مشروعات الأستاذ حريقة

أغرب أدباء قهوة محمد عبد الله كان مهندسًا ويشتغل بإطفاء الحرائق، وكانت صلته بالقهوة وبالأدباء بسبب زمالته القديمة لواحد من فرسان القهوة هو زكريا الحجاوي؛ إذ كانا زميلين في مدرسة الفنون والصنايع، والتي خرَّجت جيلًا عملاقًا من المهندسين العظام، ولكنَّها أُغلقت في حقبة الثلاثينيات لأسباب سياسية، وخسرت مصر بإغلاقها معهدًا فنيًّا ممتازًا ومن أعظم طراز.

كان مهندس الحرائق قد بدأ حياته ضابط مطافئ في الشرطة، ثمَّ استقال والتحق بالعمل في إحدى شركات البترول الأجنبية الكبرى العاملة في مصر، مِمَّا أتاح له دخلًا محترمًا جعله يبدو في شلة الأدباء المعسرين جميعًا أشبه براعٍ للأدباء ومنقذ للأزمات التي تعصف بهذا المحيط الغني بالفكر الفقير بالمادة!

وكان المهندس يكتب قصصًا قصيرة أحيانًا يقرأها على الجالسين في قهوة عبد الله ثمَّ يُمزِّقها وينساها بعد حين. وأحيانًا كثيرة كان يُثرثر حول أفكار أدبية يُريد أن يكتبها ثمَّ ينسى الأمر كله بعد حين! ومرة واحدة دوَّن عدة فصول من رواية شرع في تأليفها، وكان يقرأها على بعض الأصدقاء، حتَّى استمع إليها ذات مرة عبد الحميد قطامش، فسخر منه بشدة جعلت المؤلف المهندس يتخلَّص منها بالتمزيق.

وكان عبد الحميد حمدي ومهنته الهندسية وشهرته «حريقة» يبدو كمن ضلَّ الطريق في الحياة، كان يتمنَّى في أعماقه لو أنَّه كان من أصحاب القلم أو من أهل الفن، ولو واجه الجوع والفلس والضياع. وقد سعى في فترة من فترات حياته إلى تعلم العزف على العود، وأجهد نفسه في محاولة تلحين بعض الأغاني، وكان يعزفها في الأُمسيات التي يعقدها في بيته الفخم القابع على ربوة على شاطئ البحر الأحمر في السويس؛ ولكن فنه الموسيقي لم يكن أسعد حظًّا من إنتاجه الأدبي؛ فكان موضع سخرية الأصدقاء من أهل الفن والأدب، وغالبًا ما كان يثور بشدة ويتهم شلة الأصدقاء بالحقد والغيرة والخوف من أن يذيع صيته، وتضرب شهرته شهرة الآخرين، وبالطبع لم يكن موقفه هذا إلَّا مُشجِّعًا لشلة الأصدقاء على التمادي في السخرية وتشريح أعماله الفنية بقسوة ليس لها مثيل، ولكن عبد الحميد كان يبدو سعيدًا بصحبة هؤلاء الأصدقاء، وفخورًا أيضًا على نحو ما، وإلَّا لما كان هذا الإصرار من جانبه على توطيد أواصر الصداقة والأُخوة، بل كان حرصه أشد على عقد السهرات التي تضم هؤلاء الأصدقاء في منزله، وكان يبدو كريمًا في تلك السهرات على عكس مسلكه مع نفس الشلة خارج منزله، وكان هذا المسلك من جانب عبد الحميد موضع ثورة شديدة ونقد دائم من جانب الشاعر محمود حسن إسماعیل.

ولقد استطاع المهندس عبد الحميد حمدي أن يدخل تاريخ الأدب رغم أنفه، فقد كتب عنه الفنان زكريا الحجاوي فصلًا شيِّقًا في كتابه الكوتشينة، وداعبه الشاعر محمود حسن إسماعيل بقصيدة صغيرة، وأطلق عليه عبد الحميد قطامش لقب «الأبتر»، باعتباره أنَّ ذيوله الأدبية كالقصائد والقصص والروايات التي يكتبها ثمَّ ينساها بعد حين، باعتبارها ذيولًا مقطوعة ومبتورة وصاحبها بلا ذنب، فهو الأبتر. وكان عبد الحميد يضحك كثيرًا على هذه التسمية، ويُعلِّق عليها بأنَّها شهادة بفضله على الآخرين، لأنَّه بلا ذيل؛ بينما الآخرون بذيول!

وبالرغم من مهنة عبد الحميد حمدي وخطورتها أيضًا، إلَّا أنَّه كان يتحيَّن الفرص للهروب من جحيم مهنته إلى قعدات الأدباء والفنانين، وكأنَّه يريد أن يعيش بخياله في عالم لم يستطع أن يحيا فيه على قدميه، وأحيانًا كان يُعاني بشدة من هذه الصحبة، ولكنه كان على استعداد لتحمُّل كل شيء وأي شيء في سبيل أن تزدهر هذه الصحبة وتمتد.

ذات مرة أقنعه زكريا الحجاوي بتوصيله لمكان قريب جدًّا من القاهرة، إذ كان المهندس عبد الحميد يمتلك سيارة فرنسية الصنع في الوقت الذي كانت فيه السيارات الخاصة نوعًا من الترف المُبالغ فيه، ولمَّا كان المهندس عبد الحميد حمدي لا بد أن يعود إلى السويس ليستكمل عملًا هامًّا بدأه ولا بد من استكماله في الصباح التالي؛ فإذا علمنا أنَّ عمله كان يتعلَّق بإطفاء الحرائق في شركة تعمل في حقول البترول لأدركنا مدى الأهمية التي تُوجِب وجود المهندس في مكان عمله في الوقت المحدد؛ ولكن من قال: إنَّ زكريا الحجاوي الفنان حريص على إطفاء الحرائق حتَّى ولو كانت في شركات البترول؟! إنَّه ذاهب إلى موعد هايف للغاية، فهو على موعد مع فنانة الشعب خضرة وفنان الشعب أبو دراع، وهو ذاهب للاستماع إلى ملاعيب شيحا من خضرة، والموَّال الأحمر من أبو دراع، وليذهب المهندس والمواعيد والبترول والحريق بعد ذلك إلى الجحيم، ولا مانع من أن يذهب معهم زكريا الحجاوي، شرط أن يذهب إلى السهرة، وبعد أن يستمع إلى ما يريد.

انطلق الرجل الطيب بالسيارة وبجانبه زكريا الحجاوي في الطريق إلى قليوب — وهي ضاحية قريبة جدًّا من القاهرة — وقد تصوَّر المهندس عبد الحميد أنَّها وجهة زكريا الحجاوي، ولكن زكريا الأديب راح يحكي قصصًا من جعبته المليئة بالقصص، وكان يعلم عشق عبد الحميد لمثل هذه القصص وشغفه الشديد للاستماع إليه، وظلَّ الرجل يسوق على طُرق ممهدة وعلى طُرق لم تُمهَّد بعد حتَّى أشار إليه زكريا الحجاوي بالتوقف عند قرية على بُعد مائتي كيلومتر من القاهرة وتُدعى مُطوبَس، وهي قرية مصرية ترقد على ربوة عالية، وتطل على فرع رشيد، وتشرف على قناطر أنشأها محمد علي في زمن سابق؛ ولكنَّها تُضفي على القرية مسحة جمال ليس لها مثيل. ورغم أنَّ المهندس عبد الحميد ثار على زكريا الحجاوي وصرخ فيه، إلَّا أنَّه جلس يستمع حتَّى الصباح مع زكريا الحجاوي، وعاد معه أيضًا، وقرر أن لا يخالط زكريا الحجاوي أو يتحدث معه أو يصافحه، وأن يبتعد عن طريقه وإلى آخر العمر. وهمس الصديق عبد الحميد قطامش في أذني بضرورة التدخُّل لإصلاح ذات البين، ولكنِّي لم أُبْدِ اهتمامًا بما همس به قطامش؛ بل إنَّني لم أُبْدِ أي اهتمام لمحاولات الأصدقاء الآخرين لجمع شمل زكريا وعبد الحميد، والسبب أنَّني كنت أعرف ما الذي سوف يحدث بينهما مستقبلًا.

ولقد حدث ما توقعته بالضبط، ذات مساء دخلت المقهى وإذا بزكريا الحجاوي مستلقٍ على ظهره يضحك من الأعماق ضحكة صافية، بينما عبد الحميد حمدي يضحك هو الآخر وقد تقوَّس ووضع يديه على معدته حتَّى لا تنفجر من شدة الضحك. روى لي زكريا الحجاوي كيف اجتمعا، ولماذا استغرقتهما نوبة الضحك، فقد ذهب زكريا إلى المقهى فلم يجد أحدًا في الركن الذي اعتادت شلة الأدباء الجلوس فيه، ولكنَّه لمح عبد الحميد يجلس وحيدًا داخل المقهى كأنَّه لا يريد أن يرى أحدًا من أفراد الشلة، وأشار زكريا الحجاوي إلى واحد من باعة الفاكهة الذين كانوا يفرشون الأرض أمام المقهى، وكان زكريا موضع احترامهم جميعًا وحبهم أيضًا، وأمر زكريا البائع بالذهاب إلى الأفندي الجالس في الداخل، وأشار نحو عبد الحميد، وقال للبائع روح للسواق وقول له كلم البيه بره عاوزك!

وذهب الرجل بسلامة نية إلى عبد الحميد وأمره بأن يُسرع للقاء البيه، ولكن عبد الحميد شخط في بائع الفاكهة وأمره بالانصراف، ولكن الرجل الذي كان يُحب زكريا الحجاوي ويُطيعه ومستعدًّا لتنفيذ أوامره ولو أدَّى به الأمر إلى الليمان، أمسك بعبد الحميد من رقبته ليجره إلى حيث يجلس البيه، وغضب عبد الحميد غضبًا شديدًا، وصفع البائع على وجهه، فما كان من البائع إلَّا أن صفع عبد الحميد باعتباره سائق سيارة البيه، وأسرع زكريا الحجاوي إلى التدخُّل عندما تطوَّرت الأمور إلى هذا الحد، ولكن بائع الفاكهة الذي كان قد جنَّ جنونه قرَّر أن يُواصل المعركة إلى النهاية، ولم يجد زكريا بُدًّا من صفعه لكي يتوقَّف، إلَّا أنَّ البائع أنشب أظفاره في رقبة زكريا الحجاوي ولم يُخلِّص زكريا منه إلَّا رجال الشرطة، وعندما انتهت المعركة جلس زكريا وعبد الحميد يضحكان من الأعماق.

والأغرب أنَّه في نهاية تلك السهرة، سافرت مع زكريا الحجاوي في سيارة عبد الحميد إلى مولد السيد البدوي في طنطا، وسهرنا هناك حتَّى الصباح، والأغرب أنَّ عبد الحميد بعد أن عاد بنا في الصباح إلى القاهرة، وجَّه إلينا لومًا شديدًا لأنَّنا صرفناه عن عمله الهام، وأقسم ألَّا يرانا مرة أخرى، وقد برَّ بقسمه، فلم يزرنا مرة أخرى خلال ذاك النهار، ولكنَّه عاد في اليوم التالي وسهر معنا حتَّى مطلع الفجر.

ولقد ظلَّ عبد الحميد على اتصال بالجميع حتَّى واراهم التراب، وذهب خلف زكريا الحجاوي، وسار خلف قطامش، وبكى في جنازة محمود حسن إسماعيل، واشترك في حمل نعش أنور المعداوي، وظلَّ وفيًّا لهم ولذكراهم، يحتفظ بقصاصات ورق كتبها زكريا الحجاوي، وشرائط تسجيل لسهرات في بيته ضمَّت قطامش وآخرين.

وبالرغم من السنين الطويلة التي عاشها عبد الحميد في صحبة الأدباء والفنانين، إلَّا أنَّه لم يترك مهنته قط، ولم يُقصِّر في أداء عمله أبدًا، وصار في النهاية واحدًا من أكبر خبراء إطفاء حرائق البترول في مصر. وطار مرة إلى العراق ليُشرف على إطفاء حريق شبَّ في أحد آبار البترول هناك، كما سافر إلى بلاد عربية أخرى أيضًا لنفس الغرض؛ ولكن قلبه الذي يعشق الفن، اتسع لحب مهنته إلى درجة التفاني، وكان اسم «حريقة» الذي أطلقته عليه شلة الأدباء هو التعبير الحقيقي عن واقع يعيشه عبد الحميد، كان حديثه دائمًا عن الحرائق وكيفية إطفائها، وعن الأمن الصناعي وفروعه وأساليبه وطرقه المُتشعبة. كان حريصًا على أن يحمل معه دبوس إبرة في أي مكان يذهب إليه، وكان يستخدمه عند التدخين، كان يخرم به السيجارة في أسفلها، وكان هذا الخرم يتيح للدخان أن يتسرَّب أثناء التدخين، وكان يؤكد أنَّ النيكوتين والقطران يتسربان من هذا الخرم ويبقى الدخان الذي لا يؤذي الصدور. وكان يُطلق شاربه بطريقة مُعيَّنة ومضحكة، ولكنَّه كان يُؤكِّد على أنَّ الأسلوب الذي أطلق به شاربه هو الطريقة العملية التي تحمي أنفه ورئتيه من غبار الطريق.

وكان شديد الحرص على التفتيش بنفسه يوميًّا ليتأكَّد من أنَّ الأمن الصناعي مُطبَّق بحذافيره في كل قسم من أقسام الشركة، وكان يبدو في أحسن حالاته عندما يُخْطَر بنشوب حريق في أحد آبار البترول، وكان يبدو في زيه الغريب كأنَّه روميل على خط النار. ولكن قلبه تحطَّم ذات صباح عندما تحطَّمت منشآت الشركة ولم يستطع أن يُقدِّم لها يد المساعدة، لأنَّ التدمير لم يكن بفعل النار التي تشب في مثل تلك المواقع، كان التدمير بفعل مدافع إسرائيل وصواريخها، وقد أرادوا الانتقام بعد إغراق المدمرة إيلات، فصوَّبوا مدافعهم وصواريخهم على منشآت شركة تكرير البترول بالسويس وظلُّوا يقذفونها لمدة ثلاثة أيام كاملة حتَّى أصبحت المنشآت أثرًا بعد عين.

والغريب أنَّ عبد الحميد بدا بعد هذه الكارثة كأنَّه جزء من منشآت الشركة، فقد انهار تمامًا كأنَّه أحد الجدران التي انهارت من العدوان، وصار أكثر شرودًا وأقل ثرثرة عمَّا كان، لقد عاشت الشركة زمنًا طويلًا تحت حمايته، كان يُطفئ الحرائق التي تشب، وكان يمنع الحرائق قبل أن تنشب، ولكن جاءت لحظة حرجة وقاتلة، احترقت الشركة كلها أمام عينيه ولم يستطع أن يفعل شيئًا، وماذا كان في وسعه أن يفعل والقذائف تنهال على الشركة كأنَّها مطر ينهال من السماء، ومع ذلك حاول عبد الحميد في البداية وقد كانت النية صادقة والإمكانيات متوافرة، ولكن القذائف التي كانت تنهال عليهم بمعدل عشر قذائف كل دقيقة لم تترك فرصة لأحد لأن يفعل شيئًا، والتهمت النيران الشركة حتَّى الأرض.

وعاش عبد الحميد بعد ذلك وقد انطفأت اللمعة التي كانت في العيون، والجذوة التي كانت في الروح، والرعشة التي كانت في القلب كأنَّما انتهت الحياة؛ عندما أتت النيران على كل شيء في معمل تكرير البترول في السويس. ولقد اعتزل عبد الحميد العمل، وصار مستشارًا فنيًّا لشركات البترول، ولكنَّه يحن دائمًا إلى السويس حيث العمل الذي وهبه روحه، والجيزة، حيث الشلة التي أعطاها حياته، وربما المحنة التي عاشها أيام حرب الأيام الستة، وبعد ذلك في حرب الاستنزاف هي التي أرغمته على اللحاق بموكب المؤلفين، فقد صار مُؤلِّفًا رغم أنفه، فقد عكف على تأليف كتاب عن الحريق في الأعماق، وهو عن حرائق آبار البترول: أسبابها وطرق مكافحتها، من خلال الخبرة والتجربة والسنين الطويلة. وبالرغم من ذلك ما زال المهندس عبد الحميد الذي شارف السبعين يعزف على العود، ويُحاول كتابة قصص قصيرة وأحيانًا روايات يُمزِّقها بعد ذلك وينساها بعد حين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤