الفصل الخامس

أحوال الصحافة العربية في الحقبة الأولى وأمثلة من كتاباتها

إلى هنا انتهى الدور الأوَّل من تاريخ الصحافة التي رافقناها من مهد الولادة على ضفاف النيل إلى عهد الطفولة على ساحل البوسفور، ثم أخذت بالنمو تدريجًا على سنَّة الارتقاء الطبيعي حتى عمَّ انتشارها في أهم العواصم والبلدان شرقًا وغربًا، وإذا قابلنا حالة صحفنا مع مثيلاتها في سائر الممالك الراقية في دورهنَّ الأول نرى بين الفريقَين بونًا كبيرًا؛ لأنه رغمًا من قلة العارفين بالقراءة في لغتنا العربية نشأت لدينا ٢٧ صحيفة في مدة سبعين عامًا، وهو عدد لم تسبقنا إليه دولة عند تكوُّن صحافتها بين سائر الدول المشهورة بتقدم العلوم وميل الناس فيها إلى مطالعة الصحف، والذي يقضي بالعجب العجاب هو أنه بين جميع الجرائد والمجلات التي ذكرنا أخبارها لم تنشأ منها صحيفةٌ واحدة في البلاد العربية الصميمة، بل صدرت بأسرها إما في الممالك الأجنبية وإما في الأقطار التي افتتحها العرب بعد ظهور الإسلام.

وكانت صحافتنا في بداية أمرها ضعيفة الأفكار، ركيكة التعابير، سقيمة الطبع، خاليةً من تبويب أبحاثها، بوجه الإجمال إلَّا ما ندر، ولا غرابة في ذلك؛ لأن هذا الفن كان مجهولًا، وسوق العلم كاسدةً، وآثار الحضارة مندرسةً في أكثر أنحاء الشرق. ومن المعلوم أن صحف الأخبار تشمل كلَّ ما تهمُّ معرفته الإنسان عن أحوال السياسة والتجارة والعلم والتاريخ والاكتشافات والاختراعات، وما يتعلق بالشئون الاقتصادية والبيتية والاجتماعية والأخلاقية والانتقادية وغيرها، ولكلٍّ من هذه الفروع اصطلاحات، خاصة عند الغربيين في أساليب التعبير، كان يجهلها صحافيو العرب الذين عانوا مشقاتٍ جسيمة في هذا المسلك الوعر؛ لأن أكثر نشرياتهم كان معرَّبًا عن اللغات الأجنبية، غير أن تلك الألفاظ الركيكة أو التعبيرات السقيمة التي كان يستعملها أرباب الجرائد أولًا في كتاباتهم قد بطلت شيئًا فشيئًا باختمار الصحافة وارتقاء الأفكار وانتشار العمران وانصباب الناس على اكتساب المعارف. ومن أعظم دواعي ترقِّيها إقبال أدباء بلادنا على الأسفار الشاسعة ومخالطة الغربيين ومجاراتهم في كثير من الأمور.

وأول من تنبَّه من الصحافيين إلى هذا الأمر المهم بل جاهد في سبيله جهادًا عظيمًا كان الكونت رشيد الدحداح، فإنه عزَّز كرامة أبناء جنسه بما نشره من كنوز اللغة على صفحات برجيس باريس وغيرها من المطبوعات النفيسة، ولم يكن أقل جهادًا منه في هذا السبيل أحمد الشدياق صاحب «الجوائب»؛ لمعرفته التامة باللغة العربية وخبرته الواسعة بشئون الغربيين الذين سبر غَور سياستهم ووقف بذاته على أحوال بلادهم، فإنه سدَّ هذه الثلمة باتخاذ الأوضاع العربية لأكثر المعرَّبات الإفرنجية كقوله: «المؤتمر» بمعنى Congrés عند الفرنسيس ثم الأسطول بمعنى Escadre والباخرة بمعنى bateau á vapeur والبريد بمعنى poste والمنطاد ballon والحافلة بمعنى Omnibus والأزمة المالية بمعنى Crise والسند بمعنى Traite عند الفرنسيس أو عند الإيطاليان Cambiale والسلك البرقي بمعنى télégraphe وغير ذلك من الأوضاع التي يطول شرحها؛ ولذلك كانت جريدته أرقى جميع جرائدنا بأفكارها وسياستها ومباحثها، وكان صحافيو الغرب يعولون عليها في معرفة أخبار الشرق. وتتمةً لفائدة التاريخ نسرد بعض أمثلة من كتابات جرائدنا الأولى ليقف القارئُ على أحوالها السالفة، ويحكم بما آلت إليه الآن من الرقي بفضل انتشار العلوم وتهذيب الأخلاق واتساع دائرة التمدُّن. وقد سبق لنا نشر مقدمة جريدة «المبشر» والآن نشفعها بأمثلة من بعض الجرائد القديمة وهي:
قالت جريدة «حديقة الأخبار» في مفتتح العدد الأول لسنتها الأولى بتاريخ غرة كانون الثاني ١٨٥٨ ما نصه بالحرف الواحد:

جرنال عربي

قد تعلَّقت الإرادة السنية الملوكية بإعطاء الرخصة بطبعه في مدينة بيروت رغبةً في إشهار المعارف والفنون، وتقدم تهذيب عبيدها الذين رشفوا كئوس الراحة والأمان تحت ظلها الظليل، فبناءً على الأوامر التي تشرفنا بورودها سنطبع هذا الجرنال في كل أسبوع مرةً، مشتملًا على كل ما يتعلق بالفوائد الإنسانية، قسمٌ منه يحتوي على أخبار بلادنا السورية مع الحوادث الأجنبية مترجمة من أحسن وأعظم الجرنالات، وقسم يشتمل على نُبذٍ مختلفة وفوائدَ علمية، وقسم يتضمن ملاحظات وأمورًا متجرية، والقسم الأخير يبتدئ بتاريخٍ مفيد يُطبَع بالتتابع بذيلٍ كل آخر صحيفة من الجرنال كي تقطع تلك الأوراق الأخيرة في آخر كل عام ويجتمع منها كتاب تاريخ، وثمن هذا الجرنال بالعام مائة وعشرون غرشًا في بيروت وتوابعها، ويضاف عليه أجرة توصيله إلى الجهات فيكون ثمنه إلى كل مكان خالص المصاريف مائة وأربعة وأربعين غرشًا، فنرجو من كل ذي عناية يرغب تقدم البلاد، ومن كل ذي ذوقٍ سليم يميل إلى التهذيب؛ أن يبادر بكتابة اسمهِ إلى المدير.

وقالت جريدة «برجيس بريس» بتاريخ ٢٤ نيسان ١٨٦٢ ما نصه:

قيل إن السلطان المعظم سافر إلى بروسة ليقيم فيها أسبوعًا، وقبل سفره استدعى منشئ الصحيفة التركية المسماة «ترجمان الأحوال» وسأَله: لمَ لا تتكلم مياومةً على السياسة؟ فأجاب بأنه لم يتكلم على ذلك خشية أن يلحقه لوم، واحترازًا من وقوع صحيفته في الخطر. فقال له: تكلم على السياسة والأمور العامة بما ظهر لك من الواقع ونفس الأمر ولا تخشَ شيئًا. فإن ثبت هذا فجزى الله السلطان خيرًا على إنصافه وإباحتهِ لرعيته أن تذبَّ عن حقوقها، وهذا يشهد له بالفضل والفخر، وهو في الحقيقة تحصل منه مصلحة الجانبَين؛ إذ تستمرُّ به الموافقة بين الدولة والرعايا، وفي محكم التنزيل: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.

وقالت جريدة «أخبار عن انتشار الإنجيل» بتاريخ غرة تشرين الأول ١٨٦٣ تحت العنوان الآتي:

إفريقية الغربية

إنه في سيراليون وليبيريا وراس بالماس وكامبيا وكوريسكو من إيالات إفريقية الغربية يوجد الآن أكثر من ستين ألف نفس من المسيحيين المؤمنين الذين كان أصلهم وثنيين، وانتظمت كنايس كثيرة وابتنت مدارس مختلفة وكراخين، ومنهم ذهب عدد ليس بقليل ليبشروا بالإنجيل بين جيرانهم الوثنيين، ولكن الأمر المحزن هو أن ملك داهومي لم يزل يمارس طقوسه الدموية في تقديم ألوف من الشعب ذبيحةً في جنائز الأغنياءِ والولاة، وقيل إن سوقًا واحدًا من أسواق مدينة كوماسي قد تسمى «سوق لا ينشف دمه» لكثرة المساكين الذين يُذبَحون فيه يوميًّا، وعلى جانبَي ذلك السوق يتكوَّم رءوس المقتولين منظرًا للأهالي الذين ينظرون إليها بالضحك والهزو لكي يُرضوا بذلك ملكهم؛ لأن الذي لا يفرح بذلك المنظر يُقتَل ويُطرَح رأسه عبرةً للآخرين، فكيف يمكننا أن نستريح وإخوتنا من الجنس البشري في هذه الحالة، وكيف لا نُصلي بلجاجة ومواظبة إلى رب الحصاد ليرسل فعلة إلى حصاده.

ولما تعين ناشد باشا واليًا على حلب في شهر آيار ١٨٦٨ نشرت جريدة «الفرات» ما نصه:

لقد اجتمع يوم الاثنين الماضي في دائرة الولاية كل من اعتاد الحضور من الذوات الكرام، وصُفَّت العساكر النظامية وأخذت الموسيقة في الترنم، وقد فتح الأمر العالي المتضمن مأمورية صاحب الدولة والإجلال ناشد باشا والي الولاية وقرئ بصفات التعظيم والتكريم، ثم بعد ختام التلاوة ابتدأ بالدعوات الخيرية لدوام سلطنة الذات العلية الملوكية، وأمَّن كل من حضر على ذاك الدعاء بأصواتٍ حسنة عنَّ عنانها للسماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤