الفصل الأول

الشيخ ناصيف اليازجي

أَمضي وتبقى صورتي فتعجبوا
تمضي الحقائق والرسومُ تُقيمُ
والموتُ تجلبه الحياةُ فلو حوى
روحًا لماتَ الهيكلُ المرسومُ

هو ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي، اللبناني المولد، الحمصي الأصل، هاجر جدُّه سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذويه نحو سنة ١٦٩٠؛ لحَيفٍ وقع عليهم في تلك الديار، فتوطَّن أناسٌ منهم في ساحل لبنان في الجهة المعروفة بالغرب وآخرون في وادي التيم من أعمال دمشق، وتفرق بعضهم في مواضعَ أخرى، ولا تزال بقية أسرتهم في حمص ونواحيها. وهم عشيرةٌ كبيرة من ذوي الوجاهة واليسار، وأكثرهم من طائفة الروم الأرثوذكس، أمَّا فرع الشيخ ناصيف فإنه ينتمي إلى الروم الكاثوليك. وقد اقتطفنا بعض أخبار صاحب الترجمة مما كتبه حفيده الشيخ أمين الحداد.

كان مولده في قرية كفر شيما من قرى الساحل المذكور في ٢٥ آذار سنة ١٨٠٠، وتلقى مبادئ القراءة على راهب من بيت شباب يقال له القس متى، وكان والده عبد الله من الأطباء المشهورين في وقته على مذهب ابن سيناء، وكان مع ذلك أديبًا شاعرًا إلَّا أنه كان قلَّما يتعاطى النظم لقلة الدواعي إليه إذ ذاك، ومن شعره أبياتٌ قرَّظ بها ديوان الخوري حنانيا المنير أحد شعراءِ ذلك العصر، لم يُحفَظ منها إلا بيتان رواهما الشيخ إبراهيم اليازجي، وهما قوله:

عِش بالهنا والخير والرضوانِ
يا مَن غنيتَ بنظم ذا الديوان
إني لقد طالعته فوجدته
نظمًا فريدًا ما له من ثانِ

فنشأ ولده ناصيف على الميل إلى الشعر، وأَقبل على الدرس والمطالعة بنفسه، وتصفَّح ما تصل إليه يده من كتب النحو واللغة ودواوين الشعراء، ونظم الشعر وهو في العاشرة من عمره، غير أنه لما لم تكن الكتب لذلك العهد ميسورةً لقلة المطبوع منها؛ إذ لم يكن في البلاد السورية ولا المصرية إلا مطابعُ نادرة، قلَّما كانت تشتغل بطبع الكتب العلمية؛ كان جل معتمده على كتب يستعيرها من بعض الأديار والمكاتب القديمة، فمنها ما يقرؤها مرةً فيحفظ زبدتها، ومنها ما ينسخها بخطه. ولا يزال كثير من تلك الكتب باقيًا إلى اليوم محفوظًا عند أسرته، وهي جميلة الخط على القاعدة الفارسية، وبعضها يبلغ عدة مئات من الصفحات.

وقد بلغ من كل علم لبابه ودرس أشهر مصنفاته، وله في جميعها تآليفُ مشهورة بين مختصر ومطوَّل هي اليوم عمدة التدريس في أكثر المدارس السورية وبعض المدارس المصرية لما هي عليه من الوضوح وحسن الترتيب، أشهرها «فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب» وهو من أفضل المتون في الصرف والنحو، وعليه شرح بقلمه، كتاب «الجوهر الفرد» في موجز الصرف وقد علق عليه الشروح ولدُه الشيخ إبراهيم في كتاب سماه «مَطالع السعد في مُطالع الجوهر الفرد» وطبعه، وله «طوق الحمامة» في مبادئ النحو، ثم أُرجوزة «لمحة الطرف في أصول الصرف» وأرجوزة «الباب في أصول الإعراب» في النحو، ومنها «الجمانة في شرح الخزانة» وهو مطوَّل في الصرف، ثم «نار القرى في شرح جوف الفرا» وهي أرجوزةٌ مطوَّلة، وقد اختصرها ولده الشيخ إبراهيم، ومنها «عمود الصج» وهي رسالة في التوجيهات النحوية انتهى بها إلى المفعول فيه فقط ولم تُطبع، وكتاب «عقد الجمان في المعاني والبيان» ثم «الطراز المعلم» وهو أرجوزةٌ مختصرة في البيان مشروحة بقلمه، و«نقطة الدائرة» في العروض والقافية، ومنها «اللامعة في شرح الجامعة» وهي أرجوزةٌ مطولةٌ مشروحة بقلم ولده الشيخ حبيب، وكذلك «قطب الصناعة» وأرجوزة سمَّاها «التذكرة» في أصول المنطق، ثم «القطوف الدانية» وهو شرح مطوَّل على بديعيته، وكتاب «مجموع الأدب في فنون العرب» وهي مجموعة في المعاني والبيان والبديع والعروض، وأرجوزةٌ مختصرة سماها «الحجر الكريم في الطب القديم» نُشرت في مجلة الطبيب، ومعجم سماه «جمع الشتات في الأسماء والصفات» لم يُنشر بالطبع وهو يبحث في أعضاء الإنسان والصفات التي على أفعل. وساعد المرسلين الأميركيين في ترجمة الكتاب المقدس ونظم لهم المزامير وبعض الأغاني الدينية. وكان قد شرع في وضع شرح لديوان المتنبي لم يستوفِه، وكان يعلق عليه الحين بعد الحين ما يعنُّ له من تفسير بعض الأبيات الغامضة، فأتمه بعده ولده الشيخ إبراهيم وسماه «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» وأضاف إليه ما يُروى للمتنبي من الشعر الذي لم يثبته في ديوانه، وذيَّله بنقدٍ مطوَّل على شعر المتنبي وكلام شراحه. وأشهر تآليفه وأعظمها مقاماته المعروفة باسم «مجمع البحرين» التي عارض فيها مقامات الحريري، وهي ستون مقامة ضمَّنها من بلاغة الإنشاء والفوائد اللغوية والعلمية وتواريخ العرب وأمثالهم؛ ما دلَّ على غزارة محفوظه وقوة عارضته في النظم والنثر، وأودعها من الفنون البديعة الصعبة المرتقى في بعض منظوماته كالجناسات الخطية، وجناس ما لا يستحيل بالانعكاس، وغيرها ما لا يُضطلَع به إلا عن مقدرةٍ فائقة.

وقد تفنن في صناعة التاريخ الشعري تفنُّنًا غريبًا يقضي له بالسبق في هذا المضمار على الشعراء قاطبة، ومن أبدع ما نظمه في هذا الباب بيتان قالهما سنة ١٢٤٨ هجرية في فتح مدينة عكا قد اقترحهما عليه الأمير بشير الشهابي الكبير، وهما يتضمنان ثمانية وعشرين تاريخًا بحساب الجمَّل، وذلك يحصل من كل شطر منهما ومن مهمل كل بيت منهما ومن معجمه، ومن مهمل كل شطر مع معجم كل شطر فيهما، وبالعكس صدرًا لصدر وعجزًا لعجز، وبالخلاف سوى التاريخ الناطق لفظًا، وهما:

في فتح عكا بردُ نارِ معاطب
دارِ الخليلِ وللديارِ به البكا
رأسَ الثمانِ وأربعين بطيِّهِ
مئتان مع ألفٍ فبارك ربُّكا

نظم من هذا القبيل أيضًا بيتَين سنة ١٢٨٣ في مدح السلطان عبد العزيز، وله في مدح كل من إبراهيم باشا المصري والسلطان المشار إليه قصيدة جعل كل شطر منها تاريخًا وصدَّرهما ببيتين قد ضمَّن كل شطر منهما تاريخَين، ثم وزَّع حروف البيت الأول على أوائل أبيات الغزل من القصيدة، ووزع حروف البيت الثاني على أوائل أبيات المديح منها. ومن مبتكراته في فن النظم بيتا المديح اللذان إذا عكست قراءتهما انعكسا هجاءً، ثم البيتان اللذان طردهما مديح وعكسهما هجاء. ومن مخترعاته في هذا الباب «عاطل العاطل» وهو أن تكون حروف الكلمة خاليةً من النقط كتابةً وهجاءً، وذلك لأن الحروف المعروفة بعاطل العاطل ثمانية فقط وهي: الحاء والدال والراء والصاد والطاء واللام والهاء والواو، فلا يسع المتكلم أن يُركِّب منها كلامًا كثيرًا، وقد نظم من هذا النوع أربعة أبيات لا يُعرف سواها في لسان العرب وهي:

حَولَ دُرٍّ حَلَّ وَردٌ
هل له للحر وِردُ
لِحَصُور حُلوِ وَصلٍ
وِردُه للصَحوِ طَردُ
وله صَولٌ وطَولٌ
وله صَدٌّ ورَدُّ
دَهره حرُّ صدورٍ
هل له لله حدُّ

وكان يُصحِّح مطبوعات المطبعة المخلصية في بيروت، ووقف على طبع كتاب «مواعظ القديس يوحنا فم الذهب» بعد أن أصلح عبارته وهذَّبها، وله الفضل بتأسيس «الجمعية العلمية السورية» التي اشتهر أمرها وأُنشئت لها مجلة باسمها. وقد قرَّظ الشعراءُ كتاب «مجمع البحرين» بما يستحقه من الثناءِ والإجلال، فنظموا القصائد الرنانة التي نورد منها أبياتًا للسيد شهاب الدين العلوي الموصلي:

هذا المصنَّف فوق الفضل قد رُفعت
فضلًا مقاماته والفضلَ قد جمعت
ففي البلاد إذا دارت فلا عجبٌ
لكل طالب علمٍ أنها وَسعت
أشعارها الأصمعي لو كان ينشدُها
بمثلها قال أُذنُ الدهر ما سمعت
ثم الحريريُّ أحرى لو يقاومها
بأن يقول مقاماتي قد اتَّضعت
يتيمةٌ ربِّ متِعنا بوالدها
عن غيرها فطمَ الألباب ما رَضعت
تمت كمالًا وقد جاءَت منزهةً
عنها النقائصُ تهذيبًا قد انخزعت
على الكمالات طبعُ اللطف أرَّخها
لطفًا مقامات ناصيف التي طُبعت

وترك ثلاثة دواوينَ شعرية تُعدُّ من عيون الشعر، كثير منها محفوظ على الألسنة ولا سيما الأبيات الحكمية منها، وهي في شعره أكثر من أن تُحصى. ويُسمى أقدم دواوينه «النبذة الأولى»، والثاني «نفحة الريحان»، وآخرها «ثالث القمرين» وقد تجدد طبعها في السنين الأخيرة. ونظم التواريخ الكثيرة التي نُقشت على القبور أو علَّقها على الكنائس والقصور والآثار البنائية. وله خلا ما نظمه في عهد الصبا مما لم يثبته في دواوينه المطبوعة، وهو شيءٌ كثير لو جُمع بأسره لزاد على المشهور منه، ومع أنه لا يبلغ طبقة المشهور من شعره فإن الإجادة ظاهرة فيه؛ مما يدل على أنه — رحمه الله — كان مطبوعًا على الشعر، فلم يكن يتكلفه ولا يتعمَّل لأجله، ولا تجد فيه حشوًا ولا تعقيدًا، وذلك مع حسن اختياره للألفاظ الجامعة بين الجزالة والرقة، واتساع تصرفه في أساليب الكلام مما كان به نادرة وقته. وإذا ضممتَ هذا إلى ما له من التآليف العلمية وإحكام وضعها وحسن تنسيقها، ثم إلى ما في مقاماته من الإبداع وجريها كلها على سننٍ واحد من علوِّ الطبقة، مما دلَّ به على قوة ملكته في الصناعة اللسانية وانطباعه على الفصاحة العربية؛ علمتَ أنه قد انفرد بأمور لا تجدها مجموعة في غيره، وكان في أوائل أمره قد ذاع صيت علمه بين الخاص والعام، فانتدبه السيد أغناطيوس الخامس بطريرك الروم الكاثوليك سنة ١٨١٦ ليكون كاتبًا عنده في «دير القرقفة» المشيد في قمة كفر شيما، فلبث ناصيف بهذه الوظيفة مدة سنتين حتى نقل البطريرك إقامته إلى الزوق، ثم اتصل بالأمير بشير الشهابي الشهير فقرَّبه إليه وجعله كاتب يده، ومع أنه لبث في خدمته نحوًا من اثنتي عشرة سنة؛ أي إلى سنة ١٨٤٠، وهي السنة التي خرج فيها الأمير بشير من البلاد الشامية فلم أجد له فيه إلا مدائحَ قليلة، ولعلَّ ذلك لأن شاعره الخاص كان الشاعر الكبير المعلم بطرس كرامة فلم يشأ أن يزاحمه، وبعدما ارتحل الأمير بشير انتقل، رحمه الله، بأهل بيته إلى مدينة بيروت، وأقام بها منقطعًا للمطالعة والتأليف والتدريس في «المدرسة البطريركية» للروم الكاثوليك ثم «المدرسة الوطنية» للبستاني وكذلك «المدرسة الكلية» للأميركان، فاشتهر ذكره في جميع البلاد العربية وراسلته أكابر الشعراء من العراق ومصر وغيرهما، وقد طُبع ما دار بينه وبينهم في ديوانٍ مخصوص عنوانه «فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء» وهو فريد في بابه. ولا ندري أحدًا بين حَمَلة الأقلام في الشرق اجتمعت العلماء والأدباء على مدحه كصاحب الترجمة، وللشيخ عبد الهادي نجا الإبياري قصيدة قرَّظ بها «النبذة الأولى» من ديوان اليازجي، جاءَ فيها:

هو قاضي البلاغة الفاضل الند
بُ الذي ظلَّ في المعارف أَوحد
ملكُ القولِ مَن يقِسهُ بقسٍّ
فهو لا شكَّ في القياس مفند
ما سمعنا بمثله عيسويًّا
يتحدَّى بمثل مُعجزِ أحمد
أَلمعيٌّ لكنه عيسويٌّ
كان أَولى بفضل دين محمَّد

فلما اطَّلع مارون النقاش على هذه القصيدة لم يتمالك من الرد عليها ظانًّا أن فيها إهانة لصاحب الترجمة ومساسًا لكرامته، فنظم قصيدةً على نفس الوزن والقافية بلا علم من الشيخ ناصيف وأرسلها للشيخ عبد الهادي قال فيها:

أيها السيد الخطيب لماذا
قمت تبدي ما لم يكن فيك يُعهدْ
ورأينا من بحرك الشعر يهدى
فهو درٌّ من غلفهِ لو تجرَّد
مفحمٌ مبكمٌ فريدٌ مزيدٌ
إنما زاد بالحد حتى تزيَّد
عربيٌّ لكنه جاهليٌّ
آه لو كان عيسويًّا فيُنشد
لم يكن فن الشعر إِرثًا ولكن
مَن يخض بحره استطال إذا جد
لا ولا الفخرُ بالمذاهب إلا
يومَ تصفو فيهِ الوجوه وتكمد
فعلامَ انزلقتَ في غير وقت
تتعدَّى لفتح باب مسدَّد
نحن في عصر والمودَّة تنموٍ
والتداني بين الفريقين يوجد
إِن أَردتَ الشقاقَ والبعدَ عنا
جاور البيت إنه لك أجود

أما صفاته الشخصية فكان معتدل القامة، فوق الربعة ممتلئ الأعضاء، أسمر اللون حنطيَّهُ، أسود الشعر، أجشَّ الصوت، وكان مهيبًا وقورًا شهمًا كاملًا متواضعًا متأَنيًا في حديثه وحركاته، قليل الضحك عفيف اللسان لم تُسمع له كلمةٌ بذيَّة قط لا في حديثه ولا في كتاباته، ولم يهجُ أحدًا ولا هجاه أحدٌ في زمانه. ويُروى أنَّ له بيتين قالهما ارتجالًا في رجل يُوصف بالبخل كان يُدعى الأمير علي شهاب من كفر شيما مسقط رأس الشيخ ناصيف، والبيتان أقرب إلى المداعبة والمباسطة منهما إلى الهجو الحقيقي وهما هذان:

قد قال قومٌ إن خبزك حامضٌ
والبعض أثبت بالحلاوة حكمه
كذب الجميع بزعمهم في طعمه
مَن ذاقه يومًا ليعرف طعمه

وكان ودودًا مخلصًا رقيق القلب حسن التدين مبالغًا في اجتناب السحت، لا يعطي مالًا ولا يأخذ مالًا بالربا ولا يكتب صكًّا فيه ربا، وكان واسع المحفوظ كثير النكات والنوادر، وكان يروي القصة بتواريخها وأسماء أصحابها وأسماء بلدانهم. ومن غريب ذاكرته أنه كان إذا نظم الشعر لا يكتبه بيتًا بيتًا، ولكنه كان ينظم الأبيات ثم يكتبها، حتى إنه في مدة اعتلاله الأخير أملى ثمانية عشر بيتًا دفعةً واحدة، وقد ألَّف إحدى مقاماته وهي المقامة اليمامية على ظهر الفرس، وكان مسافرًا بأهل بيته من بيروت إلى بحمدون سنة ١٨٥٣ بقصد الاصطياف، فلما انتهى إليها أخذ قرطاسًا فعلَّقها، فكان يحفظ القرآن بتمامه ويعي من الشعر شيئًا كثيرًا ولا سيما شعر المتنبي لشدة إعجابه به، وكان يقول «كان المتنبي يمشي في الجو وسائر الشعراء يمشون على الأرض.»

وهو من المحافظين على لهجة قومه وتقاليد أهل بلاده في الطعام واللباس والجلوس وسائر العادات كما كانوا في عصورهم القديمة؛ فكان لا يطيب له إلا أن يتغنَّى بما تغنَّوا به، وأن يحذو حذوهم في كل شيء، وكان يلبس العمامة في رأسه والجبة والقفطان على بدنه ويضع الدواة تحت منطقته. وروى تلميذه وابن وطنه الدكتور شبلي شميل أنه سمعه مرةً يقول على سبيل المزاح: «لو فُقد الشاش لاعتممتُ بالقطوعة.» وهي في لغة عامة سوريا قطعة من الحصير القديم. ومن عادته أن يكتب على ركبته متربِّعًا فوق منبذةٍ مطروحة على الحضيض، وأمامه منضدةٌ صغيرة لوضع القلم والحبر والقرطاس. واشتهر بصناعة الخط الذي أتقنه كثيرًا. ويقال إنه لو جُمع ما كتبه في حياته بخط يده لكان ذلك لا يقل عن محمول جمَلين، وله ولعٌ شديد باستعمال التبغ فكان يدخن بالغليون ويكثر من تناول القهوة، ويُروى من جملة نوادره أنه زار المعلم إبراهيم سركيس في منزله، فلما قُدِّمت له القهوة أنشده إبراهيم هذا البيت:

قهوةُ البنِّ حرامٌ
قد نهى الناهون عنها

فأجابه الشيخ ناصيف اليازجي من فوره قائلًا:

كيف تدعوها حرامًا
وأنا أشربُ منها

وفي عام ١٨٦٩ أُصيب بمرضٍ عضال؛ فانفلج فالجًا نصفيًّا عطل نصفه الأيسر، ثم أصابته سكتةٌ دماغية؛ فتوفي فجأَة بتاريخ ٨ شباط ١٨٧١ في منزله الكائن في زقاق البلاط بالقرب من «المدرسة الوطنية» البستانية سابقًا في بيروت، فجرى لمشهده احتفالٌ عظيمٌ جدًّا اشترك فيه العلماءُ والكبراء والتجار وتلامذة المدارس وجمٌّ غفير من الناس مما لم يسبق له مثيل؛ فكان ذلك أوضح دليل على سمو منزلته لدى جميع طبقات الشعب من النصارى والمسلمين واليهود. وبعد الصلاة عن روحه نُقلت جثته بين تصاعد الزفرات وسكب العبرات وتوالي الحسرات إلى مقبرة الروم الكاثوليك في الزيتونة، وهناك دُفن في ضريحٍ خاص نُقشت فوقه هذه الأبيات:

هذا مقامُ اليازجي فقِف به
وقل السلامُ عليك يا علَم الهدى
حَرمٌ تحجُّ إليه أربابُ الحجا
أبدًا وتدعو بالمراحم سرمدا
هو مغرب الشمس التي كم أطلعت
في شرق آفاق البلاغة فرقدا
فخر النصارى صاحب الغرر التي
ضربت على ذكرى البديع وأحمدا
هذا عماد العلم مال به القضا
فأَمال ركنًا للعلوم مشيَّدا
أمسى تجاه البحر جانبَ تربةٍ
هي مجمع البحرَين أشرف مجتدى
فعليك يا ناصيف خير تحيةٍ
طابت بذكرك حيث فاح مردَّدا
لو أنصفتك النائبات لغيَّرت
عاداتها ووقتْك حادثة الردى
تتنزل الأملاك حولك بالرضى
ويجود فوقك باكرًا قطر الندى
وجميل حظك في الأعالي رحمةٌ
أرخ وذكرٌ في الصحائف خُلدا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤