مقدمة

أخوكم الحقير لله محمود بن عثمان بن محمد بن علي بن السعدني، الذي ينحدر من أصول يمنية ومن قبيلة على حدود صنعاء، والذي رحل جده الأول مع الفتح الإسلامي، ثمَّ راقت له الحياة في مصر فأقام في الشرقية، ثمَّ خلال سنوات القحط والجوع والاضطهاد هاجر السعادنة من الشرقية إلى كل مكان، ولذلك ولهذا — ولماذا أيضًا — ستجد السعدني في المنوفية وفي الغربية وفي الإسكندرية وفي الجيزة. وستجد قبيلة السعدني المصرية مذكورة في كتاب وصف مصر الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية منذ قرنين من الزمان!

ولكني لا أظن أنَّ أحدًا من قبيلة السعدني المصرية أو أصولها اليمنية قد داخ السبع دوخات كما داخ العبد لله، ولا أعتقد أنَّ سعدنيًّا آخر قد حصل له ما حصل للعبد لله. فأنا وحدي الذي داخ في البلاد وجالس العباد، وصادفه حوادث وكوارث يشيب لهولها الغراب! وأنا وحدي — من دون السعادنة — الذي قطع رحلة حياته، بلاد تحط وبلاد تشيل! وأنا وحدي قطعت بلاد العرب قرية قرية؛ من طنجة وإلى مأرب، وعلى بلاد الهند أنا مريت، وفي بلاد السند أنا أقمت وتمشيت، وفي اليابان أنا عشت تحت الشمس المشرقة، وإلى جوار أفران المصانع المحرقة. وفي بلاد الأمريكان أنا لفيت من بافالو إلى سكرامنتو، وأحببت الأمريكان وتمنيت أن أعيش معهم أمارس هذه الحياة، فهم عرب أغنياء، أو هم عرب تصببوا عرقًا ودمًا حتَّى صاروا أغنياء. وتمنيت أن نلف لفهم، وأن نمشي على دربهم، وأن نُحقِّق في خمسة قرون ما حققوه في قرن واحد من الزمان! وفي القارة المحظوظة أوروبا أنا مسحتها من مجريط بالعربي التي هي مدريد باللاتيني، إلى برلين بالألماني. ومن دبلن في إيرلندا إلى لاهاي في هولندا. وحكمة الله أنَّ أهل إيرلندا هم عرب أيضًا من بيروت ممكن، من الجزائر يجوز، من مصر لا مانع، ولكنَّهم وجدوا أنفسهم فجأة في أوروبا، ولكن ماذا يُفيد الجليد في الدم الحار الذي يغلي في العروق؟! وفي أفريقيا أنا نمت في الغابات وسرحت في البراري، وعشت في الجبال، ودخلت بيوت الأفارقة، وصليت في جوامع مسلمين، وخالطت جماعة من أكَلة لحوم البشر، ولكن ما أطيب الجميع، وما أرق قلب الكل وما أقربهم إلينا، وما أشدهم عداوة على أعدائنا، وما أحرانا أن نلتفت إليهم، وأن نمد أيدينا لهم، وأن نمضي معهم، فلهم نفس الغاية ويسلكون نفس الطريق! ولكني أموت وفي نفسي شيء من حتى، لو ذهبت إلى قبري قبل أن تكتحل عيناي برؤية بلاد الحب والموسيقى والثورة في أمريكا اللاتينية! وأموت ناقص عمر لو انتهى الأجل قبل زيارة نيوزيلندا وأستراليا. فهذا الكوكب الذي نحيا عليه ما أصغره وما أجمله! وحرام أن نمر عليه دون أن نراه، وحرام أيضًا أن نمضي عنه دون أن نستكمل فرجتنا عليه!

ولكن على طول ما لفيت ونطيت في بلاد الله، أصارحكم بأنَّ أعظم رحلاتي في الحياة كانت بلا سفر، رحلة ساكنة ومستقرة وهادئة، أو خاملة في نظر البعض، رحلة قطعتها عبر سنوات طوال على مقعد في مقهى بلدي في الجيزة، هي قهوة عبد الله. وعبد الله هذا رجل بلا شأن ولا ذكر؛ ولكنَّه مُثاب رغم أنفه، فقد دخل التاريخ من أوسع الأبواب. وفي هذا المقهى الذي كانت أنواره باهتة، ومقاعده مهشمة، ورصيفه أعرض من حظه، وشهرته أوسع من مساحة الميدان الذي كان يطل عليه. في هذا المقهى التقيت بعشرات الأدباء والشعراء والفنانين، بعضهم تتلمذت على يديه، وبعضهم زاملته، وبعضهم تأَسْتَذت عليه — إن صحَّ هذا التعبير! نماذج من البشر قلَّ أن يجود الزمان بمثلهم. ونادرًا ما يجتمعون في زمان واحد. ولكن — وهنا المعجزة — جاد الحظ بهم، وفي وقت واحد! واجتمعوا طويلًا، ثمَّ انفضوا جميعًا، بعضهم اختطفه الموت، والبعض هرسه الزمن الغادر، وبعضهم طرده الجحود والنكران، ولكنَّهم جميعًا من زبدة مصر، وجزء من سحرها، وقبس من روحها، وحفنة من ترابها، وهم في النهاية مصر نفسها، وبدونهم ربما لا تكون مصر! وأسماء لمعت وأسماء انطفأت، وحظوظ طقطقت وحظوظ اندثرت، وبهم نشبت معارك ولا معركة البَسُوس، وبسببهم تحقَّق الخلود لأيام ولا يوم داحس والغبراء، وبفضلهم خرج من هذا المقهى الصغير الحقير شعاع من النور، هو نفسه جزء من النور العام الذي يشع في مصر كلها! وحكمة الله أنَّ رواد المقهى من الأدباء سلكوا طُرقًا مختلفة ولكن إلى غاية واحدة. وأغرب شيء أنَّهم جميعًا هاموا حُبًّا بمصر؛ ولكن أحدًا منهم لم يفُز بها! مجانين جميعًا ومصر ليلاهم، وعناترة كلهم ومصر عبلاهم! أسماء لها في مصر تاريخ، ولها في التاريخ مكان سيظل محجوزًا لهم، ونماذج لن تتكرَّر. وشخصيات كان يكفي أن تأتي واحدة منها في كل عصر لتُزيِّنه وتُبهجه وتنشر النور والضياء والبهاء. أنور المعداوي، وزكريا الحجاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وعبد القادر القط، وعبد الرحمن الخميسي، وزهدي الرسام، ونزار قباني، والشيخ عبد الحميد قطامش، ونعمان عاشور، ومحمود يوسف، ومحمود شعبان، والدكتور عباس الشيخ، والشيخ كامل أبو العينين، وعبد العليم عيسى، وأنور فتح الله، وعبد الرحمن العيسوي، والدكتور محمد كامل حسين، وشفيق الكمالي، والشيخ محمد الفيومي، وعدنان الراوي، وأديب نحوي، وهاشم السمان. وكان هذا جيلًا، ومن بعده جاء جيل آخر، وجاءوا تلاميذ في البداية، ثمَّ دخلوا في القافلة وأصبحوا أساتذة بعد ذلك. يوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، والشاعر أحمد حجازي، وصلاح جاهين، والفنان حسن فؤاد، وأبو المعاطي أبو النجا، وأحمد عباس صالح، وعلي الغندور، ورجاء النقَّاش، ويوسف الحطَّاب، وفوزي درویش.

وكانت سياحتي في قهوة عبد الله هي أهم سياحة في العمر، وكانت رحلتي خلالها هي أطول رحلاتي، فقد امتدَّت عشر سنوات كاملة تنقلت فيها خلال هذه الجزر الخصبة والصحراوات المجدبة، ولكنَّها بخيرها وشرها كانت حياة حافلة، وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والأدب والشعر والموسيقى، وفن النكتة، وعلم الحديث والكلام!

وعلى هذه الصفحات سيقوم أخوكم الحقير لله محمود بن عثمان بن محمد بن علي بن السعدني بجرد الذاكرة لاستجلاب آخر نقطة فيها عن فرسان ذلك الزمان، فقد كانوا ملح الأرض وزبد الحياة، وكانوا جزءًا من روح مصر وقطعة من عقلها، وأشاعوا المرح والحب، وعلَّموا الأجيال فنون الصياعة الرفيعة والأدب العظيم، وشقوا طريقهم في الحياة وكل منهم يحمل في يده شمعة، بعضها له ضوء باهر، وبعضها انكسر ضوءه فأصبح يشع دخانًا أكثر مِمَّا يشع نورًا! وبعضها انطفأت شُعلته بفعل العواصف والرياح! ولكن الذي لا شكَّ فيه ولا ريب فيه أنَّ كُلًّا منهم اعتصر نفسه حتى النخاع، وأدى دوره بالقدر الذي استطاعه. وكانت النيات حسنة، وإن كانت بعض الأعمال ليست على ما يُرام! وإنَّ البعض لقي جزاء سنمار، والبعض الآخر تأبَّطَ شرًّا، والبعض الآخر ضاع في زحام السوق الذي استولى عليه الأرزقية والأغوات. ولكن بعضهم استطاع — رغم المحن والإحن — أن ينتزع مكانه تحت الشمس، وأن يُضيء بالرغم من كل شيء، وأن يدخل التاريخ بالرغم من الأسوار العالية والأقفال المحكمة، ولكن يبقى أنور المعداوي هو شهيد المقهى والمرحلة، وهو ضحية الشموخ والكبرياء، وهو النموذج الذي لم تتلوَّث يده، والبطل الذي عفا عند المقدرة، وعفَّ عند المغنم! وفي المقابل يأتي نموذج الدكتور عباس الشيخ الذي احترق عند البداية، واشتعل رأسه شيبًا وهو لم يزَل شابًّا، واشتعل عقله جنونًا وهو غاية في الرزانة والكمال! واكتفى من الحياة بالفرجة والصمت، ثمَّ مضى فجأة في هدوء وكأنَّه لم يمر قط على هذه الحياة!

وأرجو من الله — ولا يكتر على الله — ألَّا يميل بي الهوى أو يميل بي القلم، وأن يوفقني إلى ما يُرضي الحقيقة ويرضاه. وإذا سقطت أسماء أو ضاعت في زحام الذاكرة أحداث؛ فأرجو أن يغفر لي الموتى وأن يُسامحني الأحياء، فليس مثل السن له أحكام. والشيخوخة لها رغاوي تصبها على العقل العجوز، وتدفع بالذكريات إلى الانزلاق عليها لتسقط في هاوية النسيان!

ولكن ما يُطمئنني أنَّ تجاربي السابقة تؤكِّد أنَّه لا يبقى عالقًا بالذاكرة إلَّا ما يستحق الذكر، ولا يمكث في العقل الباطن إلَّا ما ينفع الناس.

العبد لله

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤