الفصل الخامس

أخبار جرائد القاهرة من سنة ١٨٩٠ إلى نهاية الحقبة الثانية سنة ١٨٩٢

(١) المحاكم

جريدةٌ قضائيةٌ علميةٌ أدبية أنشأها في ٤ آيار ١٨٩٠ يوسف أصاف اللبناني، كانت تنتشر أولًا ثلاث مرات في الأسبوع بأربع صفحات متوسطة الحجم، ثم صارت أسبوعية ذات ثماني صفحاتٍ صغيرة مشتملة على المقالات الشرعية والفصول القضائية، ولم تزل حية حتى الآن.

(٢) صدى الشرق

figure
ولي الدين بك يكن؛ منشئ صحف «المقياس» و«الاستقامة» و«القانون الأساسي» والمحرر في جريدتي «القاهرة الحرة» و«النيل» بمدينة القاهرة ومؤسس جريدة «الإقدام» في الإسكندرية وناشر المقالات الرنانة في أشهر الصحف العربية.

ما من صحيفةٍ عربية قبل هذا العهد كافحت في سبيل كسر قيود الاستبداد في بلادنا مثل جريدة «صدى الشرق» الذائعة الصيت، وهي أسبوعيةٌ سياسيةٌ أدبيةٌ تجارية ظهرت في ٦ نيسان ١٨٩١ لمحررها حبيب فارس اللبناني وصاحب امتيازها خريستيان بوجاد الفرنسي الأصل، وغرضها كشف الستار عن مظالم بعض رؤساء مأموري الحكومة اللبنانية لا سيما زعيمهم كوبليان أفندي صهر واصا باشا حاكم الجبل؛ فراجت الجريدة رواجًا عظيمًا بين الخاصة والعامة بما لم يعهد له مثيل قبل ذاك العهد. وهي من أوليات الصحف التي أقدمت على إعلان الحقيقة بلا محاباة، ومهدت السبل لكسر قيود الظلم في السلطنة العثمانية، ورغمًا من مصادرتها من الحكومة أقبل الناس على مطالعة مقالاتها الرنانة التي كانت تضرب بعصًا من حديد على أيدي المأمورين الخائنين الذين عمموا الرشوة في الجبل حيث لم يُعرف لها اسم ولا رسم في سالف الأيام، وكان بعض أعدادها مزينًا برسوم مشاهير أولئك الخونة تأديبًا لهم وعبرةً لسواهم. وقد ساعد على نشرها رهط من أعيان سوريا ولبنان نذكر في طليعتهم يوسف بن بشارة هاني الذي بسط لها يدًا سخية، وكان من أكبر أنصارها وأعظم مروجيها.

فلما عجزت حكومة لبنان عن استقدام محرر «صدى الشرق» من وادي النيل عمدت إلى معاملة أبيه الطاعن في السن وأخيه أنطون فارس معاملة الوحوش الكاسرة، فأرسلت شرذمة من جنودها لإلقاء القبض على أنطون فارس الذي لجأ إلى مغاور الأرض حتى تمكن من الفرار من وجه الظلم بمساعدة قنصل فرنسا العام في بيروت والمطران يوسف الدبس، فسافر إلى مرسيليا آمنًا وهناك أنشأ جريدة «المرصاد» في ظل الراية المثلثة الألوان، فحوَّلت حكومة واصا باشا قوتها لتعذيب والد حبيب فارس الذي نزل به داء الفالج على أثر ما شاهده من اعتساف تلك الحكومة الغاشمة، وكانت تصدر الأوامر مشددة لاستقدام ذلك الشيخ العاجز محفوظًا لمركز المتصرفية حتى يكفَّ ولده حبيب عن إعلان الحقيقة، ولكن أحد الأطباء ذوي المبادئ الشريفة وهو الدكتور فارس نجيم أعلن مع زميله الدكتور داود مشاقة أنه يستحيل إخراج الشيخ المريض من بيته بلا وقوع الخطر على حياته.

فأخذت الحكومة آنئذٍ تضطهد وكلاء جريدة «صدى الشرق» ومراسليها كالشيخَين فيليب وفريد الخازن في جونية، ويوسف بك الشدياق في بيروت، فألقت القبض على الشيخ فيليب ويوسف بك ثم ساقتهما كما يساق كبار المجرمين إلى مركزها الصيفي في «بيت الدين» حيث زجتهما بالحبس للانتقام منهما بكل الوسائل البربرية، بل كادت تفتك بحياتهما لو لم يقيض لهما مساعدًا في شخص سليم فارس ابن الشيخ أحمد فارس الشدياق المشهور بالوجاهة والدهاء ونفوذ الكلمة عند الباب العالي، فإنه أنقذهما من الإهانة والاغتيال وأخرجهما من السجن بإرادةٍ سلطانية منتصرين على أنصار الظلم وزعماء الاستبداد.

ثم حولت الحكومة اللبنانية اهتمامها إلى استقدام حبيب فارس محرر «صدى الشرق» من مصر لأجل الانتقام منه، وبينما كان يكتب يومًا في غرفته بشارع كلوت بك وافاه رسول يحمل بطاقةً من الرجل اللبناني الغيور داود بك عمون ينبئه فيها بأن الحكومة الخديوية أصدرت الأوامر إلى دائرة البوليس لإلقاء القبض عليه وتسليمه لجنودٍ مخصوصين قادمين من جبل لبنان؛ فأخذ حبيب فارس قرطاسًا وكتب يشكو ظلامته إلى اللورد كرومر معتمد الدولة البريطانية بمصر، ثم بعث بالرسالة مسجلة في البريد وكانت آنئذٍ الساعة الثامنة ليلًا، فلما أصبح الصباح أقبل عليه الدكتور فارس نمر أحد صاحبي جريدة «المقطم» ومجلة «المقتطف» وقال له: «إنني أتيت لأدعوك حتى تكون حاضرًا عند الساعة العاشرة من هذا الصباح في دار اللورد كرومر؛ لأن كتابك بلغه وكنت حينئذٍ بناديه، وعند تلاوته لأسطرك الوجيزة اغرورقت عيناه بالدموع وأمرني أن أدعوك لداره.»

وفي الوقت المعين ذهب حبيب فارس إلى مقابلة اللورد المشار إليه فخاطبه اللورد بما يأتي: «كن مطمئن البال لأنك مصون من كل الاعتداء، فأنت حر أن تكتب ما تشاء، حتى إنني أبيح لك انتقاد الحكومة البريطانية؛ لأن كل حكومةٍ راقية لا تضغط على حرية الصحافة، ولقد قرأنا شيئًا كثيرًا عن حكومة لبنان فلنا الأمل أنك تصلح حالها.»

فخرج حبيب فارس من لدنه وضاعف همته في تقبيح أعمال الخائنين من متوظفي جبل لبنان، وعاشت جريدته إلى منتصف سنة ١٨٩٢ بحيث تبدلت الأحوال بوفاة واصا باشا وتعيين نعوم باشا بدلًا منه.

(٣) الدليل

عندما تنازل سليم فارس الشدياق عن حقوق امتيازه في جريدة «القاهرة الحرة» المار ذكرها تركها أيضًا نجيب هندية الحلبي أحد المحررين فيها، ففكر هذا في تأسيس جريدة لحسابه الخاص تبحث في الشئون التجارية والاقتصادية من دون أن تتعداهما إلى مباحثَ أخرى، وقد تم ذلك سنة ١٨٩١ بحيث أنشأ جريدة «الدليل» في اللغتَين العربية والفرنسية تعميمًا لفوائدها بين الوطنيين والأجانب، إلا أن «الدليل» احتجب بعد صدور أعدادٍ قليلة منه؛ إذ اضطر منشئه إلى السفر لأوروبا لمعالجة مرض ألمَّ به، ولما استقر به المقام في عاصمة الإنكليز أخذ يحرر في جريدة «حريت» التركية التي نشرها هناك سليم فارس المشار إليه، وكانت خطتها إفشاء مظالم السلطان عبد الحميد الثاني وتشهير رجاله المستبدين وإيقاظ العثمانيين للمطالبة بحكومةٍ دستورية.

وسنأتي في جزءٍ آخر من كتاب «تاريخ الصحافة العربية» على أخبار جريدة «الخلافة» العربية التركية التي أصدرها كلاهما في لندن، ونورد حينئذٍ ما طرأ على نجيب هندية وأخيه سليم هندية بسبب ذلك من الاضطهادات الشديدة من طرف حكومة الباب العالي.

(٤) النيل

figure
عبد القادر المغربي؛ منشئ جريدة «البرهان» في طرابلس الشام حالًا والمحرر في جريدة «المؤيد» المصرية سابقًا.
جريدةٌ سياسيةٌ علمية يومية صدرت بتاريخ ١٧ كانون الأول ١٨٩١م/١٥ جمادى الأولى ١٣٠٩ﻫ في ٤ صفحات لمنشئها حسن حسني باشا الطويراني صاحب جريدة «الإنسان» في القسطنطينية سابقًا، وقد استُدعي منها لإنشاء صحيفة «النيل» لتقوم لدى الرأي العام المصري مقام صحيفة «المؤيد» التي كان يعزو لها الأوروبيون وقناصلهم في وادي النيل أقوالًا وأفكارًا مضرة بهم، ويلقون على صاحبها تهمة التعصب الديني، إلا أن حسن حسني باشا اتبع في جريدته سياسةً عثمانيةً مسالمة للاحتلال الإنكليزي نفر منها الناس وخيب آمالهم فيها، فبقي «المؤيد» كما كان؛ الجريدة الإسلامية الوحيدة في القطر المصري،١ وفي شهر آذار ١٨٩٣ تحول «النيل» إلى جريدةٍ أسبوعية ذات ثماني صفحات متوسطة الحجم، وكان يديرها جورج مرزا المسيحي البيروتي ويحرر فيها ولي الدين بك يكن الكاتب المصري المشهور وحبيب فارس وداود بركات الكاتبان اللبنانيان واحدًا بعد الآخر، ثم أبطلت عام ١٨٩٦ عقب حادثة الإسكندرية التي قامت لها الجرائد الأوروبية، وقد وصف ولي الدين بك يكن المشار إليه هذه الصحيفة٢ قال:

فأما المقطم فقد ثبت على سياسته إلى يومنا هذا ولم يبدُ منه أدنى تغيير فيؤاخذ عليه، وأما النيل فقد تغيَّر في أواخر أيامه وظهر تغيره للعيان وما غيَّره صاحبه بل أنا غيَّرته، على أنه لم ينتقد السياسة البريطانية ذاتها، بل استكبر حمايتها للأحرار العثمانيين ممن هبطوا مصر ليستمتعوا بحريتها ويحتشدوا بها على حرب الحكومة المستبدة المنقرضة، فكنت أنا وصاحب النيل رحمة الله عليه ننكر على الأحرار مساعيهم ونأبى مشاركتهم فيها، ومن هنا يتبين للمتأمل أن اختلاف المقطم مع النيل لم يكن إلا من الوجهة العثمانية والداخلية، وذلك أن أصحاب المقطم نشئوا في أعظم مدرسةٍ غربية أسست في الشرق وهي الكلية الأميركية الكائنة ببيروت، وأخذوا علومهم على أعظم حكيمٍ غربي قطن الشرق وهو طيب الذكر الدكتور كارنيليوس فانديك، فعرفوا التمدين العصري وبرعوا في العلوم الجديدة وأشربوا الحرية فشبوا عليها وكأنهم ولدوا في أوطانها، وصاحب النيل لم يكن كذلك فإن الرجل كان من الراسخين في العلوم العقلية والنقلية مما نحله إياها أحزاب الفكر القديم، فكان مؤرخًا فقيهًا وكاتبًا المعيًّا ولكن لم يخلُ قلبه من التعصب، كانت نفسه الكبيرة لا تستحبُّ النزوع عن القديم ولا تستطيب شيئًا من القديم فاهتديتُ أنا برأيه ولكن وقعت في خطائه.

ولما استوفت هذه الجريدة عامها الرابع نشر صاحبها في العدد ٤٥٥ مقالة عنوانها «حياة النيل الصدورية» جاء فيها على خلاصة أخبارها من يوم ظهورها إلى ذلك التاريخ، قال:

ولقد صادف صدور النيل صعوبة لم تصادفها جريدة في بلادٍ حرة كمصر، وذلك أن الثقة العمومية المصرية التي لم يزدها طول زمان التباعد إلا تزايدًا وتوكيدًا ولم يبدل منها القرب شأنًا — وهي النعمة التي أشكر الله عليها دائمًا — كانت أحدثت صعوباتٍ مضافة إلى قرب عهد العودة من دار الخلافة العظمى كما لا يخفى، واختلفت مساعي أرباب الأغراض إلى فرقتَين: الأولى تتزلَّف لدى رجال الإنكليز وبعض المأمورين بأنها ستكون جريدة ضد منافع إنكلترا في مصر، والثانية تتلهَّف للباب العالي وللمقامات العالية بعكس القضية؛ ترويجًا لمقاصدهم الفاسدة وبضاعة خيالاتهم الكاسدة، فلم يزل النقض والإبرام حتى عاد رئيس النظار ودفعت قيمة التأمين نقدًا وهو الأمر الذي لم يَجرِ في حق جريدة منذ وضع قانون المطبوعات المصري.

ولما ظهرت الجريدة وخابت آمال المرجفين تجمهروا ليقاوموها فزعموا أن النيل ميال مُماشٍ للإنكليز، وإنما روجوا كذبهم لأنني لم أشتم الإنكليز شتم الأسافل، وقلت إن الواجب على مصر أن تحتاط في حكمة السير، وألَّا تجعل للإنكليز حجة عليها، وأن تسلم مقاليد السياسة للدولة العلية مالكة البلاد.

وكانت خطة النيل ألَّا يكون مع دولةٍ أجنبية ضد الإنكليز وألا يكون مع الإنكليز ضد الدولة العلية، وأن سياسته العامة سياسة مقام الخلافة وأن سياسته المصرية الخاصة سياسة الخديوي، وأنه يرفع احتياجات الأمة إلى الحكومة بلسان التربية والأدب ويخدم الأمة بعرض واجبات الحكمة، وزاد على كل ذلك أن أطلقت الحرية للعموم في التنقيد على النيل وعلى النشر ولي حق المدافعة.

وما تأخر النيل عن خدمة الحق والحقيقة ومصالح الدولة والملة ولا تلمَّس الزلفى، حتى إنني لما حدث الضغط على النيل في مسألة الغازي مختار باشا التزمتُ أن أترك امتياز الجريدة والمطبعة ولا أتكلَّف ذلك الضغط فتلطفت بي الحكومة ولم تقبل مني ذلك الترك، ولا أجحد لطف الحكومة إذ كانت تعلم ما ضحيت في سبيل الاحتياط والحكمة من المنافع.

وفي محرم سنة ١٣١٠ أصدرت خلاصةً أسبوعية للنيل مخصوصة بالأقطار الخارجة عن الديار المصرية، وفي سنة ١٨٩٣ ابتلي النيل بالتصديات العظيمة المبنية على الأغراض القديمة، ولكنه استمر محافظًا على وتيرته بدون تزلُّف إلى ذي صلف، وبعد ١٥ مارس سنة ١٨٩٣ عطلتُ صدوره يوميًّا واكتفيتُ بصدوره أسبوعيًّا وعمَّ نشره جميع أقطار المسكونة من الغرب الأقصى إلى الشرق الأقصى.

ولما اشتدت ثورة الجرائد المخالفة ضد الترك خصوصًا وضد العثمانيين عمومًا قامت الحجة ووجب الوقوف موقف الدفاع عن الدين والدولة والخلافة والقومية، وما زال النيل جاريًا على قدر يموت تارةً ويحيى أخرى وحيدًا لا يعتمد على أحد سوى الله تعالى، تقيمه الهمة وتقعده الحالة، لا يبالي رضي عنه الناس أم غضبوا، أثنوا عليه أو انثنوا عنه، قانعًا برضاء الله واثقًا بما لديه إلى اليوم، وناهجًا منهج الحق المبين قائمًا بفريضته الملية على شرعة الرسوخ والتمكين.

(٥) النشرة الدينية الأسبوعية

نشرة هي شبه مجلة ذات ثماني صفحات، ظهرت في ٢١ شباط ١٨٩٢ لمؤسسها القمص يوسف حبشي (المشهور بالفرنساوي)، وهي أول صحيفةٍ دينية أنشأها أحد قسوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكان كل عدد منها يحتوي على فصل من الإنجيل المقدس مع تفسيره من أقوال آباء البيعة وعلماء اللاهوت، وكانت أبحاث هذه المجلة مقصورة على المواضيع المذكورة إلا ما ندر، وقد عاشت نحو السنتَين ثم احتجبت.

(٦) وقائع البوليس

اشتهر الإنكليز بتيقظهم الزائد لتأييد الأمن في كل أنحاء القطر المصري، ومن جملة مساعيهم المشكورة أنهم أوعزوا إلى ديوان عموم البوليس بإحداث نشرةٍ مصورة عنوانها «وقائع البوليس» صدرت بتاريخ ٢٦ آيار ١٨٩١ مرة كل أسبوعَين، والغرض منها أن تنشر أسماء الأشخاص الذين لم يتيسَّر القبض عليهم وهم مطلوبون للمحاكمة أو لاستيفاء مدد السجن المحكوم عليهم بها، وأن تذيع أيضًا أوصافهم ورسومهم منقولة بالطريقة الشمسية (فوطغراف) والجرائم التي ارتكبوها والأحكام الصادرة عليهم، وغير ذلك من الأمور التي تسهل الاستدلال عليهم، وكانت تنشر أهم الحوادث الجنائية التي تحدث في جهات القطر المصري فتذكر كيفية وقوعها وإجراءات البوليس فيها، وقد أبدلها ديوان البوليس في ٤ تشرين الثاني سنة ١٨٩٨ بجريدةٍ أخرى عنوانها «النشرة الإدارية» التي سنتكلم عنها في جزءٍ تابع إن شاء الله تعالى.

١  كتاب «مرآة العصر» بقلم إلياس زخورا: صفحة ٥٤١.
٢  كتاب «المعلوم والمجهول» صفحة ١١-١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤