحبها هذه النظرية التي بسطتها لك في أول هذا الفصل، يزعم أن الأم التي تضحي بابنتها إنما هي استثناء يثبت القاعدة، وأن الفتاة التي تضحي بأبويها إنما هي المثال الصادق للإنسانية العامة، تنكر سابين هذه النظرية إنكارًا شديدًا، ولكن حياتها كلها ستقنعها بأنها كانت مخطئة في هذا الإنكار، ذلك أن «سابين» تحب رجلًا أمريكيًّا غنيًّا عرفها منذ الصبا، تحبه حبًّا جمًّا، ولا تطمع إلا في أن تكون له زوجًا، وهذا الرجل يحبها، وقد ألح عليها في الزواج، ولكنها رفضت دون أن تبين لهذا الرفض سببًا، فإذا كانت هذه الليلة أقبل هذا الرجل الأمريكي واسمه «ستاتجي»، وأعلن إليها أنه مسافر إلى حيث لا يعود، مسافر إلى أمريكا، معتزم أن يجد فيها من العمل ما يجعل العودة عليه أمرًا مستحيلًا. تنكر ذلك وتحاول أن تحمله على العدول عنه، وتنبئه بأنها تحبه، وتطمع في أن تكون زوجه، ولكن شيئًا واحدًا يمنعها من ذلك وهو ابنتها، تريد ألا تتزوج ولا تغير من حياتها شيئًا قبل أن تجد لابنتها زوجًا، فإن ثروتها محدودة، والناس يعلمون من أمرها ما يعلمون، فإذا تزوجت فقد تصبح أمًّا، وقد توجد لابنتها شريكًا في هذه الثروة، فينصرف الناس عن هذه الفتاة لقلة ثروتها، وهي تريد أن تكون ابنتها سعيدة، وأن تجد زوجًا كفؤًا، وهي تأبى أن تكون سعادتها الخاصة عقبة في سبيل هذه الفتاة. يفهم الرجل هذا كله، ويبذل ما يستطيع من قوة ليملأها أمنًا وطمأنينة على مستقبل الفتاة وثروتها، فهو غني ومهما يُرزق من ولد فلن تخشى هذه الفتاة على ثروتها الحاضرة، ولكن «سابين» تأبى وتلح في الإباء حتى ينصرف عنها الرجل، ويمضي إلى حيث لا يعود. فقد بدأت إذن بتضحية سعادتها في سبيل ابنتها، ولا يكاد هذا الرجل ينصرف حتى تقبل الفتاة فتنبئ أمها بحبها، وتطلب منها أن تقر هذا الزواج، تتمنع الأم لأنها لم تستمتع بعد بابنتها، ولأنها تخشى المستقبل، ولكن حب الفتاة أقوى من تمنع الأم، فما أسرع ما تنتصر عليه.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت الفتاة قد تزوجت من صاحبها، وهما يعيشان وحدهما، والفتاة سعيدة كل السعادة، وتفهم من حديثها مع صاحبة لها أن أمها ليست سعيدة، وأنها قد شقيت كل الشقاء حين اعتزم الزوجان أن يسكنا وحدهما، ثم يقبل زوجها كئيبًا كاسف البال، فما تزال به تسليه وتعزيه وهي تجهل ما به، ولا تظن إلا أنه متعب لكثرة العمل، ثم تتركه ويأتي أبوه فيظهر لك أن الفتى سيئ الحظ في عمله، وأنه مشرف على الإفلاس، وأنه قد أخفى هذا كله على زوجه ضنًّا براحتها وأملها في الحياة، ولكنه قد بعث أباه يتوسل إلى أم زوجه وجدتها في أن تقرضاه مقدارًا ضخمًا من المال يصلح به من أمره، فذهب الرجل وقصَّ الأمر على هاتين المرأتين وهما مقبلتان، فينصرف الشيخ ليظهر زوج ابنه على جليَّة الأمر، وتقبل «سابين» فإذا قصَّ عليها صهرها جلية أمره، وأنبأها بأنه لا يستطيع أن يحتمل الإفلاس، ولا أن يعرِّض زوجه لآلام هذا الإفلاس وما يتبعه من الأعمال القضائية، ولا أن يعرضها للفقر والفاقة، وأنه يؤثر الموت على بعض هذا، جزعت الأم وأعلنت إلى صهرها أنها ستعينه، ولكنها عاجزة عن معونته، فهي لا تملك شيئًا، وإنما الثروة كلها ملك العجوز، فستتوسل إلى العجوز إذن في أن تقرضه هذا المال. ينصرف الفتى وتقبل العجوز، وهنا موقف من أشد المواقف تأثيرًا في النفس! تعرض «سابين» الأمر على أمها، وتطلب إليها المعونة، ولكن العجوز تأبى كل الإباء، تأبى لأنها قد عرفت عبث الأصهار بأموال الأحماء، وتذكِّر ابنتها بما كان من أمر زوجها، وأنه أضاع على الأسرة أكثر من نصف مليون فرنك، ولكن «سابين» تلح على أمها، وتبالغ في الإلحاح، ثم تغلظ القول حتى تخرج عن طور الإجلال لأمها، فتشعر بأن هذه المرأة قد أخذت تضحي بأمها في سبيل ابنتها، تلح فلا تزداد العجوز إلا إصرارًا على الرفض، ثم تعلن العجوز إلى ابنتها أنها لن تستطيع أن تنفق شيئًا؛ لأنها عاهدت زوجها وهو يموت على ألا تعرِّض ما بقي من الثروة لخطر قليل أو كثير، ثم تنصرف وتترك ابنتها في شيء من الذهول يشبه اليأس، وتأتي بعد ذلك ماري جان، فإذا عرفت رفض جدتها أخذها شيء من الجزع عظيم، وظلت تتوسل إلى أمها في أن تخلِّص زوجها من هذه الضائقة، وتشعر بأن هذه الفتاة لا تفكر إلا في زوجها، ولا تنظر إلى أمها إلا من حيث هي وسيلة ممكنة لتفريج الكربة عن هذا الزوج، ولكنها لا تشعر بذلك ولا تحسه، فتبالغ فيه حتى تعرض على أمها أن تكتب إلى صاحبها الأمريكي القديم تسأله هذا المال، تثور الأم لهذا العرض وتأباه؛ لأن فيه امتهانًا لكرامتها، ولأنها لا تستطيع أن تكتب إلى هذا الرجل سائلة مستجدية بعد أن أساءت إليه، ورفضت الاقتران به، ولكن ابنتها جزعة والهة، وهي لا تحتمل جزع ابنتها، فما أسرع ما تجيب إلى الكتابة، وفي نفسها مع ذلك شيء من الأمل ضئيل، فهي ترجو أن يعيد كتابها في نفس صاحبها ذكرى الحب القديم، فينجد صهرها من جهة، ويفكر في الزواج من جهة أخرى.

فأنت ترى هذه المرأة تسيء لأول مرة إلى أمها في سبيل ابنتها، ثم تضحي بكرامتها الخاصة في سبيل ابنتها أيضًا، وهي مع ذلك لا تشعر بما تفعل؛ لأنها تفعل شيئًا طبيعيًّا.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد بلغت الأزمة أقصاها، وانتهى الخطب إلى غايته. لم يجب الأمريكي، ولم تغير العجوز رأيها، فأُعلن إفلاس الفتى، وحُجز على ما بقي له من ثروة، ولامرأته من متاع، وهو يعيش مع امرأته في بيت العجوز ترزقهم وتعولهم في غير ضجر ولا مَنٍّ؛ لأنها لا تحب الثروة للثروة، وإنما تريد أن تكون هذه الثروة موئلًا لابنتها وذويها لا ينالها العبث، هي إذن تضحي بصهرها في سبيل ابنتها.

ولكن لهذا الصهر بقية من أمل، فقد يستطيع أن يتفق مع الدائنين، فيسترد شيئًا من شرفه التجاري، وهو في ذلك محتاج إلى مائة ألف فرنك يرضي بها هؤلاء الدائنين، والعجوز وحدها تستطيع أن تقرضه هذا المقدار، ولكن العجوز تأبى بعد خصام عنيف، وكانت الفتاة قد احتملت هذه الخطوب كلها في شجاعة وجلد، واشتركت في جهاد عنيف لتمنع زوجها من الانتحار، فلما رأت جدتها تغلو في الإباء حتى كادت تقضي على كل أمل لزوجها الذي تحبه خانتها القوة، وأعوزها الجلد فأصابها إغماء، ودُعي الطبيب فأنبأ بأنها في خطر، وأن مصدر هذا الخطر اضطراب الأعصاب.

هنا تخرج «سابين» عن طورها، فلا تفكر إلا في شيء واحد هو إنقاذ ابنتها من الموت، وقد ضرب الدائنون للفتى موعدًا ظهر اليوم الذي نحن فيه، ونحن في الساعة العاشرة صباحًا، والفتى يتحدث إلى أبيه ينبئه بهذا كله، ولكنه ينبئه أيضًا بأن الله قد أراد إنقاذ الفتاة من الموت، فقد أقبلت أمها فرحة مبتهجة، وأنبأتهما بأنها قد وجدت المال، وأنها ذاهبة إلى المصرف لقبضه، ثم يأتي الطبيب وينصرف مع الفتى لعيادة المريضة، وتقبل سابين في ذهول يشبه الجنون، فلا يكاد الشيخ يستنبئها حتى تنبئه أنها رأت ابنتها مشرفة على الموت فاقترفت الإثم وارتكبت الجريمة، سرقت أمها وأمها نائمة، سرقت طائفة من الأوراق المالية، وأمضت بقية الليل تقلد إمضاء أمها حتى أجادت التقليد، فلما كان الصباح أنبأت ابنتها بأنها وجدت المال، وذهبت إلى المصرف، فلم يشك أحد في صدقها، ودفع إليها المال فقبضته، ولكنها أرادت أن تمضي الوصل فكتبت اسم أمها مكان اسمها الخاص، وفطن لذلك صاحب المصرف فاسترد المال، ولولا صلة سابقة بينه وبين الأسرة لألقى بها في أعماق السجون، وهي مع ذلك مضطرة إلى أن تكذب على ابنتها، فلو قد أنبأتها بالحق لصعقها النبأ وقضى عليها، ثم يعود الطبيب فينبئ بأن الفتاة ما زالت في خطر، وبأن العناية القوية قد تنقذها، ولا بد من نقلها من باريس إلى جبال الألب لتقضي فيها الصيف، ولا بد من العناية بأعصابها، ولكن الشدة لم تبلغ أقصاها بعد، فالطبيب يعلن إلى سابين أنها إذا وافقت ابنتها فلا بد من أن تترك أمها في باريس؛ لأن أمها تشكو مرض القلب، وهي إذن لا تستطيع أن تعيش في الأماكن المرتفعة.

ينصرف الطبيب وتقبل العجوز، فلا تكاد تعلم بأن ابنتها تريد السفر حتى تعلن أنها سترافقها فيه، تأبى سابين وتلح العجوز، وحجتها ناهضة، فسابين لا تريد أن تفارق ابنتها، وهي أيضًا لا تستطيع أن تفارق ابنتها، فإما أن ترافقها في السفر، وإما أن تبقى معها في باريس، وأن تترك الفتاة تسافر مع زوجها، وهي تفترض ذلك وتنذر بقطع النفقة عنهم جميعًا إذا لم تُجب إليه، ثم تنصرف مغضبة، وتقبل الفتاة ومعها زوجها وفيهما شيء من الأمل يحيي نفس هذه المريضة، ولا يكادون يتحدثون، ولا تكاد الفتاة تشعر بشيء من التردد في صوت أمها حتى يعاودها الإغماء، فإذا أفاقت أعلنت إليها أمها أن الأزمة قد انحلت، وأنها تحتمل تبعة ذلك، وأن زوجها يستطيع أن يطلب إلى الدائنين أجلًا فلا ينقضي هذا الأجل حتى تكون قد حصلت على المال، ثم تنبئ ابنتها بأنها ستبقى في باريس مع أمها العجوز، فتأبى الفتاة وتتوسل إلى أمها، وتلح في التوسل، ويكاد يعاودها الإغماء، فلا تستطيع سابين إلا أن تجيبها إلى ما تريد، هي إذن قد ضحت بأمها تضحية أخيرة، فستحملها إلى حيث تلقى الموت، وهذا كله في سبيل ابنتها.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فالقوم جميعًا في ناحية من جبال «الألب»، وقد جعلت آثار هذا الجو تظهر في العجوز، فيُلاحظ ضعفها واضطرابها، ولكن هذا الفصل هو موضع العظة، وموضع اقتناع «سابين» بالنظرية التي بسطها الكاتب في أول القصة؛ ذلك أن صاحبها الأمريكي يلقاها في هذه الناحية، يلقاها لأن كتابها إليه كان لم يصل إليه أمريكا وقد وصل إليه هنا صباح هذا اليوم، ثم بحث عنها فعلم أنها تقيم في هذا الفندق، فأسرع إليها معتذرًا، مقدمًا ما طلبت من معونة، تشكره سابين ثم لا تلبث أن ينالها شيء من اليأس عظيم؛ لأن صاحبها ينبئها بأنه تزوج ورزق غلامًا، وفقد هذا الغلام، فهو لا يستطيع أن يعيش في البيت الذي فقد فيه هذا الغلام، وامرأته كذلك لا تحتمل هذا البيت، ولهذا ترك أمريكا إلى فرنسا، يكاد يصعقها نبأ الزواج، ولكن قصة هذا الطفل تنسيها يأسها فتفكر في ابنتها، وما تعرضت له من خطر، وتعزي صاحبها، ويشترك هذان العاشقان في عاطفة واحدة هي تلك التي تفني الآباء في الأبناء، ويقدم الصهر فيقدم إليه الأمريكي معونته، ثم تنصرف سابين، ويقترح الأمريكي على هذا الفتى أن يذهب إلى أمريكا ليعمل في أرضه حيث يصلح من أمره، ويصل من الثروة والغنى إلى ما يريد في زمن قصير، ولا تكاد امرأته تسمع هذا كله حتى تغتبط به، وتبتهج له، وتشجع زوجها، وتنبئ بذلك أمها فتغتبط به أيضًا، ولكنها تنبئها بأنها سترافق زوجها في السفر إلى أمريكا، هنا تجزع الأم جزعًا شديدًا، وتتوسل إلى ابنتها في أن تبقى، ولكن الفتاة ترفض في غلظة أن تترك زوجها لتبقى مع أمها، تضرع الأم وتقسو الفتاة، ثم يثور ثائر الأم فتذكر صهرها بالمكروه، وتنذرها ابنتها فلا تحفل بالنذير، هنا تعلن الفتاة سخطها، وتنتهر أمها في عنف، ثم تتركها إلى حيث لا تعود، وتدعو الأم ابنتها فلا تجيبها، فتلتفت وراءها مستغيثة بأمها العجوز فتقبل العجوز، وما تكاد تسمع النبأ وترى ابنتها تبكي وتعول حتى تعلن إلى ابنتها أنها تنزل عن ثروتها كلها لتحول بينها وبين هذا العذاب، فليبقَ الزوجان إذن، ولكن الزوجين لن يبقيا، فلقد فتح الأمريكي أمامهما بابًا من الأمل تحقر دونه هذه الثروة. تبكي سابين، وتشعر الآن بأنها قد ضحت بأمها ونفسها وكرامتها، في سبيل ابنتها، وأن ابنتها لم تحفل بشيء من ذلك، بل ضحت به كله لتسافر مع زوجها، تشعر بهذا فتستغفر أمها، وتشعر بأن أمها وحدها هي التي أحبتها، ولكن أمها قد سقطت! فهي لا تجيب، وتلتفت سابين فإذا نوبة من مرض القلب قد أصابت العجوز فقضت عليها. تنظر إلى ذلك فتجزع وتصيح: «قتلت أمي في سبيل ابنتي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤