الباب الرابع

تراجم مشاهير الصحافيين العثمانيين خارجًا عن بيروت في الحقبة الثانية

غريغوريوس الرابع

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق على الروم الأرثوذكس ومدير جريدة «الهدية» ومحررها سابقًا في بيروت ومؤسس مجلة «النعمة» حالًا في دمشق.
وددت بقائي بين أهلي وإنما
رماني زماني بالبعاد من الصغر
فقلت لهم إن تمنع العين عنهم
أعوِّضهم رغمًا عن العين بالأثر

***

هو غنطوس بن جرجس بن غنطوس حداد، وُلد بتاريخ غرة تموز ١٨٥٩ في «عبيه» إحدى قرى الشوف بجبل لبنان، فتلقى مبادئ العلوم في مدرستها البروتستانتية التي كانت بإدارة المرسلين الأميركيين، ثم نزعت نفسه إلى العيشة الرهبانية فقصد السيد غفرئيل مطران بيروت ولبنان على الروم الأرثوذكس طالبًا منه الانتظام في سلك تلامذة مدرسته الكهنوتية، فدخلها في ١٠ آيار سنة ١٨٧٢ وكان أستاذه فيها المعلم شاهين عطية، فحاز قصب السبق على أقرانه وكان آية في الذكاء وقدوةً في السيرة الصالحة وغير ذلك من الصفات الحسنة، فأحبه مطرانه المشار إليه وجعله كاتبه الخاص في ٢٤ كانون الأول سنة ١٨٧٥ وهو في السادسة عشرة من عمره، وفي ١٩ كانون الأول ١٨٧٧ اتشح بالإسكيم الرهباني في دير سيدة النورية، وفي ٢٩ آب سنة ١٨٧٩ رقاه إلى درجة الشماس الإنجيلي وسماه غريغوريوس، وأناط به طبع كتاب «البوق الإنجيلي» وإدارة «جمعية بولس الرسول» التي غايتها مساعدة الكنائس والمدارس الأرثوذكسية في جبل لبنان، وقد ألغيت هذه الجمعية بعد قسمة الأبرشية إلى أبرشيتَين وهما بيروت ولبنان، ولما أنشأت «جمعية التعليم المسيحي الأرثوذكسي» عام ١٨٨٣ جريدة «الهدية» تولى صاحب الترجمة إدارتها وتحريرها مدةً طويلة من الزمان.

figure
ميخائيل رومانوف؛ مؤسس الأسرة القيصرية المالكة في روسيا.

وسنة ١٨٩٠ وقع الانتخاب عليه لكرسي مطرانية طرابلس الشام فاقتبل في ٦ آيار الدرجة الكهنوتية، ثم نال رتبة الكهنوت من يد البطريرك الأنطاكي جراسيموس الذي انتقل بعد ذلك إلى السدة الأورشيليمية البطريركية ومات فيها، فساس صاحب الترجمة هذا الكرسي الأسقفي بكمال الغيرة والنشاط حتى أجمعت قلوب الرعية على محبته وإجلاله؛ لأنه أزال بحكمته ما كان قد طرأ من الشقاق في عهد سلفه المطران صفرونيوس نجار وألقى الألفة في قلوب الجميع، فانقادت له الرعية انقياد القطيع وانقلب العداء محبةً والخصام سلامًا، وقد خلد له في هذه الأبرشية آثارًا جليلة بما أنشأه فيها من المدارس والكنائس والجمعيات الخيرية التي تنطق بفضله، وأشهرها مدرسة «كفتين» التي عاشت من سنة ١٨٩٣ إلى ١٨٩٧ وأتحفت الوطن بكثير من رجال العلم في العصر الحاضر. وبعد ستة عشر عامًا من جهاد مستمر في خدمة منصبه المذكور انتدبه أحبار الكرسي الأنطاكي بطريركًا عليهم بكل استحقاق خلفًا للسيد ملاتيوس الثاني، وصباح يوم الأحد الواقع في ٢٦ آب ١٩٠٦ جرى تنصيبه باحتفالٍ عظيم في الكنيسة المريمية الكبرى بدمشق، وهو البطريرك الوطني الثاني الذي تولى هذا المنصب بعد استيلاء اليونان عليه مدة ١٧٥ سنة (١٧٢٤–١٨٩٩)؛ أي من عهد جلوس سلوسترس القبرصي إلى خلع سبيريدون وجلوس ملاتيوس الثاني، وقد أوجب ذلك استياء بطاركة اليونان في القسطنطينية والإسكندرية وأورشليم، فأبوا الاعتراف بانتخابه الشرعي كما رفضوا الاعتراف بسلفه المشار إليه؛ لأنهما من أصلٍ غير يوناني، ولكنهم لم يلبثوا أن بعثوا له برسائل الشركة معهم وأثنوا على مناقبه الشريفة وفضائله السامية، فأرسل له البطريرك القسطنطيني بهذا المعنى كتابًا مؤرخًا في ١٤ آب ١٩٠٩ وجرى مجراه البطريرك الأورشليمي بتاريخ ٢٩ أيلول من السنة ذاتها، وهكذا انفضَّ الخلاف بحكمة صاحب الترجمة الذي زين السدة الأنطاكية الأرثوذكسية بما أوتيه من جزيل الفضل وسمو المدارك.

وما كادت تُلقى إليه مقاليد الرئاسة حتى شمر عن ساعد الجد وباشر أعمال وظيفته بهمةٍ لا تعرف الكلال، وقد وجَّه عنايته الخاصة إلى تعزيز شأن المدارس وترقية المعارف لا سيما مدرسة «دير البلمند» الشهيرة، وأنشأ مجلة «النعمة» التي جعلها لسان حال الملة الأرثوذكسية، وسلم إدارتها لجماعة من أفاضل الكتبة الذين ينشرون على صفحاتها آثارًا أدبية وتاريخية وعلمية ودينية وطائفية، وهو يزينها من حين إلى حين بالمناشير الراعوية والمباحث المفيدة. ومن مآثره أيضًا أنه جدد الدار البطريركية في دمشق على أحسن طرز، وحسن حال الأوقاف ورسم على الكراسي الفارغة أحبارًا من ذوي الفضل والعلم. وفي أواسط سنة ١٩١١ خرج لافتقاد الأبرشيات التابعة لسلطته الروحية ولا يزال مباشرًا تتميم هذه الزيارة الرعوية.

وفي أثناء ذلك دعاه قيصر روسيا نقولا الثاني دعوةً رسمية ليترأس الحفلات الدينية التي تقام بتاريخ ٦ آذار (٢١ شباط على الحساب اليولي) ١٩١٣ في بطرسبرج عاصمة المملكة تذكارًا لمرور ثلاثمائة سنة من نشأة أسرة «رومانوف» وجلوسها على العرش القيصري، وأصدر نقولا الثاني حينئذٍ منشورًا جاء فيه:

إنه بالنظر للعلاقات التاريخية القديمة بين أسلافنا العظام قياصرة الروس وبين بطاركة أنطاكية الشرقيين قد أصدرنا أمرنا القيصري بدعوة غبطة بطريرك أنطاكية السيد غريغوريوس ليترأس الحفلات الدينية بمناسبة مرور ثلاثمائة سنة على أسرتنا رومانوف المالكة التي ستبتدئ في ٢١ شباط ١٩١٣.

فلما صدر هذا الأمر الإمبراطوري اجتمع أعضاء المجمع الروسي الروحاني مع ممثل جلالة القيصر وقرروا ما يأتي:

(١) إن العادة الجارية حتى اليوم في الاحتفالات بخدمة الأسرار الإلهية أن المطارنة ورؤساء الأساقفة والأساقفة والأرشمندريتية يلبسون جميعهم التيجان إذا اشتركوا في الخدمة، ولكن إكرامًا لغبطة البطريرك الأنطاكي ستُتَّبع العادة الشرقية مدة وجوده فلا يلبس التاج غير غبطته. (٢) يذهب وفدٌ خاص من قبل المجمع المقدس إلى أودسا لاستقبال غبطته رسميًّا بالحلل الكهنوتية وبالتراتيل الدينية ومرافقته حتى بطرسبرج، وكذلك في كل محطة يخرج الأساقفة والكهنة لاستقباله حسب الطقوس الدينية. (٣) يجري استقباله في بطرسبرج باحتفالٍ عظيم ويركب أمام عربة غبطته أرخدياكون الكرسي البطريركي حاملًا عكاز البطريركية. (٤) تجري مقابلة غبطته لجلالة القيصر على مثال ما كانت تجري المقابلة بين القياصرة البوزنطيين وبطاركة القسطنطينية، أي أن غبطة البطريرك يلبس المنتية (الوشاح الملكي) وجلالة القيصر في بزته الرسمية. (٥) ينزل غبطته في دير «القديس نفسكي» العظيم ويجلس وقت الاحتفالات الدينية على عرشٍ ذهبي، وقد أرسلت إلى موسكو بدلة بطريركية ذهبية ثمينة جدًّا تخصصت لغبطته. (٦) عند المقابلة القيصرية يعلق على صدر غبطته وسام القديس إسكندر نفسكي من الدرجة الأولى.

figure
رسم كنيسة «سيدة قزان» الكبرى؛ التي احتفل فيها البطريرك غريغوريوس الرابع بالتذكار المئوي الثالث للأسرة القيصرية.

فلبى البطريرك غريغوريوس الرابع دعوة القيصر ولدى مروره بالقسطنطينية قابل السلطان محمد الخامس الذي أهداه الوسام العثماني المرصع، ثم استأنف السفر إلى أودسا على سفينةٍ مخصوصة كانت أعدتها له الحكومة الروسية وحاشيته إلى أودسا، وفي ٥ آذار انتهى إلى عاصمة الروس حيث غصَّ الموقف بألوف من الخلق وفي مقدمتهم ممثلو علية الإكليروس ورؤساء مفوضات المجمع ونائب القيصر ومحافظ المدينة وسيادة المطران فلاديمير، وعند ما ترجَّل أنشد الشعب — وقد حسر جميعه عن رأسه — ترنيمة «إلى أعوام عديدة».

ثم توجه بموكب حافل إلى كنيسة القديس إسكندر نفسكي تتقدم عربته عربة عليها المطران فلاديمير ونائب القيصر، ويتلوها قطار من العربات عليها الإكليروس والأرخديا كون وبيده عكاز غبطته والأرشمندريت حامل الصليب، ثم عربة غبطته الفاخرة التي أُرسلت خاصة من القصر الإمبراطوري لركوبه يجرها أربعة من جياد الخيل، وفي أثرها ياوران من لدن القيصر وبعدها عربات رجال حاشيته، وكانت أجراس الكنائس تقرع احتفالًا بقدومه، وقد استقبله عند باب الدير الكهنة والرهبان بالحلل الكنسية مرتلين وحاملين الشموع والصلبان.

وهناك رحب بغبطته رئيس الأساقفة وقدم له الصليب ليُقبِّله، ثم دخل إلى كاتدرائية الدير وإلى جانبه مطران بطرسبرج ونائب القيصر، وبعد الدعاء لجلالة القيصر وأسرته وشكر رؤساء الأساقفة والأساقفة والرؤساء دخل إلى الهيكل حيث اجتمع بأعضاء المجمع، وبعد ذلك ذهب إلى مقر مطران بطرسبرج وأمامه رهبان الدير تتقدمهم الشمعة والصليب الذهبي الذي أهداه الإسكندر الثالث إلى مطران بطرسبرج وهو مرصَّع بالألماس والياقوت.

وفي الساعة الثالثة بعد الظهر ذهب إلى كنيسة القديسَين بطرس وبولص حيث مدافن أسرة «رومانوف» وترأس حفلة الصلاة بحضور القيصر وبناته ووالدته وكثير من الأمراء والأميرات، وبعد نهاية الصلاة توجه إلى منزل نائب القيصر حيث وفد للسلام على غبطته ممثلًا البطريركَين القسطنطيني والأورشليمي ورؤساء الأساقفة وأعضاء مجلس الأعيان وكبار أعيان الروس.

وفي صباح اليوم التابع جرت في كنيسة «سيدة قزان» الكبرى١ حفلة العيد التي رنَّ صداها إلى أقاصي المعمور، وفي الساعة الثالثة ونصف الساعة بعد الظهر ركب غبطته عربةً فخيمة من عربات القصر الإمبراطوري وإلى جانبه سيادة المطران ألكسندروس والأرشمندريت أنطونيوس والأرشمندريت غفرئيل، وقد ركب الأرخديا كون توما على عربةٍ ثانية وبيده الصليب ومعه المنتيات؛ لأن من العادة الجارية في روسيا أن يلبس علية الإكليروس المنتيات عند مقابلة القيصر بالصفة الرسمية. وقد توجهوا إلى القصر الإمبراطوري واستووا نحو بضع عشر دقائق في بهوٍ فسيح كان يقبل في أثنائها الأمراء والأميرات من الأسرة المالكة للسلام عليهم.
figure
نقولا الثاني قيصر روسيا.

وأخيرًا أقبل رئيس الياوران ودعا غبطته وسيادة المطران ألكسندروس والأرشمندريتين للمقابلة، فلبسوا المنتيات وتقدموا نحو الردهة التي استوى فيها القيصر. ومن العادة ألَّا يدخل عليها أكثر من اثنين فدخل غبطته والسيد ألكسندروس، وكان في الردهة جلالة القيصر والقيصرة وولي العهد ووالدة القيصر وبناته الأربع وبعض أفراد الأسرة الإمبراطورية، وكان القيصر جالسًا إلى عرشه وفي أعلاه صورة العذراء، فرفع البطريرك نظره إليها وانحنى أمامها وتلا ترتيلتها «بواجب الاستيهال» ثم التفت إلى القيصر وسلم عليه بإكرام، فنزل القيصر عن عرشه واستقبله كاشف الرأس وانحنى أمامه، فباركه البطريرك وقبله حسب العادة الروسية في كتفه، وأما القيصر فقبل رأس البطريرك أولًا ثم يده اليمنى وبقي الاثنان واقفين.

وبعد أن هنأه بسلامة الوصول وسمع جوابه كلفه أن يجلس على مقعد إلى جانب العرش، ثم صعد القيصر إلى عرشه وتابع الحديث معه في مواضيعَ مختلفة إلى أن قال له: «سمعت منذ زمان عن عزمك إلى المجيء إليَّ وتمنيت كثيرًا أن أراك، وإني أعرف برك وطهارتك فأرجوك أن تتوسل لله العلي وتصلي لأجلي.»

فقال البطريرك: «إنني رجل خاطئ يا مولاي ولكن فليعطك الرب مثل قلبك وحسب إيمانك ويتمم كل آمالك ويؤيد عرشك إلى الأبد.»، فلما سمع القيصر هذا الجواب المتضمن كلام داود النبي سُرَّ وتخشع وقبل يمين البطريرك مرة أخرى، ثم قدم البطريرك له الهدايا وهي من خشبة الصليب المكرم والميرون المقدس وإنجيلٍ ثمين وأيقونة مع ذخيرة من بقايا يوحنا المعمدان وبلسم وبخور ومن وأقمشةٍ حريرية إلخ. فشكر له القيصر هديته ثم ودعه البطريرك باحترام وانصرف من لدنه شاكرًا هذه المقابلة.

وفي أثناء المقابلة تلا البطريرك خطابًا باللغة العربية وجيز العبارة ترجمه السيد ألكسندروس إلى الروسية، وكان الخطاب مطبوعًا على درج من رق غزال وفي صدره صورة القديسَين بطرس وبولس حتى إذا انتهى من تلاوته قدمه إلى القيصر، ثم سلم كل من غبطته وسيادته على القيصرة وولي العهد وعلى سائر الحضور فكان الجميع يقبلون أيديهما، وقد علق القيصر على صدر البطريرك وسام «القديس إسكندر نفسكي» طبقته الأولى وأهداه صليبًا ذهبيًّا مرصعًا بالماس ليوضع على اللاطية.

وفي ٩ آذار وهو آخر أيام الاحتفالات اليوبيلية قام البطريرك في الكنيسة الكاتدرائية بخدمة القداس الإلهي، ومما يُذكر أنه قرأ الإنجيل الشريف باللغة العربية، كما أنه دعا للقيصر باللغة نفسها، وفي ذلك النهار دُعي مع حاشيته إلى مأدبةٍ كبرى في القصر الملكي حضرها ٢٥٠٠ شخص جلسوا إلى ١٨ مائدة، أما الأواني فكانت من الذهب والفضة والصيني الثمين، وقد جلس القيصر إلى رأس المائدة والقيصرة عن يمينه ووالدته عن يساره ثم أفراد الأسرة المالكة والوزراء، وجلس البطريرك في المركز الأول إزاء القيصر تحيط به حاشيته وسائر أرباب الكهنوت، وكانت لائحة الطعام مكتوبة على رقعةٍ مرسوم عليها نسر وقائدان من الجيل السادس عشر، وقد شرب على المائدة ثلاثة أنخاب: الأول نخب القيصر وقرينته ووالدته، والثاني نخب ولي العهد والأسرة المالكة، والثالث نخب البطريرك ورجال الدين، وكانت المدافع تطلق من القلعة بعد كل نخب والموسيقى الإمبراطورية تُشنِّف الآذان بأطيب الألحان.

وفي أثناء إقامته في روسيا زار أكثر معاهدها الشهيرة فلقي حفاوةً لم يسبق لها مثيل عند جميع الطبقات من العرش القيصري حتى أفراد الشعب، وقد ألهمه الله أن يزور تلك البلاد في أمجد أيامها التاريخية وأعظم أعيادها الوطنية، وعندما حضر جلسةً من جلسات المجمع المقدس أُهدي إليه الصليب المرصع الذي أخرجه المجمع لاستقباله؛ وليُحمل أمامه في الحفلات الدينية، وهو تقدمة من والد القيصر إلى المجمع المذكور. هذه خلاصة ما جرى للبطريرك الأنطاكي الأرثوذكسي في عاصمة الروس من الاحتفالات العظيمة التي يخلد التاريخ ذكرها جيلًا بعد جيل. وعند كتابة هذه الترجمة لا يزال صاحبها مظهرًا للتكريمات السامية التي لم يسبق مثلها لأحد البطاركة أسلافه في القرون الغابرة.

وصاحب الترجمة جميل الصورة، رخيم الصوت، طاهر الذيل، محب للسلام، يتقد غيرةً على صالح رعيته، وهو ضليع في اللغة العربية التي يكتب فيها نثرًا ونظمًا ببلاغة، وقد أحكم بنوعٍ خاص علم الفقه والمنطق والجبر والرياضيات والتاريخ، لا سيما علم الفرائض الذي تلقاه على الشيخ يوسف الأسير في بيروت، وله معرفة باللسان اليوناني وبعض الإلمام باللغتين التركية والروسية، وقال الشعر منذ حداثته، ومن نظمه بيتان أرسلهما من طرابلس إلى الشيخ رشيد نفاع تهنئة بعيد الميلاد وبفاتحة عام ١٨٩٥ وهما:

لمولى قد تسمَّى بالرشيد
هنا بالعيد والعام الجديد
فدُمْ بالخير ما وافاك عام
وبالإسعاد عيد بعد عيد

ومن ذلك بيتان قالهما في خلال التأبين الذي ألقاه بمناسبة وفاة إسكندر الثالث قيصر الروس:

سقى قبره الدمع السخي وكله
سخين فكاد الترب يُحرَق بالدمع
وبرَّد مثواه دعاء خلائقٍ
له بينهم طول المدى أجمل الصنع

ومن نظمه أبيات قرظ بها كتاب «آفات المدنية الحاضرة» لمؤلفه جرجي نقولا باز:

ورد الكتاب مبينًا آفاتنا
وملافيًا ما فاتنا بمجاز
فاسلم طبيبًا شارحًا ومشرحًا
ومعالجًا جرجي نقولا باز
لا زلت بالتوفيق في الدنيا وفي الـ
أخرى تنال رضى الذي سيجازي

وفي غرة عام ١٩١٢ وافق وجوده في بيروت زائرًا عند المطران جراسيموس مسرة فأهداه المطران قلمًا ذهبيًّا، فتناوله البطريرك وكتب به أبياتًا ارتجاليةً جاء في مطلعها:

كتبت بالقلم المهدى بلطفكمُ
إلى حقارتنا تذكار شكراني
الله يحفظكم يا رافعًا علمًا
للفضل والنبل بل يا خير مطران

أحمد عزت باشا العابد

الكاتب الثاني للسلطان عبد الحميد ومنشئ جريدة «دمشق»، وأحد المحررين في جريدة «سورية» الرسمية سابقًا.

***

نشأته

هو ابن محيي الدين أبي الهول (المشهور باسم هولو باشا) ابن عمر آغا ابن عبد القادر آغا ابن محمد آغا ابن الأمير قانص العابد من أمراء المشارفة، ينتمي إلى عشيرة عربية تُعرف بقبيلة «الموالي» وتسكن الخيام في بادية الشام بين الزور وتدمر، وهي تنتسب إلى قبيلة «بكر بن وائل» الحجازية القرشية كما ذكر الشيخ أبو الهدى الصيادي في كتابه المسمى «الروض البسام في أشهر البطون القرشية في الشام».

وُلد أحمد عزت باشا سنة ١٨٧٢ هجرية/١٨٥٥ ميلادية في دمشق وقرأ مبادئ العلوم في حداثته على أشهر جهابذة ذلك العصر كالشيخ عبد الرحمن الإسنوي، والشيخ أحمد الشطي، والشيخ أحمد عابدين؛ فأخذ عنهم الصرف والنحو والفقه الحنفي وأصول الحديث وقسمًا من الرياضيات، وتعلم مبادئ اللغات التركية والفرنسية والإنكليزية في مدرسة الآباء اللعازريين وعلى أساتذةٍ مخصوصين في بيت أبيه، ثم انتقل إلى المدرسة البطريركية في بيروت فأتقن بها اللغة الفرنسية وأخذ العلوم العربية العالية على الشيخ ناصيف اليازجي كالمنطق والبديع والمعاني والبيان.

وكان والده هولو باشا من المتقدمين في وظائف الحكومة العثمانية لذلك العهد، فإنه أحرز رتبة «بيلر بك» وتوصل إلى أن يكون متصرفًا على بعض الألوية مع أنه عربي الأصل، فسعى لبكر أنجاله صاحب الترجمة في وظيفة بمركز ولاية سوريا لما كان يتوسمه فيه من الذكاء والاستعداد لأرفع المناصب. وما كاد أحمد عزت يزايل المدرسة حتى تعيَّن كويتبًا في قلم المخابرات التركية، حيث أخذ يترقى رويدًا رويدًا حتى صار في سنة ١٨٧٣ رئيسًا لذلك القلم ولقلم المخابرات العربية أيضًا، وقد عهدت إليه الحكومة وقتئذٍ تحرير القسمَين العربي والتركي في جريدة «سورية» الرسمية لبراعته في فنون الإنشاء، فنزعت به نفسه إلى خدمة المعارف بطريق الصحافة، وأصدر باسمه عام ١٨٧٨ جريدة «دمشق» التي دافع بها عن الدولة والوطن، وقد نشر على صفحاتها فصولًا كثيرة أشار فيها إلى مآثر العرب ومفاخرهم وعلومهم وفضائلهم لا يبغي من ذلك كله ربحًا ماديًّا، ولبث على ذلك أعوامًا شتى حتى تكاثرت أشغاله وتعين لبعض الوظائف خارجًا عن مدينة دمشق فترك الجريدة.

وفي سنة ١٨٧٦ تعين كاتبًا لمجلس إدارة ولاية سوريا، وبعد ثلاثة أعوام من التاريخ المذكور صار رئيسًا لمحكمة الحقوق ثم مسيطرًا عامًّا على جميع المحاكم في ولايتي سوريا وبيروت ولواء القدس. ومما يثبت اقتداره في ضبط المحاكم ومعرفة القوانين أن رستم باشا وواصا باشا كانا يعتمدان عليه ويستدعيانه لإصلاح شئون محاكم جبل لبنان؛ فذاعت شهرته في البلاد وقام لفيف من العلماء والأشراف والتجار والشعراء فقدموا له مجموعة تتضمن ما خطَّه كلٌّ منهم نظمًا ونثرًا من آيات الثناء عليه، وجعلوا ضفتي المجموعة من الذهب الإبريز ونقشوا اسمه على ظاهرها مرصعًا بالحجارة الكريمة. وفي سنة ١٨٨٤ تعين لمثل وظيفته في ولاية قونية فاعتذر عن قبولها وحينئذٍ أرسلته الحكومة مفتشًا عامًّا لمحاكم ولاية سلانيك.

وبعد سنة صار رئيسًا لمحكمة الجزاء البدائية في العاصمة ثم رئيسًا لمحكمتها الاستئنافية، غير أنه لم يمضِ شهران على ذلك حتى أقيم رئيسًا عامًّا على محاكم التجارة الأهلية والمختلطة مدة ستة أعوام، وفي خلال ذلك أظهر اقتدارًا في كثير من معضلات الدعاوى مع الأجانب بكشف الباطل ونصب ميزان العدالة. وفي سنة ١٨٩١ صار عضوًا لدائرة التنظيمات في مجلس شورى الدولة، وفي عام ١٨٩٥ انتدبه السلطان عبد الحميد الثاني فجعله كاتبًا وقرينًا له، ثم عهد إليه عضويات جميع اللجان المالية وسماه رئيسًا على لجنة المهاجرين إلى الدولة العثمانية؛ فكان أحمد عزت مشمولًا بعناية السلطان الخاصة وأحرز من المجد وعلو المنزلة ما لم يحرزه أحد أبناء العرب المسلمين وغيرهم قبل هذا العهد في دولة الأتراك منذ تأسيسها.

ولبث في وظيفته الأخيرة ثلاث عشرة سنة يخدم دولته وسلطانه حتى طرأ الانقلاب العثماني في ٢٣ تموز ١٩٠٨ وجرى ما جرى مما هو مشهور ومعلوم، فخرج حينئذٍ من العاصمة على سفينةٍ أجنبية مودعًا وطنه الذي أخذت تتلاعب فيه عواصف السياسة وتنتابه المصائب الجسيمة من كل جهة، فذهب إلى لندن أولًا ولم يتخذ مركزًا مخصوصًا للإقامة فيه، بل هو يتنقل من بلد إلى آخر كمصر وسويسرا وفرنسا وإنكلترا بحسب اختلاف فصول السنة؛ لأن الأطباء أشاروا عليه باعتزال الأشغال مراعاةً لأحوال صحته التي أثرت عليها العوامل السياسية.

آثاره العلمية

سبق القول إن المترجم تعلم اللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية وأحكم أصولها تكلُّمًا وكتابةً، وله أيضًا إلمام بغيرها من الألسنة القديمة والحديثة التي لم يتمكن من درسها درسًا كافيًا لانصرافه إلى خدمة الدولة بطريق السياسة، ومع ذلك فإنه نقل من اللغة التركية إلى العربية كتاب «حقوق الدول» لمؤلِّفه حسن فهمي باشا والمجلد الأول من «تاريخ جودت باشا» لاحتوائه على فلسفة التاريخ، وترجم كتاب «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية» من اللسان العربي إلى التركي، وأنشأ جريدة «دمشق» المار ذكرها، وحرر جريدة «سورية» في قسميها التركي والعربي مدةً من الزمان، وشيد في المدينة المنورة مدرسة لمائتين من الأطفال وأنشأ لها أوقافًا تضمن بقاءها ونجاحها في المستقبل.

آثاره الوطنية

للمترجم أعمالٌ جديرة بالذكر في جانب الوطن والأمة العربية؛ فإنه لزم طريق الاقتصاد حتى كادت السلطنة العثمانية تستغني عن استقراض الأموال الأجنبية. ولما كان المقام يضيق دون نشر كل مساعيه النافعة نجتزئ منها بالقليل ونبسطه للقراء، فمن ذلك أن نظارة التلغراف كانت طلبت ١٣٠ ألف ليرة عثمانية لتنشئ خطًّا برقيًّا بين فزان وطرابلس الغرب، ولدى مراجعته استكثر هذا المبلغ فأخذ على عاتقه إنشاء الخط المذكور مع خطٍّ آخر يمتد من بنغازي إلى طرابلس الغرب بأقل من نصف المبلغ المشار إليه، ثم أحدث بين «كله مش» من أعمال ولاية أزمير وبين «بنغازي» في طرابلس الغرب خطًّا برقيًّا بلا سلك، فسهَّل للدولة العثمانية حرية المخابرة بينها وبين أملاكها في شمال أفريقيا ولم يكلف الخزينة أكثر من عشرة آلاف ليرة مرةً واحدة، وبهذا العمل أنقذها من استبداد شركة «أسترن» التي كانت تقبض من الدولة في كل سنة ثمانين ألف ليرة ما عدا أجور المخابرات غير الرسمية؛ فعادت هذه الأرباح لخزينة السلطنة، ثم مد خطًّا تلغرافيًّا بين دمشق والمدينة المنورة ولم يكلف الدولة أكثر من خمسة آلاف ليرة؛ لأنه تبرع بأكثر أعمدة الخط من أخشاب أحراشه الخاصة، واستعان بالبعض الآخر مما تبرع به أهل الخير في دمشق.

وفي ذلك الحين طلبت الشركة التلغرافية الهندية رخصةً بمد خطٍّ مستقل للمخابرات التلغرافية بين أوروبا والشرق الأقصى مع حق السيطرة عليه، فأبت أريحية صاحب الترجمة إجابة هذا الطلب وعهد إلى نفسه مدَّ الخط المذكور على نفقة الخزينة تخلُّصًا من سيطرةٍ أجنبية، فأنجز العمل في أقل من شهر ولم يكلف الخزينة بأكثر من ستة آلاف ليرة، مع أن نظارة التلغراف كانت قدرت احتياج عمل هذا الخط بمائة وثلاثين ألف ليرة، وعند إتمامه تمثل أوقونور سفير بريطانيا العظمى في القسطنطينية لدى السلطان عبد الحميد شاكرًا ومستغربًا قصر مدة العمل وقلة أكلافه.

ولما كانت المياه الواردة إلى المدينة المنورة تأتيها بمجرى تتخلَّله جراثيم الأوبئة القتالة أراد أن يضع حدًّا لهذا الخلل الذي طالما ذهب بأرواح الكثيرين من السكان والحجاج، فافتتح اكتتابًا حبيًّا جمع فيه نحوًا من خمسة آلاف ليرة وابتاع بها قساطلَ حديدية وآلاتٍ بخاريةً رافعة وأنابيب على الطراز الصحي، ثم بعث بها لحصر مياه الينابيع في القساطل وجرها إلى المدينة المنورة سالمة من الأقذار التي تُلقى في مجاريها ليستقيها الناس ماءً قراحًا خاليًا من تلك السموم، وما كاد يشرع بالعمل حتى اضطر أن يفارق الوطن فتوقف الشغل ولم تزل القساطل والآلات البخارية وفروعها ملقاةً في محطة حيفا وسائر محطات السكة الحجازية.

ومن مآثره الوطنية أنه تولى رئاسة لجنة المهاجرين مدة لا تتجاوز ثمانية عشر شهرًا، فأنشأ في خلالها نيفًا وأربعين قرية وأسكن فيها نحوًا من خمسين ألف مهاجر أكثرهم في ولايتي سوريا وحلب، ثم شيد من ماله الخاص في المدينة المنورة مستشفًى لخمسين مريضًا ورباطًا لخمسين عائلةً ومدرسة لمائتين من الأطفال، وجعل لهذه المباني أوقافًا مسجلة في الآستانة وفي المحكمة الشرعية بالقاهرة، وعلى ما اتصل بنا الآن أن المباني المذكورة استعملتها الحكومة لغير ما وُضعت له.

السكة الحديدية الحجازية

وكان المترجم منذ حداثة سنه يستعظم الأتعاب التي تلمُّ بالمسلمين في ذهابهم إلى الحج وإيابهم منه، وكان يستهجن الأموال الطائلة التي تبذلها السلطنة في هذا السبيل وفي نقل الجنود ومهماتها، فأخذ يتتبع ما فعلته حكومة روسيا بإنشاء السكة الحديدية لسيبريا، وبعد أن أتم أبحاثه عرض على السلطان وجوب إنشاء السكة الحديدية الحجارية بأيدي العساكر، ثم أوضح له الأخطار التي تتولد عن بقاء الحالة على ما هي عليه وما يلحق بالدولة من الأضرار السياسية والاقتصادية، وأخذ على عاتقه القيام بهذا المشروع الخطير الذي لم يقم في الدولة العثمانية مشروعٌ آخر يضاهيه أهميةً ونفعًا حتى الآن، فاستحسن السلطان رأي كاتبه وأذن له بمباشرة العمل بينا لم يكن في يده دانقٌ واحد ولا آلة ولا مورد يستند إليه، فافتتح أحمد عزت باشا لوائح الاكتتاب مقترحًا على الشعوب الإسلامية وملوكها وأمرائها وأغنيائها وعلمائها أن يشتركوا في المساعدة، فلبَّى جميعهم نداءه من مشارق الأرض ومغاربها وتبرعوا بالأموال الوافرة التي بلغ مجموعها نحوًا من ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه، فأنشأ بهذا المبلغ خطًّا طوله ألف وخمسمائة كيلومتر يمتد من حيفا إلى دمشق فالمدينة المنورة بمدة وجيزة لا يتصور العقل الإتيان بمثلها، وقد تحدث الاختصاصيون بذلك وقدروا صاحب الترجمة حق قدره لما أتى به من المدهش بهمته الشماء حتى أدرك البغية المنشودة. ولا ريب في أنه خدم المسلمين بهذا المشروع الجليل خدمةً عظيمة بحيث سهل لهم وسائل الاقتصاد والراحة بتقريب المسافات وتقليل النفقات وتوفير الأتعاب، وكان يؤمل أن يمد خطَّين من المدينة المنورة: أحدهما إلى مكة وجدة وصنعاء اليمن والآخر إلى البصرة، وأن تكون أكلاف إتمامهما من ريع خط الحجاز ومن الرسوم الطفيفة التي أحدثتها السلطنة لهذه الغاية، ولكن أبت الظروف إلا أن يضطر للخروج من وطنه فذهبت تلك الآمال أدراج الرياح، ولما تم خط «المدينة المنورة» أدخل إليها النور الكهربائي ولم يكن حينذاك له أثر في البلاد العثمانية، وقد عهد بإنشائه إلى ضباط الجيش البحري ولم يصرف في سبيله دانقًا واحدًا من خزينة السلطنة.

الرتب وأوسمة الشرف

أخذ صاحب الترجمة يترقى في مدارج المراتب منذ كان في السنة الخامسة عشرة من عمره، فأحرز أولًا الرتبة الرابعة في عهد راشد باشا والي سوريا الذي توسم فيه الذكاء والنجابة، ثم صارت تتوالى عليه الإنعامات مرةً بعد المرة حتى منحه السلطان عام ١٨٩٤ رتبة «بالا» مع «الوسام المجيدي الأول» عندما كان بين المتمثلين لديه للتبريك في عيد الأضحى، ثم نال «الوسام العثماني المرصع» مكافأة له على إنشاء الخطوط البرقية في طرابلس الغرب، وحاز على «الوسام المجيدي المرصع» عند إتمامه خطوط الكويت فأوروبا ودمشق فالمدينة المنورة، وأنعم عليه بوسام «الافتخار المرصع» لما أبرز من السرعة بعمار القرى لإسكان المهاجرين. وفي سنة ١٩٠٠ طلب بعض وزراء الدولة عقد قرض لأداء جانب من الديون، فاعترضهم أحمد عزت باشا واتخذ وسائل أوجد بها ما يفي تلك الديون بغير قرض، فرقَّاه السلطان إلى رتبة الوزارة تقديرًا لمساعيه في هذا العمل الجليل، ولما انتهت السكة الحديدية الحجازية إلى معان أنعم عليه بوسام «الامتياز المرصع» مع المداليتين الذهبية والفضية، وهو حائز أيضًا على جميع المداليات الافتخارية العثمانية بلا استثناء. أما سائر الوسامات التي أهدتها إليه الدول الأجنبية فعديدة وجميعها من أعلى طبقة كما هو ظاهر من رسمه، وكثير منها مرصع بالحجارة الكريمة وقد خلا رسمه من بعضها لوفرة عددها.

صفاته

هو رجل إقدام، لطيف المعاشرة، معتدل القامة، حسن الأخلاق، شديد الإكرام للضيف، محبٌّ لبني جنسه. وعندما كان في أوج مجده لدى السلطان عبد الحميد الثاني نفع كثيرًا من أبناء العرب طلاب الوظائف في الحكومة وما ردَّ أحدًا منهم خائبًا، فسعى لكل من لجأ إليه في تعيينه بوظيفة أو ترقيته إلى منصب أعلى بحسب كفاءته ولياقته؛ فاكتسب بذلك ثناء الخاص والعام وفاز بمحبة مواطنيه على اختلاف النحل والملل، وتواردت عليه مدائح الشعراء والبلغاء من داني البلاد وقاصيها. وبعد اعتزاله الحياة السياسية صار يقضي جانبًا كبيرًا من أوقاته في مطالعة الصحف ودرس أحوال الأمم والعناية بأملاكه الواسعة في سوريا ومصر. وكان للسلطان ثقة فيه يعول عليه في الأمور العظيمة؛ لأنه رأى فيه وزيرًا عالي الهمة قوي الحافظة واسع الاطلاع في أهم مناهج الحكومة قضائيًّا وسياسيًّا وماليًّا. وكنا نود بسط الكلام في سائر ما يتعلق بشئون هذا الوزير العربي الذي أحرز شهرةً في صحائف التاريخ الحديث قبل الانقلاب المشهور سنة ١٩٠٨ في السلطنة العثمانية، ولكن نترك للمستقبل الحكم له أو عليه بعد خروج هذه الدولة من المأزق الحرج الذي أوصلتها إليه السياسة الحاضرة فتقطع جهينة قول كل خطيب.

عبد الرحمن الكواكبي

محرر جريدة «فرات» ومنشئ جريدتَي «الشهباء» و«اعتدال» في حلب.

***

العظمة والشهرة صديقتان يغلب أن تتصاحبا؛ فلا تكون إحداهما بدون الأخرى، ولكنهما كثيرًا ما تفترقان فتكون العظمة بلا شهرة والشهرة بلا عظمة، فترى بين أهل الشهرة الواسعة من إذا لقيتهم وسبرت غورهم رأيتهم كالطبل يدوِّي صوته إلى بعيد وجوفه فارغ، وإنهم إنما نالوا تلك الشهرة بما طبعوا عليه من الميل إلى نشر محامدهم في الصحف ليقرأها الناس ويتحدثوا بها، وقد ينفقون المال ويتحدون أوعر أسباب السعي في هذا السبيل، وترى بينهم من لا محمدة له فينتحل محامد غيره أو تكون له حبة منها فيجعلها قبة، فإذا نشر ذلك عنه في صحيفة أو نشرة أو كتاب حمله وطاف به في الأهل والأصدقاء يترنَّم بقراءته عليهم ويتلذذ بما يلقى من آيات الإعجاب وخصوصًا في هذه البلاد — بلاد المجاملة التي يزداد فيها المغرور غرورًا؛ إذ لا يسمع من الناس إلا إطراءً وإعجابًا ولو كانت حاله تدعو إلى التقريع والتعنيف — ويعدون ذلك من آداب الحديث.

فما كل شهيرٍ عظيمٌ ولا كل عظيمٍ شهيرٌ، فكم بين ظهرانينا من رجال توافرت فيهم شروط العظمة ولو رافقتها الأسباب لأتوا بالأمور العظام، وقد تظهر مواهبهم من خلال أعمالهم وإن ضاقت دائرة العمل، ولكنهم لرغبتهم عن الشهرة لا يعرف أسماءهم إلا القليلون فإذا أصابهم سوء أذاع مريدوهم أخبارهم وتحدثوا بأفضالهم.

ومن هذا القبيل عبد الرحمن الكواكبي الحلبي فقد جاء مصر سنة ١٣١٦ﻫ وأقام في قلب العاصمة، ومع سعة علمة وغزارة مادته لم يسمع بذكره أحد ولا عرفه إلا الأصدقاء والأخصاء، وهناك أناس يقصرون عن إدراك بعض منزلته علمًا وفضلًا، ولكنهم لا تطأ أقدامهم مصر حتى تتناقل الصحف أخبارهم بما ينشرونه فيها من نفثات أقلامهم أو ثمار قرائحهم — وقد لا تكون تلك الثمار شهية — وإنما يعمدون إلى نشرها رغبةً في الشهرة، فالكواكبي لم يكن من أولئك، ولكن همه كان منصرفًا إلى خدمة الوطن ونشر المبادئ الصحيحة فيه بالتأليف والتلقين والصحافة بعد أن قضى معظم العمر في خدمة الحكومة العثمانية في حلب، وقاسى أمورًا صعابًا من وشايات ذوي الأغراض فلم يلقَ تربة تصلح لغرس مبادئه فجاء مصر ونشر بعض كتبه، فعاجله الأجل فمضى ومضت معه أمانيه وهي شبيهة بأماني جمال الدين الأفغاني، وقد استُهلك في سبيلها كما استُهلك ذاك من قبله.

ترجمته

آل الكواكبي أسرةٌ قديمة في حلب هاجر إليها أجدادهم منذ أربعة قرون ولهم شهرةٌ واسعة ومقام رفيع في حلب والآستانة، يرجعون بأنسابهم إلى إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظام ولهم آثارٌ مشهورة منها «المدرسة الكواكبية» في حلب، ونبغ منهم جماعةٌ كبيرة من العلماء ورجال الإدارة ومنهم عبد الرحمن الذي وُلد في حلب سنة ١٢٦٥ هجرية/١٨٤٩ ميلادية وأبوه الشيخ أحمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي الكبير.

تلقى عبد الرحمن مبادئ العلم في بعض المدارس الأهلية ودرس العلوم الشرعية في المدرسة الكواكبية، وأتقن العربية والتركية وبعض الفارسية، ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة. وكان ميالًا من حداثته إلى صناعة القلم فاشتغل في تحرير جريدة «فرات» التي كانت تصدر في حلب باسم الحكومة وهو في السابعة والعشرين من عمره، حررها خمس سنوات، وأنشأ في ١٠ آيار ١٨٧٧ بالشركة مع هاشم عطار جريدة سماها «الشهباء»، ثم أصدر لنفسه في ٢٥ تموز ١٨٧٩ جريدة سماها «الاعتدال» باللغتين العربية والتركية. واشتغل بخدمة الحكومة فتقلَّب في عدة مناصبَ علمية وإدارية وحقوقية، وأهل النقد يذكرون فضله في كل واحدة منها كبيرها وصغيرها؛ لأن اقتدار الرجل يظهر في الصغائر كما يظهر في الكبائر، وكان حب الإصلاح وحرية القول والفكر باديَين في كل عمل من أعماله، فلم يرُقْ ذلك لبعض أرباب المناصب العليا فوشوا به فتعمدت الحكومة حبسه ثم جردوه من أملاكه، فلم يقلل ذلك شيئًا من علو همته فغادر الوطن في أوائل شهر محرم سنة ١٣١٦ هجرية وطلب بلاد الله، فجاء مصر ثم خرج منها سائحًا فطاف زنجبار والحبشة وأكثر شطوط شرق آسيا وغربيها ثم رجع إلى مصر.

ومما يُذكر له ونأسف لضياع ثماره أنه رحل رحلة لم يسبقه أحد إليها ويندر أن يستطيعها أحد غيره، وذلك أنه أوغل في أواسط جزيرة العرب فأقام على متون الجمال نيفًا وثلاثين يومًا فقطع صحراء الدهناء في اليمن، ولا ندري ما استطلعه من الآثار التاريخية أو الفوائد الاجتماعية؛ فعسى أن يكون ذلك محفوظًا في جملة متخلفاته، وتحول من هذه الرحلة إلى الهند فشرقي إفريقيا أيضًا وعاد إلى مصر، وكان أجله ينتظره فيها فمات سنة ١٩٠٣.

كان الكواكبي واسع الصدر طويل الأناة فصيح اللسان معتدلًا في كل شيء، وكان عطوفًا على الضعفاء حتى سماه الحلبيون «أبا الضعفاء»، وجاء في جريدة «الرائد المصري» أنه كان له في بلده مكتب للمحاماة يصرف فيه معظم نهاره لرؤية مصالح الناس، ويبعث إلى المحاكم من يأمنهم من أصحابه ليدافعوا عن المظلومين والمستضعفين.

وكان واسع الاطلاع في تاريخ المشرق على العموم وتاريخ الممالك العثمانية على الخصوص وله ولع في علم العمران، وألف كتبًا لم ينشر منها إلا كتاب «طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وهو فريد في بابه، وكتاب «أم القرى» الذي راجعه معه الشيخ محمد عبده، ومع تمسكه بالإسلامية والمطالبة بحقوقها والاستهلاك في سبيل نصرتها فقد كان بعيدًا عن التعصب يستأنس بمجلسه المسيحي والمسلم واليهودي على السواء؛ لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة، ومن يقرأ ترجمة الكواكبي والأفغاني وغيرهما من رجال هذه النهضة ويدرس أعمالهم والأحوال المحيطة بهم يعترف بفضلهم في نصرة الحقيقة وتأييد الحق والحرية. وقد نقلنا هذه الترجمة عن الجزء الأول من كتاب «تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر» لجرجي بك زيدان وتصرفنا فيها قليلًا.

حسن حسني باشا الطويراني

مؤسس مجلة «الإنسان» ومحرر جرائد «السلام» و«الاعتدال» و«أرتقا» و«زمان» في القسطنطينية ومحرر مجلة «المهندس» ومنشئ جريدة «النيل» ومجلات «الشمس» و«الزراعة» و«المعارف» في القاهرة

***

هو ابن حسين عارف بك ابن حسن سهراب بك ابن محمود بك ابن مسيح بك ابن علي باشا الكبير أحد أمراء الأتراك في مقدونيا منذ عهدٍ بعيد، كان مولده بتاريخ ٦ ذي القعدة من سنة ١٢٦٦ هجرية/١٨٥٠ ميلادية في مدينة القاهرة، ومنذ حداثته نزعت به نفسه إلى تحصيل العلوم فنال منها نصيبًا وافرًا، وأحكم أصول اللغتَين العربية والتركية فبرز فيهما شعرًا ونثرًا حتى صار من أعظم الكتبة المعدودين في عصره، وطاف مراتٍ كثيرة في آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا وقد أعرب عن نفسه بقوله:

شرَّق النسر وغرَّب
وتترَّك وتعرَّب
فتحرَّى وتدرَّب
وتناءى وتقرَّب
ولئن أطرى وأطرب
فهو نصاح مجرَّب
وهو إن أعربَ أغرب
وهو إن أعجمَ أعرب

وفي نواحي عام ١٨٨٠ سكن القسطنطينية وأخذ يحرر في صحفها الشهيرة من عربية وتركية وهي: «السلام» و«الاعتدال» و«أرتقا» و«زمان» وغيرها، وأنشأ في ٢٨ آيار ١٨٨٤ مجلة «الإنسان» التي حوَّلها بعد ذلك إلى جريدة فعاشت خمسة أعوام، ثم سافر إلى القطر المصري حيث أصدر جريدة «النيل» ومجلة «الشمس» ومجلة «الزراعة» ومجلة «المعارف» وكتب في مجلة «المهندس» وغيرها من الصحف التي سيأتي ذكرها في جزءٍ آخر من هذا الكتاب، وحلَّت وفاته في أواخر شهر حزيران ١٨٩٧م/١٣١٥ﻫ في القسطنطينية فرثاه الشاعر الكبير ولي الدين بك يكن بقصيدة نورد منها هذه الأبيات:

أفروق شأنك في الورى عجب
دأب لأرضك تأكل الحرا
قال النعاة طوى الردى حسنًا
قلت اندبوه فقد طوى الدهرا
وطوى الطبيعة بعده وطوى
ما بعدها حتى طوى النشرا

وفي أثناء دفنه ارتجل أحد أصدقائه تاريخًا لوفاته فقال (غفر له) فجاء مطابقًا للسنة نفسها (١٣١٥) بحساب الجمل. وكان صاحب الترجمة حر الطباع، حادَّ المزاج، قضى عمره بخدمة الدين الإسلامي وإعلاء شأن المعارف لا يتزلَّف لكبيرٍ متمول ولا يرضخ لعدو، وقد كافأه السلطان على ذلك بأن منحه رتبة «مير ميران» وبعض أوسمة الافتخار، أما هيئته فقد وصفها عبد الغني العريسي صاحب جريدة «المفيد» البيروتية بما يأتي: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، كان دميم الخلق، قبيح المنظر، غائر العينين، مستطيل الوجه، نحيف الجسم متراخي الأطراف، قيل في حنكه عوج وفي رجله عرج، تبدو على أسارير وجهه سيماء الوفاة، وبين تضاعيف قلبه طيب الحياة …»

وألَّف كتبًا كثيرة طُبع بعضها وبقي البعض الآخر غير مطبوع، وهي: «حجة الكرام في محجة أهل الإسلام»، و«خلاصة الكلام في وجوب الإمام»، و«الأعد في الأيد»، و«حجة الإسلام في علم الكلام»، و«إرشاد الخليل في فن الخليل»، و«النصيح العام في لوازم عالم الإسلام»، و«الخلافة في الإسلام»، و«أحكام التصوير»، و«أحكام الدخان»، و«إجابة السائل لحل بعض المسائل»، و«الإنصاف في حقوق الأشراف»، و«معراج الأخلاف لمنهاج الأسلاف»، و«ارتياح الجنان بأرواح الجنان»، و«التوحيد»، و«حسن المساعي»، و«التهذيب الإلهامي في خدمة الدين الإسلامي»، و«تحفة الأعيان في آثار الإخوان»، و«الحق روح الفضيلة»، و«خط الإشارات» يشتمل على موضوع الإشارات الكتابية التي تستخدم في بيان المفاهيم الزائدة على الحروف والأحوال الصوتية، و«شرح المبادئ الحسنية في أصول الحكمة الدينية»، و«الروضة الندية في الطريقة الأحمدية»، و«دليل أهل الإيمان على صحة القرآن»، و«الرحلة الحسنية» و«الرحلة السودانية»، و«زهرة الحياة الدنيا في شعر الأموات والرؤيا»، و«دلالة الشعر في مستقبل الأمر»، و«عصمة الجماعة في وجوب الطاعة»، و«الحديث» و«سر القدر»، و«السيار الشرقي»، و«سوط العذاب»، و«شمس المشرق في سماء المنطق»، و«درس الحكم»، و«السيف القاطع في إثبات النبوة»، و«صبابة الرحيق في كئوس الشقيق»، و«مطية الحقيقة في ترتيب الخليقة»، و«صولة القلم في دولة الحكم» في ستة مجلدات، و«الصدع والالتئام في أسباب انحطاط وارتقاء الإسلام»، و«فاسقة الأخلاق ومنظومة الأخلاق»، و«النشر الزهري في رسائل النسر الدهري» يشتمل على مواضيعَ خيالية تحتها أفكارٌ فلسفية وسياسية وسواها، و«الوطن»، و«الإخاء العام بين شعوب أهل الإسلام»، ورسالة «ضلال المهدي» و«ظهير الشرق»، و«رسائل اليانوس» وهي أدبيةٌ فلسفية، وقصة «الوارث ابن تارك مع حبيبه الباكي ابن ضاحك» فيها مضامينُ سياسية، ورسالة «هدية الأتقياء في نسب الأنبياء»، و«مصابيح الفكر في السير والنظر»، و«أحكام السياسة وحكمها»، و«منارة الأحباب في جنات الآداب»، و«مقامات الحسن»، و«منشآت الحسن» وهي مقالاتٌ سياسية نشرها في جريدة «النيل» تباعًا ثم استبدلها بعنوان «المستوجزات»، و«الشكل في سر الرمل»، ورسالة في «الزجل»، و«مدهشات القدر»، و«فهرست الانقلاب»، و«يوم الدهر في انقلاب مصر»، و«أدوار مصر والمصريين»، وباشر تأليف بعض الكتب ولم يتممها وهي: «التاريخ العثماني»، و«التفسير القرآني»، و«عوامل المستقبل في أوروبا»، و«التوفيق الخيري»، وترك جملة دواوينَ شعرية وهي: «ثمرات الحياة» في جزأين، و«شطحات القلم»، و«طوالع الأماني»، و«ندوة الراح»، و«لواحق الثمرات»، و«منظومة البديع»، و«منظومة جواهر العقائد».

أما تآليفه في اللغة التركية فهي: «حجة الأبرار على محجة الأشرار»، و«جان كوكل صحبتي»، و«خلاصة تاريخ بيغمبري»، و«رازدرون»، و«أولمش برشئ»، و«سيار أفكار»، و«شجاعت»، و«قاموس خيال»، و«يادكار»، و«خلاصة مدنيت إسلام»، وله أيضًا ديوانان في الشعر التركي: أولهما «كلشن شباب» وثانيهما «ديوان حسني».

ونختتم سيرة هذا الصحافي بسرد شيء من نفثات شعره، فمن ذلك ما قاله ردًّا على القصيدة التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس» بقلم الشيخ إبراهيم اليازجي وهذا أول الرد:

دع عنك خائنة الوساوس
فالذل عاقبة الدسائس
واخش الكلام فكم جنت
حرب البسوس وسبق داحس
ماذا تريد بشنِّها
دهياء توحش كل آنس

ومن أطيب ما نظمه قوله:

إن الحياة وطيبها ونعيمها
مما يؤمل في الزمان ويعشق
غاياتنا فيه بداية غيرنا
كالشمس مغربها لغيرك مشرق

وقال في الحماس:

خلقت للسيف والقرطاس والقلم
فالدهر عبدي وأهل الدهر من خدمي
لا تنثني هممي عن نيل محمدةٍ
ولا ترد على رغم العدا كلمي
تنزهت شيمي عن كل شائبةٍ
وبذخت فاعتلت هام العلا قدمي
حفظتُ ماء المحيا إذ ضننتُ به
وقلت هُنِّئت يا يوم الفخار دمي
لو أن عقد الثريا كان لؤلؤه
نثار حظي لما هشت له هممي
أو أن بدر السما يسعى بشمس ضحى
لما استمال فوادي أو سبى حكمي
دعني أخا الشوق لا تذكر لديَّ هوى
ما أبعد العهد بي من جيرة العلم

وقال في الحكم:

لا تقل إني صديق
أو فلان لي صديق
إنما أنت وهذا
كرفيق في طريق
فاجتماع في اتساع
وافتراق وقت ضيق

وقال أيضًا:

أما والذي فوق السموات عرشه
وتحت الثرى من غامض الأمر فرشه
ومن عمم الجاني والبر فضله
ومن أدرك الجبار ذا الجأش بطشه
لكل الذي في الكون أضغاث حالم
وميت ولا يدري ورجلاه نعشه
فيا ليت لم أخلق وإذ كنت ليتني
ألفت الفلا أو حام نحوي وحشه

الدكتور إلياس بك مطر

منشئ مجلة «الحقوق» في القسطنطينية.

***

جاء منكوبو حاصبيا إلى بيروت سنة ١٨٦٠ وهم بحالة يرثى لها ثكلًا ويتمًا عدا الرعب والتعب، وقد بعثرتهم المذبحة وشتتت شملهم بعد أن نهبهم الثوار وصادروهم فلجئوا إلى بيروت عائلاتٍ مفردةً وجماهير، ولكن العناية عوَّضت عليهم أضعاف ما خسروا، فتعلم بعضهم وامتاز بالعلم وأثرى البعض الآخر واشتهر بالثروة وجمع غيرهم بين الأمرَين معًا، وكان بمقدمة المستفيدين علمًا ومالًا الدكتور فارس نمر أحد أصحاب «المقتطف» و«المقطم» في مصر والدكتور إلياس بك مطر منشئ مجلة «الحقوق» التركية العربية في القسطنطينية.

وقد وُلد إلياس في حاصبيا سنة ١٨٥٧ وكان أبوه ديب بن إلياس مطر تاجرًا فيها وأسرته أكثر أسرها عددًا ومن أهمها مكانةً، وكانت أمه خاتون بنت يوحنا دوماني لبنانيةً من دير القمر وعائلتها معروفةً بالوجاهة والفضل، فلما حدثت مذبحة حاصبيا سنة ١٨٦٠ هجر ديب مطر وعائلته تلك الربوع وجاءوا بيروت عن طريق «المختارة» بحماية سعيد بك جنبلاط أحد زعماء الدروز واستقروا هنا، ونشأ منهم الطبيبان الدكتور إلياس والدكتور إبراهيم والصيدليان ملحم وفيليب.

فتلقَّى إلياس مبادئ اللغتين العربية والفرنسية في مدرسة طائفة الروم الأرثوذكس الكبرى «ثلاثة الأقمار» على عهد مديرها إلياس بك حبالين محرر جريدة «لبنان» الرسمية، ثم دخل «المدرسة البطريركية» للروم الكاثوليك وأتقن فيها لغة العرب على سليم بك تقلا مؤسس جريدة «الأهرام» والشيخ ناصيف اليازجي العلامة الشهير، وبرع بلغة الفرنسيس وألمَّ بالتركية، وبعد أن لازمها خمس سنوات انتقل منها إلى «الكلية السورية الإنجيلية» للأميركان حيث درس الكيميا والنبات فالصيدلة، وكان يمارس هذا الفن عند أخيه ملحم في صيدلية «النحلة» الباقية إلى اليوم بعهدة أخيهما فيليب، وكان يأخذ منه أجرة شغله ويدفعها راتبًا للدكتور فارس نمر ليعلمه الكيميا علاوةً على الدروس المفروضة، وألف بأثناء ذلك تاريخًا لسوريا، وكان شديد الرغبة في المطالعة والدرس فلم يصرف ساعةً من فتوته باللهو إلا ما استوجبته الرياضة، وكثيرًا ما اختلى في غرفة وارتقى الفرش في الخزانة كمنبر وأوقف المساند وخطب فيها كأنها بشر وأشبعها نصحًا وإرشادًا أو تأنيبًا وانتقادًا وهو دون الثالثة عشرة من عمره، وقد امتاز بين أترابه بالذكاء والاجتهاد، ولما بلغ العام الثامن عشر مذ أبصر نور الشمس سافر إلى القسطنطينية ليؤدي امتحانًا بالصيدلة وينال شهادةً رسمية، وبعدما أدى الامتحان ونال الشهادة طلب من وزارة المعارف رخصةً بطبع كتابه «تاريخ سوريا» فأجازت له بطبعه، وقابل وزيرها جودت باشا العالم المشهور والد الكاتبة التركية فاطمة علية وقدم له قصيدة؛ فسُرَّ الوزير بجرأة الفتى وأعجب باستعداده، فدعاه إلى تعليم ابنه علي سداد بك ومعاشرته والمعيشة معه في بيته، فأقام عنده معزَّزًا مكرمًا زهاء عشر سنوات درس جيدًا في خلالها لغة الأتراك وأتقنها على ممدوح بك أحد علمائها الذي صار بعد ذلك وزيرًا للداخلية وبقي فيها إلى إعلان الدستور. وقد اختار جودت باشا هذا الأستاذ لمعلم ابنه احترامًا منه لأهليته، ثم أشار عليه بدرس الطب في المكتب السلطاني فدرسه ونال الشهادة الطبية رسميًّا، وعينه ملازمًا في وزارة المعارف وأبقاه عشيرًا لولده ونزيل قصره.

وإذ تعيَّن جودت واليًا للشام جاء معه إلياس وتعيَّن طبيبًا لبلدية دمشق، ولما ترك الولاية عاد وإياه إلى العاصمة فوظفته وزارة المعارف مفتشًا للمدارس العالية وعيَّنته نظارة المكتب الطبي طبيبًا لهذه المدارس، وحالما أنشئ مكتب الحقوق دخل يدرس فيه حقوق الناس وشرائعهم ونظاماتهم مع بقائه في الوظيفتين، وهو من أول صفٍّ نال شهادة هذا المكتب إلا أنه بعد نيله هذه الشهادة ترك طبابة المدارس واشتغل بالمحاماة مدة، وانتظم عضوًا في محكمة التجارة في بك أوغلي (بيرا) وانتقل منها إلى عضوية محكمتَي الحقوق فالجزاء، واتفق حينئذٍ أن تلاميذ المكتب الطبي نفروا من أستاذ حفظ الصحة واستُبدل بغيره وهذا لم يوافقهم، فتعين الدكتور مطر أستاذًا لهم وبقي عضوًا في محكمة الجزاء، فسُرُّوا به كثيرًا وصفقوا لأول درس منه تصفيقًا حادًّا، وإذ بدت مقدرته بهذا العلم عيَّنوه أستاذًا له أيضًا في المكتب الملكي الشاهاني وفوق ذلك عينوه لتدريس المواد الجزائية في مكتب الحقوق؛ وهكذا كان أستاذ ثلاثة مكاتب عالية رسمية في وقت واحد. وظل يأخذ رواتب أربع وظائف معًا نحو عشرين سنة إلى أن أُحيل على التقاعد سنة ١٩٠٩ لداء اعتراه مع حفظ الحق له بالرجوع إليها حالما يشفى.

ومع وفرة أشغاله وتعدد وظائفه قد اعتنى كثيرًا بالعلم والأدب وألَّف اثنين وثلاثين كتابًا طبعها كلها في العربية والتركية منها بلغتنا «تاريخ سوريا» «وشرح مجلة الأحكام»، وأنشأ مجلة «الحقوق» في اللغتَين العربية والتركية بالاشتراك مع المحامي إلياس بك رسام وأصدرها خمس سنوات، وله كتاب في «علم حفظ الصحة» قررت وزارة المعارف تدريسه في المكاتب العالية.

وقد تدرج بالرتب الرسمية إلى أن بلغ الأولى صنف أول ونال الوسامَين العثماني والمجيدي واكتفى بلقب بك، وكان عضوًا في «الجمعية الطبية العثمانية» و«دائرة التأليف والترجمة» في نظارة المعارف، وكانت الدولة تعتمد عليه في درس بعض المسائل وفضِّ بعض المشاكل؛ مما زاد عن واجباته في مأمورياته، وبحكمته جمع ثروةً وافرة وقد ربح من تدريسه الطب وتآليفه فقط نحو خمسة آلاف ليرة، وتزوج آنسةً يونانية وولد ابنتَين وصبيَّين، وكان ضليعًا في العربية والتركية والفرنسية يحسنها كلها تكلُّمًا وكتابة، وملمًّا بالإنكليزية، ومتقنًا التكلم بلغة اليونان.

عاد إلى بيروت في أواخر عام ١٩٠٩ يشكو الزلال داءً به وهو في الثانية والخمسين؛ فما أفاده تغيير الهواء ولا مهارة الأطباء. وفي الرابع والعشرين من شهر آذار سنة ١٩١٠ توفي فجرى له مأتمٌ حافل اشتركت فيه الحكومة رسميًّا وعزَّزته بفرقة من الجند تكريمًا للفقيد، وقد أُقيمت الصلاة عليه في كنيسة القديس ديمتريوس وابنه المطران جراسيموس مسرة، ودفن في مقبرة النبي إلياس بطينا منضمًّا إلى رفات والدَيه، وكان قصير القامة، ممتلئ الجسم، أبيض اللون، أسود العينين.

جرجي نقولا باز

جبرائيل دلال

منشئ جريدة «الصدى» في باريس و«السلام» في القسطنطينية ومراسل صحف «الجوائب» و«الجنان» و«الأهرام» و«مرآة الأحوال».
أحباي قد شطت دياري عنكمُ
ودهري فيما أبتغيه يعاند
فؤادي قريب منكمُ في بعاده
ومن غيركم في قربه متباعد

***

نشر قسطاكي بك حمصي سنة ١٩٠٣ ترجمة هذا الصحافي الجليل في كتيب عنوانه «السحر الحلال في شعر الدلَّال» فاقتطفنا منها ما يأتي وأضفنا بعض زيادات تناسب المقام:

وُلد في ٢ نيسان ١٨٣٦ وهو سليل بيت كريم من أعرق بيوتات حلب في العز والجاه، فنشأ في بيت أبيه عبد الله دلال ومجلسه إذ ذاك منتدى الفضلاء ومثابة النبلاء يقصده أدباء الوقت وشعراؤه كفتح الله مراش ونصر الله الطرابلسي وسواهما. وفقد صاحب الترجمة أباه صغيرًا فاعتنت شقيقتُه مادلينا بتربيته وهي من فاضلات النساء، وقد نظم المعلم بطرس كرامة تاريخًا لضريح عبد الله دلال بقوله:

لحد ثواه ابن دلال التقي فغدا
برحمة الملك القدوس مغمورًا
قضى الحياة على نهج الصلاح وقد
لاقى المنية مبرورًا ومشكورًا
ناداه رب غفور إذ نؤرخه
نلْ جنة الخلد عبد الله مسرورًا
سنة ١٨٤٧

ولما أكمل درس مبادئ القواعد العربية أرسلته أخته إلى مدرسة عين طورا بلبنان فلم يلبث فيها إلا ستة شهور، ثم عاد إلى حلب وكأنه قد درس الفرنسية والإيطالية سنين طوالًا، وذلك لما أوتيه من توقد الذهن وملكة الحفظ، فأقام فيها يطالع العلوم بنفسه ويدرس أصول اللسان التركي، ومال إلى اقتناء الكتب فلم يقع كتابٌ نفيس في يده إلا اشتراه فأصاب حظًّا وافرًا من علوم العرب، وكان يحفظ جلَّ ما كان يقرؤه فكان يتذكر في الخمسين من عمره ما كان قرأه مرةً واحدة قبل ذلك بثلاثين سنة، وكان يحفظ ديوان المتنبي وأكثر شعر الصفي ومقامات الحريري وكثيرًا من مقدمة ابن خلدون والمعلقات السبع وطائفة من أشعار العرب وقسمًا كبيرًا من القرآن، وكانت له مشاركة في أكثر العلوم ودرس فن الرسم فأصاب شيئًا منه، وكان شديد الولوع بالغناء عارفًا بفن الموسيقى متمكنًا من علمي الجغرافية والتاريخ، وله رسالة في التاريخ العام غير كاملة، وكان يحرز حصةً حسنة من العلوم الرياضية والفلسفة والطب، وكان يتتبع العلوم والفنون العصرية والاكتشافات والاختراعات، فكان صدره أشبه بخزانة علوم وفنون فلا يُسأل عن علم أو اختراع أو مسألةٍ فلكية أو سياسية إلا ويجيب أحسن جواب، بل كثيرًا ما كان يأخذ في الشرح والتعليل كأنه من أئمة ذلك الفن فيجيد غاية الإجادة.

وكان طيب الحديث لسنًا فصيحًا وشاعرًا متفننًا من الطراز الأول، سريع التصور لطيف الشمائل خفيف الروح صحيح الانتقاد يميل إلى المزاح أحيانًا، وكان الغالب على طباعه سلامة السريرة وكثرة الوفاء وحرية الفكر. لما كان في نحو العشرين من عمره مات له عم في القسطنطينية بلا عقب وترك ثروةً كبيرة، فسافر إليها ليستولي على حصته من التركة المذكورة ثم عاد إلى وطنه بعد خمسة شهور، وعلى أثر رجوعه بمدةٍ قصيرة تزوج فتاةً من أجمل بنات الشهباء بل بنات الشرق جامعةً بين الذكاء والصيانة، وفي سنة ١٨٦٨ عاد إلى القسطنطينية فلبث فيها إلى السنة التالية، وفي تلك الأثناء نظم من القصائد والمقطعات شيئًا كثيرًا كقوله من قصيدة يمدح بها جودت باشا:

العلم بعض صفاته والفضل بعـ
ـض خلاله والحلم بعض خصاله
والجود من أسمائه والسعد من
قرنائه واليمن من إقباله

ثم استصحب قرينته معه إلى أوروبا وزارا أكثر مدنها الشهيرة، وبعد مدةٍ قصد صاحب الترجمة بلاد البرتغال لقضاء حاجة كانت في نفس أحد أصحابه من الأشراف كان توسل إليه في التماسها من ملك تلك الدولة، فلما تشرف بمقابلة الملك أجاب الملك سؤله وبلَّغه مأموله وربح جبرائيل من ذلك مالًا جزيلًا، ومرَّ في طريقه بإسبانيا وأحب أن يتفقد آثار العرب في الأندلس وما كان لهم هناك من ضخامة الملك واتساع الحضارة، ثم عاد إلى مرسيليا حيث أصيبت قرينته بمرضٍ عضال فماتت مأسوفًا على شبابها، فرثاها رثاءً مؤثرًا بقوله:

لي حالة يكتمها تجلدي
إظهارها يصدع قلب الجلمدِ
قد شرد الغم جناني بالأسى
وقيد الهم لساني ويدي
فباطن تبكي له أحبتي
وظاهر تضحك منه حُسَّدي
وما جرى نفى الكرى وفي الورى
بعد الذرى عدت أرى في الوبد
من محنتي وفكرتي ولوعتي
تجلدي تسهدي تنهدي
وهمتي تأبى الخمول فترى الـ
جد مقيمي والقضاء مقعدي
على شبابي والبلاد والغنى
وا حسرتى وا حزني وا كمدي

ولما لم يطق الإقامة في المدينة المذكورة بعد هذا المصاب سار إلى باريس ومنها إلى بلاد الجزائر في المغرب الأوسط ومنها إلى بلجيكا، ثم رجع فألقى عصا التسيار في باريس وهناك انتدبه سنة ١٨٧٧ وزير المعارف لتحرير جريدة «الصدى» العربية التي كانت تصدر فيها بأمر الحكومة الفرنسية، وكان يترجم بين سفراء الحكومات العربية الذين كانوا يقصدون باريس كوزراء مراكش وتونس وزنجبار وبين وزراء فرنسا وغيرهم من أشراف العاصمة. وبين أولئك الوزراء نذكر خير الدين باشا وزير باي تونس فإنه اتخذ صاحب الترجمة نديمًا له وجعله أمين سره وكلفه ترجمة رسالاتٍ عديدةٍ سياسية من اللسان العربي إلى الفرنسي وتهذيب بعض الرسائل التي كان يكتبها الوزير بالعربية، وقد توثقت عرى المودة بينهما فلم يكن يستغني عنه يومًا حتى إنه استصحبه معه إلى حمامات فيشي حيثما كان يذهب في صيف كل عام أكثر رجال السياسة من سائر الممالك للمذاكرة في المهمات متسترين ببراقع الاستحمام. ومن غرر أشعاره الموشح الذي مدح به خير الدين باشا ومطلعه:

ساعد الحظ بذا اليوم السعيد
طالع ميمون
فغدا عود اللقا أبهج عيد
صفوه مضمون
جرد البرق على عنق الغمام
صارمًا بتار
فانبرى يفتك في جيش الظلام
آخذًا بالثار
وهفا خفقًا كقلب المستهام
إثر ركبٍ ثار

ولما انتدب خير الدين باشا سنة ١٨٧٩ لمنصب الصدارة العظمى كتب إلى جبرائيل يستدعيه إلى القسطنطينية، فلبَّى هذا الأمر الصدر الأعظم وكان يأكل على مائدته ويملي على سمعه درر مفاكهته، وكلفه الصدر المشار إليه إنشاء جريدة «السلام» وكان خير الدين باشا ينشر بها آراءه السياسية وأفكاره في طرق إصلاح السلطنة، ثم ألغيت الجريدة وكان صاحب الترجمة قد نال شهرةً بعيدة لدى أعاظم رجال الدولة العثمانية.

وبعد استقالة خير الدين باشا من منصب الصدارة وردت الرسائل على الدلال من رئيس المكتب الملكي في فينا عاصمة النمسا يطلب بها إليه أن يكون أستاذًا أول في المكتب المذكور، فرحل إليها سنة ١٨٨٢ حيثما لبث سنتين، وألَّف لتلامذته رسالةً في الهمزة وأحكامها، ورسالة ثانية في قواعد اللغة العربية تقرب منالها على الطالبين من الفرنج. وكان يراسل في أسفاره أهم جرائد ذلك العصر كصحيفة «الجوائب» في الآستانة و«الجنان» في بيروت و«الأهرام» في الإسكندرية و«مرآة الأحوال» في لندن، وفي تلك الأثناء اقترح عليه السيد موسى المفضل وزير مراكش أن يمدح سلطانها مولاي حسن فنظم قصيدة من غرر القصائد حازت حسن القبول، ولما وافى باريس ناصر الدين شاه إيران طلب سفيره حينذاك يعقوب خان إلى جبرائيل دلال أن يمدح جلالته، فنظم قصيدةً شائقة مطلعها:

يا أيها الملك المظفر
ذو البطش والليث الغضنفر
يا ناصر الدين الذي
في الملك قام مقام حيدر

وفي صيف سنة ١٨٨٤ عاد إلى حلب بعد أن طال رحيله عنها نحو سبعة عشر عامًا وقد طبقت شهرته الآفاق، واشرأبت لرؤيته الأعناق، فأقام في منزله مجلسًا للآداب، جمع فيه شتيت ذوي الألباب، لم تر مثله الشهباء منذ قديم الزمان، غير أن بعض الحساد افتروا عليه قولًا زورًا وفعلًا يعلو هذا الصحافي عنه علوًّا كبيرًا، فعكروا صفاء أيامه وسئمت نفسه الإقامة في وطنه مع شدة تعلقه به؛ فرحل عنه ولسان حالة ينشد مع الشاعر:

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

وأمَّ مدينة بيروت فلقي من حفاوة علمائها به ما أنساه شيئًا من الأكدار التي صادفها في آخر أيام إقامته بحلب، ثم قصد القسطنطينية وحلَّ ضيفًا على صديقه منيف باشا وزير المعارف الذي أعاده إلى الشهباء وعيَّنه بوظيفة أمين خزانة مجلس المعارف في مركز ولايتها، وأضاف إليه منصب أستاذ أول للغة الفرنسية في المكتب الإعدادي في المدينة المذكورة، وقال له حينئذٍ هذا الوزير: «إن هذا دون ما يليق بفضلك ووجاهتك ولكن قدر الله فستنال بعده ما يشرح صدور أهل الفضل.»

فقام الدلال بخدمة ذلك المنصب بكل أمانة إلى أن اتهم بتأليف وطبع قصيدة «العرش والهيكل» المشهورة التي لم ترق في عيون الحكام المستبدين في العهد الحميدي، فعُزل من منصبه وأُلقي في السجن مدة سنتَين حتى فاجأته المنية في صبح الرابع والعشرين من كانون الأول ١٨٩٩ عن ستة وخمسين عامًا قضاها في الأسفار وخدمة العلم، فتقاطر آله وأصحابه ونقلوه إلى منزله ثم دفن بين ذرف العبرات وتردد الحسرات، وقد نظم قسطاكي بك حمصي هذه الأبيات لتُنقش على ضريحه:

ها هنا اليوم ثوى بدر النهى
بعدما كان ينير الخافقين
ها هنا قد ألحدوا بحر الحجا
فيلسوف القطر نظام اللجين
ذاك جبرائيل دلال الذي
فضله قد ضاء مثل الفرقدَين
يا أُولي الفضل الثموا هذا الثرى
واندبوه أثرًا من بعد عين

عيسى إسكندر المعلوف

مؤسس مجلة «الآثار» ومنشئ جريدة «الشرقية» وصحيفة «المهذب» في زحلة ومحرر جريدة «لبنان» في بعبدا ومجلة «النعمة» وصحيفة «العصر الجديد» في دمشق وناشر المقالات المختلفة المواضيع في أكثر من ثلاثين جريدةً ومجلة عربية في سوريا ومصر وأميركا.
إن رسمي سر جسمي
وفعالي سر نفسي
بفعالي وصف حالي
وبرسمي ذكر رمسي

***

هو عيسى بن إسكندر ابن الخوري إبراهيم بن عيسى بن شبلي أبي هاشم المعلوف، وُلد في قرية «كفر عقاب» اللبنانية في ١١ نيسان سنة ١٨٦٩ فتلقى مبادئ العلوم في مدرسة قريته الإنجيلية، وفي أواخر سنة ١٨٨٤ مسيحية دخل مدرسة الشوير العالية الإنجيلية في لبنان ودرس الإنكليزية والعلوم على رئيسها الدكتور وليم كرسلو الإسكتلندي وتخرج بالعربية، ثم ترك المدرسة لداعٍ في أسرته ودرس على نفسه، ثم درس في مدرسة الآباء اليسوعيين في قريته وولع بالمطالعة واقتناء الكتب، وفي ٥ كانون الأول سنة ١٨٩٠ عُيِّن محررًا لجريدة «لبنان» التي أنشأها نسيبه إبراهيم الأسود وكاتبًا لإدارتها أيضًا في بعبدا ومصححًا لمطبوعاتها، وكتب فيها مقالاتٍ عمرانية وأدبية ولا سيما في الزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد والأوضاع العربية، وتولى تصحيح كتاب «البصائر النصيرية» في المنطق بمشاركة جرجس صفا بالمقابلة على نسخةٍ قديمة، ولم يتم من هذا الكتاب إلا نحو نصفه لقفل المطبعة والجريدة في أول عهد نعوم باشا متصرف لبنان بعد أن ظهر من الجريدة ٨٦ عددًا.

فعاد إلى مسقط رأسه واشتغل في التصنيف فوضع كتاب «لطائف السمر في لبنان والقرن التاسع عشر» وهو يبحث في شئون لبنان وحكوماته وعادات سكانه وخرافاتهم وآدابهم إلخ، ولا يزال مخطوطًا، وكذلك بدأ بوضع كتابه «دواني القطوف» في تاريخ أسرة المعلوف والأسر الشرقية وهو الذي طبعه بعد ذلك، ووضع كتاب «الإغراب في الإعراب» ولا يزال مخطوطًا، وسنة ١٨٩٣ طُلب لتدريس آداب العربية والعلوم العالية والإنكليزية في «مدرسة كفتين» الأرثوذكسية في لبنان قرب مدينة طرابلس الشام، فدرَّس فيها بضع سنوات وتخرج عليه كثير من الأدباء والكتبة والشعراء، ونظم فيها ثلاث روايات تمثيلية هي: «مقتل بطرس الأكبر لولده ألكسيس» و«جزاء المعروف» و«ذبح إبراهيم لولده إسحاق» وهي مخطوطة، ووضع في تلك المدرسة بعض مؤلفات مثل: «الكتابة» التي طبع منها الجزء الأول، ورسالة «الشعر والعصر» المطبوعة أيضًا، و«شحذ القريحة في المقطعات البليغة الفصيحة» وهو في الشعر والشاعر والفنون الشعرية ومنتخبات الأشعار مرتبة على أسلوبٍ جديد يقع في ١٦٠٠ صفحة، و«تحفة المكاتب للمعرِّب والكاتب» وهي في الأوضاع اللغوية والمعربات، و«المشجرات» وهي تقسيم العلوم العربية لتسهيل تعلمها على طريقة «السينوبتيك» الفرنجية، وهذه الكتب الثلاثة لم تُطبع، ثم عاد إلى تحرير جريدة «لبنان» بعد استئناف نشرها، وإذ ذاك تزوج السيدة عفيفة كريمة إبراهيم باشا معلوف من زحلة، وجاء زحلة مستقدمًا لتدريس الحلقات العليا في «الكلية الشرقية» المنشأة إذ ذاك عام ١٨٩٨ فدرس فيها آداب العربية والرياضيات والإنكليزية بضع عشرة سنة، على أنه غادرها سنةً واحدة انتدب فيها سنة ١٩٠٨ لإدارة المدارس الأرثوذكسية في دمشق، فاستقدمته «الكلية الشرقية» إليها في السنة التالية ولا يزال فيها مدرسًا إلى الآن. ولما كان في دمشق حرر جريدة «العصر الجديد» ثم مجلة «النعمة» البطريركية التي رتبها وأنشأ مقالاتها التاريخية والعلمية، منها «تاريخ الصحافة» الذي أشرنا إليه في [التوطئة – الفصل الثاني: تعريف الصحافة من أقوال مشاهير الملوك والكتَّاب والصحافيين].

ولما كان في «الكلية الشرقية» أنشأ في أول تشرين الأول سنة ١٩٠١ جريدة «المهذب» لطلبة البيان فطبعها على الهلام (الجلاتين) ثم نيل امتيازها وتولى تحريرها مدة وهي الآن بيد الخوري بولس كفوري، وأنشأ سنة ١٩٠٩ جريدة «الشرقية» على الهلام أيضًا لتلاميذه، وكان في ٦ آذار سنة ١٩٠٣ قد أنشأ في تلك المدرسة «جمعية النهضة العلمية» وترأسها، وهي إلى الآن للتمرين على الخطابة والمباحث الأدبية.

ولقد تخرج على يده معظم ناشئة زحلة ولبنان الجديدة وهم من الأدباء والصحافيين في الوطن والمهجر، وفي شهر تموز سنة ١٩١١ أنشأ مجلة «الآثار» الشهيرة، وهي متحف لأقلام كبار الكتاب في سوريا والعراق ومصر، وكان أول ما نشر فيها صورة الأمير فخر الدين الثاني المعني وترجمته المطولة عن مخطوطاتٍ نادرة أهمها تاريخ «الخالدي» و«ذيل الكواكب» للنجم الغزي ونحوهما، ونشرت له مقالاتٌ كثيرة وقصائد في أهم المجلات والجرائد في سورية ومصر والمهجر كالبيان والضياء والمقتطف والهلال والمشرق والشمس والرئيس والمقتبس والطبيب والإنسانية والصفاء والنور والحقيقة وفتاة الشرق والسمير والزهور والكوثر والاقتصاد والحسناء وكوكب البرية والنعمة ولسان الحال والأحوال ولبنان والمنار والمحبة والعصر الجديد والبرق وحمص والأيام والبرازيل والأفكار والمحيط والشهاب والرائد المصري والطرائف وزحلة الفتاة والمهذب وأشباهها، وبعضها يدفع له راتبًا خاصًّا لقاء مقالاته.

ومما نشره مؤخرًا من مؤلفاته «تاريخ زحلة» و«خطاب الأخلاق مجموع عادات» و«الأم والمدرسة»، ومما لا يزال مخطوطًا منها «أسرار البيان» و«مغاوص الدرر في أدباء القرن التاسع عشر» و«الأخبار المروية في الأسر الشرقية» في بضعة مجلدات و«قطوف الفوائد من رياض الجرائد» في بضعة عشر مجلدًا و«الطرف الأدبية في تاريخ اللغة العربية» و«العصريات»، وديوانه الذي سماه «بنات الأفكار» وفيه أكثر من عشرة آلاف بيت في المواضيع الحديثة مثل قوله في الجرائد:

إذا فاح طيب من رياض الفوائد
فناشر ريَّاه نسيم الجرائد
هي العلة الأولى لرفع مواطن
هي الغاية الجُلَّى لشهمٍ مجاهد
تُهذِّب أخلاقًا تُرقِّي مواطنًا
تُعزِّز آدابًا بأفضل عائد
فتاريخنا اليومي فيها مسطَّر
سيبقى بقاء النقش فوق الجلامد
رعى الله آثار الصحافة إنها
منار الهدى يبدو كقطب لراصد
وسقيا لكتابٍ تجارى يراعهم
بميدان طرسٍ كالجواد المطارد
أسالوا على القرطاس ماء دماغهم
بذهنٍ زكيٍّ زنده غير صالد
إذا صنع اليوبيل يومًا لفاضل
فللكاتب النحرير من دون جاحد
وإن نصب التمثال تذكار همةٍ
فللقلم السيال قيد الأوابد

ومن شعره العلمي قوله:

ماذا أؤمل في حياتي مرتجى
من صاحب مهما استقمت تعرجا
عجبي لما في طبعه فكأنه
ماء وليس يسير إلا أعوجا

ومن حكمه قوله:

كل شيء تقتنيه في الورى
عندما تعطيه بعض الهمم
إنما العلم إذا أعطيته الـ
ـكل يعطي البعض فابذل تغنم

وقوله:

دع عنك ما قد جنت الكبريا
من ثمر الشر الذميم الوخيم
فالكبرياء زهرة قد نمت
في حقل شيطان الشرور الرجيم

ومن تعريبه قوله عاقدًا حكمة شكسبير كبير شعراء الإنكليز:

كم نرى الخمرة داء
يورد المرء رداه
إنها في فيه لص
سارق منه نُهاه

وقال معربًا لشاعر إفرنسي:

إن بيتًا ليس فيه
ولد يولي المسرةْ
قفص لا طير فيه
وجنان دون زهرةْ

ومن تواريخه الشعرية قوله يؤرخ مجلة «البيان» اليازجية سنة ١٨٩٧ مضمنًّا شطر التاريخ من قول أبي القاسم الخلوف:

هذي مجلة من بوافر علمه
ضرب البيان موارد الأمثال
علَّامة العصر الرفيع مقامه ابـ
ـن اليازجي محطة الآمال
في عهد عباس الأمير بمصره
قد نال إبراهيم أوج معالي
والعصر بالتاريخ جلَّ وقد محا
فلق البيان غياهب الأشكال

إلى غير ذلك من القصائد العصرية والمعربات الكثيرة من أشهر قصائد شعراء الفرنج على اختلافهم ولا سيما الشعر التاريخي، فإنه أكثر منه كما قال نسيبه قيصر بك المعلوف من قصيدة في مدحه:

جعلتَ منه سَنا التاريخ منبثقًا
وكان قدمًا سَناه خير مُنبَثِقِ

أما أخلاقه ومزاياه فإنه حادُّ المزاج والذهن، كثير الجلَد على الكتابة والمطالَعة لا يكاد يملُّ. وقد صرف نحو ثلاثين سنة في العمل العقلي الدائم وهو متمتع بصحته كأنه في مقتبل الشباب. وهو طيب القلب لا تنحني ضلوعه على ضغينة، ولا يدخل قلبه حبُّ انتقام، متساهلٌ في آرائه على غير تردد ولا تسرُّع. فكيرٌ في العواقب، وَلوع في التاريخ، ولا سيما تاريخ الأُسَر الشرقية. جيد الحافظة، كاتبٌ شاعرٌ خطيب، يرتجل الكلام متى أراد بلا لكنة ولا تحبُّس. اقتنى مكتبةً مهمة قلَّما توجد عند الأفراد، بينها كثير من المخطوطات القديمة والرسائل والأوراق التاريخية والأدبية. ولدَيه كثير من مخطوطات يده وتعاليقه لا يكاد يُصدِّق من يراها أنها نسج قلمه. وهو يدرس في «الكلية الشرقية» خمس ساعات كلَّ يوم لحلقاتها العليا، ويُنشئ مجلة «الآثار» ويديرها بيده، ويكتب في مجلة «النعمة» وغيرها. ويستنسخ الكتب ويعرِّب المقالات توسعًا في مباحثه، فضلًا عن اشتغاله بكتاب تاريخ «الأُسَر الشرقية» المتواصل، مما يدلُّ على اجتهاده وجلَده.

القس توما أيوب

القس توما أيوب؛ مراسل جريدة «البشير» البيروتية من حلب مدة ٢٥ سنة.

***

هو باسيل بن توما بن جرجس أيوب، ولد في أوائل شهر آذار سنة ١٨٦١ في مدينة حلب، ولما ترعرع اختاره السيد أغناطيوس جرجس الخامس بطريرك السريان الأنطاكي من بين الرفاق وأرسله إلى مدرسة الشرفة بلبنان فقرأ فيها اللغات السريانية والعربية الإيطالية، ثم رحل عنها إلى مدرسة الآباء اليسوعيين ببيروت، وهناك كان يُدرِّس اللغة العربية ويدرس الفرنسوية واللاتينية واليونانية والبيان والخطابة والمنطق والفلسفة. ثم عاد إلى مدرسة الشرفة فقرأ فيها اللاهوت النظري والأدبي، وتخرَّج في الطقوس البيعية إلى أن جاء إلى حلب، فرقَّاه فيها البطريرك المشار إليه إلى الدرجة الدياقونية ثم إلى درجة الكهنوت؛ وذلك في ٢ شباط سنة ١٨٨٥، وجلَّاه باسم توما على اسم أبيه.

ومنذ أول نشأته الكهنوتية صرف معظم همه واجتهاده إلى تهذيب الشبيبة وتربيتها وإيقاظ الآداب فيها من غفلتها. وقد أنفق ٢٧ سنة في خدمة العلم والتعليم في أهمِّ معاهد الشهباء العلمية. وكانت المدارس تتنافس في الحصول عليه والسعيدة من كان فيها أستاذًا؛ لأنه كان لُغويًّا مدقِّقًا واقفًا على أعمق أسرار البلاغة، ضامًّا لشَتات آداب العرب. وقد عُرف بتسهيل وعورة مسالك الدروس وإدناء مجانيها من أفهام الطلبة مهما عاصت. ولا يكاد يُرى بين أدباء الشهباء مَن ابن خمس وأربعين سنةً فما دون مَن لم يقرأ شيئًا عليه ويلتقط من جواهرِ فِيه. وكأنك ببيته سوق عكاظ يختلف إليه أبناء الأدب ليعرضوا عليه مقالات نثرهم وقصائد شِعرهم. وكان يستقبلهم بما عهد به من طلاقة المحيا والبشاشة والإيناس.

وقد أسس ناديًا سماه «نادي الأدب» ضمَّ فيه من شبان الشهباء من يميل إلى البحث عن بلاغة العرب وأسرارها. وكان يشغلهم بإلقاء الخطب ودرس العلوم عن الملاهي المحرَّمة والملاعب الشائنة للآداب. وقد كان همُّه الأكبر في جمع الكتب المفيدة حتى أصبح عنده مكتبةٌ عامرة جمعت من كل صنف، وكانت مفتوحة الأبواب لكل مُطالع ومستعير. وبذلك كان يقي آداب الشبيبة من الفساد بقراءتهم سواها من كتب العهر والكفر.

ولما بلغ السنة الخامسة والعشرين للكهنوت، وهي سنة ١٩٠٩ استفزت الحمية والمحبة ومعرفة الجميل تلامذته الشبان فأقاموا له يوبيلًا شائقًا كان كعيدٍ وطني لجميع سكان الشهباء، أقبل عليه فيه المهنئون بتقادمهم وخطبهم وقصائدهم ودعواتهم الخيرية وبرهنوا بذلك على تعلقهم به وتقديرهم قدر فضله.

هكذا قضى حياته بين الطروس والمحابر والدروس والمنابر حتى اعتراه مرضٌ طويل المدة قاسى منه مر العذاب صابرًا متجلدًا، واستأثرت به رحمة الله عصر يوم الخميس الواقع في ٥ تشرين الأول ١٩١١ وسير بجنازته صباح يوم الجمعة في غاية التهيب والاحترام، وقد تقدم نعشه مطران السريان ولفيف كهنة الطوائف وتلامذة مدارسها للذكور والإناث، وكانت موسيقى مدرسة الروم الكاثوليك تعزف بأنغامها الشجية قيامًا بجميل الفقيد؛ لأنه تولى التدريس فيها سنين طويلة، وكان الأسف عليه شديدًا عامًّا؛ لأن الشهباء فقدت بموته إمامًا وحجة في اللغة العربية يُرجع في حل معضلات المشاكل إلى رأيه، وخدم الصحافة مدة ربع قرنٍ كامل بصفة مراسل من حلب لجريدة «البشير» البيروتية فكان يتحفها بالأخبار الصادقة والمقالات الأدبية، ونشر على صفحات مجلة «المشرق» وغيرها من الصحف نبذًا مفيدة.

وخلف آثارًا علميةً كثيرة نقتصر منها على ما يأتي: كتاب «شبكة بطرس» يتضمن نحو مائة وخمسين موعظةً زاجرة لا تزال قيد خطه، وله ديوان شعر رقيق عنوانه «عرف الصبا» في نحو مائة صفحة، وكتاب «موارد السلوان لمتناولي القربان» وكتاب «تحقيق الأمنية في عبادة الوردية»، وكان له الباع الطويل في الترجمة والتصرف في العبارات الفرنجية فيفرغها في قوالبَ عربية لا يشتمُّ منها القارئ شيئًا من رائحة الأصل، من ذلك رواية «فابيولا» أو «بيعة الدياميس» المطبوعة في مطبعة الآباء الفرنسيسيين في أورشليم وهي بقلم الكردينال نقولا وسمن، وقد راجعها بعد ذلك على الأصل الإنكليزي وأضاف إلى حسنها رونقًا وطلاوة، ومن الروايات المترجمة بقلمه أيضًا: «خالدة» أو بيعة قرطجنة، و«شهيد الجلجلة» أو مجموع تقاليد شرقية عن حياة السيد المسيح وموته، ومنها «قرة العين في رواية إلى أين»، ورواية «الكفارة» أو ماجريات أوائل القرن الرابع، ورواية «غد الطوقان» يحوي حكاية أحوال الأعصر الأولى في بابل ومصر، وله نحو ستين روايةً تمثيلية بعضها من تأليفه وبعضها مترجم بقلمه وقد جرى تمثيل أكثرها في المدارس أو الجمعيات الخيرية وأنفق ريعها في سبيل البر، فكان في حين واحد يهذب أخلاق الجمهور بالحكم السنية ويجبر كسر البؤساء بأرباحها المادية، ثم جمع الأمثال الجارية على ألسنة القوم في وطنه وطبعها بعنوان «المنتخب في أمثال حلب»، وله غير ذلك من الرسائل والفكاهات والمطارحات الأدبية والآثار الجليلة التي تخلد ذكره الحسن بين علماء عصره.

مريانا مراش

أول سيدةٍ عربية كتبت في الصحف السيارة.

***

نختتم هذا الباب بترجمة أول سيدةٍ سورية أنشأت مقالة في مجلة أو جريدة، فمريانا مراش هي الكاتبة الأولى التي نشرت أفكارها في الصحف العربية على ما نعلم، فحري بتاريخ الصحافة أن يدوِّن سيرتها وأن يسبق سير الصحافيات بها، لا سيما؛ لأنها إحدى شهيرات شاعراتنا ومن بواكيرهن في القرن التاسع عشر، وكلما تذكرنا وردة الترك ووردة اليازجي تذكرنا مريانا مراش.

وُلدت مريانا في حلب في شهر آب سنة ١٨٤٨ وترعرعت في أحضان والدَين كريمَين ترضع لبان الأدب وتتغذى ثمار العلم، فنشأت أديبةً عالمة تجيد الإنشاء وتحسن الشعر، وكان أبوها فتح الله بن نصر الله بن بطرس مراش رجلًا فاضلًا عُني بالمطالعة واقتناء الكتب، وجمع مكتبةً نفيسة ورغب في الكتابة وتمرن عليها وله كتابات عديدة مختلفة المواضيع لم تُطبع، وكانت أمها ذكيةً عاقلة من آل أنطاكي نسيبة مطران حلب يومئذٍ ديمتريوس أنطاكي وكلتا الأسرتين معروفتان بالوجاهة وجليل الصفات، وأخواها فرنسيس وعبد الله مشهوران في عالم الأدب؛ كان الأول شاعرًا متفننًا ومنشئًا مجيدًا، درس الطب في وطنه على طبيبٍ إنكليزي وقصد باريز لينهي دروسه فيها، ومن آثاره الأدبية المطبوعة نثرًا ونظمًا: «غابة الحق» و«مشهد الأحوال» و«مرآة الحسناء» و«رحلة باريز» و«شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة» و«تعزية المكروب وراحة المتعوب» و«المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية» و«الكنوز الفنية في الرموز الميمونية»؛ وكان الثاني كاتبًا لوذعيًّا عاش في إنكلترا وفرنسا يتعاطى التجارة، ومن مؤلفاته رسالة في التربية بالغة حدَّها من التدقيق نشرها في مجلة «البيان» للشيخ إبراهيم اليازجي؛ وغير ذلك من الآثار الصحافية والعلمية.

فتربت مريانا في هذا البيت الكريم على مهاد الذكاء والمعرفة، وإذا اقتضت أشغال والدها أن يكثر في أثناء حداثتها التغيب عن بيته والسفر إلى أوروبا قامت والدتها بتربيتها قيامًا حسنًا لم يكن يرجى من كثيرات من أمهات تلك الأيام، وكان من الفتاة أن دخلت المدرسة المارونية في الخامسة من عمرها، وانتقلت بعد ذلك إلى المدرسة الإنجيلية التي أنشأها الدكتوران أدي وورتبات فدرست فيهما مبادئ اللغة العربية والحساب وبعض العلوم، وفي الخامسة عشرة أخذ أبوها يعلمها الصرف والنحو ثم العروض، وعلمها بعض لغة الفرنسيس التي أحسنتها فيما بعدُ على بعض المعلمين، ودرست فن الموسيقى وأتقنته جيدًا دون أستاذ.

فتفرَّدت في حلب وامتازت على أترابها فنظر الناس إليها بغير العين التي ينظرون بها إلى غيرها، وتهافت الشبان على طلب يدها فرضيت منهم زوجًا لها حبيب غضبان، ورُزقا ولدًا وابنتين: جبرائيل وليًّا وأسما. بدأت بالكتابة والشعر في صباها وأول مقالة رأيناها لها «شامة الجنان» نشرتها في مجلة «الجنان» في الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة ١٨٧٠ وصدَّرتها بهذين البيتَين لشاعرٍ قديم:

بنفسي الخيال الزائري بعد هجعةٍ
وقولته لي بعدنا الغمض تطعم
سلام فلولا البخل والجبن عنده
لقلت أبو حفصٍ علينا المُسلِّم

وعارضته باستحسان قومه صفتي الجبن والبخل بالنساء، ودعت قومها إلى بدلهما بالحرص والشجاعة مميزة بين الاقتحام والجرأة، وانتقدت بمقالاتها هذه عادات معاصراتها وحضَّتهن على التزيُّن بالعلم والتحلِّي بالأدب، ثم كتبت في العام التالي للجنان مقالة «جنون القلم» تشكو فيها حال انحطاط الكتَّاب وتُحرض على تحسين الإنشاء وترقية المواضيع والتفنُّن بها، وتدعو بنات جنسها إلى الشروع في الكتابة وترغِّبهن فيها، ومن مقالاتها في هذه المجلة «الربيع» وموضوعها التربية نشرتها في المجلد السابع سنة ١٨٧٦ وكلها فوائد غرر، ونشرت بعض مقالات على صفحات الجرائد كلسان الحال وغيره.

ونظمت قصائدَ عديدة في الغزل والمدح والرثاء وعدة أغاني على أنغامٍ مختلفة جمعت منها ديوانًا صغيرًا نشرته برخصةٍ رسمية من نظارة المعارف بعنوان «بنت فكر» مطبوعًا سنة ١٨٩٣ في المطبعة الأدبية هنا، وقد هنَّأت بشعرها السلطان عبد الحميد عندما صار سلطانًا وعايدته في أحد أعياد جلوسه وهنَّأت أمه بقصيدة، ومدحت توفيق الأول خديو مصر، وجميل باشا وأمين باشا والي حلب، وأيوانوف قنصل روسيا فيها، ورَثَت أخاها فرنسيس وكثيرًا من صديقاتها، من ذلك قولها لأم السلطان:

كما رعيت صباه خوف نائبةٍ
قد صار يرعى زمام الملك للأمم

ومن منظوماتها ما يأتي في مدح خديو مصر:

زهور الروض تبسم عن ثغورٍ
زهت فحكت عقودًا من جمان
نداها يبهج الأرواح رشفًا
به ماء الحياة لكل دان
إذا هبَّ النسيم على رباها
تعطرت المعاهد والمغاني
رعاه الله من روضٍ أرانا
من الأغصان قامات الحسان
وحورًا إن سفرن وملن عجبًا
سلبن عقول أرباب المعاني
وقد قامت طيور الأنس تشدو
بألحان أرقَّ من المثاني
هنا جنات بشرٍ قد تراءت
لدى الأبصار في شبه الجنان

ومنها في مدح جميل باشا والي حلب:

أفديه لا أفدي سواه جميلا
أولى المحب تعطفًا وجميلا
بدر عنت دول الجمال لحسنه
فأبى لذا تمثاله التمثيلا
فإذا تجلى فوق عرش كماله
تجثو له زهر النجوم مثولا
وإذا توارى في حجاب سنائه
لا تبلغ الجوزا إليه وصولا
كملت محاسنه فبالإشراق والـ
أنوار صار عن الشموس بديلا

ومنها في مدح أيوانوف قنصل روسيا:

بزغت شموس السعد بالشهباء
فجلت لياليها من الظلماء
قشعت غيوم الضيم عنها فانجلت
كعروسةٍ تزري ببدر سماء
وغدت بها السكان تمرح بالهنا
وتجر ذيل مسرةٍ وصفاء
تتمايل الغادات مائسةً بها
كتمايل النشوان بالصهباء
من كل غانيةٍ زهت بجمالها
ودلالها كالروضة الغناء
ماست كغصنٍ فوقه بدر له
مرأى الثريا في بديع بهاء
بحواجب مقرونة قد أوترت
قوسًا ترن بها سهام فنائي
إن كلمت صبًّا بنبل لحاظها
كان الشفاء له بعذب الماء
حتى تردَّ إليه ذاهب روحه
فيعود معدودًا من الأحياء

وقالت أيضًا مشطرةً بعض أبيات من نظمها:

للعاشقين بأحكام الغرام رضا
يمسون صرعى به لم يؤنفوا المرضا
لا يسمعون لعذل العاذلين لهم
فلا تكن يا فتى للجهل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا
ذاك الذمام وقد ظنوا الهوى عرضا
جاروا وما عدلوا في الحب إذ تركوا
عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصبِّ الذي فتلوا
وكان يزعم أن الموت قد فرضا
أصابه سهم لحظٍ لم يبالِ به
فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا
فما ابتغى بدلًا منهم ولا عوضا
تقطع القلب منه بانتظار عسى
فسام صبرًا فأعيا نيله فقضى

وقالت ترثي صبيةً توفيت محترقة بالبترول:

عفافة نفس مع بديع محاسن
ورِقَّة أعطاف فلله كم تسبي
لقد جمعت ضدين في حد ذاتها
ففي اللحظ إيجاب يشير إلى السلب

وقالت وقد اقترح عليها ذلك:

بذكر المعاني هام قلبي صبابةً
فيا نور عيني هل أكون على القرب
عسى الشمس من مرآك للعين ينجلي
فتنقل للأبصار ما حلَّ بالقلب

ولها أيضًا:

ذو العقل يسمو بالحجا ويسود
وبحسن رأي يمدح الصنديد
إن الفتى المقدام من يوم الوغى
خاض المعامع والعداة شهود
والندب من نال الفخار وزانه
بالجد آباء له وجدود

ومن منظوماتها الحكمية قولها:

شرف الفتى عقل له يسمو على
كل الورى فينال غايات المنى
وكذاك حسن الخلق فخر مسودٍ
متسربل باللطف نعم المقتنى
والمرء إن شهدت له أفعاله
بالفضل والآداب يكتسب الثنا
ما كل من طلب الكرامة نالها
من رام صيد الظبي حل به العنا
ذو المال يذهب ذكره مع ماله
لكنَّ ذكر الفاضلين بلا فنا

وقالت ترثي أخاها فرنسيس:

ما لي أرى أعين الأزهار قد ذبلت
ومال غصن صباها من ذُرى الشجر
ما لي أرى الروض مكمودًا وفي كرب
والماء في أنةٍ والجو في كدر
ما لي أرى الوُرْق تنعى وهي نادبة
فراق خلٍّ وتشكو لوعة الغير
نعم لقد سابق الأحياء أجمعها
وناب ذا اليوم مطروحًا على العفر
من فقَّه الناس في علم وفي أدبٍ
ونوَّر الكل في شمس من الفكر
أبدى من الفضل ضوءًا لا خبوَّ له
والشمس شمس وإن غابت عن النظر
وإنه بحر علم لا قرار له
وقد حوى كل منظوم من الدُّرر
هذا الذي جابت الأقطارَ شهرته
قد صار مطَّرحًا في أضيق الحفر
خنساء صخر بكته حينما نظرت
إليه ملقًى بلا سمع ولا بصر
أقلام أهل النهى ترثيه وا أسفى
هل عاد من عودة يا مفرد البشر
مذ غاب شخصك هذا اليوم عن نظري
جادت عيوني بدمع سال كالمطر
فيا لدهرٍ خئون لا ذمام له
قد راش سهمًا أصاب الفضل بالقدر
فحزن يعقوب لا يكفي لندبك يا
ندبًا تفرَّد بالأجيال والعصر
ويلاه من حزن قلب نال غايته
مذ واصل القلب في غمٍّ مدى العمر
في لجة الحزن نفسي ضاق مسكنها
من ذا يسلِّي فؤادي قل مصطبري

واشتهرت مريانا بلطفها وخفة روحها وبحسن صوتها وجمال مغناها، وقد جعلت بيتها ناديًا لأهل الفضل تجول معهم في مضامير العلم والأدب. سافرت مرة إلى أوروبا واطلعت على أخلاق الأوروبيين وعاداتهم عن قرب فاستفادت منهم كثيرًا، ثم عادت إلى وطنها تبث بين بنات جنسها روح التمدن الحديث والأخلاق الصحيحة، وهي اليوم مريضة في حلب تلازم بيتها وحالتها يُرثى لها، وقد وصفها مرة جبرائيل دلال بقصيدة جاوب بها من بيروت ابن أخته قسطاكي بك حمصي على قصيدة أرسلها إليه من بيت مريانا في حلب قال منها:

ولا أشتهي سواكم ولا أر
غب فيها من بعد تلك الوقائع
غير قرب الفريدة اللطف ذات الـ
ـصوت والحسن والذكا والبدائع
ربة الفضل والفضائل مريا
نا التي ذكرها يسر المسامع
والتي زانها الكمال إذا زا
ن سواها الحلى وسدل البراقع
جرجي نقولا باز
١  يقال لهذه الكنيسة «سيدة قزان» تيمنًا بصورة العذراء مريم التي نقلها القيصر يوحنا الرابع من مدينة قزان إلى موسكو عاصمة روسيا قديمًا، وكانت هذه الصورة محترمة من جميع الشعب حتى إن العساكر الروسيين كانوا يحملونها في طلائعهم في محارباتهم مع التتر، ولما أنشأ بطرس الأكبر عاصمة الروس الجديدة باسمه نقل إليها صورة «سيدة قزان» فابتنى لها كنيسةً فخيمة تشبه كنيسة القديس بطرس في رومة، ومن ذلك الحين صار تاريخها مقرونًا بأمجاد عرش القياصرة، ومفاخر المملكة الروسية؛ لأن القياصرة يزورونها قبل أسفارهم من العاصمة وبعد رجوعهم إليها، وجميع أعضاء العائلة الإمبراطورية يقضون فيها أكثر فروضهم الدينية. ومما يؤثر أن ساحتها الخارجية غاصَّة دائمًا بجماهير الشعب وأبناء المدارس، وهي مركز الاجتماعات الشهيرة والحوادث العظيمة التي جرت عام ١٩٠٥ وكانت حينئذٍ مرسحًا للثورة الأهلية، فارتفعت فوق مبانيها الرايات الحمراء وجرت فيها الدماء سيولًا، وفي السنين الأخيرة أنشأت فيها بلدية بطرسبرج حدائق غناء وغرستها بالأشجار الباسقة ليستطيع سكان العاصمة أن يتنزهوا فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤